البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الدين والعولمة والعلمنة - محاورة بين أربعة علماء اجتماع غربيين (خوزيه كازانوفا ـ جيل كيبل ـ توماس هاليك و غريس ديفي)

الباحث :  أدارت المحاورة : دوريس دونيلي
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  3
السنة :  السنة الثانية - ربيع 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 2 / 2016
عدد زيارات البحث :  1194
تحميل  ( 322.270 KB )
الدين والعولمة والعلمنة
محاورة بين أربعة علماء اجتماع غربيين
خوزيه كازانوفا ـ جيل كيبل ـ توماس هاليك و غريس ديفي [1]
أدارت المحاورة: دوريس دونيلي[*]
هذه المحاورة التي نظمتها مجموعة من علماء الاجتماع والمتخصصين بفلسفة الدين تناولت إشكاليات التداخل والتخارج والتضاد التي افترضتها العلاقة الأصلية بين الدين والعلمانية. لعلَّ النقطة المحورية التي دارت حولها المداخلات هي المشهد السجالي حول تلك الإشكاليات التي بلغت ذروتها مع بداية ما سُمّي بزمن العولمة.
نشير إلى أن هذه الندوة الفكرية عقدت في العام 2010 في قاعة المؤتمرات بقصر زوفين في براغ وشارك فيها مجموعة من أبرز علماء الاجتماع في أوروبا والولايات المتحدة وهم:
ـ خوزيه كازانوفا: عالم اجتماع ديني، جامعة جورج تاون، الولايات المتحدة الأميركية.
ـ جيل كيببل: عالم اجتماع فرنسا.
ـ توماس هاليك: عالم اجتماع، ورئيس الأكاديمية المسيحية التشيكية، جمهورية التشيك.
ـ غريس ديفي: عالمة اجتماع ديني، جامعة إكستر، المملكة المتحدة.
المداخلة الرئيسية كانت لعالم الاجتماع والمفكر الإسباني خوزيه كازانوفا، ثم دارت المناقشات حول أبرز الأفكار التي وردت فيها. المحرر
دوريس دونيلي: أود أن أرحب بالجميع في جلستنا حول الدين والعولمة والعلمنة. لا شك أن الدين يلعب دوراً في غاية الأهمية في عالمنا الذي نعيش فيه اليوم، ولذلك فهو في قلب موضوع نقاشنا اليوم، ولكن ما يحدد مستوى أي نقاش هو مستوى المشاركين فيه، ويسرني أن أقول أننا لدينا الأفضل في موضوعنا هذا، فمتحدثنا الرئيسي هو خوزيه كازانوفا (Jose CASANOVA)، وهو من أبرز علماء الاجتماع في زمننا الحاضر، فبعد أن حصل على شهادة البكالوريوس الجامعي في الفلسفة من جامعة ساراغوسا في إسبانيا، عاد ليحصل على شهادة الماجستير في اللاهوت من جامعة إنزبروك في النمسا، ثم شهادة الدكتوراه في اللاهوت من المدرسة الجديدة في الأبحاث الاجتماعية في نيويورك حيث درَّس لبعض الوقت قبل أن يشغل منصبه في جامعة جورج تاون، وهو الآن أستاذ في علم الاجتماع في تلك الجامعة بالإضافة إلى كونه زميلاً أقدمَ في مركز بيركلي للدين والسلام والشؤون العالمية.
في هذا السياق لا بد وأن أخبركم بـ«قصة تحول» مر بها البروفيسور كازانوفا، ففي الأصل كان من المعتقدين بالعلاقة المتلازمة القائلة بأن تقدم المجتمع يتناسب عكسيّاً مع أهمية الدين فيه، فكلما تطور المجتمع كلما قلت أهمية الدين، ولكنه حين ذهب إلى الولايات المتحدة غيَّر وجهة نظره جملة وتفصيلاً إذ رأى بأم عينيه مجتمعاً متقدماً للغاية ولكن الدين لا يزال يلعب دوراً في غاية الأهمية فيه. وكان هذا هو أساس تغييره لاتجاه عمله حيث أعاد تعريف وأعاد تموضع وأعاد ترتيب المفردات التي يستخدمها كل من علم الاجتماع وعلماء الاجتماع، فتحدث مثلاً عن وجود «حداثات متعددة» بدلاً من حداثة واحدة، ونماذج فكرية جديدة للعملنة: أي بكلمات أخرى العلمنة «الخفيفة» والعلمنة «المتطرفة». ولا يزال كتابه «الأديان العامة في العالم الحديث» (Public Religions in the Modern World) المنشور سنة 1994 عملاً مرجعيّاً في علم الاجتماع، وقد ترجم إلى اللغات اليابانية والإسبانية والإيطالية والبولندية والعربية والإندونيسية والفارسية والصينية، فقد عبر كتابه العالم بأسره ويسعدنا اليوم أن نرحب به هنا.
خوزيه كازانوفا: شكراً جزيلاً على تقديمك اللطيف يا دوريس. سيأخذ تقديمي شكل نظرة عامة إلى العمليات العالمية من دون أن أتخذ موقفاً محدداً، ولكن أرجو أن تنير الطريق أمام فهم العمليات التي يمكن طرحها في نقاشنا هذا حول العلاقات الممكنة بين الدين والعولمة والعلمنة. لقد ظللنا نحن العلمانيين الأوروبيين نعتقد إلى زمن قريب بأن لدينا الإجابة بالفعل: الدين أمر يعود إلى الماضي وهو من سمات المجتمعات البدائية السابقة للحداثة، وأن الدين إما سيضعف بشكل كبير أو سيختفي بالكلية وبأفضل أحواله سيصبح أمراً خاصاً بالفرد في المجتمعات العلمانية الحديثة. لقد كان هذا هو مفهومنا لعملية العلمنة، فبالنسبة إلينا لقد كانت عملية بالفعل وكانت آثارها واضحة في تطور المجتمعات الأوروبية الحديثة، وقد اعتقدنا بأن بقية العالم سيتبعنا في هذه العمليات الحديثة.
أيضاً، إن ما عنيناه بالتحديد من العولمة هو التوسع العالمي لعمليات التحديث الأوروبي هذه. التوسع العالمي للنظام الرأسمالي، التوسع العالمي للدول الحداثية، التوسع العالمي لعملية العلمنة. لكننا نعلم اليوم أنه، وعلى الأقل على مستوى عملية العلمنة، فإن التاريخ العالمي يتخذ مسارات مختلفة تمام الاختلاف عما توقعناه.
فقد توقعنا أن المجتمعات حين تصبح أكثر تقدماً ستصبح أكثر علمانيّة، أي أقل تديّناً، ولكننا نعلم الآن حقيقة أن الولايات المتحدة مجتمع يزداد تديّناً مع ازدياد تَقدّمه. الأمر نفسه ينطبق على المجتمعات في بقية العالم: بينما تصبح هذه المجتمعات أكثر تقدماً نجدها تتبع نموذج الولايات المتحدة في كونها تصبح أكثر تديّناً وأقل شَبَهاً بالمجتمعات الأوروبية. إن هذا لا يعني بالطبع أن الولايات المتحدة تشكل نموذجاً أفضل للدول الأخرى لأن هذا سيكون ادعاء كاذباً، كما لا تزال الكثير من الدول لم تنته من عملية العلمنة الخاصة بها.
ما أود أن أقوله هو أن العالم يصبح أكثر علمانية وتديناً في الوقت ذاته، فلم نعد نفكر في العلمانية على أنها عملية انتهاء الدين، أو حركات الصحوة الدينية على أنها نهاية للعلمانية، فكلتا العمليتين ـ التحول العلماني والديني ـ تحدث في الوقت ذاته. إن التحول الديني ليس مجرّد إعادة إحياء لأشكال دينيّة تقليدية: بل أصبحت بناءً لظواهر حديثة للغاية. فالدين في الولايات المتحدة ليس من بقايا الماضي التقليدية بل هو نتيجة الحداثة الأمريكية.
