البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

صورة الأمبريالية الدينية - تنظير انثرو-فلسفي في النموذج التاريخي الأمريكي

الباحث :  محمود حيدر
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  3
السنة :  السنة الثانية - ربيع 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 2 / 2016
عدد زيارات البحث :  1151
تحميل  ( 284.996 KB )
صورة الأمبريالية الدينية
تنظير أنثرو ـ فلسفي في النموذج التاريخي الأميركي
محمود حيدر[1] [2][*]
لمّا فارق العالمُ القرن العشرين احتدم السؤال حول ماهية أميركا . وبهذه المفارقة تحولت تلك الدولة الظاهرة إلى حيّزٍ مولِّدٍ للأسئلة. ثم اشتد وقع السؤال إلى الحد الذي لم يعد بمقدور التفلسف السياسي أن يستأنف حراكه من دون الاهتمام بحاضرية أميركا في أزمنة العالم.
الغاية من مسعانا هذا، هي الاقتراب من أميركا بوصفها أطروحة دينية. وفي مسعى كهذا، وجدنا ان نأخذ بسؤال يستتر حيناً ويظهر حيناً آخر، إلّا أنّه ينطوي على شيء من الإغواء الفلسفي: ما هي أميركا؟
لا ريب في أن السؤالَ فلسفيٌ بامتياز. لأنّه يسعى إلى الجواب عن ماهية ظاهرة متموضعة في زمان ومكان محددين. وضمن حدود هذا التعريف أمكن النظر إلى أميركا كتعيُّن تاريخي. وبالتالي، كظاهرة سارية في الزمان وراسخة في المكان. أي عن واقع وحقيقة في آن. وأميركا تُبدي تحيُّزها إلى الأمرين معاً، ولو اختلفا من جهة المعنى والمفهوم. فالواقع أو «الواقعية» في التداول الاصطلاحي الحديث، يطلق على ذات الواقع ونفس الأمر. وكلما قلنا في ظاهرةٍ ما، على أنها واقعية، عنينا بهذا نفس أمر تلك الظاهرة. أما الحقيقة فهي في المصطلح الفلسفي ترادف «الصدق» أو «الصحة» التي تطلق على القضية الذهنية حيث تُطابق الواقع. في حين أنّ «الخطأ» أو «الكذب» فيطلقان على القضية التي لا تطابق الواقع.
ولقد فسر الفلاسفة القدماء والحديثون مفهوم الحقيقة أو الصدق أو الصحة بالتفسير الذي تقدم؛ أي أنّهم كلما وسموا فكرة ما بالحقيقية أو الصحيحة، أو الصادقة، أرادوا مطابقتها للواقع. وإذا قالوا خاطئة أو كاذبة أرادوا بذلك عدم مطابقتها للواقع.
مؤسس المذهب الوضعي أوغست كونت يقرِّر «أنّ الحقيقة هي عبارة عن الفكرة التي تتفق عليها جميع الأذهان في زمان واحد». فاتفاق جميع الاذهان في زمان واحد مؤشر على الحقيقة لديه، بل هو يذهب إلى أبعد من ذلك ليقول أنّ الحقيقة ليست سوى ذلك.
أما وليام جيمس الفيلسوف الأميركي وعالم النفس ومؤسس المدرسة النفعية (البراغماتية) فلديه تعريف تبدو فيه الفلسفة ذات مهمة عيانية مباشرة. فها هو يعرِّف الحقيقة بنحو آخر ليرى بأنَّها عبارة عن الفكرة التي لها أثر عملي نافع. وهكذا وضع مفهوم النافع والمفيد مرادفاً لمفهوم الحقيقة. فالفائدة العملية ليست مؤشراً على الحقيقة، وإنّما هذه الأخيرة ليست أمراً آخر سوى النافع والمفيد.
سوف نتوقف عند هذا التعريف للحقيقة، كونه يعني أصل الأطروحة التي ذهبنا إلى مقاربتها في هذا البحث. أي أنّ أميركا حدث تاريخي وفكرة تبادلتا سَيْرِيَّة تفاعل، وتبلور، ونضوج، ليولد من جراء تلك السَيْريّة مكانٌ هو أدنى إلى مسرح فسيح للملحمة الفلسفية الدينية منه إلى التشكّل الجيو ـ سياسي الكلاسيكي.
