البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

حوار مع عالم الأنثروبولوجيا طلال أسد - الدين الأصيل ليس مغلقاً أمام العقل النقدي

الباحث :  حاوره : كريغ مارتين
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  3
السنة :  السنة الثانية - ربيع 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 2 / 2016
عدد زيارات البحث :  1415
تحميل  ( 262.781 KB )
((حين أدركت أن سنة 2013 تعني انقضاء عشرين عاماً على صدور كتاب «سلالات الدين: الانضباط وأسباب السلطة في المسيحية والإسلام» قررت أن أقابل مؤلف الكتاب البروفسور طلال أسد ـ وهو أستاذ متميز في الأنثروبولوجيا في جامعة نيويورك ـ وأن أناقشه حول أهم أطروحاته في هذا الكتاب وكيف تلقاه الوسط الأكاديمي وأثره عليه)).
بهذه الكلمات يقدّم الباحث في جامعة القديس توما الأكويني كريغ مارتين إلى حواره مع البروفسور أسد. إلا أنه سيضيف ما يعكس تأثره بأطروحات أسد في مجال أنثروبولوجيا الدين. فقد كان للكتاب المشار إليه على وجه الخصوص تأثير شخصي عليه وهو في مرحلة مبكرة من دراساته العليا، وخاصة في ما تضمنّه فصله المعنون: «بناء الدين كفئة أنثروبولوجية». حيث يبيّن في هذا الفصل أن مفهوم «الدين» في الكثير من سياقاته المعاصرة قد تشكل في أساسه تبعاً للقواعد والفرضيات البروتستانتية.
وفي ما يلي النص الكامل للحوار: المحرر
كريغ مارتين: أيمكنك أن تخبرني بروفسور أسد عما أحببت أن تنجزه من خلال تأليفك لـ«سلالات الأديان»؟ وهل تعتقد أن الكتاب استُقبل من جانب النخب على النحو الذي تمنَّيت أن يُستقبل به؟
طلال أسد: بحسب تقديري، فإنّ معظم الناس قد فهموا ما كنت أعتقده بالنسبة إلى الدين كممارسة وكلغة وكحساسية في العلاقات العامة بدلاً من أن يكون مجموعة أنظمة من المعاني. لقد حاولت في خذت الكتاب، وفي الكثير من أعمالي التي تلته أن أفكر عبر قطع صغيرة من التاريخين المسيحي والإسلامي لتوسعة فهمي لماهية وحياة الناس وكيفيتها، حين يستخدمون مفردات «الدين». أنا بكل تأكيد لم أرغب في الإدعاء بأن «الدين» كبناء تاريخي كان إشارة إلى «غياب» ما، أي مجرد أيديولوجية تعبر عن السلطة المهيمنة. كان عدم رضاي عن الفكرة الماركسية الكلاسيكية حول الأيديولوجية هو بالضبط ما دفعني إلى تحويل انتباهي إلى الدين. وقد توصلت تدريجيّاً إلى فهم أن السؤال الذي يجب عليَّ أن أفكر فيه هو ما كان فيتنغشتاين يردده في أكثر من مناسبة: كيف يمكن تعلم لعبة لغة ما من خلال شكل معين من الحياة؟ إن مسألة تعريف الدين هي السؤال الأكبر حول الطرق اللامتناهية التي يمكن فيها للغة أن تدخل إلى الحياة. لقد أردت أن أنأى بنفسي من الحجج التي تُقدم تعاريف أساسية أو تُستمد منها مثل قولهم: «الدين استجابة لحاجة إنسانية أساسية» أو «الدين قد يقدم الراحة لأناس يعانون من المشاكل ولكنه يؤكد أشياء غير حقيقية» أو «الدين في جوهره هو ما يتعلق بالمقدس» أو «الدين يضفي معنى وغاية على الحياة» أو«الدين والعلم متوافقان أو غير متوافقين» أو «الدين مصدر الكثير من الشرور»، «وكذلك العلم والدين أيضاً مصدر للكثير من الخير». لا، إن العلم ليس مصدر للشرّ، كما هي حال الدين غالباً.
ـ كريغ مارتين: أين تكمن مشكلة التعريف إذاً؟ هل هي في لغة الدين أم في مكان آخر؟..
