البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

هايدغر والطاوية

الباحث :  ديفيد تشاي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  5
السنة :  السنة الثانية - خريف 2016 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 1 / 2016
عدد زيارات البحث :  1405
تحميل  ( 345.232 KB )
في هذا البحث الذي يقدمه أستاذ الفلسفة في جامعة تورنتو الكندية، مقاربة لواحدة من أهم منازل التفكير عند مارتن هايدغر، عنينا بها فكرة الجلاء والظهور. فقد عقد الباحث بينها وبين عقيدة جلاء الفطرة في الديانة الطاوية مقارنة سوف يتبيّن لنا معها أن "فيلسوف الدازاين" كان يرنو إلى حكمة الشرق لتعينه على استكناه سر الكينونة والتمييز بين مفهوم العدم وجلاء الحقائق الوجودية.

نشير إلى أن الكاتب استند بشكل أساسي إلى كتاب هايدغر "إسهامات في الفلسفة" من أجل تظهير عناصر اللقاء والاختلاف بين ما قدّمه الفيلسوف الألماني في هذا المجال، وما ينطوي عليه مفهوم الجلاء في الديانة الطاوية في الشرق الآسيوي.

المحرر

-----------------------

حين يتحدث الواحد منا عن هايدغر فمن النادر له أن يذكر الفلسفة الشرقية في الجملة نفسها. وعلى الرغم من أن تأثر فيلسوفنا بالفلسفة الشرق آسيوية قد يجد توثيقاً دقيقاً[1]، إلا أن النظر إلى هذه العلاقة من زاوية الفلسفة المقارنة لا يزال يتطلب الكثير من البحث. من المفاهيم التي تحمل أهمية خاصة والتي شهد معناها تطوراً مستمراً عبر مسار حياة هايدغر كفيلسوف، مفهوم الجلاء (Lichtung). فإذا أخذنا هذا المفهوم على أنه يعني الموقع الذي تنكشف فيه حقيقة الوجود، فإن نظرية هايدغر القائلة بأن طبيعة الجلاء السحيقة في عمقها الذي لا يسبر غوره، قد تأثرت دون ريب بالفلسفة الشرقية، وخاصة الفلسفة الطاوية. سوف نرجع إلى كتاب لاوتسي (حوالي القرن السادس قبل الميلاد) المسمى: تاو تي تشنغ وكتاب تشوانغتسي (375-300 قبل الميلاد) الذي يحمل اسمه لنبني حجة مفادها: أن هايدغر عجز في الواقع عن فهم المضامين الكونية لمعنى العدم في الجلاء.

فإذا حملنا مفهوم العدم على الجلاء، فلن تعود علاقتهما علاقة اعتماد متبادل، بل ستخضع إلى حقيقة جوهر الوجود، فلو اعتبر هايدغر أن معنى الجلاء هو معانقة العدم لذاته كما تفعل الطاوية، لربما تمكن من رأب الصدع المفرِّق بين العدم والوجود، وهذه البداية الجديدة التي تمنى الوصول إليها كانت ستمنحه القدرة على أن يقارب مفهوم الوجود من خلالها.

من خلال التركيز على عمل هايدغر «إسهامات في الفلسفة»، سيسعى هذا المقال إلى تبيان مفهوم هايدغر للجلاء وكيف يختلف هذا المفهوم عن نظيره الطاوي، ثم ليسلِّط الضوء على العلاقة بين الوجود والعدم ويركز على أهمية دعوة هايدغر إلى القيام «بقفزة إلى هاوية الجلاء» إذا ما كان لنا أن نصل إلى معرفة حقيقة الوجود، خاصة وأن هذه النقطة الأخيرة تفسح المجال أمام مقارنات غنية بالمضامين مع الفلسفة الطاوية التي ترى أن العدم هو مصدر الوجود وكذلك في الوقت ذاته هو الأساس الذي تقوم عليه حرية الوجود.

