البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

حكاية لاهوت التحرير - بيان لأوجه التباين والاختلاف مع اللاهوت المسيحي المعاصر

الباحث :  ياسر عسكري
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  3
السنة :  السنة الثانية - ربيع 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 2 / 2016
عدد زيارات البحث :  1714
تحميل  ( 412.666 KB )
حكاية لاهوت التحرير
بيان لأوجه التباين والاختلاف مع اللاهوت المسيحي المعاصر
ياسرعسكري[1] [2][*]
«لاهوت التحرير» مصطلح أُطلِقَ على تيّارٍ لاهوتيٍّ مسيحيٍّ ظهر في خضمّ الظروف التي شهدتها أميركا الجنوبية في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم. يرى أتباعه أنّ الأسباب الأساسية لرواج الفقر والحرمان في مجتمعات هذه القارّة تضرب بجذورها في سياسات القوى الكبرى والبلدان الاستعمارية وعلى رأسها أميركا الشمالية وبعض البلدان الأوروبية.
تستهدف هذه المقالة، تعريف لاهوت التحرير وبيان أوجه اختلافه وتباينه مع اللاهوت المسيحي المعاصر.
المحرر
يعدُّ لاهوت التحرير (liberation theology) من النظريات اللاَّهوتية الحديثة التي طُرحت في الديانة المسيحية. والسبب في منشئه يعود إلى الظروف الاجتماعية والسياسية في أميركا الجنوبية، فمنذ عقد الستينيات من القرن الماضي عانت هذه القارّة من مشاكل محتدمة اضطّرت أرباب الكنائس لطرح مباحث ونقاشات لمعالجتها، وقد تجسّدت هذه المشاكل في رواج النزعات العنصرية والفئوية وشيوع الفقر واستشراء الظلم ناهيك عن نهب خيرات الشعوب وتجريدهم من حقوقهم المشروعة.
القسّ الكاثوليكي جوستافو جوتييريز (Gustavo Gutierrez) هو أوّل منظّرٍ وضع مبادئ هذه النزعة اللاهوتية، وكتابه لاهوت التحرير[3] تمّت ترجمته إلى اللغة الإنجليزية وسائر اللغات الحيّة لأوّل مرّةٍ في عام 1971م ممّا أدّى إلى انتقال هذه المبادئ إلى سائر المجتمعات في خارج نطاق أميركا الجنوبية.
لاهوت التحرير في أميركا الجنوبية لم يقتصر على نمطٍ فكريٍّ واحدٍ، بل طرح في أُطرٍ عديدةٍ، من قبيل لاهوت السود (black theology) واللاهوت الأنثوي (feminism theology) وغيرهما، وقد قام قساوسة المناطق المحرومة في العالم بترويج هذه الأنماط الفكرية في ديارهم، وبما فيها بلدان القارّة الأفريقية وبلدان جنوب شرق آسيا؛ لكنّها لم تحظَ بدعمٍ من جميع أرباب الكنائس الكاثوليكية بحيث عارضها بعضهم رغم تأييدها من قبل فئةٍ واسعةٍ من القساوسة الشباب. في بداية ظهور هذه النزعة اللاهوتية أصدرت الكنيسة الفاتيكانية بياناً اعتبرت فيه هذا اللاهوت بدعةً وانحرافاً عن الرسالة المسيحية وحذّرت كنائس أميركا الجنوبية من الإجراءات السياسية والاجتماعية المحرّضة للآخرين، ولكن بعد مدّةٍ من الزمن أذعنت إلى واقع الحال وتقبّلت جملةً من المبادئ المتبناة فيه بحذرٍ شديدٍ ووفق شروطٍ خاصّةٍ.
لقد كان لهذا اللاهوت دورٌ مشهودٌ في انطلاق عددٍ من الثورات التي اجتاحت القارّة اللاتينية، كما أسفر عن إحياء الفطرة الإنسانية السليمة وعودة الشعوب إلى أحضان الدين وتعاليم المسيحية الداعية إلى إقامة العدل ومقارعة الظلم، لكنّه شهد مرحلة ركودٍ نسبيٍّ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتزعزع أركان الإيديولوجية الماركسية في العالم وسقوط الحكومات العسكرية الدكتاتورية في أميركا الجنوبية وتصدّي بعض الحركات الديمقراطية لمقاليد الحكم في بعض بلدانها؛ إلا أنّه سرعان ما انتعش من جديد في ظلّ صحوةٍ سياسيةٍ جاءت بجيلٍ جديدٍ من الزعماء البارزين من أمثال هوجو شافيز في فنزويلا ودانيال أورتيجا في نيكاراغوا وإيفو موراليس في بوليفيا ورفائيل كوريا في الإكواردور والقسّيس فرناندو أرميندو في البارغواي.
من البديهي أنّ حملة راية لاهوت التحرير وجدوا أنفسهم بحاجةٍ إلى تبنّي بعض تعاليم اللاهوت المسيحي المعاصر التي تختلف عمّا تبنّاه سلفهم، لكنّنا في هذه الدراسة سوف نسلّط الضوء على الأصول العامّة المتّفق عليها بين جميع أتباع هذه النزعة اللاهوتية الجديدة، حيث سنعتمد بشكلٍ أساسيٍّ على المتبنّيات الفكرية لأبرز شخصيتين في هذا المضمار، أي جوستافو جوتييريز وليوناردو بوف (Leonardo Boff).
في ما يلي نذكر أهمّ الخصائص التي ميّزت هذا الفكر اللاهوتي عن التوجّهات اللاهوتية السائدة في الديانة المسيحية:
أوّلاً: لاهوت تأسيسي
لاهوت التحرير في أميركا الجنوبية
المسألة المطروحة بشكلٍ متعارفٍ في جميع الآثار المدوّنة حول لاهوت التحرير هي ضرورة كون هذا النمط اللاهوتي تأسيسياً (contextual)، وهذا المسألة قبل أن تكون أصلاً صريحاً، هي في الواقع فرضيةٌ، أي أنّ اللاهوت لا بدّ وأن يكون ذا صلةٍ وطيدةٍ بظروفٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ خاصّةٍ.
المتألّهون السالكون لهذا النهج الفكري طرحوا فكرة أنّ جميع المدارس اللاهوتية لها ارتباطٌ وثيقٌ ومتواصلٌ ببيئتها الاجتماعية والثقافية لكون هذه المدارس ناشئةً من واقعها البيئي أو أنّها تنامت وترعرعت في رحابه. هذه الفكرة طرحت على أساس مفهوم علم اجتماع المعرفة (sociology of knowledge)، ويرى أصحابها أنّ المعرفة حينما تكون ناتجةً من نشاطٍ يضيّق نطاق البيئة الاجتماعية، فنتيجة ذلك ضرورة اعتبارها تأسيسيةً في جميع أنماطها؛ ويؤكّد هؤلاء على أنّ هذه الحقيقة لا تنطبق على لاهوت التحرير فحسب، بل تصدق على جميع فروع المعرفة، لذلك ادّعوا أنّ الأنظمة اللاهوتية في أوروبا وأمريكا الشمالية لا تتناسب مع واقع أميركا الجنوبية.
يقول جوستافو جوتييريز في هذا الصدد: «إنّ فقراء العالم هم الذين يعيشون في رحاب حياةٍ إيمانيةٍ، وعلى هذا الأساس فلاهوت التحرير الذي نشأ في أميركا الجنوبية لطرح الهويّة الحقيقية لهذه القارّة، لا يعدّ مجرّد بلسمٍ يداوي جراح الطبقات المحرومة، كما أنّه لا ينصاع إلى تعاليم اللاهوت التقليدي في سائر بقاع العالم»[4].
دعاة هذه الحركة الدينية يبحثون في واقع الحال عن لاهوتٍ محلّيٍّ مختصٍّ بأمريكا الجنوبية، وهذا النمط بطبيعة الحال لا بدّ وأن ينشأ في رحاب الظروف الاجتماعية والسياسية التي تتّصف بها هذه المنطقة من العالم؛ وعلى هذا الأساس ظهر لاهوت التحرير من باطن التغييرات المفاجأة والمتسارعة التي اجتاحت البلدان اللاتينية في شتّى الصعد الاقتصادية والثقافية والدينية.
حسب رأي جوستافو جوتييريز فالاختلاف بين اللاهوت السائد في كلٍّ من أوروبا وأمريكا الشمالية وبين لاهوت أميركا الجنوبية يكمن في هويّة المخاطبين، فالمدارس اللاهوتية في أميركا الشمالية وأوروبا سواء كانت ليبراليةً أو راديكاليةً، قد نشأت بهدف التصدّي للأفكار الإلحادية التي طرحها العلمانيون في مجتمعات هاتين القارّتين؛ في حين اللاهوت الذي ظهر في أميركا الجنوبية لم يتمحور حول التصدّي للفكر الإلحادي، بل إنّ هدفه الأساسي يكمن في حلّ معضلة تهميش الإنسان الذي ينحدر من الطبقات الاجتماعية المحرومة، فهناك طبقاتٌ لا تمتلك أيّة حقوقٍ اجتماعيةٍ أو سياسيةٍ أو اقتصاديةٍ، ناهيك عن وجود فئاتٍ منبوذةٍ وثقافاتٍ محتقرةٍ.
القسّيس خوزيه ميجيل بونينو (Jose Miguez Bunino)[5] هو أحد روّاد لاهوت التحرير في أميركا الجنوبية، وهو الآخر قد دعا إلى ضرورة كون اللاهوت تأسيسياً ودافع عن هذه الفكرة بكلّ ما أوتي من قوّةٍ، وكتابه الذي ألّفه تحت عنوان القيام باللاهوت في وضعٍ ثوريٍّ[6] تضمّن مواقف متشدّدة دفاعاً عن هذه النزعة اللاهوتية حيث أكّد فيه على أنّ روّاد لاهوت التحرير في القارّة اللاتينية لهم الحقّ في تبنّي الفكر الماركسي في تعاليمهم اللاهوتية وإجراء بعض التغييرات الضرورية عليها كي تصبح منسجمةً مع ظروفهم وأوضاعهم البيئية، حيث قال: «المتألّهون في لاهوت التحرير يعرضون عن اللاهوت المتعارف في الأوساط الأكاديمية الغربية ولا يعتبرون المعايير التي يستند إليها أصحاب هذا اللاهوت كقواعد تلزمهم بالعمل تحت مظلّتها، لذلك لا يمكن اعتبارها أصولاً يتمّ تقييم نظامهم اللاهوتي على أساسها، كما أنّهم يرفضون كلّ موضوعٍ لاهوتيٍّ غريبٍ عن واقع ظروفهم البيئية والاجتماعية بسبب عدم نجاعته على صعيد صياغة مبادئ نزعتهم اللاهوتية»[7].
بناءً على هذا الكلام فإنّ لاهوت التحرير يختلف تماماً عن سائر الأنظمة اللاهوتية المسيحية الجديدة، حيث يعتقد أصحابه بعدم فائدة كلّ لاهوتٍ عارٍ عن التدخّل بشكلٍ مباشرٍ في منظومة التغيير الشاملة للأوضاع الراهنة في المجتمع أو عاجزٍ عن تحرير الإنسان من الظلم والاستبداد، لكونه لا يخدم مصالح المجتمعات المسيحية في المنطقة المطروح فيها حتّى وإن امتاز ببعض الخصائص والجوانب الإيجابية؛ لذا فأحد المواضيع الرئيسية المطروحة للنقاش بين اللاهوتين في أميركا الجنوبية هو ضرورة كون اللاهوت مؤسّساً، وهو ما يقلق الفاتيكان حيث يخشى أساقفته من تسبّبه بحدوث شرخٍ في صفوف الكنائس النصرانية[8].
ثانياً: مفهوم الخلاص
الحرّية والخلاص في الديانة المسيحية مفهومان منبثقان من الأفكار الأساسية التي سادت في رحاب الكنيسة الكاثوليكية والمرتكزة على عقيدة صلب النبيّ عيسىA.
باعتقاد النصارى فإنّ الله تعالى طرد الإنسان من الجنّة منذ أن أصبح مذنباً،[9] ويقولون إنّ المسيح عيسىA جاء لخلاص البشرية من الخطايا، أي أنّ الله تعالى جعله فداءً كي يغفر للناس ويخلّصهم من عذاب الآخرة عبر تخليصهم من الخطايا. وبطبيعة الحال فإنّ النصارى لا يمكنهم تحقيق الحرّية المطلقة بمجرّد صلب نبيّهم، فهم لا ينالون حرّيتهم المطلقة ولا ينعمون بالخلود إلا بعد عودة عيسى إلى الحياة الدنيا[10].
