البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

فلسفة الدين - منشأ المصطلح، ومعناه، ومجال استعماله

الباحث :  خضر إبراهيم
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  3
السنة :  السنة الثانية - ربيع 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 2 / 2016
عدد زيارات البحث :  2477
تحميل  ( 269.023 KB )
فلسفة الدين
منشأ المصطلح، ومعناه، ومجال استعماله
خضر إبراهيم[1] [*]
ذهب كثيرون إلى تقريب مصطلح فلسفة الدين من مصطلح علم الكلام، كونه يعمل على قضايا مشتركة مع ذلك العلم. كذلك ذهب الفكر المسيحي إلى موازاته بعلم اللاهوت للأسباب نفسها. ولا يزال النقاش في هذا الحقل محتدماً من دون التوصل إلى رؤية معرفية واضحة المعالم لمصطلح فلسفة الدين. ومع هذا فإن معظم التعريفات التي نُقِلَت عن العاملين في هذا الحقل، ترتبط ببعضها البعض ضمن سياق واحد ومتشابه.
في البحث التالي تعريف بـ «فلسفة الدين» كمصطلح ومفهوم، وعرضٌ إلى أهم الأطروحات التي قدَّمها باحثون ومفكرون ـ غربيون ومسلمون ـ في هذا المجال، والمناهج التي اعتُمدت حيال هذا المفهوم في حقل الدراسات الدينية والسوسيولوجية والفلسفية.
المحرر
تعني فلسفة الدين في أحد أبعادها التعريفية، البحث الحر والمفتوح في مناشئ ومقوِّمات، وطبيعة النظرة إلى الدين، وكذلك التي يحملها الدين إلى العالم. من موقع معرفي، فإن هذا المعنى هو أقرب إلى التوصيف الحيادي والموضوعي، منه إلى الإنحياز ذي الطبيعة الايديولوجية.
إن ما سبق هو ـ كما قلنا ـ أحد التعريفات المتداولة حول مفهوم فلسفة الدين. لكن مفهوماً كهذا يبدو حديث العهد في قاموس الفلسفة، مع ان موضوعاته قديمة قِدَم الفلسفة. وعليه، فإن مفهوم فلسفة الدين يفترض التمييز بين الفلسفة والدين. إلاّ أنَّ معنى هاتين الكلمتين (الفلسفة ـ الدين) وتركيبهما الإضافي هو محل نزاع ونقاش طويلين، ولذا سنركز ها هنا على أربعة تعريفات أولية تتمتع كلها بخصوصيات بارزة، بحيث تُرجع باقي التعريفات إليها بطريقة أو بأخرى:
أولاً ـ فلسفة الدين عبارة عن استعمال الطرق الفلسفية (Philosophical methods) للإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالمواضيع الأساسية في الفكر الديني. وليس المراد من الفلسفة في فلسفة الدين، التعريف الاصطلاحي، بل الفلسفة الموجودة في الجامعات الغربية، أي سلسلة المباحث التاريخية والميتودولوجية. في الواقع، فإن طريقة الفلسفة الأساسية، هي خليط من الدراسات التاريخية والتحليلات المنطقية (Logical Analysis) والمفهومية (Conceptual) وعلم اللغة (Philology).
ثانياً ـ فلسفة الدين، هي التفكّر الفلسفي حول الدين. فتكون بهذا البيان جزءاً من الفلسفات المضافة وفرعاً من علم المعرفة (Epistemology) بالمعنى الأعم، ذلك لأنها تتطرَّق ـ بالانطلاق من موضوعها، أي استقلالية الدين ومن الخارج ـ إلى البحث والتحقيق في الأمور والموضوعات الدينية.
ثالثاً ـ إنَّ فلسفة الدين هي علم ثانوي، لأنها ليست جزءاً من المواضيع الدينية، بل هي كفلسفة الحقوق بالنسبة للدراسات الحقوقية والمفاهيم والأدلة القضائية.