مفهوم الجلاء

لنبدأ بإلقاء نظرة على الكلمة الألمانية للجلاء، Lichtung، فهي مشتقة من الفعل: lichten الذي يمكن له أن يترجم كتسوية الأرض، أما كاسم فهي تعني الإنارة والانفتاح من غير حجب وموانع. يستخدم هايدغر الكلمة بمعنى فتحة في الغابة خاوية من الموانع، مما يتيح لها المجال كي تلعب دور فضاء موجود باستقلال عن التأثير المتبادل بين وجودها في وجهيه: المستتر والظاهر[2]. أما بالنسبة إلى الإنارة، فمع أن هايدغر كان قد ربط بين الوجود والنور في أعماله المبكرة وخاصة عمله الأشهر: «الوجود والزمن»[3]، فيبدو أنّه قد عاد ليرفض هذا التشبيه في بعض أعماله التي كتبها بعد الحرب العالمية الثانية مثل الفقرة التالية في محاضرته حول هيراقليطس:

هل للجلاء والنور أي علاقة مع بعضهما بعضاً؟ من الجلي أن الأمر ليس كذلك! «الجلاء» يتضمن المعاني التالية: الإيضاح، إرساء الأسس، الكشف والبيان؛ لكن هذا لا يعني أنه حيث «يجلِّي الجلاء» سيوجد لدينا بالضرورة الإشراق والسطوع، فما ينجلي هو الحر والمنفتح. وفي الوقت ذاته، ما ينجلي هو بعينه ما يستر نفسه ويخفيها[4].

بحسبما ذكرته الأستاذة «لين ما»، والتي درست الرابطة بين فكر هايدغر والفلسفة الشرق آسيوية بتفصيل دقيق، فقد استخدم هايدغر خمسة فصول من مجموع 81 فصلاً تؤلف كتاب «تاو تي تشنغ» خلال مسار حياته كفيلسوف[5]. من بين هذه الفصول، يبرز الفصل الخامس عشر كالفصل الأكثر أهمية لنقاشنا هذا، فحين يتكلم لاوتسي في هذا الفصل عن حكماء العصور القديمة أصحاب المعرفة المقربة بالطاو (أو المطلق)[6]، يعود ليتساءَل: «من يقدر على تسكين الماء الموحل، ليعيده ببطء إلى الصفاء، ومن يقدر أن يحرك المياه الساكنة، ليعيدها ببطء إلى الحياة؟[7]» وقد عاد هايدغر ليراجع هذه الجملة وإعادة كتابتها بالشكل التالي: «الجلاء يجلب أخيراً شيئاً ما تحت النور، والحركة الخفية في الساكن والصافي يمكن لها أن تجلب شيئاً إلى الوجود»[8].

ولكن إذا ما قارنا بين الفقرتين نجد هايدغر وكأنه يتعمَّد تحويل التركيز عن صفات العدم الكوزمولوجية (الكونية) ـ أي الظلام والسكون ـ  ليركز على صفات الوجود –أي الوضوح والهيجان- فإذا كان الجلاء يسلط النور على خفاء الأشياء الباطني فمن أين ينبع الظهور الخفي هذا؟

يقدم لنا «التشوانغتسي»، كتاب الطاوية الكلاسيكي الثاني بعد «تاو تي تشينغ» دليلاً على الإجابة حين يقول: «اُنظر إلى الغرفة المغلقة، البيت الفارغ حيث يولد السطوع؛ فالغنى والبركة يجتمعان حيث يوجد السكون»[9]؛ حيث نرى ثلاثة عناصر تلعب دورها هناك: الفراغ والإنارة والسكون. إذا ما قاربنا هذه العناصر الثلاثة من زاوية مختلفة، فإن السكون يؤدي إلى الصفاء والجلاء، ووضع الصفاء حيز الاستخدام يؤدي إلى الخلق، وفي الطاوية يجمع «الطاو« نفسه حيث يوجد سكون فارغ متجرد ويظل على تمحضه من غير أن تشوبه شائبة نتيجة جمعه الذاتي هذا. كذلك فإن سطوع إشراق «الطاو« لا ينبع من كونه متجلياً بذاته بل نتيجة قدرته على إنارة العالم من خلال العدم واللاَّشيئية؛ فإذا ما عدنا إلى كتاب «التاو تي تشنغ» نجد أن الشيء «الموحل العكر» مغترب عن "الطاو"، أما ما يتحد مع الطاو فهو الساكن والفارغ والمتجرد، ولذا فإن السكون الفارغ هو أعلى مرتبة من مراتب الوجود التي يمكن للأشياء أن تحصلها، إذ إنها ومن خلال عكسها للعدم الكامن في الطاو والذي يصبغه بصبغته تضفي على حضورها في الكينونة والوجود هالة ظلامية تجعلها قادرة على الاشتراك في مصفوفة قدرات الطاو الخلاقة.