يرى أصحاب نزعة لاهوت التحرير بأنّ الفاتيكان يعتبر الخلاص أمراً باطنياً ولا يوجد مخلّصٌ حقيقيٌّ في العالم سوى عيسى بن مريمC، إذ إنّه بألطافه جعل الإنسان قادراً على بلوغ نطاقٍ أبعد من الحدود التي تقيّده في الحياة الدنيا، وعلى هذا الأساس فمن يريد نيل الخلاص لا بدّ وأن يتحرّك في ظلّ الأخلاق والحقيقة. إنّ هذا النمط من الخلاص ناشئٌ من الباطن ويستمرّ حتّى يصل إلى مظاهر عديدة من الحياة البشرية ومن ثمّ يلقي بظلاله على جميع البّنى الاجتماعية فيقودها نحو الرفعة والسموّ. الفاتيكان دائماً يؤكّد على أنّ الخلاص الحقيقي لا يمتّ بأدنى صلةٍ بالإيديولوجيات المختلفة، وبالتالي فإنّ نسبته إلى إيديولوجيةٍ معيّنةٍ يعني إفراغ الإنجيل من جميع تعاليمه السامية ويجعل كلّ ما جاء فيه يندرج تحت مظلّة العمل (praxis)، ومن ثمّ يصبح ضحيةً للمنافسات السياسية بين الأحزاب والرغبات الاستراتيجية التي يراد منها تحقيق أهدافٍ قصيرة الأمد.
وفي مقابل ذلك فالفاتيكان يرى بأنّ أصحاب نزعة لاهوت التحرير قد أرسوا دعائم متبنّياتهم العقائدية على أساس أربعة مرتكزاتٍ يعتبرونها ملازمةً للتحرّر الواقعي وبلوغ السعادة الفردية، وهي كالتالي:
1) الله تعالى هو نفسه ربّ التحرير، وعلى خلاف تصوّر فلاسفة اليونان فهو ليس خارجاً عن نطاق التأريخ.
حسب رأي دعاة لاهوت التحرير فإنّ دور الله تعالى لا يقتصر على الحلول والتجسّد فسحب، بل يرون أنّ تأريخ بني آدم قد بدأ عن طريق خلقه لهم، وبعد أن تجلّى لنوحٍA أنقذهم من الطوفان، وجعل إبراهيمA أباً لقومٍ جددٍ على أساس ميثاقه الذي قطعه على نفسه، ومن ثمّ أنجى أعقابه من القحط والجدب بواسطة يوسفA، وعن طريق موسى بن عمرانA خلّص بني إسرائيل من استعباد فرعون وقومه وهداهم إلى الأرض الموعودة.
حادثة الخروج تعدّ مظهراً للكمال الإلهي في التأريخ، وهي برأي لاهوت التحرير مظهرٌ للقدرة على التحرّر، فالخروج مرآةٌ تعكس حضور الربّ جلّ وعلا في التأريخ، أي أنّه تعالى يتصرّف سياسياً بكلّ ما للكلمة من معنى لأجل تحرير المحرومين.
برأي جوتييريز فإنّ عمل الله تعالى في تحرير شعبه المختار من الظلم والأسر ـ حسبما ذكر في العهد العتيق ـ يعتبر تجلّياً له جلّ شأنه، ويعتقد بأنه تعالى يتجلّى في الأحداث الهامّة كخروج اليهود من مصر، وفي ظلّ هذا التجلّي يدخل التأريخ بشكلٍ عمليٍّ ومن ثمّ يصبح صانعاً للتأريخ[11]. يقول أحد الباحثين إنّ الأسوة السياسية للاهوت التحرير تتجسّد في واقعية العالم المادّي للعهد العتيق، ولا سيّما ما جاء في سفر الخروج[12].
2) طبق تعاليم الإنجيل فإنّ الله تعالى يقف إلى جانب الفقراء، وهو معهم كما جاء في إنجيل متّى: «وَيَقوُل لَهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ»[13]. وعلى هذا الأساس فمحبّته تبارك وتعالى للفقراء لا تقتصر على الأمر بدفع الصدقات لهم، بل تعني إقامة العدل الذي على أساسه تتيسّر معرفته جلّ شأنه، حيث جاء في سفر إرميا: «أَمَا أَكَلَ أَبُوكَ وَشَرِبَ وَأَجْرَى حَقّاً وَعَدْلاً؟حِينَئِذٍ كَانَ لَهُ خَيْرٌ * قَضَى قَضَاءَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، حِينَئِذٍ كَانَ خَيْرٌ. أَلَيْسَ ذلِكَ مَعْرِفَتِي؟»[14].
3) النبيّ عيسىA هو المعلن عن حلول الملكوت الإلهي، فقد ورد في سفر إشعياء ما يلي: « قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ:... لأَنِّي هأَنَذَا خَالِقٌ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، فَلاَ تُذْكَرُ الأُولَى وَلاَ تَخْطُرُ عَلَى بَال * بَلِ افْرَحُوا وَابْتَهِجُوا إِلَى الأَبَدِ فِي مَا أَنَا خَالِقٌ، لأَنِّي هأَنَذَا خَالِقٌ أُورُشَلِيمَ بَهْجَةً وَشَعْبَهَا فَرَحاً»[15]. إذن، النبيّ عيسى (ع) وكلّ ما فعله يعدّ مظهراً لحلول الملكوت الإلهي.
يقول ليوناردو بوف في هذا الصدد: «الملكوت هو ذات التجربة الملموسة لرغبات شعب أميركا الجنوبية في الخلاص من كلّ أمرٍ غير إنسانيٍّ، كالجوع والفقر والاضطهاد، ومن المؤكّد أنّ هكذا ملكوت ليس مجرّد دعوةٍ إلى امتلاك حياةٍ معنويةٍ في ظلّ رؤيا المدينة الفاضلة، بل هو ثورةٌ شاملةٌ تهدف إلى تغيير واقع البُنى العالمية. أمّا الصليب فهو مظهرٌ للمعاناة والآلام التي اكتنفت الشعوب من هذه البُنى العالمية، والعروج يعني الخلاص من هذه المعاناة والآلام».
4) إنّ ما فعله النبيّ عيسى (ع) يعدّ في واقعه ثورةً ضدّ قوى الظلم والاضطهاد، لذا فهو قد قام بعملٍ بالغ الأهمية على الصعيد السياسي، فنزاعه مع الزُّمرة الحاكمة يعني تضادّ أفكاره مع توجّهات أصحاب السلطة، وهو ما أدّى إلى صلبه[16].
برأي جوستافو جوتييريز، الخلاص هو الموضوع المحوري في الديانة المسيحية، والنتيجة التي توصّل إليها أنّ لاهوت التحرير بمثابة إصلاحٍ وترميمٍ لمفهوم السعادة الأخروية، حيث يرى أنّ الكنيسة كانت تصرّ على مبدأ خاطئ في سالف الأيام، وهو اعتبار الخلاص أمراً كمّياً لكون جهودها قد تركّزت على تحديد ماهية الذين ينالون الخلاص، لذلك كانت تدعو إلى ضمان احتضان السماء لأكبر عددٍ من الناس. وعلى خلاف هذه الرؤية، فهذا اللاهوتي النصراني يؤكّد على أنّ مفهوم الخلاص لا بدّ وأن يدلّ على أمرٍ نوعيٍّ، أي يجب أن يعكس طبيعة الخلاص التي هي بمعنى العمل على إيجاد تغييرٍ اجتماعيٍّ، وهذا الأمر هو الطريق الوحيد للقاء الله تعالى.
حسب رأي جوتييريز وسائر دعاة لاهوت التحرير، لقاء الله تعالى ليس روحانياً وأخروياً صرفاً، وإنّما يتمكّن الإنسان من ذلك عن طريق الاهتمام بسائر الناس ومداراتهم. كما يؤكّد هذا القسّ على أنّ التحرير الذي له القابلية الحقيقية على خلاص الفرد والمجتمع معاً، هو ما كان شاملاً لجميع جوانب الوجود الإنساني.
أحد الهواجس الأساسية التي تراود أذهان هؤلاء اللاهوتيين يتمثّل في أن يصبح الناس أخوةً وأخواتٍ، وذلك بمعنى اجتثاث النظام الاجتماعي المستبدّ الذي يظلمهم ويستغلّهم ويمحو هويّتهم الإنسانية، وبطبيعة الحال فهذه الأخوّة لا تتحقّق إلا في ظلّ عدّة إجراءاتٍ جذريةٍ باعتبارها الوسيلة الوحيدة للخلاص، وبما فيها الوقوف إلى جانب الفقراء في كفاحهم ضدّ الطغيان وتوعيتهم وتعريفهم بالأسباب الأساسية الكامنة وراء فقرهم إضافةً إلى دعم الشعوب وتشجيعها على مقارعة الظلم والخلاص من الاضطهاد[17].
وفي كتابه (لاهوت التحرير) قال جوتييريز: «الخلاص الحقيقي مرهونٌ بالتحرّر من ظلم المستعمرين والحكّام العملاء لهم... «. بناءً على هذا الكلام الذي تزخر به مدوّنات دعاة لاهوت التحرير، فإنّ مفهوم الخلاص لا يقتصر على جوانب فردية أو روحانية أو أخروية فحسب، بل هو تحرّرٌ شاملٌ لجميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية اقتصادياً وسياسياً[18].
ثالثاً: النبيّ عيسى (ع) أُسوةٌ للكفاح
لاهوت التحرير يطرح تعاليم مسيحية لا تقتصر على البواطن أو القضايا الشخصية فقط، بل يتعدّى حدود هذه المسائل ليشمل المجتمع بأسره والحياتين الدنيوية والأخروية، أي أنّه يشمل القضايا المادّية والمعنوية.
باعتقاد جوستافو جوتييريز فإنّ المسيحية قد حُرّفت ومسخت في ظلّ تعاليم الفلسفة الإغريقية، حيث ابتعدت عن تلك الروح الداعية إلى المساواة والأخوّة لتصبح مسخاً لا يمتّ بصلةٍ للديانة الأولى، فالمسيحية الأصيلة هي التي تكتسب تعاليمها من واقع المجتمع[19].
يحظى النبيّ عيسى بن مريمC بمنزلةٍ رفيعةٍ في لاهوت التحرير بصفته أُسوةً للكفاح ضدّ الظلمة ومدافعاً عن حقوق الفقراء والمضطهدين، حيث طرح دعاة هذا اللاهوت تفسيراً جديداً لفكرة عودته واعتبروها دليلاً على رجحان كفّة الفقراء عند الله عزّ وجلّ على مرّ العصور نظراً لما عانوا من جورٍ وسلب حقوقٍ[20]. الكثير من هؤلاء النصارى يعتقدون بكون الثورة التي يقودها عيسى المسيحA تعدّ أقوى الثورات وأكثرها شموليةً لدرجة أنّ أيّة ثورةٍ أخرى مهما كانت واسعة النطاق لا تجلب للبشرية سوى تغييراتٍ سطحيةٍ، لأنّه خاطب الفقراء مباشرةً واعتبرهم المتلقّين لرسالة السماء، لذلك اعتمد عليهم لتغيير الواقع الاجتماعي في الحياة الدنيا.
كما ذكرنا آنفاً فالقسّيس خوزيه ميجيل بونينو (Jose Miguez Bunino) هو أحد المنظّرين البارزين للاهوت التحرير، وقد كتب واصفاً النبيّ عيسىA: «لقد قارع القوى السلطوية وزعزع أركان سلطتهم، فهو خطرٌ يهدّد كيان السلطات مهما كانت قدرتها»[21].
كما أنّ اللاهوتي البرازيلي ليوناردو بوف ألّف كتاباً حول نهاية العالم وظهور المسيح تطرّق فيه إلى دراسة وتحليل مختلف الشروح والاستنتاجات المطروحة حول صلب عيسىA في المجتمعات المسيحية السالفة، ومن جملة ما جاء فيه: «الصليب هو ثمرة رسالته التي تدعو إلى خلاص الفقراء والمظلومين، والموعظة حول الصليب تعني إيقاظ الشعور بالمسؤولية بين أبناء المجتمع وإنشاء عالمٍ جديدٍ متقوّمٍ على المحبّة والسلام؛ وهذا الأمر يتطلّب تلاحماً مع المصلوبين في هذه الدنيا واحترام مشاعرهم الدينية، أعني أولئك الفقراء والمحرومين»[22].