قبل فترة كنت قد تقدمت بفكره هي أننا وبينما نناقش العلمنة علينا أن نميز ثلاثة معانٍ مختلفة لهذا المصطلح: العلمنة رقم واحد تعني تمييز مجالات العلمانية الثلاثة ـ الإقتصاد والدولة والعلم ـ من الدين. أما العلمانية رقم اثنين فهي تراجع المعتقدات والممارسات الدينية. والعلمانية رقم ثلاثة هي خصخصة الدين. وقد تزامنت هذه العمليات مع بعضها بعضاً في أوروبا بحيث اعتقدنا أنها بطبيعتها متلازمة ومرتبطة مع عملية التحديث. لكننا نعرف اليوم أن هذا ليس صحيحاً؛ فقد تتخذ هذه العمليات مسارات مختلفة أشد الاختلاف في مناطق مختلفة من العالم، والمهمة الصعبة في هذا الصدد هو معرفة العلاقات المتبادلة بين هذه المسارات، أي متى تتساوق في الاتجاه ذاته ومتى تتخذ اتجاهات متباينة متغايرة.
دعوني أبيِّن ما أعنيه حين أقول: «عملية العولمة العالمية التي تحدث في كل مكان»؛ يمكننا تقديم أفضل توصيف لعملية العولمة العالمية على أنها توسع ما أسماه الفيلسوف الكندي تشارلز تيلور: «الإطار العلماني الظاهر» في كتابه الجديد «عصر علماني» (A Secular Age). يتألف الإطار العلماني الظاهر من تداخل النظام الكوني العلماني الذي كشفه لنا العلم والتكنولوجيا مع النظام الاجتماعي الجديد للدول: (الدول الإداريّة) والأسواق الرأسمالية والشؤون العامة القائمة على وسائل الإعلام والنظام الأخلاقي الحديث الذي بدأ ينتمي إليه الأفراد والقائم على تشديدهم على حقوقهم في الحرية والمساواة والسعي خلف السعادة.
عادة ما نفهم هذه الأنظمة الثلاثة على أنه ظاهرة وحالة في جميع شؤون حياتنا دون أي نوع من التسامي والعلو، أي أنها ليست مبنية على أساس وكأن الله غير موجود. بحسب ما قاله تايلور، فهذه التجربة الظاهراتية هي ما يقوم عليه عصر العولمة من حيث النموذج الفكري الذي يديره، وهو ما يجعل هذا العصر علمانيّاً بغض النظر عن مدى إيمان شريحة معينة من الإنسانية بديانة معينة أو بتصور معين للألوهية. ولكن كما تظهر المقارنة بين الأنماط التي اتخذها مسار عملية العلمنة في الولايات المتحدة وأوروبا فإن عملية العلمنة وضمن الإطار الظاهر نفسه تتخذ ديناميكيات دينية مختلفة للغاية.
رغم التباينات الكثيرة التي قد نجدها في النموذج الأوروبي نفسه إلا أن جميعها يتبع النمط ذاته في العلمنة، أي التمييز العلماني والتراجع في دور الدين ـ أو على الأقل تراجع دور الكنيسة وتدني مستوى التديّن. أما النمط الأمريكي فمختلف إذ ارتبط مع نمو الدين وتكرار الصحوات الدينية، بل لقد فتحت تجربتنا المباشرة في مراقبة هذه الظاهرة أبواب التساؤل عن نوع الديناميكية الدينية التي سترافق العلمنة، أي توسع «الإطار العلماني الملازِم» والتمييز العلماني في عليها ثقافاتنا الغربية.
لا يمكنني أن أتحدث بالطريقة ذاتها التي يقوم بها زميلي وصديقي المقرب بيتر بيرغر عن زوال العلمانية عن العالم بسبب نموذج مثل الصين مثلاً، فالصين دولة علمانية إلى حد كبير ولكنها بالطبع تشهد بعض الصحوات الدينية، ولربما تنال هذه الصحوات أهمية أكبر مع تخفيف الدولة الشيوعية قبضتها الحديدية عن الحريات في البلاد، ولكني لا أتوقع تحولاً دينيّاً هائلاً ضمن المجتمعات الصينية المختلفة أو في أي مجتمع حتى. ما نراه في العالم هو تبادل العلماني والديني لتشكيل بعضهما بعضاً، ولكن بطرائق مختلفة أشد الاختلاف.
دعونا ننظر الآن إلى التحولات الدينية العالمية: لا يوجد قانون عالمي في ما يتعلق بأمور الدين، فجميع أديان العالم تشهد تحولات كبرى اليوم كما تحولت خلال فترة التوسع الاستعماري الأوروبي، ولكن هذه التحولات تتم بطرائق مختلفة ومتنوعة، فقد اضطرت جميع الأديان العالمية إلى التجاوب مع الحداثة العلمانية كما اضطرت إلى التجاوب مع تحدياتها المتبادلة، فمن المهم لنا اليوم إذا شئنا أن نفهم الطرائق التي تتغير فيها جميع الأديان أن نفهم كيفية تأثيرها على بعضها بعضاً ومن بعد ذلك أن ننظر في الطريقة التي تظل تؤسس على تقاليدها الخاصة بها.
على علماء الاجتماع الديني أن يقللوا من هوسهم بقياس مدى نمو الدين أو تراجعه بالمعنى التجريدي لهذا المفهوم، بل عليهم أن يكيفوا أنفسهم مع الأشكال الجديدة التي تتخذها الأديان العالمية على مستويات التحليل الثلاثة ـ المستوى الفردي والمستوى الجماعي والمستوى الاجتماعي. فعلى المستوى الفردي يشهد الدين اليوم عملية فردية متزايدة الذي بدأ أولاً مع ولكنه أصبح الآن يؤثر ويحول جميع التقاليد الدينية ـ الكاثوليكية كما الإسلام والهندوسية وكذلك البوذية.
الجديد حقّاً في عصرنا العلماني هذا هو الحضور المتزامن لجميع أديان العالم وتواجدها وبشكل كثيراً ما يكون منفصلاً عن سياقها الزماني والمكاني مما يجعلها عرضة لاستحواذ النزعات الفردية والأصولية عليها، وهذا هو الحال في المدن العالمية اليوم من نيويورك إلى جوهانسبرغ إلى كوالالامبور إلى سينغافورة إلى شانغهاي إلى لندن إلخ، فقد أصبح بإمكان أي شخص أن يدخل في جماعة دينية متوارثة ثم أن يستنسخ روحه الدينية إلى أي شكل آخر بحيث يظل «ساعياً» دائماً إلى الحقيقة تنجلي له كشوفات وإشراقات جزئية ومتلاحقة حول هذه الحقيقة، وهذه عملية في غاية الأهمية وتجري في إطار جميع التقاليد الدينية.
حاليّاً، على مستوى المجتمعات الدينية، يتأسف الكثير من علماء الاجتماع على فقدان الراوبط الاجتماعية كإحدى نتائج الحداثة السلبية، فالنزعات الفردية والجماعية توسعت على حساب المجتمع. استندت نظريات التحديث على ثنائيات بسيطة مثل التقليد والحداثة، المجتمع والاجتماع، وكذلك أسست نظريات العلمنة على الثنائيات البسيطة ذاتها وعلى أساس أن عملية العقلنة الحديثة جعلت من فكرة المجتمع غير قابلة للحياة.