بالنسبة إلى لاوتسي وتشوانغتسي، فإن قيام الإنسان بإزالة ارتباطه بمقاييس الصواب والخطإ و«هذا وذاك» وهلم جرا يعني أن يطهر نفسه من تللك الأشياء التي تمنع تناغمه مع الطاو، فإن هذه الوحدة المتناغمة مع الطاو هي ما تتيح المجال أمام الرجل الحكيم ـ الذي تعرفه الطاوية على أنه ذاك الذي يحاذي طريق الطاو ويتحقق به ـ كي يجتمع مع كثرة الأشياء في العالم في حالة من الوجود اللامتعين الذي لا فرق ولا تحديد فيه، حيث يسير بين الأشياء متحرراً من الهم عليها والاهتمام بها:

البساطة المحضة

الرجل صاحب الإشراق والطهارة الحقيقيين قادر على الدخول في البساطة المحضة والعودة إلى الكيان الأولي من خلال اللاعمل، مُحيلاً الجسد إلى طبيعته الفطرية، معانقاً روحه، وبهذه الطريقة يسير عبر عالمه اليومي[10] .

وهكذا حين يقول هايدغر بأن ما ينجلي حر ومنفتح، وأن ما ينجلي هو بعينه ما يستر نفسه، يمكننا في هذه العبارات أن نجد صدى مفاهيم طاوية مثل الحرية والتناغم الأنطولوجي؛ إلا أن توجه هايدغر إلى ربط الجلاء مع حالة انكشاف، أو بالأحرى «زوال خفاء» ما هو حاضر بالفعل (ما يسمى بالكلمة اليونانية: Alêtheia) يدل على مدى تأثره بالتراث الفلسفي اليوناني رغم اهتمامه بالفلسفة الشرقية. في محاضرة ألقاها هايدغر تحت عنون «حول الزمان والوجود» نجده يصرح بالتالي: «لا يمكن للشيء الذي يشرق أن يظهر نفسه، أو أن يشع، إلا من خلال النور، من خلال السطوع. لكن السطوع بدوره يعتمد على شيء منفتح، شيء حر يمكنه أن يجعله يشرق هنا وهناك، الآن ووقتئذ»[11].

إن تمثيل هذا الانفتاح بأنه فسحة في غابة لهو صورة بصرية في غاية القوة بكل تأكيد، وقد جعلت الكثير من الباحثين يتشبثون بها. فلأن الغابة مكان مظلم كثيف فإنها تسدل الغموض والظلام على حضور جميع الأشياء فيها، ولكن وبمقابل هذا المكان المظلم، فإن تناول الفسحة كتمثيل مجازي لأمر في غاية المنطقية، ذلك لأن هذا الجلاء الذي تمنحه هذه الفسحة هو ما يقابل الموجودات عند رؤية انفتاحها الأنطولوجي ـ الفينومينولوجي. ولقد عبر هايدغر عن هذه الفكرة بالشكل التالي:

تتم تجربة فسحة الغابة بمقابل الغابة الكثيقة التي كان يطلق عليها اسم «الكثافة» (Dickung) في الاستخدامات اللغوية القديمة. ترجع هذه «الفسحة» الجوهرية إلى فعل: «فسح أو فتح»، وكذلك فإن الصفة: « licht» يجعل من الشيء خفيفاً وحراً ومنفتحاً، مثال: هو يجعل الغابة خالية عن الأشجار في مكان واحد. هذا الانفتاح إذن ينبع من الفسحة... لكن هذه الفسحة، أو هذا الجلاء، غير مقيد لا بالسطوع ولا بالظلام، وكذلك فهو غير محدد بالرنين والصدى، أي الصوت وتضاؤل الصوت. الجلاء هو الأمر المفتوح على كل شيء حاضر وغائب[12].

