البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التفكير اللاهوتي عند بول تيليش

الباحث :  أنطوني تيسلتون
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  3
السنة :  السنة الثانية - ربيع 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 2 / 2016
عدد زيارات البحث :  5131
تحميل  ( 416.465 KB )
من يتناول فلسفة بول تيليش بالقراءة والفحص والنقد يكتشف ما تتسم به هذه الفلسفة من جرأة ورؤية نقدية عميقة لتفكيره الديني وتساؤلاته الروحية واللاهوتية. والبيِّن ـ كما سنرى ـ أن موقف الاستقلال الذي اتخذه على التخوم الفاصلة بين الفلسفة واللاّهوت مكّنه من مواجهة هذه المشكلات بكثير من الحرية. وسنلاحظ من خلال أعماله المتميزة كيف جرت مساعيه باتجاهات مختلفة: محاولة عصرنة اللاهوت، وإنهاء التبعية اللاهوتية للأفكار السائدة، واتخاذ موقف الاستقلال الفكري إزاء المناقشات اللاهوتية حول طبيعة المسيح، وإلى ذلك أيضاً، النقد التاريخي للكتاب المقدس، واللاهوت الدفاعي، ومشكلة الانفتاح، والنزعة الفائقة للطبيعة، ومفهوم الخلاص، وعلاقة اللاهوت بالتطور العلمي، ولغة الدين، والسلطة الكنسية الخ.. هذا إلى تأثّره ببعض الفلاسفة حيث نمّى لديه حسّاً نقديّاً، ورؤية معمّقة لأهم المشكلات الدينية واللاهوتية والحضارية في عصره. المحرر
لا يمكن تصنيف بول تيليش (Paul Tillich 1886 -1965) ضمن فئة محدّدة من فئات اللاهوت المعروفة. هذا لا يعني إنكار أنه يدين بالكثير لشلايرماخر ولغيره من المفكّرين. فهو نفسه يعبّر عن أسفه لـ «الطريقة الرخيصة والخرقاء في تقسيم اللاهوتيين إلى طبيعيين naturalists وفوق طبيعيين supernaturalists أو ليبراليين وأرثودوكس». من هنا يمكن تحديد مجال واتجاه اهتمامات تيليش من خلال التركيز على أربعة موضوعات في كتاباته.
أولاً، إنّ تيليش يفكّر ويكتب انطلاقاً من كونه متكلماً (مدافعاً ) مسيحيّاً Apologist. فهو يحاول أن يدرس المسيحية من الخارج كما يدرسها من الداخل، وهو بالتالي شديد الاهتمام بالأزمات الإنسانية في القرن العشرين. يقول: «إن معظم كتاباتي تحاول تحديد طريقة ارتباط المسيحية بالتراث العلماني»[2]. وقد عُرض أهم مؤلفات تيليش «اللاهوت النسقي» (Systematic Theology) ذي الثلاث مجلدات على شكل خمس مجموعات من الأسئلة والأجوبة صيغت بلغة دفاعية. يبدأ المجلّد الأوّل بنقاش مفصّل للمنهج، يليه أسئلة حول العقل الإنساني، وهذا يوحي بإجابات ترتبط بالوحي. يلي ذلك أسئلة حول «الوجود» اقتُرحت لها إجابات رمزية تشير إلى «الإله». في المجلّد الثاني أسئلة عن الوجود المادي ترتبط بأسئلة إضافية تتعلّق بالمسيح بوصفه الوجود الجديد. وأخيراً في المجلد الثالث، غوامض الحياة التي ترتبط بعقيدة الروح؛ وتساؤلات حول معنى التاريخ تجد إجابات لاهوتية في عقائد متعلقة بمملكة الله. ومن الركائز التي تقوم عليها أعمال تيليش أن «الدفاعيات وعلى الرغم مما يكتنفها من غموض تفترض وجود أرضية مشتركة»[3]. بناء على ذلك يعرّف تيليش اللاهوت الدفاعي بأنه لاهوت جوابي answering theology. حيث يقول: «باستخدام منهج التضايف، يستمرّ اللاهوت النسقي على الشكل التالي: إنه يحلّل الحالة الإنسانية التي تُثار منها الأسئلة الوجودية، ويبيّن أن الرموز المستعملة في الرسالة المسيحية تحمل أجوبة عن هذه الأسئلة»[4].
لكننا قد نخطئ، إذا تصوّرنا أن تيليش يفرط في العقلانيّة عندما يشخّص أسئلة الإنسان العلماني. ففي أكثر كتبه شعبية «الشجاعة في أن تكون» the courage to be مثلاً، يسبر غور القلق الإنساني حول المصير والموت، وتجربته في الخواء واللاَّمعنى، وفي شعوره بالذنب والإدانة[5]. فلتيليش علاقة مهمّة بالرومانسية، من موسيقى وعمارة وأدب، وبصورة خاصة الرسم الذي يحتل مكانة مهمة في حياته. من هنا لا يشكّل اللاهوت الدفاعي بالنسبة له، على الإطلاق، مسألة تفكير مجرّد. إنّه مهتم بمشاكل الحياة، وليس بالمشاكل الفكرية فحسب، حيث تمثّل مواقفه السياسية المتعاطفة مع الاشتراكية وجهاً من هذا الاهتمام المتعدّد الجوانب.
ثانياً، تيليش مهتم بأن المطلق ينبغي أن يصدق على الله فقط. ويمكن التعبير بشكل أسهل عن هذه النقطة بالطريقة السالبة: لا يمكن إدّعاء الإطلاق أو اللاَّتناهي لأي حقيقة متناهية سواء أكانت شخصاً أو رمزاً أو حدثاً أو حتى كتابة مقدّسة. النعمة غير مقيّدة بأي شكل متناهٍ، سواء أكان كنيسة، أو كتاباً أو سرّاً مقدّساً. والقيمة الأكثر إيجابية لجميع هذه الصيغ الدينية تكمن فقط في إمكان إشارتها إلى المطلق الذي يتجاوز ذواتها. وهذا المبدأ كما سنرى، ينطبق حتى على الصيغ المفهومية الدالة على الله. فلا شيء سوى «الله» الذي هو فوق ووراء هذه الصيغ منزّه عن النقد والنسبوية من بين الموجودات المتناهية الأخرى.
إن الاعتقاد بأن أي شيء في العالم، حتّى التعاليم والكتاب المقدّس والكنيسة، يجب أن يخضع للنقد، يسمّيه تيليش «المبدأ البروتستانتي»، ويجعله محوراً أساسياً في فكره اللاهوتي. فعلى الأقل، يلزم عن مبدإ الإصلاح البروتستانتي أن تكون البروتستانتية نفسها عرضة للمناقشة. هكذا يعلن تيليش «الحاجة لتحوّل ديني وثقافي بروتستانتي عميق واضح... فنهاية المرحلة البروتستانتية هي... ليست العودة إلى المسيحية الأولى، ولا هي خطوة نحو شكل جديد من العلمانية. إنها شيء يتجاوز جميع هذه الأشكال، شكل جديد من المسيحية، يجب توقّعه والتحضير له، لم تتم تسميته بعد»[6].
ثمّة عامل إضافي في إعداد تيليش لمبدإ البروتستانتية، هو حبّه المبكر للبحث الفلسفي. في كتابه Autobiographical Reflections يستذكر كيف ساهمت الفلسفة في مساعدته بمناقشاته اللاهوتية المبكرة مع والده، الذي كان قسّيساً لوثريّاً. فقد بدأ يشعر بضغط هائل جرّاء التحفّظ اللاَّهوتي لوالده الذي كان أيضاً يتبنّى الرؤية اللوثرية الكلاسيكية والتي تفيد بأن أي فلسفة أصيلة لا يمكن أن تتعارض مع الحقيقة النابعة من الوحي. يذكر تيليش المدّة الزمنية التي استنفذتها النقاشات الفلسفية بينهما، حتى «من موقع فلسفي مستقل انتشرت حالة الاستقلالية في جميع الاتجاهات»[7]. يصف هذه التجربة بأنها «خرق نحو الاستقلالية التي جعلتني محصّناً من أي نظام فكري أو حياة تطلب التنازل عن هذه الاستقلالية»[8].
ثالثاً، يرى تيليش أنه يؤدّي مهمة وسائطية. فهو يؤكّد على هذا الأمر بشدّة في سيرته الذاتية المطوّلة التي وضع لها عنواناً معبّراً «على الحدّ» on the boundary. إنه يتمنّى أن يقوم بدور الوسيط أو المترجم على الحدود بين اللاهوت والفلسفة، بين الدين والتراث، بين اللوثرية والاشتراكية، بين الحياة العقلية الألمانية ونظيرتها الأميركية وهلمّ جرّاً [9]. يشن تيليش حرباً على الانقسام والتجزئة، فالتشظي والأخذ بالجزئيات وإهمال الكليات بالنسبة لتيليش يُرمز إليه مباشرة بالشيطاني فقط. غايته إذاً، رأب الصدع الذي يحجب الرؤية بطريقة تعيق النظر إلى الحياة والفكر ككل واحد. ويعتقد أن نقصان المعرفة وقلّة الاهتمام يضيّقان آفاقنا لنصل إلى المستوى الذي لا نرى فيه الكليات، بل نرى الأشياء أجزاء مستقلة ومجالات تخصصية. وهذا، بالنسبة لتيليش، يشرح على نحو جزئي، سبب فشل الإنسان الحديث في عصر التكنولوجيا والتخصص، في طرح أسئلة عن الوجود، أو عن الإله الذي يشكّل أساس كل الموجودات.
رابعاً، يمكننا هنا أن نذكر بإيجاز، وكمقدمة لمناقشة لاحقة تتناول محاولات تيليش في أن يعدل بين ثلاث مجموعات من الأفكار التي يستلّها من المفكرين الذين أثّروا فيه. فمن جهة هو مدين جداً لسيكولوجيا يونغ Young، الذي كان لرأيه في الرموز واللاَّوعي أثر عميق في مقاربة تيليش للرموز الدينية. ومن جهة ثانية لا تختلف كليّاً، هو مدين بالكثير إلى نظرية شلايرماخر في التجربة الدينية[10]. يذكرنا كارل براتن Carl Braaten أن تيليش يتذكّر عندما كان شلايرماخر «مرفوضاً كصوفي»[11].وأخيراً، ومن جهة مختلفة كليّاً أخذ تيليش عن مارتن هايدغر ضروباً من التفكير أو الصور المفهومية التي يمكن استخدامها في اللاهوت. أو بدقة أكثر إنه يقبل اقتراح هيدغر أن اللغة حول «الوجود» أو «الإله» سوف تتعالى على مقولات الذات ـ الموضوع في التفكير المفهومي. وهذا يقدّم له مساعدة في محاولته تجنّب الخطاب المعرفي حول الله كبديل للغة الرمزية.
