البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

جوزايا رويس (فيلسوف التبصر الأخلاقي)

الباحث :  رواد الحسيني
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  4
السنة :  السنة الثانية - صيف 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 13 / 2016
عدد زيارات البحث :  3346
تحميل  ( 311.327 KB )
جوزايا رويس
فيلسوف التبصُّر الأخلاقي
روّاد الحسيني[1][*]
يتفق الباحثون على النظر إلى الفيلسوف الأميركي جوزايا رويس (1855 - 1916) كأحد أبرز فلاسفة الأخلاق في القرن التاسع عشر. بل إنّ كثيرين منهم يعتبرونه في مقدم الذين وجّهوا النقد العميق والمنهجي لقيم الحداثة وعيوبها الأخلاقية. ولعلّ من أهمّ ما اكتسبته شخصيّة رويس في مجال الفلسفة الأخلاقية أنّها دخلت على خط التجربة التاريخية للعلمانية لتعيد الربط بين الفلسفة والدين، وبالتالي بين القيم الدينية الإلهية وشؤون الإنسان الدنيوية. ولو طالعنا أعماله الفلسفية وأنشطته الأكاديمية فإننا سنقع على جانب شديد الأهمية يتعلّق بمنزلة الإنسان في الوجود. وتحديداً في ما يتعلق منها بنظريتَيْ الولاء والتبصّر الخُلُقي، كنظريتين تشكّلان أساس مذهبه الأخلاقي والفلسفي.
في هذا البحث سنقرأ رؤية بانورامية وتحليلية لمنهج جوزايا رويس الأخلاقي وأبرز نظرياته التي وردت في العشرات من كتبه ومحاضراته وعلاقتها بما سبقها من معطيات في تاريخ الحداثة في الغرب.
المحرر
لم يكن جوزايا رويس ناقداً للإتجاهات الفلسفية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. بل جاءنقده في مجمله ـ كما يقول دارسوه ـ في اطار مقارباته للفلسفة الأميركية البراغماتية. فقد ربط بين الخبرة العلمية والإتجاه العملي الذي يعد سمة مميزة للفكر الأميركي في القرن العشرين من ناحية، وبين الهدف الثابت والمستمر للبحث عن وحدة أساسية تضم كل الأشياء من ناحية أخرى. فلقد أدرك المعنى الصحيح للروح العملية بأنّ أضفى عليها بُعدها الأخلاقي، وحاول تحقيقه في مذهبه الفلسفي، واضعاً في اعتباره المحافظة على موقفه النقدي، وتحقيق نوع من الموازنة بين النظرة الشاملة والكلية للأشياء، وبين تأكيد الجوانب العملية لها.
في كتابه "محاضرات في المثالية الحديثة" يكشف رويس عن قدرة فائقة على تفسير المذاهب الفلسفية وتطورها، بما يوضح أسباب الكثير من المشكلات الفلسفية الكبرى في عصرنا الحاضر. كما اهتم بقيمة الذات الإنسانية، وأوضح مدى اهتمام الفلسفة الحديثة بدورها في تشكيل صورة الأشياء. ولئن كان "رويس" قد ركز في كتابه "روح الفلسفة الحديثة" على كيفية هذا التشكيل، فقد حاول من خلال مجموعة من المحاضرات أن يصحب القارئ في رحلة شاقة عبر مذاهب المثالية الألمانية، متتبعاً تطور هذه المذاهب من "كانط" إلى "هيغل". إلى سائر الفلاسفة الذين يسبقون.
