البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مناقشة لأطروحات «جيمس ستيربا» الأخلاقية (نحو إزالة الوهم عن نسبية الأخلاق)

الباحث :  مازن المطوري
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  4
السنة :  السنة الثانية - صيف 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 12 / 2016
عدد زيارات البحث :  2362
تحميل  ( 279.716 KB )
مناقشة لأطروحات «جيمس ستيربا» الأخلاقيّة
نحو إزالة الوهم عن نسبية الأخلاق
مازن المطوري[*]
تعرّض المفكر الأميركي وأستاذ الفلسفة في جامعة نوتردام بالولايات المتحدة جيمس ستيربا [1] (James Sterba)، لإشكالية نسبيّة الأخلاق في كتابه: ثلاثة تحدّيات أمام علم الأخلاق. وقد سعى المؤلف في هذا الكتاب إلى تفكيك الأبنية المعرفية لهذه الإشكالية،[2] مشخّصاً متطلّباتها وعناصرها، بغية تحرّي أبرز ما ورد في ميدان معالجة التحديات التي يواجهها علم الأخلاق الغربي، المتمثلة في: البيئوية، والنسوية، والتعددية الثقافيّة.
هنا مناقشة لأفكار ستيربا وأطروحاته في حقل النظريات الأخلاقيّة، وفيها يستعيد الباحث العراقي الشيخ مازن المطوري أبرز السجالات التي شهدتها مشاغل فلسفة الأخلاق في تاريخ الحداثة الغربية.
المحرر
يدرك المطّلعون على الفلسفة الأخلاقية أهمية البحث في إشكالية نسبية الأخلاق، وما تلقيه من نتائج وتداعيات على الواقعين الاجتماعي والسياسيّ، لا سيّما في عصرنا الذي يُوسم بكونه عصر زوال الشموليات والسرديات الكبرى، والمبادئ الأخلاقية المطلقة، والقيم الأزلية الثابتة، وغدا عصر المرونة والتساهل والنسبيّة في كلّ شيء!
في هذا الإطار يرى المفكر الأميركي جيمس رأى ستيربا أن الباحث الأخلاقي حتى يستطيع مواجهة تلك التحديات، عليه أن يمر بمعالجة إشكالية نسبية الأخلاق، إذ ما قيمة إعطاء مقاربات لمسألة البيئوية أو النسوية والتعددية الثقافية إذا كانت الأخلاق نسبية تتمثّل في رأي ووجهة نظر، وأن ما هو صحيح بالنسبة إليك خاطئ بالنسبة لغيرك. فمنهجياً يتطلّب البحث في مقاربات تلك التحديات - التي يواجهها علم الأخلاق الغربي ـ أن نعالج أولاً إشكالية نسبية الأخلاق، إلى جانب كون الأخلاق لازمة عقلياً ومتطلبات الأخلاقية.
شرع ستيربا بإعطاء تصور إجمالي مقتضب عن نسبية الأخلاق، فقرّر أن الإنسان يوصف بكونه مؤمناً بالأخلاق النسبية إذا كان يرى أن الأخلاق تمثل وجهة نظر ورأي شخصي يقوله الإنسان في مختلف الأفعال، فقد يكون ما هو صحيح بالنسبة لك خاطئاً بالنسبة لغيرك، فالإجهاض قد يكون صحيحاً وأخلاقياً عند أناس، وغير أخلاقي عند آخرين، وهكذا الحال في المثلية الجنسية والإنعاش وغيرهما. وقرّر أن النسبيين يرون أن آراءهم في النسبية تحظى بتأييد واسع من قبل الآراء الأخلاقية المتنوعة، كما أنهم يجدون في التعارض الفعلي الواقع في المجتمع الواحد، شاهداً على صدق ما يقولونه[3].
متطلّبات النسبية الأخلاقية
بعد بيانه الموجز للمراد من النسبية الأخلاقية، قرر ستيربا أن النسبيين حتى يمكنهم الاستفادة من التنوع الأخلاقي القائم فعلاً في دعم ما يقولونه من كون الأخلاق مجرد رأي ووجهة نظر، لابدّ من توفر مجموعة متطلبات تجعل من نظرية نسبية الأخلاق محل قبول وتعطيها قوة. وتتمثل هذه المتطلبات في: وحدة الفعل والحيثية، الفكر الناضج، مرجعية الأخلاق، نسبية الحقيقة.
وحدة الفعل وشأنية التقييم المختلف
حتى تستطيع نظرية النسبية الأخلاقية الاستناد للتنوع الأخلاقي القائم بالفعل لتحظى بالدعم، لابدّ لها من إظهار أنّ الفعل في نفسه من شأنه أن يكون صحيحاً وخاطئاً بغض النظر عن الحيثيات والزوايا الأخرى. إذ ما لم تكن هناك وحدة في الموضوع ووحدة في زاوية النظر للفعل فلا يمكننا القول: إنّ الواقع المتنوع في المواقف الأخلاقية يؤيد نسبية الأخلاق بشهادة اختلاف وجهات النظر بالنسبة للفعل الواحد. إذ إنّ مثل هذا التنوع مرجعه اختلاف زوايا النظر للفعل، ومن شأن ذلك أنّ يؤدي إلى اختلاف موضوع الحكم الأخلاقي، بل إنَّ الواقع نفسه يؤكد لنا أن الفعل الذي تدينه مجتمعات معينة وتحظره لا يمثل نفس الفعل الذي تجيزه مجتمعات أخرى وتصفه بالأخلاقية. ويسوق ستيربا بعض الأمثلة لذلك:
فالقتل الرّحيم الذي يجيزه شعب الاسكيمو لِما يُمثّله من انتقال إلى وجود أسعد وفق اعتقادهم، يختلف عن القتل الرّحيم الذي تعارضه الجمعيةُ الطبيّةُ الأميركيّةُ التي لا تؤمن بوجود عالم آخر أسعد من عالمنا. ومعنى ذلك أن دخول عنصر الإيمان بوجود عالم آخر أسعد من عالمنا وعدم الإيمان، أثّر في اختلاف الفعل الذي انصب عليه الحكمان الأخلاقيّان، وبالتالي فتنوع الواقع الأخلاقي بالنسبة للقتل الرحيم راجع لاختلاف زاوية وجهة النظر للفعل، وهذا لا يعطي أن نفس الفعل من شأنه في ذاته أن يكون صحيحاً وخاطئاً.
كما أن وضع الأطفال المشوّهين في الأنهر بلطفٍ من قبل شعب النيور لإيمانه أن هؤلاء الأطفال هم صغار الأحصنة التي يلدها الإنسان بالصدفة، يختلف عن الإقدام على قتل الأطفال الذي يدينه معظم الناس. فدخول عنصر التشوه أعطى بعداً آخر للمسألة.