ولكن وكما رأى توكوفيل بوضوح، فالحداثة تقدم إمكانيات جديدة وواسعة لبناء مجتمعات من جميع الأنواع، وخاصة لبناء مجتمعات دينية جديدة كتجمعات دينية اختيارية، فمعظم الجماعات أو الحركات الدينية الموجودة اليوم تأخذ شكل التجمع الديني الاختياري هذا، وكذلك تفعل معظم الأشكال الديناميكية من المسيحية مثل المجتعمات المؤسسة مسيحياً في أمريكا اللاتينية أو الكنائس الخمسينية في شتى أرجاء العالم، والأمر نفسه ينطبق على أشكال الإسلام الأكثر ديناميكية مثل جماعة الدعوة والتبليغ ومعظم الطرق الصوفية. حتى الأديان العالمية التي لا تحتوي على تقاليد متطورة من التجمع الديني مثل الهندوسية والبوذية أصبحت الآن تبرز بشكل مؤسساتي أكبر وخاصة في بلاد المهجر.
أما على المستوى الاجتماعي، فهذا هو المستوى الذي يظهر فيه هوسنا بموضوع الدين بأجلى صوره، فعلى هذا المستوى تظل ما يمكن أن نسميها: «المجتمعات الدينية» و«القومية العلمانية» و«الأديان المدنية القومية» هي الحاملة الأكبر للهويات الجماعية، ومن المرجح أن تعزز عمليات العولمة من عودة بروز الأديان العالمية كمجتمعات دينية متخيلة عابرة للدول ومعولمة، وبينما يمكن لمجتمعات متخيلة كوزموبوليتانية عابرة للقوميات أن تظهر، فأهم هذه المجتمعات ستكون على الأرجح الأديان والحضارات القديمة ولكن بعد أن تشهد تحولات كبيرة.
وهذه هي النقطة التي تمتاز بها أطروحة «صراع الحضارات»، لهانتنغتون ولكنه بالطبع تناول الموضوع من زاوية كون هذه المجتمعات وحدات جيوسياسية إقليمية، ولكن هذا ليس ما يحصل في الأديان العالمية، بل لدينا اليوم توتر جوهري بين مبدأين معروفين جيداً:
الأول: هو مبدأ حق الفرد الإنساني الراسخ في حرية الضمير، وبالتالي حريته الدينية وحريته في تغيير دينه، وهو إحدى المبادئ التي تتعامل معها جميع المجتمعات الديموقراطية الحديثة على أنها من حقوق الإنسان الشاملة غير القابلة للنقاش.
ولكن من ناحية أخرى يوجد لدينا حق الناس الجماعي في حماية تقاليدهم وثقافاتهم والحفاظ عليها من الممارسات الإمبريالية الاستعمارية الافتراسية، وقد رسخت وثائق الأمم المتحدة الاعتراف بهذا الحق تحت مسمى «حقوق الشعوب الأصلية»، ويمكن أن يتحول بسهولة إلى مبدأ عام من الحقوق والواجبات المتبادلة بين جميع شعوب العالم تجاه تقاليد وثقافات بعضهم بعضاً تتآلف على أساس «الطائفية العالمية Denominationalism» المتزايدة الظهور، وما أطلق عليه أنا هذا الاسم هو انتشار مجتمعات دينية عالمية غير متمركزة على منطقة معينة بل تعتبر عابرة للأمم تطرح نفسها على أنها ذات صورة كونية شاملة لما تسميه: «جميع أديان العالم» أو على الأقل تبرز بشكل جامع لسمات عدة أديان، وتشمل الأمثلة على هذه المذهبية البهائيين والمونيين والهاركريشنا وأديان الأمريكيين ذوي الأصل الأفريقي إلخ، وبالطبع فهي تكمل مع بعضها بعضاً الكثير من أشكال المجتمعات العلمانية أو المتخيلة بالإضافة إلى القومية الأم.
إن بروز الطائفويّة بهذا الشكل إذن تشمل الطوائف الدينية تماما كما العلمانية إن أعنيه بالطائفويّة «denominationalism» في هذا السياق هو نظام من الاعتراف المتبادل بين المجموعات ضمن مجتمع واحد، فـالطائفة هو الاسم الذي نضفيه على أنفسنا والذي يَعْرفنا به الآخرون، وفي النظام الأمريكي المميز في معالجة الطائفيّة الدينية ما يعنيه الأمر هو أن الطوائف اختيارية وغير مراقبة وغير متبناة من الدولة، وهذا نظام من الاعتراف المتبادل بهويات مجموعات.
وبالموازاة مع عملية العلمنة العامة ـ والتي بدأت كعملية علمنة داخلية ضمن العالم الغربي المسيحي قبل أن يتخذ منحى عالميّاً من خلال التوسع الاستعماري الأوروبي ـ توجد لدينا عملية تكوين لنظام عالمي من الأديان، ونحن كثيراً ما نتعامل مع الأديان العالمية وكأنها كانت موجودة منذ الأزل، ولكن الهندوسية مثلاً لم تكن موجودة كاسم يشير إلى طائفة معينة تمتلك مجموعة محددة من المعتقدات قبل القرن التاسع عشر، والأمر ينطبق كذلك على الكثير من الأديان الأخرى، فقبل القرن التاسع عشر لم يكن الهندوسي يشير إلى نفسه على أنها هندوسي كما لم يكن البوذي يسمي نفسه «بوذياً»، وعلى هذا الأساس فالأديان كما نفهمها اليوم ليست من مخلفات الماضي بل من نتاج عالمنا الحديث المعاصر الحاضر. هذا النظام العالمي من الأديان يأتي لسيرورة الطائفويّة الدينية العالمية حيث تمّ إعادة تعريف الأديان العالمية وتحويلها إلى العلماني من خلال عمليات متبادلة متشابكة من المطالبات العالميّة والاعتراف المتبادل.
وكما هو الحال في الطائفيويّة في الولايات المتحدة فإن الطائفيويّة، تبرُز على مستوى العالم، كنظام ذاتي التنظيم والمراقبة من التعددية الدينية والاعتراف المتبادل بين الجماعات الدينية في المجتمعات المدنية العالمية فيتم تأليف كل دين من خلال العمليات المتشابكة والمتشابهة التي ذكرناها.
كما شدد رونالد روبرتسون، فإن النزعة الفردانية الكونيّة والنزعة الكونيّة الفردانية مترابطان ومتضمنان في عمليات العولمة، فكل دين عالمي يمارس حقه في أن يكون فريداً ومختلفاً، وبهذا يؤكد فرديته وفي الوقت ذاته يقدم نفسه عالميّاً على أنه الطريق الكونيّة للبشرية جمعاء. تبرز الطائفويّة العالمية من خلال عملية الاعتراف المتبادل بهذه المزاعم الفردانية والكونيّة، ولهذا نرى توجهاً عالميّاً متزايداً تجاه الاعتراف المتبادل بالثقافات، ولكنه لا يحصل بنعومة ودون مشاكل.
ما ينتهي إليه الأمر هو اضطرارنا للاعتراف بالتعددية التي لا سبيل لتجاوزها في جميع النزعات الكونيّة وبتعدّد الحداثات، أي أن كل نزعة كونيّة وكل حداثة هي بطبيعتها فردية، فيمكننا القول أننا نتحرك من وضع من الكونيّات الفردية المتنافسة إلى ظروف جديدة من السّياقويّة الطائفية الكونية العالمية السياقية، وأشكر لكم حسن استماعكم.
دوريس دونيلي: نشكرك كثيراً يا بروفيسور كازانوفا. بالطبع فلدينا الكثير لنفكر فيه ونناقشه ولكن دعونا ننتقل إلى متحدثنا التالي جيل كيبيل. جيل كيبل عالم فرنسي بارز وهو من من أكثر الناس خبرة في موضوع الإسلام السياسي ويعتبر من أفضل وأحصف مفسري العالم الإسلامي اليوم.
يشغل كيبيل منصب بروفيسور في معهد الدراسات السياسية في باريس، ويتكلم العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية بطلاقة، وقد قرأت أنا شخصياً كتابين من تأليفه: «الحرب لعقول المسلمين: الإسلام والغرب»، و«بعد الإرهاب والشهادة: المستقبل في الشرق الأوسط».