لقد أجمع الباحثون على اعتبار فلسفة رويس الأخلاقية جزءاً لا يتجزأ من العمارة الفلسفية الكبرى للمذهب المثالي. وهذا يعود ـ حسب هؤلاء ـ إلى المزج الذي أجراه بين ثلاثة أضلع هي: الفلسفة، والأخلاق، وروح المسيحية. ومن هذا الوجه يتحدث رويس نفسه حول هذا الجانب حيث اعتبر أن المثالية التي ظهرت في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر هي نتاج أمرين: الأول، الفلسفة الكانطية والمشكلات التي أثارتها حول طبيعة الأنا وصلته بالذوات الأخرى، وحول الطبيعة وكيف تناولها "كانط" بوصفها عالم الظواهر. و الثاني: الظروف الاجتماعية التي سادت تلك الفترة، وما نجم عنها من سقوط مؤسسات كان يعتقد أنّها أشياء في ذاتها فبدت مجرد ظواهر. وقد اعتبر "رويس" أن حدوث الثورة أدى إلى تأصيل مفهوم أنّ العقل قادر على التعبير والتحكم في الوقائع ووضع الخطط التي تتحكم في سير الطبيعة وظواهرها، وأنّ هناك إمكانية لأن يمارس العقل دوره في إعادة تشكيل المؤسسات الدينية والسياسية، طالما أنّ المقولات الفكرية هي المسؤولة عن فهم العالم.
المعارك الفلسفية التي خاضها رويس كانت كثيرة ومتنوعة طاولت عدة مفاهيم سائدة في عصره. من هذه الناحية يناقش "رويس" مفهوم الذات الحقيقية عند كانط، وكيف قام ورثته بتعديل واستبدال الذات العارفة والذات الأخلاقية بالذات المطلقة العارفة الشاملة، التي تضم كل الحقائق في وحدة الوعي، كما ناقش المنهج الجدلي عند "شلنغ" حتى اكتماله عند "هيغل" وأخيراً دراسة العلاقة بين الوعي الفردي والاجتماعي. يؤكد "رويس" أن تصور "المطلق" والمنهج الجدلي نتاج تطور طبيعي لأفكار سابقة أو رد فعل لبعض الأفكار، وهي في الوقت نفسه نتائج مسايرة لأحداث تاريخية مرتبطة بالظروف الاجتماعية المتغيرة وبالحياة الفكرية المتمثلة في الحركة الأجنبية، فتأتي الفكرة في سياق النطق الطبيعي لأفكار سابقة، لا تنبت من فراغ أو تظهر منفصلة عن بيئتها، فالفلسفة وليدة عصرها والظروف الاجتماعية والسياسية، فلا انفصال عن فكر وواقع ولا وجود لفكر منعزل، أو فكر يجتر الماضي ويحيا فيه أو يتطلع لمستقبل ويحيا في الآمال، فالمثالية الحديثة ومنهجها الاستنباطي "ديكارت" أو الجدلي "هيغل" جاءت في طبيعتها رد فعل لظروف اجتماعية معينة تمثلت في الثقة بالعقل والنزعة الفردية والثورة[2] .
ينظر "رويس" للفلاسفة المثاليين ولتفسيراتهم نظرة أحادية تجعل الذاتية محور كل شيء. فمقولات كانط على سبيل المثال هي مقولات قبلية كامنة في الذات، وقد فسّر بها العالم، ثمردّ كل شيء للذات، وانحصرت المشكلة بين ذات تخطط ولديها الشرائط المعرفية للعالم، وأشياء في ذاتها لا نعلم حقيقتها، أو يستحيل معرفتها. أما الفلاسفة ما بعد الكانطيين، فقد رفضوا الأشياء في ذاتها واستبدلوا المطلق بالذات، وانطلاقاً من هذا التأسيس قدم "رويس" المثالية الحديثة بدءاً من "كانط" حتى "شوبنهاور[3]. لكن السؤال الذي يلح على الذهن هو الكيفية التي تشكلت فيها شخصيته الفلسفية والمراحل التي قطعتها؟