يشبه سؤال ما هي أميركا، سؤال ما هي اليونان بأنحاء ما. وهو ما سبق للوارث الغربي أن التعامل مع اليونان تعامل الأحفاد مع أجداد مجهولين. مع ذلك سيكون لكل من السؤالين سَمْتُه الخاص. فإذا كان السؤال الأميركي مستدعى من كونه يترجم موضوعة جيو سياسية دينية، فالسؤال اليوناني يُنظر إليه كتمثيل لمقولة ميتافيزيقية. لكنهما يشتركان ويتقاطعان على مهمة التأسيس لتاريخ. من أجل ذلك فإن سؤال ما هي أميركا ينبغي أن يُسمع بما هو تنويع خافت ومُشكِّل للسؤال الرومانسي «ما هي اليونان». ذاك الذي ظل يحرّك الفلسفة الأوروبية من كانط مروراً بهيغل وشيلنغ إلى نيتشه وهايدغر وهوسرل. وصولاً إلو فوكو وهابرمس وسواهم. (...) والذين تصدوا للدلالة الفلسفية لأميركا بوصفها معطىً إشكالياً كانوا من الدعاة إلى التفكير الجوهري في ماهيتها، ولم يكن ذلك مجرد فضول جيو ـ سياسي عادي. وليس فضولاً فلقد ارتقت أميركا منذ هيغل إلى رتبة مقوّم من مقومات جغرافية الروح التي صارت تتحكم اليوم في بنية الانسانية الحالية.ولذلك فإن أميركا هي «مفهوم» بالمعنى القوي للتسمية: بيد أنّ ما هو مثير حقاً في هذه الدلالة هو كون أميركا ارتبطت في كل مرة بمسألة الحرب: ذلك أنّ السمة الحاسمة لأميركا بالنسبة إلى عدد غير يسير من فلاسفة الحداثة وما بعدها، هي العلاقة المفهومية والماهوية والجيو ـ فلسفية بالحرب (...). ولذا فليس شيئاً من دون دلالة فلسفية أن يرى هيغل أميركا بوصفها حرباً تؤدي مهمة ماهوية في مسيرة الروح. وهو الاجابة بذلك كان يتوخى على السؤال الجوهري المتعلق بالأصل الروحي لأميركا، أي بالحرب التي خاضها الرجل الأبيض ضد الساكن الأصلي.
التأويل الهيغلي لأميركا
الذين مضوا في تأويل الجواب الهيغلي وجدوا أنّ أميركا قامت على حكم قيميّ حضاري وميتافيزيقي يقضي بتفوق الإنسان الأوروبي على الإنسان الهندي والأفريقي[3]...
غير أن ما هو مفارق في منطق النشأة الأميركية، أنها قامت أيضاً واساساً على الانسلاخ عن أصلها، والبدء بأصل جديد. كما لو كانت ميتافيزيقا التأسيس محمولة على محو تاريخ غير جدير بالذكر، وإثبات تاريخ ممتلئ بالجدوى.
ذلك ما سوف يُمنح الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عناية فلسفية خاصة. لقد رأى أنَّ العالم الانكلوساكسوني للأمركة قرر تدمير أوروبا. ما يعني برأيه، تدمير الوطن. أي تدمير البدء الخاص بالعنصر الغربي. وهذا ما يفسره كلام ارنست رينان (1823 ـ 1892) حول ضرورة نسيان ما يمكن تسميته بالأخطاء التاريخية، باعتبار أنَّ مثل هذا النسيان هو أمر جوهري لولادة الأمم الحديثة.
هل يعني هذا أن الجذرية التي حكمت لاهوت التأسيس هي العصب الذي يرفد ويغذي الشعور العميق بالفرادة والاستثناء؟
لم تشهد القيامة الأميركية، لا في أزمنتها الابتدائية، ولا في تطوراتها اللاحقة، أي انفصال بين الديني و الدنيوي . كان ثمة تركيب وتداخل وتناسج في غاية التعقيد بين النزعات التي تؤلف الشعور الإجمالي لساكني الأرض الجديدة. فالإيمان الديني الذي أخرجه الطهرانيون الانكليز على صورة منظومة لاهوتية تستجيب لحاجات السكان الروحية والمعنوية، لم ينفصل في حركته عن الشعور القومي. والكلام على الميتافيزيقا السياسية التي تسِمُ النشأة الأميركية هو كلام ينتسب إلى الرؤية الماهوية لأميركا . ذلك ما حدا بـ« دو توكفيل » لكي يستنتج من وحدة الدين والسياسة ظهور احدى أكثر ركائز الديموقراطية غرابة في التاريخ السياسي الحديث.
ولنا كذلك أن نتبيّن السياق إياه، مما دلّت عليه خاصية الوطن الأول لأميركا. فسنرى كيف تمكنت بريطانيا العظمى من أن تحتوي قيم الحداثة والديموقراطية والعلمنة، في ظل عيش مديد مع سلطة روحية. حيث قيّض للملكة أن تضطلع بزعامة الدولة و الكنيسة في آن.
قد تُحمل الظاهرة الأميركية في بُعدها الميتافيزيقي - السياسي على سيرة الكنيسة المؤسسة في القرون الميلادية الأولى. فهذه الكنيسة شكّلت نمطاً تاريخياً من تآلف الجماعة الدينية والجماعة السياسية. وانبثقت من الالتقاء المعقّد للجماعة الدينية المسيحية بالدولة الامبراطورية الرومانية . وفي فترة تاريخية لاحقة، تحديداً مع انهيار الامبراطورية الرومانية الغربية، اعتمدت الجماعة الدينية المسيحية نفسها، الجهاز السياسي، والهيكلية الادارية والقانونية للدولة الامبراطورية حيث تحولت في خلال هذه العملية إلى ديانة خلاصية مطبوعة بالبنية السياسية للدولة الامبراطورية.[4]....
لا شك بأن مثل هذا الطراز الكنسي - الامبراطوري لن يظهر في النطاق التاريخي المسيحي الحديث بيسر. ربما باستثناء الديانتين الخلاصيتين العالميتين الإسلام و البوذية اللتين آلفتا بين الدين والسياسية، لم يكن ثمة متسعٌ في الغرب الأوروبي المسيحي لأمثلة مشابهة.