والإجهاض الذي يمنعه بعض الناس بتبرير أن الجنين إنسان ناضج له حق الحياة كالآخرين، يختلف عن الإجهاض الذي لم تدخل فيه فكرة كون الجنين إنساناً ناضجاً له حق الحياة.
إن الفكرة التي يريد ستيربا تأكيدها من خلال تسجيله لهذه الأمثلة أن النسبية الأخلاقية إنما تحظى بالاعتبار والدعم من التنوع الأخلاقي القائم فعلاً، في ظرف إثباتها أن الفعل المدان وغير المدان واحد وينظر إليه من زاوية واحدة، بنحو يكون بنفسه ذا شأنية الحكم بالصحة والخطأ عليه، فعند ذلك يمكننا القول: إنّ الأخلاق مرجعها للرأي الشخصي وأن ما يكون صحيحاً لديك يكون خاطئاً عند غيرك.
يبدو أن ستيربا في تأكيده على عنصر وحدة الموضوع وزاوية النظر، يريد أن ينأى بالنقاشات التي تجري في هذا الميدان عن الجدل، وحتى لا يكون كل باحث متقوقعاً في زاوية نظر معينة ويصب ملاحظاته ونقاشاته وفق تلك الزاوية ونستغرق في الواقع المتعدد أخلاقياً، فما لم نحدد موضوع البحث جيداً في الرتبة السابقة فلن نتمكن من الوصول إلى مقاربة سليمة للمشكلة، ذلك أن كل باحث يتخذ وضعاً مختلفاً ينظر منه إلى المشكلة على شاكلة نسبية أينشتاين العامة!
سوى أنّ التشديد على أهمية إبراز صلاحية الفعل الواحد لأن يكون صحيحاً وخاطئاً، يعود بنا إلى البحث في الحسن والقبح سواء كانا عقليين أو عقلائيين، وكأنّ ستيربا يلمز من طرف خفي إتجاه برتراند راسل (1872 ـ 1970م) في تفسيره للحسن والقبح الذي سلك فيه مسلكاً شخصياً ذوقياً وأخضعهما للاعتبار الشخصي. فراسل يقيّم مفهومي الحسن والقبح على أساس العلاقة القائمة بين المفكّر (الإنسان) والشيء الذي يبحث عنه، فكلما كانت تلك العلاقة هي المحبة كان الشيء حسناً، وكلما كانت هي البغض كان الشيء قبيحاً، والحب والبغض يرجعان بنفسيهما إلى المنفعة والفائدة ولو من بعض الوجوه[4].
إنّ لازم هذا التفسير للحسن والقبح، للأخلاقي وغير الأخلاقي، أن تكون الأخلاق نسبيّة لا محالة، وعند ذلك ستحظى نسبيّة الأخلاق بدعم من التنوع الأخلاقي الفعلي الذي يرجع لتلك الرغبة والمحبة والبغض. أمّا وفق المقاربة التي قدمها ستيربا أنّ الواجب على دعاة النسبية تحديد الفعل نفسه أولاً، فبذلك نقترب من الحسن والقبح، بمعنى أنّ معيار الأخلاقية واللاأخلاقية يقوم على أساس النظر للفعل في نفسه وبتجرد عن كل نزعة، فعند ذلك نستطيع أن نقرر النسبية أو الاطلاقية في الأخلاق. والنسبيّة الأخلاقية كنظرية إنّما تحظى بالاعتبار والدعم من الواقع الأخلاقيّ المتنوع، عندما يستطيع النسبيون أن يقرّروا في حالة من هذا القبيل ـ أي النظر للفعل الواحد في نفسه وبتجرد ـ أنّ الفعل من شأنه أن يكون صحيحاً وخاطئاً في ذات الوقت وبغض النظر عن كل اعتبار. أمّا إذا لم يستطع النسبيون الأخلاقيون إثبات ذلك، فسيكون من المتعذِّر الركون إلى النسبية الأخلاقية، ويكون من الصعب على النسبيين في الأخلاق حينئذ الاستناد إلى التنوع والتعدد الأخلاقي الخارجي.
إنّ الذي ينفعنا في المقام ـ كما قرر ستيربا، وهو محق في ذلك ـ أن نرى الأفعال في ذاتها وفي عالمها، وليس في عالم الخارج المتزاحم الذي تتشابك فيه الأفعال، ولا تعرف العيش بسلام بسبب ما يلحقها من اعتبارات ومقولات أخرى. ومن ثم يكون الترجيح بين المتزاحِمين راجعاً للمبرِرَات والتجارب والغرائز وما يرتبط بذلك. والتنوع الأخلاقي المشاهد واقعاً والذي يستند إليه النسبيون في الأخلاق، مرجعه إلى النظر للأفعال والحكم عليها في عالم الخارج المتشابك، ومثل ذلك لا ينفعنا لتقرير صحة النسبية الأخلاقية، كما لا ينفع النسبيين الاستناد لهذا الواقع لتدعيم وجهة نظرهم. وإنّما نريد النظر لأداء الأمانة بما هو أداء للأمانة وإرجاعها لصاحبها مجرداً عن كل اعتبار زائد من نفع أو مكافأة، لنرى هل يمتلك شأنية أن يكون صحيحاً وخاطئاً في الوقت ذاته، فإذا ما وجدناه فاقداً لمثل هذه الشأنية، وأنّه لا يمكن إلاّ أن يكون أخلاقياً حسناً، فهذا يعني أنّ الأخلاق مطلقة ولا تحظى النسبية بدعم واعتبار.
لا مراء في أنّ اختلاف الأحكام الأخلاقية في موضوع ما، وتنوع الآراء في المجتمعات المختلفة، بل والمجتمع الواحد، هو نتيجة طبيعية للنظر للأفعال في عالم الخارج. أي أنّ عالم المصلحة والمفسدة التي يقف الإنسان عليها بعد التجربة، والمصلحة والمفسدة هي بطبيعتها مقولات نسبية. فما هو نفع ومصلحة عند فرد أو شعب أو في مقطع تاريخي معين، لا يكون كذلك لدى فرد آخر أو مجتمع مختلف، أو في مقطع تاريخي ثانٍ.