في الجواب على هذا السؤال يشير المفكر المصري الدكتور حسن حنفي إلى أنّ فلسفة جوزايا رويس ذات صلة وطيدة بالتطورات الفلسفية التي شهدتها أوروبا في المرحلة الانتقالية بين القرنين التاسع عشر والعشرين. فقد ظهرت الهيجلية الجديدة في النصف الأول من القرن العشرين، بوصفها رد فعل على الوضعية وقد أعطى اسم الهيجلية الجديدة، لتيار أحياء الفلسفة الهيجلية، الذي بدأ في اسكتلندا وانكلترا، ثم امتد إلى أميركا، وكان ممثليها في اسكتلندا وانجلترا، سترلنج، وكيرزد وجرين، ورادلي وبوزانكويت، وهالدين، ماكتاجرت، تيلور، وفي أميركا هاريس ورويس، وهوكنج.وكانت المثالية بالنسبة لأميركا بعثاً جديداً، وتياراً فكرياً يسعى لتحقيق النهضة، جنباً إلى جنب مع البراجماتية، فظهرت في أميركا يقظة فكرية، بدأت كما بدأت النهضة الأوروبية، بنوع من التحرر الفكري من سيطرة الكنيسة، وآمنت بالمثالية الألمانية كقوة لإصلاح الدين والأخلاق الأميركية. فآمنت بالله عن طريق العقل بدلاً من طريق العبادة، ويمكن القول إنّها ركزت على دراسة كانط وخرجت منها أربع مدارس، تمثل كل منها نموذجا أميركياً، أو صبغة أميركية للمثالية الألمانية. هذه المدارس الاربع، هي: مذهب الشخصية (يوردن باركربراون) والمثالية التأملية أو الموضوعية(جيمس أدجويل كرايتون)، والمثالية الدينامية (جورج سلفسترومورس) والمثالية المطلقة (جوزايا رويس)[4].
اهتم رويس بقضية تواصل المعارف الإنسانية بالمعارف الدينية والإلهية، ومن هنا تأتي على سبيل المثال، أهمية كتابه «الجانب الديني للفلسفة» الذي شكل محاولة جادة للتوفيق بين الفلسفة والدين ودفاعاً عن الفلسفة، وفي الوقت نفسه مؤكدا لعقلانية الدين. إلاّ أنّ أهميته الخاصة تعود إلى الظروف الزمنية التي صدر فيها الكتاب. فالفلسفات المعاصرة اتجهت إلى رفض الميتافيزيقا، وفقدت الثقة في الدين التقليدي وبخاصة بعد معاناة الإنسان من الحروب وفساد الحياة، فغلبت نزعة التشاؤم، وانتشر الشك في كل مقدس ديني أو فلسفي، وسادت روح الفردية والأنانية، وطغت الروح المادية وكثرت النزعات الإلحادية، وانقسم الفلاسفة والمفكرون ثلاثة جهات: منهم من جعل الفلسفة والمذاهب الجامدة والميتافيزيقا مسؤولة عما بلغه العالم من فوضى وفساد وإلحاد، ومنهم من اتهم الأفكار الدينية التقليدية، بل منهم من ذهب إلى المبالغة القصوى حيث اتهم الأديان ب أنّها سبب الحروب والصراعات وانتشار الاستغلال والفقر. أمّا رويس فقد قام بمحاولات بدت في أيامه على عكس التيار العلماني والبراغماني السائد. حيث حرص على إجراء وئام بين القيم الدينية والقيم العلمية والفلسفية. لذلك تتمثل أهمية الكتاب في محاولته التوفيق بين الدين والفلسفة، وتقديمه نموذجاً معاصراً لكيفية معالجة الصراع والتضادّ بينهما[5]. كانت محاولات رويس في هذا الجانب مثالية بامتياز. أي أنّها كانت حريصة من جهة على إيضاح الوحدة المعرفية بين الفلسفة والدين، ومن جهة أخرى بدت هذه المحاولة بمثابة موقف أخلاقي.