سيجوندو جاليليه (Segundo Galilea) هو الآخر يعدّ أحد روّاد لاهوت التحرير، وقد أكّد بدوره على الجانب الإنساني في شخصية المسيح عيسى وأمّه مريم العذراءC راجياً من ذلك طرح أنموذجٍ يرى الفقراء والمحرومون أنفسهم في ظلّه مقرّبين من هاتين الشخصيتين، ودعا إلى ترويج هذه الرؤية في الكنيسة الشعبية. وعلى هذا الأساس اعتبر تطبيق لاهوت التحرير في حيّز العمل مهمّةً ملقاة على كاهل جميع اليسوعيين، وبالتالي فإنّ واجب الكنيسة في أميركا الجنوبية تغيير واقع المجتمع بغية تحقيق ملكوت الله تعالى[23].
يمكن تلخيص ما ذهب إليه علماء لاهوت التحرير في أنّهم لم يروموا إيجاد ارتباطٍ بين النبيّ عيسىA والحركات الثورية المعاصرة التي قام بها الغيورون (Zealots)، كما أنّهم لم يقصدوا طرح شخصيته كمناضلٍ مسلّحٍ، بل أرادوا استكشاف المعايير الأساسية لعقيدة ظهور المصلح السياسي الموعود، وحسب هذه الرؤية فالمسيح في الحقيقة كان معارضاً للسلطة السياسية الرسمية ورسالته أكّدت على أنّ تحرير الأمّة اليهودية من الظلم والطغيان ليس سوى جانبٍ من ثورةٍ عالميةٍ كبرى تحمل مبادئ أدقّ وأكثر استمراراً بحيث لا تقتصر على منح أحد الشعوب حرّيةً سياسيةً.
هذا الفكر اللاهوتي في واقع الحال يسعى إلى إضفاء بعداً اجتماعياً وسياسياً على المفاهيم التقليدية المسيحية التي تتجّه نحو الانحسار على الشؤون الفردية الخاصّة[24].
رابعاً: ترجيح الفقراء واختيار الله نصيراً لهم[25]
في سنة 1968م اجتمع أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في أميركا الجنوبية بمدينة ميدلين (Medellin) الكولومبية لأجل تدارس دور المجمع الفاتيكاني الرومي بالنسبة إلى الشعوب الجائعة والمستضعفة في قارّتهم، وفي النهاية خلصوا إلى الاتّفاق على مسألةٍ أساسيةٍ يتمّ على أساسها إلزام الكنيسة بالتخلّي عن الاكتفاء بلعب دور القاضي بين الظالم والمظلوم عبر اتّخاذ مواقف جادّة والوقوف إلى جانب الشعوب المضطهدة والمغلوبة على أمرها. وقد عرف هذا القرار بالتعيين الاختياري للفقراء واختيار الله نصيراً لهم، ومن ثمّ أصبح شعاراً لهذا اللاهوت الجديد الذي هدف إلى تصوير شخصية المسيح في ظلّ حياة الطبقة المحرومة من المجتمع.
هذا التغيير المذهل في اللاهوت المسيحي لم يقتصر على التعاليم النصرانية فحسب، بل أمسى منهجاً يُعتمد عليه لتفسير الكتاب المقدّس وأساساً يتمّ من خلاله معرفة الذين لهم صلاحية تفسيره، ويرى روّاده أنّ عصر انحسار تفسير الكتاب المقدّس على النخبة الاجتماعية وأرباب الكنائس قد ولّى وحلّ عصرٌ جديدٌ يُحَوِّل تفسيره إلى الفقراء والنساء والأقلّيات القومية التي عانت الأمرّين وسائر الفئات المحرومة، وبالتالي فإنّ هؤلاء يتولّون مسؤولية إصلاح ما أفسده السلف عبر طرح قراءةٍ جديدةٍ ثابتةٍ. وعلى هذا الأساس فإنّ مخاطبي لاهوت التحرير هم الفقراء والمحرومون، وهم الذين يقرؤون الكتاب المقدّس بطمأنينةٍ فيدركون أنّ الربّ الذي خلّص بني إسرائيل من الأسر والتحقير في مصر ما زال نصيراً للضعفاء والمساكين المسلوبة حقوقهم.
استناداً إلى ما ذكر نستنتج بأنّ لاهوت التحرير يعير أهمّيةً بالغةً للفقراء والمظلومون ويعتبرهم المصدر الأصيل للتعاليم اللاهوتية على صعيد فهم حقيقة الديانة المسيحية والعمل بتعاليمها، كما يؤكّد على ضرورة وقوف الكنيسة في أميركا الجنوبية إلى جانب هذه الفئة الاجتماعية رغم كلّ النقد المطروح حولها لأنّ الله تعالى برأيهم قد وقف إلى جانبها بشكلٍ صريحٍ لا يبقي أيّ مجالٍ للترديد. حسب رأي روّاد هذه النزعة اللاهوتية فاللاهوت المسيحي والرسالة اليسوعية لا بدّ وأن ينظرا إلى المجتمع من الأسفل إلى الأعلى، أي لا بدّ وأن يسلّطا نظرهما في بادئ الأمر على الطبقة الاجتماعية المحرومة المتمثّلة بالفقراء والمساكين.
يقول القسّيس خوزيه ميجيل بونينو حول التعاليم اللاهوتية الجديدة التي راجت في أميركا الجنوبية: «لاهوت التحرير لم ينفكّ يوماً عن الفقراء، أي أنّه أوجد ارتباطاً بين إيمان الإنسان وأوضاع الفقراء؛ لكن مع ذلك لا يمكننا تقييد جهودنا في مؤاساة الفقراء والكفاح معهم فحسب، إذ لا بدّ من اعتبارهم صنّاعاً للتأريخ. إنّهم منبوذون في المجتمع ويكتنفهم شعورٌ شديدٌ بالعجز»[26].
خامساً: الكنيسة الشعبية[27] ابتكارٌ للتبشير والتكافل مع الفقراء
القرار الذي اتّخذه الدعاة إلى لاهوت التحرير بمحورية الطبقة الفقيرة من المجتمع وتحديد التعاليم اللاهوتية بشكلٍ يجعلها تنصبّ في مصلحتها، أسفر عن حدوث تغييراتٍ أساسيةٍ في النشاطات التبشيرية والمسائل التي لها الأولوية، وبالتالي نجمت عنه ابتكاراتٌ جديدةٌ على صعيد التبشير المسيحي. وأهمّ ثمرةٍ يشار إليها بالبنان في هذا المجال، تأسيس كنائس شعبية (وطنية) بفضل جهود القساوسة الذين تبنّوا هذه النزعة اللاهوتية، حيث نشأت الكنائس الشعبية بشكلٍ تدريجيٍّ تحت شعار التكافل مع الفقراء والمحرومين. ومن الجدير بالذكر أنّ البرازيل تعدّ المركز الأساسي لهذه النشاطات الكنسية بحيث أصبحت مهداً للكنائس الشعبية في أميركا الجنوبية.
بعض روّاد لاهوت التحرير والباحثين المختصّين في هذا المضمار، أوعزوا سبب ظهور الكنائس الشعبية في أميركا الجنوبية إلى القرارات التي أصدرها مجمع الفاتيكان الثاني، فيما ذهب البعض إلى أنّ السبب في ذلك يعود إلى آراء المفكّر التربوي البرازيلي باولو فريرا (Paolo Ferira)[28] الذي كان لمؤلّفاته تأثيرٌ بالغٌ في نشأة الكنائس الشعبية هناك.
الهدف من تأسيس الكنائس الشعبية هو إيجاد ارتباطٍ بين الكتاب المقدّس والنشاطات اليومية التي يزاولها أرباب هذه الكنائس، وهي في الحقيقة عبارةٌ عن مراكز أشبه ما تكون بالكنائس المتعارفة لكن لا يلحظ فيها التسلسل الرتبي الكنائسي، ويتكوّن أعضاؤها من كوادر خدميةٍ ليسوا بقساوسةٍ. تصدّى هؤلاء الأعضاء لإدارة الكنائس الشعبية بعد انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني حيث تولوّا مسؤولياتٍ اجتماعيةً تتمحور حول إقامة العدل ومكافحة الفقر.
برأي القسّيس خوزيه ميجيل بونينو فهذه الكنائس عبارةٌ عن لجان محلّية أو كنائس من الدرجة الثانية، حيث يتمّ تأسيسها في الأرياف والمناطق الشعبية والجامعات ومختلف أماكن العمل والنشاطات الاجتماعية، ولا تقتصر مهامّها على ما هو متعارف في الكنائس التقليدية، فإضافةً إلى تعليم مفاهيم الكتاب المقدّس تتولّى وظائف أخرى ونشاطات اجتماعية عديدة.
تهدف هذه الكنائس إلى إيجاد ارتباطٍ بين الإنجيل والحياة الاجتماعية، وهي تخضع إلى إشراف الكنائس الكبرى في كلّ منطقةٍ، ويبلغ عدد أعضاء كلّ واحدةٍ منها 10 إلى 20 عضواً وتستقرّ في الأرياف والمناطق الفقيرة ويساهم في إدارتها القرويون الفقراء، حيث لا يديرها الأساقفة والقساوسة. وبالفعل فقد أسفرت نشاطاتها عن توعية أبناء الطبقات الفقيرة من عمّال ومزارعين وتمكّنت من إقناعهم بأهمّية الاتّحاد في ما بينهم لأجل تحقيق الرفاهية الاجتماعية.
يقول جوستافو جوتييريز إنّ الكنائس الشعبية في غالبية بلدان أميركا الجنوبية هي مراكز لتجمّع الطبقات الاجتماعية المحرومة فحسب، وقد أصبحت وسيلةً أساسيةً يعتمد عليها لترويج مبدأ الحرّية (التحرير) خارج نطاق المؤسّسات الثقافية والآكاديمية، وحتى سنة 1980م تمّ تأسيس أكثر من مائة ألف كنيسة شعبية في أميركا الجنوبية.
بما أنّ هذه القارّة كانت تعاني من نقصٍ في عدد القساوسة، فقد تمكّنت الكنائس الشعبية من تلبية الحاجة المعنوية لشعوبها ولا سيّما الطبقة الفقيرة، ومن ثمّ انبثق لاهوت التحرير من باطنها ليتّسع نطاقه شيئاً فشيئاً ويسري إلى أماكن أخرى، وهي اليوم تنوب عن الكنائس التقليدية في المجتمعات المحرومة بمختلف أرجاء القارّة اللاتينية.
وقد أكّد ليوناردو بوف على أهمّية هذه المراكز الدينية الجديدة لدى حديثه عن مستقبل كنائس المنطقة، واعتبرها بحاجةٍ ماسّةٍ إلى دعم الكنائس التقليدية، حيث يعتقد بأنّ مصير الكنائس في أميركا الجنوبية مرهونٌ باهتمام الفقراء والتصدّي للظلم الذي يحول دون تحقّق أيّ تطوّرٍ ورقيٍّ اجتماعيٍّ؛ لذا ما لم تتصدّى المراكز الدينية للجور والطغيان سوف تفقد اعتبارها بين مختلف فئات المجتمع[29].
سادساً: طرح التعاليم الروحية والمعنوية في إطارٍ ثوريٍّ اجتماعيٍّ
لقد تمّ ترويج نزعة التحرّر المعنوي المسيحي في باطن المجتمعات التي تعاني من الظلم والعنف، وعلى رأسها مجتمعات بلدان أميركا الجنوبية، حيث اعتبر رجال الدين في هذه البلدان أنّ الأزمات التي عصفت بديارهم على مرّ التأريخ ناشئةٌ من تبعية حكوماتهم ومجتمعاتهم للقوى الاستعمارية القديمة والحديثة وانعدام المساواة والتخلّف ونهب الثروات العامّة؛ وأكّدوا على أنّ هذه الأمور برمّتها ترجع في الأساس إلى الخطايا والآثام؛ إذ أينما وجد ظلمٌ اقتصاديٌّ أو اجتماعيٌّ أو سياسيٌّ أو ثقافيٌّ، نلمس وجود عصيانٍ وتمرّدٍ عن الأوامر الإلهية وتكبّرٍ عن الخضوع للتعاليم الدينية.
