البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

قيمة الصداقة (أن تكون فاضلاً أنّى تبدلت الأحوال)

الباحث :  أبو علي أحمد بن محمد مسكويه
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  4
السنة :  السنة الثانية - صيف 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 13 / 2016
عدد زيارات البحث :  1740
تحميل  ( 248.048 KB )
قيمة الصداقة
أن تكون فاضلاً أنّى تبدّلت الأحوال

أبو علي أحمد بن محمد مسكويه[*][1]
يقول أرسطو طاليس: «إن الإنسان محتاج إلى الصديق عن حسن الحال وعند سوء الحال، فعند سوء الحال يحتاج إلى معونة الأصدقاء، وعند حسن الحال يحتاج إلى المؤانسة وإلى من يُحسن إليه. ولعمري أن المِلك العظيم يحتاج إلى من يصطنعه ويضع إحسانه عنده، كما أنّ الفقير من الناس يحتاج إلى صديق يصطنعه ويضع إحسانه عنده المعروف».
قال: «ومن أجل فضيلة الصداقة يشارك الناس بعضهم بعضاً ويتعاشرون عُشْرَةً جميلةً، ويجتمعون في الرياضيات والصيد والدعوات»، وأما سقراطيس، فإنّه قال بهذه الألفاظ[2]:
“ أني لأكثر التعجب ممن يعلّم أولاده أخبار الملوك ووقائع بعضهم ببعض، وذكر الحروب والضغائن ومن انتقم أو وثب على صاحبه، ولا يخطر ببالهم أمر المودة وأحاديث الألفة وما يحصل من الخيرات العامة لجميع الناس بالمحبة والأنس، وإنه لا يستيطع أحد من الناس أن يعيش بغير المودّة وإنْ مالت إليه الدنيا بجميع رغائبها، فإنّ ظن أحد أن أمر المودة صغير من ظن ذلك، وإن قدر أنّه موجود بيسير الخطب يدرك بالهُوينا فما أصبعه وما أعسر وجود صداقة يوثق بها عند البلوى»!
ثم قال: «لكني أعتقد أن قدر المودّة وخطرها عندي أعظم من جميع ذهب كُنوز قارون ومن ذخائر الملوك، ومن جميع ما يتنافس فيه أهل الأرض من الجواهر وما تحويه الدنيا براً وبحراً، وما يتقبّلون فيه من سائر الأمتعة والأثاث، ولا يعدل جميع ذلك ما اخترته لنفسي من فضيلة المودة»[3].
وذلك أنّ جميع ما أحصيته لا ينفع صاحبه إذا حلّت به لوعة مصيبة في صديقه، وفهم من الصديق ههنا أنّه آخر هُو أنت، سواء كان أخاً من نسب أو غريباً أو ولداً أو والداً، ولا يقوم له جميع ما في الأرض مقام صديق يثق به في مُهم يساعده عليه، وسعادة عاجلة أو آجلة تتم له، فطوبى لمن أُوتي هذه النِعمة العظيمة وهو في خلة السلطان وأعظم طوبى لمن أوتيه من سلطان، وذلك أنّ من باشر أمور الرعيّة وأراد أنْ يعرف أحوالهم، وينظر في أمورهم حق النظر، لن يكيفه أذنان ولا عينان ولا قلب واحد، فإنّ وجد إخواناً ذوي ثقة وجد بهم عُيونًأ وآذاناً وقلوباً كأنها بأجمعها له، فقربت عليه أطرافه واطلع من أدنى أمره على أقصاه، ورأى الغائب بصورة الشاهد فأنى توجد هذه الفضيلة إلاّ عند الصديق، وكيف يطمع فيها عند غير الرفيق الشفيق؟
كيف يُختار الصديق
وإذ قد عرفنا هذه النعمة الجليلة الخطيرة فيجب علينا أن ننظر كيف نقتنيها ومن أين نطلبها، وإذا حصلت لنا كيف نحتفظ بها لئلاّ يُصيبنا فيها ما أصاب الرجل الذي ضُرب به المثل، حين طلب شاة سمينة فوجدها وارمة فاغتر بها وظن الورم سمناً، فأخذه الشاعر فقال:
أُعِيذُها نَظَرَتِ منْــكَ صـــادقَةٍ أن تحسب الشَّحْمَ فيمن شَحمُه وَرَمُ
لا سيّما وقد علمنا أن الإنسان من بين الحيوان يتصنّع حتى يُظهر للناس منه ما لا حقيقة له، فيبذل ماله وهو بخيل ليقل هو جواد، ويقدم في بعض المواطن على بعض المخاوف ليقال هو شجاع.