رابعاً ـ إن ميدان فلسفة الدين هو الدراسات الدينية الفلسفية. أي التفكير الفلسفي حول الدين، لا الدفاع الفلسفي عن المعتقدات الدينية. وفي هذا الصدد يمكن القول إنَّ الالتباس الحاصل بين فلسفة الدين ضمن مهمتها الحيادية، وبين علم الكلام أو علم اللاهوت ضمن مهمتهما الدفاعية والتبريرية عن المعتقدات، إنما هو التباسٌ ناجم من تداخل وتشابك الأدوار، وطريقة الاستخدام. وثمة من رأى أن فلسفة الدين تهدف لايجاد تبرير وتبيين عقلي لأديانهم، بينما اعتقد البعض أن في ذلك سعياً لتبرير وتوجيه إلحادهم، وكان عند قوم آخرين مجرد سعي لدراسة وبحث ساحة أخرى من ساحات التجربة الانسانية. في موازاة هؤلاء انصرف بعضهم إلى القول، إن فيلسوف الدين لا يلزم أن يكون فرداً عقائدياً، بل يمكن أن يكون منكراً لله، أو مؤمناً، أو لا أدرياً. وعلى أي حال فإنَّ فيلسوف الدين ليس بالضرورة أن يكون ملتزماً بدين معين حتى يمارس مهمته الفلسفية. ذلك أنَّ كلمة الدين في فلسفة الدين، هي كلمة مطلقة وغير مقيّدة بأحد الأديان دون سواها، أي أنَّها غير مقيّدة لا بالإسلام ولا بالمسيحية ولا باليهودية، ولا بسوى ذلك من الأديان غير الوحيانيَّة.
بين فلسفة الدين وفيلسوف الدين
ثمة تعريفات لفلسفة الدين وفيلسوفها سبق لها أن جُعلت كمنطلقات للبحث الفلسفي. وهي مع ذلك تبقى مفتوحة على الاجتهاد والتأويل.
ومن المنطقي القول أنه حين نفهم طبيعة ومقاصد فلسفة الدين، فإننا سوف نتوصل إلى معرفة من هو فيلسوف الدين.
بالنسبة إلى فلسفة الدين فهي تُمارس كفعل معرفيّ، ضمن أحوال شتى أهمها:
حين يُدرس الدين وفقاً للمقولات الفلسفية، أنطولوجياً ومعرفياً وتاريخياً.
حين يُدرس الدين كموضوع يتناوله الفلاسفة كلٌ على طريقته.
حين يُدرس الدين فلسفياً على أرض المقولات الدينية.
أما فيلسوف الدين فهو الذي يسلك ـ انطلاقاً من كونه فيلسوفاً ـ طرائق متعددة للدرس والبحث والتأويل. أما صفاته وأعماله فيمكن إدراجها ضمن التعاريف التالية:
أـ كل فيلسوف يتكلم عن الدين كموضوع، أو كل من يستند إلى مقدمات فلسفية من خارج الدين للبحث في القضايا الدينية.
ب ـ كل فيلسوف يعمل بمقدمات فلسفية من خارج الدين ويصل إلى الدين من دون أن يقصد بالضرورة إثبات الدين.
كل فيلسوف يشتغل بالسؤال الفلسفي للبحث في الدين بوصفه ظاهرة بشرية.
كل فيلسوف يتعامل مع الدين بقصد إجراء بحوث مقارنة مع أديان أخرى.
هـ ـ لا تتوقف إشارات الاستفهام عند هذا الحد، لذا فإننا لا نلبث حتى ندخل في إشكاليات استفهامية أخرى حول ما إذا جاز لفيلسوف الدين أن يكون متكلماً, أو فقيهاً أو عارفاً؟
وـ هناك من يذهب إلى أن بالإمكان أن تتعدد صفات فيلسوف الدين؛ غير أن التراث الفلسفي الغربي حرص على أن يعمل وفق المنهج "الخارج ديني" ليدخل إلى دائرة الدين، ثم ليغادرها من دون أن تمسه مشاعر الداخلين فيه وأحكام المعرفة الإيمانية به لديهم.
فلسفة الدين كفلسفة مضافة
تدخل فلسفة الدين ضمن ما يُعرف علمياً بـ «الفلسفة المضافة» مثل: فلسفة العلم ـ فلسفة الجمال ـ فلسفة اللغة ـ الفلسفة السياسية ـ فلسفة الأخلاق الخ... وهذه كلُّها تكون في مقابل الفلسفة الأولى، وهذا هو سبب احتوائها لأحد الأحكام الكلية الفلسفية. أي ترصّد ماهيات الحقائق والبحث العقلاني عنها.
يمكن تعريف الفلسفة المضافة ـ كما يوضح الدارسون ـ على شكلين:
الأول: الشكل التاريخي والتحققي، وذلك من خلال الالتفات إلى المصاديق القائمة ـ وفهم أصحاب هذا الحقل، كلٌّ من خلال سيرته الذاتية وتجاربه التاريخية.