عندما نضع هذه المجموعات الأربع معاً، لن نتفاجأ بتعبير بعضهم عن إعجابه بأعمال تيليش، ولا بأن يرى فيه آخرون عدوّاً للإنجيل. فهناك من اعتبر كتاباته لاهوتاً دفاعيّاً وسائطياً، مثلاً يصف ت. م. غرين T. M. Green تيليش بأنه «اللاهوتي الأكثر تنويراً في زماننا»؛ كما يسمّيه و. م. هارتن W. m. Horton الأمل الأكثر إشراقاً من أجل لاهوت للمصالحة المسكونية[12]. من جهة أخرى، يبرز التفكير في المبدإ البروتستانتي، حيث يعلن كنث هاملتون Kenneth Hamilton أن الشيء الوحيد الذي لم يقصده تيليش مطلقاً هو أن «اللاهوت المسيحي» رسالة سلطوية يجب القبول بها»[13] و«إن فهم نظام تيليش ككل يعني أن نعرف أنه متعارض مع الإنجيل المسيحي»[14]. ومن جديد لن نتفاجأ أن بعض الكتّاب «الروم ـ كاثوليك» سجّلوا الموقف التالي[15]: يضعنا تيليش أمام السؤال التالي: إلى أي حدّ يمكننا توسعة آفاقنا اللاهوتية قبل أن يفقد لاهوتنا مسيحيّته؟ كم من المكوّنات يمكننا ضخَّها في الفكر الديني من قبل أن يصل إلى الانفجار تحت وطأة ضغط هذه المكوّنات؟ بالتأكيد لا ينبغي أن نختلف حول حقيقة أن تيليش كان مدركاً هذه الصعوبات، وأنه قصد تجنّبها. لكن مسألة النية تختلف عن مسألة النجاح.
اللاهوت الدفاعي ومشكلة الانفتاح
لقد أوجزنا في ما مرّ معنا، الخطوط العريضة لمنهج الأسئلة والأجوبة الدفاعية الذي اعتمده تيليش في كتاب اللاهوت النسقي Systematic Theology. والآن يجب أن ندرس بعض العقبات. يؤكّد تيليش بحرية أن لاختيار وصياغة أسئلته تأثيراً واضحاً على شكل ومضمون إجاباته[16]. فهو يصف علاقة السؤال-الجواب هذه بعلاقة التضايف. لكن بهذه الطريقة يثير شكّاً فوريّاً من جهتين. فمن جهة يعتقد كثير من اللاهوتيين أن أسئلة تيليش تحدّد إجاباته بشكل انتقائي وهذا ما يؤدّي إلى التحريف. ومن جهة أخرى، يعتقد عدد من الفلاسفة أن المعرفة المسبقة لإجاباته المفترضة تشحن الأسئلة وتوجّه صياغتها.
من خلال توقع هذه الانتقادات، يؤكّد تيليش أن محتويات إجاباته «لا يمكن أن تستمدّ من الأسئلة، أي من تحليل الوجود الإنساني. إنها «منطوقة» للوجود الإنساني من وراء هذا الوجود، وإلا لما كانت أجوبة»[17]. إنه يدعونا لاختبار دفاعياته عن طريق السؤال بانتظام، كما يفعل هو، «هل يمكن للرسالة المسيحية أن تتكيّف مع العقل الغربي من دون أن تفقد خاصيتها الأساسية والفريدة؟[18] يؤكّد أنه «من الضروري أن نسأل في كل مسألة خاصة ما إذا كان انحراف اللاهوت الدفاعي قد أضعف أم لم يضعف الرسالة المسيحية»[19]. لكن في الإجابة، علينا أن نقرّر أن تيليش، انطلاقاً من منهج التضايف، قد صاغ أسئلته بصيغة غير مرضية دائماً للاهوتيين أخرين على الرغم من أنه ينبغي تقدير كل مسألة جزئية بحسب أهليّتها.
لكن المشكلة من جهة الفلسفة مازالت أخطر. فعندما بدأ تيليش بكتابة «اللاهوت النسقي» Systematic Theology عام 1925، قصد التفكير بـ «الفيلسوف» كشخص شديد الاهتمام بنوع من المسائل والمناهج التي عالجها هايدغر في كتاب «الكينونة والزمن». لكننا رغم أن أشهر أعمال تيليش صدرت في مرحلته الأميركية الأخيرة، لا نملك دليلاً يشير إلى أنه غيّر جذريّاً تصوّره للفيلسوف الذي يخاطبه. فإذا قارنّا الفيلسوف في كتابات تيليش مع الفلاسفة الحاليين، سنزداد معرفة أن بعضهم فقط، وربّما قليل جدّاً منهم، قد يندرج في الفئة التي يقصدها تيليش. بالتأكيد هذا صحيح في بريطانيا وأميركا، حيث يندر وجود فلاسفة مثل هايدغر.
ربما كانت الحقيقة أن تيليش نتيجة للتناقص السريع في الاهتمام بالميتافيزيقا والأنطولوجيا، قد اضطر إلى اتخاذ مواقف فريدة. ففي كتاب «بواعث الإيمان» «Dynamics of faith» مثلاً، أعلن تيليش أن للفيلسوف «تصوراً مأزوماً للكون والإنسان»[20]. فالفلسفة بمعناها الحقيقي يمارسها أناس يتّحد في داخلهم عشق اهتمام مطلق مع ملاحظة جلية ومنفصلة لطريقة تجلّي الحقيقة المطلقة في صيرورات الكون[21]. لكن يبدو أن هذا التعريف للفلسفة لا يصف الموضوع كما يزاوَل عادة في التقليد الأنغلو ـ أميركي.
لو طُلب من الفيلسوف أو السائل أن يضمّ الجدية العاطفية إلى الانفتاح الفكري نحصل على لاهوتي. يقول تيليش: «كل لاهوتي ملتزم ومنعزل فهو دائماً في حالة إيمان وشك. إنه داخل الدائرة اللاهوتية وخارجها»[22]. لا يمكننا الشك في أن تيليش ينوي البقاء جزئيّاً داخل دائرة اللاهوت المسيحي. فمكانته في السياسة الألمانية ورفضه للهتلرية يدلّ على شيء واحد، أنه لا يمكن أبداً أن يتنازل عن منزلته اللاهوتية. ولكن هل يمكن، حقّاً، للاهوتي أن يعيش «في إيمان وشك» في الوقت نفسه؟ يجب الإعتراف بحقيقتين: أولاً، يمكن أن يكون للشك دور تطهيري وإيجابي في اللاهوت والدين من خلال فتح الأفق لإمكانية النقد الذاتي. لو لم يكن الشك موجوداً قط، لما كان بمقدور المرء أن يختبر ويمتحن أفكاره، ولما تسنّى له تطويرها. ثانياً، كل مدافع يقف خارج الدائرة اللاَّهوتية لا يمكن إلا أن يكون متعاطفاً ومؤيّداً. لكن تيليش لا يقول ببساطة «لو كنت خارج الدائرة اللاهوتية...». إنه في الواقع يتوقف هنا. غير أن هذا قد يحصل فقط من خلال إبدال فكرة الإيمان التقليدية بوصفها ثقة والتزام بمفهوم الإيمان المميّز عند تيليش كـ «اهتمام مطلق». في إحدى ندواته الحديثة أبدى ملاحظة حول الالتزام المسيحي: «للكلمة بالنسبة لي وقع سيّئ جداً. أنا لا أحبه... إننا لا نستطيع أن نلزم أنفسنا بشيء على نحو جازم»[23]. مثلاً، إن أيّ ميثاق أبدي «مستحيل، لأنه يعطي للحظة المتناهية التي نريد فيها فعل هذا الالتزام سموّاً مطلقاً على جميع اللحظات اللاحقة في حياتنا»[24]. فطلب الالتزام يعني التغافل عن «نسبية الدين الإنساني»[25].
الله والاهتمام المطلق
إن دون رغبة تيليش بإبدال هذين المفهومين صعوبات كثيرة، خصوصاً في ضوء إعلانه عدم التنازل عن أي جزء من أخبار الكتاب المقدّس»[26] مثلاً، إن لغة بولس الحاسمة حول موت وقيامة المسيح تفقد معناها لو أراد مسيحي الرجوع إلى وجهة نظره المذكورة سابقاً. في المقابل، لا ريب أن بإمكان تيليش أن يبيّن أن بولس بالنسبة لليهود أصبح كاليهود و«لأولئك الخارجين عن القانون أصبحت كواحد خارج القانون» (كورونتس الأولى 9:20-21) لكن بينما يبدو أمر التصدّي لتخلّي تيليش عن أهمية الالتزام مغرياً وربما ضروريّاً، إلا أن الأمر الأكثر إلحاحاً هو دراسة ما يقترحه كبديل، أي فكرة الاهتمام المطلق.
ترتبط فكرة الاهتمام المطلق عند تيليش بتصوره للإله، وباعتبارات أخرى تتعلّق باللاهوت الدفاعي. يمكن أن نعرّف بالموضوع من خلال توصيف وجهة نظر دفاعية قد يتعاطف معها حتى أكثر المفكرين تحفّظاً. يفترض تيليش أن الكافر يتصوّر، أحياناً، أنه رفض الله، فقط عندما يرفض صورة طفلية أو مفهوماً وضعه أحد اللاهوتيين. وهو بهذا يعتقد أنه حسم الجدل في مسألة «الله» بشكل نهائي. في حين أن كل ما حسمه هو موقفه من فكرة ما. وهكذا يدعو تيليش الباحث إلى إعادة فتح مسار بحثه على أساس أن فهم الحقيقة الإلهية أعمق من «إله» تعبّر عنه صورة مفهومية جزئية. «قد نكون قادرين على طرده من وعينا لمدة من الزمن... وعلى مناقشة عدم وجوده باقناع... لكن في النهاية سنعرف إنه ليس هو من رفضنا ونسينا، بل صورة مشوّهة عنه»[27]. ولكي يتخلّص تيليش من هذه الصور المشوّهة يحاول إعادة ترتيب بعض الرموز التقليدية المتعلقة بالله. إذاً، يمكن فقط من خلال استعمال مجموعة من الرموز الخلاقة بما يكفي، والمرنة و«غير المطلقة» اجتناب الخلط بين «الله» وغيره من «الآلهة».
غير أن الحجّة نفسها يمكن أن تُقلب رأساً على عقب، وتنطبق بالمستوى نفسه والتأثير على موقف المؤمن. وبالضبط كما نستطيع دفع غير المؤمن إلى رفض مجرّد رمز، كذلك نستطيع دفع المؤمن إلى قبول مجرّد رمز، بوضع الرمز مكان الله. فكلّما وجد الرمز مزيداً من القبول، كّلما ازداد المأزق حرَجاً. فمجرّد الرضا بالرمز الديني، لا يضمن بالضرورة صدقاً يصل إلى مستوى يتجاوز الحالة النفسية. إن تيليش مدرك تماماً لهذا الخطر، لذلك يصفه بالوثنية من دون أية مراعاة. ويعلن بصراحة أن «الإله الذي يمكننا تحمّله بسهولة، والإله الذي لا نضطر إلى إخفائه، والإله الذي لا نكرهه في بعض اللحظات... ليس إلهاً البتّة»[28].