الأخلاق والمعرفة
بعد أن قرّر ستيربا ضرورة ملاحظة الفعل في نفسه لاختبار صلاحيته للاتصاف بالصحة والخطأ في وقت واحد، حتى يتمكن دعاة نسبيّة الأخلاق من تدعيم مقولتهم بالاعتماد على الواقع المتنوع، فالواجب بعد ذلك وفق ستيربا يقضي أن يكون الحكم على الأفعال بالصحة والخطأ مستنداً لأفكار متأنية فضلى. أي بعد نضج عقلي وفكري. فحتى تحظى نظرية نسبية الأخلاق بدعم الواقع المتنوع لابدّ أن يكون حكم بعض الناس على فعلٍ ما بالصواب مستنداً إلى أرقى مرتبة فكرية وصلوا إليها بعد التأمل والنضج، ويكون حكم الآخرين على نفس الفعل بالخطأ مستنداً لأفضل أفكارهم وبعد نضج تأملي. إنّ الأفعال التي يتعذّر على الناس (كتفادي المواد المسرطنة في القرون الوسطى) بلوغها بأفضل أحكامهم ليست أفعالاً يصح القيام بها أخلاقياً، لأنّ الأخلاقية تتطلب إمكانية الوصول إليها نوعاً ما. وهكذا عندما نقيِّم أحكام الناس الأخلاقية في الإطار الذي نظموها فيه سنتمكن أحياناً من معرفة أنّهم عَجَزوا عن التوصل إلى الأحكام التي نظنها صحيحة أخلاقياً. إذا صح ذلك فلن تكون أحكامهم متفاوتة مع أحكامنا من حيث وثاقة الصلة بالموضوع حتى وإن كان ما يظنونه صحيحاً ليس ما نظنه صحيحاً كالحاجة إلى النظافة في العمليات الطبية[5].
يعيد ستيربا الاختلاف والتنوع الفعلي المشاهد في الأحكام الخلقية إلى عدم توفر التشاور الكافي حول الموضوع قبل إصدار الأحكام، إذ ما لم نتوفر على معرفة الواقع بطريقة ما لا نستطيع أن نعطي حكماً خلقياً سليماً، ومن ثم يغدو الاختلاف الملاحظ في التقييمات الأخلاقية لفعل واحد، ليس كما افترضه دعاة نسبية الأخلاق، وإنّما مرجعه إلى الفشل في التفكير بحكمة حول تلك الأفعال، فثمة معادلة بين تنوع الأحكام الخلقية على فعل واحد وبين افتقاد التفكير المتأني السليم من جهة، وبين الاتفاق في الحكم الخلقي وبين التفكير الناضج المتأنّي.
وفق هذه المعادلة ستنحسر دائرة المؤهلين لإصدار الأحكام الأخلاقية، إذ ليس كلّ الناس يمتلكون ذلك القدر الكبير من المعرفة والتأمل الفكري والحكمة. ومعنى ذلك أنّ الإيمان بنسبية الأخلاق أو إطلاقيتها ليس من شأن آحاد الناس من مراهقي الفكر ونيّئي الحِكمة، وإنّما هو شأن الناضجين فكرياً ومعرفياً، وهذا ما يقودنا إلى تحديد مرجعية لإصدار الأحكام الخلقية تتمتع بذلك القدر الكافي من الفكر والنضج والحكمة يؤهلها لإصدار أحكام عملية خلقية تحدد ما ينبغي وما لا ينبغي فعله للناس.
ويحق لنا هنا أن نثير بعض الأسئلة حول هذا العنصر. فهل يتوقف إدراك الحكم الأخلاقي على النضج العقلي والفكري؟ أم أنّ الأحكام الأخلاقية مدركات من سنخ آخر مختلف عن الفكر والتأمل النظري؟ وهل الحكم الأخلاقي المقصود هنا هو أصل الحكم الأخلاقي والمبادئ الأخلاقية والقيم الأساسية أم مفردات الأحكام الأخلاقية التي تخضع لتفاصيل الواقع؟ ولعلّنا نتوقف عند شيء من ذلك في قادم الحديث.
مرجعية الأخلاق
علاوة على عنصري تحديد الموضوع والنضج العقلي، فالمطلوب من نظرية نسبية الأخلاق أن تبين لنا المرجعية التي تستمد منها وتنسب إليها وتوسم بالأخلاقية باعتبارها. فهل النسبية ناشئة من النسبة إلى مجتمع ما صغيراً كان أم كبيراً؟ أم إلى المعتقدات الشائعة؟ هنا يقرّر ستيربا التالي: يجب أن تخبرنا النسبيّة الأخلاقية أيضاً بما يُفترض أن تنسب إليه الأخلاقية. فهل عليها أن تنسب إلى المعتقدات الشائعة في مجتمع ما أو لدى جماعة أصغر أو لدى أي فرد؟ إذا كانت متصلة بأي من هذه المعتقدات فإنّ أي فعل (القتل بالتعاقد مثلاً) قد يكون خاطئاً من وجهة نظر مجتمع معين وصائباً من وجهة نظر إحدى العشائر في ذلك المجتمع (المافيا مثلاً) وخاطئاً مجدداً من وجهة نظر أحد الأفراد المعنيين في ذلك المجتمع أو تلك العشيرة. ولكن في هذه الحالة لن يتمتع الأفراد بأي أسس منطقية للتقرير بشأن ما يتعين عليهم القيام به إذا أخذنا كل شيء في الاعتبار[6].
حقاً إننا ما لم نحدّد المرجعية الصحيحة والسليمة للأخلاق فإنّنا سندخل في فوضى النسبية الضحلة وضياع البوصلة الأخلاقية. إذ ما لم يكن هناك أساس موضوعي مطلق للأخلاق فعند ذلك لن نتمكن من القول أنّ مجموعة من الأفكار الأخلاقية أفضل من مجموعة أخرى، وإنّما تكون المجموعة الأولى صحيحة وأخلاقية بتبع الأساس الذي يؤمن به مجتمع معين، فيما تكون المجموعة الثانية صحيحة وأخلاقية بتبع الأساس الذي يؤمن به مجتمع آخر، فاستحسان مجتمع لأخلاقيات ستالين وهتلر وموسوليني لا يعتبر تدهوراً أخلاقياً وتراجعاً في القيم الإنسانية وفق ميزان النسبية الأخلاقية، وما يترتب على ذلك من انعدام مرجعية موضوعية مطلقة، فما لم يحدد النسبيون مرجعية الأخلاق بشكل مقبول فعند ذلك سندخل في نسبية عشوائية، ولن تتمكن النسبية حينئذ من المحافظة على شيء من العقلانية أو تحظى بدعم الواقع الأخلاقي المتعدد.
يرى ستيربا أنّ دعاة النسبية الأخلاقية حتى لو استطاعوا إظهار مرجعية للأخلاق جديرة بالتفضيل على سواها، فإنّ ذلك لن يعدم المشاكل أمام النسبية الأخلاقية، إذ ستبرز حينئذ إشكالية طريقة اتخاذ القرارات الخلقية، فهل يتحتم على الأفراد حينئذ ـ وحتى يكون سلوكهم أخلاقياً- أن يعمدوا إلى سؤال من خبراء تلك المرجعية المناسبة عن الطريقة الفضلى للسلوك الأخلاقي أو بما يتعين القيام به؟ إنّ معنى ذلك أن يظلّ أفراد ذلك المجتمع منتظرين لقرارات خبراء المرجعية حتى يستطيعوا اتخاذ ما يلزم القيام به في سلوكهم وتداعيات حياتهم، وهذا بدوره يعطّل فاعلية الأخلاق في المجتمع وينتج شللاً وإعاقة سلوكية.