الثاني: بالشكل المنطقي والمطلوب، وكما ينبغي لها أن تكون. وبسبب التطورات الحاصلة في الواقعية التاريخية للعلوم، وبسبب التفاوت بل التهافت الموجود بين أصحاب النظر والتأثير في الحقول المعرفية المتنوعة، وكذلك بسبب وجود الخلط في بيان طبيعة وصفات وذات وأبعاد الفلسفات المضافة ومن يدعي الاختصاص في هذا الحقل، حيث يبدو من الصعب تقديم صيغة واحدة مقبولة لدى الجميع في تعريف الفلسفة المضافة.
لكن يمكن القول بوضوح أن موضوع الفلسفات المضافة هو«الحقول والمنظومات المعرفية أو غير المعرفية» الخاصة، أما موضوع الفلسفة المطلقة فهو الوجود المطلق. وبذلك تحتفظ الفلسفة العليا بصفتها «رئيسة العلوم» بالقياس إلى الفلسفات المضافة أيضا. رغم أن مصبَّ البحث في كلا النوعين من الفلسفة (المطلقة والمضافة) هو الأحكام الكليّة والعامة، إلاّ أنَّ الأحكام العامة تمثل موضوعاً لذلك النوع الخاص، كما أن كِلا نَوْعَي الفلسفة مدينٌ في فلسفيته إلى الإتجاه والأسلوب والمنهج العقلاني، وإن هذه الصفة مشتركة بين أنواع الفلسفة[2].
أما الفلسفات المضافة فإنها تختلف عن «العلوم المضافة»، من قبيل: علم الاجتماع المعرفي، وعلم الاجتماع الديني، وعلم الاجتماع السياسي. ففي «العلوم المضافة» بمقتضى عِلْمِيَّتها تتم دراسة المضاف إليه بشكل تجريبي وجزئي. بمعنى أنَّها ناظرة إلى اكتشاف وتوظيف العلاقات القائمة بين الظواهر. كل ذلك رغم أنًَّ بعض المسائل قد تبحث في الفلسفة المضافة إلى موضوع، وفي علم ذلك الموضوع أيضاً، كما هو الحال بالنسبة إلى مسائل من قبيل: ماهية الحقوق، والنسبة القائمة بين الحقوق والأخلاق، وأقسام الحقوق، ومناشئ ومصادر الحقوق، وسوى ذلك، حيث تبحث في «فلسفة الحقوق»، وفي «علم الحقوق» أيضاً. وهذا الأمر يحصل أحياناً بسبب الخلط بين مسائل العلوم، ولذلك يجب تجنبه، وأحياناً يتم إدراج وبحث مسألة ـ بلحاظ الاختلاف في الحيثية والأسلوب والإتجاه والغاية أو جهة أخرى ـ في حقلين، وهذا بطبيعة الحال لا مانع منه، بل لا يمكن اجتنابه.
إن الفلسفات المضافة ليست حصيلة بسط رؤوس العلوم الثمانية؛ لأن النسبة المنطقية القائمة بين مسائل الفلسفات المضافة وبين رؤوس العلوم الثمانية هي نسبة العموم والخصوص من وجه؛ فإن مسائل من قبيل: دراسة الجذور التاريخية لعلم من العلوم، والكلام عن المؤسس والمدون لها، والشخصيات البارزة فيها، وتسميتها، وطرق تعليمها تندرج ضمن الرؤوس الثمانية، بيد أن هذا النوع من المسائل؛ حيث يكون له صبغة تاريخية، لا يمكن طرحه بوصفه جزءاً من المباحث الذاتية للفلسفات المضافة. ومن ناحية أخرى فإن مباحث من قبيل: طبيعة القضايا في العلم المضاف إليه، والمقدمات المعرفية والغير معرفية المؤثرة في المضاف إليه، وأسباب وأنواع تطورات العلم في الفلسفات المضافة، تخضع للفحص والدراسة، ولكنها لا تعد جزءاً من مباحث رؤوس العلوم الثمانية أبداً. والأهم من ذلك أن الرؤوس الثمانية تنحصر مهمتها في بيان المسائل العامة ومقدمات العلوم، في حين أنَّ المُضاف إلى الفلسفات المضافة ليس من العلوم دائماً، إن الفلسفات المضافة إلى الأمور (أو الموجودات المنظومية) تُؤلف مجموعة كبيرة من الفلسفات المضافة[3].