من الصحيح إذن أن الجلاء يفتح نفسه أمام الإشراق والظلام، وكذلك أمام الصوت والصمت، لكنه ليس هو ما يقوم بالجلاء أو الفسح أو التحرير. فقط «الطاو« عبر قدرته التوليدية لديه الطاقة على إنتاج هذه الصفات، وفقط العدم المرتبط به يمكن له أن يسهل تحقيقها. سبب هذا هو أن العدم، كما يفهمه فلاسفة الطاوية، ليس مجرد نفي الحضور أو الافتقاد إلى الحضور، بل هو الجوهر الكوزمولوجي الذي يتألف منه الواقع، الحيز الكامل الذي يوجد الطاو من خلاله وتتم تجربته فيه. وهكذا فإن جلاء هايدغر ليس أكثر من السطوع الذي يعبئ فراغه، أما الطاو، فلأنه ليس لديه أي طبيعة «شيئية»، فإن طاقته الخلاقة تتفجر من خلال العدم بطريقة لا تشبه النهلستية (العدمية) في شيء، ولهذا فلطالما أشرت إلى الفلسفة الطاوية بأنها ميونطولوجية[13][14]. يصف التاو تي تشينغ أهمية العدم بهذه الطريقة:

حين يسمو لا يوجد سطوع نور، وحين يتهاوى لا توجد ظلمة. فهو دائماً كذلك: لا اسم له، دائما يرجع إلى ذاك الذي هو لا-شيء. يسمى هذا: صورة ما لا صورة له، صورة ما هو ليس بشيء[15].

إذا ما أخذنا صفات العدم المذكورة أعلاه وطبقناها على الجلاء، فإن الجلاء يلعب دورين مترابطين ولكن متميزين:  على مستوى الموجودات، حيث يقوم بتجويفها ليتيح المجال أمام دفق الحياة الخلاق ليحصل فيها؛ وعلى مستوى الوجود فإنه يجلو الوجود نفسه بحيث يشرق تجذره في العدم. بكلمات أخرى: يستمر الجلاء دون مانع من الوجود أو حد منه، ولكن انكشافه لا ينبع من حالة سابقة من إخفائه لذاته بل من خلال كونه متحداً مع الطاو.

يتضح الفرق بين هذا التوصيف الطاوي للجلاء وبين مفهوم هايدغر إذا قرأنا ما كتبه الأخير: «يتيح الجلاء أولاً وقبل شيء إمكانية وجود طريق إلى الحضور، وتسمح بإمكانية تقديم هذا الحضور نفسه... إن الانكشاف هو الجلاء التي يسمح بالوجود والفكر ويجعل كلاً منهما حاضراً للآخر ولأجله»[16]. وقد فهم مارك راثول فكرة هايدغر حول «جعل الذات حاضرة أنطولوجياً» بأنها تشير إلى أوجه مختلفة من الوجود تمنعها طبيعتها التي يحكمها السياق من البروز آنياً في الوقت ذاته[17].

حقيقة الكشف

إلا أن هذا التفسير يؤدي إلى إشكالية حول الكيفية التي تجعل أوجه معينة من الوجود نفسها معروفة للعالم في الوقت الذي تقوم بها بفعل ذلك. وكانت استجابة راثول: أن «الجلاء» ليس إظهاراً لإمكانيات الوجود، ولا هو حجب بعض الإمكانيات وكشف أخرى، بل إن لديه مهمة التأكيد والبيان على أنه لا تتوفر أي إمكانيات حتمية أخرى» بحيث «يحجب الجلاء إمكانية أفهام  أخرى للوجود»[18]. وصل راثول إلى هذه النتيجة من خلال الإشارة إلى أن هايدغر نفسه قال بأن الجلاء «ليس مجرد انفتاح الحضور، بل انفتاح الحضور الساتر لنفسه بنفسه، انفتاح اللجوء الساتر لنفسه بنفسه»[19]. لكن المشكلة هي أن هايدغر نفسه قال بأن هذا اللجوء الساتر لنفسه بنفسه ليس إلا ميزة مشكوك فيها «أوَليس هذا التوجه الروحاني الذي لا أساس له أو الميثولوجيا السيئة على جميع الأحوال لاعقلانيةً مدمرة، أو نفياً للعقل؟»[20] وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه النقلة تعني تحولاً واضحاً عن الحجج السابقة التي ساقها هايدغر في «أسئلة حول التكنولوجيا» حيث قال:

