البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الدنيوة في مواجهة الإيمان

الباحث :  جان لوي شليغل
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  3
السنة :  السنة الثانية - ربيع 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 2 / 2016
عدد زيارات البحث :  1294
تحميل  ( 289.946 KB )
الدَّنْيوةَ في مواجهة الإيمان
جان لوي شليغل [*][1]
قبل بداية القرن السادس عشر، نادراً ما طرحت اكتشافات الفيزياء الحديثة إشكالية اللقاء بين العلم والدين. وقد عكس إنكار غاليله تدهور العلاقات بينهما، فبرزت ضرورة إضفاء صفة «الدهرية» على البحث العلمي. وابتداءً من القرن التاسع عشر، طرحت الداروينية للنقاش بشكل جذري نصوص الكتاب المقدّس، ولا سيما تلك التي تتناول نشأة العالم لتشكِّل بذلك تصدُّعاً جديدا ومُدَوِّياً.
في هذه المقالة سنقرأ ما يُضيء على الاحتدام بين الإيمان كما تُظهره نصوص العهدين القديم والجديد، وما أدت إليه عقلانية العلوم وسيادة الدهرية في فهم العالم والموقف من الوجود. المحرر
منذ أمد بعيد ـ في الواقع ـ إلى زمن ظهور الاكتشافات الكبرى في الفيزياء الحديثة ابتداء من القرن السادس عشر ـ لم تكن العلاقات بين العلم والدين «مشكلة» ولا سبباً لنزاعات كبيرة. ولم يكن هناك خلافات مستترة، وذلك لسبب بسيط هو أن «صورة العالم» التي تبثّها الديانات الكبرى وعبر كتبها المقدّسة لم تكن تتعارض مع الصورة التي كوّنها العلماء الأوائل الذين كانوا غالباً هم أنفسهم رجال دين، إما قسّيسين (مثل فيتاغور) أو فلاسفة (مثل أرسطو الذي عُدَّ لزمن طويل أكبر العارفين بالظواهر الطبيعية)؛ وحتى عندما يتعرّضون للنقد، فإنهم لا يدّعون رفض أساطير عصرهم والآلهة. عدا عن ذلك، لم يحمل «العلماء» لقب العلماء الذي يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر ـ هذا إذا افترضنا أنهم وُجِدوا بحالة سليمة وهو أمر غير وارد ـ وكان يُشار إليهم في الغالب على أنهم فلاسفة أو حكماء.
عندما التقت اليهودية (ابتداءً من القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد) ثم المسيحية بعد ولادتها بوقت قليل (منذ القرنين الاول والثاني بعد الميلاد) بالهلّينية والتقاليد اليونانية، تَبَنَّتا، كما مجمل العالم اليوناني الروماني، النتائج التي توصّل إليها العلم اليوناني في مجال الرياضيات والطبّ وعلم الفلك... وتبنّتا بشكل خاصّ في القرن الثاني بعد الميلاد نظام دوران الكواكب الذي وضعه بطليموس Ptolémée (توفّي حوالي سنة 170 قبل الميلاد)، والذي عُدَّ فريداً بالرغم من إبقائِه على مركزية الأرض في وصفه للكون. بدوره أصبح جالينوس (توفّي حوالي سنة 200 بعد الميلاد) مَرجِعاً في الطبّ. بتعبيرٍ آخر، لم يكن النزاع بين العلم والدين، بل كان أولاً بين الأديان نفسها بين التوحيد من جهة، والوثنية التي تُجاهر بالشرك من جهة أخرى، أو بين الديانات التوحيدية نفسها (اليهودية والمسيحية).
لاحقاً أُعيدَ اكتشاف علوم اليونان وأُتبِعَت بعلوم العرب بين القرنين التاسع والثاني عشر بعد أن أصابها الخراب والتبعثر بفعل سقوط الأمبراطورية الرومانية (الحريق الجزئي الذي أتى على مكتبة الإسكندرية سنة 269 ق.م، وما تعرّضت له بعد ذلك من أعمال تخريب من قبل متظاهرين متشدّدين ضدّ الوثنية سنة 415 ق.م): إنّ علوم العرب، التي احتفظت الذاكرة الغربية بأسماء بعض أعلامها أمثال ابن سينا (طبيب وفيلسوف فارسي توفّي سنة 1037م) وابن رشد (فيزيائي وفيلسوف أندلسي مات سنة 1198م)، شكّلت بحدّ ذاتها عنصر إبداع في الرياضيات والفيزياء والطبّ والجغرافيا والكيمياء والفلك. ونُعيد التذكير مرّةً أخرى بأن هؤلاء «العلماء» كانوا أيضاً رجال دين وعلماء لاهوت مسلمين وصوفيين، وبالتالي لم يكن هناك أي نزاع بين العلم والإيمان الديني (باستثناء شخص واحد هو الطبيب العقلاني الفارسي الرازي الذي توفّي حوالي سنة 930م، والذي لم يكن يؤمن بالمعجزة).
بينما كان العصر الذهبي للإسلام يوشك على الانتهاء (القرن الثاني عشر)، عادت نصوص أرسطو (بالعربية) إلى الغرب لِيَتمّ ترجمتها إلى اللاتينية، فكان لها بالغ التأثير في اللاهوت «المدرسي» (ألبرت لو غراند، توما الأكويني) خصوصاً في ما يتعلّق بأهمية العقل، القادر على «التفكير» بالله حتى في ظلّ غياب أي وحي (révélation) في «الكتابات المقدّسة» كالتوراة والإنجيل والقرآن...