لكن في أميركا سيعثر اللّاهوت السياسي على منطقة تفكير يتموضع فيها الإيمان الديني ضمن مؤسسات الدولة والمجتمع. هذه المنطقة هي نفسها التي سُمّيت بما يُعرف بـ«الدين المدني». وإذا كان هذا المفهوم ارتبط أساساً بأعمال جان جاك روسو، فإن تطوراته اللاحقة ستتخذ نَسَقاً أكثر وضوحاً وتحيُّزاً على يد عالم الاجتماع الأميركي روبرت بلاَّ Robert Bellah. ففي نظرية الأخير يرتبط مفهوم الدين المدني ارتباطاً وثيقاً بتقليد الفضيلة الجمهورية وعدم ثقته بالتقليد السياسي الليبرالي. وحول الوضعية الخاصة للدين الأميركي فإن التقليد الجمهوري يتحد بالتقليد الكالفيني؟يني للجماعة السياسية والدينية الميثاقية، وكذلك بالتقليد الوظيفي المعياري الدوركهايمي، وتصوره لفردية وظيفية أخلاقية في مواجهة فردية مختلفة وظيفياً ونفعية وأنانية. ولئن اتكأت الرؤية الكلاسيكية حول الدين المدني عند روسو على نقد أضلاع مثلثه النظري وهي «دين الكاهن»، و«دين المواطن»، و«دين الإنسان»، فإنه سيجد حلاً لمعضلة الالتقاء بين الديني والسياسي من خلال تأكيده على الحق الحديث في الحرية الدينية، وحرية الرأي السياسي في آن. وهاتان الحريتان لا يمكن لأي حاكم ـ حسب روسو ـ أن يختصرهما أو يسيطر عليهما.
رغم ذلك فإن مثل هذا الحل سيجد من ينقده في شدة. الأمر الذي سعى إليه كل من ماكس فيبر و دوركهايم في فترات لاحقة، من خلال اقتراح نظرية سوسيولوجية للاندماج المجتمعي المنبني على أخلاقية علمانية علمية قد تصلح لتكون ديناً مدنياً للمجتمعات الحديثة. غير أنّ هذه المحاولة لم تفعل سوى أنّها أعادت انتاج التوترات القديمة، والتي لم تجد لها حلاً بلغة سوسيولوجية جديدة ـ كما يقول عالم الاجتماع المعاصر خوسيه كازانوفا ـ غير أن نظرية روبرت بلاّ حول الدين المدني، كانت برأيه نظرية متميزة، لأنها تستند إلى أسس تجريبية. ولأنّها أيضاً وأساساً تنطلق من مقدمة منطقية مفادها أن السياسة الأميركية تاريخياً تبدو كأنها تشتمل على ما يشبه الدين المدني. لكن كازانوفا لا يلبث أن يرسم علامات استفهام حول نظرية بلاّ، ليرى أنّ المرء وإن قَبِلَ بالمقدمة التي تعتبر أن السياسة الأميركية كانت مندمجة في وقت من الأوقات داخل دين مدني مؤلف من تركيبة خاصة تقوم على المبادئ التوراتية الطهرانية والجمهورية و الليبرالية النفعية و الدينية ـ الأخلاقية ، فقد أصبح بديهياً أصلاً في الفترة التي صاغ في خلالها بلاّ نظريته، أن أي شيء تبقى من هذا الدين المدني أصبح غير ذي صلة على نحو متزايد بقواعده الأولى (...) وهكذا، سرعان ما أقرّ بلاّ Bellah نفسه بأن «الميثاق» الوطني قد «انحلّ» وأن أي تذمر عادي لن يعيد الميثاق القديم مجدداً. وفضلاً عن ذلك، فالمبادئ الثلاثة التي تشكّل معاً الدين المدني الأميركي، والتي لا تختلف في بعض جوانبها عن الاديان الثلاثة لدى روسو، تجسد مجدداً المعضلات نفسها.
رجوع القومية الحادة
كان لصدمة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 ما يشبه «الأثر الجيولوجي» في النفس السياسية الأميركية. فلسوف نرى إثرئذٍ ما هو أقرب إلى إعادة تشكيل الذات الأميركية على نحو ما تشكّلت عليه في نشأتها الأولى. سيمتلئ التفكير الاستراتيجي بطائفة من قواعد النظر والسلوك بدت للوهلة الأولى كما لو كانت انقلاباً على ميراث الديموقراطية الأميركية بأجمعه:
أولاً: النزعة القومية الحادة احتلت مرتبة وازنة في مكوّنات التفكير الجديد للإدارة الأميركية. حتى انها باتت احدى خاصّيات المفارقة الإيديولوجية للمحافظين الجدد.
ثانياً: إن ما طَفا على سطح الأطروحة الأميركية وهي تلج فضاءات القرن الحادي والعشرين، جاء تكثيفاً لعقيدة أميركية طاعنة في الزمن. والعقيدة على ما يبيّن نُظّار الفلسفة السياسية هي رزمة العوامل المكوّنة لإيمان الأميركي برسالته التي ينبغي أن يُكتب لها الحضور المستدام في الزمان والمكان العالميين.