المسائل المعنوية من وجهة نظر لاهوت التحرير تتمثّل في العمل على تطبيق الإنجيل بأسلوبٍ محسوسٍ وملموسٍ، وهذا الأمر مستلهمٌ من روح القدس، فهي طريقٌ محدّدٌ للحياة بين يدي الله سبحانه وتعالى يسلكه الفرد والمجتمع في ظلّ التكافل مع جميع الأمم والشعوب. على سبيل المثال فإنّ أيّ مسيحيٍّ يُولي المحبّة لجاره من منطلق إيمانه بتعاليم الكتاب المقدّس، لا يمكنه أن يخدع نفسه ويروم كسب رضا الربّ من خلال تقييد نفسه بعلاقةٍ فرديةٍ وطيدةٍ معه بعيداً عن سائر بني جلدته.
ولـمّا كان اللاهوت يعني إقامة العدل في المجتمع، فالإيمان بالله يعني التقرّب إلى كلّ إنسانٍ يعاني من الظلم والحرمان؛ ومن هذا المنطلق فلا بدّ من ترك الحياد وعدم الاكتراث بالظلم والطغيان، والوقوف بشكلٍ صريحٍ وعلنيٍّ مع الفقراء والمظلومين المسلوبة حقوقهم، كما أنّ الكنيسة مكلّفةٌ بأن تحذو حذو الأنبياء والرسل الذين بذلوا الغالي والنفيس دفاعاً عن الطبقة المحرومة في المجتمع واعتراضاً على الفقر والحرمان، ومن واجبها توعيتهم وتنبيههم إلى أنّ الفقر ثمرةٌ لانعدام العدل والإنصاف عبر التكافل معهم وإرشادهم للسير على خطى المسيح عيسى بن مريمC بغية نيل حريّتهم.
باعتقاد أتباع لاهوت التحرير فإنّ التجربة الواقعية والتأريخية والدنيوية هي السرّ في عيد الفصح، وهذه العقيدة تعدّ واحدةً من الخصائص الأخرى التي تمتاز بها النزعة المعنوية في هذه المدرسة اللاهوتية. وبعبارةٍ أخرى فاليسوعي الملتزم يؤمن بأنّ الهدف من العلاقة الموجودة بين الأوضاع الواقعية لأمريكا الجنوبية وبين حاجة البشرية الدائمة إلى الموت وانبعاث عيسى بعد موته يكمن في إيجاد حياةٍ جديدةٍ؛ لذا لا بدّ للمسيحي الملتزم أن يعتبر عيد الفصح في أميركا الجنوبية منطلقاً لتسليط الضوء على الخراب والتفسّخ الذي اكتنف مجتمعات القارّة اللاتينية كي يكون ذلك وازعاً لإيجاد مجتمعٍ جديدٍ أفضل من الواقع الموجود.
الغاية من لاهوت التحرير هي صياغة إنسانٍ جديدٍ في عالمٍ جديدٍ وإيجاد أخوّةٍ في رحاب تعاليم الكتاب المقدّس، وعلى الصعيد الاجتماعي فهذا اللاهوت يروم تأسيس منظومةٍ من العلاقات البشرية تتّصف بعدلٍ وحرّيةٍ أكثر من أيّ نظامٍ آخر. طقوس العشاء الربّاني التي يقيمها المسيحيون تؤكّد على كون المسيح هو إله التأريخ والمخلّص الوحيد للبشرية، وعلى هذا الأساس فقد ألزم نفسه بمقارعة كلّ أشكال الظلم التي تقع عقبةً في مسيرة بني آدم وتحول دون تقريرهم لمصيرهم وتحرمهم من العيش بأخوّةٍ وسلامٍ. لذا فعلى الرغم من كون طقوس العشاء الربّاني للنصارى لا ترتكز على مفاهيم سياسية واجتماعية، لكن من شأنها أن تصبح ذات تأثيرٍ بالغٍ على هذين الصعيدين شريطة أن يشارك الحاضرون فيها برغبةٍ ونشاطٍ في ظلّ امتلاك وعي حقيقي لما يتمّ التصريح به[30].
المسألة الأخرى التي تحظى بأهميةٍ في هذا المضمار، التغييرات التي شهدتها مسيرة لاهوت التحرير في السنوات الماضية، حيث تغيّر خطابه بشكلٍ ملحوظٍ مقارنةً مع سنوات نشأته الأولى، حيث طغت عليه صبغةٌ معنويةٌ أعمق، فالقسّيس جوستافو جوتييريز على سبيل المثال ألقى محاضراتٍ في الفترة الأخيرة تطغى عليها الجنبة المعنوية إلى حدٍّ كبيرٍ وقلّما تطرّق فيها إلى الحديث عن القضايا الاجتماعية وانتقاد المسؤولين وأرباب الكنائس.
وأمّا آثار سيجوندو جاليليه فيمكن الاعتماد عليها لمعرفة طابع المعنوية في لاهوت التحرير بشكلٍ أفضل، فهو يعتقد بأنّ الاستنتاجات المتحصّلة من التحاليل السياسية والاجتماعية للكتاب المقدّس قد تعرّضت للتحريف برأي بعض الناقدين، لذا فغالبيتها اليوم ذات صبغةٍ معنويةٍ بحتةٍ ولا تمتّ بأدنى صلةٍ للسياسة والمجتمع.
منذ أواخر ثمانينيات القرن المنصرم تزايد التأكيد على النزعة المعنوية في تعاليم لاهوت التحرير، ولا سيّما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسيادة أنظمةٍ في أميركا الجنوبية تتقوّم على أساسٍ ديمقراطيٍّ نوعاً ما، وقد قُصد من هذه المعنوية سيرة النبيّ عيسىA الذي أُرسل للفقراء ولم يفارقهم لحظةً في حياته؛ ومن هذا المنطلق فإنّ معرفة الله تعالى لا تتسنّى إلا على ضوء تحقّق إدراكٍ واقعيٍّ للظروف التي تكتنف حياة هذه الشريحة الاجتماعية[31].
سابعاً: تقديم العمل على الفكر
مصطلح (praxis) الذي يعني التطبيق أو العمل هو في الحقيقة مقتبسٌ من اللغة الإغريقية، وقد استخدمه كارل ماركس للتأكيد على أهمّية ارتباط العمل بالفكر. تعاليم لاهوت التحرير في أميركا الجنوبية بدورها أكّدت غاية التأكيد على العمل وأعارت أهميةً بالغةً إلى العلاقة الوثيقة بين اللاهوت والتطبيق العملي؛ والمقصود من ذلك تحرير الطبقات التي يتمّ استغلالها من قبل المتجبّرين، إذ إنّ اللاهوت ليس أمراً مستقلاً عن المقتضيات الاجتماعية والنشاطات السياسية، ولا ينبغي له أن يكون كذلك بتاتاً.
يرى أصحاب نزعة لاهوت التحرير أنّ تعاليم لاهوتِهم متقوّمةٌ على قطبين أساسيين، هما النظرية والعمل، حيث يرتبطان مع بعضهما ارتباطاً وطيداً لكنّهما متأرجحان في واقع الحال، وفي هذه الحالة تكون الأرجحية للعمل (praxis). ومع ذلك فإنّ تعاليم هذا اللاهوت تشوبها رؤيةٌ انتقاديةٌ حول المسائل العملية.
باعتقاد جوستافو جوتييريز فإنّ لاهوت التحرير ينتقد أداء المسيحية وعملها بكلام الله تعالى، فاللاهوت الغربي التقليدي يعتبر العمل نتيجةً للتأمّلات، في حين أنّ هذا اللاهوت الجديد يرى العكس من ذلك باعتباره التأمّلات الباطنية ثمرةً للعمل، حيث يتمّ إنجاز أمرٍ ما ومن ثمّ تطفو إلى السطح تأمّلاتٌ انتقاديةٌ حوله؛ وعلى هذا الأساس يدعو روّاد هذه النزعة اللاهوتية الجديدة إلى ضرورة توقّف التعاليم والنشاطات اللاهوتية عن بيان حقائق العالم والانتقال إلى مرحلةٍ أخرى يتمّ في رحابها تغيير واقع هذا العالم.
المراد من منح الأولوية للعمل في التعاليم اللاهوتية هو اعتباره الخطوة الأولى واعتبار التأمّل النظري خطوةً لاحقةً له، وبرأي جوستافو جوتييريز فإنّ الالتزام بالدعوة إلى تحرير الفقراء هو نقطة الانطلاق في اللاهوت، وهذا الالتزام في الحقيقة هو ذات العمل (praxis). أمّا التأمّل اللاهوتي فيعني الاعتماد على كلام الله حين العزم على تحرير الفقراء، وبالتالي فهو ليس أمراً مستقلاً ولا يمكن أن ينفكّ عن الواقع، كما أنّه ليس مجرّد مسألةٍ نظريةٍ ذهنيةٍ. والطريف أنّ هذا الاستنتاج في حالاتٍ عديدةٍ يكون أشبه بتوجّهٍ معكوسٍ لتعاليم اللاهوت التقليدي بحيث تصبح الأخلاق العملية والمهامّ الملقاة على كاهل الكنيسة في المرتبة الثانية بعد التأمّل اللاهوتي.
يقول خوزيه ميجيل بونينو في هذا الصدد: «اللاهوت الذي يطرح في هذا المضمار لا يهدف إلى تحقيق فهمٍ صائبٍ حول صفات الله أو أعماله، بل هو مجهودٌ يراد منه بيان الإيمان العملي وإدراكه ذهنياً وعينياً في إطار مفهوم البراكسيز (praxis) الذي يتواكب مع الطاعة»[32].
وكما يقول كارل ماركس في أطروحته الشهيرة حول الفلسفة، فإنّ اللاهوت يجب أن يتخلّى عن الاكتفاء بوصف الكون وعليه أن يتّخذ إجراءاتٍ عمليةً لتغيير واقعه وذلك نظراً لكون حسن العمل هو المعيار الأساسي في اللاهوت وليس حسن التديّن. هناك العديد من الأسباب التي أسفرت عن تغيير وجهات نظر أصحاب هذه الحركة اللاهوتية، وهي منبثقةٌ من مبادئ علم الاجتماع، حيث يعتقدون بأنّ المعرفة ليست أمراً مستقلاً عن العلم الملموس ولا يمكن أن تنفكّ عن الواقع بوجهٍ لكون كلّ أمرٍ معرفيٍّ لدى البشر لا بدّ وأن يكون ناشئاً من مواجهةٍ معيّنةٍ مع الحقائق الاجتماعية، لذا فإنّهم يؤكّدون على ضرورة عدم غضّ الطرف عن الجدل والالتزامات الاجتماعية لو أُريد معرفة الحقيقة، فالهدف الأساسي برأيهم ينبغي أن يدور في فلكها، ومن هذا المنطلق لا مناص من التأمّل فيها بإطارٍ عمليٍّ انتقاديٍّ. كما يعتبرون العمل بأنّه الخطوة الأولى لجميع أنماط المعرفة، في حين أنّ التأمّل يأتي بالمرتبة الثانية. السبب الآخر لانطلاق هذه الحركة اللاهوتية الجديدة هو اعتقاد أصحابها بكون معرفة الله تعالى تتحقّق عن طريق طاعته والالتزام بما شرّعه للفقراء والمحرومين، لأنّها تعني العزم على إقرار العدل بصفته السبيل الوحيد للتقرّب إليه عزّ وجلّ ولا يوجد سبيلٌ آخر سواه. بناءً على هذا فالعمل المفضي إلى التحرير يمنح الإنسان القدرة على معرفة ربّه سبحانه وتعالى، لذا يجب تقديمه على التأمّل والنشاط الذهني؛ لكنّ هذا الكلام بطبيعة الحال لا يعني أنّ الإنسان قادرٌ على الخوض في علم اللاهوت وتعاليمه دون التفكّر والتأمّل.
برأي جوستافو جوتييريز فالتأمّل يجعل كلام الله أعلا مرتبةً من العمل (praxis) دون أن يضفي عليه وجهةً خاصّةً، وفي الحين ذاته فهو لا يتراجع عن العمل ولا يتطرّق إليه بالنقد والتشكيك لأنّه إن اتّصف بهذه الميزة سيقع في فخّ النزعة الفكرية الحديثة العقيمة والتي لا طائل منها[33].