زمن الأزمات والانشقاقات
في سنة 1686م، وفي كتاب «محاورات حول تعدّد العوالم» «فونتينال» Fontenelle يروي رجل مجتمع لزوجته بأسلوب طريف تحت السماء المُرصَّعة بالنجوم قصة علم الفلك الحديث: «كان هناك شخص ألماني يُدعى «كوبرنيك»، ونَهَبَ كلّ هذه الدوائر المختلفة وهذه السماوات الصلبة التي تخيّلتها العصور القديمة. دمّر بعضها وحطّم البعض الاخر. أمسك هذا الفلكي المجنون بالأرض وأرسلها بعيداً جدّاً عن مركز الكون بعد أن كانت موضوعةً في وسطه ووضع الشمس مكانها. فإليه يعود الفضل في ذلك...». كيف نُعبّر عن «التحول الكوبرنيكي» على نحوٍ أفضل؟
يُحدّد فونتينال موقع هذا التحوّل بالنسبة إلى العصور القديمة بشكل عامّ، وليس بالنسبة للدين. في الحقيقة، إن كوبرنيك (وهو بولوني أكثر منه ألماني وُلِد سنة 1473م وتوفّي سنة 1543م) كان وظلّ كاهناً قانونياً[2] في الكنيسة الكاثوليكية، لكنه عندما رأى أن اكتشافه يمكن أن يُسبّب له مشاكل مع الكنيسة في ذلك الوقت لم يَقمْ بإصدار كتابه (ثورة الأجرام السماوية) إلا قبل وفاته بوقت قصير.
أوصلته أعماله إلى نتيجة مفادها أن الشمس، وليس الأرض، هي مركز الكون وأن الأرض كغيرها من الكواكب تدور حول الشمس وتدور أيضاً حول نفسها. وبذلك انتقلنا من نظرية «مركزية الأرض» إلى نظرية «مركزية الشمس». بالنسبة إلى الجانب الديني، نلحظ نقطتين هامّتين: كان من المُستَبعَد أن يُشاطِر علماءُ آخرون كوبرنيك أفكارَه، حتى أن الأغلبية في زمانه رفضت اللحاق به وتشبّثت بآراء بطليموس؛ بتعبير آخر، دار الجدال التالي: إننا لم ننتقل فجأة إلى مسلّمة مركزية الشمس، وكان بوسعنا الانتظار قبل اتخاذ أي موقف. من جهة أخرى، وبما أن كوبرنيك تمسّك بنظريته، فإنه لم يشعر بالقلق بالرغم من أنه ليس فقط الكنيسة الكاثوليكية، بل لوثر والإصلاحيون الأوائل أيضاً عبّروا عن استهجانهم تجاه نظريته (لم تَصدر بحقّه إدانة من روما إلا سنة 1616م). ولكن جاء كيبلر(1571م ـ 1630م) من بعده وأَثبت أن الكواكب تدور حول الشمس وفق قطع إهليلَجي، فكانت القوانين التي حملت اسمه والتي وضعت قواعد رياضية تَصِف حركات الكواكب. مع ذلك، وبالرغم من صدور كتابه علم الفك الجديد «Astronomia Nova» (عنوان أحد كتبه الرئيسية)، ظلَّ كيبلر مسيحيّاً بعمق، إذ كان مقتنعاً بأن العالم محكوم بإيقاع إلهي يُديره خالق مُبدِع ويخضع لكمال رياضي. لقد كان كيبلر مولَعا أيضاَ بعلم التنجيم والخيمياء.
لم تنتشر الفضيحة إلا مع غاليله (1564م ـ 1642م). فالشيء الجديد الذي جاء به ليس كونه اكتشف أن الأرض تدور حول الشمس، ولكنه أثبت ذلك بواسطة المرقاب، أي عبر التجربة وبالتالي أثبته بشكل تجريبيّ. ليس بالإمكان العودة إلى تفاصيل الدعوى التي أقامتها محكمة التفتيش الرومانية ضدّه، والتي استمرّت عدة سنوات. لقد أنكَرَ غاليله مُكرَهاً سنة 1633 ما كان يعلِّمه من قبل. وتنقل الرواية عنه الجملة الشهيرة التي قالها: «ومع ذلك فهي تدور!». منذ ذلك الحين أصبحت «قضية غاليله» رمزاً لكلّ أشكال القمع التي تُمارسها الديانات بحقّ العلوم... ربما لأنه للمرّة الأولى، بشكل رسمي وعلني، تسمح طائفة دينية لنفسها، باسم الحقيقة غير المرئية، بنقض وإدانة الحقيقة التي شوهدت تجريبيّاً وأكّدتها علوم الطبيعة[3].