لكن الباحث في فلسفة الدين أوليفر ليمان (Oliver Leaman)[4] له رأي آخر يبيّن فيه ميّزات فلسفة الدين عن سائر الفلسفات المضافة. وها هو يقول: إنَّ أحد الأشياء المختلفة تماماً في ما يتعلق بفلسفة الدين هو أنَّ لديها ارتباطاً شديد الخصوصية بما هو شخصيٌّ. وقد اتخذ الكثير من المفكرين موقفاً خاصاً من الدين ربما بالإيجاب أو بالسلب. وربما هم يرون أنَّ فلسفة الدين تكتسب لديهم أهميَّة أكثر من مجرد الأهميَّة النظريَّة. ومع ذلك من الممكن أنْ يكون اهتمام المؤمن بالدين، بفلسفة الدين، أكثر من مجرد الاهتمام الأكاديمي. ربما ليعبر عن مبادئ، أو أساسيات دينية بطريقة عقلانية، أو حتى ليؤسس له ويبرهن على صحته. وبحسب «ليمان» أن الكثيرين من المؤمنين يرغبون في انتهاج هذا النحو من الاهتمام. حيث أنه سيكون من المُستغرب اذا هم انهمكوا في الفلسفة لاستخلاص منهج عقلاني لقضايا يمكن الجدل حولها في الوقت الذي لا يطبقون هذا المنهج العقلاني على العقيدة الخاصة بهم[5].
الفهم المشرقي الإسلامي للمفهوم
تناول الباحثون المسلمون مفهوم فلسفة الدين ضمن الإطار العام لبحوثهم في العلوم الدينية والفلسفية. وهكذا يبدأ هؤلاء بحثهم في فلسفة الدين من تعريف الدين نفسه. وقد جاء في التعريف أن المراد من الدين هو الصورة المُلهمة والمنزلة للمشيئة التكوينية (المتحققة) والإرادة التشريعية (المتوقعة) لخالق وربّ الكون والإنسان. وبعبارة أخرى: إن الدين عبارة عن «مجموعة من القضايا والتعاليم التي ألهمت وأبلغت من قبل مبدأ الوجود في الدنيا والآخرة». أما بحوثهم في فلسفة الدين فهو مبني على تحقيق الموارد التالية:
ـ ماهية الدين (ومباحث الدين الماهوية): ونبحث تحت هذا الفصل العناوين التالية:
أـ تعريف الدين كمصطلح وغاية.
ـ جواهر الدين وأهدافه، أو ألبابه وقشوره.
رقعة الدين (مساحة الشريعة).
ـ كمال الدين وشموليته وخلوده.
الإيمان.
القيادة.
أهداف الدين.
آليات الدين.
منشأ الدين حيث يجري البحث تحت هذا العنوان موضوعات من قبل: التصورات النفسية، واللغوية، والتاريخية، والاجتماعية وما إلى ذلك. ويتم البحث في خلال حقل ظهور الدين، والنزعة الدينية لدى الإنسان، ونظرية المشيئة الإلهية، والفطرة الإنسانية.
كما تتناول فلسفة الدين مجموعة من القضايا الأخرى مثل: التعددية الدينية (مسألة وحدة وتنوع الأديان)، معرفة الدين: وفي هذا الفصل نبحث ونحقق في المسائل التالية: إمكان فهم الدين، المنهج في فهم الدين، لغة الدين(الوحي)، ولغة الدين (لغة الكلام عن الله)، مصادر ومستندات معرفة الدين، نسبة الدين وعلاقته بكل من الفلسفة والعرفان والأخلاق والعلم والثقافة والفن والتاريخ والحضارة وما إلى ذلك[6].
في هذا الجانب من اشتغالات فلسفة الدين يتم أولاً التحقيق والتعمق في «إثبات المعتقدات الدينية»، و«مفهومية القضايا الدينية»، والانتقال بعد ذلك إلى العناوين التالية:
أـ الله (المفهوم، وأدلة الإثبات والنفي). وتعتبر هذه المسألة من أهم مسائل فلسفة الدين، وأوسعها رقعة.
ب ـ الصفات.
ج ـ الشرور والنقص (مسألة العدل، وحكمة الله، والغاية من الحياة، والنظام الأحسن).
د ـ الخلق وطريقة ظهور الوجود (ومسألة المبدأ).
هـ ـ المجرد والمادي.
و ـ الوحي والنبوّة والتجربة الدينية.
ز ـ الإعجاز.
ح ـ مفهوم الحياة.
ط ـ الاختيار.
ي ـ الشعائر والآداب والمناسك الدينية.
ك ـ المصير والنظام الأخلاقي في العالم (ومسألة نهاية التاريخ).
ل ـ خلود النفس.
م ـ المعاد(السعادة والشقاء الأبدي).