وأما سائر الحيوان فإنّ أخلاقها ظاهرة للناس من أوّل الأمر لا يتصنّع فيها، وكذلك يكون حال من لا يعرف الحشائش والنبات، فإنّها تشتبه في عينه حتى ربما تناول منها شيئاً وهو يظنه حلواً. فإذا طعمه وجده مراً، وربما ظنه غذاء فيكون سمّاً، فينبغي لنا أنْ نحذر ركوب الخطر في تحصيل هذه النعمة الجليلة، حتى لا نقع في مودّة المُموِّهين الخدّاعين الذين يتصوّرون لنا بصورة الفضلاء الأخيار، فإذا حصّلونا في شباكهم افترسونا كما تفترس السباع أكيلتها[4].
شروط اتخاذ الصديق
والطريق إلى السلامة من هذا الخطر بحسب ما أخذناه عن سقراطيس: إذا أردنا أن نستفيد صديقاً أن نسأل عنه كيف كان في صباه مع والديه ومع إخوته وعشيرته، فإنّ كان صالحاً معهم فارجُ الصلاح منه، وإلاّ فابعد منه وإيّاك وإيّاه. قال: ثم اعرف بعد ذلك سيرته مع أصدقائه قيلك، فأضفها إلى سيرته مع إخوته وآبائه ثم تتبع في شكر من يجب عليه شكره أو كفره النعمة، ولست أعني بالشكر المكافأة التي ربما عجز عنها بالفعل، ولكن ربما عطل نيته في الشكر فلا يكافئ بما يستطيع وبما يقدر عليه، يغتنم الجميل الذي يسدى إليه ويراه حقاً له أو يتكاسل عن شكره باللسان. وليس أحدٌ يتعذّر عليه نشر النعمة التي تتولاه والثناء على صاحبها والاعتداد له بها، وليس شيء أشد احتياجاً للنقم من الكفر، وحسبك ما أعده الله لكافر نعمته من النقم مع تعاليه عن الاستضرار بالكافر. ولا شيء مع استغنائه عن الشكر فتعرف هذا الخلق ممن تريد مؤاخاته.
واحذر أنْ تبتلى بالكفر للنعم المستحقر لأيادي الإخوان وإحسان السلطان.
ثم انظر إلى ميله إلى الرّاحات وتباطئه عن الحركة التي فيها أدنى نصب، فإنّّ هذا خلق رديء ويتبعه الميل إلى اللذات، فيكون سبباً للتقاعد عما يجب عليه من الحقوق. ثم انظر نظراً شافياً في محبته للذهب والفضة واستهانته بجمعهما وحرصه عليهما، فإنّّ كثيراً من المتعاشرين يتظاهرون بالمحبّة ويتهادون ويتناصحون، فإذا وقعت بينهم معاملة في هذين الحجرين هرَّ [5] بعضهم على بعض هرير الكلاب، وخرجوا إلى ضروب العداوة.
ثم انظر في محبته للرئاسة والتفريط، فإنّ من أحب الغلبة الترؤس وإن يفرط لا ينصفك في المودّة ولا يرضى منك بمثل ما يعطيك ويحمله الخيلاء والتيه على الاستهانة بأصدقائه وطلب الترفع عليهم. وليس تتم مع ذلك مودة ولا غبطة، ولا بد من أن تؤول الحال بينهم إلى العداوة والأحقاد والأضغان الكثيرة.
ثم انظر هل هو ممن يستهزئ بالغناء واللحون وضروب اللهو واللعب وسماع المجون والمضاحيك، فإنّ كان كذلك فما أشغله عن مساعدات إخوانه ومواساتهم، وما أشد هُربَه عن مكافأة بإحسان واحتمال النصب ودخول تحت جميل فيه مشقة، فإنّ وجدته بريئاً من هذا الخلال فلتحتفظ عليه ولترغب فيه، ولتكتف بواحد إنّ وجد فإنّ الكمال عزيز.