ـ طلال أسد: لقد بيَّنت أن تعريف الدين يعني الإحاطة بأشياء معينة (الأزمنة والأمكنة والقوى والمعارف والمعتقدات والسلوكيات والنصوص والأغاني والصور) على أنها من أساسيات «الدين»، والتعامل مع أشياء أخرى على أنها عرضية عليه. إن عملية التعرف هذه ـ على ما ينتمي إلى تعريف ما ـ لا يتم نتيجة التجربة ذاتها. فالأشياء في نفسها متنوعة والطريقة التي يتفاعل بها الناس معها أو يستخدمونها مختلفة للغاية. دعني أعبر عن الأمر بالشكل التالي: حين نتعرف على هذه الأشياء كلها من خلال مفهوم «الدين» فإن سبب ذلك أننا نرى التعريفات جميعها متشابهة إلى حد كبير. وما يجعلها متشابهة ليس تجربة فريدة مشتركة بين جميع الأشياء التي يجمع بينها الدين (مثل القدسية والألوهية والروحانية والتعالي إلخ...)، بل إن ما يجعلها متشابهة هو التعريف نفسه الذي يقنعنا من خلال ما يسميه فيتنغشتاين: «الصورة الآخذة بالألباب» أي بوجود ذات جوهرية تكمن خلفها جميع حالات «الدين». إن الأشياء المرتبطة مع بعضها في تصور معين للدين تترابط بطريقة شديدة الاختلاف في تصور آخر، ولهذا غالباً ما تكون ترجمةُ مفهوم «دينيٍّ» إلى آخرَ أمراً في غاية الإشكال، ولكن كتاب «السلالات» لا يحاول أن يقول إن تعريف الدين هو مجرد مسألة تمثيل لغوي، فاللغة الدينية مثل أي لغة أخرى مرتبطة أشد الارتباط مع الحياة نفسها، ولذلك فمحاولة تعريف «الدين» هي من وجهٍ محاولة لإدراك الكل الشامل الذي لا يدرك. وأشدد هنا على أن تعريفات الدين مضمّنة في الحوارات والنشاطات والعلاقات والمؤسسات التي يتم الحفاظ عليها إما بدافع المحبة أو حتى العادة، بل والتي قد ينقلب الناس عليها أو ببساطة يهملونها، ويتم التصارع حول هذه التعريفات بل وقد تُفرض حتى على القانون الذي يحكم الدولة.
إن تعريفات الدين ليست أعمالاً فريدة وتامَّة ومحددة بوضوح، بل تمتد هذه الأعمال عبر الزمن وتتطور مع الممارسات الاجتماعية، ومن خلال استخدامها المستمر تتعدَّل ويجري صياغتها بشكل أدق وأعمق. يمكننا القول إن تعريف الدين هو بحد ذاته «عمل ديني» يقوم به «المؤمنون» و«غير المؤمنين» وقد يكون أيضاً محاولة للهجوم على إرث ديني، أو محاولة لتعزيز ذلك الإرث أو إصلاحه أو حتى إطلاق إرث ديني جديد.
لذلك تكمن مشكلتي في «التعريف الكلي الشمولي للدين» في أن الإصرار على الجوهر الكلي يمنعنا من السؤال حول ما تتضمنه التعريفات هذه وما تستثنيه، وكيف تفعل ذلك ومن فعل ذلك فيها ولأيِّ غاية، وبالتالي في أي سياق لغوي واجتماعي يكون من المنطقي لنا أن نطرح تعريفاً محدداً وفي أيها لا يكون كذلك.
إن محاولة بناء سلالات من المفاهيم هي إحدى طرق معالجة أسئلة كهذه، وبالنسبة لي فإنّ مصدر الاهتمام الأكبر في جميع كتاباتي كان: «ما هو السؤال الصحيح في هذا الأمر»؟ ولذلك ففي كتاب «سلالات الأديان» لم أحاول أن أقدّم تعريفاً أفضل لمفهوم «الدين» ولا أن أقوض مفهوم الدين من أساسه، بل ما كنت أحاول فعله هو البحث عن الطرق الأفضل لصياغة الأسئلة الأكثر فائدة حول كيفية قيام الناس بسَنّ الأشياء وإعلانها والالتزام بها ـ أو ردّها ورفضها ـ حين يتحدثون عن «الدين». وهكذا وفي الفصل الرابع وفي أثناء استكشافي لرواية هيو أوف سانت فيكتور عن الأسرار المقدسة وللمواعظ التي ألقاها بيرنارد دو كليرفو في الأديرة، حاولت أن أبتعد عن أفكار مثل «التلقين»، أي التلقي السلبي لقوة مهيمنة. ثم سعيت في المقابل إلى شيء أكثر تعقيداً، وهكذا كتبت: «إن بيرنارد لا يتحكم بالرغبات (بمعنى أن رهبانه لم يعلموا ما الذي كان يجري لهم) بل كان بدلاً من ذلك يعمل على إنشاء مساحة أخلاقية جديدة لتنشيط دوافع متميزة». ما أثار اهتمامي كانت الكيفية التي يمكن بها لعمليات ذاتية مثل هذه أن تتعلق بالتجسد والانضباط. أو بكلمات أخرى: كيف يمكن للظروف الموضوعية التي يجد فيها الأشخاص أنفسهم قادرين على أن يقرِّروا ما يجب أن يفكر فيه كل واحد منهم، وكيف يجب أن يعيش حياته وكيف يتمكن من أن يعيش حياته. لقد كان هذا هو المشروع الذي انشغلتُ به في الوقت الذي كنت أكتب فيه كتاب «السلالات»، وهو الأمر الذي لا أزال مشغولاً به حتى الآن. لا أرى أن هذا الكتاب منعزل عن باقي أعمالي.