بالتأكيد تيليش ليس فريداً في عرض هذه المسألة[29]. لكن الإجابة التي يقدمها تنطوي على إعادة تعريف اللاهوت بصورة جذرية. فعنوان أحد كتبه «زعزعة الأسس» the shaking of the foundations يعبّر عن وجهة نظر المؤمن، وهذا بالضبط ما يريده تيليش. إنه يرغب أن يصدمه بتقدير الموقف من زاوية مختلفة تماماً. يؤكّد تيليش أن سؤال ما هي العقيدة التي على المرء الإيمان بها؟ أو أي دين عليه أن يعتنق؟ لن يحلّ المشكلة؛ لأن أي إنسان يمكن أن يفكر في أسباب تؤدّي إلى اعتناق عقيدة جذّابة بما يكفي. فما يهمّ وما ينبغي أخذه بالحسبان هو موقف المرء تجاه ما يؤمن به. فلا يمكن تجنّب الوثنية إلا إذا كان هذا الموقف هو «اهتمام مطلق». إذا عبّر هذا عن وجهة نظره يكون كل شيء في موضعه. إذ مهما كان مضمون إيمانه النوعي، فإذا كان يوصل إلى اهتمام مطلق. فهو يًشكل رموزاً صالحة توصله إلى الله الذي يسمو على أي إله.
يشكّل «الاهتمام المطلق» مصطلحاً تقنيّاً في مفردات تيليش. يعمل أحياناً أكثر من مجرد مرادف للإيمان. فهو يقول: «الإيمان هو حالة من الاهتمام المطلق؛ فديناميات الإيمان هي ديناميات الاهتمام المطلق للإنسان»[30]. لكن الإيمان يعني، أيضاً، أكثر من ذلك. يؤكّد تيليش أنه يشير إلى الموقف الإيماني للإنسان وإلى موضوع الإيمان المقدّس معاً، فهو يعتقد أنّ «فعل الإيمان المطلق والمطلق في فعل الايمان متطابقان ومتّحدان»[31].
تمسّك ناقدو تيليش، وبشيء من الإنصاف، بهذه العبارة كنموذج متعمّد للغموض الذي صاغه تيليش ليستخدمه في دعم مواقفه اللاهوتية. فإذا رغب أحد بالدفاع عنه أو بفهمه بطريقة فيها تعاطف، قد لا يستطيع شرح العبارة إلا بشكل مخالف لخلفية تصوّر تيليش للمقدّس وللعلاقة بتجارب تيليش الأولى. فهو يستذكر في سيرته الذاتية «autobiographical Reflections» الكنيسة القوطية Gothic church الجميلة التي شغل فيها والده موقع أحد الآباء الناجحين، كما يتذكر الأشخاص والمدرسة التابعة للكنيسة. كما أنه يشرح كيف منحته هذه البيئة شعوراً بالقدسية، تجربة يصفها في ما بعد بأنها لا تقل عن كونها «أساس كل أعمالي الدينية واللاهوتية». ثم يتابع «عندما قرأت للمرة الأولى كتاب «فكرة القدسي» The Idea of the Holy لرودولف أوتو Rudolf Otto فهمته مباشرة على ضوء تلك التجارب القديمة... حدّدتُ منهجي في فلسفة الدين، حيث بدأت باختبارات للقدسي ثم ارتقيت إلى فكرة الله، لا بالطريقة المعكوسة»[32].
كل ما مر يساعدنا في أن نفهم لماذا عرّف تيليش الاهتمام المطلق بغموض متعمّد. فهو يتبنّى نفس مواقف أوتو وشلاير ماخر الدينية نفسها. يتطلّب وصف أوتو للقدسي وصفاً للمواقف والمشاعر الإنسانية تجاه القدسي. لكن أوتو يؤكّد أن هذه المواقف تشير إلى شيء يتجاوز الإنسان ذاته. هنا يعترض تيليش، ففي هذه النقطة بالتحديد تمّت إساءة فهم شلايرماخر بشكل كبير»[33]. إن تصوره لـ «للشعور» في الدين لم يكن قط «مجرّد» شعور، بل كان شعورًا موجّهًا إلهيّاً، إنه شعور بالمطلق. كما أن هايدغر يعالج الموضوع نفسَه. فقط لأن المشاعر أصبحت تُرى كـ «مجرّد» مشاعر، وجد نفسه مكرهاً على صياغة مصطلحات مثل «الحالة الشعورية» أو «القلق الوجودي». إذاً، تيليش ليس فريداً بإصراره على عدم إمكان تجنّب هذا الغموض، لكن هذا يضعه قطعاً في صفّ أوتو وشلايرماخر.
وهذا لا بدّ أن يثير مشاكل هائلة تتعلق بمحاولة التمييز بين التصوّر «الصحيح» لله والتصورات الخاطئة. على الأقل هذا ما يحصل من وجهة نظر الأرثوذوكس أو التقليديين. إذ لم يعد لدينا معيار لاهوتي يتعلّق بالمضمون المعرفي العقلي. لكن الله موجود مهما كان موضوع الاهتمام المطلق؛ إنه موجود مهما كان مصدر اختبار القدسي. هنا يكتب تيليش: «الله هو الاسم الذي لأجله يهتم الإنسان على نحو مطلق. هذا لا يعني أن هناك أولاً موجوداً يُدْعى «الله» ثم يطلب من الإنسان أن يهتم به اهتماما مطلقاً. بل يعني أن أي أمر يهمّ الإنسان على نحو مطلق يصير إلهاً بالنسبة إليه»[34]. لكن رغم ما في هذا الرأي من مشاكل من وجهة نظر أرثوذوكسية، إلا أنه ينسجم كليّاً مع نظام تيليش اللاَّهوتي. لا حاجة لأن نعتبر أن مفردات الاهتمام المطلق متناقضة بحيث لا يمكن للمرء أن يختار منها إلا واحدة. لكن ليس فيها واحدة تتماهى حرفيّاً مع «الله». يمكننا اختبار مواضيع الاهتمام المطلق على أساس معيار واحد فقط، وهو أنه ينبغي لها أن تشير إلى ما يتجاوزها. وعندما يفقد أي موضوع هذه الخاصِّية يفقد مقامه كاهتمام مطلق. وهذا ما يزيد في إيضاح سبب عدم مطابقة تيليش للاهتمام المطلق بجانب ثابت من العقيدة. إذ إن اهتمام الإنسان بمعتقد يمكن أن يصبح بذاته غاية، وبذلك يمكن أن يتوقف عن الإشارة إلى الله. لكن «اللاّهوت البروتستانتي» الذي بقي عليه تيليش «يعترض باسم مبدإ البروتستانتية على تماهي اهتمامنا المطلق مع أي مخلوق كنسي، بما في ذلك الكتاب المقدس»[35]. بدل ذلك يقترح ما يسميه «معياران أساسيان لكل لاهوت» أولاً، «إن موضوع اللاهوت هو ما يهمنا اهتماماً مطلقاً. فالقضايا اللاهوتية هي فقط القضايا التي تتعامل مع موضوعها على قدر قابليته لأن يصير اهتماماً مطلقاً بالنسبة لنا»[36]. ومعياره الثاني، ببساطة، يربط الاهتمام المطلق بـ «الوجود أو اللاوجود». «فاهتمامنا المطلق هو الذي يحدد وجودنا أو عدم وجودنا. والقضايا اللاَّهوتية هي فقط القضايا التي تتعامل مع موضوعها بقدر ما يصبح مسألة وجود أو لا وجود بالنسبة لنا»[37].
«الوجود» و«اللاَّوجود» في معجم تيليش يتشاركان بوظائف ذات هدف مزدوج تشبه وظائف «الاهتمام المطلق». فأحياناً يتضمّن «الوجود» معنًى أوّليّاً هو الشعور بالتغلّب على الشك أو القلق، في حين أن «اللاَّوجود» يصف شعور الإنسان بأن ثمّة خطراً يتهدّد وجوده. من جهة أخرى «الوجود» و«اللاَّوجود» يدلّان على حقائق تتجاوز الإنسان حيث يفترض أن تنبثق تلك المشاعر.
غير أن الاهتمام المطلق في فكر تيليش يشكّل مقولة أوسع من المقدّس. يبدو أحياناً كأنه يمثل أي اهتمام يستحوذ على الإنسان ويوحّد كل طاقاته ومطامحه في مطلب أو هدف شامل. وعلى هذا الأساس يقارن في إحدى عِظاته بين اهتمام مريم بـ «الشيء الواحد»؛ واهتمام مارتا بأشياء كثيرة»[38]. لكن ألا يمكن لهذا الاهتمام أن يشمل بعض الأنظمة الشمولية كالماركسية مثلاً؟
كان تيليش يستبق هذا النوع من الحرج، فهو في مكان آخر يعرّف الاهتمام المطلق بأنه «الترجمة المجرّدة للوصية الكبرى: «الرب، ربنا، الرب واحد؛ أحبِب الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ»[39]. لكن وكما يرى تيليش، فإن هذه «الترجمة» للاهتمام المطلق ما زالت تغطّي مجالاً ملحوظاً من المواقف. يقول في تعليق له: «لقد شرحتها في بعض الأحيان بنجاح... كما يُعامل شيء بجدية مطلقة... مثلاً، ما هو الشيء الذي يمكن أن تكون جاهزاً لتتألم أو حتى لتموت لأجله؟»[40] ثم يتابع «سوف تكتشف أنه حتى الساخر يأخذ سخريته بجدية مطلقة، ويمكن الحديث عن آخرين ممن قد يكونون طبيعيين naturalists ماديين شيوعيين أو أي شيء آخر»[41]. يعتقد تيليش، عمليّاً، أن موضوعات الاهتمام المطلق تحقّق شرطين: فمن جهة، ينبغي أن يكون لها خصائص يكون الإنسان مستعدًّا للتضحية بكل شيء من أجلها. لكن من جهة أخرى، ينبغي أن تشير بعيداً عن ذواتها إلى شيء يتجاوز هذه الذوات. وانطلاقاً من المرجعية الخاصة للشرط الثاني يرجع تيليش إلى المسيحية.
الله والإيمان المسيحي
إذا حدّد تيليش «المعيار لكل لاهوت» على أساس الشكل لا المضمون، فكيف يمكننا التحدّث عن تميّز، بل فرادة الإيمان المسيحي؟ بالرجوع مجدّداً إلى شلاير ماخر، يقول إن «اللاهوت التحرّري محقّ في رفضه زعم أيّ دين من الأديان الخاتمية أو الأفضلية»[42]. حتى أن تيليش تتبّع التسلسل المنطقي لهذا الزعم مشكّكاً بمحاولات المبشّرين المسيحيين تحويل الناس عن أديانهم[43]. فهو يستنتج أن «المسيحية كمسيحية لا هي خاتمة ولا هي عالمية. أمّا بالنسبة لما تشهد عليه فهو خاتم وعالمي»[44].
