البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ماذا يحدث للدين؟ - ست روايات من علم الاجتماع

الباحث :  جيمس ف. سبيكارد
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  3
السنة :  السنة الثانية - ربيع 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 2 / 2016
عدد زيارات البحث :  2039
تحميل  ( 334.997 KB )
ماذا يحدث للدين؟
ست روايات من علم الاجتماع[1]
جيمس ف. سبيكارد [*]
James V. Spickard
منهجية هذه المقالة تقوم على ترتيب المقاربات الحديثة لعلم الاجتماع الديني في ستة مجموعات، وكل واحدة منها تحكي قصة مختلفة عما يحدث للدين في أواخر الحقبة الحديثة. الأولى: رواية العلمنة، الثانية: تطل على تصاعد الأصولية في شتى أرجاء العالم. الثالثة، تنظر إلى صيرورة الدين في الولايات المتحدة، الرابعة، تقول أن الدين أصبح فردياً سواء في أوروبا أم في شتى أرجاء العالم.. وفي حين تقول الرواية الخامسة إن الدين لا يزال حياً وعلى خير ما يرام ولكن فقط في «أسواق دينية تنافسية»، تنبري السادسة إلى إستكشاف التغيرات التي يمر بها الدين في عملية العولمة..
المحرر
صار علم الاجتماع الديني تخصصاً معقداً في الآونة الأخيرة، لا سيما حين يحاول علماؤه أن يُوصِّفوا الحاضر ويتنبَّأوا بالمستقبل، فحيث أدت تأملات علماء الاجتماع في التطورات الأوروبية والأميركية في وقت ما إلى الاستنتاج بأنّ الدين لم يَعُد إلاّ قوة منحسرة متراجعة، اختلف الوضع الآن ولم يعد هذا الإجماع موجوداً بينهم؛ فالبعض لا يزال مستمرّاً في التركيز على ضعف الدين أو على الأقل فقدانه للتأثير على المحيط العام في مجتمع تلو الآخر، بينما يحتفي آخرون بما يسمونه «نموذجاً فكريّاً جديداً» قائلين بأنّ قوة الدين المؤسساتية تعتمد على بنية «الأسواق» الدينية، ويزعم آخرون أن الدين حيٌّ وعلى ما يرام ولكنه ترك الكنائس ليصبح جزءاً من حياة الأفراد الخاصة، وثمة من يذهب إلى القلوب. إنّ الدين غيَّر شكله المؤسساتي وخاصة في الولايات المتحدة حيث ضعفت الطوائف الدينية الرسمية الوطنية ولكن الكنائس المحلية لا تزال قوية. لكن هناك من يتوقع بزوغ نجم الأصولية على المستوى الوطني في أوروبا وأميركا ومناطق العالم الأخرى سواء أَتخذت هذه الأصولية شكل اليمين المسيحي أم الإسلام المتطرف أم حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي (أهم قوة سياسية إثنية قومية في الهند). وأخيراً فقد ركز بعض العلماء مؤخراً على العولمة الدينية ـ أي العملية التي تغير بمقتضاها القيم والأفكار والمؤسسات الدينية شكلها لتتناغم مع عالم لا يشهد إلا تزايداً في ترابطه.
لقد كتبت هذا المقال لأبيِّن هذه المقاربات كما تبدو في منهجية علم الاجتماع. ولا أود أن أحكم، ولا أن أوفق بينها في «قصة موحدة» ـ مع أنها استجابة مغرية لوضع يزداد فيه ظهور حالة من «الرجال العميان والفيل»[2] ـ وبدلاً من ذلك سأقص روايات علم الاجتماع الست، أو القصص التي يخبرها علماء الاجتماع لبعضهم بعضاً ولقارئيهم حول ما يحدث للدين في عالمنا المعاصر. إن النقطة الجوهرية التي أود تأكيدها هي أنّ باحثي علم الاجتماع الديني لم يعودوا يتناقشون حول رواية واحدة بالنسبة إلى مكان الدين في العالم المعاصر، بل يمكننا فهم الخلاف القائم في تخصصنا على أنّه صدام بين ست روايات متميزة حول «ما الذي يحدث للدين؟» في يومنا هذا وخلال السنوات المقبلة.
لقد تعمدت في مقالتي هذه استخدام مفردات مثل «قصة» و«رواية» و«أقصوصة» بدلاً من «نموذج فكري» أو «نظرية» أو أي مفردة توحي بالأسس العلمية، وذلك لأن العلماء والباحثين ـ كما هو الحال مع أي إنسان آخرـ قد ينساقون وراء خيالاتهم وأوهامهم. إنّهم لا يهملون البيانات التي يجدونها ولكن البيانات المنعزلة غير مفهومة بحد ذاتها ولن تصبح مفهومة إلا إذا ظلت مرتبطة مع القصة التي تبين معناها. على سبيل المثال: يمكن لنا أن نفهم انخفاض عدد أعضاء الطوائف البروتستنتية الرئيسية في أمريكا بأنّه إشارة إلى تنامي العلمنة أو إلى ازدياد النزعة الطائفية، يمكن لنا أن نفهم هذه البيانات بأنها انزياح في قوة الطوائف والجماعات الدينية أو بأنها إشارة إلى تنامي الفردية الدينية، أو بأنها نتيجة لعجز هذه الطوائف على تقديم «المنتج الديني» الذي يجتذب الجمهور «الاستهلاكي» الأمريكي. أو أنها قد تعكس كل ما سبق في سياق نظام عالمي يستجيب بها الدين إلى هذه القوى على مستوى عالمي.
لا تخبرنا البيانات والحقائق على الأرض عن أنّه أيٌّ من هذه القصص هو الصحيح، إذ إنّ الانتقال من «البيانات» إلى «الروايات» يحتاج إلى قفزة في عالم الخيال أي تمييز نمط يحفظ الترابط بين البيانات التي تم التوصل إليها. ينشأ الخلاف بين الباحثين والأكاديميين عادة نتيجة «القفزات» المختلفة التي يتخذها كل واحد منهم، وليس نتيجة البيانات المختلفة التي توصلوا إليها. في هذه الحالة لا يتجاوز العلم كونه حكاية قصص متينة المبنى (ليوتار، 1984). كما هو الحال في أي حديث آخر، فإنّ «الحديث العلمي» يبنى العالم الذي يزعم أنه يصفه. نحن الباحثين نفهم الدين من خلال أحاديثنا وليس بشكل مستقل عنها، ولذلك يبنغي أن يكون الشكل الذي تتخذه هذه الأحاديث من المواضيع الهامة في النقاشات بين الدارسين. وكما كتب كل من مارغريت ويثيريل وجوناثان بوتر في سياق آخر:
لا تقل واقعية نيوزيلندا بسبب بنائها الاستطرادي هذا ـ فسوف تموت إذا تحطمت الطائرة التي تركبها على جبل بغض النظر عما إذا كان هذا الجبل قد بسق نتيجة انفجار بركاني أو إذا كان شكلاً صلباً من حوت أسطوري. لكن الواقع أيضاً لا يصبح أقل عرضة للاستطراد حتى لو كان قادراً على أن يقف في طريق الطائرات. كيف نفهم هذه الميتات... وما تسبب بها ينبني من خلال أنظمة العرض التي نستخدمها (ويثيريل وبوتر 1992: 62).
وكما هو الحال في نيوزيلندا، الدين شيء حقيقي وما يحدث له أشياء حقيقية أيضاً، ولكن فهمنا الأكاديمي لهذه الأمور يرتكز على الكلمات التي نستخدمها، وقد هيمنت حاليّاً ست روايات على علم الاجتماع الديني تجيب كل واحدة منها عن أسئلتنا حول حاضر الدين ومستقبله بشكل مختلف عن الأخرى. يمكننا أن نضع مواضيع لهذه الروايات هي: العلمنة، ونشأة الطائفية المُسيسة، وإعادة التنظيم الديني، والفردية الدينية، وتحليل جانب العرض من السوق الديني، والعولمة. كل واحدة من هذه الروايات تخبرنا أشياء مختلفة تمام الاختلاف حول الحياة الدينية، ومع أنها لا تناقض بعضها بعضاً طوال الوقت إلا أن هذه المقاربات الست تفسر البيانات المتعلقة بالدين بأشكال مختلفة تماماً ومن خلال ذلك تخبرنا كل واحدة منها قصة مختلفة عن مكانة الدين في العالم المعاصر.
تشكل مقالتي هذه وبحدها الأدنى مشروع ترتيب أرجو أن يجلب بعض التنظيم إلى الارتباك الأكاديمي الحالي.
العلمنة
تمتلك قصة العلمنة تاريخاً طويلاً ومشرفاً في علم الاجتماع ـ كما هو الحال في جميع الحياة الثقافية الغربية الحديثة. اشتهر كل من كومت (1854) وماركس (2002) وفيبر (1905/1920) وفرويد (1927) بأنهم قالوا بأن العصور السابقة كانت أكثر تديناً مما سيكون المستقبل عليه. كان لكل واحد منهم بالطبع أسبابه الخاصة والمختلفة عن الآخرين التي بنى عليها هذا الاستنتاج، فذريعة ماركس كانت أن الدين يساعد الفقراء على تحمل ألم القمع الذي يتعرضون له، وكأنه مخدر أو «أفيون» لن يعود الناس بحاجة إليه في المجتمع المستقبلي الخالي من الطبقات الاجتماعية. أما فيبر فقال أنّ المُثل التي حفزت المصلحين البروتستنتيين الأوائل فقدت محتواها الديني ولكنها ظلت موجودة كـ «قفص حديدي»[3] من قمع النفس العقلي الذي يجبر الناس على العمل بجد في مهنهم دون أمل في «أجر» أسمى (أي أخروي). أما فرويد فقد قال ببساطة أن الدين مجرد وهم سيتلاشى مع نضوح الإنسانية.