وأيضاً فإنّّ من كثر أصداقاؤه لم يَفِ بحقوقهم، واضطر إلى الإغضاء عن بعض ما يجب عليه والتقصير في بعضه، وربما ترادفت عليه أحوال متضادّة، أعني أن تدعوه مساعدة صديق إلى أن يسر بسروره ومساعدة آخر إلى أن يغتْمَّ بغمّه، وأن يسعى بسعي واحد ويقعد بقعود آخر مع أحوال تشبه هذه كثيرة مختلفة. ولا ينبغي أنْ يحملك ما حضضتك عليه من طلب الفضائل ممن تصادقه على تتبع صغار عيوبه، فتصير بذلك إلى أن لا يسلم لك أحد فتبقى خلواً من الصديق، بل يجب أنْ تغضي عن المعايب اليسيرة التي لا يسلم من مثلها البشر، وتنظر ما تجده في نفسك من عيب فتحتمل مثله من غيرك. واحذر عداوة من صادقته أو خاللته أو خالطته مخالطة الصديق، اسمع قول الشاعر[6]:
عَدُوُّك من صَدِيقكَ مستفادٌ فَلا تَستــكثرنَّ من الصِّحابِ
فإنّّ الـــدّاءَ أكــثر مــا تراهُ يكونُ من الطعــام أو الشــرابِ[7]
ولذلك يجب عليك متى حَصل لك أنْ تكثر مراعاتِه وتبالغ في تفقّده، ولا تستهين باليسير من حقّه عند مُهم يعرض له أو حادث يحدث به فأمّا في أوقات الرخاء فينبغي أن تلقاه بالوجه الطلق والخلق الرحب، وإن تظهر له في عينك وحركاتك وفي هشاشتك وارتياحك، عند مشاهدته إيّاك، ما يزداد به في كلّ يوم وكلّ حال ثقة بمودتك وسكوناً إلى غيبك، ويرى السرور في جميع أعضائك التي يظهر السرور فيها إذا لقيك، فإنَّّ التحفي[8] الشديد عن طلعة الصديق لا يخفي، وسرور الشكل بالشكل أمر غير مشكل، ثم ينبغي أن تفعل مثل ذلك بمن تعلم أنّه يؤثره ويحبّه من صديق أو ولد تابع أو حاشية، وتثني عليهم من غير إسراف يخرج بك إلى المَلَق[9] الذي يمقتك عليه، ويظهر له منك تكلف فيه، وإنما يتمُّ لكَ ذلك إذا توخّيت الصِدق في كل ما تثني به عليه.
والزم هذه الطريقة حتى لا يقع منك توان فيها بوجه من الوجوه وفي حال من الأحوال، فإنّّ ذلك يجلب المحبة الخالصة ويكسب الثقة التامّة، ويفيدك محبة الغرباء ومن لا معرفة لك به. وكما أن الحَمام إذا ألف بيوتنا وأنس لمجالسنا وطاف بها يجلب لنا أشكاله وأمثاله[10]، فكذلك حال الإنسان إذا عرفنا واختلط بنا اختلاط الراغب فينا الآنس بنا، بل يزيد على الحيوان غير الناطق بحسن الوصف وجميل الثناء ونشر المحاسن.