لكن تيليش يزعم أنه يكتب بوصفه مدافعاً مسيحيّاً. فهو يعتقد أن «اللاهوت الدفاعي يجب أن يبيّن أن المسارات البارزة في جميع الأديان والثقافات تسير باتجاه الحلّ المسيحي»[45]. ثم يضيف، «للاهوت المسيحي أساس يتسامى بإطلاق على كل الأسس في تاريخ الدين وهو ما يمكن وسمه بـ «اللاهوت»[46]. هذا الأساس هو ظهور يسوع بصفة المسيح[47]. برأي تيليش تشكّل رمزية الصليب تعبيراً متسامياً لا يعلى عليه عن الاهتمام المطلق. فبموته على الصليب، وفي الحياة التي كانت متوجّهة كليّاً إليه، وجّه يسوع بوصفه مسيحاً بعيداً عن نفسه، وإلى ما وراء وجوده المحدود المتمثّل بيسوع الناصري. يقول تيليش «المسيح هو المسيح فقط لأنه لم يطلب مساواته بالله، بل تبرّأ من هذا... واللاهوت المسيحي يمكنه تأكيد نهائية الوحي في يسوع بوصفه المسيح، فقط على هذا الأساس»[48].
هذا يعني أن المسيحية في تأويل تيليش تكون مطلقة فقط بقدر ما تنكر الإطلاق عن نفسها، على فرض اتّباع مثل يسوع في إشارته لله وحده. يقرّ تيليش أن هذا الأمر يتضمّن توتراً، يسمّيه «التوتر بين المسيحية كدين والمسيحية كنفي للدين»[49]. إلا أنه يبيّن أن هذا انعكاس لمفارقة الصليب. فرمز الصليب يعبّر عن قبول الإنسان بمحدوديته ويؤكّد إطلاق الله وحده[50].
يقدّم تيليش دعماً لهذا التأويل للمسيحية من عقيدة التبرير بواسطة النعمة من خلال الإيمان[51] واصفاً ذلك بأنه: «المقولة التي تصمد بها البروتستانتية أو تسقط» وبأنه «المبدأ الذي يتخلّل كل دفاع في النظام اللاَّهوتي»[52]. وفقاً لرواية تيليش لهذا التعليم، فإن ذلك يعني أن الانتماء لأي معتقد، إضافة إلى أنه لا يقدّم شيئاً لوقوف الإنسان مع الله، يجب أيضاً الشك فيه كادعاء ديني مزيّف أو كعمل فكري جيّد. فهو يؤكّد أن الله «لا يمكن إدراكه بالعمل الفكري كما لا يمكن الوصول إليه بالعمل الأخلاقي»[53]. وكل ما يهم هو أن «على الانسان أن يقبل أنه مقبول وعليه القبول بالقبول»[54].
ينبغي القول ـ وبعد تجاوز أن هذه الحجة غير مقنعة ـ في هذه النقطة كما في بعض النقاط وغيرها، أن تيليش، وبغياب أي حس نقدي، يحذو حذو معلّمه اللاهوتي مارتن كاهلر Martin Kähler [55]. يؤكّد كاهلر أنه لا يمكن القول أن تبرير الإيمان يرتبط بالمعرفة التاريخية أو اللاهوتية، لأنه في هذه الحالة قد يكون للمثقّف أفضلية على أبسط المؤمنين المسيحيين. لكن ادّعاء أن تبرير الإيمان يحوي عنصر اعتقاد عقلاني لا يعني أن الممارسة تحوّل الإيمان إلى عمل[56]. الكاتب للعبرانيين لا يطرح مبدأ استحقاق مقنّع عندما يعلن أن «من يقبل على الله عليه أن يؤمن أنه موجود...» (عبرانيون 11:6)؛ إنه ببساطة يكشف جزءاً من معنى الإقبال على الله. وعلى نحو مشابه، القول إن الإيمان يحوي عنصر اعتقاد لا يعنى جعل الإيمان نوعاً خاصّاً من العمل، بل شرح لجزء مما يشتمل عليه التبرير بالإيمان. الإيمان بيسوع المسيح كربّ يصبح بلا معنى إذا لم يحمل معه مضمون إيمان معرفي بيسوع المسيح.
وكما أن المسيح بالنسبة لتيليش هو مطلق فقط بمقدار ما يشير بعيداً عن نفسه إلى الله، إذاً لا شيء يمكن أن يقال عن الله ذاته الذي هو «مطلق» باستثناء أن الله هو «الوجود ذاته». «لا شيء آخر غير رمزي يمكن أن يقال عن الله بوصفه الله»[57]. يحاول تيليش أن يكون عادلاً مع ألوهة الله مع هذه الغيرية المتعالية. فالله ليس ذاك النوع من الوجود الذي يمكن الحديث عنه بالمصطلحات نفسها التي نستخدمها للكائنات. بالتالي يكتب تيليش: «وجود الله لا يمكن فهمه كوجود كائن إلى جانب الكائنات أو فوقها. إذا كان الله موجوداً بهذا المعنى يكون عرضة للمقولات المتناهية خاصة مقولتي الجوهر والمكان. حتى لو سمّي «الموجود الأسمى» بمعنى الوجود «الأكمل» و»الأقوى» فإن الوضع لا يتغيّر. فعند تطبيق صيغ التفضيل على الله تصبح صيغاً تصغيرية. إنهم يضعونه في مستوى الموجودات الأخرى عندما يرفعونه فوقها جميعها؟»[58].
لهذا السبب لا يستطيع تيليش قبول ما يسميه التصوّر «فوق الطبيعي» لله. إذ وفقاً لهذا التصوّر، فإن الله أوجد الكون في لحظة معيّنة، وهو يديره وفقاً لخطّة، ويتدخّل بين الحين والأخر في مجريات أحداثه العادية[59]. يعلّق تيليش: «الحجّة الرئيسية ضده هي أنه يحوّل لاتناهي الله إلى تناهٍ هو مجرّد امتداد للمقولات المتناهية.»[60] لكن تيليش يرفض بالمستوى نفسِه المذهب الطبيعي أو وحدة الوجود. لا ينبغي أن يتماهى الله مع مجموعية الأشياء، لأن هذا أيضاً سينفي المسافة المتناهية بين الكل المتناهي للأشياء وأساسها اللامتناهي»[61]. المقصد الأساسي لعقيدته في الله هو صياغة وجهة نظر ثالثة «تجاوز المذهب الطبيعي ومذهب ما فوق الطبيعة».
لكن هل يمكن اعتبار المسألة التي يطرحها تيليش والحل الذي اقترحه جديدين؟ كان الفلاسفة اللاهوتون مدركين دائماً لحقيقة أننا إذا أردنا أن نكون عادلين مع التعالي الإلهي، فعلينا ألا نفكر بالله كأنه شيء من الأشياء الأخرى في عالمه هو، ولا كموجود خارج الكون تماماً، وبالتالي لا علاقة له به. يؤكّد تيليش أن الأدلة والبراهين التقليدية على وجود الله تقدّم خدمة جليلة في الطرح الحاد لهذه المعضلة. إلا أنه يذهب إلى ما لم يذهب إليه أكثر اللاهوتيين عندما يبيّن أننا إذا أردنا أن نجعل الله موضوعاً للتفكير المفهومي علينا وضعه في العالم كأي مخلوق من مخلوقاته الأخرى. فقد قال: «في الحقل المعرفي، كل ما يوجّه إليه الفعل المعرفي يعتبر موضوعاً سواء أكان إلهاً أم حجراً. فخطورة التشيّؤ أنه أبعد ما يكون عن المنطق... فلو أدخلنا الله في بنية الذات ـ الموضوع للوجود، لا يعود الإله الذي هو الله بحق»[62].
الرموز الدينية
بالطبع قبِل تيليش بمصطلحات المسألة كما صاغها مارتن هايدغر. لذلك من الأهمية بمكان ملاحظة أن ما يدعوه إلحاداً، لا يندرج في سياق اللاهوت، بل في سياق الأسئلة الفلسفية حول صياغة المفاهيم، أو المقولات الفكرية. لهذا يصرّ تيليش على أن «الاستدلال على وجود الله يعني إنكاره»[63]. نحن لا «نعرف» الله بالتفكير المفهومي، بل بالاهتمام المطلق. هذا أحد أسباب استخدام لغة الرموز الدينية في الحديث عن الله بدل الخطاب المعرفي.
يفضّل تيليش التحدّث عن اللغة الدينية بمصطلحات رمزية أكثر من التحدّث عنها بالأمثلة أو بالخطاب التشبيهي. ولذلك سببان: أولاً، إن استخدام التشبيه يشتمل على خطاب معرفي يُحكى فيه عن الله من خلال استخدام المفاهيم. لكن كما سبق ورأينا أن الله من وجهة نظر تيليش لا يبقى «الله» عندما نحاول وصفه أو عندما ندافع عنه بواسطة المفاهيم. إذ يُفترض تجنّب هذه المشكلة عند استخدام الرموز، «الرموز الدينية... هي تمثّلات لِما يتجاوز الدائرة المفهومية بشكل لا مشروط... الرموز الدينية تمثّل المتعالي...إنها لا تجعل الله جزءاً من العالم المادي»[64]. إنها تتعالى على الحقل «المقسوم بين الذاتية والموضوعية»[65].
ثانياً، رغم الغموض الذي يلفّ المسألة، نجد أن تيليش مدين كثيراً لعلم النفس اليونغيpsychology of Jung. يعتقد يونغ أن الإنسان الحديث يعاني من شحّ الرموز. فإن جزءاً من مرض واضطراب الوعي الحديث ينبعث من فساد الصور والرموز التي كان لها في الماضي قوة حيوية. يبيّن يونغ أن النتيجة النهائية لهذا الاتجاه، سوف تكون شللاً وتعطّلاً؛ لأن الرموز حيوية من أجل التفاعل الضروري بين الوعي واللاوعي. هكذا يؤكّد تيليش، تماشياً مع يونغ، أن السر المقدّس، بخلاف الكلمة المجرّدة، إذا كان حيّاً، يستحوذ على لاوعينا وعلى وجودنا الواعي. فهو يستحوذ على الأساس الخلاق لوجودنا»[66]. وبما أن الله أيضاً بالنسبة لتيليش، أساس لوجودنا، نستطيع القول أنّ الرمز الذي يتغلغل إلى لاوعينا يدل على الله. عندما تُوضَع هاتان المجموعتان من الاعتبارات جانباً لن يكون مفاجئاً عندما يؤكّد تيليش أن «مرتكز عقيدتي اللاهوتية في العلم هو مفهوم الرمز»[67]. «الرموز الدينية... هي الطريقة الوحيدة التي يعبّر الدين من خلالها عن نفسه مباشرة»[68].