من الأشياء التي تثير اهتمامي في فكر البروفيسور كيبيل كعالم لاهوت هو فهمه لقوة الرمز في الكشف عن أكثر مما يظهر للأنظار أول الأمر، فقد ناقش رمزية الهجمات على برجي مركز التجارة العالمي الواقعين بقرب وول ستريت، كرمز لهشاشة الولايات المتحدة السياسي والاقتصادي، ولكن ناقش أيضاً «أبو غريب» و«غوانتانامو» كرمزين للسقوط الأخلاقي لولايات المتحدة خاصة تحت حكم أمثال بوش وتشيني ورامسفيلد. السيد كيبيل، تفضل مشكوراً!
جيل كيبيل: أشكركم جزيل الشكر على هذا التقديم اللطيف وأخشى أن تكوني قد رفعت توقعات الزوار مني أكثر مما أستحق! أود أن أبدأ نقاشي هذا بالحديث عن كرة القدم مع أن فرنسا وكرة القدم لم يكونا على علاقة طيبة خلال هذه السنة. لكني سأبدأ بها لأن الهزائم المخزية التي تعرض لها المنتخب الفرنسي في كأس العالم في جنوب أفريقيا والتي ترافقت مع بعض التصرفات المخزية التي قام بها لاعبو المنتخب قد لاقت نقاشاً واسعاً في الصحف الفرنسية والطبقات التي تحب النقاش. ربط البعض بين هذا الواقع وبين حقيقة كون معظم لاعبي الفريق الفرنسي من المسلمين، وطرحت تساؤلات عما إذا كانت هذه هي المكونات الوطنية والأخلاقية التي على المنتخب الفرنسي أن يتألف منها. كانت روحية كأس العالم 2010 مغايرة تماماً لروحية 1998 حين برز بطل فرنسي «حتى النخاع» يدعى زين الدين زيدان، وبالطبع فعبارتي لا تخلو من السخرية، فابن المهاجر البربري من الجزائر الذي ولد في مرسيليا ونشأ بها أصبح فرنسيّاً حتى النخاع، كما أن جيل كيبيل، ابن المهاجر التشيكي أصبح فرنسياً حتى النخاع. في 1998 بدا وكأن نظام التكامل الاجتماعي نجح في أن يوحد أناس من أديان وأعراق مختلفة تحت العلم الفرنسي حتى فاز المنتخب بكأس العالم.
ولكن بالمقابل في 2010 وجدنا من يجادل حول قضية «الشرذمة المجتمعية» التي يمر بها المنتخب والناجمة عن مجيء أفراده من هويات متباينة ولذا فقد كانت بنية الفريق تعاني من التفرقة حتى وجدنا معلقاً مثل الفيلسوف المحافظ آلان فينكييلكرو ـ وهو مهتم للغاية بكرة القدم ـ يقول إن فرنسا المدن المتعددة قد انتصرت على فرنسا المدينة الواحدة، بالطبع فما يعنيه هنا هو «المدينة» بمعناها الإغريقي، أي الشعور بالانتماء إلى «المدينة الواحدة» قد تلاشى وحل محله شعور الناس بتفردهم وامتيازهم.
فما الذي يحدث هنا؟ اليوم أنا أجري أبحاثاً على مشارف باريس في المناطق التي جرت فيها أعمال الشغب قبل خمس سنوات، وما أجده مثيراً للدهشة هو أننا أصبحنا نرى اليوم ولادة «مجتمع الجيوب المنعزلة» أو «ثقافة الجيوب المنعزلة» التي تشدد على الدين كحماية ضد المجتمع الأعم الذي تقرر أن قيمه لم تعد صالحة.
بالعودة إلى ما ذكره زميلي الأستاذ كازانوفا عن النزعة الكونية الفردانية والنزعة الفردانية الكونية، فالأمر معقد كما هو الحال في جميع المفاهيم القوية، فما قرره الأستاذ كازانوفا مبني إلى حد كبير على تجربته التي مر بها في الولايات المتحدة، ولكني أود أن أطرح بعض الأسئلة حول ما يجري هنا في أوروبا، إذ بإمكاننا أن نستفيد من بعض الدروس التي تعلمناها مما يجري بين المجموعات المسلمة في أوروبا حتى نستخدمها لنتسائل عما يجري مع المجموعات اليهودية في أوروبا؛ ففي الماضي كان اليهود الفرنسيون قد تعلمنوا إلى أقصى درجة يمكن لنا تصورها، ولكننا اليوم نرى أن تأثير جماعات أصولية مثل الهاسيديم والحباد لافتاً للاهتمام وخاصة وسط الجيل الثالث من المهاجرين اليهود من شمال أفريقيا إذ أنهم ليسوا أقل بكثير من عدد أتباع جماعة الدعوة والتبليغ، وهي جماعة إسلامية متدينة تعتبر الانعزال عن المجتمع، أي العزلة الثقافية، أمراً جوهريّاً للحفاظ على الهوية.
لقد كانت فرنسا دولة اندماج اجتماعي وهي لا تزال كذلك بالرغم من أنها اضطرت للتعامل مع حالة مختلفة بعض الشيء. في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد قال بيركليس أن ما يجعل الإغريق إغريقيّاً ليس كونه إغريقيّاً، بل كونه ذهب إلى المدارس الإغريقية، فقد كانت اللغة والثقافة وتلقي القيم الحضارية ودمجها في كيان الفرد أهم من لون جلده أو دينه أو ما كان يمتلكه.
المشكلة اليوم هي أن هذا الشعور يتضعضع، سواء كان ذلك بسبب مُساءَلته من الأسفل أو من الأعلى، فهو يتضعضع من أسفل وليس فقط نتيجة مُساءَلته الأيديولوجيات له بل أيضاً نتيجة الأشكال التنظيمية المتعلقة بترتيب المجتمع الطبقي كاتحادات العمال والأحزاب السياسية اليسارية التي لم تتمكن بعدُ من التعايش مع العالم ما بعد الصناعي، ولذلك يعم الشعور بينها بأن الهويات التي كانت تُشعر الناس المستائين من وضعهم في المجتمع بالحركية السياسية والاجتماعية لم تعد فعالة الآن. وبالتالي توجد حاجة إلى هويات جديدة تدفع عنك ما ترى أنه شر، وهذا سيقدم لك مثالاً أعلى تصبو إليه وشعوراً بالكرامة وما يتفق الأمريكيون ونحن على تسميته بـ «الاحترام». أما من الناحية الأخرى، فالشعور يتضعضع من الأعلى أيضاً لأنه يتعرض للمُساءَلة من قبل مَسَار الاتحاد الأوروبي الذي يحرم الدول من قدرتها على تعريف هويتها.
لقد فوجئت للغاية حين أجريت المقابلات مع من استجاب لي في ضواحي باريس، فقد وجدتهم يقارنون حياتهم ومصيرهم بالمشاريع التي يرونها على شاشات التلفاز، فبعضهم يشاهد التلفزيون الفرنسي وبعضهم يشاهد قناة الجزيرة وإن كان لا يفقه ما يقال فيها، وما يبنونه على ما يرون هو أن يقوموا مثلاً بالشعور بالتماهي مع الفلسطينيين، فحين تحيط الشرطة الفرنسية بإحدى الضواحي التي يقطنون فيها فتجدهم يشبهون الأمر بحصار الإسرائيليين لغزة.