تحكم الحرية الحيز الحر، بمعنى المنجلي، أي المكشوف... لكن الشيء الذي يحرر ـــ أي السر- هو دائماً مخفي، ويخفي نفسه... الحرية هي ما يحجب بطريق تسليط النور الذي يشرق من خلال جلائها للحجاب الذي يغطي الحدوث الجوهري لجميع الحقائق ويجعل الحجاب يظهر على أنه ما يحجب[21].

لكن حين يتحدث هايدغر عن الكشف على أنه خروج ما هو حر والعودة إليه وكشفه إلى العلن فإنه يهمل أهمية الجلاء الكوزمولوجية، وقد حبس نفسه في لعبة متشعبة تنشأ من الفرضية المسبقة الحتمية بوجود فرق بين ما هو حر وما ليس بحر؛ بالإضافة إلى الفرضية بأن الحرية تتعلق فقط بظروف عيش الإنسان وليس بجميع الأشياء، وأن العدم الذي يحجب الوجود بحيث يعطيه هالة من الغموض والسرية ليس هو ما يقوم بالحجب نفسه. جميع هذه الفرضيات إشكالية من وجهة نظر الفلسفة الطاوية لأنها تقول بأن الوجود قد ولد من العدم، ولكن ليس العدم هو ما يتولى أمر الوجود، بل هذا متروك للطاو. وهكذا، إذا كان لنا أن نتحدث عن الجلاء من حيث إنه يعكس طبيعة الطاو الميونطولوجية متجنبين أي إشارة إلى «الإيجاد من العدم» فلا يمكننا أن نصف قدرته على كشف أصل الحقيقة من حيث الحر وغير الحر، فإن هذا سيعني أن الحرية تتصرف بشكل منفصل عن كل من العدم والطاو.

إذا ما عدنا إلى نقاش التاو تي تشينغ، فالماء الموحل حينما يكون ساكناً وهادئاً فإنه وبطبيعة الحال سيصبح صافياً، لكن صفاءه هذا ليس نتيجة حقيقة وجوده الأنطولوجية، بل يأتي من فتحه لذاته للعدم؛ وطبيعة المياه العكرة من حيث هي ماء لا تتأثر بتخليها عن تعكرها، بل يمكن لها أن تحقق التوازن الداخلي من خلال تحررها من الحاجة إلى تحقيق صفائها الخارجي الذي يتحقق حين تتقبل حقيقة أن طبيعتها التي أضفاها عليها «الطاو« هي أن تكون معكرة بالوحل وصافية في الوقت ذاته. يرمز الطاويون إلى حالات الوجود السيالة هذه بصور كثيرة لعل أشهرها هو محور الدولاب وطرفه المجوف[22]، فكما هو الحال في محور الدولاب وطرفه المجوف فإن الماء الساكن النقي يبدو وكأنه فارغ لا حياة فيه، ولكن إذا حركته فسوف تلتف الحياة فيه كما يحرك المحور الدائر عصي الدولاب. تنعكس دورة السكون والحركة هذه على المستوى الأنطولوجي ـ الكوزمولوجي من خلال الجلاء الذي يلعب دور البوابة التي يتمازج فيها العدم والوجود بحيث يكونان واحداً، وقد عبر لاوتسي عن هذا في كلماته التالية:

بينما تزدهر الأشياء الكثيرة، يعود كل واحد منها إلى أصله. تعرف العودة إلى الجذور بـ«السكون»، ويعرف كون المرء ساكناً بأنه العودة إلى مصيره وقدره[23].

إذن، يمكننا القول بأن الماء الصافي قد أمسك بحقيقة وجوده الجوهرية، أما الماء العكر فقد فقدها في فوضى عجاج حركته. يمكننا أن نزيد هذه النقطة بياناً بقولنا إن الحركة تخفي جذور الأشياء وأصولها، أما الهدوء الساكن فيظهر إشراق هذه الأصول؛ الشيء الساكن يفتح أشياء أخرى على مصفوفة العدم الخلاقة، أما الشيء العكر فيستر هذا اللقاء ويحجبه.