مع ذلك، وبعيداً عن التعقيدات المختلفة للقضية، نُعيد التذكير بسبب الإدانة: كنّا نعتقد أن نظرية مركزية الشمس تضع على المحكّ حقيقة الروايات التوراتية ذات توجّه أرضيِّ المركز أو تلك المُؤَوَّلة بهذه الصورة[4]، مُؤَوّلة لأنه لا يوجد في هذا الشأن أي إثبات شكلي في الكتاب المُقدّس ولا نصّ أي (مُحْكَماً) يدعو إلى الاعتقاد بذاك النموذج دون غيره. في الحقيقة، إنّ هذه الخِشية نفسها، أساسُها هو فكرة مُسْبَقة خاطئة وسوء فهم جوهري مرتبط بالكتاب المقدّس: فالكتاب المقدّس ليس كتاباً يشتمل على «كشوفات» (révélations) علمية تتناول موضوعاً معيَّناً سواء كان الكون أو الحياة أو الجنسية (Sexualité)... إلخ. يمكن لأحدٍ ما أن يجد فيه تجلِّي الله في التاريخ الإنساني، وأن يجد فيه آخر جملة روايات ساخرة ومتناقضة في ما بينها، وأن يجد ثالث فيه عملاً أدبياً رائعاً عن الإنسانية؛ لكن أن نعتبره كتاباً أو بحثاً علمياً (حول الطبيعة والإنسان والحياة.. نشأتها، مستقبلها ومآلها... إلخ) فهذا بكل بساطة خطأ جسيم. مع ذلك فإن هذا الخطأ وهذه المحاولة لم يتوقّفا حتى أيامنا هذه.
تبدّل العقليات:
من المُرجّح أن الكنيسة شعرت بعد محاكمتها «غاليله» ومن دون أن تعيَ ذلك بأن عهداً جديداً يباغتها: عهد انفصال الدين عن باقي مجالات الحقيقة. وأصبح ليس فقط العلم، بل أيضاً السياسة والثقافة والفلسفة والتربية والقانون، أصبحت كلها دنيوية، أي «تدَنْيَوتْ».
لذلك فإننا نعي أن البحث العلمي ليس فقط قادراً، بل يجب عليه التخلّص من «الفرضية الله» (L'hypothèse Dieu) أي التخلّص من «الصورة الدينية للعالم» (بحسب ماكس فيبر) التي تُوحّد وتربط كلّ شيء. هكذا يصبح الدين حقيقة من بين الحقائق الأخرى وخياراً شخصيّاً.
في القرن السابع عشر والثامن عشر، وبينما كانت الكنيسة تتشدّد في إقامة المحاكمات وكان نيوتن يعمل على تثبيت قواعد الفيزياء الجديدة (بفضل القوانين الكونية لـ «الإوالة السماوية» مثل قانون الجاذبية)، حَدَثَ تحوّل في عقليات العلماء والمفكّرين وأصحاب «العقول الفذّة» والفسّاق، إذ تخلّى هؤلاء عن إيمانهم وباتوا أعداء للإكليروس، احتماليّاً ألهانيين (déistes)، ثم صاروا ملحدين ومادّيين، لا سيما بعد بروز «فلسفة التنوير» الفرنسية في القرن الثامن عشر، وأخيراً في في القرن التاسع عشر وفي النهاية «وَضْعِيين» و «عِلمَويين» يؤمنون بعقيدة واحدة هي عقيدة العلم والتطور اللامتناهي بفضل العلم. كان لهذا التطوّر في العقليات أعلامه في ميدان الفلسفة: ديكارت وسبينوزا، وخصوصا إيمانويل كانط في ما يتعلق بالعلاقات بين العلم والإيمان الديني حيث شَكَّلَ كتابُه (نقد العقل الخالص، 1781م) تحوّلا حاسماً آخر. إننا نقيس المسافة المقطوعة خلال قرنين من الزمن من جانب العلماء والمُفكرين والفلاسفة...عندما يفترض كانط في مقدمة كتابه المذكور: «أردت أن أَضمنَ المعرفة حتى أنقذ الإيمان»، وبالنسبة إلى «ضمان المعرفة» يرى كانط أن كل العلوم الفيزيائية تَخضَع لظواهر محدّدة في الزمان والمكان، أي تجربة ملموسة؛ وحسب وجهة النظر هذه، لا توجد أيّ معرفة ممكنة، ولا أي «دليل» علمي على وجود الله أو أي حقيقة أخرى فوق الطبيعة. أما بالنسبة إلى «إنقاذ الإيمان» وما يتعلق بحياة الإنسان العملية واستفساره عن «معنى» الحياة فعلى الإنسان أن يطرح على نفسه قضية الله والخلود والحرية الإنسانية. ولا يستطيع أي عالم أن يُقدّمَ برهاناً يُثبت من خلاله عدم وجود الحقائق المتعالية؛ وعلى العكس، ليس مخالفاً للصواب «التسليم» بوجودها، في حين أنه (بنظر كانط) منطقي جدّاً إذا ما قررنا الذهاب حتى نهاية الواجب الأخلاقي.. بالطبع، إن كل هؤلاء الفلاسفة ـ لا فقط سبينوزا، بل كذلك المؤمنين منهم أمثال ديكارت وكانط ـ متّهمون ومُبعدون (قائمة المؤلفات المُدانة من قبل المكتب المقدّس في روما). يبدو إذن أن الفصل بين الكنيسة الكاثوليكية بشكل خاصّ والعلم الحديث قد تمّ بصورة نهائية.
لقد أَحدَثَ ذلك الفصل، أكثر من أي اكتشاف علمي آخر في القرن التاسع عشر، توتّراً جديداً لا يزال قائماً إلى يومنا هذا. بالنسبة إلى الكاثوليك، وكذلك أيضاً البروتستانت المتديّنين الذين يواظبون على قراءة الكتاب المقدس، فإن داروين، الذي فسّر ظهور الإنسان بأنه تطور انتقائي للأنواع الحيَّة عبر ملايين السنين بشكل محض طبيعي، يُعدُّ مصدر عدم استقرار على نحوٍ يثير الاستغراب.