لقد فهم الكثير من القراء ما كنت أحاول القيام به وتعاطفوا مع جهودي (مع بعض الحذر)، ولكن بعضهم لم يتعاطف مع هذه الجهود أبداً، بل لقد برز من بين هذه الفئة الأخيرة من فاجأني بأن اتهمني بمعاداة «الدين»، وخاصة الدين المسيحي، وأني قد طورت هذه الروح العدائية أثناء طفولتي حين افترض المدعون بأني «تعرضت للمهانة» في المدرسة الداخلية التي أدارها الرهبان في الهند والتي درست فيها، وفقط لأني ذكرت مرة أن هذه المرحلة المدرسية المبكرة المدرسة كانت الفترة التي تعلمت فيها أن «أناقش» وأن «أكون مشاكساً» مع رفاق صفي من المسيحيين! لكني لم أتعرض للمهانة من قبل الرهبان ولم أقل قط أني تعرضت للمهانة على أيديهم. والأهم من ذلك أنه يستحيل على كل من قرأ «سلالات الأديان» ببعض الانتباه أن يتقدم بادعاء مثل هذا. بل الواقع هو أني تعلمت الكثير حول تعقيد «الدين» من خلال قراءة كتاب مسيحيين في حقبات تاريخية مختلفة، وبكل تأكيد لا أعتقد أن أولئك الناس يتكلمون عن مجرد بنيويات حين يستخدمون المفردات الدينية أي عن تكوينات أيديولوجية لا يتجاوز دورها تقديم تبرير للسيطرة الاجتماعية. بالطبع فإن «شيئاً ما» يتم بناؤه وإعادة بنائهِ هنا، لكن هذا البناء ليس غائيّاً (مصنوعاً ومتمّماً لغاية محددة) ولا يمكن وصفه بأنه في جوهره اجتماعي. إن هذا السعي وراء «توظيف» مفهوم الدين هو بالضبط ما كنت أريد الهروب منه في كتاب «السلالات».
نقد التدين الرسمي
كريغ مارتين: هل لك أن تعلق على ردات الفعل المختلفة التي ظهرت في الاختصاصات الرئيسية والفرعية الأخرى؟ أنا أعي تمام الوعي كيف كانت ردات فعل الأكاديميين المتخصصين في الدراسات الدينية، ولكن هل تشعر أن ذلك العمل كان له الأثر الذي كنت تتوخاه في مجال الأنثروبولوجيا على سبيل المثال، أو في مجال العلوم السياسية أو الاجتماعية أو المجالات المختلفة في الدراسات الدينية؟
طلال أسد: أنا حقّاً لا أعلم ما كان تأثير «السلالات» على العلوم الاجتماعية عموماً، كل ما أعلمه أن عدداً من علماء الأنثروبولوجيا الشباب الموهوبين استخدموا أفكاراً في هذا الكتاب حول تجسد القيم والأحاسيس والتقاليد والأخلاق الفاضلة في دراساتهم الإثنوغرافية حول الإسلام. ولقد تعرض هؤلاء مؤخراً لنقد بعض الناس نتيجة مبالغتهم في أهمية «التدين الرسمي» على حساب «المعتقدات الروحية العادية». وقد لاموني لأني كنت من بدأ هذا الاتجاه السّيّئ ـ قبل أن يتابعوا الفكرة إلى نظرة «رجعية» إلى العلمانية. ليس هذا هو المكان المناسب لمعالجة هذه الشكاوى خصوصاً وأنها تتعلق بالدرجة الأولى بأنثروبولوجيا الإسلام، ولذلك فهؤلاء الناس يركزون بشكل أكبر على مقالات لي صدرت قبل هذا الكتاب وكتاب «تشكّلات العلماني».