هنا وفي هذه النقطة يكمن الفرق الرئيسي بين التعريف الطاوي والتعريف الهايدغري للجلاء، فالتعريف الأول يقوم على فكرة أن العدم يكشف أصل الأشياء الحقيقي في الطاو، أما بالنسبة إلى التعريف الأخير فإن الجلاء مربوط بشكل لا يقبل الانفصام مع الوجود. لكن إذا ما شئنا أن نأخذ نقاشنا هذا إلى مستوى أعمق فإن علينا أن نسأل أنفسنا: كيف يتوجه الجلاء إلى رعاية حقيقة الأشياء الأنطولوجية ـ الفينومينولوجية؟ وحتى نتمكن من الإجابة عن ذلك السؤال علينا أن نستكشف كيف يتمكن الجلاء من تسهيل انكشاف الأشياء.

فإذا ما كانت معانقة الطاو للعدم، كما ناقشنا حتى الآن، تجعله قادراً على تأطير الجلاء كخلفية للحرية الكوزمولوجية من خلال إعادة ترتيب أولوية ثنائية العدم ـ الوجود، فعلينا أن نعالج الآن كيفية كشفه لحقيقة الأشياء إنّ أوضح حل يبرز للعقل هو أن الجلاء، ومن خلال فعل كشفي، يسلط الضوء على الحقيقة كي نفهم أبعادها، ولكن إشكالية اتباع مقاربة كهذه هي أن تسليط النور على شيء مبهم بطبيعته لن يفعل الكثير لإيضاحه، وفي مثال آخر من التفكير المتأثر بالطاوية يقدم لنا هايدغر الفقرة التالية:

«لا يظل النور جلاءً مشرقاً حين ينتشر ليتحول إلى مجرد سطوع «أكثر سطوعاً من ألف شمس. يظل من الصعب علينا حماية وضوح التفكير، أو بكلمات أخرى: أن ننأى من مزيج السطوع الذي لا ينتمي، لنجد السطوع الذي يناسب وهو الظلام وحده. يقول لاوتسي: «من عرف سطوعه قد ألبس نفسه ظلمته»، ونضيف إلى هذه المقولة حقيقة يعلمها الجميع ولكن لا يتحقق بها إلا القليلون: على تفكير الأشخاص الحادثين الذين يحفهم الفناء أن يدعوا أنفسهم يهوون إلى أعماق البئر المظلمة كي يروا النجوم في النهار. سيظل من الأصعب علينا المحافظة على صفاء الظلمة من الحصول على سطوع يرغب بالإشراق بهذه الطريقة، لأن ما يريد فقط أن يشرق لا يمكن له أن يضيء الأشياء الأخرى»[24].

ما يعنيه هايدغر بفقرته المعقدة هذه هو أن النور القاهر المهيمن لا يكشف الأشياء، بل يمحوها ويفنيها تحت شدة سطوع إشراقه القاهر؛ يقول هايدغر إن نوراً كهذا هو نور محض، ولهذا فلا يمكن له أن يؤدي مهمة الكشف عن الأشياء، ولكن بالمقابل فإن الجلاء بالمعنى الذي يريده هايدغر يحتاج بدوره إلى شيء أعلى من مجرد نور الفهم العادي، بل يجب على ذلك الشيء أن يستجيب إلى نور الإمكانية الممزوج بالظلمة.