فالإنسان (بنظر داروين) يتحدّر من الحيوان و «يتشابه» بالحدّ الأدنى مع القردة العليا (الرئيسيات)، كما أن للنباتات وحتى للجمادات تاريخاً طويلاً، بالإضافة إلى العديد من علاقات القرابة التي يدرسها علماء الطبيعة والجيولوجيا. وفي ما بعد سينضّم إلى البحث، الذي سيصبح عندئذ أعمق، علماء البيولوجيا (المهتمون بدراسة أصل الحياة) والفيزياء الفلكية (المهتمون بدراسة أصل العالم)، فأين المشكلة في ذلك؟
وهكذا أُعيدت المصداقية «العلمية» للكتاب المقدس، مرّةً أخرى، إلى دائرة النقاش، لكن هذه المرة بأسلوب أكثر جُرأةً وحول قضية أهمّ من قضية النظام الشمسي، وهي بكل بساطة قضية الخلق المباشر للعالم في ستّة أيام من قبل الله، وهي الفكرة ذاتها التي تقول أن الله خلق مباشرة الإنسان والكون، ولكنها آخذة بالسقوط.
عموماً، إن كل تدخّل إلهي خاص ومباشر في العالم، أو بمعنى آخر إن كلّ معجزة تبدو مُفنّدة بالكامل. مع ذلك، كنا نعلم أنه منذ «كانط» وحتى قبله بكثير، كانت المعجزة، وهي «الولد المُدلَّل» والركيزة الأساس للإيمان والدين منذ زمن بعيد، في مأزق.
لكن أَلَمْ نحقّق ذلك على مستوى العقليات (بإمكاننا أن نسأل: هل حقَّقنا ذلك اليوم؟). ربما يُفسِّر الاستحضار القويّ لروايات الكتاب المقدّس حول الخلق وعبور البحر الأحمر ومعجزات المسيح التي رواها الإنجيل، كلُّ هذا يفسِّر هذا التيه. لكن مع داروين أصبح ذلك مستحيلاً، فإذا كان داروين قد أحدث بأفكاره صدمة قوية في العقول، خصوصاً عقول المتديّنين، فهذا بلا شكّ لأن نظريته القائلة بأن «الإنسان يتحدّر من القرد» ولم يُولَد مباشرة من كلمة الله ويديه، فيها شيء من المهانة؛ فهي تعني، كالكثير من الاكتشافات العلمية الحديثة، أن الإنسان ليس شيئاً عظيماً في الكون، وأن عليه أن يكفكف عن غروره تجاه الادعاءات التي بدا أن ديكارت (توفي سنة 1650م) كان يحاول تبريرها من خلال إقراره بالمبدأ «المركزي البشري» (الإنسان مالك وسيد الطبيعة). لكن باسكال (المتوفى سنة 1662م) بدقته البالغة، عبّر بلا شكّ عن شعور مختلف وعميق يتّصل بصعوبة التواجد في هذا العالم الجديد اللامتناهي، وهو ما عبر عنه بقوله: «يخيفني الصمت السرمدي لهذه الفضاءات اللامحدودة فكم من مملكات نجهل!» (Pensées 206 et 207, éd. Brunschvicg).
نقد الكتاب والأصوليّة
مرة جديدة، تُنجم الأزمة الداروينية عن سوء الفهم المتعلّق بالكتاب المقدس و«النوع» الذي يمثّله هذا الكتاب: فإذا اعتبرناه كتاب علم، فإن المؤمنين سيصابون بخيبة أمل، بينما سيظنّ غير المؤمنين بأنهم عبروا من نصر إلى نصر. ومنذ القرن السابع عشر يدور صراع مباشر بين العلم والدين. حتى الكتاب المقدس نفسه لم يسلم من ألسنة النقّاد. لقد بيَّن باروخ سبينوزا في كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة، 1670م) ومعه أيضاً القسّ الكاثوليكي ريتشارد سايمون في كتابه (التاريخ النقدي للعهد القديم، 1678م)، تناقضات الكتاب المقدّس الداخلية وعناصر الغموض فيه و«زياداته» ورواياته الأسطورية وتخيّلاته أو لنقل: «أساطيره». استمرّ هذا النقد وازدادت حدّته ليصبح جذريّاً أكثر، خصوصاً في القرن التاسع عشر الذي شَهِدَ هجوماً على العهدين القديم والجديد معاً. لذا، فإننا نُميِّز بين «يسوع التاريخ» (الذي يمكن عند اللزوم إعادة تشكيل بعض جوانبه) و«مسيح الإيمان» (ابن الله عند المسيحيين) الذي ليس بمقدور العلم أن يقول أي شيء بخصوصه. وبَلَغَ النقد ذروته عندما أعلن رودولف بولتمان سنة 1930م، وهو متديِّن ومن كبار مفسِّري الكتاب المقدّس في القرن العشرين، «أننا لا نستطيع بشكل عملي أن نعرف أي شيء بخصوص سيرة حياة السيد المسيح».