مع أنّ فكرة أنّ «الدين لم يعد كما كان» هي بالأساس مبنية على تطورات أوروبية، إلاّ أنّ الحقائق التجريبية تدعمها إلى حد كبير حتى في الولايات المتحدة ـ تلك البلاد الأكثر تديناً بين البلدان المتقدمة! ـ فقد تراجعت العضوية في الكنيسة البروتستنتية الأساسية هناك إلى حد كبير منذ خمسينيات القرن الماضي، ولا تمتلك المؤسسات الدينية الأمريكية إلا مقداراً ضئيلاً من التأثير الذي كانت تتمتع به قبل قرنين من الزمن سواء في الحياة العامة أوْ حتى على الأعضاء المنتمين إليها، بحيث صرنا نرى تزايداً كبيراً في عدد الإنجيليين الأمريكيين الشباب الذين يختلفون بالرأي مع مواقف كنائسهم الأخلاقية (وإن كان هذا الخلاف لا يكون عادة حول كل الأمور)، والتزاوج بين متبعي الأديان المختلفة تزايد إلى حد كبير بين شتى الأطياف الدينية، لم يعد معظم اليهود يحضرون إلى معابدهم، وقد تناقص عدد المسيحيين الكاثوليكيين الذين يذهبون إلى الكنائس بنسبة الربع منذ عام 1965. وبشكل عام يلعب الدين دوراً أصغر في حياة الأمريكيين سواء العامة أو الخاصة (انظر روف ومكيني 1987؛ الدراسة التي سينشرها دافيدمان؛ غريلي 1990؛ مكنمارا 1992).
وقد شهدت أوروبا تراجعاً دينيّاً أكبر وأشد وطأة، ففي بريطانيا انخفض عدد البالغين المنتمين إلى طائفة دينية من 30 % من السكان إلى 14 % بين 1900 و1990؛ والحضور في الكنيسة في مدينة أبردين الإسكتلندية انخفض من 60 % من السكان سنة 1851 إلى 11 % سنة 1996. أما الحضور إلى الكنيسة أيام الأحد في البلاد الأوروبية الشمالية فقد انحدر إلى أقل من 2 % من السكان البالغين. أما على بعد نصف الكرة الأرضية فحضور الكنيسة في أستراليا لا يكاد يصل إلى 5 % بالنسبة إلى أتباع الكنيستين الأنجليكانية والمشيخية، مع أنها أعلى بين أتباع الطوائف الأخرى. عبر ستيف بروس عن (1999: 7-8) عن الوضع موخراً بقوله:
الطريق من الدين الذي تجسده الكاثدرائيات الأوروبية الكبرى إلى «الدين كتفضيل شخصي وخيار فردي» هو طريق من الكثير من الدين إلى القليل منه. لقد تراجع الدين في أوروبا والمجتمعات الاستيطانية التي تفرعت عنها بشكل كبير بين القرون الوسطى والقرن العشرين سواء في سلطتها أو في احترام الناس لها أو في رواجها بينهم.
هذه هي الرواية التي تكمن خلف وجهة النظر العلمانية، وخلاصتها أن الأديان التي كانت يوماً ما مركزية اجتماعيّاً أصبحت الآن مؤسسات تطوعية إلى حد كبير، وجزءاً متراجعاً من الحياة حتى الحياة الخاصة[4].
إذا أردت أن أذكر نموذجاً واضحاً على هذا فليس عليَّ إلا أن أنظر إلى عائلة زوجتي: فقد كان والدا أبيها مؤمنين بحرفية الكتاب المقدس، وكانا يعتقدان بـ«الاختطاف» ـ أي أنه في نهاية الزمان سيؤخذ المسيحيون الأتقياء جسديّاً إلى السّماء وسيخلفون العصاة خلفهم. ويروي لنا أبوها كيف أنه عاد إلى البيت مرة وهو ولد صغير ولم يجد أحداً فيه ـ وهو أمر لا يكاد يحصل في عائلة من المزارعين ـ فحسب أن «الاختطاف» قد حصل وأنه كان أحد أولئك الذين لم يخلصوا! كانت نتيجة تجربته هذه أنه وبعد بلوغه ترك هذه المجموعة الدينية وأصبح مشيخيّاً ليبراليّاً، واليوم نرى أن أولاده وأحفاده جميعهم علمانيون بل ويسخرون من «المؤمنين الحقيقيين» من ماضي عائلتهم!
ليس لدي المساحة كي استكشف الكثير حول هذه المسألة هنا، ولكن لقصة العلمنة نسخ عديدة. تشدد إحدى هذه النسخ على تشظي الحياة الاجتماعية بينما يقوم أفراد ومؤسسات بأدوار متخصصة وتتزايد في تخصصها بتولي مهام محددة كانت قبلاً تعد من واجبات الكنيسة. فحل مكتب الضمان الاجتماعي محل صندوق الفقراء، وعالم النفس محل المستشار الرعوي، والمستشفيات محل مضايف المرضى التي تديرها الكنيسة. ورغم أن صندوق الفقراء والمستشار الرعوي والمؤسسات الكنسيّة والدينيّة لا تزال موجودة إلا أنّها لم تعد تهيمن على مجالات عملها بالكامل كما كان الأمر في الماضي (أنظر دوبلآيره 2002).
تشير نسخة أخرى إلى أن المجتمعات صغيرة الحجم قد فقدت قوتها أمام المنظمات كبيرة الحجم في كل مكان في العالم، وقد عانى الدين ـ الذي كثيراً ما كان يرتبط مع الحياة في المجتمعات المحلية ـ نتيجة تآكل هذه المجتمعات إذ لم يعد من الممكن للدين أن ينافس محطات التلفاز القومية والرياضة بمختلف أشكالها والسياسة وأشكال الترفيه العام الأخرى. سمى بريان ويلسون (1982: 154 وما بعدها) هذه الظاهرة: «التحول المجتمعي» (societalization) وزعم أنها تشكل توجها اجتماعيّاً مهمّاً.
وكذلك يوجد انحسار في الإيمان الديني الفردي، فالكثير ـ وربما معظم ـ أعضاء الكنائس الأمريكية السابقين لا يمكنهم حتى أن يلخصوا المبادئ الأساسية لتلك الكنائس، وقد أظهرت الأبحاث أن عدد الأمريكيين الذين يصفون أنفسهم بأنهم دون ديانة تضاعف عبر العقد الأخير من الزمن. ومع أن أندرو غريلي بيّن الفرق في الخيال الديني بين الكاثوليكيين والبروتسنتيين، إلا أنه تقريباً توجد مجموعة دينية تمتلك تجانساً في معتقدها، ولم يعد من السر أن ما يعظه رجال الدين من على منابرهم كثيراً ما لا يمت بصلة إلى ما يعتقده الناس المستمعين إليهم في دور العبادة (روف 1999؛ هوت وفيشر 2002؛ غريلي 1989).
بحسب ما تقوله رواية العلمنة التعددية من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى هذا الانحسار في الإيمان الديني، فالعالم الحديث يجمع بين الكثير من الناس الذين يحملون الكثير من وجهات النظر المختلفة بخلاف الأزمنة السابقة حيث كان الناس محاطين بأناس آخرين يحملون المعتقد نفسه مما يقلل من إمكانية أن يقوم أي فرد في التساؤل حول صحة معتقدات المجموع. تقول نسخة «التعددية المتزايدة» من رواية العلمانية أنّ الأديان قد أصبحت مهددة نتيجة وجود وجهات نظر متغايرة حول العالم (بيرغر، 1969) وتقترح أنه بما أنّ وجهات النظر حول العالم هذه تتعايش وتتنافس مع بعضها بعضاً كبدائل قابلة للتصديق لبعضها بعضاً فهذا يقلل من مصداقية المجموع.
التغاير البنيوي والتحول المجتمعي والخصخصة وانحسار المعتقد هي أربع نسخ من نسخ كثيرة لرواية العلمنة، وجميع هذه النسخ تتنبأ أن نجم الدين سيخبو مع مرور الزمن.
تصاعد «الأصوليات»
لكن هذه ليست القصة الوحيدة التي تتحدث إلينا حول التغير الديني، فقد تحدت أحداث 11 أيلول 2001 الروايات العلمانية وبأشكال في غاية البساطة والأولية. فالإرهابيون الذين نفذوا هذه الهجمات مثلاً لم يكونوا مجرد سذج غير متعلمين يدافعون عن توجهات دينية قديمة (يورغنماير، 2001)، بل كانوا متشددين على درجة جيدة من التعليم، وكانوا يرون أنفسهم كمجاهدين في حرب مقدسة سترتقي بالإسلام إلى حقبة جديدة. يمكننا أن نقول الشيء ذاته عن منفذي الهجمات من الفلسطينيين، وكذلك عن المستوطنين اليهود شديدي التطرف الذين يحملون العقلية ذاتها وكذلك ينطبق الأمر على المسيحيين اليمينيين الأمريكيين المنتمين إلى الطبقة الوسطى. لم تتوقع الرواية العلمانية نشأة أي من هذه الصحوات الدينية التي تنطلق جميعها من سلوكيات وعقليات متشابهة.