واعلم أن مشاركة الصديق في السّراء إذا كنت فيها وإن كانت واجبة عليك حتى لا تستأثرها ولا تختصّ بشيء منها، فإنّ مشاركته في الضرّاء أوجب، وموقعها عنده أعظم. وانظر عند ذلك إنّ أصابته نكبة أو لحقته مصيبة أو عثر به الدهر، كيف تكون مواساتك له بنفسك ومالك، وكيف يظهر له تفقّدك ومراعاتك. ولا تنتظرن به أنْ يسألك تصريحاً أو تعريضاً بل اطلع على قلبه واسبق إلى ما في نفسه وشاركه في مضَضِّ[11] ما لحقه عنه. وإن بلغت مرتبة من السلطان والغنى فاغمس إخوانك فيها[12] من غير امتنان ولا تطاول، وإنْ رأيت من بعضهم نُبُوّاً [13] عنك، أو أنّ نقصاً مما عهدته فداخله زيادة مداخلة، اختلط به واجتذبه إليك، فإنّّك إنّ أنفت من ذلك أو تداخلك شيء من الكبر والصلف عليهم، انتقص حبل المودة وانتكثت قوّته، ومع ذلك فلست تأمن أن يزلوا عنك فتستحي منهم وتضطر إلى قطيعتهم حتى لا تنظر إليهم، ثم حافظ على هذه الشروط بالمداومة عليها لتبقى المودة على حال واحدة.
مراعاة الصديق:
وليس هذا الشرط خاصاً بالمودّة، بل هو مطرد في كلِّ ما يخصّك، أعني مركوبك وملبوسك ومنزلك متى لم تراعها مراعاة متّصلة فسدت وانتقضت، فإذا كانت صورة حائطك وسطوحك كذلك، ومتى غفلت أو توانيت لم تأمن تقوّضه وتهدّمه، فكيف ترى أن تجفو من ترجوه لكل خير وتنتظر مشاركته في السرّاء والضرّاء؟ ومع ذلك فإنّ ضرر تلك يختص بك بمنفعة واحدة. وأمّا صديقك فوجوه الضّرر التي تدخل عليك بجفائه وانتقاض مودته كثيرة عظيمة، وذلك أنّه ينقلب عدواً وتتحوّل منافعه مضار، فلا تأمن غوائله وعدوانه مع عدمك الرغائب والمنافع به، وينقطعُ رجاؤك في ما لا تجد له خلفاً عنه عوضاً ولا يسد مسدّه شيء، وإذا راعيت شروطه وحافظت عليها بالمداومة أمنت جميع ذلك، ثم احذر المراء معه خاصة وإن كان واجباً أن تحذره مع كل أحد، فإنّّ مماراة الصديق تقتلع المودة من أصلها، ل أنّها سبب الاختلاف، والاختلاف سبب التباين الذي هربنا منه إلى ضده وقبّحنا أثره، واخترنا عليه الإلفة التي طلبناها وأثنينا عليها، وقلنا أن الله عز وجل دعا إليها بالشريعة القويمة.
وإنيّ لأعرف من يؤثر المِراء ويزعم أنّه يقدح خاطره ويشحذ ذهنه ويثير شُكُوكه، فهو يتعمّد في المحافل التي تجمع رُؤساء أهل النظر، ومتعاطي العلوم مُماراة صديقه، ويخرج في كلامه معه إلى ألفاظ الجهّال من العامة وسقاطهم، ليزيد في خَجل صديقه وليظهر انقاطعه وتبلّجه، وليس يفعل ذلك عند خَلْوته به ومذكراته له، وإنما يفعله حيث يظن به أنّه أدق نظراً أو أحْضر حُجّة وأغزر علماً وأحد قريحة[14].
فما كنت أشبهه إلاّ بأهل البغي وجبابرة أصحاب الأموال والمتشبّهين بهم من أهل البِدع، فإنّّ هؤلاء يستحقر بعضهم بعضاً، ولا يزال يصغّر بصاحبه ويزري على مروءته ويتطلّب عيوبه ويتتبّع عثراته، ويبالغ كل واحد في ما يقدر عليه من إساءة صاحبه حتى يؤدّي بهم الحال إلى العداوة التامّة التي يكون معها السِعاية وإزالة النعم، وتجاوز ذلك إلى سَفك الدّم وأنواع الشرور فكيف يثبت مع المِراء محبّة أو يُرجى له إلفة؟
ثم احذر في صديقك إنّ كنت متحققاً بعلم أو متحلّياً بأدب أنْ تَبخل عليه بذلك الفن، أو يرى فيك أنك تحب الاستبداد دونه والاستئثار عليه، فإنّّ أهل العلم لا يرى بعضهم في بعض ما يراه الدنيا بينهم، وذلك أنّ متاع الدنيا قليل[15]. فإذا تزاحم عليه قوم ثلم بعضهم حال بعضه، ونقض حظ كل واحد من حظ الآخر. فأمّا العلم فإنّّه بالضّد وليس أحد ينقص منه ما يأخذه غيره منه، بل يزكو على النفقة ويربو مع الصدقة، ويزيد على الإنفاق وكثرة الخَرج[16]، فإذا بخل صاحب علم بعلمه فإنّما ذلك لأحوال فيه كلّها قَبيحة، وهي أنّه: إما أنْ يكون قليل البضاعة منه فهو يخاف أن يفنى ما عنده، أو يرد عليه ما لا يعرفه فيزول تشرفه عند الجهّال، وإمّا أنْ يكون حسوداً والحسود بعيد من كل فضيلة لا يودّه أحد.