ثالثاً: كل شيء يدخل نطاق الرساليّة الأميركية يروح يتحول إلى ركن من أركان العقيدة. فالدين و القومية و الوطنية ، والثقافة، و الفلسفة ، ناهيك عن الاستراتيجيات السياسية والعسكرية، هي على الجملة، تؤلف ما يسمى الأطروحة الأميركية. ولأن المآل الأخير لهذه الأطروحة هو ما يصح تسميته بالفكرة الأميركية فإن كل ما يتعلق بأصول هذه الفكرة وفروعها هو بعين ذاته ترجمة للأطروحة بأكملها.
وعلى ما يبيّن بعض علماء الاجتماع فإن الأطروحة الأميركية هي نفسها العقيدة الأميركية ، وهي نفسها كذلك الايديولوجية الأميركية. بذلك تكون الأطروحة مجموعة مقترحات ومسائل بشأن أميركا تقدمها الأمة لنفسها وللعالم الخارجي. وهكذا تنقشع الصورة: «الأميركيون من كل الأصول القومية، والطبقات، والأديان، والمعتقدات والألوان، لديهم عامل مشترك: مثال اجتماعي هو الروح العامة للجماعة ، وعقيدة سياسية (...) ولقد كان الكاتب الأميركي رالف والدو ايمرسون يعرّف الالتزام بالمبادئ الأميركية للحكم على أنّها شكل من أشكال اعتناق الدين. وهذه الأطروحة أو العقيدة أو الفكرة، بما يرافقها من أساطير قومية ، تشكل الأساس الذي بُنيت عليه القومية المدنية الأميركية، وتجعل من الوجه العلني للولايات المتحدة نموذجاً للقومية المدنية بامتياز. وعلى المستوى النظري، فإن كل من يتقبَّل «الأطروحة» أو «الفكرة» الأميركية يمكنه أن يصبح أميركياً، بصرف النظر عن اللغة والثقافة والأصل القومي، مثلما كان يمكن لأي شخص أن يصبح سوفياتياً إذا تقبَّل الشيوعية[5].
غير أن مفارقة الأطروحة الأميركية تكمن في واقع أنّ أي تكوين من تكويناتها له سَمْتٌ خاص يطابق روح أميركا . قومية الأميركيين لم تظهر على نصاب ما ألِفَتْهُ أوروبا حين أطلقت إمبرياليتها الحديثة. إنّ قومية أميركا من طراز تركّب على عمومية المفهوم وخصوصية المكان. بل يمكن القول إن القومية الأميركية مفارقة للمفهوم ومتحدة معه في الوقت عينه. تعني القومية الأميركية الولاء للفكرة: وهذه الأخيرة تعني أنّ أميركا بوصفها رسالة حضارية هي في آن، جغرافيا ذات بُعد ميتافيزيقي . وعلى هذا النحو يستلزم الولاء للفكرة موالاة حاملي تلك الفكرة باعتبارهم الصنف البشري الخاص المؤهل لحمل هذه الرسالة. وهم- بحسب التنظير العقائدي الأميركي- الانكلوساكسون البيض البروتستانت (WASP) .
رابعاً: ربما كان العنصر الاهم والمميز في القومية الأميركية انها قومية منفتحة، احتوائية، متسعة، ولكن بقيادة ومآل عنصريين...
ذلك ما يطابق التوصيفات التي ذهبت إلى اعتبار مبادئ الأطروحة الأميركية عقلانية و كونية في الآن نفسه... وأنّ الأميركيين ينظرون اليها، ويتعاملون معها، بما هي حقيقة قابلة للتطبيق على الشعوب والمجتمعات في أي مكان وزمان. وهذا ما أشار إليه الكسيس دو توكفيل مرة أخرى بقوله: «إن الأميركيين مجمعون على المبادئ العامة التي يجب أن تحكم المجتمع البشري كله. والذين جاؤوا من بعده من الإيديولوجيين الأميركيين، كانوا على نحو كبير من الوضوح حين رأوا أن قدر أميركا باعتبارها أمة، أن لا تكون لديها ايديولوجيات، بل أن تكون هي نفسها إيديولوجيا».
لقد كان ثمة حرصٌ لا يقربه الوهن من جانب «حكماء أميركا السياسيين» على تأكيد العوامل الجوهرية للعقيدة الأميركية ولو على سبيل التبشير. وهي الإيمان بالحرية، والدستور، والقانون، والديموقراطية، والفردانية، والمساواة الثقافية والسياسية. وهذه الحزمة من الفضائل بقيت في جوهرها النظري على ما هي عليه سحابة التاريخ المديد من عمر أميركا. والمعروف أنّ مثل هذه الحزمة تجد جذورها بصورة أساسية في عصر التنوير، فضلاً عن كونها مشتقة من التقاليد البريطانية: فلسفة جون لوك الليبرالية، فضلاً عن قناعات أقدم بكثير من دور القانون و«حقوق الرجال البريطانيين الأحرار»...[6].
ولو كان لنا أن نقرأ المزيد مما كُتب في الأطروحة الأميركية ، ولا سيما في وجهها القومي، لوجدنا الكثير من علامات الذهول والتساؤل.