فلسفة الدين في الفلسفة الإسلامية
في الأدبيات الإسلامية الحديثة تعني فلسفة الدين: العلم الشامل للفلسفة الإسلامية والتوجهات. وموضوع هذا العلم الشامل عبارة عن: الفلسفة الإسلامية والاتجاهات المشائية والاشراقية والصدرائية، وما توصلت إليه الشخصيات البارزة في الحكمة الإسلامية[7].
أما غاية وهدف هذا العلم فهو وصف وتحليل مدارس ومذاهب الفلسفة الإسلامية، وتقييم وكشف نقاط ضعفها وقوتها، وأن هذا الهدف يتم في إطار الالتفات إلى جدوائية ودور الفلسفة في حقل الإلهيات والعلوم والفلسفات المضافة والثقافة والفن، وتطبيق الفلسفة وتطويرها بما يتناسب والحجة المعاصرة للدنيا والآخرة، والحياة المادية والمعنوية، والفردية والاجتماعية. وفي نهاية المطاف يتم تقديم بِنيَة ومنظومة جديدة مقترحة للفلسفة الإسلامية. وبعبارة أخرى: إن الهدف النهائي لفلسفة الفلسفة الإسلامية عبارة عن اكتشاف وتقديم بنية منظمة للفلسفة الإسلامية، تتمتع بالخصائص التالية:
اتصافها بالفلسفة، وتمتع جميع مسائل الفلسفة الإسلامية بالمنهج العقلي.
ب ـ اتصافها بالإسلامية، بمعنى التناغم بين المسائل الفلسفية والتعاليم الإسلامية، أو في الحد الأدنى ـ عدم مخالفتها للإسلام بشكل صريح.
ج ـ الجدوائية والحداثة، بمعنى اضطلاع الفلسفة الإسلامية بدورها في الإلهيات والعلوم والفلسفات المضافة والثقافة والفن، وغيرها من احتياجات الإنسان المعاصر.
ولكي نفهم المسائل المذكورة آنفاً لا بد من بيان وشرح الألفاظ الرئيسة في الفلسفة الإسلامية، من قبيل: أسلوب ومنهج التحقيق، والاتجاه، والمعطيات، بشكل شامل.
يعني منهج التحقيق بالمعنى العام، عبارة عن جمع الملعومات بشأن نظرية ما، وتوصيفها، والحكم بشأنها، وفهمها.
يُطلق على القسم الأول من منهج التحقيق بالمعنى العام مصطلح فن التحقيق. ويتم تقسيمه إلى: الميداني؛ والمكتبي. ويتم تقسيم الميداني إلى: تحقيقي؛ وتقييمي؛ وإحصائي.
ويُطلق على القسم الثاني من منهج التحقيق بالمعنى العام، أي وسيلة التوصيف والحكم والفهم، مصطلح منهج التحقيق بالمعنى الخاص. ويتم تقسيمه بمختلف اللحاظات إلى أقسام متنوعة، حيث يتم تقسيم منهج التحقيق بالمعنى الخاص، في مقابل فن التحقيق، بلحاظ أول إلى: المنهج التوصيفي؛ والمنهج التعليلي؛ والمنهج التحليلي؛ والمنهج الاستدلالي؛ والمنهج النقدي.
يعمل المنهج التوصيفي على تقرير النظرية أو الظاهرة.
ويعمل المنهج التعليلي على بيان أسباب وعلل ظهور النظرية.
ويعمل المنهج التحليلي على اكتشاف مقدمات ولوازم النظرية.
ويعمل المنهج الاستدلالي على إثبات المعتقد والمبتنى.
ويعمل المنهج النقدي على الحكم بشأن النظرية (الاكتشاف، والمطابقة مع الواقع وعدم المطابقة معه)[8].
هذا في حين أن المنهج الاستدلالي هو وسيلة تحويل المُتبنى إلى مُتَبنى صادق ومبرر ومستدل، وهو الذي يقبل التقسيم إلى: أدوات عقلية؛ وتجريبية؛ ونقلية (الأعم من التعبدية والتاريخية والحضورية).
وإن المنهج التعليلي عبارة عن بيان علل وعناصر ظهور نظرية ما، من قبيل: العناصر التحفيزية؛ والميكانيكية؛ والتنظيمية؛ والإلهية؛ والاجتماعية؛ وما إلى ذلك. كما يتم تقسيم منهج التحقيق بالمعنى الخاص بلحاظ آخر إلى:المنهج الهرمنيوطيقي؛ ومنهج علم الظواهر؛ والمنهج البنيوي؛ والمنهج الحواري[9].