محدودية هايدغر.. لا محدودية الطاو

إذا تناولنا رجوع هايدغر إلى الفصل الثامن والعشرين من التاو تي تشنغ بعين النقد، فيمكننا أن نتهمه بانتقائية الاختيار من النص بما يلائم احتياجاته لا بما يعنيه النص نفسه، وكذلك فهو يقوم بفعل ذلك دون أخذ سياق النص الأصلي بعين الحسبان. إذا ما قرأنا السطر الذي اقتبسه وأكملناه مع الذي يليه لوجدنا التالي: «إذا عرف الإنسان البياض ولكنه حَرَس في الآن عينه السواد، فعندها يمكنه أن يكون أنموذجاً للعالم. وكأنموذج للعالم فإن فضيلته الثابتة لا يمكن أن تخطئ ويمكنه أن يعود إلى اللامحدود»[25]. فلماذا إذن نجد هايدغر قد ضرب صفحاً عن عبارة في غاية الأهمية في النص، وهي: «يعود إلى اللامحدود»؟ يبدو لي أن حاجة هايدغر إلى بناء بداية ثانية جديدة للتفكير في الوجود لا يمكن لها أن تبدأ من فكرة النفي، أو العدم، التي علينا أن نتذكر هنا أنها تعني اللاّ تعيُّن أو اللاتعريف المتضمنة في كلمة «اللامحدود». العدم بهذا المعنى مطلق ولا يمكن لأي شيء أن يتولد منه، ولكن هايدغر بدلاً من ذلك يرى أن العدم «ملاذ» لنور الوجود التاريخي، وبهذا يجعل الوجود متعالياً.

فإذن الكلمة المعبر عنها بالمصطلح الإغريقي Alêtheia والتي أشرنا إليها سابقاً ومن حيث هي «زوال خفاء» تعني إنارة ضمن ظلام أعظم، وهكذا فإن الجلاء هو ظلام يكشف من خلاله الوجود إشراقه الظاهري؛ ولنا أن نعبر عن هذا بطريقة أخرى فنقول إن النور يخترق الظلام، ومن خلال فعله لذلك يزيل الخفاء عن جوهر الظلام الباطني. عند هايدغر يعتمد كل من النور والظلمة على بعضهما بعضاً ولكن ليس بالطريقة التي تتصورها الفلسفة الطاوية، فسطوع الجلاء بالنسبة إلى هايدغر هو «زوال خفاء ما هو حاضر بالفعل (Alêtheia)» إذا ما تجرد هذا الحضور من ظلمته الخاصة به، فهو الحرية الحاصلة من فعل ترك الأشياء تكون. وترك الأشياء تكون في انعدام خفاء الجلاء يهدف إلى تحرير الوجود من النزوع التاريخي الذي يبهم الوجود ويعزله عن نفسه[26].

 قد يبدو اعتماد هايدغر للتمثيل الذي استخدمه لاوتسي وكأن ذلك الأول قد تخلى عن التصور الغربي للعدم على أنه سلبية محضة من ناحية، وكأنه قد تبنى الموقف الميونطولوجي الذي تعتمده الطاوية من ناحية أخرى، ولكننا إذا درسنا مقولات هايدغر بدقة أكبر سنجد فروقات كبيرة بين النظرتين:

أهم هذه الفروقات هو أن هايدغر يعطي الأولوية للوجود على العدم؛ فبينما يقول هايدغر إن الجلاء يدل على انكشاف الوجود، فإن الفلسفة الطاوية تقول إن الجلاء لا يمكن إلا أن يدل على انكشاف الجلاء نفسه ولا شيء آخر، فالأشياء تحجب الـ«لا أشياء» كما تجتذب أغصان الشجرة انتباهنا بعيداً عن جذورها تحت أقدامنا. الجلاء عند الطاوية هو البوابة الغامضة إلى العدم الذي يحيط بكل شيء ويصبغه بصبغته. لهذا يقول الطاويون إنه من الأفضل لنا أن نلاحق جذور الأشياء جميعاً إلى مصدرها الأصلي بدلاً من أن نحاول أن نصل إلى معرفة كل شيء في ذاته سواء أكان ذلك الجلاء أم الوجود. لهذا نجد النص التالي في التاوتي تشنغ:

إذا ما أراد الواحد منا أن يحدد أصل الأشياء ـ رغم قربها! ـ  فعليه ومن مسافة أن يقدم دليلاً على بدايتها! وإذا إراد الواحد منا أن يسلط الضوء على سبب الأشياء ـ رغم بداهته! ـ فعليه أن يبدأ من خفائها حتى يناقش أصلها[27].

ونرى نصاً مشابها في التشوانغتسي أيضاً:

مع السكون ثمة الإشراق، ومع الإشراق ثمة الفراغ! حين يكون الإنسان فارغاً فهو يمتنع عن القيام بأي فعل لكنه لا يترك أي شيء دون أن يفعله![28].