ثم أني توصلت إلى رأي مفاده أن الكثير من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الذي يدرسون المهاجرين المسلمين في أوروبا يشعرون بأن عملي معياري بشكل منحرف، وأنه يتعمد إهمال التجارب الاجتماعية التي يمر بها المسلمون وردة فعلهم الدينية. باختصار: أنه يهمل معضلتهم المعاصرة في البلدان العلمانية الليبرالية. أعتقد أن هذا أحد أنواع ردات الفعل على عملي، ولكن ينتابني الفضول حول سبب شعورهم القوي بأن عملي يهدد الحقيقة التي توصلوا إليها، حين كنت طالب جامعة في الأنثروبولوجيا كنا نمزح كيف أن علماء الإثنوغرافيا الكبار كانوا يستجيبون للنقاشات النظرية في الحلقات الأكاديمية بقولهم «لكن في قبيلتي يعتقد الناس أن...»، إن هذه النزعة التجريبية لا تزال لسوء الحظ تجتاحنا. فالكثير من علماء الإثنوغرافيا يعتقدون أنّهم صاروا يمتلكون الفهم الصحيح لتجارب من يوصل إليهم المعلومات (بما في ذلك الفهم الصحيح لما يعتقدونه دينيّاً وما لا يعتقدونه) فقط لكونهم أمضوا بعض الوقت المحدود معهم في طريقة عيشهم، وكأن تجربة مصادر معلوماتهم كانت متناسقة وتامة ومتوافقة، وكأن طريقة عيشهم التي شاركهم فيها عالم الإثنوغرافيا لفترة قصيرة من الزمن يمكن لها أن تُلخَّص بتمثيل محدود يعكس حقيقة غير قابلة للنقاش، وكأنها قد لا تكون هي ذاتها مجرد تفسير داخلي غامض، أو لكأن لغتهم العادية قد تكون أكثر أصالة من لغة نصوصهم الدينية.
على جميع الأحوال فقد اهتم دارسو العلوم السياسية بكتاب "تشكّلات العلمانيّ" بشكل أكبر من «سلالات الدين»، رغم إني أرى أن الكتاب الأول مرتبط بشكل وثيق بالآخر، وأن أسئلته حول العلمانية متقدمة بشكل أكبر من تلك الموجودة في «السلالات». قد يعود هذا الاهتمام إلى الأسئلة حول الألم والعنف والمعاناة التي أشاركها مع بعضهم، فهم يعلمون بالفعل أن الأمور ليست بالبساطة التي تزعم الأيديولوجيا الليبرالية أنها عليها.
كريغ مارتين: بالنسبة لي، أعملُ شخصيّاً حول «البنية الاجتماعية للدين» وأرى أن الفصل الأول من هذا الكتاب يُستشهد به في كل مكان، ولكن: هل تعتقد أن العلماء ـ سواء في مجال الدراسات الدينية أو في أي اختصاص آخر ـ قد توصلوا إلى فكر أكثر تقدماً حول مصطلح «الدين» وارتباطه مع «الاعتقاد»؟ أي: هل تحسنت الأمور خلال السنوات العشرين الأخيرة؟
طلال أسد: لا يزال هناك اتجاه نحو تعريف «الاعتقاد» كالجوهر الذي يعرِّف الدين، ولكن هل هناك فكر متطور بما فيه الكفاية حول ما يعنيه «الاعتقاد»؟ نحن نعي تماماً فكرة أن حقبة العصور الوسطى كانت عصر الاعتقاد والإيمان، حيث كان «يستحيل على الناس في الغالب ألا يؤمنوا بالله»، أما في عصرنا، عصر العلمانية، فالإيمان بالله واحد من خيارات كثيرة. ولكن ما هو «الاعتقاد» أو «الإيمان»؟ لقد تحدث الفلاسفة حوله على أنه «شعور» كما فعل هيوم، أو «مَيْلٌ» كما فعل رايل، أو بشكل أعم: على أنه «حالة عقلية». إن القواعد اللغوية المرتبطة مع اسم «الاعتقاد» (والفعل: أعتقد) يختلف من معنى إلى آخر وبين مجموعات مختلفة من المعاني. إذا كانت النظرة إلى «الدين» على أنه مفهوم كلي ثابت ليست هي النظرة الأمثل (كما هو رأيي) فإن نسبة معتقدات معيارية إلى دين ما (أو بالأحرى إلى متبعيه) تصبح مشكلة. إن الاختلافات في قواعد «الاعتقاد اللغوية مرتبطة مع التغيرات في أشكال الحياة وصورها، ولذلك فحين يشير الناس إلى «الاعتقاد» فعادة ما يتحدثون حول مجموعات يستحيل قياسها من المفاهيم والأحاسيس والالتزامات والآثار إلخ.