مع ذلك، حاول الاتّجاه التاريخي النقدي في تأويل الكتاب المقدّس إحياء التحدّي الذي يُمثّله نقد الكتاب المقدّس. وأظهر إلى أي درجة يخضع الكتاب المقدّس تاريخيّاً لزمانه ومكان تأليفه (الشرق الأدنى القديم خلال الألف الأول قبل الميلاد، ثم فلسطين الرومانية حتى القرن الثاني الميلادي). إنّ مُؤلِّفي الكتاب المقدّس (المجهولين في الغالب) يعبِّرون عمّا في أذهانهم، كما بالنسبة إلى كل الكتب القديمة، من خلال المعرفة التي كانت سائدة في عصرهم والأجناس الأدبية التي عرفوها في ذلك الحين (أساطير، روايات أسطورية وخيالية، معجزات...). يجب إذن توجيه النظر باتّجاه آخر: فالكتاب المقدّس ليس «كتاب أخطاء» في مقابل كل ما سمحت لنا باكتشافه علوم الفيزياء والبيولوجيا الحديثة. إنه لمن السخرية أن ننظر إلى الكتاب المقدّس على أنه كتاب علم أو كشوفات علمية حول أصل نشأة الإنسان والحياة. إن مؤلِّفي هذه الروايات لم يكونوا إطلاقاً بحاجة إلى تبرير المعجزات مثلاً، نظراً لكون ذلك يرتبط بإظهار قدرة الله من دون السؤال عن التعطيل الحاصل في السببية الطبيعية أو عن إمكانية التدخلات المباشرة للإلهي في الطبيعة (في عالم سحريّ أو مسحور بكامله تُعَدُّ هذه التدخلات جَليّة للعيان).
لكن، مع أن التأويل التاريخي النقدي للكتاب المقدّس يُجيب عن الأسئلة الحديثة، فإنه لم يُقنعْ كل عالم المتديِّنين، وخصوصاً أولئك الذين يوصفون بأنهم أصوليون. نشأت الأصولية في كنف البروتستانتية الأميركية في نهاية القرن التاسع عشر، وهي قبل كل شيء موقف دفاعي بوجه القراءة الحداثوية للكتاب المقدّس، وردّة فعل تُجاه المنهج التاريخي النقدي الذي يُدقِّق في النص المقدّس ويناقش في «عصمته»[5] المطلقة. يرى الأصوليون عموماً أن هذه المقاربة هدّامة بذاتها وتُدمّر كلام الله وتقضي بالتالي على أسّ الإيمان ذاته. يضع الأصوليون إذن في وجه المدّ الذي يشكِّله النقد إثباتات لا يمكن المساس بها تماماً كما اثباتات العلم التجريبي؛ ويضعون لائحة بـ «الأسس» أو «الأمور الجوهرية» التي يُمنَع تناولها بالنقد. بالنسبة إليهم، إن القراءة الحرفية للنصوص المكتوبة «بخطّ يد الله» تفرض نفسها إذن. إنّ «أنصار النظرية الخلقية» الأميركيين بخاصّة (يجب التشديد على أنهم ليسوا أُميين، بل علماء جامعيون) يدافعون عن فكرة الخلق المباشر للعالم من قبل الله (هذه النقطة أهمّ من مدّة الـ «ستة أيام» التي يمكن إعادة تأويلها ضمن حدود معيّنة). كما يعتمدون القراءة الحرفية للروايات كتلك التي تتحدّث عن الطوفان وجروح مصر العشرة وعبور البحر الأحمر وغيرها الكثير من الأحداث المذهلة التي وردت في العهد القديم، من دون أن ننسى جميع المعجزات حول المسيح، إضافةً إلى تلك التي صنعها بنفسه.
بيد أن الجدال الدائر بين المقاربة الأصولية للوحي Révélation والمقاربة النقدية كان يمكن أن يدور بين المتدينين أنفسهم وداخل الأديان، ولا تعْني الآخرين. لكن، منذ عدّة عقود، تُحاول الأصولية البروتستانتية والإسلامية وحتى الكاثوليكية التأثير في الشأن السياسي كي تفرِضَ أفكارها: ففي الولايات المتحدة أُرغِمت المدرسة على تدريس قصة الخلق في التوراة «أُسوةً» بالنظريات التحوّلية الداروينية ومثيلاتها؛ ومن الناحية الإسلامية، طُلِبَ من الحكومات الإسلامية تطبيق الشريعة في النظام العام، أي القانون القرآني (ومن الناحية العلمية يُشاطر الأصوليون الإسلاميون الأصوليين المسيحيين نفس الادّعاءات نفسَها معتبرين أن القرآن[6] يشتمل أصلاً على كل الاكتشافات العلمية الحديثة).
مستجدّات علمية في القرن العشرين
من الناحية الدينية، منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين، لم يطرأ تبدّل كبير على المواقف النظرية. إذا وضعنا جانباً الأصوليين، وهم كثيرون جدّاً اليوم غير أنهم يُشكّلون جبهة مُوحَّدة ومتراصّة، فإننا نُركّز أكثر على الإصلاحات وتشتّت المواقف.
العلم ومذهب التوفيقية
أولاً، إن العلم وصورته هما بالأحرى اللذان تبدّلا. إن النظريات الفيزيائية الجديدة في القرن العشرين (النسبية المحدودة والنسبية العامّة، النظرية الكمية...) وإثباتها عبر المشاهدات المجهرية والعيانية أدّت إلى نشوء علم الكونيات الجديد الذي هو عُرضة للشكّ والغموض والنقاش فيه. ربما تقع الأديان فريسة الإغراء إذن من خلال المطالبة بأن تكون حيث لم يستطع العلم الوصول، أو تكون ما لم يجدْه العلم بعد، أو تبحث عن ركائز علمية لعقائدها... بالتالي ثمّة من رأى من المسيحيين (البابا بيوس الثاني عشر، 1951) في نظرية الانفجار الأوّل التي يتمّ تداولها اليوم (نظرية الـ «بيغ بانغ» أو الانفجار الكبير) والتي بدأ الكون من خلالها تمدُّده، رأى فيها، إن لم يكن دليلاً، فعلى الأقلّ شكلاً من أشكال إثبات نشأة العالم (ليس الكون إذن لامتناهياً) ونوعا من التماثل مع فكرة الخلق، الأمر الذي يُشكّل بالطبع ضرباً من الوهم، فالـ «بيغ بانغ» حَدَثَ بالكامل في «هذا الجانب» من الزمكان espace ـ temps بينما يبقى السؤال الكبير عمّا كان موجوداً قبل لحظة نشوء الكون بجزء من مليون من الثانية.