يقدّم تيليش عدداً من التقريرات المتشابهة عن الرموز، في كل واحد منها يضع نفس الخمس أو الست خصائص نفسِها للرموز في قائمة. أولاً، الرمز وكأيّ علامة عادية يمثل شيئاً مغايراً، ومن هنا فهو يشير إلى ما وراء ذاته. لكن ثانياً، الرمز يختلف عن العلامات التقليدية، لأنها يُفترض أن «تشارك في ما تشير إليه»[69]. وبمحاولة لشرح هذه الفكرة الغامضة يبيّن تيليش من خلال تشبيهٍ كيف أن العَلَم «يشارك في» كرامة الأمة. (ربّما علينا التفكير هنا بصورة خاصة في مكانة العلم في الحياة الأميركية.) وهذا بدوره يوحي بميزة ثالثة، يصفها تيليش بـ «الوظيفة الأساسية للرمز، أي فتح مستويات الواقع التي تكون مخفيّة والتي لا يمكن إدراكها بأي طريقة أخرى»[70].
بالنظر إلى تأثير الرموز على لغة الدين علينا أن نفحص عن قرب ما يؤثّر في هذه المسألة. يضرب تيليش مثلاً من المجال الفني، عندما يعلّق على منظر طبيعيّ لروبنز Rubens: «ما يحاول هذا الرسم إيصاله لك لا يمكن التعبير عنه بأي طريقة أخرى غير الرسم»[71]. ثم يتابع، «الأمر نفسه يصحّ أيضاً في علاقة الشعر بالفلسفة. قد يكون الجمال غالباً في التشويش على المسألة من خلال إقحام عدد كبير من المفاهيم الفلسفية في القصيدة. والآن المشكلة الحقيقية هي؛ أن المرء لا يستطيع فعل ذلك. فإذا استعمل اللغة الفلسفية أو اللغة العلمية، فإن هذه اللغة لا تستطيع التوسط في إيصال الأمرَ نفسَه الذي تتوسط في إيصاله لغة الشعر من دون مزجها بأي لغة أخرى»[72].
في هذه الحالة، ماذا يمكن أن نقول عن إنسان لا يكترث للمواضيع الجمالية؟ يجيب تيليش، بتحديد ميزة خامسة للرموز. وكما أشرنا سابقاً فإنّ الرمز يتغلغل عميقاً في اللاوعي. إذا كان الرمز صحيحاً للإنسانِ المعنِيِّ، فهو يستطيع أن يحدث فعل الدلالة التي يقتضيها. وهكذا يؤكّد تيليش «لكل رمز حدّان: الانفتاح على الواقع، والانفتاح على الروح»[73]. «إنه يستكشف الأعماق المخفية لوجودنا»[74]. وعلى هذا الأساس «لكل رمز وظيفة خاصة وحصرية ولا يمكن إبدالها برموز أكثر أو أقل مناسبة»[75]. كما يمكن أن تكون الرموز مرعبة بقدرتها. فهي تستطيع أن تخلق أو تدمّر، وتستطيع تضميد الجروح وتوحيد الحياة وجعلها أكثر استقراراً. لكنها تستطيع أيضاً إفساد الحياة وزعزعة استقرارها.
تتعلّق علامتا الرمز الخامسة والسادسة بولادته واحتمال اضمحلاله. ينجذب تيليش بشدة إلى علم النفس الحديث، خاصة كما قلنا سابقاً، إلى أعمال يونغ. فهو يعتقد أن الرموز «تنمو في اللاَّوعي الفردي أو الجمعي، ولا يمكن أن تؤدّي وظيفتها من غير أن تكون مقبولة من البعد اللاواعي لوجودنا... إنها كالموجودات الحيّة، تحيا وتموت»[76]. وهذا ينطبق على الرموز الدينية: «الرموز الدينية تنفتح على تجربة العمق في نفس الإنسان. إذا توقّف رمز ديني عن أداء وظيفته، فإنه يموت»[77]. وهكذا بالعادة، تتطلّب العلاقة المتغيرة مع الله رموزاً دينية جديدة. وقد يكون البديل أن يكون التغيير مطلب وجهات نظر ثقافية جديدة، وكمثال على ذلك، عندما يكون لـ «ملك» دلالة غير مرغوبة في جمهورية متطرفة.
سنجد صعوبات كبيرة في نظرية الرموز عند تيليش إذا تمّ تبنّيها كنظرية شاملة للغة تتعلّق بالله. لا أحد يشكّ في قدرة الرموز، أو قيمتها كوسيلة لغوية مكمِّلة تساعد في إيصال ما يمكن إيصاله بطريقة مختلفة عن الخطاب المعرفي. لكن تيليش يرى في الرموز ركيزة لفكره اللاهوتي. فلاهوته يدعم ويرسّخ نظريته في الرموز الدينية والعكس صحيح. أرغب أن أعلن، وسوف أحاول الآن أن أبيّن، أن تقرير تيليش عن اللغة الدينية لفت الانتباه بشدّة إلى الصعوبات التي تكتنف جديّاً نظامه اللاهوتي.
بعض المشاكل الكبيرة
في البداية يؤكّد تيليش أن الرموز الدينية لا يمكن أن توصل «معلومات عمّا فعله الله في الماضي ولا عمّا سيفعله في المستقبل»[78]. لا تمكّننا الرموز من كتابة تقارير عن الأحداث التاريخية؛ فهي «بمنأى عن أي نقد تجريبي»[79].
لكن موقف تيليش العام من التاريخ، ومن المسيحية بوصفها الإبلاغ عن الأحداث التاريخية، لا يخلو من التباس. غير أن لاهوته عن المسيح بوصفه الوجود الجديد يفترض مسبقاً التجسد: «يسوع بوصفه مسيحاً هو... حقيقة تاريخية»[80]. لكن من جهة أخرى، وتأثّراً بتشاؤم ألبرت شفيتزر Albert Sweitzer حول أسئلة تتعلّق بيسوع التاريخي، كلف نفسه بمهمة السؤال: «كيف يمكن تصوير الإيمان المسيحي إذا صار لاوجود يسوع التاريخي غير ممكناً من وجهة نظر تاريخية»[81]. يبدو أنه يسلّم بأن شيئاً ما سيبقى يمكن تسميته الإيمان المسيحي. فهو يقول «عندما يضمن الإيمان المسيحي حياة شخصية يقهر فيها الوجودُ الجديدُ الوجودَ القديمَ، فإنه لا يضمن أن يكون اسمه يسوع الناصري»[82]. ومن هنا فإن استحالة استخدام الرموز لإنتاج عبارات معرفية حول أفعال الله بشخص يسوع لا يقلق تيليش، بل ينسجم مع مجمل مقاربته ويدعمها. ولكن إذا كانت الرموز «هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للدين أن يعبّر من خلالها عن نفسه» سيشكّل هذا الفراغ اللغوي صعوبة جدية لأولئك الذين يتبنّون تراثاً لاهوتيّاً أرثوذوكسيّاً في إعلان أن أفعال الله الخلاصية في التاريخ أساسية للتواصل والتعبير عن الإيمان المسيحي.
إن حقيقة عدم قدرة الرموز الدينية على إيصال أوصاف الحوادث التاريخية، يشكّل جزءاً من مشكلة أكبر سببها موقف تيليش من المفاهيم وصياغة المفاهيم. فهل يمكن وجود شكل من اللغة لا يستدعي صياغة مفهومية؟ يثير هذا السؤال بعض المشاكل المعقدة جدًّا التي لا ينبغي الخلط بينها وبين غيرها من المشاكل.
أولاً، إحدى أهم البديهيات في الألسنيات العامة منذ أعمال فرديناند وسوسير عام 1900 على الأقل، هي أن للغة وظيفةً، أو أنّ لها معانِيَ تقوم على التعاقد. فليس ثمّة انطباق «طبيعي» بين اللغة والواقع، وإلّا لإستَحال شرح ظواهر مثل الاشتراكات اللفظية (حيث يكون للّفظ الواحد معانٍ عدةٌ مختلفةٌ)، والانسجام، والاعتباطية في قواعد النحو، والتغيّر التاريخي للّغة، والحقيقة الأوّلية أن كلمات مختلفة تعبّر عن شيء واحد في لغات مختلفة. يؤكد دي سوسير أن المبدأ الأول للدراسة اللغوية هو «اعتباطية الإشارات»[83] لقد أكّدت على أهمية هذا التصور بالنسبة للاهوت في مقالة نشرت في مكان آخر[84]. لكن محاولة تيليش تجاوز المفهمة في اللغة الدينية ترتكز جزئيّاً على اعتقاده أن الرموز «تُشارِك في» ما ترمز إليه. بكلام آخر، إنه يعتقد أن الإشارات تتوقّف فقط على الاصطلاح من أجل معناها، في حين أن للرموز بعض الارتباط المباشر والطبيعي بالواقع.
هناك من انتقد تيليش في هذه النقطة. فقد ناقش فنسنت توماس Vincent Tomas نظرية تيليش في الرموز من خلال استحضار صورة البساط المزخرف برسم وحيد القرن في متحف الكلواسترز Cloisters بنيويورك، لا بد من الاعتراف أن لهذه النقوش المزخرفة «طاقة أصيلة ترمز إلى حيوان لطيف جميل ذي قرن واحد. لكنه واقعاً لا يرتبط بحيوان من هذا النوع، ولا يمكن أن يشارك بلطف وجمال حيوان من هذا النوع... لأنه لا وجود لهذا الحيوان... وحيد القرن «الموجود في الصورة» لا يمكن أن يشارك في...وحيد القرن «خارج الصورة» التي يُشير إليها، لأنه لا وحيد قرن خارج الصورة...فجميع الرموز «تشير إلى ما وراء ذاتها»، لكن...الشيء المشار إليه قد لا يكون موجوداً»[85].
أشكّ أن يكون ما يعنيه تيليش هنا هو حيث تأسيس العلامات على الاصطلاح وعادات الكلام التي يعتمدها الأفراد، تنشأ الرموز عن الاستعمالات المنتشرة والأولية للعلامات التي تتحوّل إلى عادات كلامية لمجموعة أو ربّما لعرق، يمكن للرموز وفقاً للنتائج التي توصل إليها يونغ، أن تجد أصداء حتى في العقل اللاواعي. لكن القول أن الرموز مرتبطة باللاَّوعي يعني شيئاً مختلفاً عن ادعاء أنطولوجي يلاحظ أن الرموز «تشارك في» الحقيقة التي تشير إليها. بكلام آخر، إنه قول شيء عن فاعليتها لا عن حقيقتها.