ومثلما جاءت مثالية «رويس» مجددة للدين، جاءت مجددة للأخلاق، فنبتت الأخلاق من وسط فوضى المثل العليا، التي سادت الفكر الفلسفي في القرن التاسع عشر، ومن جوف التشاؤم وظلام الشك نبتت البصيرة الخلقيّة التي ترشد الإنسان نحو الخيرية، وتحقيق أكبر قدر من الانسجام والوحدة بين الأفراد، وبين الغايات الأخلاقية المتصارعة. فالشك أول مراحل البصيرة الخلقية التي ترشد الإنسان إلى واجباته، وإلى مهمته في الحياة، وإلى وجود العقل الكلي الشامل لكل شيء والإدارة الكلية الخيرة.
رويس وأخلاقيات العصر الوسيط
لا شك بأنّ فلسفة رويس تستمد مصادرها من مجمل التراث الفلسفي الإنساني لكنها ستأخذ من الفلسفة المدرسية التي سادت في القرون الوسطى الكثير من مرجعياتها الدينية والأخلاقية.
صحيح أنّ الفلسفة المدرسية في العصر الوسيط كانت فلسفة مسيحية، إلاّ أنّه من غير الصحيح انها اقتصرت على مسائل الدين، فقد نظرت في المسائل الطبيعية والعقلية كأحسن ما ينظر فيها كما يصرِّح رائد البحث الفلسفي المصري في بداية القرن العشرين يوسف كرم[6].
فلقد عاش الفكر الفلسفي الغربي منذ العصر الوسيط مثل هذا الجدل بين الدين والفلسفة. فالحصيلة التي درسها جوزايا رويس وأمثاله من الفلاسفة الأخلاقيين تركزت على النظر إلى مفهوم الدين على أنّه عقيدة موحاة وتقتضينا الإيمان، ومفهوم الفلسفة بما هي نظر عقلي يعتمد على البرهان؟ ولا شك في أن هذا الجدل كان أعظم خطراً في المسيحية منه في أي دين آخر، وذلك لما تحويه العقيدة المسيحية من «أسرار»، أي من أمور تفوق الطبيعة والعقل كالثالوث والتجسد والفداء.
لقد وجد نفر من المسيحيين أقتنعوا بالتغاير بين الفلسفة والدين، فذهبوا إلى أننا قد نقبل بالعقل قضية ما ونعتنق نقيضها بالايمان. ويوجد الآن أمثال هؤلاء، وسيوجد لهم أمثال بلا ريب. ولكن التاريخ يعرض علينا مسيحيين آخرين كانت الفلسفة والمسيحية بالنسبة إليهم متصلتين متفاعلتين، فأضافوا وجهة جديدة في تاريخ الفكر، وهم يؤلفون الغالبية العظمى في العصر الوسيط. هؤلاء يتفقون في أن الوحي والعقل من عند الله فمحال أن يتعارضا، وأن العقل يجد في الوحي هادياً ومعيناً، ولكنهم يفترقون طائفتين في تصور الصلة بين الطرفين، فهي عند طائفة أوثق منها عند الطائفة الأخرى[7].
-1 مبدأ الطائفة الأولى يقول، أنّه لما كانت الصورة التي ترسمها المسيحية للعالم هي صورته التي أبدعه الله عليها بالفعل، وكان العقل قاصراً عن استكشاف تلك الصورة بنفسه، فلم يبق له من مهمة سوى اتخاذها أصلاً والعمل على تفهمها بقدر المستطاع، ولو بالتشبيه والتمثيل، ولم يبق هناك من حكمة سوى الحكمة الدينية تستوعب الوجود بأكمله على الوجه الذي حققه الله، ولا تدع محلاً لفلسفة مستقلة. تلك كانت النظرة الأولى من القرن الثاني إلى الثالث عشر، فكان المفكرون المسيحيون يقولون «فلسفتنا» و«حكمتنا» للدلالة على المسيحية باعتبارها مذهباً منظماً كمذاهب فلاسفة اليونان.