في الحقيقة، نجد أنفسنا هنا أمام واحدة من أكثر المحاولات استماتةً للدفاع عن الدين منذ ظهور الفيزياء الحديثة والمعاصرة، وهي التوفيقية. إنها تعني إذن التوفيق، بشكل أكثر أو أقلّ دقّة، بين إثباتات أو روايات الكتاب المقدّس (أو القرآن أو أي من النصوص والعقائد الأخرى) من جهة، وإثباتات العلم الحديث من جهة ثانية. فإمّا أن يُثبت العلم صحة الإيمان وإما أن يؤَيِّد الإيمان معطيات العلم.
ثمة محاولة من المحاولات الفظَّة تقوم على التوفيق بين مدة الأيام الستّة للخلق والمدة الطويلة جدّاً (13.7 مليار سنة) التي تمتدّ بين نشأة العالم وظهور الإنسان؛ ورغم أنه من الصعب دعْم فكرة أن العالم لا يتجاوزه عمره ستّة آلاف سنة، فإن البعض فسّر الأيام رمزياً بأنها تعني ملايين السنوات لكلّ يوم.
إنّ «التصميم الذكي» intelligent design، وهو أكثر حذقاً، حاوَلَ مؤخراً في ظلّ التطوّر العشوائي، أن يستبدل غايةً محكومةً بالذكاء المبدِع والمُوجَّه الذي كان حاضراً هنا منذ البداية. لذلك، فالكون صُمِّمَ أصلاً بحسب ذكاء الله، ونقول إن هذا هو التفسير العلمي الأكثر إقناعاً بالنسبة للثوابت والتوازنات الفيزيائية التي تحكم العالم. لكن الأمر يتعلّق هنا بقراءة دينية، وليس علمية، للبداية (بداية الكون).
وباتّجاه معاكس، يُصبح مُسلَّماً به أن لا يُحمل رفض الكتب المقدّسة معنىً إضافياً لكونها لا تتوافق مع العلوم الحديثة، لأن هذا التوافق لم يكن إطلاقاً، لا في القديم ولا اليوم، من بين اهتمامات الكتب المقدّسة[7]..
تُعدُّ محاولة الأب بيار تيلارد دو شاردان (1955 ـ 1881) «للمصالحة» أهمّ وأعمق محاولة في القرن العشرين بدون أدنى شك، حيث أراد شاردان، وهو يسوعي وعالم إحاثة، استخلاص النتائج من التطور لتوظيفها في علم اللاهوت المسيحي[8]. فهل تجاوز الخطّ الأحمر، ما يجعل من نظامه المعروف باسم «التعقيد المتنامي» توفيقية غير مقبولة، ونوعاً من المعرفة الروحية (معرفة متخيّلة) العلمية التي لا أساس لها في الواقع، و«إسقاط أحيائي» إذا صدّقنا عالم البيولوجيا جاك مونود[9]؟مع العلم أن الكثير من خصومه، من علماء ورجال دين، أقرّوا بذلك...
في الحقيقة، يجب اعتبار طرح تيلارد، قبل كل شيء، رؤية لاهوتية مسيحية للمستقبل تسعى لدمج معطيات التطور. بهذا العنوان يُعدُّ طرحه مثيراً لأنه قدّم تصوّراً كونيّاً ديناميّاً جدّاً للتاريخ المتقارب للمادّة والروح. لكن تيلارد لاقى نفْسَه المصير الذي لاقاه غاليله ليس بسبب نظرياته العلمية، وإنما بسبب طروحاته اللاهوتية غير المقبولة، فمنعته الكنيسة من نشر كتاباته في حياته ومن شغل كرسي في الـ «كولاج دو فرانس».
مع ذلك، قَبِلَ الكثير من كبار رجال الدين والمُتديّنين المثقّفين وعلماء اللاهوت ضمنيّاً بالخطّ الواضح الذي رسمه كانط عندما فصل بين الإيمان والعلم، ربما لأنهم أقلّ جرأة وابتكاراً من تيلارد، ودَمَجوا في تفكيرهم وردّات فعلهم الدينية بين أهمّ مُكتَسَبات التأويل التاريخي والنقدي. وبالعكس، مع قبولهم بحرية واستقلالية البحث راحوا يدافعون عن مشروعية الإيمان في وجه الإدعاءات التي تدافع باسم العلم، عن الإلحاد أو عن اللامبالاة الدينية، بل بالأحرى في وجه كل العلوم التي تنتهك المجال الخاص بالدين زاعمة أنها تملك الدليل على عدم وجود الله، أو استحالة وجوده انطلاقاً من نتائج علمية[10].
عموماً، بدلاً من الاحتجاج ضدّ البحوث والاكتشافات العلمية كما هي، تشارك الديانات اليوم (حتى على المستوى الرسمي ضمن اللجان الأخلاقية) في النقاشات الأخلاقية المفتوحة حول مناهج وأهداف ونتائج البحوث الخاصة بالجينات البشرية، وتتعلّق ردود الأفعال والمواقف الرافضة الأكثر حدّة بالبيولوجيا الوراثية والوعود الخطيرة التي تُقدّمها من أجل اختيار واختصار ومداواة وتحسين، وتعديل الحياة أو تعديل أشكالها.