دعونا نتأمل مثلاً في حالة صديقي لوك، وهو مسيحي تبشيري أصولي يكاد يكون مثالاً كاملاً على التطرف المعاصر لهذا التوجه الديني. ومع أنه طبيب على درجة ممتازة من التعليم إلا أنه يكاد لا يرى العالم إلا بعدسة الكتاب المقدس، فهو لا يرى أن له أي مهمة في الحياة إلا نشر تعاليم الإنجيل، بالطبع فهو لا يفعل هذا بالقوة بل بالحوار الهادئ، ولكن بالإضافة إلى حديثه التبشيري مع أمريكيين آخرين فهو يذهب إلى غواتميالا كل سنة ليقدم العناية الصحية المجانية وينشر كلمة الإله فيها.
رغم أن لوك صاحب شخصية منفتحة وجذابة إلا أنه يحمل بعض الآراء المتشددة، مثل اعتقاده بأن كلمات الكتاب المقدس بحرفيتها كلها صحيحة، وتتضمن نتائج معتقداته قيامه بتعليم أولاده الثمانية في البيت حتى لا يختلطوا مع المجتمع المدنس بالخطايا الذي يعيشون فيه، وقد تقاسم هو وزوجته الأدوار في المنزل بطريقة في غاية التقليدية وشعرا بسعادة غامرة حين قررت ابنتاهما الكبرى فعل الشيء ذاته حين تزوجت وهي لا تزال صغيرة في السن. يعتقد لوك أن الأديان في اتجاهات مؤسساتها العامة لينة زيادة عن اللزوم وأنها أضاعت البوصلة في عالم الإغراءات والبلايا المعاصر. وفوق كل شيء آخر فلوك يرى أن الخلاص لا يأتي إلا من خلال علاقة شخصية مع يسوع المسيح، فهو قلق على خلاص الآخرين ولكنه واثق تمام الثقة من خلاصه الشخصي.
لوك ليس وحده في الحياة الأمريكية، فقد أصبح التبشيريون المنتمون إلى الطبقة الوسطى أسرع مجموعة دينية من حيث نموها في المشهد الأمريكي عبر العقود الأخيرة الماضية (كيلي 1972)، وبخلاف الأصولية الدينية التي شهدتها عشرينيات القرن الماضي، هذه المجموعة ليست مجرد ظاهرة منحصرة في المناطق النائية من البلاد، فهؤلاء الأصوليون الجدد يعانقون التعليم الحديث ولكن تحت ظروف مسيطر عليها بعناية، ويستخدمون وسائل الإعلام العصرية لنشر رسالتهم، ويرون أنفسهم على أنهم سور حماية أمام عالم ضل صراط الصواب، ويهدفون ـ وكل واحد يسعى لهذا الهدف بطريقته ـ إلى تصحيح مسار العالم.
أما الأصوليون المسيحيون الأفريقيون فلا يختلفون كثيراً، وعادة ما ينجذب بعض أفضل الناس تعليماً في القارة إلى هذه الجماعات «المحافظة» دينيّاً، وعادة ما يؤمنون بالأشياء عينها التي تقول الرواية العلمانية أنها أبعد الأشياء تصديقاً عن عالمنا المعاصر بما في ذلك كلمات الكتاب المقدس بحرفيتها واليوم الآخر القادم و «الاختطاف» الذي أشرنا إليه لاحقاً بالإضافة إلى تجربة الروح القدس بطريقة مباشرة (جينكينز، 2002). أما اليهود شديدو التطرف و «الأصوليون» الإسلاميون فلا يقلون جدية عن نظرائهم المسيحيين في تعاملهم مع نصوصهم الدينية الأساسية، وفي الواقع تصر الفئتان على أن القانون الديني هو الذي يبنغي أن يحكم سائر أوجه الحياة اليومية، وليس فقط حياتهم هم اليومية بل حياة الآخرين أيضاً. ولكن المنتمين إلى هذه الفئات أبعد ما يكونون عن كونهم غير متعلمين، ولكنهم رفضوا في الواقع الأدوار التي تفرضها الحداثة عليهم واختاروا هويات أصولية متشددة لأنفسهم بدلاً من ذلك.
إن الرواية التي قصصتها هنا، أو قصة كون الأديان قد أصبحت أكثر أصولية في الواقع، هي الرواية الشائعة بين الصحافيين وعلماء السياسة، ولكنها لم تلق الرواج ذاته بين علماء الاجتماع أو الباحثين في الدراسات الدينية، ويعود هذا لسببين على الأقل: الأول هو أننا لا يمكن لنا أن نقول عن كل هذه الجماعات أنّها أصولية، على الأقل بالمعنى المتعارف عليه (أنظر مارتي وآبلبي، 1991)، فالأصوليون الحقيقيون يتبعون «الأصول»، أي وجهة نظر لاهوتية بروتستانتية تركز على حرفية الكتاب المقدس والاختطاف إلخ، وعلى هذا الأساس لا يمكننا أن نعتبر أي مسلم أو هندوسي بأنه «أصولي». أما السبب الثاني فهو أن هذه الرواية تزج بمجموعات غير متسقة ولا متوافقة تحت عنوان عريض واحد يستر الحقائق أكثر من كونه يكشفها، فالناس المنتمون إلى هذه الجماعات أصحاب أغراض شتى: البعض يسعى إلى خلاص شخصي من خلال الانضباط الديني، والبعض يسعى نحو دين يصحح انضباط المجتمع ويزيل عنه رزاياه. ومع أن الكثير من هؤلاء الذين يصفون أنفسهم بأنهم محافظون يدعون إلى العودة إلى «أيام زمان الجميلة» حيث كان من المفروض أن الدين يقدم الدفة المتينة التي تشق عباب عواصف الحياة، إلا أنهم لا يجدون أي مشكلة في استخدام أحدث أنواع التكنولوجيا للدعوة إلى رسالتهم.
ما يوحد كل هذه التوجهات سواء كانت مسيحية أم تنتمي إلى ديانة أخرى، وسواء كانت شخصية أم ناشطة اجتماعيّاً هو طائفية كل واحدة منه، فجميع هؤلاء الناس يقعون ضمن حدود التعريف الكلاسيكي للطائفيين: الناس الذين يرفضون «العالم» بما أنّه شرٌّ ويعتقدون أن ديانتهم هي الممر الوحيد إلى الحقيقة. لقد أخبرتنا الرواية العلمانية أن هذا النوع من التدين سيختفي مع انتشار مجتمعات متمدنة ذات تمييز وظيفي واضح، وتستمد قصة «طلوع الأصولية» مصداقيتها من حقيقة كون هذا النوع من التدين لم يتلاشَ أبداً، بل على العكس: لقد أصبح الطائفيون المعاصرون ناشطين سياسيّاً وعلى أكثر من قارة في كرتنا الأرضية، وقد انتقل رفضهم «للعالم» من الانسحاب والتقوقع على النفس إلى الهجوم السياسي الذي يفترض أنه يهدف إلى الإصلاح الاجتماعي.
لذلك يمكننا أن نعيدَ تسمية قصتنا هذه: «صعود الطائفية المسيسة» ونَقُصَّها على النحو التالي: أولاً: تعترف هذه القصة بالميول العلمانية التي تحملها الحداثة، ولكنها تقول أيضاً أن هذه الميول لا تؤثر إلا على أقلية من الناس في العالم، وخاصة الطبقة المثقفة اليسارية الليبرالية التي (يتوهم الطائفيون أنها) تسيطر على مفاصل السلطة في الغرب. تقول القصة أن الطائفية المسيسة تنشأ في مكانين: حيث تخل الحداثة بوسائل الحياة التقليدية لمجتمع ما إذ تبرز هذه الطائفية كحركة تعيد لأصول هذه الحياة التقليدية حركتها مقدمة للناس هويات جديدة يجابهون بها ظروفهم المتغيرة. إن التحول إلى «أصولي» (أو خمسيني (Penkecostal) أو يهودي شديد التطرف أو مسلم متشدد) يتيح المجال أمام الفرد كي يعبر عن معارضته للتغير الاجتماعي مع الحفاظ على قدرته على إيجاد نوع من التكيف مع ذلك التغير. لقد تعرف علماء الأنثروبولوجيا على حركات إعادة الحيوية هذه منذ زمن بعيد (والاس 1956، 1970)؛ ولكن النسخ الجديدة من هذه الحركات أوضح من أن تخبأ في هوامش المجتمع.