أو قد يُفترض أنّ خبراء تلك المرجعية يقومون بدءاً بتقديم لائحة لما هو الصحيح وما يلزم القيام به وما هو خاطئ ولا ينبغي فعله، ثم يقوم أفراد ذلك المجتمع بالتصويت ليكون رأي الأغلبية هو الميزان في تحديد السلوك الأخلاقي في المجتمع. إنّ هذه الفرضية وإن كانت مقبولة بمستوى معين وفق ستيربا، وتعطي للأخلاق بعداً تعاقدياً إلاّ أنّها تتطلب تحديد بعض الأسس المطلقة غير النسبية وغير الخاضعة للتعاقد تنطلق منها لتؤسس عليها فرضيتها في وجوب رعاية العقد الأخلاقي، كمبدأ رعاية المصلحة العامة مثلاً. وهذا يمثّل خروجاً على ادعاء النسبيين في أنّ الأخلاق تتمثل في رأي ووجهة نظر فحسب[7].
مساءلة ستيربا
أفهم أنّ مراد ستيربا من هذا النقاش في هذه النقطة بالتحديد الوصول إلى النتيجة التي يؤمن بها وقررها بعد ذلك في مقاربته لإشكالية التعددية الثقافية، من التأكيد على أنّ الأخلاقيات المدنية وحدها القادرة على تخطي النسبيّة ويمكن الدفاع عنها، وهي في الوقت ذاته قادرة على تأمين أسباب كافية متوفرة لجميع من تُطبّق عليهم للتقيّد بمتطلباتها، كما وتعطي تبريراً لاستخدام القوة لتطبيق تصوراتها وإمكانية إلقاء اللوم على غير المتقيّدين بها[8].
حتى تستطيع النظم الأخلاقية ـ كما يقرر ستيربا ـ تبرير استخدام القوة ضد غير الملتزمين بها، عليها أن تبرز لنا أسباباً كافية لكي يلتزم بها جميع الناس بلا استثناء، ومثل هذا الأمر غير متوفّر في الأسباب الدينية، لأنها لا تقدم تبريراً سوى للمؤمنين بها، ومن ثم تعجز عن تقديم تبرير لاستخدام القوة من أجل تطبيق متطلباتها الأخلاقية[9].
وستيربا في هذا التوجه لا يختلف كثيراً عما قرّره والتر ستيس (1886 ـ 1967م) من أن الكف عن الإيمان بالأساس الديني للأخلاق، وإن كان ينتج لنا نسبية أخلاقية، إلاّ أنّنا يمكننا تجاوز ذلك.أي إنّ إشكاليّة الذاتيّة التي تقودنا للنسبيّة، من خلال القول بوجود أساس دنيوي يمكن أن يكون ثابتاً وراسخاً بطريقة معقولة لا يؤدي إلى نسبيّة عشوائية. كما شرح ذلك تفصيلاً في كتاب الدين والعقل الحديث[10].
الواضح أن ستيربا ينتمي في الفلسفة الخُلقية إلى المدرسة الكانطية المعدّلة والمطوّرة من قبل أُستاذ الفلسفة السياسية في جامعة هارفرد جون رولز (1921 ـ 2002م)، والمدرسة المعروفة بنظرية العدالة والإنصاف، مع صياغة ستيربا نفسه لتجاوز مشكلة حقوق الحيوان والعدالة البيئيّة. وتنصُّ هذه الصيغة على الفتوى التالية: قم بتلك الأفعال التي سيُوافق عليها بالإجماع خلف ستار الجهل من وجهة نظر أولئك الذين يتأثرون بها[11].
وفق هذه الصيغة يكون الشخص أخلاقياً عندما تتطابق أفعاله مع المباديء التي يختارها الناس بالإجماع، وتحدد تلك المباديء التوزيع الملائم للحريات الأساسية والفرص والفوائد الاقتصادية، وحقوق الناس وواجباتهم تجاه المصالح الاجتماعية.
ولكن إلى أي مدى يصح ما ذكره ستيربا؟ وهل تتجاوز مقاربته الوقوع في إشكالية النسبية التي هرب منها؟ وهل يمكن لمقاربة الأخلاق المدنية أن تنأى بنفسها عن الملاحظات التي سجلها ستيربا على النسبيين في موضوع مرجعية الأخلاق؟
لا يعنينا كثيراً الآن التوقف عند كل هذه الملاحظات، ولكننا سنشير لبعض ما يناسب هذا المقام في فقرة لاحقة، لنرى هل أنّ ما يقدمه لنا الدكتور ستيربا من أخلاق دنيوية مدنية وفق الصيغة الكانطية المعدلة يتجاوز النسبية أم لا وذلك بغض النظر عن مواضع الاتفاق والاختلاف مع الأخلاق الكانطية؟
نسبية الحقيقة
لقد افتتح جيمس ستيربا أفقاً آخر في نقاش دعاة نسبية الأخلاق. عنيتُ به أُفقَ نظرية المعرفة وما تقرره من كون الحقيقة مطلقة أو نسبية، والتي تعتبر من مُهمّات مسائل الابستمولوجيا. وقد أراد ستيربا بذلك اختبار نظرية نسبية الأخلاق داخلياً، ذلك أن كل نظرية حتى تستقيم لابدّ أن تحظى بالانسجام داخلياً مع نفسها وفق قانون الهوية واستحالة التناقض. فالإشكالية المهمة التي تواجه دعاة نسبية الأخلاق تتمثل في أنّ هذا الإدعاء نفسه ليس نسبياً، وإنّما هو إدعاء مطلق لكل زمان ومكان، فهو يقرر حقيقة تقول: إنّ الأخلاق نسبية ولا يمكن أن تكون إلاّ نسبية، وهذا تنافٍ بيّن. إذ كيف تكون الأخلاق حقيقة نسبية وهي تقرر لنا ذلك بشكل مطلق؟ إذ ما لم نؤمن بأنّ الحقيقة مطلقة فإنّنا نعجز عن القول أنّ الأخلاق نسبيّة لأننا بذلك نطلق القول بنسبية الأخلاق ونقرر النسبية كحقيقة مطلقة.