الفهم الغربي لفلسفة الدين
في الأدبيات الكلاسيكية الأوروبية حول الدين سبق أن فُهم التفلسف الديني بمعناه الشائع أي الدفاع عن المعتقدات الدينية، وقد اعتبر مكمّلاً للاهوت «الطبيعي» (natural) الذي يتميز عن اللاهوت «الوحياني» (revealed)، وكانت غايته الاستدلال العقلي على وجود الإله، وهكذا يكون قد مهّد الطريق لدعاوى الوحي. انطلاقاً من هذا الفهم يذهب فيلسوف الدين الإنكليزي جون هيغ إلى تسمية الدفاع الفلسفي عن العقائد الدينية (apologetics) «علم الدفاع عن العقائد الدينية»، والاحتفاط باسم «فلسفة الدين» لما تعنيه بالضبط؛ أي التفكير الفلسفي حول الدين، (تشبيهاً بفلسفة العلم، وفلسفة الفن...). فلسفة الدين إذاً، ليست جزءاً من التعاليم الدينية، ولا ينبغي أن تعالج من وجهة نظر دينية. فالملحد والمشكك والمؤمن جميعهم يستطيعون التفلسف حول الدين. وعليه، ليست فلسفة الدين فرعاً من فروع اللاهوت (نقصد «باللاهوت» الصياغة المنهجية للاعتقادات الدينية)، بل هي فرع من فروع الفلسفة؛ ولذا فهي تهتم بدرس المفاهيم والمنظومات الاعتقادية الدينية، كما تدرس ظواهر التجربة الدينية، وأعمال العبادة والتأمل التي ترتكز عليها وتنشأ منها هذه المنظومات الاعتقادية. هكذا تكون فلسفة الدين نشاطاً من درجة ثانية، منفصلاً عن مسائل موضوعه، وهي لا تشكل جزءاً من المنظومة الدينية رغم ارتباطها بها، كارتباط فلسفة القانون بالظاهرة التشريعية والمفاهيم القضائية وطرق التفكير؛ وكارتباط فلسفة الفن بالظاهرة الفنية، وموضوعات الجمال على اختلافها[10].
يشير فيلسوف الدين جون هيغ إلى أن هناك عدداً من التعريفات المختلفة للدين: منها ما هو ظاهراتي يحاول عرض ما هو مشترك بين أشكال الأديان المعروفة، مثل: «الدين اعتراف بشري بوجود قوة فوق بشرية مسيطرة، هي الإله أو الآلهة الذين يستحقون الطاعة والعبادة» (Oxford Dictionary Concise)، ومنها ما هو تأويلي، وسيكولوجي مثل «الدين عبارة عن احساسات وأعمال وتجارب البشر في العزلة حين يشعرون بالارتباط بشيء يعتبرونه إلها» (وليام جيمس). وهناك تعارف سوسيولوجية للدين مثل: «الدين مجموعة اعتقادات، وممارسات، ومؤسسات اجتماعية طورها البشر في مجتمعات مختلفة» تالكوت بارسونز (Talcott parsons) ويعرفه آخرون ـ كالطبيعيين، بأنه «مجموعة وساوس وشكوك تعيق ممارسة الأعمال بُحرِّية»(Salamon Reinach) «سالمون ريناخ» أو بشكل أكثر تعاطفاً: «الدين هو القيم الأخلاقية التي تعالت واشتعلت بالمشاعر» ماثيو أرنولد (Mathew Arnold)، وهناك طبعاً تعرفات دينية للدين مثل: «الدين هو الاعتراف بأن كل الأشياء هي مظاهر لقوة لا نستطيع إدراكها» (Herbert spencer)، أو: «الدين استجابة الإنسانية للألوهة»[11].
لكن لا بد من التذكير إلى أن تعريفات كهذه تبقى محكومة بشروطها، ذلك لأنها تقرّر كيف تستعمل المصطلح وتفرضه على شكل تعريف. وربما كان ثمة وجهة نظر أكثر مرونة تنفي أن يكون لكلمة «دين» معنىاً واحداً صحيحاً، بل إن الظواهر المختلفة التي تندرج ضمنها تتعلق بها بالطريقة التي يشبهها الفيلسوف لويدفيغ فتغنشتاين (Ludwig Wittgenstein) بالعائلة؛ مستخدماً مثلاً خاصاً على ذلك كلمة «لعبة» game، فأنت لا تستطيع أن تُعرّف اللعب بأنَّه ما يؤدي للتسلية (لأن بعض الألعاب تُلعب للكسب)، أو للتنافس (فبعضها يكون تمثيلياً) أو ما يتطلب مهارة (لأن بعضها يتعلق بالحظ)، فهي بالفعل لا يمكن أن تُنظر من جهة واحدة.