لكن عملية فرض الرقابة المتكرّرة (خصوصاً رقابة الكنيسة الكاثوليكية) تكاد تُظهر الديانات بمظهر حراس العادات والتقاليد، وأنصار الريبة الحاضرة دائماً إزاء العلم بشكل عام، ورسل الشقاء ومانعي التطور. فمن الطبيعي، عندئذ، استحضار واقعة «غاليله»[11] مرة بعد أخرى، رغم قيام البابا «جان بول الثاني» بردّ الاعتبار له، رغم أن البعض يراه منقوصاً وغامضاً.
العلم في قفص الاتهام:
مع ذلك، توجد هنا ورقة رابحة تستفيد الديانات منها، هي الصورة الشديدة التناقض، إن لم نقل السلبية، للعلم في مطلع القرن الواحد والعشرين. فبعد أربعة أو خمسة قرون، خصوصاً الأخير منها، لم يعد العلم في الواقع قادراً على الظهور بمظهر «البريء». كما لا يمكن إنكار مساهمته في اتّساع أو حتى اندلاع الكوارث الكبرى (حروب، إبادات، قنابل ذرية، كوارث بيئية). من جهةٍ أخرى، أَلَمْ ينحرف عن وجهته المتمثلة في السعي إلى التحرّر من الطبيعة والسيطرة عليها وعلى قدرها، ومع الإيمان بالتقدم غير المحدود الذي أدّى إليه؟أَلَسْنا مُثقلين بـ «أضرار التقدم» والخسارة ذات الاتجاه الواحد «للطبيعة» والأخطار البيئية؟ألم يُخصّص جزء مهمّ من نتائج التقدّم لإصلاح الأضرار التي تسبّب بها هو نفسه والتي كانت تارة غير متوقّعة، وتارة أخرى متوقّعة جداً؟هل يوصل العلم حقاً إلى السعادة والحرية؟
بعيداً عن الفكرة البسيطة التي تفيد بأن العلم خيّر في غاياته لكن يُسَاءُ استخدامُ وسائله، برزت أسئلة فلسفية أكثر راديكالية تتعلّق بمعناه، وإرادته في السيطرة، وعدم قدرته على إعطاء معنىً للوجود. وقد قمنا بإثبات أن العلم، خلافاً لادّعاءاته، ليس «موضوعيّاً» البتّة، ولكنه جدّ أيديولوجي في خطاباته. وعندما يتسّلل بجرأةٍ إلى هذه العيوب ليعرض خدماته، فالمسألة الدينية ستُطرَح بلا ريب من جديد. غير أنه بإمكان العلم، في أي لحظة، أن يصبح الشغل الشاغل للأفراد والجماعات، وأن يهب الحياة معنىً، وأن يكون للحاضر والمستقبل مواسياً، بل وعداً تعاقبياً، حتى وهو يقدّم صُوَره الرُؤيوية ووعوده الأخروية[12]. تُراهن الأصولية الدينية اليوم، بشكلٍ خاص، على مخاوف العلم والتكنولوجيا (اللذين تقوم مع ذلك بتوظيفهما لتمرير رسائلها).
ختاماً ربما يكون هامّاً التشديد على التعدّدية المُفرِطة الدينية والعلمية السائدة حاليّاً. توجد أديان ولكلٍّ منها رؤية مختلفة عن العالم، وتوجد علوم تتألّف من فروع عديدة، وفي داخل كل دين وكل علم، يتقاسم الأفراد والجماعات رؤية مشتركة حول الدين والعلم. وخلافاً لما كان عليه الحال في القرن التاسع عشر حيث كان معظم العلماء معادين للدين واللإكليروس، فإن عدداً لا بأس به من علماء اليوم متديّنون على المستوى الشخصي ولكنهم أيضاً ينتمون إلى تجلِّ وضعي، فضلاً عن كونهم من طائفة دينية معيّنة. كما سُجِّل عدد لا يستهان به من العلماء وطلاب العلوم (مهندسون وأطباء وتقنيون) بين أوساط الأصوليين، بروتستانت ومسلمون خصوصاً، فهل يُؤشِّر ذلك إلى القلق والكآبة وبروز الأسئلة التي تثيرها الدراسات والأبحاث ولكنها تجد نفسها عاجزة عن أخذها بعين الاعتبار؟
فنحن بعيدون، على كل حال، عن الاعتقاد العلموي والوضعي بالتقدم الناشئ من عصر الأنوار!
وباتّجاه معاكس، بالنسبة للديانات، نجد نوعاً من التعاقب الرحب المتقلِّب في المواقف: فالذين يستمرّون في الإيمان، ليس فقط بالمعجزة بل بكل الخرافات الممكنة (السحر، الشعوذة، التنجيم..) يتعايشون مع أصحاب الفكر العقلاني الذي يُقصي طبعاً هذه «الخرافات». حتى أن عدداً من علماء اللاهوت البروتستانت والكاثوليك في القرن العشرين طوّروا نقداً راديكاليّاً للتصوّرات المرتبطة بالله. ربما بذلك يكونون بخلاف المؤمنين الذين يتمسّكون بأطروحات «الافتتان المتجدّد بالعالم» الذي تعِدُ به الفيزياء الجديدة، التي تتقاطع في بعض جوانبها المجهرية والعيانية مع الديانات الصوفية الآسيوية (الطاوية[13] والبوذية[14]) وتترك مجالاً للتنبؤ من جديد بـ «عالم مترابط» على عكس عالم الفصل الذي أنتجته الانطلاقة الأولى للفيزياء الحديثة.