تتحدث القصة أيضاً عن الأصل الثاني، وهو الذي يركز على الجانب الشخصي بدلاً من الاجتماعي، ويبدأ من استبصار دوركهايم لحقيقة كون المجتمع الحديث لديه قوانين مختلفة في النوع وأقل في الكم من المجتمع القديم التقليدي. إنّ ما يجمع الأصوليون في شتى أطيافهم هو تقديسهم للقوانين، بدءاً من الحظر الذي تفرضه الكنيسة المعمدانية على الرقص إلى القواعد الدينية اليهودية حول ما يجوز أكله وما لا يجوز إلى الشريعة الإسلامية بتفاصيلها المعقدة. من حيث وجهة النظر هذه فمن أدوار هؤلاء الأصوليون هو كونهم حواجز أمام الانحلال الأخلاقي، وهم يوفرون القوانين لأناس لا يشعرون بالارتياح في ظل غيابها. يتطابق هذا مع حالة صديقي لوك، وهو أمر لا يتردد أبداً بالاعتراف به، فهو يقول أن إيمانه يقويه من حيث ما يمنعه من القيام به بقدر ما يقويه من حيث ما يعده به من خلاص.
إذن فقصة صعود الطائفية المسيسة مرتبطة مع العمليات الاجتماعية الكامنة خلف الحداثة وبالدرجة نفسها هي مرتبطة بالرواية العلمانية. وبينما يمكننا قراءة القصة العلمانية بأنها تراجع الدين كنتيجة لتزايد تقسيم العمل الذي تقتضيه الحداثة وتركيزها على القومي بدلاً من المحلي وتركيزها على الفرد وكذلك إصرارها على التعددية، يمكننا أن نقرأ قصة صعود الطائفية على أنها صعود ردة على تدمير الحداثة لطرق الحياة التقليدية وطبيعة العالم الحديث الخاوية من القوانين. إن جوهر القصة يقول أنّ الدين الطائفي يتعلق بالهوية ويقدم أرضاً صلبةً بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يثقون بالعالم الحديث ويرون أنه متجه نحو الجنون.
إعادة الترتيب الديني
لقد وصفت الروايتان السابقتان حالتين متناقضتين من انحسار دور الدين وتصاعده، أما قصتنا الثالثة فتتحدث عن تغيير الدين لشكله، فتزعم أنه وبالرغم من أن دور الدين يضعف على المستوى الوطني إلا أنه أهم من أي وقت مضى على المستوى المحلي، وينطبق هذا السيناريو بشكل خاص على الولايات المتحدة التي لطالما ركز مواطنوها حياتهم الدينية ضمن رعيات محلية بدلاً من كنيسة موحدة مؤسساتية. إذن تخبرنا هذه الرواية عن قصة إعادة ترتيب ديني، وهي قصة ذات مصداقية في المشهد الأمريكي لا تقل عن نظيرتها حول الانحسار الديني في المشهد الأوروبي.
أشار ستيف وورنر إلى أنّ أوروبا ظلت تقليديّاً منطقة مؤلفة من قرى تسيطر على كل واحدة منها كنيسة موحدة كانت هي النقطة المركزية التي تنطلق منها كل من الحياة الدينية والثورات الدينية. أما الولايات المتحدة وبخلاف ذلك فقد حوت ولزمن طويل أكثر من كنيسة واحدة لا يمكن لأي منها أن تحكم سيطرتها على المستوى المحلي ناهيك عن المستوى الوطني. بالإضافة إلى ذلك فقد كانت هذه الكنائس تنتطم عادة كرعيات محلية، وإذا استثنينا أوائل السنوات الاستيطانية في البلاد فلم يكن للولايات المتحدة كنيسة رسمية للدولة قط مما جعل الدين أمراً اختياريّاً، فانضم الأمريكيون إلى كنائس متعددة وتركوها للأسباب الشخصية المتعددة التي تجعل الناس يفعلون أي شيء آخر، وبالدرجة الأولى كانت الخيارات تعتمد على قدرة الرعية المحلية على تلبية الاحتياجات الدينية (وارنر 1993، 1997).
الأمر ذاته صحيح اليوم، فالأمريكيون ينضمون إلى جماعات دينية ليس على أساس ولاء لطائفة معنية بل كنوع من الارتباط مع رعية محلية. لا يتعلق التوصل إلى «التجمع الديني الصحيح» بمطابقة المنطلقات اللاهوتية التي تدين بها المجموعة مع معتقدات الفرد الشخصية، بل تتعلق بالعثور على تجمع ديني يجد الفرد الأنماط الاجتماعية التي يتبعها ملائمة له. «تسوق الكنائس» من الممارسات الشائعة حين ينتقل الناس إلى بلدة جديدة، بل كثيراً ما تجد الكنائس في المدينة التي أقيم فيها تقدم كتيبات تبين أفضل مزاياها، وعادة ما تكون المعاملة الودية في مقدمة هذه المزايا، أما المبادئ اللاهوتية فإذا ظهرت في هذه الكتيبات أصلاً فإنها تظهر في مكان بعد الودية بكثير.
تتزايد أهمية هذه الرعيات في الحياة الدينية الأمريكية، وتناقص الانتماء إلى الطوائف الكبيرة بحمل من خلفه زيادة الانتماء إلى الرعيات المستقلة بمختلف أحجامها، والتي لا تفتأ عن اجتذاب المزيد من الأتباع. تتفاوت أعداد أتباع هذه المجتمعات بين عدة عائلات وكنائس عملاقة تضم آلاف الأتباع وعادة لا ترتبط مع المؤسسات الدينية الوطنية، بدلاً من ذلك ترحب هذه التجمعات بكل من يأتي إليها وتقلل من أهمية تميز معتقداتها اللاهوتية وتركز على تقديم مجتمع دافئ ودود.
يتخذ المجتمع أشكالاً كثيرة كما أظهر علماء الإثنوغرافيا المهتمين بالتجمعات الدينية مؤخراً (مثل آمرمان 1987؛ دافي 1995؛ تويد 1997؛ وارنر، 1988). بعض علماء الإثنوغرافيا هؤلاء ركزوا على المهاجرين وبينوا كيف أن التجمعات الدينية تعطي المهاجرين رابطاً مع بلادهم السابقة وفي الوقت ذاته موطأ قدم في أمريكا (إيباو وشافيتز 2000؛ وارنو وويتنر 1998). فقد قام المهاجرون الفيتناميون في هيوستون، تكساس، مثلاً ببناء معبد بوذي ضخم يلعب دور مركز ديني واجتماعي للوافدين الجدد. تحتوي مدينة سانت أنطونيو، تكساس، التي أعيش فيها مراكز شبيهة بذلك للمهاجرين من لبنان ومصر وروسيا والمكسيك والهند والصين وهكذا دواليك. كذلك توجد تجمعات دينية إثنية لمهاجرين أقدم من اليونان وبولندا والتشيك على سبيل المثال لا الحصر.
إذا كانت رواية إعادة الترتيب صحيحة فلن ينطبق هذا على ديانات الفئات المهاجرة فحسب، بل على الديانات في أمريكا عموماً. ما السبب الذي قد يجعل المحلية الدينية تحمل هذه الأهمية اليوم؟ تنظر الرواية العلمانية إلى اتجاهات اجتماعية كبرى لتتنبأ بمستقبل الدين، ولكن ماذا يمكن لرواية إعادة الترتيب أن ترى؟ حتى اللحظة لم تقم مجموعة من الباحين بمعالجة تفاصيل هذا، ولكن إليكم رواية واحدة ممكنة حول ما يجري.
كان أحد التغيرات الاجتماعية التي شهدها القرن الماضي هو نمو المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية ذات الحجم الضخم والتي تلعب أدواراً متزايدة الأهمية في حياة الفرد، وأطلق على هذه الظاهرة أسماء متعددة مثل «المجتمع الجماعي» و«التحول المجتمعي» و«العالم المعولم الجديد»، وقد وسع هذا النظام الاجتماعي حيِّز وصول الحكومات والمؤسسات الصناعية الكبرى والشركات التجارية وكذلك حدَّت من شعور الأفراد بقدرتهم على التحكم بمصائرهم، وكانت النتيجة هي انسحاب الأفراد نحو عوائلهم وأصدقائهم كمصدر للدعم والهوية: أي الرجوع إلى «البيئة المحلية» كملجإ وخاصة في أوقات المتاعب، ويقف التجمع الديني بجانب العائلة ليوفر الدعم الشخصي والروابط الاجتماعية الحميمة ـ أي كمركز للعاطفة الدينية إذا ما استخدمنا مفهوم دانييل هيرفيو ـ ليجير (تشامبيون وهيرفيو ـ ليجير، 1990). إن نمو المجتمع الجماعي يجعل هذه الروابط الشخصية في غاية الأهمية ولذلك يصبح الدين في تجليه المحلي مهماً بشكل متزايد على المستوى الاجتماعي.
رغم أن تفسير علم الاجتماع لإعادة الترتيب الديني يظل نظريّاً ولكنه يدعم بعض «نسخ» الرواية العلمانية، وكذلك فهو يتعارض مع نسخ أخرى، إذ يمكن له أن يتوافق بسهولة مع مسائل التمايز المؤسساتي والخصخصة بما أن هذه العمليات الاجتماعية تكمن خلف التطور الاجتماعي الجماعي. لكنها لا تستنتج أن ازدياد التحول المجتمعي تؤدي بالضرورة إلى تراجع دور الدين بل على العكس تماماً، فالمحلي يصبح في هذا السياق أشد أهمية بينما تتنامى المؤسسات الضخمة، وهذا التفسير لا يفترض أن نمو المجتمعات الجماعية يقلل من الإيمان الديني لأنه لا يرى أن الإيمان من الركائز الأساسية لقيام حياة تجمعية دينية. هذه الرواية تقول أنّ الانتماء الديني يلعب دوراً أهم بكثير في فهم الاتجاهات الحالية.