-2 الطائفة الثانية برزت حين عرفت كتب أرسطو في القرن الثالث عشر، إذ وقفت من كتاب «التحليلات الثانية» أو البرهان على تعريف العلم وتعيين شروطه، فتبيَّنت الحد الفاصل بينه وبين الإيمان، ووقف أنصارها من سائر الكتب على تفسير جامع للطبيعة مكتسب بالعقل الصرف، بما في ذلك وجود الله ووجود النفس وأصول الأخلاق، فقرروا وجوب التمييز بين ما يرجع للطبيعة وما يرجع لما فوق الطبيعة. واعتبروا الفلسفة وحدة قائمة بذاتها، تتألف من المسائل التي عالجها الفلاسفة بالفعل، ومسائل جاء بها الوحي ولم تكن لتعرف لولاه وهي مع ذلك قابلة للبرهنة، كالخلق والبعث والمعاد وبعض الصفات الإلهية؛ بينما يتناول اللاهوت مضمون الوحي بأكمله، والأسرار والحقائق العقلية، فيضعها مقدمات مسلمة، ويستخدم العقل لكي يفهمها بقدر المستطاع، واستنباط ما يترتب عليها، ودفع الشبه عنها[8].
مثالية رويس المعتدلة
خلافاً لما هو معروف عن الفلاسفة المثاليين، فقد كان لجوازيا رويس مذهبه المثالي المخصوص. يمكن الزعم بأنّ مثالية رويس عالجت الكثير من الموضوعات التي كانت مصدر إشكال لكل من الفلسفة والدين بوجه عام، وللدين المسيحي بوجه خاص. فلقد نتج عن فلسفة كانط النقدية في القرن الثامن عشر، أن أصبحت فكرة «الله» و«النفس» و«حرية الإنسان» و«الخلود»، من مصادرات أو مسلمات العقل العملي فقط، وخارج حدود العقل النظري، الأمر الذي سبب مشكلات حقيقية للديانة المسيحية. كما جاءت الفلسفات المثالية بعد كانط، لتعالج المشكلات الفلسفية التي نتجت عن فلسفته، فردت كل شيء إلى الأنا «فشته»، ووجدت الأنا واللا أنا «شلنج» وجعلت المطلق حاوياً لكل شيء «هيجل»، فقالت بالمثالية الواحدية. ولئن وجدت المسيحية في هذه المثاليّة القائمة على الوعي بالذات، وتأكيده فكرة الله، «دعما لأفكارها فإنّه من الملاحظ أيضاً» عند النظر إلى تاريخ الفلسفة، أنّه قد نتج أيضاً عن فلسفة كانط النقدية ازدياد النزعة الشكية واللاأدرية، طالما أنّ «الشيء في ذاته» لا يمكن معرفته، وتظل مسائل الدين خارج حدود العقل، أو أنّ العقل لا يستطيع الحكم عليها[9].
وبالرغم من اتساق هذه المثالية الواحدية مع المسيحية، سواء تلك التي وجدت بين الله والمطلق، أو بينه وبين اللامعروف، فإنها أدت إلى اشكالات جديدة، وشكلت تحدياً مباشراً لمسألة حرية الإنسان وخلوده، وبالتالي للمسألة الأخلاقية بصورة عامة، فإنّ السؤال الذي يطرح هنا، هو: أين حرية الفرد الأخلاقية.. وما نوع الجزاءات من ثواب وعقاب.. وما الموقف من وجود الشر في العالم؟
جاءت فلسفة «رويس» معبرة عن تلك الاشكالات سواء عبر محاولته التأليف والتركيب بين فلسفات واتجاهات فلسفية معينة، أو عبر موقفه النقدي أحياناً والتأويلي أحياناً أخرى، من اتجاهات فلسفية معينة. لقد جاءت فلسفته مثالية مطلقة واحدية، تسير في تيار المثالية بصورة عامة، وفي تيار الفلاسفة الكانطيين أو من يسمون بالفلاسفة «بعد كانط» بصورة خاصة، تحاول حل إشكالات الفلسفة الكانطية خصوصاً