ثامناً: الفقر ثمرةٌ لـبُـنيةٍ متقوّمةٍ على الخطايا
أتباع لاهوت التحرير يقولون إنّ الفقر يعدّ أهمّ ميزةٍ للمجتمع المعاصر في أميركا الجنوبية، لكنّه برأيهم فقرٌ يختلف عمّا هو معروف في أوروبا وأمريكا الشمالية لكونه اجتاح بلدانهم لسببين أساسيّين، أحدهما البُنى والمكوّنات المشوبة بالخطايا والآخر تصرّفات فئةٍ قليلةٍ؛ حيث يعتبرون الأوضاع الاجتماعية الرديئة والفقر والحرمان في بلدانهم كفراً جماعياً، ويعتقدون بكون القابعين تحت مظلّة الفقر لا تصدر منهم أيّة ردّة فعلٍ سوى الاعتراض على التعاليم اللاهوتية ونفيها.
التفاسير التي ذكرها هؤلاء اللاهوتيون حول الأسباب التي نجم عنها ظهور الفقر في مجتمعاتهم أثارت الكثير من الجدل، حيث أوعزوا منشأها لعوامل داخلية وأخرى خارجية، فالعوامل الخارجية برأيهم تتجسّد في التبعية الاقتصادية للقوى السلطوية في أوروبا وأمريكا الشمالية والشركات متعدّدة الجنسيات، وأمّا العوامل الداخلية فتتمثّل في العنف المنظّم الناجم عن سياسات الأنظمة الدكتاتورية والحكومات العسكرية المستبدّة؛ وعلى هذا الأساس فقد تلاحمت القوى الاستعمارية الخارجية والحكومات المحلّية الجائرة لتلقي بظلالها على شعوب أميركا الجنوبية وتقيّدهم بأغلال الظلم والاضطهاد. ورغم تحرّر شعوب هذه المنطقة من الهيمنة الاستعمارية الأسبانية لكنّها لم تحصل على استقلالٍ سياسيٍّ بعد أن وقعت في حبائل الاستعمار الحديث والشركات الأمريكية والمتعدّدة الجنسيات، وباعتقاد روّاد لاهوت التحرير فإنّ جميع الشعارات التي تطرح على صعيد تنمية بلدان أميركا الجنوبية من قبل البلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، تحمل في طيّاتها دعوةً إلى التبعية والخضوع لسلطة الأجانب. يقول خوزيه ميجيل بونينو في هذا الصدد: «إنّ توقّف عجلة التنمية في أميركا الجنوبية هو في الواقع انعكاسٌ لدوران عجلة التنمية في أميركا الشمالية، إذ تطوّر هذا البلد يتقوّم على تخلّف بلدان العالم الثالث. الزوايا الأساسية التي نتمكّن من خلالها فهم واقع تأريخنا لا شأن لها بالتنمية أو التخلّف، بل هي السلطة والتبعية للآخرين»[34]. كما أنّ جوستافو جوتييريز يوافقه الرأي ويقول: «التنمية الحقيقية لأمريكا الجنوبية لا يمكن أنّ تتحقّق إلا في ظلّ الخلاص من هيمنة القوى الرأسمالية الكبرى، وعلى رأسها أعتى دولةٍ في العالم ألا وهي الولايات المتحدة الأمريكية»[35].
إذن، التبعية للأجانب وهيمنة القوى الاستعمارية قد أسفرا عن نهب خيرات المنطقة واستغلال مصادرها الحيوية، وإلى جانب ذلك هناك عوامل داخلية أدّت إلى ذلك حيث تمثّلت في معاناة شعوبها من مشاكل جمّة وأزمات محتدمة وُصِفت بالعنف المنظّم خلال مؤتمر الأساقفة الذي عقد بمدينة ميدلين الكولومبية. يرى جوستافو جوتييريز وخوزيه بونينو وسائر الشخصيات البارزة في لاهوت التحرير أنّ الفقر المدقع والعنف المستشري وسائر المآسي التي تعاني منها قارّتهم، هي نتيجةٌ للنظام الرأسمالي العالمي، لذا من الحريّ بمكانٍ تغيير أوضاع المنطقة برمّتها، وهذا التغيير باعتقادهم هو أمرٌ واقعٌ ويجري على قدمٍ وساقٍ لأنّ بلدان القارّة الأمريكية على شرف ثورةٍ جديدةٍ وصفها جوتييريز بالقول: «إنّها تحيي روح التحرّر على نطاق واسعٍ في عمق مجتمعاتنا وفي باطن التأريخ المعاصر، وهذا يعني أنّ الخلاص من جميع القيود والعقبات سببٌ لازدهار البشر وتمهيد الطريق للحرّية»[36].
كما ذكرنا آنفاً، فإنّ لاهوت التحرير يتبنّى التعاليم المسيحية التقليدية في أطروحاته الاجتماعية والسياسية حول الفقر، لذا يؤكّد على أنّ مقارعة الحرمان واستئصاله من المجتمع ليس شأناً فردياً أو معنوياً فحسب، بل يتطلّب تلاحماً مع الطبقة المعدومة وعدم السكوت على مظاهر الفقر[37].
تاسعاً: الالتزام يجعل الكنيسة عاجزةً عن الحياد
المجمع الفاتيكاني الثاني ألزم الكنيسة بالعمل على إقرار العدل والدفاع عن حقوق الشعوب وحرّياتهم، ومنذ ذلك الوقت تصدّى بعض الأساقفة في قارّتي أفريقيا وأمريكا الجنوبية لمظاهر التعذيب والاستغلال الاقتصادي وكافّة النزعات العنصرية من قبل الأنظمة المستبدّة، حيث اعتبروا أنّ هذا العمل وظيفةٌ دينيةٌ وإنسانيةٌ ملقاةٌ على عاتقهم واستجابةٌ لأوامر المسيح عيسىA. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ مؤتمر ميدلين الذي عقد حول ضرورة التزام الكنائس بإقرار العدل الاجتماعي في ظلّ لاهوت التحرير، يحظى بأهمّيةٍ بالغةٍ على المستويين السياسي والديني لكونه وضع الأُسس البُنيوية للكنيسة الملتزمة وبالتالي جعل المقرّرات التي اتّخذها المجمع الفاتيكاني الثاني تنزل حيّز التطبيق.
من المسائل التي انتقدها أتباع لاهوت التحرير اتّخاذ الكنيسة جانب الحياد العلمي، حيث اعتبروا هذا الموقف عقبةً كبرى أمام إقامة العدل الاجتماعي وإيجاد تحوّلٍ سياسيٍّ، فالحقّ برأيهم لا يمكن التغاضي عنه مطلقاً ولا بدّ من الالتزام به، كما أنّ الإيمان بأيّ أمرٍ يقتضي الالتزام به؛ لذا بما أنّ اللاهوت المسيحي يطرح في حيطة الإيمان الاجتماعي فلا مناص حينئذٍ من التقيّد بمضمونه[38]. وممّا يؤكّدون عليه أيضاً أنّ الحياد السياسي يعدّ أمراً لا معنى له في منطق الكنيسة، إذ التزام جانب الحياد في المصطلح السياسي ينمّ عن صمت صاحبه قبال الظلم والجور ونتيجة ذلك أنّه مساندٌ للأوضاع التي يتنامى الطغيان في ظلّها، وكذا كان الحال بالنسبة إلى الكنيسة الكاثوليكية في أميركا الجنوبية التي كانت في الواقع داعمةً للحكومات المتسبدّة ومتّحدةً معها طوال قرونٍ، لكنّ الأوضاع تغيّرت بعد ذلك ممّا يوجب وضع حدٍّ لهذه الظاهرة كي تصبح الكنيسة ملاذاً يوفّر الأمن والدعم للمحرومن والفقراء. ويذهب دعاة لاهوت التحرير إلى أبعد من ذلك ويدعون أرباب الكنائس إلى عدم الاكتفاء بالحديث عن الفقراء عن طريق تحويل كنائسهم إلى مراكز داعمة للطبقة المحرومة كي يدركوا المعاناة الحقيقية لهذه الفئة الاجتماعية؛ وعلى هذا الأساس نجد أنّ الشخصيات البارزة في لاهوت التحرير ساروا على هذا النهج في حياتهم الدينية[39].
عاشراً: الماركسية وسيلةٌ لطرح القضايا الاجتماعية
يرى أتباع لاهوت التحرير أنّ الماركسية بمثابة عاملٍ مساعدٍ للعمل اليسوعي (praxis)، وهذا الأمر أثار جدلاً كبيراً لا نظير له حول هذه النزعة اللاهوتية بحيث لم تشهد تعاليمها وأصولها نقاشات جدلية تناظر ما حدث على هذا الصعيد، فقد لجأ معظم اللاهوتيين في أميركا الجنوبية إلى مبادئ الفكر الماركسي في طرح القضايا الاجتماعية معتبرين إيّاه وسيلة تحليلٍ اجتماعيٍّ (tools of social analysis) ومنهجاً تغييراً في المجتمع، وهذا التوجّه في الواقع ناشئٌ من الظروف القاهرة التي عانتها شعوبهم والفقر المدقع الذي أطبق على مجتمعاتهم، فبعد أن بحثوا عن حلولٍ لما نزل بهم وجدوا ضالّتهم في هذا الفكر من منطلق اعتقادهم بأنّه يمنحهم رؤيةً حقيقيةً عن أوضاع بلدان أميركا الجنوبية ويمهّد الأرضية الملائمة لهم بغية تحسين الأوضاع المؤسفة التي يعاني منها الفقراء في ظل التعاليم المنظّمة التي يطرحها على صعيد اجتثاث الأنظمة الاجتماعية الفاسدة واستبدالها بأنظمةٍ عادلةٍ تخدم مصالح المجتمع[40].
يرى بعض الباحثين وجود اتّفاقٍ ضمنيٍّ بين متألّهي لاهوت التحرير فحواه أنّ النظام الرأسمالي نموذجٌ تامٌّ للشرّ، في حين أنّ النظام الاشتراكي وإن كان على مسافةٍ بعيدةٍ جدّاً عن الملكوت الربّاني إلا أنّه نظامٌ مثاليٌّ يلبّي طموحاتهم. باعتقاد جوستافو جوتييريز فإنّ أنجع سبيلٍ لتطبيق أمر النبيّ عيسىA بسقي الآخرين كأس ماءٍ باردٍ[41] يتمثّل في استصال النظام الراهن وإرساء دعائم نظامٍ اشتراكيٍّ جديدٍ، لأنّ منح المأكل والمشرب في عصرنا الراهن يعدّ عملاً سياسياً لكونه يحدث تغييراً في البُنية الاجتماعية التي اعتادت على اقتصار الربح والمنفعة بالطبقة المرفّهة. هذا التحوّل البُنيوي يجب أن ينصبّ في إحداث تغييراتٍ جذريةٍ في المكوّنات الاجتماعية، بمعنى العمل على مقارعة الملكية الخاصّة التي ألقت بظلالها على النشاطات الإنتاجية[42].
يقول ليوناردو بوف عن التأثير الذي خلّفه الفكر الماركسي على لاهوت التحرير: «كثيراً ما تطرح فكرة أنّ لاهوت التحرير نمطٌ من النزعة الماركسية. طبعاً لا ينكر أحدٌ أنّ أتباع هذا اللاهوت تبنّوا بعض الآراء الأساسية التي طرحتها الماركسية من منطلق إيمانهم بمبدأ مكافحة الاستبداد والاستعمار ومنحهم الأولوية لحقّ الاختيار وترجيح الفقراء والتصدّي لظاهرة الاقتصاد الحرّ الذي أقرّته البلدان الرأسمالية ومواجهة الظلم والاعتداءات التي تبدر منها؛ ولكن مع هذا، فالماركسية عبارةٌ عن إيديولوجيةٍ إلحاديةٍ مناهضةٍ للنصرانية حيث تؤكّد على العمل غاية التأكيد بغية تحقيق الأهداف التي تدعو إليها، كما تعارض الفكر المعنوي ولا تؤمن بالنبوّة، خلافاً للكنيسة التي ترتكز على هذين الأمرين اللذين يعتبران منطلقاً للحركات التحرّرية في العالم الثالث. بشكلٍ عامٍّ هناك نوعٌ من الشبه في بعض المواضيع بين الفكر الماركسي ولاهوت التحرير، ولكن هناك اختلافٌ جذريٌّ في ما بينهما على صعيد الإيديولوجية الأنطولوجية ممّا يجعلهما غير متلاحمين بشكلٍ مباشرٍ»[43].