لقد وصلنا إلى هذا الحال بسبب وجود فراغ في القمة، فالاتحاد الأوروبي عاجز إلى حد كبير عن توفير القيادة السياسية للناس، والأهم من ذلك أنه عاجز عن تقديم هوية إيجابية قد يود الناس التعلق بها، وأعتقد أننا سنواجه أزمة كبرى بسبب هذا الأمر، لربما عارض البعض بقولهم أن الولايات المتحدة تعاني من الصعوبات ذاتها ولكن الحقيقة هي أن الولايات المتحدة تقودها حكومة قوية يقدر الناس على الرغبة في الانتماء إليها أو حتى رفضها، إذ يوجد أمامهم شيء محسوس يقدرون على الانتماء إليه. يصعب بالمقابل أن نرى أي شيء ملموس في الاتحاد الأوروبي ولا يراه معظم الناس إلا كبيروقراطية غير منتخبة تعوق الأمور بدلاً من تسييرها، وعلينا أن نبحث عن الهويات الدينية ضمن هذه المنظومة، وقد يكون خلافي الأساسي مع خوزيه كازانوفا هو أني لا أرى أنها هويات دينية، فرغم أن أعضاء هذه المجتمعات يستخدمون لغة ثرية بالمفردات الدينية إلا أن تساؤلي حول كفاية هذا لوضع العلامة الدينية عليهم سيكون سؤالي الفلسفي لخوزيه. أشكركم.
دوريس دونيلي: أقدم لكم الآن البروفيسور توماس هاليك، وهو أستاذ علم الاجتماع في جامعة تشارلز ولكنه أيضاً القس الكاثوليكي في كنيسة الجامعة والتي تمتلئ كل يوم أحد ليس فقط لسماع الأب هاليك بل لسماع الرسالة التي أعاد إليها حيويتها. وكذلك فالأب هاليك هو متكلم في الفاتيكان وفي براغ في حوار الأديان والثقافات ويسعدني أن أرحب به.
توماس هاليك: أشكرك وإنه ليشرفني أن أجلس هنا بين نجوم علم الاجتماع الديني في عصرنا. أنا أرى الدين من زاوية علم الاجتماع، أي من الخارج، ولكني أراه أيضاً كراهب وعالم لاهوت ومشارك فاعل في حوار الأديان، أي من الداخل أيضاً، وأحاول دائماً أن أستغل هذه الميزة. ولطالما شاركت في حوارات الأديان ولكني هذه المرة أود أن أضيف بعض التعليقات على نوع مختلف من الحوارات: حوار الدين، ويعني هذا بالدرجة الأولى في المنطقة التي نعيش فيها حوار الدين المسيحي ومن بعد ذلك اليهودي مع العلمانية. لطالما اعتقدت أن الدين المسيحي، دين التجسد، كان دائماً يحمل روحاً توفيقية إذ أدرج فيه عدة ثقافات لم تكن أي منها بعيدة عن الدين سواء كان ذلك في صورة البيئة المسيحية ـ اليهودية الأصلية أم المسيحية الهيلينية أم المسيحية التالية التي اعتنقها الإغريق والرومان والأقباط والسْليتون والسلافيون والجرمان إلخ..
لكن الجدير بالملاحظة حقاً هو أن المسيحية التقليدية احتفظت بتواجد تكافلي مع الحضارة الوحيدة في تاريخ البشرية التي تبدو وكأنها علمانية بالفعل. إنها الحداثة الأوروبية، وهي ثقافة يجب أن تتضمن جانباً دينيّاً لأنها نشأت من جذور الديانة المسيحية، المسيحية التي نراها في أوروبا اليوم ليست خالصة ولكنها لم تك خالصة قط، ولربما لا يمكن لها أن تكون خالصة نظراً لطبيعة كونها تتعلق بالتجسد، ولكنها بالرغم من ذلك سارية في جميع أوجه الثقافة الغربية العلمانية، ولعلها من مفارقات هذا الزمن أن الديانة المسيحية هي ما يمنع هذه الثقافة العلمانية من التحول بشكل كامل إلى ثقافة دينية أو شبه دينية لأننا دائماً نرى أنه حين يتوقف الدين التقليدي عن لعب دوره التقليدي فسوف تبرز ظاهرة أخرى لتلعب الدور الديني لدمج المجتمع وتفسيره وتبريره أمام نفسه.
لقد كتبت في السابق عن الدور شبه الديني الذي تلعبه وسائل الإعلام، فهي الآن تدمج المجتمع مع بعضه بعضاً، وهي تقوم بعملية تفسير العالم وتعطينا رموزاً وقصصاً عظيمة، لكن الواقع يظل هو أن الثقافة الغربية علمانية وغير دينية بقدر ما هي مسيحية، فإذا كان للمكون المسيحي أن يختفي من الثقافة الغربية فلن تصبح هذه الثقافة إلحادية، بل دينية أو شبه دينية، دينية بمعنى غير مسيحي وكثيراً بمعنى معادٍ للمسيحية حتى لو أصبح الإلحاد عندها هو الدين (بل حتى دين الدولة كما كان في الدول الماركسية مثلاً).
فمن مصلحة المسيحية والمسيحيين أن يحتفظوا بالمكون العلماني من الثقافة الأوروبية، ولكن بالمقابل أن ينتقدوا ميل العلمنة إلى التحول بدورها إلى دين. بهذه الطريقة تدافع المسيحية عن طبيعتها الحقيقية في الحضارة الغربية. من الواضح أن المكونين المسيحي والعلماني في الحضارة الغربية لن يتوحدا بشكل كامل أبداً، وستظل درجة ما من التوتر قائمة بينهما، ولكن إذا ما كان ذلك التوتر سيتخذ صورة مفيدة لكلا الجانبين أم شكل حرب الخنادق التي تستنزفهما فهو أمر يعود إلى عدد من الظروف.
من الواضح أن الحداثة لن تصبح مسيحية بكاملها، ولا ينبغي أن يسعى أحد إلى هذا الهدف الطوباوي حتى تحت عناوين جذابة مثل تنصير أوروبا من جديد، فقد أظهر تشارلز تايلور الأسباب التي تجعل من المستحيل على المسيحية أن تتولى مسألة الحداثة الحالية كما حاول الأب ريتش أن يفعل في القرن السادس عشر حين بدأ بإدراج المسيحية في الثقافات الشرقية. فالسبب هو أن الحداثة هي ثقافة قد تخللتها المسيحية بالفعل ولكننا لا نقدر أن نسميها مسيحية. ماذا عن تعامل غير المسيحي مع الحداثة؟ بحسب ما قاله تايلور فإن غير المسيحي هو في الواقع غالباً ليس حياديّاً، وليس منفتحاً في وجه المسيحية كما كانت الحضارات الوثنية البعيدة، بل إنّه معادٍ للمسيحية بشكل منهجي.
أخشى أنه لو انفصلت المسيحية عن العلمانية بشكل كامل أو لو انتصر أحد الجانبين على الآخر بشكل نهائي وحاسم فأزاله بالكلية فسوف تلقي أوروبا بواجبها تجاه ماضيها ومستقبلها جانباً، وبغض النظر عن الجانب الذي سيظفر بالنصر وأي منها سيستقل عن الآخر فسوف يخسر الطرفان آخر الأمر.
أعتقد أن الحوار الشهير الذي دار بين الكاردينال راتزينغر ويورغن هابرماس انتهى إلى النتيجة نفسها، فالنزعة الإنسانية العلمانية والمسيحية تحتاجان كل واحدة منهما إلى الآخر كمصحح لأحادية الجانب، وقد انتهى البابا يوحنا بولص الثاني إلى الموقف ذاته إذ قال أن الإيمان دون العقل خطير وأن العقلانية دون القيم الأخلاقية والروحية التي تنبع من الإيمان هي بدورها أحادية الجانب وبالتالي خطيرة.
كيف ستبدو المسيحية حقّاً لو أرادت أن تخلّص نفسها من إرث عصر التنوير وعلمانية اليوم؟ يمكننا أن نرى لمحة من ذلك في النزعات المسيحية الأصولية والتقليدية المعاصرة. وبالمقابل: كيف ستبدو العلمانية واللائكية لو أدارتا ظهريهما بالكلية إلى المسيحية؟ يمكننا أن نرى ذلك من خلال اللغة المتعصبة والأيديولوجيات التي تكاد تكون شمولية بينما تفرض على الجميع خطابها الجديد حول الصحة السياسية، أو أن تخصي وتزيل ذاكرة بعض الحضارات تحت شعار «التعددية الثقافية».