إشكالية الفصل بين العمل والنظر، والأنا العارف الأخلاقي، وإشكالات أفكار النفس، والله، والشيء في ذاته. وقد حاولت حل إشكالية المثالية المطلقة ذاتها، التي ظهرت عند «فشته» و«شلنج» و«هيجل وشوبنهور» وانتهت بالمثالية الواحدية، فجعلت الوعي الإنساني محوراً أساسياً للشعور الديني وقبول الوحي. وجاء المطلق شخصاً، يشارك الإنسان فيه، ولا كيان له بدون الأفراد، وأمكن من خلال إعادة تأويل معنى الفردية وحل إشكال الحرية الأخلاقية التخلص من الاتجاهات اللاأدرية والشكِّية والتشاؤمية. ومن هذا الجانب فقد أثبت رويس تناقضها، وأنّ لا قيام بها بدون الحقيقة المطلقة. وكذلك عالج «رويس» نظرية الوجود والإشكالات الفلسفية لنظرية التطور، وأهمية الوعي الإنساني والأخلاقي لاستقامة هذه النظرية: إنّه لا بد من وجود مثل أعلى يحكم من خلاله على التطور، وما ترتب عليه من إشكالات دينية وفلسفية، تتعلق بخلق العالم، وكيف يكون المطلق علة الوجود، وكيف تخضع الطبيعة، باعتبارها العالم المطلق لنسق تطوري، تحول الوجود إلى غاية، فلا وجود الاّ إذا كان مصوداً ، فالواقع مكمل للفكر،ولا انفصا بين الفكر والواقع ويمكن القول عموماً بأنّ حل هذه الإشكالات جاء متسقاً إلى حد كبير مع مفاهيم العقيدة المسيحية[10].
في بداية القرن العشرين، هيمنت مدرسةُ الذرائعية (pragmatism) على المجال الفلسفي في الولايات المتّحدة الأميركية. فالوقت كان مكرّساً ـ أكثر من أي وقت مضى ـ للتفكير في العلاقات القائمة بين الفكر والفعل، بين الحقيقة العِلمية والمُمارسات الفردية والاجتماعية. ولم يكن بمقدور الفكر الأميركي إلّا أن ينغمس في هذا النشاط الاجتماعي الهائل الذي قلب العالم الجديد الذي أثاره النموّ الصناعي والحضْري والديموغرافي.
أخلاقية الولاء
إنّ الصدمة التي سبَّبتها حرب الانفصال لم تُبَدَّد تماماً. فالذرائعية التي تُعيد ربط صحة فكرةٍ ما بآثارها العملية ونتائجها الملموسة تبدو مُلازِمة لهذه الحيوية المُفرطة والمُنتجة للمُقاولين الأميركيين. يُؤكّد ويليام جيمس أن «الفكرة الجيّدة تُقاس بفعاليتها». عليها أن «تدفع نقداً». ما الجدوى من أفكار لا تَزيد النموّ الحيوي والأخلاقي للأفراد؟ إنّ الحقائق التي تَطمس وتُذبِل الحياة ليست جديرة بأنّ تكون حقائق. يجب على المعايير الأخلاقية إذن أن تُعبّر عن عطش النجاح الذي يُحرّك الأفراد الذين لهم تأثير على بناء الحلم الأميركي[11].
في كتابه (فلسفة الولاء) (1908)، يرفع مفهوم الولاء إلى مستوى تصوّر يُعبّر، بالنسبة للشعب الأميركي، عن أخلاق جماعية مع انعكاساتها السياسية والاجتماعية. لم يكتب رُوْيس Royce «في هذا الكتاب للفلاسفة حصراً وبشكل أساسي؛ فهو يخاطب كل أولئك الذين ... يُحبّون المثال»، ويُخاطب «بلداً... مضطرباً للغاية بفعل هَوْل المشاكل الاجتماعية والسياسية ومدى تعقيدها»[12]. بتهجين الذرائعية والمِثالية الفلسفية، كان رُوْيس يقصد استعادة الذرائعية لكن بدمجها في فلسفة مُوحَّدة للحياة.