الفردية الدينية
تتحدث الرواية الرابعة أيضاً عن إعادة هيكلية دينية، ولكن ليس من مستوى تنظيمي ومؤسساتي معين إلى مستوى آخر، بل تتحدث هذه القصة عن انزياح جوهري في مركز الدين من المنظمات والمؤسسات إلى الأفراد. أسمي أنا هذه القصة: الفردية الدينية، وتخبرنا أن الأفراد الآن ينتقون من بين الخيارات الدينية المتعددة ويشكلون لأنفسهم حياة دينية «مصنوعة حسب الطلب» بدلاً من اختيار رزمة من المعتقدات صاغتها هرمية روحية تنتمي إلى ديانة معينة.
تخبرنا هذه القصة أنه في الماضي كانت الأديان ترتكز على مؤسسات رسمية مثل الكنائس والمعابد والمساجد إلخ وأن انتماء الناس إلى أي من هذه المؤسسات معروف من خلال معتقدات كل واحد منهم وتصرفاته، فمثلاً كان من الممكن لك أن تتوقع من الكاثوليكي أن يؤمن بالثالوث المقدس ويحضر القداس ويعظم القديسين ويأكل السمك أيام الجمعة؛ كما كان من الممكن لك أن تتوقع من المعمداني المحافظ أن يقرأ الإنجيل يوميّاً وأن يصلي بطريقة معينة ويؤمن بالخلاص الشخصي ويتجنب الرقص وشرب الخمر. وما يعنيه هذا هو أنه كان من الممكن لك أن تجد مطابقة جيدة بين موقف الكنيسة الرسمي والأنماط السلوكية التي يتبعها الأفراد المنتمون إليها.
لكن الحاضر الديني بحسب توصيف هذه الرواية مختلف تمام الاختلاف، فقد تنامى التنوع الديني وليس فقط بين الكنائس بل أيضاً ضمن الكنائس، وبعد أن كان الأفراد يتقبلون ما يخبره به قادتهم يوماً ما نراهم اليوم يطالبون بحق تقرير صحة الأشياء من عدمها بأنفسهم، ويتضمن هذا المعتقدات الجوهرية كما يتضمن الفروع التفصيلية، ولا يشعر الكثير من هؤلاء الأفراد بأن عليهم تغيير مجتمعاتهم الدينية إذا تغيرت وجهات نظرهم الدينية.
يدعم مقدار كبير من الأدلة صحة هذه القصة، فالأفراد اليوم لم يعودوا يؤمنون بكل شيء يخبرهم به قادة كنيستهم ليس هذا فحسب، ولكن ظهر تنوع كبير في المعتقدات والممارسات الدينية ضمن عدد كبير من الكنائس كانت ستعتبر في الماضي ضرباً من الهرطقة. من الأمثلة على ذلك الدراسة التي أجرتها جودي ديفي (1995) على مجموعة نسائية مشيخِيَّة تدرس الكتاب المقدس، في هذه الدراسة وجدت ديفي أن النساء اللاتي قابلتهن يحملن الكثير من المعتقدات التي تتعارض تمام التعارض مع عقائد طائفتهم الجوهرية، ولكن النسوة في المجموعة وجدن هذه المعتقدات ذات معنى عميق بل ومركزي بالنسبة إلى معتقداتهم الدينية الشخصية. كما أنهن ساندن استقلالية بعضهن بعضاً الدينية، بل حتى رجال الكهنوت في الكنيسة التي انتمين إليها كانوا يدعمون هذه النزعة الدينية التوفيقية لديهن، سائلين إياهن أن يربطن المعاني الدينية الفردية التي توصلن إليها مع التقليد المشيخي بدلاً من القبول الأعمى لما يقدمه ذلك التقليد. أما دراسة ميريديث مغواير (1988) حول الشفاء غير الطبي فقد وجدت نزعة دينية توفيقية مشاهدة كما وجدتها أنا أيضاً في دراستي غير المنشورة حول الرعية الدينية الأسقفية. كذلك سجل كلارك روف (1983) هذه النزعة التوفيقية بين جيل الأمريكيين الذين ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية، قائلاً بأنه من الأفضل اعتبار معظم مواليد ذلك الجيل كـ «ساعين خلف الدين»، أي أنهم يسعون خلف حياة روحية ثرية بدلاً من حياة دينية تعرفها طوائف معينة أو رعياتها. وقد وجدت دراسات أخرى أنماطاً مشابهة في بلاد أخرى.
لكن حالة الكاثوليكيين الأمريكيين مختلفة بعض الشيء، وقد أرجع أندرو غريلي التراجع الكبير الذي شهده الحضور في الكنائس والمساهمات المالية بينهم في منتصف سبعينيات القرن الماضي إلى اعتراض عامتهم على موقف الفاتيكان المتشدد من وسائل منع الحمل، ولكن بالرغم من ذلك وكما يقول غريلي يظل الكاثوليكيون مخلصين لدينهم، ولكنهم فقط لا يحبذون الطريقة التي تقوم فيها هرمية ذلك الدين بتعريفه لهم (غريلي وماكمانوس 1987). كذلك فالفضائح الأخيرة التي وقع فيها أعضاء في الإكليروس سرعت هذا التوجه إذ وضعت هرمية الإكليروس وجهاً لوجه مع عموم الأتباع، وقد ذهب الناشطون الاجتماعيون الكاثوليكيون الذين درستهم إلى أبعد من هذا في تعريف عقيدتهم، فقد قال أشدهم راديكالية أنهم هم ـ وليس هرمية الإكليروس ـ من يحمل الإرث الكاثوليكي الحقيقي (سبيكارد 2003؛ مغواير وسبيكارد 2003).
ترى رواية الفردية الدينية أن التطورات في كل من الكنيستين البروتستنتية والكاثوليكية أمثلة على استقلالية المؤمنين المتدينين المتزايدة، فلم يعد الدين الفردي يعكس رزمة من المعتقدات والممارسات التي تعرفها المؤسسة الدينية، بل يبني الأفراد معتقداتهم من عناصر كثيرة ومتباينة قد لا تكون محدودة بتراث ديني واحد. تقترح نانسي آمرمان (1997) أن هذا الجهد لبناء حياة ذات معنى روحي عميق هو جزء من حالة ما بعد الحداثة: أي أنها جانب مركزي من تشكيل الفردية في زمننا المعاصر، ولهذا فالفردية الدينية هي النتيجة الطبيعية لما ذكرناه.
ليست هذه ظاهرة أمريكية فحسب، وجد هامبيرغ (1992) وريس (1994) أنماطاً مشابهة في البلدان الإسكندنافية وكذلك فعل هيرفيوـ ليجير (1986) في فرنسا، وقد أظهر هيرفيو ـ ليجير بالفعل كيف أن الأفراد لم يعودوا يشعرون بالحاجة كي يكيفوا أنفسهم مع الكنائس القائمة، بل يمارسون بدلاً من ذلك «تديناً بالهوية» لا تهم فيها العقائد المتبناة مؤسساتيّاً كثيراً بحياة الأفراد. وخلاصة الأمر أن الكثير من الأدلة تدعم صحة هذه الرواية كما تدعم أدلة أخرى كثيرة صحة الراويات الأخرى التي ناقشتها.
ولكن توجد بعض المشاكل في هذه القصة، فهي تقدم على أنها صورة عامة للتغير الديني، والأهم من ذلك أن تصويرها للماضي الغربي غير دقيق، فليس من الصحيح أنه وفي زمان ما كان الناس يتقبلون آراء قادتهم الدينيين وكأنها آراؤهم الشخصية، فقد لاحظت ميريديث مغواير (2000، دراسة ستصدر قريباً) أنه وحتى قبل إصلاحات القرنين السادس والسابع عشر كان المعتقد الشخصي المسيحي في أوروبا مبنيّاً إلى حد كبير على نزعة توفيقية، وقد كان أمام الأفراد لائحة كبيرة من الممارسات الدينية اليومية التي كان بإمكانهم قبولها أو رفضها، عدد كبير من القديسين الذين كان يمكنهم أن يختاروا الاحتفال بهم أو يهملوهم، وقد ركزت نظرة كل من النخب والعوام على الممارسات الشعائرية بدلاً من المعتقدات التقليدية، وطالما التزم الأفراد ببعض الممارسات والشعائر الأساسية مثل التعميد وفرائض أيام الأسبوع المقدس فقد كان أمامهم الكثير من الخيارات بالنسبة لما يمكنهم فعله في واجباتهم الدينية. وقد كان المسيحيون قبل الإصلاح الديني كثيري الشبه بالهندوس والبوذيين في جنوب آسيا من حيث سعة الآفاق التي يمكن أن تعطى للأفراد ليصنعوا حياتاً ذات معنى بالنسبة إليهم.