في وقتنا الحاضر نرى هذين التوجهين: الأصولية المسيحية والعلمانية المتشددة يستفزان بعضهما بعضاً وبذلك تزداد قوتاهما، فتشرعن إحداهما وجود الأخرى، فلا تبقي إحداهما الأخرى حية فحسب، بل تتطرف كل واحدة منهما من خلال صراعاتها التي لا تنهي مع الأخرى. لا يمكن لأي متطرف أن يوجد دون أعداء، وكل من هذين الطرفين محق حين يصف الطرف الآخر بأنه تهديدٌ له، ولكنّ تهديداً أكبر ينبع من الشيطنة المتبادلة.
أنا قلق من جميع أنواع التطرف والأصولية سواء أكانت دينية أم علمانية، فالأصولي إنسان ضعيف الإيمان إلى درجة أنه لا يقدر على تقبل تشكيكات الآخرين وأسئلتهم الانتقادية، وكثيراً ما يتخلص الناس من هذه الشكوك من خلال إسقاطها على الآخرين، بكلمات أخرى هم يسقطون مخاوفهم على الآخرين وكثيراً ما يرون فيهم ـ وخاصة أعضاء المجتمع الأكثر انفتاحاً ـ أعداء خطرين. حين يصل التوتر في عالمنا إلى درجة معينة من الشدة، وحين ترتفع مستويات الخوف والإحباط بين الناس فعندها لن تكون لغة السياسة العلمانية اليومية المعتادة قوية بما فيه الكفاية لتعبر عن تلك المشاعر.
يستخدم القادة السياسيون قوة الخطاب الديني والرمز الديني وكثيراً ما يصبح الدين سلاحاً في النزاعات السياسية، وحين يبدأ الناس باستخدام الخطاب الديني في الجدل السياسي أو حتى خلافات الرأي فسوف يبدأون برؤية خصومهم ومخالفيهم على أنهم شياطين، وكثيراً ما يكون الأمر مجرد إسقاط منهم لشياطينهم والجوانب المظلمة من عقولهم وصفاتهم السلبية على الآخرين. في ذلك الوقت يمكن لتضارب الآراء أن يشهد تصعيداً بحيث يتحول إلى صراع مدمر بكامل معنى الكلمة. إن هذا النوع من الشيطنة يؤدي إلى إستراتيجية من التدمير، وقد أصبح عالمنا اليوم مليئاً بالوحوش لأننا نجر الدين إلى صراعاتنا السياسية والاجتماعية والإثنية.
يتذكر الفيلسوف ريتشارد كيرني نصيحة التحليل النفسي: حين يرى الناس في مناماتهم أن الوحوش تطاردهم، عليهم أن يتجرأوا على النظر إلى الوحوش وجها لوجه بينما لا يزالون يحلمون، سوف يفاجَأُون إذ سيجدون أن الوحوش ليسوا مختلفين كثيراً عنهم. أعتقد أن علينا أن ننظر إلى خصومنا في وجوههم ربما لأننا سنفاجأ بأنهم ليسوا مختلفين كثيراً عنا. أعتقد أن ثقافة الحوار في غاية الأهمية لعالمنا اليوم.
دوريس دونيلي: سنتابع الآن مع البروفيسورة غريس دافي المعروفة في مجال علم الاجتماع بشكل واسع في بريطانيا وأوروبا والولايات المتحدة، وتشغل في الوقت الحالي كرسي علم الاجتماع في جامعة إكستر حيث تدير مركز الدراسات الأوروبية أيضاً، وإنتاجها الكتابي غزير فقد ألفت مقالات وكتباً وشاركت في تحرير بعض الكتب، لقد كتبت بالخصوص حول موضوعين أريد أن ألفت الانتباه إليهما إحترازا في حال لم تذكرهما في كلامها وهما:
من الأشياء التي تتكلم عنها «الدين الكفائي»، حين تمارس أقلية فاعلة الدين بالنيابة عن مجموعة أكبر تفهم ما تقوم به الأقلية وتوافق عليه ـ أي الدين التوكيلي أو «الكفائي». وكذلك كتبت لنا عن الواجب الديني مقابل الاستهلاك الديني قائلة أن الشعور بالواجب تجاه الممارسة الدينية قد تقلص وفي الوقت ذاته شهدت الرغبة في «استهلاك» جوانب معينة من الدين تنامياً ملحوظاً. وكذلك فقد كتبت بشكل واضح عن عجز الكنائس القائمة أو حتى الأديان القائمة على ضبط معتقدات وسلوكيات أغلب الناس.
غريس دافي: أشكر لك ترحيبك وأنا سعيدة لكوني هنا. ما أريد أن أبدأ كلامي عنه هو الفرق بين الحقيقة والإدراك، فقد درجت الآن مقولة: لقد عاد الإله (اللّهُ) (God is back)، وهي بالفعل عنوان كتاب ألفه صحفيان بارزان في مجلة الإيكونوميست، وهو كتاب علينا أن نتلقاه بحذر ولكن هل عاد الإله (اللّهُ)؟ إن هذا يعني أنّه "ذهب" أو أنّها "ذهبت". أنا لست متأكدة أن الإله (اللّه) قد عاد، ولكني واثقة أن تصوّراتنا عن الدّين هي التي قد تغيرت أكثر من كون الواقع نفسه هو الذي قد تغيّر.
دعونا نفكر للحظة في النقاش الدائر حول الإسلام في أوروبا، فأنا أتفق تمام الاتفاق مع كثير مما ذكره جيل كيبيل. ولكن المسلمين قطنوا أوروبا منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في الوقت الذي كان فيه الجدل حول العلمنة في ذروته، ولكننا لم نسمهم «مسلمين» وقتها، بل جزائريين وباكستانيين وبنغلادشيين وأتراك. فجأة فككنا شريحة كاملة من السكان وأعدنا بناءَها! لربما كانوا هم من أعادوا بناء أنفسهم في هذا القالب ولا أنكر أنا هذه الإمكانية، ولكن ما الذي تغير: أحقيقة وجودهم أم إدراكنا ونظرتنا لذلك الوجود؟
أعتقد أن ما علينا أن نناقشه هو ليس الدين الآن، بل لماذا أخطأت علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع في فهم هذه الظواهر حتى الآن؟ وأعتقد أن هذا الأمر من الجدية بمكان لأنني لست متأكدة من أن هذه العلوم أصابت في تشخيص هذه الظواهر الآن. فقط دعونا نفكر في بعض الأمثلة: ثلاثة أحداث وانتخابات لم يمض عليها زمن طويل. الانتخابات التي لم يمض عليها زمن طويل هي انتخاب الرئيس أوباما، وهي حديثة العهد نسبياً.
لقد جلست عندها في اجتماع لعلماء السياسة في جامعة إكستر وناقشنا تلك المسألة، فقال رجل من الحضور: «ما أهمية الدين في انتخاب أوباما؟» فأجابه رجل وإمرأة: «ليس له أي أهمية». لكن هذه الإجابة كانت وبكل بساطة غير صحيحة، لقد تخيلوا أوباما بحسب المثال الأوروبي: أي أنه كان رجلاً ملوناً ولكن غير مسيحي. لكنه مسيحي بكل تأكيد وليس على أساس الاعتقاد الشخصي فحسب بل نتيجة تجربته الواسعة في العمل الاجتماعي في شيكاغو، ولكنه بالطبع كان أشياء كثيرة أخرى غير كونه مسيحياً. دعونا نفكر أيضاً في الأحداث الدولية التي كتب عنها جيل كيبيل بالكثير من البلاغة، أعني الثورة الإيرانية سنة 1979، وانهيار الشيوعية سنة 1989، و11 سبتمبر. لم أتمكن قط من أن أتجاوز حقيقة أن جميع الاختصاصات التي درستها: الاقتصاد وعلمي السياسة والاجتماع، قد عجزت تمام العجز عن توقع أي من هذه الأحداث، بينما نفخر ـ بل ونتكبر في بعض الأحيان ـ بكوننا علماء «تنبؤيين».