وإني لأعرف من لا يرضى بأنّ يبخل بعلم نفسه حتى يبخل بعلم غيره ويكثر عَتَبه وسَخَطه على من يفيد غيره من التلامذة المستحقّين لفائدة العلم، وأكثر ما يتوصل إلى أخذ الكُتب من أصحابهم ثم يمنعهم منها. وهذا خلق لا تبقى معه مودّة بل يجلب إلى صاحبه عداوات لا يحسبها، ويحسم أطماع أصدقائه من صداقته.
ثم احذر أن تبسط[17] إلى أصحابك ومن يخلو بك من أتباعه أو تحمل أحداً منهم على ذكر شيء في نفسه، ولا ترخص في عيب شيء يتصل به فضلاً عن عيبه، ولا يطمعن أحدٌ في ذلك من أولي أسبابك والمتّصلين بك جداً ولا هزلاً، وكيف تحتمل ذلك فيه وأنت عينه وقلبه وخليفته على الناس كلّهم؟ بل أنت هو فإنّّه إنْ بلغه شيء مما حذرتك منه لم يشك أنّ ذلك كان عن رأيك وَهَواك، فينقلب عدوّاً وينفر عنك نفور الضد، فإنّ عَرفت مِنه أنت عيباً فوافقه عليه موافقة لطيفة ليس فيها غِلظة، فإنّ الطبيب الرقيق ربّما بلغ بالدّاء اللطيف ما يبلغه غيره بالشق والفطع والكي، بل ربما توصل بالغذاء إلى الشفاء واكتفى به عن المعالجة بالدواء.
ولستُ أُحبّ أن تغضي عمّا تعرفه في صديقك، وأن تترك موافقته عليه بهذا الضَرب من الموافقة. فإنّّ ذلك خِيانة مِنك ومسامحة في ما يعودُ ضرره عليه وليس مِن حقِّ الصديق أنْ يعرف ويبذل لعيون الأضداد حتى يُعيبوه ويثلبوه. ثم احذر النميمة وسماعها، وذلك أن الأشرار يدخلون بين الأخيار في صورة النُصحاء. فيوهمونهم النصيحة، وينقلون إليهم في عرض الأحاديث اللذيذة أخبار محرفة مُموّهة، حتى إذا تجاسروا عليهم بالحديث المختلق يُصرّحون لهم بما يفسد موادتهم، ويشوّه وجوه أصدقائهم إلى أنْ يبغض بعضهم بعضاً، وللقدماء في هذا المعنى كتب مؤلفة يحذرون فيها من النميمة، ويشبّهون صورة النمّمام بمن يحك بأظافره أصول البنيان القوية حتى يؤثر فيها، ثم لا يزال يزيد وبمعنى حتى يدخل فيها المعول فيقلعه من أصله، ويضربون له الأمثال الكثيرة الشبيهة بحديث الثور مع الأسد في كتاب كليلة ودمنة[18].