عندما نعود إلى السؤال عن المفهمة، نلاحظ أن مبدأ أساسيّاً آخر في اللغة والتواصل هو الموضع الضروري للتعارض أو الاختلاف الدلالي. فكلمة ما قد تدلّ على شيء أو آخر، وجملة ما قد تميّز ظرفاً عن غيره. إن إيضاحنا لهذه النقطة لا يعني التزامنا بنظرية مقترحة في اللغة بل هو اعتراف بمسلّمة أوّلية في الألسنيات وفي فلسفة الألسنيات وهي أنه من دون فرق في المعنى، لا يمكن أن يكون ثمّة معنى. وربما بعد اعتراف جزئي تقريباً بهذا المبدأ، يسمح تيليش لإمكان جملة واحدة على الأقل غير رمزية عن الله لكن من جهة أخرى «قد تؤدّي الحجّة بأكملها إلى دور منطقي»، و«تذوب اللغة الدينية في النسبية»[86] ولكن عمليّاً ما الذي يمكن أن يقال من غير رموز؟ فتيليش لا يسمح إلا بجملة واحدة غير رمزية عن الله، هي بالتحديد «الله هو الوجود بذاته... لا شيء آخر يمكن أن يقال عن الله بوصفه الله ولا يكون رمزيّاً»[87].
لكن ما هي الظروف التي تختلف، وتتميّز، أو تستثنى، بتأكيدنا أن الله هو الوجود بذاته؟ عمليّاً لا يمكن لتيليش أن يقصد بهذه الجملة تقريراً وصفيّاً، لأن ذلك قد يقوّض كل ما قاله عن عدم فهمنا لله كـموضوع «موجود». إن استعمالاته لمفردات «وجود» «عدم» أو «لاشيء» شبيهة باستعمالات هايدغر لها؛ ووفقاً لكارناب وآير، أن القصد من هذه المفردات في فلسفة هايدغر هو أن تُوظّف ببساطة «لتدلّ على شيء متميّز بغموضه»[88]. بكلام آخر، إن التأكيد غير الرمزي الوحيد عن الله يرجعنا إلى فكرة الاهتمام المطلق التي يكشف فيها الموقف السيكولوجي بعض الأسس الافتراضية لواقع يتجاوز الإنسان نفسه.
إذاً، لو تخلينا عن «المفاهيم» سيصعب علينا أن نحدّد كيف يمكننا أن نقول أن الله هو هذا أو ذاك. وإن سماح تيليش بجملة لارمزية واحدة عن الله لا يساهم في حل هذه المشكلة. لكن علينا قبل إنهاء هذا الموضوع أن نضيف أن تيليش اقترف خطأ لغويّاً فاضحاً إضافيّاً. فهناك مبدأ ثالث مقبول بشكل عام في علم الألسنيات، هو أن الجملة، أو بدقة أكثر الفعل الكلامي، هو الوحدة الأساسية للمعنى وليس الكلمة. مجدّداً، لقد ناقشت هذه النقطة بالتفصيل في مكان آخر[89]، إن رمزاً مثل «الملك» أو «الوجود الجديد» لا يقول شيئاً إلا بعد أن يأخذ مكانه في شبكة من الكلمات والتعابير. وإن فشل «نظرية الصورة» في المعنى لفتغنشتاين تُوضح الأمر أكثر من البنية الدلالية لسوسير وتراير Trier and Saussure. لكن بحسب تيليش في أي أنواع الخطاب تؤدّي الرموز وظيفتها؟
يمكن الشعور بمزيد من التعاطف مع محاولات هايدغر، خاصة في أعماله الأخيرة، في الوصول إلى فكرة اللغة اللاتشييئية عندما يتكلم عنها كأنها خلق «عوالم» واقعية سابقة للفصل الديكارتي بين الذات والموضوع الذي ينتج عنه مفهمة معرفية[90]. لأن هايدغر، وبعده هينريش أوت Heinrich Ott وجزئيا فوكس وأبلنغ Fuchs and Ebeling، يجيزون خلق عوالم من هذا النوع لا من خلال رموز بسيطة، بل من خلال الشعر والأمثال، أو الأعمال الفنّية المنتشرة. فضلاً عن ذلك، وبعيداً عن الانبثاق من اللاوعي كما في لاهوت تيليش، فإن «الحدث اللغوي» عند هايدغر نشأ من الجِدّة، «الحدوث» الذي يواجه ويتحدّى ويصحّح وجود الفرضيات والتوجهات قبل ـ الواعية للإنسان[91].
لكن علينا أن نقول أكثر من هذا، كل بطريقته المختلفة تماماً، فقد بيّن بول فان بيرن Paul Van Buren ووليام هوردرن William Hordern أن تخصيص اللغة ليس غير ضار فحسب، بل هو ضروري بالتأكيد إذا رغبنا بالكلام عن الأشخاض كأشخاص[92]. إذ يمكن للرموز أن تدلّنا على الأنوثة والجمال، واللطافة وغير ذلك من الصفات. لكن هذه الصفات الأولية لا تصف شخصاً محدداً. كما يعلّق هوردرن بحق: «عند الحديث عن الأشخاص نكون مهتمّين بالدرجة الأولى بالفرد. فالشاب لا يقع في حب طبقة محددة من النساء، في العشرين من عمرها، جميلة، محبوبة وهكذا. على العكس، إنه يقع في غرام ماري جونز»[93]. للتقرير عن «ذات» الشخص فإننا لا نضع لائحة بـ«مراتب» صفاته مثل «رجل أعمال في منتصف العمر»؛ لكن «علينا أن نبدأ بإخبار قصص عنه، نصِف موقفاً وكيف تصرّف إزاءه[94]. فعندما يتحدث الكتاب المقدس عن الله كشخص إنه يجذب الانتباه إلى «خصوصية الوحي اليهو ـ مسيحي»[95].فهو يخبر كيف تصرّف الله في مواقف محددة ولا ينقل كثيراً عن «الحقائق العامة» عن طبيعته.
لقد قيل أن أحد المشاكل الأساسية التي تجعل لاهوت تيليش غير مقنع هو فشله في الوصول إلى تصالح مع «عقبة الخصوصية» التي تمثّلها المسيحية. فتاريخ الكتاب المقدّس هو بالتحديد تاريخ اختيار الله وفعله لهذا الأمر دون ذاك. مع ذلك فإن تيليش يعتبر أن الخصوصية شيء يقوّض غيرية الله ويجعل «الله» مجرد إله.
تظهر المشكلة الأساسية الثانية في لاهوت تيليش بمحاولة ربط الله كأساس لوجودنا، بـ «الأعماق» اللاواعية في الإنسان. ثمّة انطباع أوجده J. A. T. Robinson في كتاب Honest To God أن هذا بالأساس مسألة تحدّ لتصورنا عن الله، حيث أن اللغة حول الله «في عليائه» يمكن إبدالها برموز تشير إلى الله «من الداخل»[96]. لكنّ هاتين الطريقتين ليستا طريقتين متناوبتين في الكلام عن الإله نفسِها. فإله نظام تيليش مختلف جدًّا عن إله اللاهوت المسيحي التقليدي. وعندما نستثني الرموز من المعيار الذي يضعه الفكر العقلي، يمكن أن يكون «الله» لا شيء أكثر أو أقل من طفوٍ مفاجئ للصور اللاواعية، والأهواء، أو المخاوف. وهذا ما قد يضفي علينا شعوراً بالقدسي أو قد يدل على شيء مختلف كليّاً. لكن يبدو أن تيليش قد سقط في الفخ نفسِه الذي سعى الجميع لاجتنابه، أي جعل الله على صورة الإنسان.
إن تأكيد انتشار هذه المشكلة بطريقتين مختلفتين. أولاً، يذكّرنا بيفان Bevan مرة أخرى بأن قوة الرموز لا تضمن حقيقتها. فالذين يعانون من بعض الأمراض العقلية، مثلاً، قد يحوّلون أي شيء أو كل شيء إلى رموز. وقد يرون «أشياء حولهم مشحونة بمعنى شرير أو مرعب...كما قد ينظرون إلى طاولة أو باب ويشعرون بالخوف إلى حدّ الرعب...»[97] لكن هذه «الرموز» لا أساس لها من الصحة. ثانياً، بالرغم من مقاربة يونغ، فقد تكلّم علماء نفس آخرون عن «شريعة غاب» اللاَّوعي. ففي بعض الحالات ـ كما يقول أ. ن. دكر E. N. Duker ـ أن البحث عن الله كأساس لوجوده هو «تهكّم شيطاني»، يعني أنه يحتاج الوصول إلى خارج ذاته إلى خالقه ومخلّصه[98]. في مقابل تحذيرات الكتاب المقدّس من خداع «قلب» الإنسان، يحتمل أن يكون قلق تيليش حول التأثيرات التحريفية لإضفاء الطابع المفهومي على «الله» تصل إلى درجة التفاهة مقارنة بالتحريف الذي يمكن أن ينتج عن البحث عنه من خلال الرموز والاهتمام المطلق.
إننا لم نعالج كل المشاكل التي أثارها حديث تيليش عن لغة الدين. فمثلاً، يمكن أن نسأل ما العلاقة بين رفضه الالتزام، وبين استخدام لغة تفويضية في تعابير الانشغال بالذات؟ مثل «أنا أؤمن» أو «أنا أعتقد»[99]. فهل يمكن أن نتخلّص من اللغة التفويضية في الدين؟ وإذا كنا لا نستطيع، ألا يجدر بنا أن نستعيد فكرة «الالتزام» حتى لو بقيت متنكّرة في شكل عبارات اهتمام بالذات؟ ليس لدينا متّسع لمناقشة مزيد من هذه الأسئلة، لقد قيل ما يكفي للكشف عن وجود مشاكل جدّية في ما قرّره تيليش عن اللاهوت واللغة الدينية.
تيليش والأنكليكانية راهناً
بناءً لطلب المحرر، أضفت ملاحظة استنتاجية عن العلاقة بين لاهوت تيليش والأنكليكانية راهناً. قد يبدو للوهلة الأولى أن اهتمامات تيليش محصورة بالأسئلة الكبرى التي ترتبط بطبيعة المسيحية ذاتها، وعلاقتها بالثقافة العلمانية. من ناحية أخرى ما زال كثير من توجّهاته التفكيرية ذات سمة ألمانية بامتياز رغم تواجده لسنوات عديدة في الولايات المتحدة الأميركية. ولم يكن الأثر الذي تركه كتاب مخلص لله لـ ج. أ. ت. روبنسون J. A. T. Robinson’s Honest to God في الاتحاد الإيماني الانكليكاني مرتبطاً تماماً بأسئلة حول تيليش، فأنا لست مقتنعاً بأن الكتاب نجح في إيصال المسائل الأكثر أهمية في فكر تيليش. لقد رأينا أن الأمر ليس مجرّد مسألة تغيير «لتصورنا» عن الله، بل طرح أسئلة أساسية وعميقة. من جهة أخرى يمكن تحديد بعض الأمور الأساسية التي ترتبط بالاهتمامات الانكليكانية.