لقد ميز العلماء المتخصصون في العصور الوسطى صعوبة ترجمة الكلمات اللاتينية التي نعتقد اليوم أنها تتماهى مع الكلمات التي تشير إلى «الاعتقاد» في اللغات الحديثة (مثل belief باللغة الإنجليزية و(croyance) باللغة الفرنسية. لنأخذ مثلاً كلمة مثل: «infidelitas»، والتي تترجم إجمالاً ببساطة كـ «الكفر» أو «عدم الإيمان»: لكن هذه الكلمة كانت أيضاً تستخدم في سياقات علمانية دنيوية أيضاً مثل القوانين والمراسيم والروايات التاريخية. وهو في العادة تعني عدم الالتزام بعقد ما أو الحنث بقسم ما، أو التصرف بشكل غير وفيٍّ، أو خيانة ثقة شخص ما. فإذن كلمة Infideles لا تعني ببساطة فقط هؤلاء الذين لم يؤمنوا بتعاليم الكنيسة، بل بالدرجة الأولى أولئك الذين تصرفوا بطريقة غير مخلصة بشكل أو بآخر، أو أولئك الذين من خلال أعمال الخيانة أو سوء الحظ المحض لم يعودوا جزءاً من العلاقات التي تربط الإله مع المسيحيين اللاَّتين مع ملكهم ومع بعضهم بعضاً. أما الكلمة اللاتينية « Credere» والتي ترجمت باللغة الإنجليزية إلى فعل «الاعتقاد» فعادة ما كانت تستخدم بالمعنى الأخلاقي لا المعرفي، فهي تشير إلى «ثقتك بشخص ما» بدلاً من «قناعتك بأن مجموعة أطروحات صحيحة»، وهكذا استشهدت دوروثيا فيلتيكه التي كتبت حول هذا الموضوع بحالة "أود فوري"، وهي إمرأة فلاحة شابة مثلت أمام محاكم التفتيش لأنها وبحسب قولها لم تكن قادرة على «credere in Deum» [حرفياً: أن تؤمن بالله]، لكن ما تعنيه هذه العبارة كما تقول فيلتيكه يجب أن يؤخذ في إطاره المفصل الخاص به: فوجود الله مسلم به في هذا السياق، ولكن "أود فوري" كانت تشعر باليأس لأنها غير قادرة أن ترى في طقس الإفخارستيا أكثر من الخبز، ولأنها كانت تنتابها أفكار مزعجة حول مفهوم التجسد الإلهي لدرجة أنها لم تعد تأمل في الدخول في رحمة الله.
تقول فيلتيكه أنه لا يظهر في السياق أي شيء يتحدى المعتقد بأن جسد الإله يظهر في شكل الخبز، ولكن ما يظهر بكل تأكيد هو التعبير عن علاقة "أودّ فوري" المعذبة مع الله نتيجة عجزها هي عن رؤية أي شيء غير الخبز. هل كانت تؤمن بالله؟ ستقول محكمة التفتيش أنها غير مؤمنة، أما الناقد الحديث فسيقول أنها مؤمنة. باختصار: ليست النقطة التي أود أن أثيرها هي أن مفهومنا المعاصر للإيمان أو الاعتقاد (أي تصديق أن شيئاً ما صحيح وحق، أو أن شخصاً ما لديه شعور معين مرتبط برفض تعريف معين للإله أو أن الاعتقاد بالإله يضع المرء في حالة ذهنية محددة) لم يكن موجوداً في ذلك الزمن، بل هي أن عبارة «الإيمان بالله» كانت تطرح مفاهيم وارتباطات اجتماعية ومخاوف وآمال شخصية مميزة، وأن القواعد اللغوية التي تشير إلى تلك العبارة في العصور الوسطى مختلفة تمام الاختلاف عن القواعد التي تشير إليها اليوم.
من الواضح أن مسألة الترجمة كثيراً ما تصبح في غاية الأهمية لاستيعاب هذه المفاهيم، وهكذا فكثيراً ما تترجم الكلمة العربية «إيمان» إلى «belief» ـ كما هو الحال في العبارة التي وردت في القرآن الكريم: «يا أيها المؤمنون» ـ مع أن الترجمة الأفضل هي «faith»، فالإيمان بهذا المعنى يفهم على أنه حالة دائمة من الزاوية النفسية بدلاً من كونها حالة متقلبة بين الإيمان وعدمه، وهذه الحالة مندرجة في ممارسة الطقوس والشعائر والممارسات الشخصية والاجتماعية الأخرى. وبهذا المعنى أعرف مسلماً يصف نفسه بأنه «ضعيف الإيمان» ويستخدم هذا كعذر لعدم تأدية الصلوات المفروضة في اليوم. إن هذه العبارة بحد ذاتها وكما أفهمها ليست تعبيراً لا عن الشك ولا عن عدم الإيمان ولا أي نوع من أنواع اليقين (بما في ذلك يقين اللاأدري الذي يرفض اتخاذ موقف محدد من وجود الله أو عدمه)، ولكنها أيضاً ليست لحظة من لحظات الكلام غير العقلاني، فلو كانت كذلك لما كان هناك أي داعٍ لأي أحد أن يصف نفسه بأنه «ضعيف الإيمان»، بل هي نوع من الإيمان المرتبط بالحياة العادية التي يجد بعضنا أنفسهم مضطرين أن يُوَصِّفُوه بهذه الطريقة.