يروي عالم الاجتماع الكندي من أصل سلافي ساكفان بيركوفيتش Sacvan Beacovitch أنّه اكتشف في أميركا مئات الطوائف والفِرَق، ولكل منها شكله المختلف عن البقية، لكنها كلها تؤدي المهمة نفسها. وهذا الإجماع الايديولوجي ـ كما يقول ـ يجري توظيفه بكل الإغراء الأخلاقي والعاطفي كأنه رمز ديني. «ولقد منحه هذا الاكتشاف ـ كما يعترف هو نفسه - بعض احساس أنثروبولوجي بالدهشة لوجود مثل هذه الرمزية القبلية»... وهذا هو الشيء الذي يحمل كثيرين منّا على ترجيح ان تكون الولايات المتحدة في بداية القرن الواحد والعشرين أكثر مجتمع إيديولوجي على وجه الأرض[7].
من جهته، وعلى جاري عادته في التنظير الايديولوجي لـ«الأمركة» يرى صامويل هنتنغتون أنّه من الممكن التحدث عن مجموعة من الأفكار السياسية التي تشكل أطروحة «الأمركة». وهذه الأطروحة بنظره لا تشبه في شيء النزعة البريطانية أو الفرنسية أو الألمانية أو اليابانية. فـ«الأمركة» عند هنتنغتون، يمكن مقارنتها بالأيديولوجيات والأديان الأخرى. بمعنى أنّ رفض الأفكار الأساسية لهذه العقيدة يجعلك «غير أميركي»... إنّ هذا التماهي للقومية مع العقيدة او القيمة السياسية يجعل الولايات المتحدة عملياً حالة فريدة من نوعها» (...) ولذا فإن ما هو غير اعتيادي في أميركا على هذا الصعيد هو الاجماع الكلي على الإيمان بهذه المبادئ القومية الموجهة[8].
مرجع هذا التصريح أن أميركا بالنسبة اليهم راسخة في إيمانها بنفسها. إذ حين يمجّد الأميركي مبادئ دولته ومؤسساتها وقوانينها فإنه لا يفعل ذلك من باب الدفاع الوطني، بل ليقين لديه أنّ هذه المبادئ يمكن، بل وينبغي تطبيقها على المجتمعات البشرية كلها. إن ذلك اليقين مرجعه إلى عقيدة القدر الخاص التي يؤمن بها الأميركيون حيال بلدهم.
صحيح أنّ جميع الأمم لديها ما يكفي من الزعم بأنها الشعب المختار ، لكن لا يوجد امة في التاريخ الحديث تهيمن عليها فكرة أنّ لها مهمة خاصة في هذا العالم كأميركا. ولذا فليس من العجيب في شيء أن يتحدث الأميركيون دوماً عن عراقة دولتهم باعتبارها أقدم دولة حديثة في العالم، وبالتالي أقدم جمهورية، وأقدم ديموقراطية ، واقدم نظام فيديرالي ، بل وأقدم دستور مدوّن، كما يتباهى الأميركيون بأن لديهم أقدم أحزاب سياسية حقيقية.
الدين المدني
إن الانسحار الأميركي بالنفس لا يعود إلى النجاحات التي حققتها أميركا لتصير دولة عالمية وحسب، وإنّما ايضاً واساساً إلى الينبوع الميتافيزيقي الذي يرفد مثل هذا الانسحار ويغذيه ويمنحه القوة والدوام.
خامساً: قد يكون من أهم مصادر قوة العقيدة لما يسمى بالقومية المدنية في المجتمع الأميركي، أنها تقوم على الجمع بين التراث الهائل للتنوير الأوروبي، والتيارات الدينية البروتستانتية ، والتقاليد الأميركية القديمة (...) وحين بدأ «الخط الرئيس» للبروتستانتية في الولايات المتحدة يتجه أكثر فأكثر نحو الليبرالية والتسامح في القرن العشرين، راح يتشكل في الوقت نفسه تيّاراً من البروتستانتية الغامضة اصطلح على تسميته بالدين المدني. وهو ما يمكن النظر إليه على أنّه منطقة التوسط بين التنويرية العلمانية والتديّن البروتستانتي.
إنّ هذا «الدين المدني» الذي هو حصيلة توافق وطني مدين لإيمان مؤسسي الجمهورية بالله. أولئك الذين اكدوا على الاهمية المركزية للدين من أجل ديمومة الجمهورية من دون تخصيص ماهية هذا الدين. لكن من المؤكد أنّهم قصدوا نوعاً من انواع البروتستانتية. وهو ما سيترجمه الرئيس آيزنهاور في قوله الشهير «ليس لحكومتنا أي معنى ما لم تتأسس على الشعور بالإيمان الديني العميق. ولا يهمني ما يكون هذا الدين» [9].
لم يأتِ ما أوردناه من كلام آيزنهاور في مسرى التظهير الإيديولوجي كما قد يبدو من ظاهر الخطاب، وإنّما في فضاء توصيف واقع الحال التاريخي للبنية الأميركية. فالتأسيس الديني في هذا المقام يدخل في ذات الأطروحة الأميركية ولا يمكن النظر إليه كأمر عارض عليها. وهو ما يستجليه القول: إن أميركا هي موطن أعمق إيمان ديني محافظ في العالم الغربي وأوسعه انتشاراً، وهو بالتالي يشمل مجموعة مهووسة بآمال ألفية (Millenarian) مجنونة ومخاوف وكراهيات. وهاتان الظاهرتان - كما يبيّن علماء تاريخ و أنثروبولوجيا غربيون - تترابطان بشكل وثيق. وقد أظهر استطلاع للرأي أجراه «معهد بحوث بيو للاستطلاع Pew Research Center» عام 2002، أنّ الولايات المتحدة تبدو في مطلع القرن الحادي والعشرين أقرب إلى العالم النامي منها إلى الدول الصناعية من حيث الايمان الديني . ذلك بالرغم من ان غالبية المؤمنين في الولايات المتحدة ليسوا من الأصوليين البروتستانت ، بل من الكاثوليك ، ومن التيار الرئيسي البروتستانتي الأكثر ليبرالية. لقد ظلت أهمية الدين في أميركا المعاصرة حالاً نمطية واضحة منذ بدايات القرن التاسع عشر.وهو ما لاحظه دوتوكفيل حوالي 1930، يوم كان الإيمان الديني بين الشعوب الأوروبية مهتزاً إثر عقود عدة من التنوير و الثورة الفرنسية ، بينما بقي الإيمان الديني الأميركي متوقداً وشاملاً [10].