ونحن نكتفي بهذا القدر من الإيماء لئلا نخرج عن رسم كتابنا، وعمّا بَنَيْنا عليه مذهبنا من الإيجاز مع الشرح، ولستُ أترك مع الإيجاز والاختصار تعظيم هذا الباب وتكريره عليك، لتعلم أنَّ القُدماء إنما ألّفوا فيه الكتب وضربوا له الأمثال، وأكثروا فيه من الوصايا لما رأوه من النفع العظيم، عن السامعين من الأخيار، ولمّا خالفوه من الضرر الكثير على من يستهين به من الإغمار، وليعلم أنّ المثل المضروب في السباع القوية إذا دخل عليها الثعلب الرَّواغ على ضعفه فأهلكها ودمّرها، وفي الملوك الحُصناء يدخل بينهم أهل النّميمة في صورة النّاصحين حتى يفسدوا نيّتهم على وزرائهم المبالغين في نصيحتهم، المجتهدين في تثبيت مُلكِهم وايثارهم على آبائهم وأولادهم إلى أن لا يملأوا عُيُونهم منهم، وإلى أن يبطشوا بهم قتلاً وتعذيباً وَهُمْ غير مذنبين ولا مجترمين ولا مستحقين إلاً الكرامة والإحسان. وإذا بلغ بهم من الإفساد والإضرار لما بلغه من هؤلاء فكم بالحري أن يبلغ منّا إذا لم يجدوه في أصدقائنا الذين اخترناهم على الأيّام، وادخرناهم للشدائد وأحللناهم محل أرواحنا وزدناهم تفضلاً وأكراماً.

[1]* ـ هذا النص مستلّ من كتاب فيلسوف الأخلاق المسلم مسكويه (المتوفى 421هـ) تهذيب وهو المعروف تحت عنوان: "الأخلاق وتطهير الأعراق"، دراسة وتحقيق عماد الهلالي، منشورات الجمل بيروت، 2001.
[2]أمّا أراء سقراط فهي:
- على الإنسان أن يعرف نفسه، فمتى عرف نفسه، عرف ماهيته.
ـ متى عرف نفسه آمن بالخير ورفض الشرّ.
ـ الفضيلة علمٌ، والرذيلة جهلٌ.
ـ القوانين العادلة من صنع العقل، وهي صورة عن قوانين رسمتها الآلهة في قلوب البشر.
ـ يرفض سقراط ما نُسب إلى الآلهة من شهوات وخصومات، فالآلهة يرعوننا ويسهرون علينا.
ـ الدين هو حلول العدالة الإلهية في ضميرنا.
يبدو سقراط «من أضخم ممثّلي العقل البشري، والمؤسس الأول لعلم الأخلاق على حد قول إميل بوترو «E.Boutroux” في كتابه الشهير: سقراط مؤسس علم الأخلاق، الصادر في باريس “Paris” عام 1897م”.
(انظر: الموسوعة الميسر في الفكر الفلسفي والاجتماعي، كميل الحاج، ص 291 – 293، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 2000م).
[3]ـ هذا الكلام ليس لسقراط كما نكر مسكويه، بل هو كلام الفيلسوف والمدرس البياني اليوناني وأحد مشاهير مفسري أرسطو طاليس، ثامسطيوس.
[4] - الأسد معروفٌ بصيده للفريسة، حيثُ يسمى «ملك الغابة» وهو الأقوى كما هو معروف، يشير علماء الحيوان: بأنّ الأسد إذا شبع من الطعام، وَوضعت أمامه غزال، لا يأكلها أبداً، لأنّه شبع!، لكن هل الإنسان يشبعه شيء، هل يقتنع بشيء معيّن!!؟
[5] - يقال: فلاٌن هرّهُ الناس، أي: كرهوا منظره ومعاملته. وفي وجه السائل: عبس وصوت كما يهرُّ الكلب. هريرُ الكلاب: صوت دون نباح، الكلب إذا كشّر عن أنيابه.
[6] - ديوان ابن الروّمي (علي بن العباس بن جُريح المتوفى سنة 284هـ) ضبط وتقديم: الدكتور عُمر فاروق الطبّاع – ج1،ص296، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، بيروت، 2000م).
