البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الدين والعلم - الشعور الديني هو الحافز الأعظم للكشوفات العلمية الكبرى

الباحث :  آلبرت آينشتاين
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  3
السنة :  السنة الثانية - ربيع 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 2 / 2016
عدد زيارات البحث :  1121
تحميل  ( 204.462 KB )
الدين والعلم
الشعور الديني هو الحافز الأعظم للكشوفات العلمية الكبرى[1]
آلبرت آينشتاين[*]
كل ما يصدر عن الإنسان من أفكار ونشاطات يهدف بها إلى تحقيق غايتين أساسيتين، أولاً: أن تتوفر له احتياجاته الجوهرية، وهي احتياجات يحس بها إحساساً عميقاً، وثانياً: ليتحاشى حدة الألم. يجب أن لا يغيب هذا أبداً عن بَالِنا إذا أردنا أن نفهم الحركات الفكرية وسيرها. إن العاطفة والحنين هما القوة الدافعة التي تقف وراء كل مجهود وابتكار بشري مُلهِم مهما تخفى هذان الحافزان وتَسترا وراء مختلف الأقنعة وأشدِّها غرابة. والآن ما هي الاحتياجات والأحاسيس التي قادت الإنسان إلى الفكر الديني والعقيدة بأوسع معاني هذه الكلمات؟ لو تأملنا هذا السؤال قليلاً لوجدنا حول مهد الفكر والتجربة الدينية مشاعر شديدة التباين. لقد كان الخوف بالنسبة إلى الإنسان البدائي هو مصدر الأفكار الدينية. الخوف من الجوع ومن الوحوش المفترسة ومن المرض ومن الموت أخيراً. وعندما كان الإنسان، في هذا الطور من وجوده، لا يدرك الارتباط السببي للأشياء إلا واهياً، ابتدع العقل البشري كائنات وهمية أشبه ما تكون بأنفسنا تسيطر بإرادتها على ما نرهبه من حوادث، ومن ثم فكر باستجلاب رضاء هذه الكائنات بأن قدَّم لها القرابين وأقام لها الشعائر والطقوس التي انتقلت بطريقة تقليدية من جيل إلى جيل لعلَّ ذلك يهدئ من ثَوْرتها أو يستجلب عطفها. ولذلك فإنني أسمي هذه الديانة ديانة الرعب التي على الرغم من أنها ليست من ابتكار طبقة كهنوتية خاصة، جعلت من نفسها وسيطاً بين الكائنات الوهمية وبين الناس وأرسلت على هذا الأساس قواعد سلطانها. وفي كثير من الحالات يجمع الحكام بين السلطة والكهانة لكي يوطِّدوا أركان حكمهم أو لإقامة مصالح مشتركة خاصة بين طبقة وطبقة الكهان.
ثم كانت الحوافز الاجتماعية مصدر آخر لتطور الدين. إن الآباء والأمهات أكبر قادة المجتمعات البشرية ليسوا خالدين ولا معصومين من الخطأ، ورغبة الإنسان في الرعاية والحب والعون دفعته إلى ابتداع التصور الاجتماعي أو الأخلاقي عن الله. إنَّه الإله الذي يغمرنا برعايته، وهو الذي يحمينا، وهو القادر الذي يكافئ ويعاقب. إنَّه الإله الذي، تبعاً لاتساق أفق المؤمن، يحب ويحمي حياة القبيلة، أو الجنس البشري، أو حتى الحياة ذاتها، وهو المعزِّي في الشدائد وعند ضياع الأمل، وهو الذي يحفظ أرواح الموتى. هذا هو التصور الاجتماعي أو الأخلاقي للإله. وتوضح الكتب المقدسة للديانة اليهودية الانتقال من ديانة الرعب إلى ديانة الأخلاق، ولقد كان هذا الانتقال تقدميّاً واستمر في العهد الجديد. إن ديانات كل الشعوب المتحضرة خصوصاً شعوب الشرق هي أساساً ديانات أخلاقية. ولقد كان الانتقال من ديانة الرعب إلى الديانة الأخلاقية خطوة كبرى في الشعوب. ومع ذلك نرتكب تحيزاً صارخاً إن ظننا أن كل الديانات البدائية تقوم كلياً على الرعب، وأن ديانات الشعوب المتحضرة تقوم كلياً على الأخلاق. يجب أن نتحاشى هذا التحيُّز، فالحق هو أن جميع الديانات مزيج متفاوت منهما، مع فارق واضح كلما ارتفع المستوى الاجتماعي لحياة شعبٍ رجِّحت كفة الديانة الأخلاقية عنده.
وتشترك جميع هذه الأشكال من الديانات في الطابع الإنساني لتصورها لله. ولا يعلو فوق هذا المستوى من الإدراك إلا أفراد موهوبون لهم مواهب نادرة وجماعات غير عادية على درجة من سمو الفكر. ولكن ثمة طوراً ثالثاً من التجربة الدينية تشترك فيه جميع هذه الأشكال رغم أننا لا نقابله بصورة خالصة وسأسميه « الشعور الديني الكوني». ومن العسير جداً توضيح هذا الشعور لمن لا يعرفه إطلاقاً، خصوصاً وأنه ليس هناك تصور إنساني لله يناظره.