أولاً، يطرح لاهوت تيليش أسئلة حول الشمولية العقدية وعلاقتها بمكانة المعايير العقدية أو الاعترافية. فالمادة الثامنة من المواد التسعة والثلاثين تركّز الانتباه على قيمة قواعد الإيمان الثلاثة، فقد وصف مؤتمر لامبث Lambeth الذي عقد عام 1920 كتاب الصلاة بـ«المعيار الانكليكاني للعقيدة والتطبيق». من جهة أخرى يرفض تيليش فكرة تحديد «المعايير اللاهوتية» انطلاقاً من مضمون عقدي معين. مشترطاً أن يكون «الله» موضوع الاهتمام المطلق الذي يمكن أن يكون غير محدّد وتقريباً شاملاً لكل شيء من الناحية اللاهوتية. إذ لا يمكن لأي مجموعة من الرموز التي تحكي عن الله أن تكون أكثر «نهائية» «final» من غيرها، طالما أنها تشير إلى ما وراءَها. وبسبب هذه السعة أو الشمولية، رأى البعض في لاهوت تيليش إلهاماً للحركة المسكونية، وحجّة للاستغناء عن الاعترافات وأسس الاعتقاد.
بيّنت مناقشتنا أنه لا فكرة الاهتمام المطلق عند تيليش، ولا لغته حول «الوجود» تملأ الفراغ الذي تخلّفه إزالة المعايير اللاهوتية التقليدية. ويصعب فعلاً تسويغ تسمية ما يطرحه «معايير لاهوتية». لأنه في النهاية، مهما كانت مقاصده يصعب تمييز «الله» في لاهوت تيليش من خلال إيحاءات دينية صادقة للإنسان. «الله هو الاسم الذي يهتمّ له الإنسان اهتماماً مطلقاً». يرى البعض أن هذه المقاربة المرتبطة بشلايرماخر هي المقاربة الصحيحة. لكن آخرين كثر لا يرون ذلك. إن لمقاربة تيليش هذه قيمة أساسية، لأنها تحذّرنا من الوصول إلى طريق مسدود في حال سعينا إلى التخلّص من جميع المعايير الإعترافية.
ثانياً، يطرح لاهوت تيليش أسئلة حول المكان النسبي وسلطة الكتاب المقدس، والأكليروس، والقانون الكنسي، والتقاليد المذهبية. فمن جهة، هو لا يرغب بوضع التقليد اللاهوتي جانباً أو تجاهله، يقول: «التقليد المذهبي مصدر حاسم بالنسبة للّاهوتيّ النسقي، حتى لو استعمله على مستوى عالمي»[100]. هنا يقف تيليش إلى جانب الأنكليكان ضد من يرغبون في العودة إلى القرون الأولى والبدء من جديد. ورغم تأكيده أن المعتقدات ليست «معايير» لاهوتية، «مع ذلك حتى الكنائس البروتستانتية عليها أن تشكّل أسسها الاعتقادية وتدافع عنها ضد الهجمات من جانب ممثليها أنفسهم»[101]. من جهة أخرى، رأينا أن تيليش يستخدم «المبدأ البروتستانتي» للتشكيك في مطلقية ونهائية أي مؤسسة متناهية أو كنسية على عكس الله ذاته. فمن جهة، قد يبدو منافحاً ضد التقليد الأنكليكاني حول سلطة الكتاب المقدس، لأن تيليش يدرج الكتاب المقدس بين السلطات التي لا يمكن أن تكون «نهائية». لكن من جهة أخرى، فإن تليش يضفي بعداً نسبيّاً على السلطات الكنسية الأخرى كما يؤكّد على الصلة بالتقليد المِلّي، ويتبنّى الأنكليكانية عبر وسائل الإعلام. بينما تدافع المادتان 20 و21 عن السلطة المحدودة للكنيسة والمجامع العامة، فإنهما تؤكّدان أيضاً أن المجالس «قد تخطئ». لم تكن الشمولية في الحياة الكنسية سمة من سمات الأنكليكانية قط، فقد بيّن تيليش بحق أن هذا المبدأ مدين بالكثير للحركة الإصلاحية. على هذا الأساس لا يمكن لسلطة الأساقفة أن تكون جزءاً ضروريّاً من «ماهية» الكنيسة حتى لو كانت مقبولة كجزء من «التقليد المِلّي».
ثالثاً، عند تيليش نظائر مثيرة للاهتمام، كما لديه بعض الاختلافات عن الإصلاح والآراء الانكليكانية في العالم والأسرار المقدسة، والتبرير بالنعمة، وكهانة جميع المؤمنين.
إنه لا يرغب بالفصل التامّ بين الكاهن والمؤمن العادي. مثلاً، «يمكن للمؤمن العادي الذي يستحوذ عليه الروح القدس أن يكون وسيط وحي بالنسبة للآخرين». من جهة أخرى، «يمكن لكل مؤمن أن يكون قدّيساً بقدر انتمائه إلى الإتحاد الإيماني للقديسين... فكل قديس هو مؤمن عادي، بقدر انتمائه إلى الذين يحتاجون غفران الذنوب»[102]. لأن الكنيسة تساهم في غموض الحياة عموماً، هي أيضاً تمثّل «الحياة الواضحة للجماعة الروحية». يتبنّى تيليش أيضاً التمييز التقليدي بين الكنيسة المرئية والكنيسة غير المرئية[103]. لقد سبق ورأينا أن التبرير بالنعمة من خلال الإيمان فائق الأهمية بالنسبة إليه وبالفعل أنه لو وُجّه أي نقد لهذا، يكون فقط تحميلاً لهذا التعليم ما لا يحتمله أو مبالغة في تطبيقه. رأينا أيضاً أن تيليش يشدّد على القيمة الإيجابية للأسرار المقدّسة، على الأقل لأنها بوصفها رموزاً تمتدّ لتشكّل جسراً بين الوعي واللاوعي. إنه يتكلم بقناعة كيف ينبغي للعِظة أن تترافق مع الأسرار المقدّسة، وعن «ثنائية الكلمة والأسرار». فلا يجب اعتبارها مجرّد وسائل تقنية للنعمة. لكنه يعتقد أيضاً أن رموز الأسرار المقدّسة «أقدم من»، أو «سابقة» على الرموز اللفظية»[104]. وهذا يتوافق تماماً مع نظريته في «عدم مفهمة» الرموز وقد نقدنا مقاربته في هذه المسألة. بالمقابل، يؤكّد الإصلاحيون أنفسهم أن إمكان فهم السر، في ثنائية الكلمة والسر المقدّس، يتوقّف على الكلمة. لكن إشارات افتراق تيليش عن الإصلاحيين لا تفاجئ من منظور خصائص نظامه ككل أكثر من نقاط كثيرة أظهرت رغبته بتبنّي هذه الآراء. والأهمية هنا لعدد المرّات التي لجأ فيها هذا اللاهوتي «المسكوني» المعاصر إلى الإصلاحيين وبشكل خاص إلى لوثر من أجل الهداية والإلهام[105].
أخيراً، يمكن أن نرى تطابقاً إضافيّاً بين لاهوت تيليش والتقليد الأنكليكاني حول العلاقة بين الكنيسة والمجتمع العلماني. وهذا ينطبق في طريقتين. أولاً، لا تيليش ولا اللاوهوتيون الأنكليكانيون يعتبرون أن الكنيسة منطوية على ذاتها، ومتحفظة وجماعة غيتوية. ففي إنكلترا، على الأقل، يمكن القول أن الكنيسة جزء من الأمة، أي وفقاً للنموذج التقليدي للحياة الأبرشية، يمكن لاهتمامات الكنيسة والأمة أن تتشابك. يقارن تيليش بين هذا النمط «الكنسي» المفضل لدى لوثر وزفنكلي وكالفن وبين النمط «الطائفي» الذي يفضّله «المبشرون الإنجيليون». حيث يكتب أن «النموذج الإكليركي للكنيسة هو الأم التي جئنا منها. إنه مختلف تمام الاختلاف عن كنائس الأصوليين المتحمّسين، حيث يكون الفرد... هو الطاقة الخلاقة للكنيسة». ووفقاً لوجهات نظر لاحقة، «الكنيسة المرئية يجب أن تُطهّر وتُنظف... من أي شخص ليس عضواً في الكنيسة على المستوى الروحي. هذا يفترض أننا نستطيع مسبقاً معرفة من يكون عضواً روحيّاً في الكنيسة. لكن هذا ما لا يقدر عليه إلا الله وحده. لم يستطع الإصلاحيون قبول هذا الأمر لأنهم عرفوا أنه ليس ثمّة من لا ينتمي إلى «المأوى» الذي هو الكنيسة»[106]. إن هذا ينسجم إلى حدّ كبير مع اعتقاد تيليش بأن اللاهوت المسيحي يرتبط بكل أبعاد حياة الإنسان في الدنيا، من لاهوت أو فن أو فلسفة، أو سياسة، أو علم نفس، أو علم اجتماع.
يظهر التطابق أيضاً في الأهمية التي أعطاها لاهوت تيليش الدفاعي للعقل والحجج المنطقية، فقد رفض الرأي القائل أن الإنجيل يمكن أن « يُرمى كالحجر» على السامع، انطلاقاً من اعتقاده، كما في اللاهوت الانكليكاني الكلاسيكي، بتقديم الحقيقة بالطرق المنطقية والإقناع العقلي. لكن لا ينبغي الخلط بين هذا وبين الرأي المختلف تماماً بإمكان الوصول إلى الله عن طريق العقل من دون الوحي. يحاول تيليش الوقوف مكان السامع بصدق، ليتشارك معه في المناقشات والمحاججات الدفاعية. فعندما يخاطب نفسه بمنتهى الدقة ويسأل أسئلة لا يسألها إلا جيل سابق في ألمانيا، هذا لا يضعف شرعية المبدإ العام، لاعتقاده أن محتويات الإنجيل، ورغم بقائها على حالها، يجب أن تقدّم بمصطلحات جديدة لكل جيل.
[1]* ـ لاهوتي وأكاديمي بريطاني، له الكثير من المؤلفات في اللاهوت المسيحي وفلسفة الدين.
ـ العنوان الأصلي للمقال: The Theology of Paul Tillich.
ـ نقلاً عن موقع الدراسات الإنجيلية في لندن. http://biblicalstudies.org.uk/
ـ تعريب: طارق عسيلي. مراجعة: د. جاد مقدسي
[2]- P. Tillich, Theology of Culture (New York 1964) p. v. a.
[3]- Tillich, Systematic Theology, vol. 1 (London 1953) p. 6. Hereafter abbreviated as S. T.
[4]- Ibid. p. 70.
[5]- P. Tillich, The Courage to Be (London 1952) especially pp. 37 -59.
[6]- P. Tillich, The Protestant Era, p. xviii.