[7] - ينصح الشاعر بعد الإكثار من الأصحاب ويشرح لاحقاً بسبب ذلك، ويقول: إنّ أكثر العلل مصدرها من الغذا – ويكمل القصيدة:
وإذا انقلب الصديق غَداً عدوَّا مُبينًأ والأمورُ إلى انقلابٍ
ولو كانَ الكثيرُ يطيبُ كانت مُصاحبة الكثيرٍ من الصوابِ
[8]ولكن ما قَلَّ ما استكثرتَ إلاّ سَقَطت على ذئابٍ في ثيابِ
فدَعْ عنكَ الكثير فكم كثير يُعافُ، وكم قليلٍ مُستطابِ
ما اللُّجَجُ المِلاحُ بمروياتٍ وتَلْقى الرّيّ في النُّطَفِ العِذابِ
3 ـ التحفي: المبالغة في إكرام الصديق وملاطفته.
[9] - الملق بالتحريك: الود واللطف الشديدان، حيث يخرج عن المدح والثناء ويصل إلى حالة التملّق.
[10] - كما في المثل المشهور: إنّ الطيورَ على أشكالها تقعُ.
(المنجد في اللغة، لويس معلوف، ص998 (فرائد الأدب)، دار المشرق، بيروت، 1988م).
[11] - المضض: وجع المصيبة.
[12] - أي: شاركهُمْ معك.
[13] - نُبُوّاً: أي تجافى وتباعد.
[14] - أظنُّ – والله الأعلم – أن مسكويه هنا يقصد ابن سينا. وإذا صحّ قول البيهقي في تتمّة صوان الحكمة بأنّ ابن سينا « كان مُهَجّناً مُؤذياً» وحادثة «الجوزة» المعروفة بين ابن سينا ومسكويه – في بلاط الخوارزم – التي مرّ ذكرها في المقدمة، يبدو أن هذا الاحتمال يكون قوياً في ذلك. وكذلك نشاهد من خلال ثنايا كتاب «النجاة» لابن سينا، حيث يصف الفيلسوف أبو الحسن العامري بـ «فَدْم» أي: أحمق. مما يقوّي هذا الاحتمكال.
انظر: النجاة، ابن سينا، ص444، طبعة مصر، 1331 هـ.
[15] - إشارة إلى الآية 77 من سورة النساء: «... قل متاع الدُنيا قليلٌ والآخرةُ خيرٌ لمن اتقى ولا تُظلمونَ فتيلاً»، والآية 38 من سورة التوبة ((... فما متاعُ الحياةِ الدُنيا في الآخرة إلاّ قليلٌ)).
[16] - يقال: العبد يُؤدي خَرْجَه، أي: غلَّته. والرعيّة تؤدي إلى الأمير الخراج، والخرجُ أيضاً من السحاب، وجمعُه خُرُجٌ، وقيل: الخَراجُ بالضّمان. أي: ما يخرجُ مِن مال البائع فهو بإزاء ما سقط عنه مِن ضمان المبيع.
[17] - في نسخة أخرى: «تنبسط».
[18] - كلية ودمنة: كتابٌ يشتمل على عدد وافر من الحكايات الرمزية، ألّفه الفيلسوف الهندي بَيْدبا (Bidpai) – الذي ازدهر حوالي عام 300 للميلاد – ونقله إلى العربيّة، عن ترجمة له فارسية، عبدالله بن المقفّع- في القرن الثامن للميلاد – اسم الكتاب في الأصل السنسكريتي هو «بانكاتانتر» (Panca – tantra)، أي: الفصول الخمسة/ أمّا كليلة ودمنة، اللذان سمى ابن مقفع ترجمته باسميهما فهما علمان على الثعلبين الشقيقين الواررد ذكرهما في باب «الأسد والثور» الذي تيصدّر الكتاب، ويذهب المستشرق الدنماركي آرثر عمانوئل كريستنسن (Arther Emanuel Christensen) (ت 1945 م) إلى أن البيروني قال بأنّ ابن المقفع أضاف باب بَرْزَويه الطبيب على كتاب كليلة ودمنة، وقد ترجم ابن المقفع تاريخ حياة برزويه التي وجدت ككتاب مستقل، ثم أدخلها في ترجمته لكلية ودمنة.
(انظر: موسوعة المورد، منير البعلبكي، ج6، ص31، دار العلم للملايين، بيروت، 1981م. وكذلك انظر: ابن المقفع الكاتب والمترجم والمصلح، الدكتور عُلبي، ص94، دار الفارابي، بيروت، 2002).