القسّيس سيجوندو جاليليه هو أحد روّاد لاهوت التحرير الذين تأثّروا في بادئ الأمر بالفكر الماركسي، أي في عقد الستّينيات حتّى بداية عقد السبعينيات من القرن العشرين، فقد كان حاله حال سائر رفاقه المعتقدين بكون هذا الفكر من شأنه إيجاد تغييراتٍ في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. في المرحلة الثانية من عمر هذه النزعة اللاهوتية، أي من أواسط عقد السبعينيات وحتّى أواسط عقد الثمانينيات، بدأت مرحلةٌ جديةٌ من عمر لاهوت التحرير وأصبحت حقوق الإنسان هي المحور الأساسي لأتباعه، حيث جعلوها شعاراً لهم في نضالهم ومُتبنّياتهم الفكرية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، ففي هذه الفترة آل نجم الماركسية إلى الأُفول الأمر الذي أدّى إلى إضعاف الأنظمة الدكتاتورية المستبدّة في مختلف بلدان المنطقة لتحلّ محلّها حكوماتٌ ديمقراطيةٌ نوعاً ما، ففسح المجال للاهوتين في التواصل مع هذه الحكومات والتعاون مع الساسة بغية إقرار العدل والمساواة في المجتمع؛ وهو ما ينطبق مع تعاليم حقوق الإنسان[44]. إذن، من الواضح بمكانٍ أنّ أتباع لاهوت التحرير قد اعتمدوا على آراء كارل ماركس بزعم أنّها حاجةٌ ملحّةٌ لشعوب أميركا اللاتينية التي تعاني من الفقر والاضطهاد، وشبّهوا نزعتهم هذه بما ذهب إليه أساقفة الكنيسة القدماء الذين تبنّوا آراء بعض الفلاسفة من أمثال أفلاطون وأرسطو وتوما الأكويني. ومن الجدير بالذكر هنا أنّ دعاة لاهوت التحرير يقرّون بأنّ اعتناق الأفكار الفلسفية لكارل ماركس لا ينبغي أن يكون مطلقاً، بل لا بدّ أوّلاً من غربلتها وتمحيصها في بوتقة النقد والتحليل باعتبارها منهجاً تغييراً[45]. وبعبارةٍ أخرى، يمكن القول إنّ هؤلاء اللاهوتين قد اقتبسوا من الفكر الماركسي ثلاثة أُسسٍ فقط تتمثّل في ما يلي:
1) الفكر الماركسي بصفته فرعاً من فروع علم الاجتماع، يمكن الاعتماد عليه مستقبلاً لدراسة شؤون المجتمع بشكلٍ منطقيٍّ.
2) تبنّي هذا الفكر كأنموذجٍ للاشتراكية التي يمكن الاعتماد عليها لاستنباط الأصول السياسية المعتبرة والناجعة للمجتمع في فترةٍ محدّدةٍ من الزمن بغية تحقيق بعض الأهداف المعيّنة التي تتطلّب إعادة النظر في ما بعد.
3) اعتبار هذا الفكر منهجاً فلسفياً عامّاً ورؤيةً شموليةً بهدف الاعتماد عليه لبيان بعض الحقائق.
أمّا أساقفة الفاتيكان فهم يؤكّدون على عدم إمكانية تفكيك التعاليم الماركسية عن بعضها البعض على الصعيد المعرفي معارضين في ذلك مفكّري لاهوت التحرير الذين يعتقدون بإمكانية الاستفادة من الأساس الأوّل من الأُسس الثلاثة المذكورة أعلاه، وبجواز الرجوع إلى الأساس الثاني يمكن الاعتماد عليه حسب شروطٍ خاصّةٍ، وأمّا الأساس الثالث فهو مسكوتٌ عنه[46].
دفاع لاهوت التحرير عن نفسه أمام انتقادات الفاتيكان
نظراً لأهمّية قارّة أميركا الجنوبية بصفتها أكثر المناطق الكاثوليكية كثافةً سكّانيةً في العالم، فإنّ أساقفة الفاتيكان لم يلتزموا جانب الصمت والحياد تجاه ظهور لاهوت التحرير ورواجه في كنائسها، فعندما سافر البابا جون بول السادس إلى هذه القارّة في سنة 1979م دعا إلى إقامة العدل في المجتمع وفي نفس الوقت حذّر قساوسة الكنائس من الانهماك بشؤون الدنيا أكثر من اللازم، ونبّههم على المخاطر المحدقة بالديانة اليسوعية إثر رواج النزعة الماركسية معلناً دعمه للاهوت التحرير بغضّ النظر عمّا تبنّاه من مبادئ ماركسية[47]. ولم يكتف الفاتيكان بهذا فقط، ففي أواسط عقد الثمانينيات صدرت منه ردود أفعالٍ شديدة اللهجة حول مباحث مثيرة للجدل طرحها اثنان من روّاد لاهوت التحرير، وهما جوستافو جوتييريز وليوناردو بوف. فالأوّل في كتابه الشهير (لاهوت التحرير) طرح سلسلةً من النظريات الدينية والاجتماعية على أساس الواقع التأريخي لأمريكا الجنوبية وأوضاعها السياسية والاقتصادية المزرية إثر تبعيتها للقوى الكبرى على هذين الصعيدين، إضافةً إلى ذلك فقد لجأ إلى بعض التعاليم الماركسية وجعلها معياراً للمقارنة بين النظام التقليدي في الكنيسة والنظام الذي يطرحه لاهوت التحرير في مجال إثراء الفكر الاجتماعي والسياسي بالمبادئ الأساسية. طلب جوتييريز في كتابه هذا من الكنيسة أن تعمل بكلام الله تعالى وتسخّر جهودها لمكافحة الفقر وانتشال المحرومين من واقعهم المؤلم، وبما أنّ هذا الكتاب تضمّن مواضيع لا تروق لأرباب الكنيسة فقد انتقده الأساقفة التقليديون بداعي ارتكازه على تعاليم ماركسية، وكذا هو الحال بالنسبة إلى الفاتيكان، ففي سنة 1983م طلب من أساقفة البيرو إعلان موقفهم قبال كتابات جوتييريز، وفي سنة 1986م اجتمع هؤلاء الأساقفة مع بابا الفاتيكان واتّفقوا معه على عدم حظر مطالعة مدوّناته لكنّهم في الحين ذاته أكّدوا على ضرورة إعلام الناس بالأفكار الماركسية المطروحة فيها[48].
القسّيس البرازيلي ليوناردو بوف بطبيعة الحال نحى منحى سائر الدعاة إلى لاهوت التحرير، لذلك رأى أنّ فحوى رسالة المسيح تتجسّد في تعبئة الفقراء سياسياً، وذكر في أحد مؤلّفاته[49] أنّ الأشخاص الذين يرتادون الكنائس هم من الطبقة المعدومة في حين أنّ الكرادلة والأساقفة يمتلكون ثرواتٍ طائلةً إضافةً إلى مناصبهم السياسية والاجتماعية، وهذا الأمر برأيه ضربٌ من الرأسمالية المطلقة، والنتيجة التي توصّل إليها ممّا قاله أنّ الفاتيكان أراد العمل تحت مظلّة كنيسةٍ مركزيةٍ بغية تحقيق هذه السلطة الرأسمالية الأمر الذي أثار سخط الشعوب المسيحية ضدّه. هذا الكلام أثار حفيظة الفاتيكان لذلك تمّ استدعاء ليوناردو بوف إلى روما في سنة 1984م لأجل ذكر توضيحاتٍ حول متبنّياته الفكرية،[50] وبالفعل فقد استجاب لهذه الدعوة والتقى هناك بالكاردينال جوزيف رايتزنجر (Joseph Ratzinger Cardenal) بابا الفاتيكان الحالي (بندكت السادس عشر) الذي كان آنذاك رئيساً لمجمع العقيدة والإيمان،[51] حيث اجتمع معه لأربع ساعاتٍ. ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الفاتيكان لم يمارس ضغوطاً شديدةً على بوف ولم يعزله خشيةً تمرّد قساوسة الكنائس البرازيلية وسائر قساوسة المنطقة ووقوفهم إلى جانبه، والإجراء الوحيد الذي اتُّخذ ضدّه هو إلزامه بالصمت لمدّة عامٍ واحدٍ؛ والطريف أنّ هذا الحكم أصبح نقطة تحوّلٍ مشهودةٍ في تأريخ لاهوت التحرير حيث عرف تحت عنوان صمت ليوناردو بوف[52].
من المسائل الأساسية التي اعترض عليها الفاتيكان وانتقد لاهوت التحرير عليها هي انحيازه إلى الكنائس الشعبية ومخالفته للكنائس التقليدية، إلا أنّ ليوناردو بوف رفض هذا الادّعاء وردّ عليه قائلاً: «الكنيسة الشعبية ليست حركةً مناهضةً للكنيسة التقليدية ولا تهدف إلى إضعافها، ونشاطاتها تتمحور حول واقع الطبقات المحرومة من المجتمع ناهيك عن أنّها تتبنّى أهداف الكنيسة التقليدية، لكنّها تنظر إلى المجتمع من الأسفل إلى الأعلا خلافاً للتقليدية التي تنظر من الأعلا إلى الأسفل»[53].
وثيقة الفاتيكان الأولى في نقد لاهوت التحرير
قام القساوسة الثوريون في أميركا الجنوبية بإصدار العديد من المؤلّفات حول لاهوت التحرير لتعريفه وبيان أصوله وأهدافه، وإثر ذلك بدرت ردود أفعالٍ شديدةٍ من قبل الكنائس التقليدية هناك ناهيك عن طلب الفاتيكان منهم ذكر توضيحٍ عمّا طرحوه ومارس ضغوطاً عليهم؛ ولكن رغم كلّ ذلك فقد أثمرت جهودهم وانتشرت دعوتهم اللاهوتية على نطاقٍ واسعٍ الأمر الذي أرغم أرباب الفاتيكان على اتّخاذ مواقف أكثر حزماً وتشدّداً، لذا أصدر مجمع العقيدة والإيمان برئاسة الكاردينال جوزيف رايتزنجر في سنة 1984م وثيقةً تحت عنوان إرشاداتٌ حول بعض جوانب لاهوت التحرير[54].
قبل إصدار هذه الوثيقة، وفي سنة 1977م بالتحديد عقد مؤتمرٌ في مدينة بويبلا المكسيكية[55] عرف بمؤتمر الأساقفة في أميركا اللاتينية[56] حيث حضره أساقفة الكنائس التقليدية في هذه القارّة، وقد بلغ فيه الخلاف ذروته بين رجال الدين المحدثين والراديكاليين. حاول أتباع الكنيسة التقليدية في هذا المؤتمر تهميش دور قساوسة لاهوت التحرير وإلغاء النتائج التي تمّ اتّخاذها في مؤتمر ميدلين الذي عقد سابقاً، لكنّهم واجهو فشلاً ذريعاً ولم تثمر جهودهم عن تحقيق مطامحهم[57].
يمكن اعتبار الوثيقة التي أصدرها مجمع العقيدة والإيمان بأنّها أوّل إجابةٍ مدوّنةٍ أصدرتها الكنيسة الفاتيكانية ردّاً على لاهوت التحرير، حيث تحدّى أساقفة الفاتيكان دعاة لاهوت التحرير بشكلٍ علنيٍّ زاعمين أنّهم خارجون عن التعاليم اليسوعية ومعارضين لرسالة المسيح. ومن جملة المؤاخذات الأخرى التي أوردت عليهم أنّهم تشبّثوا بالفكر الماركسي في طرح متبنّياتهم الفكرية وروّجوا للصراع الطبقي، فالمبادئ الماركسية برأي أساقفة الفاتيكان لا تحمل في طيّاتها سوى آمالٍ وطموحاتٍ وهميةٍ، وقالوا إنّها حتّى وإن دعت الشعوب إلى الثورة على الظلم والطغيان بغية إقرار العدل الاجتماعي؛ لكنّ المجتمع الذي تتقوّم أُسسه على هذا الفكر المنحرف سيعاني من الظلم والجور وتهمّش فيه الطبقة الفقيرة، لذلك أكّدوا على أنّ تبنّي الفكر الماركسي يعدّ خيانةً للفقراء. كما حذّرت هذه الوثيقة من خطورة رواج لاهوت التحرير الذي هو مزيج غير متجانسٍ من المسيحية والماركسية، واعتبرت شعار محاربة الطبقية أسفر عن تحريف تعاليم الإنجيل وأبعد النصارى عن رسالة يسوع الأصيلة.
ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الوثيقة المذكورة أيّدت دعوة لاهوت التحرير إلى إقرار العدل في المجتمع إلى جانب شجبها النزعات الماركسية؛ ومن جملة الأمور التي اعتبرتها تتناغم مع التعاليم المسيحية التقليدية الدعوة إلى الإيمان والمحبّة في مناصرة المحرومين والتصدّي للطبقية، فيما رفضت عقيدة دعاة لاهوت التحرير بالصليب واعتبرتها مغايرةً للتعاليم النصرانية، إذ يرى أصحاب هذه النزعة اللاهوتية أنّ صلب عيسى (ع) كان حدثاً سياسياً ولم يتفاعلوا مع كونه فداءً لتطهير البشرية من الخطايا.
اعتبرت هذه الوثيقة لاهوت التحرير تهديداً كبيراً للكنيسة التقليدية وأكّدت على أنّ التعاليم والسُّنن المسيحية السالفة لا تتضمّن أيّة مسائل تنصبُّ في خدمة الطبقية، وكما أشرنا سابقاً فقد انتقدت كلّ فكرٍ لاهوتيٍّ منبثقٍ من مبادئ ماركسية، وفي ختامها أُعلن عن قرب إصدار وثيقةٍ أخرى حول مفهوم التحرير وعظمته[58].
بعد مرور 18 عاماً على اتّخاذ الكنيسة قرار توبيخ ليوناردو بوف وإرغامه على الصمت لمدّة عامٍ واحدٍ، برّر جوزيف رايتزنجر ـ بابا الفاتيكان الحالي ـ ذلك بالقول: «إنّ عقوبة الصمت قد طبّقت لأوّل مرّةٍ في ألمانيا، ونحن أخبرناه ـ بوف ـ بأن لا يتحدّث عن لاهوت التحرير لفترةٍ لا تتجاوز العام الواحد وبإمكانه في هذه الفترة أن يتأمّل فيها فقط. طلبنا منه أن لا يسافر إلى مختلف البلدان لترويج هذا الفكر اللاهوتي... وبالطبع فإنّ الدعوة إلى التفكّر والتأمّل ليست سيّئةً»[59].
وثيقة الفاتيكان الثانية في نقد لاهوت التحرير
معاقبة ليوناردو بوف بالتزام الصمت وسائر مواقف الفاتيكان المتشدّدة قِبال لاهوت التحرير لم تثمر شيئاً، بل إنّ هذه النزعة اللاهوتية الجديدة تنامت بشكلٍ ملحوظٍ ممّا اضطرّ الأساقفة لاتّخاذ مواقف أخرى تحول دون اتّساع نطاقها، لذلك في سنة 1986م تمّ إصدار الوثيقة الثانية تحت عنوان إرشاداتٌ حول الحرّية المسيحية والتحرير[60] من قبل مجمع العقيدة والإيمان بقلم البابا جون بول الثاني، وقد عُفي فيها عن ليوناردو بوف ممّا أثار ردود أفعالٍ إيجابيةٍ بين المسيحيين. وكما يبدو فإنّ هذه الوثيقة التي تعاملت مع بوف باعتدالٍ ولينٍ، تهدف في الحقيقة إلى كسب ثقة قساوسة البرازيل وتمهيد الأجواء الملائمة والمحايدة بين أرباب الكنائس في أميركا الجنوبية وبما فيهم دعاة لاهوت التحرير. بدأت هذه الوثيقة بعبارة «فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً» المقتبسة من إنجيل يوحنّا، وقد تمّ التأكيد فيها على أنّ الكنائس تتحمّل مسؤولية إقرار العدل الاجتماعي، والكنيسة الفاتيكانية هي التي تحمل راية لاهوت التحرير الحقيقي وهي المدافعة عن العدالة في المجتمع، وعلى الرغم من عدم تحمّل الكنيسة مسؤوليات سياسية واقتصادية وتكليف القساوسة بعدم مزاولة نشاطات دنيوية، إلا أنّ منتسبي الكنيسة ـ من غير القساوسة ـ من شأنهم أن يكونوا حلقة وصلٍ بينها وبين سائر أبناء المجتمع عن طريق مساهمتهم في النشاطات السياسية والاقتصادية.
إذن، الوثيقة الثانية التي أصدرها الفاتيكان إلى جانب تأكدها على ضرورة إقامة العدل الاجتماعي والعمل على ضمان حُسن عاقبة البشر، نوّهت في الختام على أنّ النبيّ عيسىA هو الأسوة الحقيقية في لاهوت التحرير وأنّ الكنيسة الفاتيكانية هي التي لها الحقّ في اتّخاذ القرار حول بيان ماهية الفكر الكاثوليكي الأصيل وتمييزه عن غير الأصيل[61]. كما دعت هذه الوثيقة أرباب لاهوت التحرير وجميع المسيحيين إلى التمييز بين مبادئ الكتاب المقدّس الحقّة وبين ما جاءت به الماركسية من تعاليم اتّخذت صبغةً مسيحيةً. وفي مقابل هذه الإرشادات، فإنّ البابا بندكت السادس عشر (جوزيف رايتزنجر) كان له رأي آخر وتمسّك بعقيدته حول لاهوت التحرير من منطلق اعتقاده بأنّ هذه النزعة اللاهوتية ترتكز على بعض النظريات الماركسية وترى أن الملكوت الإلهي لا يتحقّق إلا في ظلّ مجتمعٍ اشتراكيٍّ، وحينما سئل عن سبب تشدّده هذا، أجاب: «بالنسبة إلى لاهوت التحرير، فالخطر يكمن في أنّه يضفي إلى الدين طابعاً سياسياً، وهذا الخطر باقٍ على حاله لدرجة أنّه قد يؤدّي إلى نشوب صراعٍ فئويٍّ سياسيٍّ غير مسؤولٍ يمسّ بقدسية الدين وروحانيته». إضافةً إلى ذلك فقد نوّه على عجز الأساقفه عن وضع حلٍّ للخلاف المحتدم بين الفاتيكان ولاهوت التحرير[62].
ولإثبات صحّة توجّهاته، فالفاتيكان بعد ظهور لاهوت التحرير دائماً ما يحاول الإمساك بعصا السبق في الدعوة إلى الحرّية وإقامة العدل الاجتماعي وكأنّه يتنافس مع مختلف التوجّهات والفرق الدينية[63].
موقف لاهوت التحرير من وثيقتي الفاتيكان
جوستافو جوتييريز وليوناردو بوف لم يتّخذا موقفاً مناهضاً قبال الوثيقة الثانية التي صدرت في سنة 1986م، والأوّل ألّف في نفس هذه السنة كتاباً هامّاً دافع فيه عن مبادئ لاهوت التحرير عنوانه الحقيقة تجعلك حرّاً،[64] وقد دوّنهه بشكلٍ لا يبقي أيّ مجالٍ لاتّهامه بتبنّي آراء ماركسية وانتقاد نزعته اللاهوتية إلا في موارد نادرة. تضمّن هذا الكتاب الكثير من القضايا التي تتمحور حول اللاهوت والعلوم الاجتماعية ودافع المؤلّف فيه عن معتقداته وأجاب عن المؤاخذات التي ذكرها الفاتيكان في نقد لاهوت التحرير في الوثيقتين اللتين أصدرهما. اعتبر البعض أن جوتييريز غيّر وجهته الفكرية في الكتاب المذكور، في حين أنّ آخرين لم ينفكّوا عن توجيه النقد له ورفضوا ما ذكره من إجاباتٍ معتبرينها غير كافيةٍ لإزالة الأفكار السياسية المنحرفة التي تكتنف لاهوت التحرير، وإلى يومنا هذا ما زال هذا النقاش مطروحاً على طاولة البحث ولم يتمّ التوصّل إلى نتيجةٍ حازمةٍ من قبل كلا الطرفين[65].
بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي وزوال عرش الماركسية في مختلف أرجاء المعمورة، تقلّصت اعتراضات أساقفة الفاتيكان على لاهوت التحرير ولجؤوا إلى أسلوبٍ أكثر اتّزاناً مقارنةً مع أسلوبهم السابق، لكنّ الأمر لم يدم طويلاً، فبعد أن تولّى معارض هذه النزعة اللاهوتية الكاردينال جوزيف رايتزنجر زمام الأمور في الفاتيكان تغيّرت الأوضاع، إذ قبل تصدّيه لهذا المقام وفي سنة 1986م بالتحديد زار أميركا الجنوبية وركزّ نشاطاته في البرازيل معرباً عن نقده للاهوت التحرير وكلّ من يدعو إليه، وبمن فيهم سيجوندو جاليليه وجون سوبرينو (Jon Sobrino)[66].
إذن، باعتقادنا فإنّ بابا الفاتيكان بندكت السادس عشر ليست لديه علاقات ودّية مع دعاة لاهوت التحرير، لذا فالعلاقات بين الجانبين ما تزال متوتّرةً نوعاً، ما ولربّما سبقى على حالها وليس من المحتمل أن يتراجع عن مواقفه تجاه هذه النزعة اللاهوتية ولن يتنازل عن نقد إيديولوجيتها.
مصادر البحث
1 ـ ألن براندت، كليساي انقلابي (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية برويز هوشمند راد، طهران، منشورات شباويز، 1367ش (1988م).
2 ـ مقالة باللغة الفارسية تحت عنوان: ليوناردو بوف، الاهيات آزادي بخش: نگاهي گذرا به پيشينه انديشگي، مجلة (نامه)، ترجمتها إلى الفارسية نفيسه نمديان، 1382ش (2003م)، العدد 29.
3ـ سيمون بارينجتون وارد وآخرون، مقدمة اي بر شناخت مسيحيت (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية همايون همّتي، طهران، منشورات نقش جهان، 1379ش (2000م).
4 ـ جي. أتش. لايس، مقدمة اي بر الاهيات معاصر (باللغة الفارسية)، ترجمة وإعداد همايون همّتي، طهران، منشورات نقش جهان، 1379ش (2000م).
5 ـ وثيقة رسمية: تئولوژی مسيحيت آزادي بخش در امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، المركز الإعلامي في مؤسّسة الثقافة والعلاقات الإسلامية، وثيقة رقم: 5752.
6ـ وثيقة رسمية: گزارش سفر پاپ به امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، المركز الإعلامي في مؤسّسة الثقافة والعلاقات الإسلامية، وثيقة رقم: 4835.
7 ـ مقالة باللغة الفارسية تحت عنوان: سفر به سرزمين كاتوليك هاي شورشي (باللغة الفارسية)، مجلة (اطّلاع رساني أخبار أديان) الشهرية، العدد 23، طهران، مؤسّسة گفتگوی أديان، 1386ش (2007م).
8 ـ مقالة باللغة الفارسية تحت عنوان: غلام رضا أكرمي، محراب نشينان شورشي، مجلة (اطّلاع رساني أخبار أديان) الشهرية، العدد 23، طهران، مؤسّسة گفتگوی أديان، 1386ش (2007م).
9 ـ مقالة باللغة الفارسية تحت عنوان: كرستيان دبليو. ترول، معنويت كاتوليك ـ حال وآينده، مجلّة (نقد ونظر)، ترجمها إلى الفارسية مهرداد وحدتي دانشمند، السنة الخامسة، العددان الثالث والرابع، 1378ش (1999م).
10 ـ ستانلي جيمس جرينز وروجر أولسن، الاهيات مسيحي در قرن بيستم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية روبرت أسيريان وميشيل آغا ماليان، طهران، منشورات كتاب روشن، 1386ش (2007م).
11 ـ جوزيف رايتزنجر وبيتر سيفالد، گذشته ـ حال وآينده كليسا در گفتگوي بي پرده با رئيس اداره جانشين دادگاه هاي تفتيش عقايد (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمّد رضا ولي زاده، طهران، منشورات قوانين، 1382ش (2003م).
12 ـ مقالة باللغة الفارسية تحت عنوان: رونالد رودز، چهره در حال تحول الاهيات رهايي بخش، عدد خاص لصحيفة (سينماي سوم) حول أميركا الجنوبية والفكر الثوري المسيحي، مركز ميثاق الثقافي، طهران، 1384ش (2005م).
13 ـ داوود صالحي، انقلاب در نيكاراگوئه (باللغة الفارسية)، طهران، منشورات السهروردي، 1364ش (1985م).
14 ـ مقالة باللغة الفارسية تحت عنوان: جون مكواري، چهره عيسى مسيح در مسيحيت معاصر، مجلة (هفت آسمان) الفصلية، ترجمها إلى الفارسية بهروز حدّادي، 1382ش (2003م)، العدد 17.
15 ـ طوني لاين، تاريخ تفكّر مسيحي (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية روبرت أسيريان، طهران، منشورات نشر وپژوهش فرزان روز، 1380ش (2001م).