[7]- P. Tillich, ‘Autobiographical Reflection’ in C. W. Kegley and R. W. Bretall (eds.). The Theology of Paul Tillich (New York 1964) p. 8.
[8]- Ibid.
[9]- See the chapter headings of P. Tillich, On the Boundary-An Autobiographical Sketch (Eng. London 1967) which is a revised translation of Part I of The Interpretation of History (New York 1936).
[10]-For Tillich’s view of Schleiermacher see especially P. Tillich, Perspectives on Nineteenth and Twentieth Century Protestant Theology (London 1967) pp. 90114 .
[11]-Ibid. p. XXX.
[12]-C. W. Kegley and R. W. Bretall (eds.) op. cit., p. 50 (T. M. Greene), and pp. 43 -44 (W. M. Horton).
[13]-K. Hamilton, The System and the Gospel (London 1963) p. 21.
[14]-Ibid. p. 227.
[15]-See T. A. O’Meara and C. D. Weisser (eds.), Paul Tillich in Catholic Thought (London 1965) e.g. E. D. O’Connor, Paul Tillich: An Impression’ p. 33; cf. also pp. 292 -299.
[16] - يرى أحد الكتّب أنه وفقا لتلش يكون السؤال والجواب مترابطان في الشكل ولكن من حيث المضمون يكونان منفصلين ومستقلين؛
cf. B. Martin, Tillich’s Doctrine of Man (London 1966) p. 29. But in contrast see S.T. vol. 1, p. 68: ‘The method of correlation.
[17]-S. T. vol. 1, p. 72.
[18]- Ibid. p. 8.
[19]- Ibid. يوجد ملخص مهم لرد تليش في كتاب اللاهوت النسقي Systematic Theology vol. 2 (London 1957) pp. 14 -17.
[20]-P. Tillich, Dynamics of Faith (London 1957) p. 92.
[21]-Ibid.
[22]-S.T. vol. 1, p. 13 (Tillich’s italics); cf. 11-14.
[23]-D. M. Brown (ed.) Ultimate Concern-Tillich in Dialogue (London 1965) p. 195.
[24]- Ibid.
[25]- P. Tillich, On the Boundary, p. 40; cf. pp. 36 -45.
[26]- Cf. S.T. vol. 1, p. 40ff. لمناقشة موقف تيليش الإيجابي تجاه الكتاب المقدس, cf. also D. H. Kelsey, The Fabric of Paul Tillich’s Theology (Yale 1967) pp. 1-8. ‘Can a Man Serve Two Masters?’ in Theology Today, vol. xv (1958) pp. 59 -77.
[27]- P. Tillich, The Shaking of the Foundations (London, 1962) p. 49.
[28]-Ibid. p. 50.
[29]- نفس الملاحظة صدرت عن عدد من الكتاب مثل:
Dietrich Bonhoeffer, Letters and Papers from Prison (Fontana ed. 1963) pp. 94-95 and 107 -108.
[30]-P. Tillich, Dynamics of Faith p. 1.
[31]-Ibid. p. 11.
[32]-P. Tillich, ‘Autobiographical Reflections’ in C. W. Kegley and R. W. Bretall (eds.) op. cit., p. 6.
[33]-S.T. vol. 1, pp. 18, 47 and 170; cf. J. Macquarrie Studies in Christian Existentialism (London 1966) pp. 31 -42.
[34]-S.T. vol. 1, p. 234.
[35]-Ibid. p. 42.
[36]-Ibid. p. 15 (Tillich’s italics) cf. pp. 14 -18.
[37]-Ibid. p. 17 (his italics).
[38]-P. Tillich, The New Being (London 1956) pp. 152-160; cf. D. M. Brown (ed.) op. cit., p. 7ff.
[39]-S.T. vol. 1, p. 14.
[40]-In D. M. Brown (ed.) op. cit., pp. 7 - 8.
[41]-Ibid. p. 8.
[42]-S.T. vol. 1, p. 150.
[43]-P. Tillich, Christianity and the Encounter of World Religions (Columbia, USA 1964) pp. 94 - 95.
[44]-S.T. volt, p. 150.
[45]-Ibid. p. 18.
[46]-Ibid. p. 21.
[47]-Cf. P. Tillich, Christianity and the Encounter of World Religions, p. 79.
[48]-S.T. vol. 1, p. 149.
[49]-P. Tillich, Christianity and the Encounter of World Religions, p. 81.
[50]-Cf. S.T. vol. 1, pp. 147ff. and vol. 2, pp. 182 ff.
[51]-Cf. S.T. vol. 2, pp. 204-207, and Systematic Theology vol. 3 (London 1964) pp. 238 - 243.
[52]-S.T. vol. 3, p. 238.
[53]-Ibid. p. 242.
[54]-S.T. vol. 2, p. 206.
[55]-Cf. P. Tillich, On the Boundary, pp. 47-49 (or The Interpretation of History, p. 32). Paul Althaus exposes the difficulties of Kahler’s position in an excellent essay ‘Fact and Faith in the Kerygma’ in C. F. H. Henry (ed.), Jesus of Nazareth: Saviour and Lord (London 1966) pp. 201 - 212. Several other essays in this book relate to this question.
[56]-Cf. D. E. H. Whiteley, The Theology of St. Paul (Oxford 1964) pp. 161 - 5.
[57]-S.T. vol. 1, p. 265; cf. especially pp. 234 - 279. Tillich summarises the basic points in S.T. vol. 2, pp. 5-11, and in Theology in Culture, pp. 59ff.
[58]-S.T. vol. 1, p. 261.
[59]-S.T. vol. 2, p. 6.
[60]-Ibid.
[61]-Ibid. p. 7.
[62]-S.T. vol. 1, p. 191.
[63]-Ibid. p. 227.
[64]-P. Tillich, ‘The Religious Symbol’ inS. Hook (ed.) Religious Experience and Truth (Edinburgh 1962) p. 303.
[65]-Ibid.
[66]-P. Tillich, The Shaking of the Foundations, p. 86; cf. F. W. Dillistone, Christianity and Symbolism (London 1955) pp. 285 - 290.
[67]-P. Tillich, ‘Reply to Interpretation and Criticism’ in C. W. Kegley and R. W. Bretall (eds.) op. cit. p. 333.
[68]-P. Tillich, ‘The Mean~ng and Justification of Religious Symbols’ inS. Hook (ed.) op. cit. p. 3.
[69]-P. Tillich, Dynamics of Faith, p. 42; cf. Theology of Culture, pp. 54-55.
[70]-P. Tillich, Theology of Culture, p. 56.
[71]-P. Tillich, Theology of Culture, p. 57.
[72]-Ibid.
[73]-Ibid.
[74]-P. Tillich, Dynamics of Faith, p. 43.
[75]-P. Tillich, Theology of Culture, pp. 57-58.
[76]-P. Tillich, Dynamics of Faith, p. 43.
[77]-P. Tillich, Theology of Culture, p. 59.
[78]-P. Tillich, Dynamics of Faith, p. 47.
[79]-P. Tillich, Theology of Culture, p. 65.
[80]-S.T. vol. 2, p. 113.
[81]-P. Tillich, On the Boundary, p. 50; cf. S.T. vol. 2, pp. 112-135.
[82]-S.T. vol. 2, p. 131.
[83]-F. de Saussure, Cours de linguistique genirale (edition critique, parR. Engler, Wiesbaden 1967) pp. 146-157. Cf. J. Lyons, Introduction to Theoretical Linguistics (Cambridge 1968) pp. 4-8, 38, 59-75, 272 and 403; and S. Ullmann, Semantics (Oxford 1962) pp. 80-115.
[84]-A. C. Thiselton, ‘The Supposed Power of Words in the Biblical Writings’, forthcoming in Journal of Theological Studies.
[85]-V. Tomas, ‘Darkness on Light?’ inS. Hook (ed.) op. cit., p. 81 (my italics).
[86]-P. Tillich ‘The Meaning and Justification of Religious Symbols’ in S. Hook (ed) op. cit., p. 6.
[87]-S.T. vol. 1, p. 265.
[88]-A. J. Ayer, Language, Truth, and Logic (London 1946) p. 44.
[89]-A. C. Thiselton, ‘Semantics and New Testament Interpretation’ in I. H. Marshall (ed.) New Testament Interpretation (forthcoming).
[90]-See A. C. Thiselton, ‘The New Hermeneutic’ especially the section • “World” in Heidegger and the Parables’, ibid.; and ‘The Parables as Language EventSome Comments on Fuchs’s Hermeneutics in the Light of Linguistic Philosophy’ in Scottish Journal of Theology 23 (1970) pp. 437-488.
[91] - Cf. M. Heidegger, Unterwegs zur Sprache (Pfullingen 1960) and J. M. Robinson and J. B. Cobb (eds.). New Frontiers in Theology: 1, The Later Heidegger and Theology (New York 1963) passim.
[92]-P. van Buren, Theological Explorations (London 1968) pp. 79-105; and W. Hordern, Speaking of God (London 1965) pp. 131-183.
[93]-W. Hordern, op. cit., p. 147.
[94]-Ibid. p. 149.
[95]-Ibid. p. 163.
[96]-J. A. T. Robinson, Honest to God (London 1963) pp. 29-32, 45-50, and 54-61.
[97]-E. Bevan, Symbolism and Belief(Fontana ed. London 1962) p. 244.
[98]-E. N. Ducker, Psychotherapy-A Christian Approach (London 1964) p. 112.
[99]-Cf. D. D. Evans, The Logic of Self-Involvement (London 1963) pp. 27-78.
[100]-S.T. vol. 1, p. 43.
[101]-S.T. vol 3, p. 188.
[102]-S.T. vol. 1, p. 135.
[103]-S.T. vol. 3, p. 176-184.
[104]-Ibid. p. 128; cf. pp. 129-133, and vol 1, pp. 135 and 157.
[105]-P. Tillich, A History of Christian Thought (London 1968) pp. 227-256.
[106]-Ibid. p. 252; cf. On the Boundary, pp. 58-68.

بول تيليش سيرة ذاتية مقتضبة
بول يوهانس أوسكار تيليش (Paul.J.O.Tillich ) (1886 -1965) فيلسوف ولاهوتي ألماني، حصل على الدكتوراه في الفلسفة بأطروحته في تطوير فلسفة شلينغ (1911) من جامعة برسلاف، ورُسّم قسيساً عام (1912). كان مدرساً مساعداً بهال في برلين ثم في ماربورغ وأستاذاً في درسدن ثم فرانكفورت حتى هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد أن طرده النازيون عام (1933)، وصار أستاذاً في المعهد اللاهوتي (Union Theological Seminary ) في نيويورك ومدرساً في جامعة هارفرد. حصل على جائزة السلام عام(1962) من جانب رابطة الناشرين الألمان، ويعده الكثيرون من أعظم وأبرز فلاسفة المسيحية في القرن العشرين وأحد مؤسسي الانطولوجيا المعاصرة.