أنا أعتقد أن هذه جميعها تجارب يجب أن تدفعنا إلى تفكير أعمق وإلى بعض التواضع. فماذا علينا أن نفعل؟ كيف لنا أن نفهم طبيعة الحداثة؟ أول شيء أفعله أنا هو أن أتساءل: هل لدينا حداثة واحدة أم حداثات كثيرة؟ وهنا أنوه بشمويل آيزنستادت وفكرته عن الحداثات المتعددة، وهي الفكرة التي أحترمها كثيراً وأعتقد أنها تساعدنا. وكذلك أحب فكرة أن الحداثات ليست معطاة بل تمر بعملية دائمة من البناء وإعادة البناء وبطرائق مختلفة وفي أماكن مختلفة وعلى أيدي أشخاص أحياء ومجتمعات حقيقية. الحداثات ليست «معطاة»، بل إنما تُصنَع، وهذه عملية يكتسب فيها العامل الديني أهمية كبرى.
فما الذي يعنيه أن تكون حديثاً؟ هذا أقرب لأن يكون سؤالاً تجريبيّاً ولا تنظيريّاً. إذا ما كانت المجتمعات الحديثة هي المستقبل ـ كما أحب أن أعتقد وكما أحب عالم المستقبل أن يكون ـ فعليها أن تتيح المجال أمام «الصوت النبوئي»، و«الصوت النبوءي» بطبيعته يزعج وقد يكون دينيّاً كما قد يكون علمانيّاً. ما أريد أن أقوله هنا هو أن الحداثة تستمد مصادرها من الديني لتنتقد العلماني كما تستمد مصادرها من العلماني لتنتقد الديني، وما يهم هو نوعية الجدل وهذا هو التحدي الحقيقي الماثل أمام الأوروبيين ـ وبشكل أكبر أمام العلوم الاجتماعية الأوروبية ـ خاصة من لا يتعامل مع «النبوئي» ـ أي العاطفي والغريب والمتحدي ـ بشكل جيد.
وفي هذا الصدد أجد نفسي أتبع يورغن هابرماس: علينا جميعاً وفي كل الاختصاصات أن ننظر ثانية في لب تفكيرنا حتى نأخذ العامل الديني بجدية ولكن حيث يكون مناسباً. إذا حدث هذا بالفعل فسيكون ثورة حقيقية في التفكير الاجتماعي العلمي وسوف نحصل على نقاشات ملحة سواء على المستوى الأكاديمي أو أبعد منه. ولكني أتسائل هنا: هل علم الاجتماع وجميع علماء الاجتماع وجميع المختصين في شتى المجالات جاهزون لمواجهة ذلك التحدي؟ أنا أرجو ذلك فعلاً. أشكركم.
دوريس دونيلي: لا يزال لدينا بعض الوقت، فهل لدى أيٌ من المتحدثين أي تعليق أو سؤال؟
خوزيه كازانوفا: لقد طرح جيل نقطة في غاية الأهمية عن «العلامات الدينية»، فما الذي نعنيه بها؟ الدين اليوم هو إطار عام يعني الكثير من الأشياء بحيث لا يعني شيئاً منها على التعيين. يوجد علماء دين بارزون، أي متخصصون في العلوم والدراسات الدينية ولا علماء اجتماعيون مثلنا، وقد حاولوا بالفعل أن يدرسوا ماهية الدين، فتوصلوا إلى نتيجة مفادها أن علينا أن نتخلص من فكرة «الدين الفئة» لأنه لا يمكن أن يعني شيئاً على التعيين إذا ما كان يعني كل شيء.
طبعاً المشكلة هي أنهم يطلبون منا أن نتخلص من هذه الفكرة «الدين الفئة» في الوقت عينه الذي أصبحت هذه الفكرة بحكم الواقع حقيقة اجتماعية لا يمكننا التغاضي عنها، ففي كل مجتمع نذهب إليه اليوم وفي كل مكان نذهب إليه سنجد الجميع يستخدم فكرة «الدين الفئة»، وهذه بالطبع ظاهرة جديدة لا علاقة لها بالماضي.
لدينا بالطبع ثلاثة طرائق للتعامل مع هذه المسألة: الأولى هي في الطريقة التي قمنا بها بالتفكير في العلوم الاجتماعية والتي تمكننا من تطوير نظرية عامة حول الدين حتى لو لم نكن نحن أنفسنا متدينين، ولكننا نعلم أن هذا مستحيل لأننا أخفقنا ولم نتوصل إلى نظرية عامة في الدين. أما الثانية فهي الطريقة علوم العقائد الدينية أي السؤال اللاهوتي حول تمييز الدين الحقيقي من الدين الزائف، والدين الأصيل من الدين الباطل، والالتزام الديني من الانحراف، وهذا أمر يعود إلى علماء العقائد واللاهوت لأني أنا شخصيّاً لا أجرؤ على أن أقول لأحد ما أنه على خطإ حين يقول هو عن نفسه أنه يدين بدين ما.
فالمهمة إذن هي إعادة البناء التاريخية للطريقة التي نفهم بها الدين والفكرة الدينية في جميع أنحاء العالم اليوم، أما بالنسبة إلى كيفية حصول هذه الظاهرة وكيفية إعادة فهمنا لها فهي أسئلة مثيرة للاهتمام، وعلينا أن نتخلى عن فكرة كون الدين شيئاً من الماضي عاود للظهور بطريقة أو بأخرى، لا، بل هو أمر يبرز يداً بيد مع العولمة. بالطبع يمكننا أن نعود إلى التقاليد ونعيد بناءَها، ولكن المثير للاهتمام حقّاً هو ما في هذه العملية العالمية من تعقيد.
جيل كيبيل: أود أن أضيف القليل على ما قاله خوزيه، معيداً إلى حد ما ما قالته غريس: إن صورة أوباما التي تشكلت في إكستر هي صورة لجمهور أوروبي بالفعل ولا علاقة لها بالدين، وقد قارنتها بنظرة الجمهور الأمريكي لأوباما والذي رأى فيه أنه مسيحي. وقد قال خوزيه، وقد كانت هذه الفكرة في بالي أنا أيضاً، أن جمهوراً أمريكيّاً آخر، أعني حزب حفلة الشاي، بنت لأوباما في الوقت ذاته صورة تظهره على أنه مسلم!
هذا يرجع بنا إلى ما قلته: ماذا الذي يعنيه بناء صورة أوباما على أنه مسلم سياسيّاً؟ وما هي الحدود الفاصلة بين الدين واللادين؟ أهي حقيقة أن اسم أوباما الثاني هو «حسين»؟ دعوني أحكي لكم قصة: كلمة «باراك» هي الكلمة السواحيلية التي تقابل كلمة «مبارك»، أي الرجل صاحب البركة، أو «بندكت» باللاتيني، أليس كذلك؟ حسين هو اسم حفيد النبيs ومن الشخصيات المركزية في الإسلام الشيعي. إذن إن ترجمة إسمه هي: مبارك حسين. إن كلمة أوباما تعني في الفارسية: هو معنا ( أو: هو /با: مع، ما:نحن) ولذا: إنّ الحسين المبارك معنا. فلا جرم أنه حاول مد الجسور مع القيادة الإيرانية إلا أنه فشل فشلاً ذريعاً لأن تلك القيادة أحست بالخطر.