16 ـ ليلى مصطفوي كاشاني، كلّياتي در باره الاهيات رهايي بخش (باللغة الفارسية)، طهران، منشورات مؤسّسة الكتاب الدولية، 1367ش (1988م).
17 ـ ليلى مصطفوي كاشاني، پايان صد سال تنهايي: سيري در اعتقادات مذهبي مردم امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، طهران، منشورات مركز الدراسات والبحوث الدولية، 1374ش (1995م).
18 ـ ليستر إدغار ماكغراث، درسنامه الاهيات مسيحي: شاخصه ها ـ منابع وروش ها (باللغة الفارسية)، برجمه إلى الفارسية بهروز حدّداي، قم، منشورات مركز دراسات وبحوث الأديان والمذاهب، الطبعة الإولى، 1384ش (2005م)، الجزء الأوّل.
19 ـ ديفيد مكيلان، مسيحيت وسياست (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية رضا نظر آهاري، طهران، منشوراه نگاه معاصر، 1387ش (2008م).
20 ـ أندريو ويلز، مسيحيت در جهان امروز (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية أحمد رضا مفتاح وحميد بخشنده، قم، منشورات مركز دراسات وبحوث الأديان والمذاهب، 1385ش (2006م).
21 ـ جون آر. هينليس، فرهنگ اديان جهان (باللغة الفارسية)، تحقيق ع. باشائي، قم، منشورات مركز دراسات وبحوث الأديان والمذاهب، 1385ش (2006م).
22 ـ الموقع الإلكتروني للمفكّر ليوناردو بوف: www.Leonardoboff.com
23 ـ سالكي، الهيات آزادي بخش.
24 ـ إنجيل متّى.
25 ـ سفر إرميا.

[1]*ـ أكاديمي وباحث في علم اجتماع الدين، إيران.
ـ ترجمة: أسعد مندي الكعبي.
[2]
[3] - Theology of liberation. (Gustavo Gutierrez).
[4]ـ ستانلي جيمس جرينز وروجر أولسن، الاهيات مسيحي در قرن بيستم (باللغة الفارسية)، ص 321.
[5]ـ رجل دين مسيحي أرجنتيني ولد في عام 1924م بمدينة سانتافي، وقد تصدّى لرئاسة مجلس الكنائس العالمي لفترةٍ من الزمن، وهو أحد الذين دافعوا بشدّةٍ عن فكرة اللجوء إلى التعاليم الماركسية في الشؤون الاجتماعية.
[6]- Doing Theology in a Revolutionary Situation.
[7]ـ ستانلي جيمس جرينز وروجر أولسن، الاهيات مسيحي در قرن بيستم (باللغة الفارسية)، ص 322.
[8]ـ المصدر السابق، ص 320 ـ 323.
راجع أيضاً: مقالة باللغة الفارسية: ليوناردو بوف، الاهيات آزادي بخش: نگاهي گذرا به پيشينه انديشگي، مجلة (نامه)، ترجمتها إلى الفارسية نفيسه نمديان، 1382ش (2003م)، العدد 29.
[9]ـ المقصود هنا الخطيئة الأولى (الموروثة) The Original Sin.
[10]ـ ليلى مصطفوي كاشاني، پايان صد سال تنهايي: سيري در اعتقادات مذهبي مردم امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، ص 6 ـ 8.
[11]ـ ستانلي جيمس جرينز وروجر أولسن، الاهيات مسيحي در قرن بيستم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية روبرت أسيريان وميشيل آغا ماليان، ص 329.
[12]ـ ديفيد مكيلان، مسيحيت وسياست (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية رضا نظر آهاري، ص 71 و 79 ـ 80.
[13]ـ إنجيل متّى، الإصحاح الخامس والعشرون، الفقرة 40.
[14]ـ سفر إرميا، الإصحاح الثاني والعشرون، الفقرتان 15 و 16.
[15]ـ سفر إشعياء، الإصحاح الخامس والستّون، الفقرتان 17 و 18.
[16]ـ سالكي، الهيات آزادي بخش.
[17]ـ ستانلي جيمس جرينز وروجر أولسن، الاهيات مسيحي در قرن بيستم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية روبرت أسيريان وميشيل آغا ماليان، ص 332.
[18]ـ ليلى مصطفوي كاشاني، پايان صد سال تنهايي: سيري در اعتقادات مذهبي مردم امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، ص 72.
[19]ـ ستانلي جيمس جرينز وروجر أولسن، الاهيات مسيحي در قرن بيستم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية روبرت أسيريان وميشيل آغا ماليان، ص 324.
[20]ـ رونالد رودز، چهره در حال تحول الاهيات رهايي بخش، عدد خاص لصحيفة (سينماي سوم) حول أميركا الجنوبية والفكر الثوري المسيحي، ص 24.
[21]ـ ليلى مصطفوي كاشاني، پايان صد سال تنهايي: سيري در اعتقادات مذهبي مردم امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، ص 149.
[22]ـ المصدر السابق، ص 103.
[23]ـ المصدر السابق، ص 97.
[24]ـ ديفيد مكيلان، مسيحيت وسياست (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية رضا نظر آهاري، ص 73.
[25] - prefrential oftion for the poor.
[26]ـ ليلى مصطفوي كاشاني، پايان صد سال تنهايي: سيري در اعتقادات مذهبي مردم امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، ص 149 ـ 150.
راجع أيضاً: ستانلي جيمس جرينز وروجر أولسن، الاهيات مسيحي در قرن بيستم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية روبرت أسيريان وميشيل آغا ماليان، ص 325 ـ 326.
[27]ـ «CEBs باللغة الفرنسية:Ecliesiais de Base باللغة الأسبانية: Comunidades Eclesiales
[28]ـ باولو فريرا (Paolo Ferira) 1921م ـ 1997م طرح آراءً قيّمةً حول ترويج التعليم بين الطبقة الفقيرة في البلدان المستعمرة، حيث كان يعتقد بأنّ الشعوب المغلوبة على أمرها والقابعة تحت سلطة حكوماتٍ جائرةٍ لا بدّ لها وأن تعي الأساليب الماكرة التي تتّبعها قوى الهيمنة الطاغية كي تتمكّن من الدفاع عن نفسها واسترجاع حقوقها المسلوبة، وهذا الأمر بالطبع لا يتسنّى إلا في ظلّ طلب العلم. ومن هذا المنطلق فقد أكّد مراراً على أنّ التعليم يعدّ نشاطاً سياسياً، وقد حظيت نظريته هذه باهتمامٍ بالغٍ من قبل القساوسة الثوريين.
[29]ـ ليلى مصطفوي كاشاني، پايان صد سال تنهايي: سيري در اعتقادات مذهبي مردم امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، ص 167 ـ 168.
[30]ـ مقالة باللغة الفارسية تحت عنوان: كرستيان دبليو. ترول، معنويت كاتوليك ـ حال وآينده، مجلّة (نقد ونظر)، ترجمها إلى الفارسية مهرداد وحدتي دانشمند، السنة الخامسة، العددان الثالث والرابع، 1378ش (1999م)، ص 175 ـ 177.
[31]ـ ليلى مصطفوي كاشاني، پايان صد سال تنهايي: سيري در اعتقادات مذهبي مردم امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، ص 195 ـ 201.
[32]ـ ستانلي جيمس جرينز وروجر أولسن، الاهيات مسيحي در قرن بيستم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية روبرت أسيريان وميشيل آغا ماليان، ص 328.
[33]ـ المصدر السابق، ص 327 ـ 330.
[34]ـ المصدر السابق، ص 325.
[35]ـ المصدر السابق.
[36]ـ المصدر السابق، ص 323 ـ 326. انظر أيضاً: داوود صالحي، انقلاب در نيكاراگوئه (باللغة الفارسية)، ص 14 ـ 20.
[37]ـ ديفيد مكيلان، مسيحيت وسياست (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية رضا نظر آهاري، ص 74.
[38]ـ ليستر إدغار ماكغراث، درسنامه الاهيات مسيحي: شاخصه ها ـ منابع وروش ها (باللغة الفارسية)، ص 290 ـ 292.
[39]ـ ستانلي جيمس جرينز وروجر أولسن، الاهيات مسيحي در قرن بيستم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية روبرت أسيريان وميشيل آغا ماليان، ص 316 ـ 324.
[40]ـ ليستر إدغار ماكغراث، درسنامه الاهيات مسيحي: شاخصه ها ـ منابع وروش ها (باللغة الفارسية)، ص 330.
[41]ـ إنجيل متّى، الإصحاح العاشر، الفقرة رقم: 42.
[42]ـ ستانلي جيمس جرينز وروجر أولسن، الاهيات مسيحي در قرن بيستم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية روبرت أسيريان وميشيل آغا ماليان، ص 330 ـ 331.
[43]ـ مقالة باللغة الفارسية تحت عنوان: ليوناردو بوف، الاهيات آزادي بخش: نگاهي گذرا به پيشينه انديشگي، مجلة (نامه)، ترجمتها إلى الفارسية نفيسه نمديان، 1382ش (2003م)، العدد 29، ص 22.
[44]ـ ليلى مصطفوي كاشاني، پايان صد سال تنهايي: سيري در اعتقادات مذهبي مردم امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، ص 196 ـ 197.
[45]ـ ستانلي جيمس جرينز وروجر أولسن، الاهيات مسيحي در قرن بيستم (باللغة الفارسية)، ص 313 ـ 337.
[46]ـ ديفيد مكيلان، مسيحيت وسياست (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية رضا نظر آهاري، ص 75.
[47]ـ ليلى مصطفوي كاشاني، پايان صد سال تنهايي: سيري در اعتقادات مذهبي مردم امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، ص 44 و 57.
[48]ـ المصدر السابق، ص 53 ـ 54.
[49]- Church, Charism and Power: Liberation Theology and the Institutional Church.
[50]ـ ليلى مصطفوي كاشاني، پايان صد سال تنهايي: سيري در اعتقادات مذهبي مردم امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، ص 57.
[51] - Sacred Congeration For The Doctrine Of The Fatith (SCDF).
[52]ـ ليلى مصطفوي كاشاني، پايان صد سال تنهايي: سيري در اعتقادات مذهبي مردم امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، ص 57 ـ 58.
[53]ـ المصدر السابق، ص 169.
[54] - Instruction on Certain Aspects of the Theology of Liberation.
[55] - Puebla.
[56]- Consejo Episcopal Latin Amricamo (CELAM).
[57]ـ ليلى مصطفوي كاشاني، پايان صد سال تنهايي: سيري در اعتقادات مذهبي مردم امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، ص 56.
[58]ـ المصدر السابق، ص 58.
[59]ـ جوزيف رايتزنجر وبيتر سيفالد، گذشته ـ حال وآينده كليسا در گفتگوي بي پرده با رئيس اداره جانشين دادگاه هاي تفتيش عقايد (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمّد رضا ولي زاده، ص 96 ـ 98.
[60] - Instruction on Christian Freedom and Liberation.
[61]ـ ليلى مصطفوي كاشاني، پايان صد سال تنهايي: سيري در اعتقادات مذهبي مردم امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، ص 59.
[62]ـ جوزيف رايتزنجر وبيتر سيفالد، گذشته ـ حال وآينده كليسا در گفتگوي بي پرده با رئيس اداره جانشين دادگاه هاي تفتيش عقايد (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمّد رضا ولي زاده، ص 60 ـ 62.
[63]ـ ليلى مصطفوي كاشاني، پايان صد سال تنهايي: سيري در اعتقادات مذهبي مردم امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، ص 60.
[64] - The Truth Will Make You Free.
هذا الكتاب حظي بأهميةٍ بالغةٍ في كلية اللاهوت بمدينة ليون الفرنسية، لذلك منحته عمادتها شهادة دكتوراه تثميناً لجهوده الحثيثة وأفكاره القيّمة التي طرحها فيه.
[65]ـ ليلى مصطفوي كاشاني، پايان صد سال تنهايي: سيري در اعتقادات مذهبي مردم امريكاي لاتين (باللغة الفارسية)، ص 72- 75.
[66]ـ مقالة باللغة الفارسية تحت عنوان: سفر به سرزمين كاتوليك هاي شورشي (باللغة الفارسية)، مجلة (اطّلاع رساني أخبار أديان) الشهرية، العدد 23، طهران، مؤسّسة گفتگوی أديان، 1386ش (2007م)، ص 19.