الميثاق بين الإنسان والله
كريغ مارتين: يذهب البعض إلى ما هو أبعد من ذلك، ليري إلى الاعتقاد على أنه ميثاق بين الإنسان والله.. ما الذي تقولونه في هذا الخصوص؟
طلال أسد: من الكلمات الأخرى التي عادة ما يشار بها إلى هذا المفهوم هي «الاعتقاد»، والمشتقة من جذر «عقد» أي «ربط الأشياء مع بعضها»، وهو أيضاً جذر كلمة عَقد المشار إليها باللغة الإنجليزية بكلمة «contract» فتحمل معنى ارتباط يربط المؤمن مع الله وكذلك مع المجتمع من حوله. ولذلك فالموقف الكلاسيكي للشريعة الإسلامية هو أن المعتقد الشخصي هو مسألة «بين الفرد وربه». فما يقوله القانون ليس أبداً أنه لا يوجد شيء اسمه حالة ذهنية فردية وبالتالي فليس هناك أي معنى للحديث عن الإيمان بوجود الله: ما يهم القانون هو لغة الفرد وممارسته التي تؤسس سلوكياته ضمن شبكة السلوكيات الإسلامية المعيارية، والواجبات الاجتماعية إلخ.
إنَّ أي محاولة لاختراق معتقد الفرد «الحقيقي» (كما هو الحال في محاكم التفتيش» مرفوضة على أسس قانونية وسياسية وليس كموقف معرفي، فما يعتقده الناس في الله ومدى قوة هذا المعتقد، مسألة شخصية في علاقة المؤمن بالله، وبالطبع فإن مفهوم «النفاق» قد استخدم في النصوص الإسلامية منذ بدايتها ولكنه يعبر عن تنافر بين ما يقوله الشخص في أحوال معينة وكلامه وتصرفاته في أحوال أخرى، ولا تفترض «مساحة داخلية» عميقة يوجد فيها الإيمان الحقيقي.
إن فكرة أن «الإيمان» هو جوهر «الدين» وأنه في أساسه مسألة خاصة قد يعبر عنها المرء في كلماته وسلوكه كما يشاء هي نقطة مركزية في الكثير من النظريات حول البنى الاجتماعية والسياسية التي تقوم عليها العلمانية. عادة ما يكون الحديث حول «خصوصية الاعتقاد» بهدف ضمان حماية لغته حين يتحدث عن «الدين»، ولا تعني بالضرورة ـ وليس من الضروري لها أن تعني ـ أن المعتقد الديني غير قابل للمس في جوهره ولذلك فهو خاص. إنه لمن الخطأ ـ وكثير من الملحدين يقعون فيه ـ الافتراض بأن المعتقد الديني «الأصيل» مغلق أمام العقل النقدي. أما السؤال عن الكيفية التي يتغير بها المعتقد فجوابه معقد وحين يحصل التغيير تكون نتائجه هامة بالنسبة إلى الطريقة التي يعيش بها الفرد حياته.
إن لغة إقناع الناس من خلال النقد، وحثِّهم على تغيير معتقدهم، أو على التصرف بطريقة مختلفة هو جزء مما كان يسمى «الخطابة». وقد اشتهرت الخطابيات السياسية باستخدامها (في الماضي والحاضر) لأساليب الإثارة العاطفية، ولكنها أيضاً تقدم أسباباً داخلية توفِّر للمستمعين مساحة أخلاقية لصنع دوافعهم الخاصة. الخيار المتاح أمام الخطيب السياسي بين الوسيلتين لا تقرره عادة اعتبارات الحقيقة بل الوسيلة الأكثر فعالية. على جميع الأحوال علينا أن نميز بين «الإقناع» و«الاقتناع» حيث قد يكون غرض المقنِع النقدي المصلحة الشخصية، أو على الأقل يكون متحيِّزاً (أي بكلمات أخرى: يصنع الإقتناع دون أن يوفر التبرير له) أو يكون مؤهِّلاً (أي يعين المستمع على العمل باتجاه الحقيقة). حتى لو كان الهدف من عملية الإقناع طيباً، فالعملية بحد ذاتها ـ وسواء كانت دينية أم سياسية ـ وسيلة في غاية الغموض لممارسة السلطة على الآخرين، وإن كان هذا لا يعني أنها ستنجح دائماً بالطريقة نفسها التي تنجح بها السلطة. في أثناء حماسنا العلماني للفكر النقدي كثيراً ما ننسى أن الإقناع ينجح فقط من خلال خصائص اللغة العادية (بما في ذلك استخدام القصص والأمثال والطرف والعِبَر والسخرية والوعود والخجل والإشارات المبطنة إلخ...) ومن خلال تفاهات الحياة العادية المشتركة بين المقنِع والمقنَع. معظم وجوه الحياة الدينية تنجح بدون «النقد» فقط لأن معظم وجوه أي حياة تنجح بهذه الطريقة.