ويرى ستيربا أنّ نسبية الأخلاق قد يمكن الدفاع عنها أمام هذه الإشكالية بافتراض أن القاعدة التي تقول: الأخلاق نسبية ليست قاعدة أخلاقية ولا تقرر حكماً أخلاقياً، ومن ثمّ فافتراض أنّها مطلقة لا ينافي نسبية الأخلاق! ولكن مثل هذه المقاربة كما يقرر ستيربا لا تصمد كثيراً في الدفاع عن نسبية الأخلاق، ذلك أن الحقيقة إذا لم تكن نسبية فما هو المبرر للاعتقاد بأنّ الأخلاق نسبية، وبجملة أخرى: ما هو المبرر للاعتقاد بأنّ العنصر الأخلاقي الجيّد نسبي مع الإيمان بأنّ الحقيقة ليست نسبية؟!
ويمكن أن تصاغ هذه الإشكالية بشكل آخر بأنّ يقال: إنّ دعاة نسبية الأخلاق إما أنهم يفترضون أنّ دعواهم حقيقية وإمّا أنّهم لا يفترضون ذلك. وواضح أنّ الافتراض الثاني لا قيمة له لأنّه لا يحكي عن مضمون معتبر، ولا يُتصور أنّ دعاة نسبية الأخلاق يقولون به، لأنّهم يريدون تقرير حقيقة تقول أنّ الأخلاق نسبية وليست مطلقة لكل زمان ومكان، واستندوا في تقرير ذلك إلى الواقع المتنوع أخلاقياً. وحينئذ فهذه الحقيقة إما أنّها نسبية وإمّا أنّها مطلقة. فلو كانت نسبية فهي قاصرة عن تقرير أنّ الأخلاق نسبية، إذ حتى يمكنها تقرير ذلك لابدّ أن تخرج عن بزّتها النسبية للإطلاق، فإذا كانت مطلقة، وكانت الحقيقة غير نسبية، فحينئذ ما هو المبرّر للاعتقاد الفعلي بأنّ العنصر الأخلاقي الجيد والصحيح نِسبي؟!
أمّا تبني القول بنسبيّة الحقيقة فهو يولّد إشكالية الجذر ونقائض المعرفة (البارادوكس)، لأنّ القول بنسبيّة الحقيقة حقيقة، فإذا شملتها قاعدة نسبيّة الحقيقة وقعنا في التناقض (بارادوكس)، إذ مع التسليم بنسبيتها نسمح لنقيضها وهو الحقيقة المطلقة بالحياة، وإذا استثنينا القاعدة من الشمول لنفسها قضينا عليها وعلى كونها قاعدة!
إنّ النسبيّين في النظرية الخلقية يعجزون ـ كما يقرر ستيربا ـ عن تفسير وبيان السرّ في عدم التزام نظريتهم بالنسبية في مدعاها، ومن جانب آخر يعجزون كذلك ـ فيما لو التزموا بأنّ الحقيقة مطلقة ـ عن بيان مبرر مقبول لالتزامهم بكون الحقيقة مطلقة، الذي يمثل مقولة خصومهم!
هكذا يضع ستيربا دعاة نسبية الأخلاق أمام أربعة إشكاليات، تحتاج للمقاربة حتى تتمكن نظرية نسبية الأخلاق من الاستناد للواقع المتعدد والمتنوع خُلقياً لتدعيم وجهة نظرها القائلة بأنّ الأخلاق مجرد رأي ووجهة نظر. وقد لخّص ستيربا الإشكاليات الأربعة قائلاً: أولاً، يصعب على النسبيّين الأخلاقيين إظهار أنّه في وسط التنوع الأخلاقي القائم هناك أفعال كافية متوفرة يتشاور بها الناس، بحيث يحكم على الفعل نفسه بأنه صائب من قبل البعض، وخاطئ من قبل آخرين يتبعون جميعاً أفضل مشاوراتهم الأخلاقية. ثانياً، يصعب على النسبيّين الأخلاقيين تحديد الجماعة المرجعية المناسبة التي ستحدد من خلالها الأخلاقية. ثالثاً، حتى لو افترضنا إمكانية تحديد الجماعة المرجعية المناسبة، يصعب على النسبيين الأخلاقيين تفسير لم لا تلتزم نظريتهم بشيء من القيمة النسبية للأحكام الأخلاقية من الدرجة الأولى على الأقل. أخيراً، يصعب على النسبيين الأخلاقيين تفسير سبب التزامهم ببيان غير النسبيين للحقيقة[12].
لكن ستيربا في الوقت الذي أبرز هذه الإشكاليات أمام دعاة نسبية الأخلاق، وجعلها نظرية غير قابلة للتصديق، رأى أن ذلك لا يهزمها بشكل كامل، ولست أدري إنّ كان ينطبق ذلك على الأخلاق المدنية التي يؤمن بها!
ملاحظات ختامية
بداية نحن نختلف مع دعاة نسبية الأخلاق في اتخاذهم المنهج التجريبي طريقاً للكشف عن الأخلاق والتعامل معها بوصفها معطى تجريبيّاً محسوساً. فاتخاذ المنهج التجريبي يقضي على وجود مبادئ أخلاقية مطلقة لكل زمان ومكان. فالفيلسوف التجريبي يلجُ الفلسفة الخلقية بلا سند قبلي غير إخلاصه لنزعته التجريبية وأن تكون نتائج بحثه منسجمة معها. وهذا يفرض عليه أن لا يمنح قضايا الأخلاق شيئاً مختلفاً عن سائر قضايا الواقع التي يحاول الكشف عنها تجريبياً، ومن ثمَّ فهو يستبعد العقل وسلطانه وضروراته، ويفسر الأخلاق بعيداً عن كل معطى قبلي عقلي، وحينئذ يكون من الطبيعي جداً أن يقول بنسبية الأخلاق ويفسّرها تفسيراً حسياً، ويقيمها وفق قاعدة المنفعة واللذة وغيرهما من المقولات.
من جهة ثانية، نوافق ستيربا في تسجيله أصل الإشكاليات الأربعة على دعاة النسبية الأخلاقية، ولكننا نختلف معه منهجاً ونتيجة، وإن اتفقنا في رفض مقولة نسبية الأخلاق، ولكن المنطلق والفضاء والنتائج مختلفة. ونختم بمجموعة ملاحظات:
أولاً: نحن نقرّ أنّ لكل مجتمع ونظام قائمة من الأخلاقيات يلتزم بها وأتباعه، ويوصف بالأخلاقية تبعاً لالتزامه بتلك القائمة، ونتيجةُ ذلك نسبيةُ الكثير من المفاهيم الأخلاقية المتداولة في العالم المعاش. ولكن هذه النسبية تختلف عمّا يقوله دعاة نسبية الأخلاق، فهي نسبية لاحقة للتجارب البشرية والظروف الاجتماعية والتاريخية والمصالح والمفاسد التي يعمل بنو البشر على اكتشافها. ومثل ذلك لا يلازمه أن تكون الأخلاق في واقعها نسبية، ولا وجود لمعايير ومقاييس أخلاقية مطلقة ومتعالية على التجارب والظروف المختلفة، يدركها العقل بالحدس والبداهة بعيداً عن كل تجربة، كما في اعتقادنا بعقلية الحسن والقبح. فالنسبية التي ننكرها هي نسبية الأخلاق في الواقع وعالم الثبوت وعالم الأفعال في ذاتها، إذ للقيم الأخلاقية والمبادئ الأساسية في هذا العالم استقلال تام عن تقييماتنا الخاصة وآرائنا ووجهات أنظارنا، وإنما تفرض نفسها بطريقة أولية حدسية، فالمبادئ الأخلاقية موضوعية قائمة بذاتها، وأما إدراكنا لها، أو لتفاصيل المواقف الأخلاقية في العالم المعاش المتزاحم المتشابك، فهو يتغير بحسب تغير الزاوية التي نوجه منها رُؤيتنا لتلك القيم، وبحسب الغايات الأساسية التي يؤمن بها كل مجتمع، وحسب سُلّم الترجيحات بين الأهم، والمهم، والمتزاحِمينِ، الذي يختلف باختلاف الأنظمة الفكرية، وإدراكها للمصالح والأولويات وفق رؤيتها لمجمل ما يتصل بحياة الإنسان.