من هذه الزاوية يمكننا إعادة صياغة رواية «الفردية الدينية» بعض الشيء، فلربما لم تكن الفردية الدينية النتيجة الطبيعية للحداثة الجديدة كما زعم بعض المراقبين مثل توماس لوكمان (1967)، بل لربما لم يحصل شيء إلا أن عاد التوازن إلى التوفيقية الدينية والتسامح العقائدي بعد أن كان التركيز على المركزية الدينية والحدود الضيقة التي فرضتها عملية الإصلاحات الدينية.
على جميع الأحوال فرواية النزعة التفردية الدينية تعكس إلى حد ما ما يحصل للدين في العالم الحديث، وكما هو الحال في روايات العلمانية والأصولية وإعادة الترتيب فهي تصف قطعة مما يحصل وتركز على حقائق لا تتنبه إليها القصص الأخرى لكن لا تقدم أي من هذه القصص إجابات تامة وكاملة عن السؤالين الجوهريين: «ما الذي يحدث للدين اليوم؟» و«كيف سيكون الدين خلال السنوات القادمة؟»
جانب العرض من الأسواق الدينية
أما الرواية الدينية الخامسة فتزعم أنها تجيب عن الأسئلة بشكل كامل مع تقديم نظرية عامة حول كيفية عمل الدين في جميع الأزمنة والأمكنة. تبدأ هذه الرواية من فكرة مفادها أن الكنائس والمؤسسات الدينية غير موجودة بمعزل عن المجتمع، بل هي تتنافس على «زبائن» في «أسواق دينية»، وقد تتألف هذه الأسواق من مئات من «المؤسسات التجارية» المتنافسة ـ أي كنائس صغيرة تحاول أن تجتذب أكبر عدد من الأتباع، أو قد تتألف من كنيسة واحدة أو عدد قليل جدّاً من الكنائس الكبيرة التي تحمل احتكاراً على الحياة الدينية. تفترض هذه القصة أن «الطلب» على «السلع الدينية» موجود وثابت دائماً، وأن ديناميكيات الحياة الدينية هي مجرد حالة خاصة من ديناميكيات جميع أنواع سلوكيات السوق، وإذا كان أحد ما عنده بعض المعرفة بصفات «المؤسسات التجارية» الدينية وبنية السوق الديني الموجود فسيكون قادراً على التكهن بأي مستقبل ديني محدد ذي معنى.
كان أبرز من طبق هذه الطريقة تاريخيّاً هما روجر فينكه ورودني ستارك في كتابهما «صنع الكنائس في أمريكا 1776 ـ 1990» (1992) (The Churching of America) حيث استخدم المؤلفان إحصائيات الانتماء إلى الكنائس بشكل مبدع وتتبعا نشأة وسقوط عدة طوائف بروتستنتية أمريكية عبر القرنين الماضيين. بخلاف أوروبا التي تمتلك تاريخاً طويلاً من الكنائس المدعومة من الدولة ظلت الولايات المتحدة «سوقاً حُرَّةً» للدين نسبيّاً، فالكنائس والمؤسسات القادرة على اجتذاب أتباع تزدهر أما التي تعجز عن ذلك فتضمحل وتتلاشى. وضع فينكه وستارك جدولاً يسجل نمو عدة كنائس مثل الجماعاتية والمنهجية والمعمدانية وطوائف أخرى ومن بعد ذلك تراجعها وانحسارها ـ ازدياد «حصة السوق» التي تنالها كل كنيسة مع استغلالها «لفتحة في السوق» ومن بعد ذلك تراجعها إذ تحرر مبادئها اللاهوتية لتتوافق مع العالم. إن القصة من وجهة نظر المجموعات التي تقوم بـ«العرض» بسيطة نسبيّاً: الكنائس «الناجحة» (أي التي يتنامى عدد أتباعها) هي التي تركز اهتمامها بالآخرة وتدعو إلى «الديانة القديمة»، ثم تضمحل الكنائس إذ تحاول «الترقي في السوق» من خلال دعوة النخب الليبرالية بدلاً من الجماهير المحافظة. الاحتكار الديني يقلل المشاركة الدينية لأن رجال الدين عندها لا يعتمدون على «بيع منتجهم» لتحصيل لقمة عيشهم، وهذا يفسر الانحسار الديني في أوروبا، فلطالما هيمنت كنيسة الدولة على أسواق أوروبا الدينية.
ماذا إذن توصي هذه الرواية القادة الدينيين الذين يريدون الحفاظ على قوة كنائسهم ومؤسساتهم؟ بحسب ما قاله ستار وفينكه (2000) فالخطوة الأولى هي إزالة الرقابة على السوق الديني والثاني هو التركيز على الغيبيات، فزوال الاحتكار الديني كما تقول هذه الرواية سيزيد من عدد المنتمين إلى الكنائس والحاضرين فيها بما أن عدداً أكبر من الناس سيجدون كنائس توفر لهم احتياجاتهم الخاصة. قد لا يود الجميع باتباع دين «ميتافيزيقي» ولكن بعض الناس يودون ذلك بكل تأكيد وهذه الشريحة وغيرها ستظل بعيدة عن الكنائس حتى يقدم لهم «السوق الديني» غير المقيد بالضوابط القدرة على الوصول إلى نوع العبادة التي يريدونها. ينطبق الشيء ذاته على متبعي الكتاب المقدس بحرفيته، والمتصوفة الروحانيين، والمتعقدين بالسحر (الويكا) ومحبي الطقوس والشعائر. يزيد «السوق الديني الحر» من عرض «المنتجات» الدينية وهذا بدوره يزيد «التجارة الدينية» بشكل عام. لكن وكما يقول فينكه وستارك معظم الناس يريدون «ديناً قديماً» يعدهم بالخلاص الأخروي ويقدم لهم إجابات مؤكدة حول مشاكلهم الدنيوية والروحية، ويزعم تحليلهما لتوجهات عضوية الكنيسة أنه يظهر تفضيلاً عابراً للثقافات، للأديات الغيبية الماورائية التي تقدم لمتبعيها رؤية عن «حياة أبعد من هذه الحياة»، وتوفر البيانات التاريخية بعض الدعم لهذه المزاعم، وكذلك فتنامي الطوائف التبشيرية والأصولية والخمسينية (بما في ذلك عدة حركات تجديد تتضمن مقداراً كبيراً من الكاريزما) بمقابل تراجع الانتماء إلى الكنيسة البروتستنتية الأمريكية الرئيسية كلها ظواهر تتماهى بشكل جيد مع هذا النمط.
ليس لدي الكثير من المساحة هنا لأقول المزيد عن هذه الرواية، ولكنها أثارت الكثير من الانتقادات المفحمة والطعن العنيف في صحتها (أنظر كارول (1996) ويونغ (1997) وسبيكارد (1998). لقيت هذه القصة البسيطة (وبساطتها هذه هي نقطة قوتها) شعبيةكبيرة بين علماء الاجتماع الشباب، ولكنها ولدت مفاهيم أكثر من كونها ولدت فهماً جوهريّاً لحقيقة الأمر، وربما كان سبب ذلك أن معظم الدعاة إليها لا يمتلكون الكثير من الخبرة في الثقافات الدولية، ولا يجب لأي قص للروايات الدينية أن يهمل هذه الخبرة.
الدين في سياق العولمة
لو كتبت هذه المقالة قبل بضع سنوات لتوقفت هنا، فالروايات الخمس السابقة جميعها راسخة الحضور في دوائر علماء الاجتماع، أما هذه الرواية السادسة فليست كذلك، وليس لأن دعاتها مغمورن بل لأنها لم تصبح قصة عن الحياة الدينية المعاصرة إلا قبل فترة وجيزة، وحتى الآن لم تتعد كونها موضوعاً أو مقاربة أو مجموعة عناصر يجب أخذها بالحسبان ولكن لا قصة تامة.
لقد صنع بيتر بايير في مجموعة من منشوراته الأخيرة (1998، 2003a، 2003b، 1994) قصة حول الدين في سياق العولمة، وخطوط هذه القصة العريضة تسير كالآتي: كان في قديم الزمان مجتمعات كثيرة ومختلفة في العالم، وكان كل مجتمع يتضمن مجموعته الخاصة من الممارسات؛ بعض هذه الممارسات ساعدت الناس على الأكل، بعضها الآخر رتبت العلاقة الاجتماعية، وبعضها الآخر تعاملت مع الشؤون التي يمكن لنا اليوم أن نسميها «دينية». لا يعني هذا أن كل هذه الشؤون كانت «دينية» بحد ذاتها أو في ذاتها، فكما قال بايير (2003a: 334): «إن المفهوم الحديث لما هو ديني... ناتج عن (إعادة) بناء تاريخي حديث نسبيّاً شديد الانتقائية وغير خال من الاعتباطية». يذكرنا بايير أن «الدين» في جوهره «مفهوم»، أو عنوان لتسمية مجموعات مختلفة من التصرفات والأفكار، إلخ، ومفاهيم كهذه ليست ثابتة بل يتغير معناها في الأزمنة والأمكنة المختلفة. فهي باختصار بنى اجتماعية والعملية التي ينبني بها «الدين» هي الخطوة الثانية من قصة بايير.