سادساً: في ما يتصل بالإشكال البنائي للأطروحة الأميركية والمتمثل بالتلاؤم بين مركزية الدين ومركزية العلمانية، فيعود إلى الروح العلمية للمؤسسين الأوائل. أولئك الذين خاضوا اختبارات مركبة ومعقدة أفضت إلى ظهور ما سبق وأشرنا إليه حول «الدين المدني». إنّ معنى هذه الصيغة جاء كثمرة لخليط عجيب من لاهوت مسيحي بروتستانتي ذي طابع صوفي، ومن علمنة آتية من خلاصات الحداثة الأوروبية التنويرية . ولقد تأكد هذا المعنى من خلال اجراءات المصالحة بين الدين والعلمانية، أدت إلى مزجهما في وعاء ثقافي ومعرفي واحد. فقد أتاح التحرر من المسيحية التقليدية الكاثوليكية وكذلك التحرر من العلمانية الحادة ذات النموذج الأوروبي ـ الفرنسي بخاصة، إلى إنتاج الدين الأميركي من دون أن يسبغ على مؤسسات الدولة والمجتمع الصفة الثيوقراطية.
مذهب السيطرة كميتاستراتيجيا أميركية
لعل ما يضاعف من خطوط التوتر الآخذة في الإمتداد عبر الزمن، أن أميركا آلت إلى كينونة ضاجّةٍ بقلق مقيم. كأنما وهي تسطِّر نجاحاتها وانتصاراتها، لم تغادر خشيتها من عالم يوشك على الإنفلات والتشظِّي.
لقد بدت الصورة الأميركية كما لو كانت تعكس ما قاله مرة أحد الحكماء: إن على المرء أن يبكي في أمسيات النصر. لأن المنتصر غير قادر أبداً على مقاومة إغراء تكرار عمله. لكن ملحمة القوة التي أخذت بها أميركا لكي تنجز غَلَبَتَها، كانت متأتية من متسامٍ عَقَدي ولاهوتي، أكثر مما تفترضه المألوفات الاستراتيجية لدولة/ أمة طامحة للتمدد في ما يتعدى جغرافيتها الوطنية.
كان ثمة، ما هو فوق قومي، وفوق استراتيجي ، يحكم، ويوجِّه، ويغذِّي، ويسدِّد إغواءات السيطرة الأميركية على العالم. ذلك هو الوضع الذي وجدنا أن نضعه ضمن مصطلح «الميتاستراتيجيا». ولنا هنا أن نشير، ولو بوجه مقتضب إلى هذا المصطلح:
عندما وُضع مفهوم «الميتا ـ ستراتيجيا» كمصطلح في علم الحروب والصراعات الكبرى، لاحظ واضعوه مركزية الإيمان الديني، وحضور الإعتقادات الغيبية في الزمن السياسي. وهذا يعني أن نشوء هذا المفهوم ما كان ليتحصَّل خارج نطاق الحراك العام. وبالتـالي فإن «الميتا ـ ستراتيجيا» هي وليد موضوعي واقعي، ينمو، ويتطور، ويتكامل، ضمن سَيرِيَّة الإلتقاء الحميم بين الإيمان الديني، ومنظومة الأفكار التي تعكس المصالح السيادية العليا للأمة.
في التجربة التاريخية للغرب لم تَغِب حضورية اللاَّهوت اليهودي والمسيحي عن مشاغل النخب التي تولّت قيادة هذه التجربة. لقد لاحظ الفيلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ هذه السمة في مقالته المعروفة «ضرورة إصلاح الفلسفة»، فرأى أن عصور الإنسانية لا تتميز إلا بتغيّرات دينية، ولا تكون الحركة التاريخية أساسية إلا إذا كانت جذورها متأصّلة في قلوب البشر. وسنلاحظ استطراداً، أن فيورباخ، فعل كمن جاء قَبْلَه، مثل هيغل وكانط وسواهما، فلم يروا إلى القلب إلا بوصفه المكان الأخير للمعرفة، والى النظر إليه ليس كصورة من صور الدين، وإنّما هو جوهر الدين وعينه.
لقد لعب لاهوت «القضاء والقدر» حسب الإنجيلي الفرنسي جون كالڤن دوراً مهماً في ولادة الرأسمالية.