وبجملة أخرى: نحن نقرّ بالنسبية التوصيفية، بمعنى أن المجتمعات فضلاً عن الأفراد مختلفة اختلافاً شاسعاً حول بعض أو جميع الأحكام الأخلاقية، وهذه النسبية لا تتضمن حكماً بالصحة أو الخطأ على حكم من تلك الأحكام، وإنّما تتضمن توصيفاً لوجود تعدد في الأحكام الأخلاقية. وأما المرفوض فهو النسبيّة الماوراء الأخلاق، بمعنى نفي وجود حكم أخلاقي مطلق في الواقع، لأن الأخلاق ـ كما تفترض النسبية الماورائية- ترجع للإحساس وسليقة الإنسان ورأيه والتعاقد والتوافق المجتمعي، ومن ثم لا يكون اعتبارها وأخلاقيتها مطلقة وعامة.
ثانياً: إضافة لما سجّله ستيربا على دعاة النسبية الأخلاقية، يمكن أن يلاحظ: إنّ دعاة النسبية الأخلاقية انطلقوا في تأسيس رؤيتهم من أخذ التنوع والتعدد الأخلاقي في الواقع كأمر مسلّم لا نقاش فيه، أي أنهم بعد إذعانهم بالواقع المتعدد أخلاقياً في حياة الإنسان انطلقوا في عملية تفسير ذلك الواقع الأخلاقي المتنوع، فأرجعوه إلى الآراء ووجهات النظر. فالأخلاق إنما تتعدد وتكون نسبية بسبب ما تمثّله من آراء ووجهات نظر. وهنا من حقنا التساؤل: هل هذا التفسير للواقع الأخلاقي المتعدد يتضمن توصيات أخلاقية عملية أم لا يتضمن ذلك؟ فهل رؤية دعاة نسبية الأخلاق مجرد إخبار عن الواقع وتفسيره لا أكثر، أم أنّها تتضمن مضافاً لذلك توجيهات وتوصيات عملية تترتب على القول بأنّ الأخلاق نسبيّة، كاحترام أخلاق الآخرين ومنظوماتهم العملية وعدم جواز فرض النُظم الأخرى عليهم تحت أي تبرير؟
فإنّ كانت رؤيتهم لا تتضمن أي توجهات عملية سلوكية، وإنّما يقتصر دورها على تفسير وبيان أسباب ذلك التنوع الأخلاقي الواقعي، فمثل هذه الرؤية حينئذ لا تقدم لنا كثيراً، وإنّما تظل عزاءً يُسلّي به النسبيون أنفسهم، ومن ثم فليس لرؤيتهم تأثير على خيارات الآخرين الذين يؤمنون بإطلاقية الأخلاق وينطلقون في ذلك من منهج مختلف عما هو لدى النسبيين، سواء في ميدان الأخلاق أم في ميدان نظرية المعرفة وتفسير الحقيقة.
أمّا إذا اختاروا الشق الأول، وقالوا بأنّ هذه الرؤية تتضمن توصيات عملية أخلاقية بضرورة احترام أخلاق الآخرين وعدم التعدي عليها وفرض أخلاق أخرى انطلاقاً من نسبية الأخلاق، فهذا يعني حينئذ أنهم تحولوا من تفسير واقع التعدد الأخلاقي والحكاية عنه إلى إعطاء توصيات عملية سلوكية تنتمي لميدان الحكمة العملية وما ينبغي وما لا ينبغي فعله. ومثل هذا الانتقال، أي من أحكام الواقع إلى أحكام الواجب، من نسبيّة الأخلاق واقعاً إلى ضرورة احترام منظومة أخلاق الآخرين عملاً، غير مقبول منطقياً. إذ لا يمكن استنتاج قواعد الحكمة العملية والسلوك والتشريع والأخلاق من الواقع وما يتضمنه من قوانين منطقياً، فهذه الانتقالة تفتقد للأساس المنطقي، لعدم وجود علاقة استنتاجية منطقية بين أحكام الواقع وأحكام الواجب، كما سجّل ذلك الفيلسوف الإسكتلندي المعروف ديفيد هيوم أمام البحث الأخلاقي والقيمي عامة[13]. وهذه الانتقالة كان ستيربا قد عابها على علم الأخلاق الغربي في استجابته لإشكالية البيئوية[14].
ثالثاً: بشأن الإشكالية الأولى التي سجّلها ستيربا على دعاة نسبية الأخلاق، نقول: إننا برغم من تسليمنا بما ذكره ستيربا من ضرورة النظر للأفعال بما هي لإظهار شأنيتها وصلاحيتها للاتصاف بالصحة والخطأ في وقت واحد من شخصين مختلفين، إلاّ أنّ ذلك ليس مطّرداً في كل الأفعال، إذ ثمّة أفعال ليست بالقليلة يقف العقل عاجزاً عن إدراك الصحة والخطأ فيها أو الأخلاقية واللاأخلاقية مهما كان مزوداً بالتأمل والتأنّي. ومثل هذه الموارد تمثّل عقبة أمام التوجّه الليبرالي الذي يطمح لإخضاع كل شيء لعقله. ومذهب الأخلاق الكانطية بأي صيغة كان وبمقولاته القبلية كمفهوم الواجب، يعجز عن أن يكون مقياساً لشريعة أخلاقية من دون أن تتلوّث الأحكام التفصيلية الأخلاقية بالميول والنوازع الحسية والنفعية. ثمة أسئلة طرحها نفسه عن الانتحار والكذب والإحسان، تبيّن لنا صعوبة أن يكون الحكم أخلاقياً وسليماً من النوازع والاعتبارات الأخرى.