إن الاستقلالية الأخلاقية والسياسية تتطلّب اجتماع الحياة الإنسانية حول مشروعٍ ما، وذلك تحت طائلة تقطيعها بواسطة «راجيات الخير» Erynies في العالم. إنّ تكوين الذات وتعزيزها ينشآن من الانخراط المُقرّر في قضيةٍ ما، ومن الولاء لها. إنّ أخلاق الولاء تنتزع مع رُوْيس قيمة القصدية التكوينية للذات، وللاخرين وللعالم. إنها منشأ الاستقامة ومنشأ الحياة الرفيعة والكريمة.
[1]*ــ كاتب متخصّص في الفلسفة، باحث متعاون في مركز دلتا للأبحاث المعمّقة ـ بيروت.
[2]ـ راجع التقرير الثقافي حول فلسفة جوازيا رويس وجاء بعنوان: محاضرات رويس تكشف عن تفسير المذاهب الفلسفية ـ جريدة الخليج ـ الشارقة ـ 24 - 5 - 2014.
[3]ـ المصدر نفسه.
[4]ـ انظر: حسن حنفي ـ مقدمة في علم الاستغراب ـ الدار الفنية ـ ص368.
[5] - أنظر مقدمة أحمد الانصاري في ترجمته لكتاب جوزايا رويس – الجانب الديني للفلسفة- مراجعة جسن حنفي المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة – 2000- (ص 4).
[6] - يوسف كرم – تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط – دار الكاتب المصري – القاهرة 1946- (ص 7).
[7] - المصدر نفسه – (ص 9).

[8] - المصدر نفسه – (ص 10).
[9] - Josiah Royce: The Conception of God, Machmillan, 1894.
[10] - Ipid. P. 175.
[11] - انظر فيليب فورجيه في تعليقه على كتاب جاكلين مورو ـ سير جوزايا رويس ـ فيلسوف الولاء ـ فرنسا ـ 19 46- ص 10. انظر أيضاً كتاب موروت الأصلي.
[12] - Josiah Royce, Philosophie du loyalisme, trad. De Jacqueline Morot-Sir, Paris, Aubier, 1946, p. 10



جوزايا رويس
مقتطفات من سيرته الذاتية
ولد جوزايا رويس (1855-1916) في مدينة سيرا نيفادا، بولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة. في حديث له نشر في المجلة الفلسفية في فيلادلفيا عام 1916، يجيب على سؤال حول نشأته فيقول: ولدت في مدينة تكبرني بخمس أو ست سنوات، ويعمل سكانها بالتنقيب في المناجم. وما زلت أفكر في وصف والدي لها، ب أنّها مجتمع جديد، كنت أنظر للآثار الخاصة بالمنقبين، وجذوع الأشجار الضخمة المقطوعة هناك، ومقابر عمال المناجم، وأحدث نفسي قائلاً، من الواضح أنّه كان هناك أناس، عاشوا وماتوا هنا. فالجذوع والأشجار تؤكد قدم المكان، والأزدهار والنضرة المنتشرة في كل أرجائه تعد دليلاً على محبتهم وإخلاصهم له، فأين الجدة في هذا المكان؟ ولماذا يوصف بالبكارة؟ لقد بدأت أشعر بأنّ مهمتي في الحياة مكرسة للبحث عن معنى هذا التساؤل، ووضع إجابة له.
درس رويس الفلسفة، وسمع قراءة الإنجيل من والدته، وتعلم القراءة، وفن الجدل من إحدى أخواته البنات، التي كانت تكبره بثلاث سنوات. كان عنيداً ويميل إلى التمرد وبخاصة على طقوس أيام الآحاد. تأثر بنتائج الحرب الأهلية الأميركية، التي لم يحضرها، وباغتيال الرئيس «لنكولن». وقال إنه منذ هذه اللحظة بدأ اهتمامي بالوطن يصاحب اهتمامي بالدين».