تعتمد هذه الأنواع المتداخلة من الألعاب، في خصائصها على أنواع أخرى تتداخل بدورها وبطريقة أخرى مع أنواع أخرى، والتشكيلة التي تتفرع عنها تترابط ضمن شبكة معقدة من التشابهات والاختلافات كتلك التي تظهر في العائلة، ويمكن تطبيق فكرة فنتغنشتاين على كلمة «دين»، إذ ربما لا توجد خصائص موحدة لشيء يسمى: «الدين»، بل «عائلة من المتشابهات»[12]. ففي كثير من الأديان توجد عبادة الإله أو الآلهة، ولكن في النيرفانا والبوذية مثلاً لا يوجد مثل هذا الأمر. وغالباً ما يدعو الدين إلى اللحمة الاجتماعية، وأحياناً يتصف بأنَّه: «ما يفعله الإنسان في عزلته» (A.N.Whihead). وأحياناً يُعبِر الدين عن انسجامٍ داخليٍّ للفرد، فيما يبدو بعض دعاة الأديان العظام لمعاصريهم مختلي التوازن وحتى مجانين. وهذا النوع من التشابه العائلي، حاضر في الفروق الموجودة بين الأديان الكبرى من جهة، وفي الاعتقادات غير الدينية من جهة أخرى، كالماركسية التي لها مثالها الأخروي وهو المجتمع اللاطبقي، ومبدؤها في الحتمية التاريخية، وكتبها، وأنبياؤها، وقديسوها وشهداؤها. وهي في بعض مظاهرها تبدو كشريك ضمن عائلة الأديان، رغم نقضها لبعض، المقومات المركزية للدين وربما لأكثرها. فمسألة اعتبار حركة ما دينية لا تعنى ان يكون لها كل مقومات الدين، بل إنّها مسألة موقع في شبكة واسعة الأرجاء من التشابهات والاختلافات.
إنّ في هذه المجموعة المتشعبة من التشابهات العائلية Family resemblances ميزة منتشرة انتشاراً واسعاً لكنَّها ليست شاملة، تتعلق بما يسمى «خلاصاً» أو «حرية». وباكمالها للبنية الخلاصية تَعرض عائلة المتشابهات طرقها الخاصة إلى المطلق ـ من خلال الإيمان والاستجابة للنعمة المقدسة، أو من خلال وهب النفس كليّاً للإله، أو من خلال انضباط ونضوج روحيٍّ يؤدي إلى الحرية والتنوير. وفي كل حالة يتشكل الخلاص أو الحرية من نوعية وجود جديدة وفضلى، تنشأ نتيجة للتحول من مركزية الذات إلى مركزية الواقع[13].
التعددية في فلسفة الدين
في ما يعني ظاهرة التعددية يجمع فلاسفة الدين الغربيون على وجود تمييز بين الحق والمطلق والمقدس بذاته. وبين الحق كما يتصوره ويختبره البشر. والفرضية المنتشرة في ثقافات الأديان الكبرى وخصوصاً في تياراتها الأكثر روحانية، أن الحقيقة المطلقة لا متناهية، وهي بذلك تفوق الفهم والفكر واللغة البشرية، وبالتالي فإنَّ مواضيع العبادة والتأمل القابلة للوصف والاختبار ليست هي المطلق في حقيقته اللامحدودة، إنّما هي المطلق في علاقته بالمدرك المحدود.