هذه الملاحظة تجري فيما ذكره ستيربا في الأخلاق المدنية، ومن ثمّ يكون رجوع إلى المقاييس النسبية المختلفة بحسب المجتمعات وما تقدره من أوليات وما تزودها به التجارب والخبرة من مصالح.
بعد أن قرّر كانط حرمة الانتحار وحظره أخلاقياً لأنّه يمثل انتهاكاً للإنسانية! عاد ليطرح سؤالاً تركه بلا جواب، يتمثل في حكم أن يقدم الإنسان على موت محقّق لأجل إنقاذ الوطن، فهل يعدُّ ذلك من الانتحار؟ وهكذا طرح أسئلة فيما يرتبط بالكذب والإحسان التي حارَ في جوابها، فضلاً عن التعليل بانتهاك الإنسانية، هذا المفهوم الفضفاض الذي لا يعرف الحدود والقرار، وتختلف الأنظار بشأنه!
هذا يعني أنّ المبدأ الصوري في الأخلاق الكانطية التي تبنّاها جون رولز وجيمس ستيربا مع تعديلات وإضافات، فاقد لإمكانية أن تكون مقياساً تنضبط على أساسه قواعد التشريع الأخلاقي.ذلك أن التشريع يلاحظ السلوك والأفعال في عالم التجربة والواقع والخبرة، عالم الممارسة الإنسانية، والأفعال في هذا العالم كما ألمحنا لذلك مسبقاً، لا تعيش بسلام، وإنّما تلتبس وتتشابك بعضها مع بعض، وتتزاحم، فقد يكون الفعل الواحد مصداقاً للفضيلة والرذيلة في وقت واحد. وهذا المعنى يسري على سائر المقولات، فالحرية على سبيل المثال التي هي قاعدة الإلزام الأخلاقي وجوهر السلوك وميزان المسؤولية، تخضع في عالم الممارسة لمحددات موضوعية، فهي حرية في عالم العقل الخالص، ولكنها في عالم الممارسة تلتبس بمعوقات الطبيعة، ولذا يجعلها أرباب التشريع مرنة قابلة للاستثناء والتخصيص، ومن هذا نعرف السرّ في تعبير فقهاء التشريع الإسلامي ((ما من عام إلاّ وقد خُصّ)).
رابعاً: لقد سجّل ستيربا في ثاني إشكالية تتطلب مقاربة من قبل دعاة نسبية الأخلاق، أنّ الوصول للحكم الأخلاقي الصائب على فعل ما لابدّ أن يكون بعد النضج العقلي والتأمل الفكري وأفضل أفكار الإنسان. ويبدو لنا أنّ ستيربا وقع في نفس الإشكالية التي وقع فيها النسبيون الأخلاقيون لما استندوا للواقع المتنوع لتقرير أن الأخلاق نسبية! إذ من الواضح أن سلوك غالب البشر محكوم بالمصالح والمفاسد والعدوان والأنانية، ولا علاقة له بالأفكار العقلية، إلاّ أنّ ذلك لا يصح مستنداً للقول: إنّ الحكم الأخلاقي الصحيح المنصب على الفعل ذاته إنّما يتوصل إليه بعد التأمل الفكري والتأني، فخضوع سلوك البشر للغرائز والعدوان والدوافع النفسية والفسلجية لا ينفي وجود مدركات أخلاقية بديهية لا تتوقف على ملاحظةٍ أو تأمل فكري ونضج تشاوري. ولعل نظرة بسيطة إلى تاريخ الأفكار والأشخاص تبين لنا ذلك. فالفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس له فتاوى أخلاقية تدخله في جملة المنحطين أخلاقياً برغم مقامه العلمي الشامخ، فيما نجد عكس ذلك لدى تلميذه الإسكندر المقدوني. فعلى الرغم من عدم صحة المقايسة بينهما في الفكر والفلسفة والنضج العقلي، إلاّ أنّ الإسكندر يعتبر أكثر نبلاً وأخلاقيةً من أرسطو.
وهذا يدلنا على أنّ الأخلاق غير تابعة للعلم ولا ترتبط به ولا بالنضج العقلي والتأمل الفكري، وإنّما هي خاضعة للإدراك البديهي لمبادئ السلوك العملي من الحسن والقبح، واستجابة لنداء الضمير.
ويبدو أن ستيربا في هذه الملاحظة قد نظر للأفعال في عالم تشابكها الخارجي، وما يتداخل في ذلك من مصالح ومفاسد وغرائز وطبائع، فطلب أن نرجئ الحكم الأخلاقي إلى ما بعد التشاور والنضج والتأمل، حتى يكون حكمنا أكثر أخلاقية وأقرب رحماً من الواقع. وهذا خروج عما قرّره في الإشكالية الأولى.
إنّ المعرفة النظرية والفكر لا ينتجان نظاماً أخلاقياً ولا قواعد سلوكية. سوى أنّ التقدم المعرفي والنمو الفكري يُسهمان في اكتشاف آليات التطبيق، ومعرفة الوسائل الأنجع في تجسيد الأخلاق وتحقيق المبادئ القيمية من خير وعدالة؛ وحينئذ يحق لنا التساؤل: هل أسهمت النزعة التجريبية المتقدمة والمذهب المادي وأخلاقه النفعية في بناء عالم أفضل يتشارك فيه جميع الآدميين من الشعوب المختلفة في قراراتهم وتقرير مصيرهم، وهي الفكرة التي تدعي الليبرالية أنّها تمثّل جوهر مشروعها؟ إنّنا لا نحتاج بعد هذا التساؤل لاستعراض قصص الواقع ومآسيه!
خامساً: إنّ ستيربا وفي إطار سعيه لمقاربة التحديات الثلاثة التي يواجها علم الأخلاق الغربي، تبنى النظرية الأخلاقية التي قال بها جون رولز في العدالة والإنصاف مع إضافات، والتي تنص على أن الشخص يكون أخلاقياً عندما تتطابق أفعاله مع المبادئ التي يختارها الناس بالإجماع، ومن ثم اعتقد ستيربا أنّ الأخلاق المدنية الوحيدة القادرة على تخطي إشكالية نسبية الأخلاق، وتوفّر لنا مبررات لتطبيقها على الجميع واستخدام القوة ضد مخالفيها. ولنا أن نسجّل هنا:
أ): إننا كيف نستطيع الاختيار في ظل حجاب الجهل؟ وكيف يمكن للإنسان في جو الفراغ وغياب النموذج وعلامة الطريق أن يقرّر؟ فإذا ما كان الإنسان يجهل حقيقة ذاته فمن العبث حينئذ الطلب منه أن يتخيّل خطةً لحياته! فإذا ما جُرّد الإنسان عن الجماعة التي ترفده بهويته، وجُرّد عن نظمه وتقاليده، فسيكون من المتعذّر عليه اختيار أي شيء على الإطلاق.