في العمق، لا يستطيع العلم ولا الدين «إملاء» الأفكار الصحيحة والسلوك القويم في زمن التشظّي الفرداني والفرد المتشظّي. فذلك يؤدّي إلى الإحساس بالوحدة الذي قد يكون «باسكاليّاً» لو لم تعمل مجتمعاتنا الحديثة «الهزلية» على مضاعفة الملاهي التي تساعد على نسيان هذه الوحدة.
[1]*ـ باحث في علم اجتماع الأديان ومستشار علمي في مركز منشورات (سوي ـ Seuil) باريس.
ـ العنوان الأصلي للمقال: Religion et sécularisation Science et religion
المقال مأخوذ من الموقع التالي:
http://www.ladocumentationfrancaise.fr/var/storage/libris/3303330403402/3303330403402_EX.pdf
ـ ترجمة: عماد أيوب. مراجعة: جمال عمّار.
[2]ـ كاهن قانوني(Chanoine) هو لقب تشريفي تمنحه الكنيسة الكاثوليكية علماً أن كوبرنيك لم يكن كاهناً (prétre).
[3]ـ في الحقيقة، إننا إذا عدنا إلى السياق التاريخي لتلك الفترة فعلينا القول أن الحقيقة الدينية بالنسبة لقضاة محكمشة التفتيش هي جليّة وعالمية مثلها مثل الحقيقة التي أثبتتها علوم الطبيعة.
[4]ـ على سبيل المثال في الفصل الأول من سفر التكوين (السفر الأول من من العهد القديم من الإنجيل) تُعطي قصّة خلق العالم انطباعاً بأن الأرض وُضِعَت أولاً وأنها «شاسعة وخالية» قبل أن يُخضِعها الله لترتيبه ويخلق الشمس والقمر والبحار والنبات والحيوانات، وقبل أن يخلق الإنسان الذي كل شيء «خاضع» له.
[5]ـ أي عدم اشتماله على الخطأ. وكلمة inerrance مُشتقة من أصل لاتيني هو errare الذي يعني «أخطأ» (se tromper).
[6]ـ بالنسبة للقرآن، ثمّة كتاب أثار أضراراً فادحة في ما يتعلّق بهذه النقطة: Bucaille, Maurice. La Bible, le Coran et la science: Les ecritures saintes examinées à la lumière des connaissances modernes, Paris, Agora, «Pocket», 2003. إلا أن الدالاي لاما يرى أيضاً أن البوذية تتّفق كثيراً مع العلوم العقلية (علوم الأعصاب).
[7]ـ إن الأدب «المُزيَّف» (الكتابات الأصلية التي لم يتمّ إدخالها في العهد القديم والعهد الجديد) والذي شاعت شهرتُه من خلال رواية (Da Vinci Code) يشتمل على الكثير من المعلومات حول مكان العيش (Sitz im Leben) في الأسفار المقدسة (التي تُوصَف بأنها «كَنَسية»). يُمكن ببساطة تفضيل الكتابات المُزيَّفة على الكتابات الكَنَسية، إلا أن الأولى لا تحمل أيّ معلومات أكثر مصداقية من تلك التي تُقدّمها الثانية ـ بل هي أقل مصداقية بلا أدنى شك. علاوة على ذلك، فرواية (Da Vinci Code) تُعَدّ محض خيال لدرجة أن أي باحث يعجز عن إثبات «تاريخيتها».
[8]ـ للاطلاع أكثر على فكر تيلارد دو شاردان، يمكن قراءة:
Ce que je crois, Paris, Le seuil, coll. «Points ـ Sagesse», 1998; le Milieu divin, id., 1993; L’Hymne de l’univers, id., 1993.
[9] ـ Jacques Monod, Le Hasard et la nécessité, Paris, Le seuil, Coll. «Points ـ Essais», 1973.
[10]ـ إنها عبارة عن إثباتات غير مُفنَّدة وغير علمية، وبالتالي هي مجرّد آراء. ومن غير الممكن تجنُّب كارل بوبر (Karl Popper) في هذا الخصوص. أنظر:
Logique de la découverte scientifique, Paris, Payot, coll. «Bibliothèque scientifique», 1973 «nouvelle édition 2007».
[11]ـ مؤخّراً (أيلول 2007) بِتْنا نسمع ونقرأ هذا التلميح عندما تفاعل ممثّلون عن الكنيسة الكاثوليكية بشدّة مع الإعلان عن التوصّل إلى الخلق «في المختبر» (in vitro) في إنكلترا بالاستعانة بأجنّة خَيْمَر بشري ـ حيواني. وحتى اليوم قليلا ما أثارت علوم الأعصاب النقد الديني.
[12]ـ يتعلَّق علم الآخرة (Eschatologie) بِـ «ما وراء» الحياة الفردية والجماعية، و»الغايات الأخيرة»؛ بينما ترتبط القيامة «Apocalypse بما يجري قبل النهاية، وتَصفه بشكل مأساوي.
[13]ـ الكتاب الأكثر شهرة حول هذه النقطة:
Fritjof Capra, Le Tao de la physique (1989) rééd. Eric Koehler, 2004
[14] ـ Trinh Xuan Thuan, La mélodie secrète. Et l’homme créa l’univers, Paris, Gallimard, Coll. «Folio», 1991.