كريغ مارتين: لقد أصبح انتقاد البنى الاجتماعية للدين من الصناعات الأولية في الدراسات الدينية. هل لديك أي أفكار لماذا أصبح هذا النقد رائجاً حين فعل ذلك؟ أيُّ مصالح تقدمت من خلال رواجه (أو من خلال الحدة التي يستثيرها)؟ ولماذا أصبح رجال من العرق الأبيض هم غالبية (ولكن ليسوا كل) من يقوم بالنقد؟
طلال أسد: لست متأكداً من قدرتي على الإجابة عن هذا السؤال نظراً لأني لم أتابع الأفكار والحجج التي برزت مؤخراً حول صحة اعتبار الدراسات الدينية كتخصص منفصل. لربما عاد رواج هذه الانتقادات إلى تزايد نشاط المتطرفين الإسلاميين في العالم وزيادة بروز الأصوليين المسيحيين في السياسة الأميركية والحركة الهندوسية اليمينية في الهند إلخ... لربما كان انتقاد الدين كبنية اجتماعية وسيلة لمجابهة هذه الاتجاهات و«التهديدات الأخرى التي تواجهها الديموقراطية»، ولكنها في الوقت ذاته وسيلة لتأخير الأمل في انتصار «التديُّن الليبرالي» المعاد بناؤه آخر الأمر، وهو التديُّن المتجذر في فكرة المعتقد الشخصي. على جميع الأحوال ففكرة البنية الاجتماعية الدينية تنتقد ربما بسبب تمسك الناس بفكرة أن «الدين» لا بد وأن يحمل جوهراً، وأن الاعتقاد بهذا يخون الحقيقة التي يقدمها دين ما.
كريغ مارتين: هل شعرت في أي وقت من الأوقات أن بقية فصول كتاب «السلالات» قد تعرّضت للإهمال بسبب التأثير الكبير الذي مارسه الفصل الأول؟ مثلاً: مع أن «الألم» و«الوكالة» كانت من المواضيع الرئيسية في كل من «سلالات الدين» و«تشكُّلات العلماني»، ففي معظم الأحيان التي أرى فيها إشارة إلى هذين الكتابين يكون ذلك في سياق «الدين» و«العلمانية». هل توجد أسباب بنيوية وجيهة للتغاضي عن عملك في موضوعي «الألم» و«الوكالة»؟
طلال أسد: كنت أود أن أرى المزيد من التفاعل مع الفصول التي كتبتها حول الألم، لأن كتابي حول السلالات الدينية يحمل بعض النقاشات حول التوبة والندم والعقاب ـ أي حول التجليات النفسية والجسدية للألم ككيفية متعدية وغير متعدية من الانضباط ـ أجد أن الادعاء القديم بأن الدين كان سبباً للكثير من المعاناة الإنسانية ساذجاً ومملاًَّ، ولا يهمني في حقيقة الأمر أن أرد على هذه التصوّرات، أو أن أوازنها من خلال إيضاح «الخير» الذي جلبه الدين. علينا أن نصل إلى فهم أفضل للنتائج الفكرية والحضارية للطرق المختلفة التي تنجم عن تصوراتنا المختلفة حول الألم وندمجها في طرق حياتنا ـ بما في ذلك ما نسميه الدين. لربما كانت أفضل هذه التصورات ما نسميه «التضحية» ـ وهي مفهوم ديني وعلماني في الوقت ذاته. ولدينا مفردات غنية للتحدث عن الألم في عالمنا العلماني: المعاناة والعنف والأسى والشعور بالأذى والعذاب والتعذيب والحزن وهكذا... لقد قيل أن التنوير العلماني ساعد البشر المعاصرين على تجاوز بربرية «تديُّن القرون الوسطى» وتطوير سلوكيات من الحساسية الشديدة حين نواجه الألم الإنساني مع رغبة في التقليل من المعاناة الإنسانية (الخير الكلي الشامل)، ولكن علينا بالمقابل أن نسأل أنفسنا عن السبب الذي يدفعنا إلى الشعور بالصدمة والمهانة أمام بعض تجليات الألم بينما نتقبل تجليات غيرها على أنها مجرد مناسبات لاستعراض فضيلة التعاطف والرحمة لدينا. لقد شغلتني فكرة الألم في عملي بشكل عام وأحد أسباب ذلك هو أنها في واجهة الجسد والعقل، وخاصة لأن هذه الفكرة هي من المواضيع المركزية سواء في الدين أو الليبرالية أو العلمانية.