لقد وفّر ايمانويل كانط (دون أن يقصد ذلك) إطاراً فلسفياً يمكن أن تتطور ضمنه فرضيات كتلك التي ذُكرت، حيث ميَّز بين العالم كما هو في ذاته، والعالم كما يتبدّى للوعي الإنساني، الذي يسميه عالم الظواهر. ويمكن تفسير كتاباته بطرق مختلفة، لكن حسب إحدى التفسيرات، فإنَّ عالم الظواهر هو العالم في ذاته كما يختبره البشر. إذ إن الخيوط الحسِّية التي لا تحصى جمعت في الوعي الإنساني ـ وفق ما يعتقده كانط ـ بواسطة منظومة من المفاهيم أو المقولات العقلية (مثل «الشيء» «السبب»، التي من خلالها نعي محيطنا. وهكذا فإن محيطنا كما نفهمه ما هو إلا نتاج الصلة بين العالم نفسه وبين نشاط الفاهم المختار المفسر والموحد. اهتم كانط، بالدرجة الأولى، بالمساهمة السيكولوجية في وعينا للعالم، لكن يمكن رؤية فوائد المبدإ الأساس أيضاً على المستوى الفيزيولوجي، فجهازُنا الحسيُّ لا يقدر على الاستجابة إلا لأجزاء صغيرة جداً من المجال الكامل للموجات الصوتية الكهرومغناطيسية ـ الراديو، والضوء، والأشعة تحت الحمراء، والأشعة فوق البنفسجية، وأشعة X وأشعة غمّا ـ التي تصطدم بنا على الدوام وبالتالي، فإنَّ العالم كما نختبره يمثل عيّنة جزئية ـ عيّنة بشرية بامتياز ـ من غِنى وتعقيدات العالم الهائلة كما هوفي ذاته. ونحن نختبر هذا على بعض مستويات الكون والإنسان. فما نختبره ونستعمله كلوحة ثابتة قد يكون بالنسبة للمراقبة المجهرية عالماً من الإلكترونات والنيوترونات والكوركات التي تدور كالدوامة في حركة سريعة متواصلة تستنفذ طاقاته. نحن نفهم العالم كما يبدولنا بالتحديد بوصفنا كائنات لها أجهزتها الخاصة الفيزيائية والسيكولوجية. وبالفعل إن الطريقة التي يظهر فيها العالم لنا هي كما هو العالم بالنسبة لنا وكما نسكنه ونتفاعل معه. وما قال توما الأكويني في الماضي «الشيء المعلوم موجود في العالم بحسب ما يَظهر له».
في ختام مناقشته للموضوعات الأكثر حساسية في فلسفة الدين، يتساءل جون هيغ عمَّا إذا كان بالإمكان تبني التمييز الكانطي الواسع بين العالم في ذاته والعالم كما يبدو لنا من خلال أدواتنا المعرفية، وتطبيقه على العلاقة بين الحقيقة المطلقة والإدراك البشري المتفاوت لتلك الحقيقة؟ ثم يجيب: إذا كان الأمر كذلك، علينا أنْ نعتبر أنَّ الإله الموجود في ذاته واحدٌ وأنَّ الإله كما يتبدّى لنا متعدد ومختلف. وبالتالي يمكننا أنْ نصوغ فرضية اختبار البشر للحق في ذاته على أساس أحد المفهومين الدينيين، الأول، هو مفهوم الإله أو الحق المختبر بوصفه شخصيّاً وهو المفهوم السائد في الأشكال الألوهية من الدين، والثاني، هو مفهوم المطلق، أو الحق المختبر بوصفه غير شخصيّ، وهذا السائد في الأديان اللآتأليهية. بيد أن كل واحد من هذه المفاهيم أصبح أكثر واقعية يشبه سلسلة من التصورات الجزئية للإله أو المفاهيم الجزئية للمطلق.
إنَّ ما ذكرناه في هذه المقالة. هو اطلالة عامة وإجمالية حول فلسفة الدين من ناحية المصطلح والمفهوم، إلا أنَّ موضوعاً دقيقاً كهذا يحتاج إلى بحوث تفصيلية عميقة سواء في مجال الدرس الفلسفي الغربي أو في المجال الإسلامي.
[1]*- كاتب وباحث - لبنان
[2]- علي أكبر رشاد، الفلسفة المضافة، الهوية والمفهوم والارتباط، ترجمة: حسن علي مطر، فصلية «نصوص معاصرة» العدد 38 39- ربيع وصيف 2015.
[3]- علي أكبر رشاد ـ المصدر نفسه.
[4]- أوليفر ليمان، مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين، ترجمة: مصطفى محمود محمد، سلسلة عالم المعرفة (301) الكويت، آذار(مارس) 2004 – ص 65.
[5]ـ ليمان، المصدر نفسه، ص 65-66.
[6]- علي أكبر رشاد ـ المصدر نفسه.
[7]- عبد الحسين خسروبناه، فلسفة الفلسفة الإسلامية، ترجمة حسن الهاشمي، فصلية «نصوص معاصرة» السنة العاشرة، العددان الثامن والتاسع والثلاثون، ربيع وصيف 2015م ـ 1436هـ.
[8]- المصدر نفسه.
[9]-المصدر نفسه.
[10]- جون هيغ، فلسفة الدين، ترجمة طارق عسيلي، دار العارف الحكمية، بيروت، 2010، ص 3.
[11]- هيغ، مصدر سابق الذكر، ص 6.
[12]-Philosophical Investigations, 2nd ed. Trans. G.e.m.Amscombe. Oxford: Basic Blackwell and Mott L.T.D 1958, PP. 66.
[13]- جون هيغ – فلسفة الدين – مصدر سابق الذكر – ص 177.