بحسب رواية بايير، بينما وسع الغرب هيمنته السياسية والاقتصادية إلى أجزاء أخرى من العالم، وهي العملية التي نسميها وباختصار: «الإمبريالية» أو الاستعمار، سرعان ما جاء العلماء الغربيون إلى تلك الأصقاع، فرأوا أشياء بدت لهم وكأنها تشبه الديانات المسيحية التي برزت بعد الإصلاح، وسموا هذه الأشياء «أديانا»، فعلى سبيل المثال بنى العلماء الغربيون هؤلاء مفهوم «الهندوسية» كممارسة دينية موحدة بين المجموعة الكبيرة من أنواع التعبد في المعابد في الهند. كما بنوا مفهوم «الشامانية» كفكرة موحدة عابرة للثقافات يفهمون من خلالها الوسيلة التي تتفاعل بها الشعوب العشائرية مع عالم الأرواح. وقد حاول هؤلاء العلماء أن يبنوا وبالطريقة نفسها «ديناً» صينيّاً، ولكن الصينيين وبطريقتهم الفذة الفريدة ردوا الكرة إلى ملعب هؤلاء العلماء قائلين لهم أنّه ليس لديهم أيُّ «زونغ جياو» (حرفياً: طوائف اعتقادية)، وهي كانت نظرتهم إلى ما جلبه المبشرون الغربيون إليهم، والمفارقة هي أن ردة الفعل الصينية هذه رسخت تعريفاً عابراً للثقافات لـ«الدين» وهو مفهوم مبني على أديان الغرب، فكانت الصين الاستثناء الذي أثبت القاعدة.
بالإضافة إلى ذلك فقد افترض العلماء الغربيون وجود «محيط ديني» شمولي يمكن لجميع المجتمعات أن تستجيب له بطريقة ما، وقد رأوا أن هذا المحيط جوهري ـ لأن الديانة المسيحية زعمت أنها هي جوهر الحياة ـ وأن هذا المحيط متعال ـ لأن الديانة المسيحية زعمت أنها تتعالى على الحياة. وبسبب حروب الغرب الدينية وما أدت إليه في بلادهم أدخل الغرب الحرية الدينية في دساتير دولهم والدول التي استعمروها وحين خلف العالم العصر الاستعماري وراءَه أدخلت هذه الحرية إلى مختلف الوثائق الدولية: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وهكذا دواليك. وهكذا أصبحت النظرة إلى «الأديان» على أنها أكثر من منتج أوروبي بل على أنها من أساسيات الحياة التي لا يجب نكرانها. باختصار: مع أننا في يوم ما من الماضي كنا لا نملك تصوراً شموليّاً للدين، فقد أصبح لدينا واحداً الآن وهو نتيجة الإمبريالية السياسية والأيديولوجية الغربية، ولكنه استمر لفترة أطول من الأصل الذي انبثق منه، فالكل تقريبا اليوم يعتقد أن الدين جزء طبيعي من الوجود الإنساني.
تنطلق الخطوة الثالثة من قصة بايير من الموجات الارتدادية التي جاءت مع انحسار الإمبرايالية: الهجرات العالمية التي أصبحت من سمات العصر ما بعد الإمبريالي، وقد صار بإمكانك اليوم أن تجد نفسك جاراً لأي شخص من أي معتقد، فمجرد رحلة سيراً على الأقدام في شارع بريكستون في لندن ستضعك وجهاً بوجه مع أديان من شتى أرجاء العالم: مسلمون باكستانيون بجانب أتباع لحركة هاري كريشنا، ومسيحيون خمسينيون من نيجيريا بجانب يهود متشددين (سميث، 2000)[5]. ليست المسألة مجرد قدرة المرء على تغيير دينه عشرين مرة ضمن مسافة كيلومترين فقط إذا شاء ذلك، بل المسألة هي أن العولمة جمعت أناساً ما كان لهم أن يلتقوا بعضهم بعضاً في أي مرحلة سابقة من التاريخ، كما أن وسائل الإعلام جعلت مسألة العيش سوية تتجاوز ضرورة التواجد جسديّاً في مكان ما، فجميعنا يشارك مساحات في العالم مع أناس قد يتعارضون معنا جملة وتفصيلاً وبوسائل كنا يوماً ما نعتقد أنها مستحيلة.
إن لهذا الأمر نتائجه بالطبع، وخاصة بما أن جميع هؤلاء الناس يعتقدون اليوم أن لديهم «أدياناً»، وجميعهم يعتقدون أنه من حقهم أن يكون لديهم هذه الأديان، وجيمعهم يعتقدون أن هذه الأديان هي بطريقة ما جوهرية في تشكيل هوياتهم، بل وينطبق هذا على الناس الذين لا يؤمنون بأي دين: من حقهم ألا يكون لديهم دين، وعدم وجود دين لديهم جوهري في تشكيل هوياتهم وهكذا دواليك.
يقول بايير أن هذه التعقيدات الثقافية تجعل الدين في غاية الأهمية في عالمنا المعاصر، فقد أصبح وكأنه مدفع طليق، وصار بإمكان الناس وبحسب الظروف والنزاعات المحلية أن يستغلوا المزاعم الدينية للشمول الاجتماعي والإقصاء الاجتماعي، وصار من الممكن توظيف الأديان لإحلال السلام أو لتأجيج الحرب، وبخلاف روايتي العلمنة وتصاعد الأصولية فرواية بايير حول العولمة تقول أننا يمكننا مثلاً أن نتكهن أن الدين سيظل مهمّاً وبالضبط لأن تعريفنا «للمحيط الديني» جعل الدين مصدراً أيديولوجيّاً مفتوحاً لكافة أنواع الاستخدامات.
إذاً ما كنا لنسأل بايير: «ماذا يحدث للدين؟» أعتقد أنه كان سيقول: «إنه يصبح فوضويّاً للغاية»، وسأكون مضطرّاً لأن أتفق معه.
أبعد من الروايات
أصل بهذا إلى نهاية مقالتي هذه، لدينا هنا ست قصص حول «ماذا يحصل للدين اليوم؟» وعن «ماذا سيحدث له في المستقبل؟»، والكثير من العمل الحالي في علم الاجتماع يدور حول واحدة من هذه القصص داعماً أو منتقداً أو مختبراً قدرتنا على تطبيق أيٍّ من هذه القصص على المشهد المعاصر. كل واحدة من هذه القصص لها صدقيتها بناء على الأدلة المتراكمة، وكل واحدة منها تبرز جانباً مختلفاً من الحياة الدينية. معظم علماء الاجتماع لا يلزمون أنفسهم بالكلية لواحدة من هذه القصص مع أن معظمهم أيضاً يفضل واحدة أو اثنتين من بينها على الأخريات، ولكن توجد من التعارضات بينها بحيث أن مجرد تقسيم الفروقات بينها لا يصنع لنا صورة واضحة عن حاضر الدين ومستقبله.
فماذا علينا أن نفعل إذن بشأن وجهات النظر التفسيرية المتعارضة هذه؟ هل هي علامة على كون علم الاجتماع «غير علمي» ـ أو «حالة ما قبل النموذج الفكري» التي لاحقها توماس كون في تاريخ العلوم الطبيعية قبل سنوات طويلة؟ لا أعتقد أنه يوجد جواب سهل لهذا السؤال. وبدلاً من التحدث عن النماذج الفكرية أعتقد أنه من المفيد أكثر لنا أن نتذكر أننا نتعامل مع روايات، والروايات مثل أي أقاصيص أخرى تقوم بأكثر من مجرد ترتيب البيانات التي يمكننا أن نراها، بل الأهم من ذلك أنها توجهنا إلى المستقبل، إلى «البيانات» التي لا يمكننا أن نراها.
لربما كان على علماء الأديان أن يتساءلوا: «وما هي نتائج التوجهات التي توصي بها كل من هذه القصص؟»
المراجع
1. Ammerman, Nancy T. 1987. Bible Believers. Fundamentalists in the Modern World. New Brunswick,
2. NJ: Rutgers University Press.
3. Ammerman, Nancy T. 1997. Golden Rule Christianity. Lived Religion in the American Mainstream.
4. In Lived Religion in America. Toward a History of Practice, David D. Hall (ed.), 196–216. Princeton, NJ: Princeton University Press.
5. Baehr, Peter 2001. The «Iron Cage» and the «Shell as Hard as Steel», History and Theory 40:153–169.
6. Berger, Peter L. 1969. The Sacred Canopy. Elements of a Sociological Theory of Religion. GardenCity, NY: Anchor/Doubleday.
7. Beyer, Peter 1994. Religion and Globalization. London: Sage.
8. Beyer, Peter 1998. The Modern Emergence of Religions and a Global System for Religion. International Sociology 13(2): 151–172.
9. Beyer, Peter 2003a. Constitutional Privilege and Constituting Pluralism. Religious Freedom in National, Global, and Legal Context. Journal for the Scientific Study of Religion 42(3): 333–339.
10. Beyer, Peter 2003b. Defining Religion in Cross-National Perspective. Identity and Difference in Official Conceptions. In Defining Religion. Investigating the Boundaries Between Sacred and Secular, Arthur L. Greil and David Bromley (eds.), 169–188. Religion and the Social Order, vol. 10.
11. Bruce, Steve 1999. Choice and Religion. A Critique of Rational Choice. Oxford: Oxford University Press.
12. Carroll, Michael P. 1996. Stark Realities and Androcentric/Eurocentric Bias in the Sociology of Religion. Sociology of Religion 57(3): 225–240.