ب): إنّ هذه النظرية تفترض اجتماع أشخاص لاختيار القواعد والمبادئ التي ينبغي أن تقود بنية المجتمع وتوزّع الخيرات من حقوق وحرّيات وثروات وغيرها، وهؤلاء في ظرف توفرهم على الوعي بالمعطيات المتصلة بتاريخ الإنسانية، جاهلون كل الجهل بخيراتهم ومنافعهم الفردية الخاصة في الوضع المستقبلي القادم بعد إقرار العقد. وهذا هو معنى ستار الجهل الذي تحدث عنه رولز وستيربا، فلولا هذا الحجاب لما خضع اختيار مباديء العدالة للعقلانية ولتماهى مع النفعية.
وهنا يحق لنا القول:إنّه ما لم يكن هناك فهم مسبق لمعنى الخير وآلية تطابقه مع رعاية حقوق الآخرين، وما لم يكن هناك إدراك قبلي أن هناك حقوقاً وواجبات، لما استطاع خبراء الأخلاق المدنية المؤسّسون للعقد، أن يقرّروا أن الفعل الأخلاقي هو الذي يتطابق مع المبادئ التي اختارها الناس بالإجماع تحت ستار الجهل!
ج): من حقنا أن نسأل الدكتور ستيربا عن مفهوم العدالة التي تتحقق عبر رعاية المصالح العامة والمبادئ التي اختارها الناس بالإجماع؟ إنّ العدالة مفهوم قيمي نسبي تابع وليس مفهوماً متعالياً حتى يشكل مرجعية لمبادئ الأخلاق المطلقة، ونقرر على ضوء ذلك أخلاقية الفعل بإزائه. فالعدالة من وجهة نظر الرأسمالي تختلف عن العدالة في مفهومها الاشتراكي، وكلاهما يختلفان عن العدالة عند المُتديّن بالدين الإسلامي مثلاً، وهذا يفترض أن يحدد مفهوم العدالة مسبقاً تجريبياً ثم ننطلق لجعله غاية للمبادئ التي سيختارها الناس بالإجماع، مما يعني أن الأخلاق المدنية لا تخرج عن إشكالية النسبية التي سجّلها ستيربا وهرب منها.
علاوة على ذلك؛ فإنّ افتراض أن الأخلاقية متطلبةٌ عقلائياً لا يساوي الإيمان بالأخلاق المدنيّة، لأنّ المدنيّة مفهوم بعدي تجريبي وليس مفهوماً قبلياً، وإذا كان تجريبياً خضع للتقييم النسبي، ومن ثم سيعجز عن تقديم مبرّرات كافية للالتزام بمتطلباته الأخلاقية بالنسبة لغير المؤمن به، فالادعاء بأنّ المدنية وحدها متوفّرة للجميع هو ادعاء يكذّبه الواقع. إنّ قاعدة رعاية المصلحة العامة قد تقتضي من وجهة نظر أخرى، أن تراعي الأقليّة في مجتمع ما هَويّةَ الأغلبية من أبناء ذلك المجتمع، وحينئذ يمكن افتراض وجود مبرر لتطبيق أخلاقيات الأكثرية.
ثم عليَّ أن افترض كون الإنسان طيّباً وخيّراً بذاته، وافتراض أن هذه الخيرية والطيبة تشكل تحديداً إضافياً للشخص الفاضل أخلاقياً، يتوقف على تحديد المراد من الخير الذي يمثّل سؤالاً مركزياً في فلسفة الأخلاق، فحتى يمكن لمفهومي الطيّب والخيّر المساهمة في تحديد الشخص الفاضل أخلاقياً لابدّ من تحديد المراد منهما مسبقاً.
هـ): بتصوري إنّ ستيربا بإثارته لمسألة مرجعية الأخلاق ومسائل أخرى قد افتتح الباب على مصراعيه للنقاش فيما يسمى بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي تبنته الأمم المتحدة عام (1948م). والنقاش حول هذا الإعلان في مرجعيته ونسبيّته أمر له سابقة ليست بالنادرة في دنيا الأفكار الغربية[15].
والمفارقة أن هذا الإعلان الحقوقي جاء بهدف ردم الفجوات الأخلاقية والقانونية والسياسية التي أحدثتها القوى المناهضة للعالمية، فأسهم في ترسيخ فكرة العالمية الحقوقية، وضرورة اعتراف دول العالم جميعاً بحزمة من المبادئ والحقائق الأخلاقية المتعالية المطلقة، في الوقت الذي كان الإتجاه السائد في دنيا الفكر الغربي يتبنى نسبية الحقيقة ونسبية القيم، قافزاً في ذلك الإعلان على التنوع الأخلاقي والثقافي والتاريخي الواضح للعيان، والذي لا يقل أهميّة عن الإعلان المشار إليه!
[1]*ـ باحث وأستاذ في الحوزة العلمية ـ النجف الأشرف ـ العراق.
ـ جيمس ب. ستيربا James P. Sterba باحث ومفكر أميركي ـ أستاذ الفلسفة الأخلاقية والسياسية في جامعة نوتردام، وله مجموعة كبيرة من الكتب والمقالات.
[2]ـ ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق، البيئوية والنسوية والتعددية الثقافوية، جيمس ب. ستيربا، ترجمة جوان صفير، أكاديميا إنترناشيونال 2009م.
[3]ـ ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق: 12- 13.
[4]ـ المجتمع البشري، في الأخلاق والسياسة، برتراند راسل: 36، 42، ترجمة عبد الكريم أحمد، مراجعة حسن محمود، مكتبة الأنجلو المصرية.
[5]ـ ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق: 14.
[6]ـ ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق: 15.
[7]ـ المصدر نفسه: 16.
[8]ـ المصدر نفسه: 126- 128، 161.
[9]ـ المصدر نفسه: 126.
[10]ـ الدين والعقل الحديث، والتر ستيس: 289 فما بعدها: ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى 1998م.
[11]ـ ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق: 46. وتلاحظ تفاصيل رؤية رولز في: العدالة كإنصاف، إعادة صياغة، جون رولز، ترجمة الدكتور حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى 2009م.
[12]ـ ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق: 17.
[13]ـ الموسوعة الفلسفية المختصرة: 531- 532.
[14]ـ ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق: 76- 80.
[15]ـ ينظر على سبيل المثال: الاستسلام للمثالية، أنثروبولوجيا حقوق الإنسان، مارك غوديل، ترجمة الدكتورة هناء خليف غني، باشتراك ثلاثة دور نشر: مكتبة عدنان ومنشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف، بيروت، الطبعة الأولى 2015م؛ فكرة حقوق الإنسان، تشارلز آر. بيتز، ترجمة: شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، فبراير 2015م.