في المجال الذي مورست فيه لاهوتيات الغَلَبَة الأميركية عبر الزمن، كانت الميتا-ستراتيجيا - حاضرة حضور العين. ولو نحن أخذنا المشهد الأخير لسياسات الهيمنة سنرى مثلاً، كيف أن إدارة الرئيس جورج بوش نجحت، [مدفوعة برغبة الانتقام التي تلت صدمة 11 أيلول/سبتمبر 2001 في جَمْعِ ثلاثة عوامل قوية في الشعور القومي والديني لدى الأميركيين:
- العامل الأول: الرغبة في القيام بهجوم مضاد سريع عندما تعالج هجوماً أو تغسل عاراً. وهذه الروحية ليست حكراً على أميركا.
- العامل الثاني: القناعة بأن أميركا بلد مختار من الله ، وأنّ استخدامات قوته لها ما يبررها.
- العامل الثالث: إنّ هذه القناعة ترتبط بدورها بما يمكن اعتباره الصيغة الدنيوية للإيمان مثلما ترتبط بمكانة أميركا التي قرَّرها الله. وهي مكانة متأتية من فكرة تقوم على أنّ الولايات المتحدة الأميركية هي حاملة لواء الحرية، والنموذج الأمثل عن الديموقراطية، وكذلك لديها القدرة، ولها الحق، وعليها واجب نشر قيمها في سائر العالم. إنّه الإيمان الذي لم يتوانَ بوش ومناصروه عن التعبير عنه خلال الحملة الانتخابية عام 2004 .
هذي هي المنطقة المعرفية التي ابتنَيْنَا عليها سَعْيَنا لتظهير فلسفة أميركا السياسية. عنينا بها منطقة الدين التي تستمد من الطهرانية الإنكليزية لاهوتها السياسي والثقافي و الإيديولوجي . وذلك ما كان لنا معه وقفات معمَّقة في سياق هذا البحث.
نعود مجدداً إلى ألكسيس دوتوكفيل الذي بيّن بعمق هذه النقطة. وكان يرى أنه لدى الكلام على أميركا والأميركيين ينبغي اعتبار الدين بوصفه المؤسسة السياسية الأولى. ولسوف تأتي البحوث التاريخية لتُجمع على حقيقة مركزية قوامها: حاضرية اللأَّهوت الديني في الأطروحة الأميركية. فلقد صار مألوفاً الكلام على حدوث انقلاب درامي في استقطاب «فكرة أميركا» لروح الدين، بالتوازي مع ما عُرِف بـ «الصحوة الكبرى» Great Awakening في المستعمرات الإنكليزية (1730 ـ 1744). وهذه الرؤية تبدو متساوقة مع ما يُقرَّر بأن في الولايات المتحدة ديناً أميركياً متميِّزاً عن كل المذاهب المسيحية، وأنه منذ القرن الثامن عشر والبروتستانتية الإنكلوساكسونية، تنأى وتنفصل عن أشكالها التقليدية المؤسساتية، لتستوي ضمن أشكالها الجديدة على نحو يرضي النزعات الفردية، ثم تعيد صياغتها لتناسب مجتمعات لا تعبد إلاّ السوق.
قطيعة أنثروبولوجية
ربما لم يشهد مجتمعٌ أو أمةٌ ضرباً من القطيعة الأنثروبولوجية كمثل ما عَهِدَته أميركا. فقد كان على الساكنين الجدد من الإسبان والإنكليز أن يصوغوا وعياً جماعياً خلاصته، أن لا تاريخ لأميركا إلاّ بهم. وأنّ هويتهم لا تولد، وتنمو، وتتبلور، إلاّ داخل هذا المكان الجديد.
صحيح أنّ الشعور القومي حاضرٌ بقوة لدى الأميركي، إلاّ أنّه لا يظهر في الخطاب اليومي إلاّ على شكل إشارات، ثم يعود ليسطع في الفضاء العام، في اللحظات التي يرتفع فيها منسوب الإحساس بخطر وشيك. وبهذا المعنى يمكن إعتبار القومية الأميركية، قوة معنوية كامنة ومستترة. لكنها لا تلبث أن تنفجر بقوة هائلة حين يتبين أن أميركا أمام خطر محدق.
لقد كان على المستوطنين أن يمرُّوا في تجربة مصالحة مع الأرض التي حلَّوا فيها للتوّ. ولم يكن أمامهم إلاّ ما يشبه خيار العبور البرزخي الشاق من طور الغربة إلى طور السكينة. ينبغي لهم أن ينشئوا زماناً غير الذي سبق مجيئهم إلى أرض الميعاد . وأن يعيدوا هندسة المكان على قياس الأحلام التي غالباً ما تتصور الأمكنة على تمام المدن الفاضلة. فلم يكن ليُفتح بابُ الكلام على أميركا بوصفها «مدينة فوق جبل»، إلّا في سياق جعل الجغرافيا تمثيلاً واقعياً للإيمان الديني.
لكن الإطروحة الأميركية ستواجه، تبعاً لمهمتها التأسيسية مشكلة الوصل والفصل بين زمان ومكان انصَرَما إلى غير رجعة، وزمان ومكان ينبغي لهما أن يؤلِّفا بداية تاريخ جديد.
يظهر التاريخ الأميركي كشريط لمشاهد ايديولوجية متصلة. فلسوف يتبدى لنا الأمر كما لو أن معرفة تاريخ أميركا وإدراك مزاياه، يفترض بالضرورة الفهم المعمَّق للنزعة القومية التي تكونت بشكل أساسي كما مرَّ على قواعد تمتزج فيها تلك النزعة بالعقيدة الدينية، ثم ليشكلان معاً البناء الإيديولوجي للثقافة التاريخية الأميركية.