13. Champion, Françoise and Danièle Hervieu-Léger 1990. De l’Emotion en Religion. Renouveaux et Traditions. Paris: Centurion.
14. Comte, Auguste 1854. The Positive Philosophy, translated and condensed, Harriet Martineau. New York: D. Appleton & Co.
15. Davidman, Lynn. Forthcoming. Most American Jews. Berkeley: University of California Press.
16. Davie, Jodie Shapiro 1995. Women in the Presence. Constructing Community and Seeking Spirituality in Mainline Protestantism. Philadelphia: University of Pennsylvania Press.
17. Dobbelaere, Karel 2002. Secularization. An Analysis at Three Levels. Brussels: P.I.E. – Peter Lang.
18. Ebaugh, Helen Rose and Janet Chafetz (eds.) 2000. Religion and the New Immigrants. Walnut Creek, CA: Altamira Press.
19. Finke, Roger and Rodney Stark, 1992. The Churching of America, 1776–1990. Winners and Losers
20. in Our Religious Economy. New Brunswick, NJ: Rutgers University Press.
21. Freud, Sigmund 1927. The Future of an Illusion. New York: W.W. Norton & Company (1989).
22. Greeley, Andrew M. 1989. Protestant and Catholic Is the Analogical Imagination Extinct? American
23. Sociological Review 54 (August): 485–502.
24. Greeley, Andrew M. 1990. The Catholic Myth. The Behavior and Beliefs of American Catholics.
25. New York: Charles Scribner’s Sons.
26. Greeley, Andrew M. and William E. McManus 1987. Catholic Financial Contributions. Chicago:
27. Thomas More Press.
28. Hamberg, Eva 1992. Religion, Secularisation, and Value Change in the Welfare State, paper presented at the European Conference on Sociology, 26–29 August Vienna.
29. Hervieu-Léger, Danièle 1986. Vers un Nouveau Christianisme? Paris: Cerf.
30. Hout, Michael and Claude S. Fischer 2002. Why More Americans Have No Religious Preference.
31. Politics and Generations, American Sociological Review 67(April): 165–190.
32. Jenkins, Philip 2002. The Next Christendom. The Coming of Global Christianity. Oxford: Oxford University Press.
33. Juergensmeyer, Mark 2001. Terror in the Mind of God. The Global Rise of Religious Violence.
34. Berkeley: University of California Press.
35. Kelley, Dean 1972. Why Conservative Churches Are Growing; a Study in Sociology of Religion.
36. New York: Harper & Row.
37. Luckmann, Thomas 1967. The Invisible Religion. New York: Macmillan and Co., Ltd.
38. Lyotard, Jean François 1984. The Post-Modern Condition. A Report on Knowledge. Minneapolis: University of Minnesota Press.
39. Marty, Martin E. and R. Scott Appleby (eds.) 1991. Fundamentalisms Observed. Chicago: University of Chicago Press.
40. Marx, Karl 2002. Marx on Religion. Collected and edited by John Raines. Philadelphia: Temple University Press.
41. McGuire, Meredith B. 1988. Ritual Healing in Suburban America. New Brunswick, NJ: Rutgers University Press.
42. McGuire, Meredith B. 2000. Toward a Sociology of Spirituality, Tidsskrift for kirke, religion og samfunn 13(2): 99–111.
43. McGuire, Meredith B. Forthcoming. Lived Religion. Spirituality and Materiality in Individuals’ Religious Lives. New York: Oxford University Press.
44. McGuire. Meredith B. and James V. Spickard 2003. Narratives of Commitment. Social Activism and Radical Catholic Identity, Temenos: Studies in Comparative Religion 37–38: 131–149.
45. McNamara, Patrick H. 1992. Conscience First, Tradition Second. A Study of Young American Catholics. Albany: State University of New York Press.
46. Riis, Ole 1994. Patterns of Secularisation in Scandinavia, In Scandinavian Values, Thorleif Pettersson and Ole Riis (eds), 99–128. Uppsala: Acta Universitatis Upsaliensis.
47. Roof, Wade Clark 1993. A Generation of Seekers. The Spiritual Journeys of the Baby Boom Generation. San Francisco: Harper.
48. Roof, Wade Clark 1999. Spiritual Marketplace. Baby Boomers and the Remaking of American Religion. Princeton, NJ: Princeton University Press.
49. Roof, Wade Clark and William McKinney 1987. American Mainline Religion. Its Changing Shape and Future. New Brunswick, NJ: Rutgers University Press.
50. Smith, Greg 2000. Global Systems and Religious Diversity in the Inner City – Migrants in the East End of London. MOST Journal on Multicultural Studies [online] 2(1) Available from http://www.unesco.org/most/vl2n1smi.htm [Accessed 30 November 2003].
51. Spickard, James V. 1998. Rethinking Religious Social Action. What is «Rational» About Rational-Choice Theory? Sociology of Religion 59(2): 99–115.
52. Spickard, James V. 2002a. Four Narratives in the Sociology of Religion. In Religion. The Social Context, Meredith B. McGuire (ed.), 285–300. Belmont, Calif.: Wadsworth Thomson Learning.
53. Spickard, James V. 2002b. Review of Acts of Faith by Rodney Stark and Roger Finke. Journal of Contemporary Religion 17(1): 100–103.
54. Spickard, James V. 2003. Slow Journalism? Ethnography as a Means of Understanding Religious Social Activism. PPRES Working Papers 36 [online],
55. http://www.wcfia.harvard.edu/rsrchpapsum.asp?ID=721 [Accessed 30 November, 2005] Spickard, James V. 2006. Narrative versus Theory in the Sociology of Religion. Five Stories of Religion’s Place in the Late Modern World. In Religion and Social Theory. Classical and Contemporary Debates, James A. Beckford and John Walliss (eds.), 163–175. Ashgate.
56. Stark, Rodney and Roger Finke 2000. Acts of Faith. Explaining the Human Side of Religion.
57. Berkeley: University of California Press.
58. Tweed, Thomas A. 1997. Our Lady of the Exile. Diasporic Religion at a Cuban Catholic Shrine in Miami. Oxford: Oxford University Press.
59. Wallace, Anthony 1956. Revitalization Movements. American Anthropologist 58: 264–281.
60. Wallace, Anthony 1970. The Death and Rebirth of the Seneca. New York: Alfred A. Knopf.
61. Warner, R. Stephen 1988. New Wine in Old Wineskins. Evangelicals and Liberals in a Small-Town Church. Berkeley: University of California Press.
62. Warner, R. Stephen 1993. Work in Progress Toward a New Paradigm for the Sociological Study of Religion in the United States. American Journal of Sociology 98: 1044–1093.
63. Warner, R. Stephen 1997. Religion, Boundaries, and Bridges. Sociology of Religion 58(3): 217– 238.
64. James V. Spickard: What is Happening to Religion?
65. 29
66. Warner, R. Stephen and Judith G. Wittner (eds.) 1998. Gatherings in Diaspora. Religious Communities and the New Immigration. Philadelphia: Temple University Press.
67. Weber, Max 1905/1920. The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism. New York: Charles Scribner’s Sons (1958).
68. Wetherell, Margaret and Jonathan Potter 1992. Mapping the Language of Racism. Discourse and the Legitimation of Exploitation. Hemel Hempstead, UK: Harvester Wheatsheaf.
69. Wilson, Bryan R. 1982. Religion in Sociological Perspective. Oxford: Oxford University Press.
70. Young, Lawrence A. (ed.) 1997. Rational Choice Theory and Religion. Summary and Assessment.
71. New York: Routledge.

[1]ـ هذا المقال هو النص التفصيلي لحديث قدمه الكاتب كجزء من برنامج تقدمه جامعة كوبنهاغن. نشير أيضاً إلى أن مناقشة بعض هذه الروايات ظهرت في مؤلفات سابقة له.
*- باحث سوسيولوجي وأنثربولوجي بجامعة Redlands الأمريكية.
ـ نقلاً عن: مجلة بلدان الشمال للدين والمجتمع، المجلد 19، العدد 1 ـ 2004.
ـ العنوان الأصلي للمقال: WHAT IS HAPPENING TO RELIGION? SIX SOCIOLOGICAL NARRATIVES
Nordic Journal of Religion and Society 19:1.
ـ تعريب: رشا طاهر ـ مراجعة ك. عبد الرحمن.
[2]ـ المضحك في هذه النكتة يعتمد على قدرتنا على رؤية كامل الفيل، وهذا ما لا يقدر عليه الرجل الأعمى. لا تكاد النزاعات العلمية تجد لها حلاً من خلال التوجه إلى قدرة أعلى على الرؤية، ولكن لا توجد أي ضمانة أن أي وجهة نظر وحتى لو كانت جامعة بين غيرها يمكن لها أن تعكس الكل.
[3]ـ استخدم فيبر المصطلح الألماني stahlhartes Gehäuse»، أنظر بيتر بايهر (2001).
[4]ـ من الواضح أن هذه الرواية ترتكز على أوروبا، ولا يمكن لها مثلاً أن تنشأ في اليابان التي لعب فيها الدين دوراً اجتماعياً مختلفاً تمام الاختلاف عن الدور الذي لعبه في الغرب.
[5]ـ بإمكانك زيارة جولة سميث على موقع:
http://www.astoncharities.org.uk/research/religion/index.shtml