انتقل في بداية عام 1866 إلى الدراسة في احدى المدارس الخاصة، بسان فرانسيسكو، وشعر لأول مرة في حياته، بمدى سلطة المجتمع على الفرد، بسبب ما عاناه من ندرة الأصدقاء، ولعدم معرفته لألعابهم، فكون انطباعا كئيباً عن المجتمع، أشار إليه في كتابه «مشكلات المسيحية، عند مناقشته لمذهب «بولس» عن الخطيئةالاولى، في الفصل السابع من رسالته الرومان.
بدأ دراسته الجامعية في مدينة كاليفورنيا عام 1871، وحصل على أول درجة جامعية 1875 وفي دراسته العليا، قرأ «لجون ستيورات مل»، و»هربرت سبنسر» وعن نظرية التطور لداروين. ذهب بعد التخرج إلى المانيا، ثم إلى جامعة، «جون هوبكنز»، ثم عد إلى جامعة كاليفورنيا من عام 1878 إلى 1882، وظل منذ ذلك الوقت يعمل في جامعة هافارد. استمع أثناء إقامته في المانيا إلى «لوتزه»، و»شوبنهور»،واهتم فترة طويلة بفلسفة «كانط» و»هيجل»، وإن كان لا يعد نفسه متأثرا بفلسفة هيجل أو جرين. وفي عام 1890 تأثر بالمدرسة الرومانسية تأثرا كبيراً، وكان في الوقت نفسه شغوفاً بالمنطق والرياضيات. في أثناء إقامته في ألمانيا، كان انعزالياً، لا يشارك في أي جماعة، جاهلاً بالسياسة، وعضوا غير مؤثر في الجمعيات. ولم يشترك في أي جمعية اجتماعية. وبالرغم من معاناته الدائمة من المجتمع، فإنه جعل فكرة المجتمع محور تفكيره. إنّ من ينظر إلى أحوال المجتمع البشري اليوم قد يتساءل لماذا نعطي كل هذا الاهتمام للمجتمع الإنساني فلا نجد أمامنا الا مجتمعات فاسدة، لا تحقق أبسط مطالب الانسانية، ولا تسبب الا القهر والعذاب للروح الإنساني، ولا ينتصر فيها إلاّ أعداء الإنسانية، يجيب رويس أنّه يشعر بالأزمة وبالعجز عن تحقيق المجتمع العظيم، ولا يسعه الا تحقيق هذا المجتمع في يوم من الأيام، ولا يتمنى أن يحيا إلى اليوم الذي ينتظر فيه أعداء البشرية.
كانت رسالة رويس للحصول على درجة الليسانس عن «لاهوت برمثتيوس» لإسخيلوس ومن مؤلفاته أهمية التحليل المنطقي (1881)، والجانب الديني للفلسفة (1885)ـ، دراسة للشخصية الأميرية (1886) روح الفلسفة الحديثة (1892)، مفهوم الله (1897) دراسات في الخير والشر (1898)، العام والفرد (1900-1902) جزءان، مفهوم الخلود (1900) الوضع الحالي لمشكلة الدين الطبيعي (1901-1902)، مدخل إلى علم النفس (1903)، هربرت سبنسر تقويم ومراجعة (1904)، علاقة مبادئ المنطق بأسس الهندسة (1905) فلسفة الولاء (1908) مشكلات الجيل ومشكلة اميركية (1909)، وليم جيمس، ومقولات أخرى عن فلسفة الحياة (1911)، مصادر البصيرة الدينية (1912) مبادئ النطق(1922) مشكلة المسيحية (1913) جزءان، الحرب والتأمين (1914)، وذلك إلى جانب الكثير من المقالات التي قام بنشرها في أعداد من المجلة الفلسفية الأميركية، وبعض المؤلفات التي قام بالإسهام فيها ومراجعاتها.