لماذا علينا أن نختار شيئاً يتعلق بالدين إذا أردنا أن نقلل من شأن شخص ما كقائد؟ هل نقول إن كون الرجل مسلماً يجعله غير مؤهل لمنصب رئيس أمريكا؟ أضف إلى ذلك أدبيات الاعتراض على بناء الجامع قرب موقع هجمات 11 سبتمبر والطريقة السيئة التي تم التعامل بها مع الأمر. وما يضعه هذا أمامنا هو أمر لا يتعلق بالفهم التقليدي للدين بل بعمق السياسات الأمريكية.
توماس هاليك: لدي بعض التعليقات هنا: البروفيسور كازانوفا: إن تعريف الدين على ما هو عليه لهو أمر مشكل بالفعل. أعتقد أن فهمنا للدين على أنه مفهوم عام يحتوي على أجناس فرعية مثل المسيحية أو اليهودية هو أمر حديث إلى حد كبير، ويرجع إلى علماء اللاهوت في كامبريدج خلال القرن السابع عشر لأنهم هم من بدأ العمل على أساس هذا المفهوم. وبالنسبة إلى ما قلته سابقاً عن أن الهندوسي لم يبدأ بتسمية نفسه هندوسيّاً إلا مؤخراً، ذكرتني ملاحظتك هذه بقصة أومبرتو إيكو الذي قال أنه زار قبل سنوات قرية أفريقية، وسأل طفلاً صغيراً هناك: «هل أنت مسلم؟» فقال له: «لا، أنا أنيميستي (أو إحيائي، شخص يعتقد بوجود روحية في كل الموجودات)»، فقال له: «لا يوجد أنيمستي مستعد أن يطلق على نفسه هذا الاسم إلا إذا كان خريجاً من المدرسة العليا للأساتذة في باريس (Ecole Normale Supérieure- Paris)، ثم قال أن عالم أنثروبولوجيا فرنسي جاء إلى أفريقيا قبل قرن من الزمان فأخبره الناس الكثير من الهراء، فحين عاد إلى فرنسا رتب ما سمعه في نظام اعتقادي سماه الأنيمسيتية، وعلمه على هذا الأساس في باريس، وحين ذهب فرنسيون آخرون إلى أفريقيا علموا هذا النظام للأفريقيين! فكانت نتيجة هذه الدورة التي لا تعكس الواقع أن يبرز لك ولد صغير في قرية أفريقية ويقول لك: «أنا أنيمستي»! وهذه شبيهة بالمشاكل الأخرى في هذا السياق.
جيل كيبيل: هذا ما نسميه: «مهمة فرنسا في جلب الحضارة إلى العالم»!!!
خوزيه كازانوفا: هذا تماماً ما أسميه «الطائفويَة»، وهذا ما يجب أن يبرز لنا التساؤل: «لماذا لم يكن هناك أي مسلمين في ألمانيا قبل أربعين سنة»؟ فحين كنت أعمل في المصانع وقتها كانوا أتراكاً فقط، ولم يشر أحد إليهم بأنهم مسلمون. يوجد لدينا هنا عملية اعتراف متبادل وإذا نظرنا إليها بمعناها الهيجلي فقد تصبح عنيفة للغاية حين يميز الناس بعضهم بعضاً أو يعجزون عن تمييز بعضهم بعضاً. علينا أن نعيد بناء كيفية بروز هذه الفئة أو تلك كفئات حديثة.
جيل كيبيل: ما تعنيه يا خوزيه أن مقوله العنصريين قبل عشرين سنة كانت: «أخرجوا الأتراك»، والآن أصبحت «أخرجوا المسلمين».
خوزيه كازانوفا: بعض الطوائف مختلفة، فمن الصعب مثلاً على تركي ألماني أن يحمل الجنسية الألمانية لأن هذه الجنسية يعرِّفها «حق الدم»، فلا يمكنك أن تكون تركيّاً وألمانيّاً في الوقت ذاته. ولكن يمكنك أن تكون مسلماً ألمانيّاً، فبمعنى ما توجد إمكانية أكبر لدمج المسلمين في ألمانيا من دمج الأتراك فيها بسبب سهولة فكرة تحولهم إلى الجنسية الألمانية بهذا المعنى.
أرى بعض الجوانب الإيجابية في هذه العملية، ففرنسا مثلاً بالفعل كانت الدولة الأوروبية الوحيدة التي قامت مثل الولايات المتحدة بالتحول إلى دولة دمج، مدرجة المهاجرين فيها حتى تحولوا إلى رجال فرنسيين، لكنك تعلم أن الجيش والمدرسة هما اللذان حولا الفرس إلى فرنسيين مثلاً، ولكن هذه المؤسسات لم تعد قادرة على فعل ذلك.
غريس ديفي: أود أن أضيف ملاحظة هنا وبعدها أريد أن أتعامل مع الأمر من اتجاه آخر. الملاحظة التي أود إضافتها هي أن البعض من مقاومة هذه التغييرات أو عمليات إعادة بناء الهويات تنشأ من العلماء الذين يدرسونها. فالناس في بريطانيا لا يحبون أن يناقشوا الأمر من الناحية الدينية بقدر ما يناقشونه من الناحية الإثنية ويشعرون أنهم يفقدون السيطرة على الأمر.
وبناء على هذا أود أن أثير النقطة الأكبر. لقد فكرت مطولاً في علاقة الدين مع الإقليم، والدين مع السلطة، والطائفة وجميع هذه المصطلحات التي إستخدمناها. نحن نميل إلى انتقاد السلطة وأصحابها وسلطة المؤسسات، ولكننا نشعر بالمقابل أن العجز وانعدام السلطة هو موقف ضعف لا يساعد أحداً، فنعتبر كلمة «إعطاء السلطة» إيجابيّاً. نحن نتناقض مع أنفسنا هنا وأعتقد أن السلطة الدينية قد لاقت تشويها كبيراً. وأعتقد أيضاً أن الدين يقدم سلطات للأفراد والجماعات بطريقة خلاقة وبنَّاءَة ولذا يجب أن يلقى ترحيباً في عالمنا المعاصر. شكراً.
دوريس دونيلي: هل يود أحد أن يضيف كلمة أخيرة؟
خوزيه كازانوفا: شيء واحد بالنسبة إلى ما تكلم عنه توماس هاليك. أنا قلق بعض الشيء. نحن الأوروبيّين نحب كثيراً التحدث عن فرادتنا، وقد سمعنا كثيراً عن فرادة الأوروبيين وفرادة الدين المسيحي، وكثيراً ما نحيي المسيحية لأنها وبعبارة مارسيل غوشيه الشهيرة: هي الدين الذي يتيح المجال للخروج من الدين، أي فكرة أن الدين المسيحي بطريقة أو بأخرى هو الدين الوحيد القادر على إنتاج العلمانية.
لكني لست متأكداً من صحة هذا الكلام. فأعتقد أن الدين الصيني لديه ذلك أيضاً. الكونفوشيوسية تمتلك علاقة شبيهة ولذا أرى أن علينا نحن الأوروبيّين أن نتواضع بعض الشيء حين نستخدم كونيتنا باعتبارها الكونيّة الفردانية الصحيحة الوحيدة، فكلما ازدادت معرفتنا بالعالم كلما قل كلامنا حول تفرد أوروبا والمسيحية.
دوريس دونيلي: بالضبط! أشكرك على هذه الملاحظات الختامية.
وأشكر الحضور الكريم على وجوده معنا.

[1]*ـ دوريس دونيلي: مديرة مركز الكاردينال سيونينز، جامعة جون كارول، الولايات المتحدة الأمريكية.
ـ 14th FORUM 2000 Conference/ October 10 -12, 2010, Prague Religion, Globalization and Secularization.
ـ من أوراق مؤتمر «فوروم 2000» الرابع عشرـ 10 ـ 12 تشرين الأول 2010، الذي انعقد تحت عنوان "الدين والعولمة والعلمنة".
ـ قاعة المؤتمرات قصر زوفين ـ براغ ـ جمهورية تشيكيا.
ـ تعريب: رامي طوقان. مراجعة: د. جاد مقدسي.