إنّ الفرد يحس من ناحية بعبث رغبات البشر وأهدافهم، وإنّه من الناحية الأخرى يحس بالسمو والانتظام الرائع اللذين يتجليان في كل من الطبيعة وعالم الفكر. وهنا يبدو له الوجود الفردي نوعاً من السجن وَيودُّ أن يكابد الكون، أو يُلم به ككلِّ واحد له مغزى. وبدايات الشعور الدين الكوني يظهر في طور متقدم من أطوار التطور الديني، مثلاً في كثير من مزامير داوود وفي بعض الأنبياء كذلك، وتشمل بوذا أيضاً، كما تعلمنا من كتابات شوبنهاور الرائعة، التي احتوت على عناصر أقوى حتى من هذا الشعور الديني الكوني.
ولقد كان لكل العبقريات الدينية في كل العصور حظها من هذا النوع من الشعور الديني، الذي لا يعرف العقائد ولا الإله الذي على صورة إنسان. وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون هناك معبد تقوم تعاليمه الأساسية عليه. ومن هنا نجد على مر العصور أنّ الرجال الذين تشبعوا بأعلى درجات هذا الشعور الديني، تمَّ حسابُهم ضمن الهراطقة وقد عدَّهم معاصروهم كفرة أحياناً، ومن القديسين أحياناً أخرى! ومن هذه الزاوية نجد أن رجالاً مثل ديموقريطس وفرنسوا داسيس وسبينوزا شديدو التقارب في ما بينهم. ولكن كيف ينتقل الشعور الديني الكوني من فرد إلى آخر ما دام لا يؤدي إلى فكرة محددة عن الله ولا يؤدي إلى نظرية لاهوتية؟
في رأيي إن أهم وظائف الفن والعلم هي في إيقاظ هذا الشعور وحفظه حياً بين من يستطيعون الإحساس به.
وهكذا نصل إلى تصور العلاقة بين العلم والدين يختلف اختلافاً جوهرياً عن التصرف المألوف. إن المرء عندما ينظر إلى هذا الموضوع من زاوية تاريخية يميل إلى اعتبار العلم والدين عدوين لدودين. ولسبب واضح فالمرء الذي اقتنع بأن قانون السببية يحكم جميع الحوادث الكونية، لا يمكن أن يتقبل فكرة تدخل كائن ما بمجرى الأحداث وتغييرها. إنّه ليس بحاجة على الإطلاق لديانة الرعب. والمثل تقريبياً مع الديانة الاجتماعية والأخلاقية، فهو لا يتصور إلهاً يعاقب ويكافئ، لأنّ أعمال الإنسان تحددها الحاجة، سواء كانت حاجة داخلية أو خارجية، بحيث لا يمكن أن يكون مسؤولاً أمام الله، أكثر من مسؤولية حجر أصم. وعلى ذلك اتهم العلم بأنّه يهدم النظرية الأخلاقية من أساسها، وهو اتهام ظالم. إن السلوك الأخلاقي للإنسان يجب أن يقوم في الواقع على التعاطف والتربية والروابط والاحتياجات الاجتماعية دون الحاجة إلى الأساس الديني. كم يكون الإنسان مهيناً، يستحق الشفقة إذا كان لا يسلك سلوكاً حميداً إلا خوفاً من العقاب أو ابتغاءً للثواب بعد الموت. ومن السهل علينا أن نرى السر في أن الكنائس قاومت العلم على مر العصور واضطهدت رجاله المخلصين، ولكن من الناحية الأخرى أؤكد أن كل الشعور الديني الكوني من أنبل وأقوى الحوافز على البحث العلمي. إن الذين يدركون مدى الجهود الهائلة وفوق كل شيء التفرغ التام الذي لولاه لا يمكن أن يتحقق أي عمل رائد في العلم النظري، هم وحدهم الذين يُقدرون مدى قوة الشعور الذي يصدر عنه وحده مثل هذا العمل. ومهما كان بعيداً عن واقع الحياة المباشرة فما أروع الإيمان بمعقولية الكون، وما أحر الاشتياق إلى الإلمام بذلك العقل الذي يشير إليه ذلك الإيمان. وهذا هو الاشتياق الذي اكتوى بناره كبلر ونيوتن واستمدَّا منه تلك الطاقة الجبارة التي حفزتهم على البحث المتفرغ لعدة أعوام عن أسس ميكانيكا الأجرام السماوية. إن الذين لا يقدرون البحث العلمي إلا عن طريق ما يقدمه من نتائج عملية، يقعون بسهولة فريسة فهم زائف لعقلية أولئك الذين أوضحوا، رغم شكوك المحيطين بهم، معالم الطريق للعقول المتقاربة التي ظهرت فرادى في جميع بقاع العالم عبر الأجيال. إن الذين وهبوا حياتهم لمثل هذا الغرض هم وحدهم الذين يستطيعون أن يكونوا صورة حية لما أُلهم هؤلاء العلماء ومنحهم القوة أن يظلوا متشبثين بأهدافهم رغم الفشل المتكرر. إنه الشعور الديني الكوني الذي أعطى أمثال هؤلاء الرجال تلك القوة، ولقد قال بحق أحد الكتّاب المعاصرين «إن العاملين بجد في الحقل العلمي هم وحدهم في هذا العصر المادي الرجال عميقو التدين».
[1]*ـ هذا النص للعالم آينشتاين، منشور في جريدة نيويورك تايمز بتاريخ: 9/11/1930.