تهافت الدولة الكاملة
بدأت أميركا أطروحتها بالإيديولوجيا. ومع هذا فقد عَصَفَ الوهنُ بها، ليحلَّ العقلُ والعلمُ والتكنولوجيا محلها. لكن الغريزة الإيديولوجية ظلت كامنة في الروح الأميركية، إلّا أنّها قد تعود وتنفجر في اللحظة التي يشعر فيها أحفاد المؤسسين، أنّ أمة أجدادهم لا تزال ظمأى إلى ما يمدُّها بأسباب القوة والإستمرار.
إذا كانت أميركا تأسست بالإيديولوجيا، فإن إعادة تأسيسها لا يبدو أنه سَيُحصَّل إلاّ بالايديولوجيا. ولقد أدرك الرواد الذين أسسوا لثورات القرن العشرين الكبرى، ضرورة عدم الركون للدولة بعد الثورة. أي أن ديمومة فكرة القيامة التاريخية للأمم، لا يمر إلا عبر بث حيوية لا ينضب ماؤها داخل أوصال الإيديولوجيا. بل إنّ هذا على ما تبيَّن هو السبيل لإعادة إنتاج النشأة الأولى للفكرة على نشآت متعاقبة ودائمة. وتشكل التجربة التاريخية الأميركية في ميدان حلولية الدين في السياسة، والإيديولوجيا والاستراتيجيات العليا، أعلى درجات تظهير الميتاستراتيجيا . حيث لم تعد الميتافيزيقا و الأخلاق ، مع سَيْريَّات المثال الأميركي معزولة داخل الضمائر الفردية. ولم تعد متوقفة على الأديان. فهي ستغادر سر الضمائر، وتندرج في التجربة السياسية وفي القضايا الدولية والحسابات الاستراتيجية. لقد هبط المطلق إلى الأرض حتى غدا كل ما في المتعالي الديني سارياً في الثنايا والتفاصيل واللحظات. وبدا بوضوح لا يقبل الشك، أن الأشياء والكلمات لم تعد ذات معنى، ما دامت خارج نطاق الإستعمال.
*****
لقد ذهبنا في هذا البحث، إلى تسييل سؤال الدولة في أميركا. وكان لنا أن نوصل الفلسفي بالسياسي ليكوِّنا أمراً واحداً. ذلك أنَّ المفاهيم الملساء لم تعد تجدي وهي تمكث بصمت في الأمكنة النائية من عالم الفكر. صارت المفاهيم في قلب الإختبار الحي. وما عاد بالإمكان المفارقة أو الإنقطاع أو الفصل. لم يعد هنالك من جدار فاصل بين الفكرة والحدث. فالدولة بقدر ما هي قضية فلسفية، هي قضية سياسية. وبقدر ما هي منبسطة على فضاء التاريخ اللاّمتناهي، هي حاضرة في كل آن وكل لحظة. فلئن حَضَرَ البشري حَضَرَتِ الدولة، وقيامُها وهبوطُها أمران متعلقان بجدل لا نهاية له بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والزمن.
[1]*- باحث في الفلسفة السياسية والاجتماع الديني - لبنان.
[2]
[3] - فتحي المسكيني ـ الفيلسوف والامبراطورية، في تنوير الانسان الأخير، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2005، ص 79 .
[4] - خوسيه كازانوفا ـ الأديان العامة في العصر الحديث، المنظمة العربية للترجمة،بيروت 2006، ص 78.
[5] - David Frum, Read Right (New York:Basic Books 1994, P, 130).
[6] - أناتول ليفن، أميركا بين الحق والباطل، تشريح القومية الاميركية، ترجمة د. ناصرة السعدون، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2008، ص 130.
[7] - أناتول ليفن، المصدر نفسه، ص 133.
[8] - أناتول ليفن، المصدر نفسه، ص 132.
[9] - راجع : محمود حيدر ـ الدولة المستباحة ـ من نهاية التاريخ إلى بداية الجغرافيا ـ شركة رياض الريس للكتب والنشر ـ بيروت 2004 ص280.
[10] - de Tocqueville, Democracy in America, P. 51.
كل الكلام الذي يجري حول مهمة أميركا في العالم يظل محفوفاً بالنقص ما لم يتعلق بالأصل الديني و الفلسفي الذي قامت ولادتها عليه.
في هذا البحث مسعى لتظهير هذا الأصل استناداً إلى فَرَضية مؤداها أن أميركا ظاهرة لاهوتية، وأن الدين كان حاضراً في أصل نشأتها. أما الغاية من هذا التوصيف فسوف نجد ما يسوِّغه من خلال ما تختزنه الخطبة الإيديولوجية الأميركية منذ تشكّلها وإلى يومنا هذا. فالصفة الرسالية التي تنطوي عليها تلك الخطبة لم تكن مجرد عارض لفظي أملته شروط تبرير الهيمنة على العالم، بل هي تعكس الهندسة الفلسفية لكائنٍ يبدو لأتباعه أدنى إلى طائر خرافي حطّ بصورة استثنائية على «أرض الله».
المحرر