مارتين كريغ: أنا أعلم أن عدداً من مزاعم الكتاب عوملت على أنها مثيرة للجدل. هل يمكنك أن تعلق على أي من الانتقادات الجدية التي تعرض لها الكتاب؟ هل كان هناك انتقادات عادلة ومقنعة أدت بك إلى رفض أو إعادة النظر في أي من المزاعم التي تقدمت بها في الكتاب؟
طلال أسد: أنا لم أقرأ جميع الانتقادات التي وجهت إلى الكتاب رغم أني ذكرت بعضها خلال هذا الحوار. بالطبع لقد تلقيت تعليقات وانتقادات على محتوى عملي من أصدقاء لي ومن زملائي الأكاديميين وقد ساعدني ذلك على القيام بالكثير من إعادة التفكير في ما كتبته حتى عندما لا أكون راغباً في التخلي عن الركائز الأساسية للحجج التي بنيت الكتاب عليها. لقد تقدمت بالشكر إلى هؤلاء النقاد بالإسم في الكتب التي نشرتها، وكذلك استفدت من قراءة الأشياء التي تلامس عملي بالفعل. على جميع الأحوال فأنا الآن مقتنع أن مقدمة الكتاب الطويلة التي كتبتها وأنا على عجلة من أمري نتيجة موعد تسليم قصير هي أقل أجزاء الكتاب التي تلقى الرضا مني، فهي لا تجمع بين المواضيع المختلفة التي تناقشها فصول الكتاب بشكل فعّال، والتي علينا أن نتذكر أنها كتبت كمقالات مختلفة عبر سنين سبقت طباعة الكتاب (لقد طبع تحليل فئة الدين الأنثروبولوجية للمرة الأولى عام 1982) ولكن لماذا أسيء فهم الكتاب، كما حصل بالفعل في بعض الأحيان؟ أفترض أنه من الإنصاف علينا أن نقول أن المسؤولية تقع بشكل جزئي على الكتاب نفسه. كان عليَّ أن أجعل الحجج التي أبنيها أوضح مما فعلت، ولكن بالمقابل علينا أن نتذكر أني كنت لا أزال أتحسس طريقي وقتها من غير أن أكون متأكداً من المكان الذي ستؤدي إليه هذه الحجج. أدرك مثلاً أنه كان يجب أن يقال عن الطقوس أشياء أكثر بكثير مما فعلت في الفصل الثاني من الكتاب مع أني لا أزال أعتقد أننا نحتاج إلى أنساب سلالية أكمل في ما يتعلق بفئة «الطقوس»، والتي أصبحت موضوع التفسير العلمي. إن هذا شيء لم يتنبه إليه النقاد كثيراً، إن المسوحات التي أجريت حول المقاربات المختلفة للطقوس مفيدة ولكنها ليست ما أعنيه بسلالة فئة معينة.
مارتين كريغ: ما هي المشاريع الحالية التي تعمل عليها؟ هل هناك أي شيء يبني على كتاب «السلالات» أو ينطلق منه أو يسير بموازاته؟
طلال أسد: لقد تزايد تفكيري في موضوع الألم والمعاناة والعنف، وخاصة في التفرقة غير الواضحة بين الديني والعلماني، وبين التقاليد والعادات. أنا أحاول أن أفكر في هذه المسائل بالعلاقة مع أوجه من تاريخ حقوق الإنسان الأوروبي والشرق أوسطي، في الماضي وفي الحاضر.
[1]*ـ كريغ مارتين، الأستاذ المساعد في الدراسات الدينية، جامعة القديس توما الأكويني ـ أميركا.
ـ المصدر: مجلة "دراسة الدين"، المجلّد 43، العدد 1 /شباط 2014.
ـ العنوان الأصلي للحوار: Genealogies of Religion, Twenty Years On: An Interview with Talal Asad
BULLETIN FOR THE STUDY OF RELIGION, VOLUME 43, NUMBER 1 / FEBRUARY 2014.
ـ تعريب: رامي طوقان. مراجعة د. كريم عبد الرحمن.