فما يتسبب بالإشراق ساكن، والسكون يجسد الفراغ؛ والصامت والفارغ هو لذلك مظلم، ولذا فما هو مظلم الباطن هو ما يفتح الطريق إلى الطاو. حين كتب هايدغر أنه «فقط في كينونة تنجلي وجودياً بهذا الشكل يمكن للأشياء الحاضرة موضوعياً أن تصبح في متناول الإدراك في النور أو أن تستتر عنه في الظلام»[29]، ألم يكن يعني أن الظلام هو ما يحجب الجلاء عن تحقيق ما في وسعه وإمكانه؟ لو سمع تشوانغتسي هذه العبارة لكان اعتقد أن هذا مراده خاصة وأننا نجد في كتابه النص التالي: «جوهر الطاو الكامل مبهم عميق في إبهامه، مظلم وغامض في ظلمته؛ إن شدة [ظهور] الطاو الكامل خافتة في تشويشها، يحيط بها الصمت والسكون»[30].

فبينما يشعر هايدغر بضرورة وضع الوجود في عدم ليس له هدف إلا الكشف عن حقيقته الوجودية. تقول الطاوية إنه لا يمكن لأي منهما أن يتجاوز الحقيقة الميونطولوجية لإبهام الطاو المظلم كما هو مذكور في التشوانغتسي: «ترجع الأشياء الكثيرة إلى حالتها الحقيقية، وهو ما هو معروف بالظلمة الموحلة»[31].

القفز إلى حقيقة الموجود نفسه

ونظراً لأهمية مفهوم العدم بالنسبة إلى هايدغر في عمله «إسهامات في الفلسفة» وللفلسفة الطاوية على العموم ـ رغم اختلاف الطرائق التي يستخدم بها كل منهما هذا المفهوم ـ علينا أن نبين كيفية استمرار العدم أنطولوجياً. وبالفعل يكتب هايدغر أننا وإذا ما كان لنا أن نتغلب على الإنقسام الأنطولوجي بين الوجود والموجود فإن علينا «أن نقفز إلى حقيقة الوجود نفسه»، بل إننا نحتاج هذا إلى درجة أن علينا «أن نحرر أنفسنا من إساءة تفسيره»[32]. كما سيتضح قريباً، فإن مشروع هايدغر هذا ليس خالياً من المشاكل حيث يستخدم العدم كغطاء مجازي بين الموجود والوجود جاعلاً من هذا الأخير مفهوماً عميقاً سحيقاً لا يحاط به ولا يدخل تحت الفهم. بدلاً من القفز من الموجود إلى الوجود من خلال اختراق العدم الذي يحجب الواحد عن الآخر يمكننا أن نتبع أثر الفلسفة الطاوية عبر القفز من الوجود إلى العدم الذي يشكل لنا الأس والأساس الوجودي الدائم لنا.

حتى نفهم ما تعنيه هذه القفزة فإن علينا أن نشت قليلاً عن الموضوع لننظر في المحاضرات التي ألقاها هايدغر في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي والتي تحدث فيها عن التقسيم الرباعي ـ إلى الأرض والسماء والإلهيات والفانين ـ كجوهر للوجود الحقيقي. فحين تحصل العملية المستترة التي نشكل فيها العالم في مداركنا بشكل صحيح للمرة الأولى، يختفي الوجود ومعه العدم في هذه العملية، ولا يمكن لنا أن نتغلب على النهلستية (العدمية) إلا إذا اختفى كل من العدم وجوهر حقيقة الوجود في العالم[33]. وهكذا فإن عملية تحويل العالم إلى عالم، تبرز من خلال التضايف بين العدم والوجود. فالعدم إذن جزء لا يتجزأ من العالم من خلال عملية تحويله إلى عالم، وقدرة هذه العملية على الحضور كحقيقة الوجود في صورة الجلاء. وكما رأينا فإن الجلاء يعمل كموقع حقيقة الوجود لأنه ومن خلال جلائه نعرف مقدار ما يمده العدم، وهكذا فإن الجلاء من حيث إنه العدم يعكس طبيعة الوجود بمقدار ما يمدد العدم إمكانية صيرورة الوجود حتى يصل الوجود إلى أنية الحضور الإنساني مع الوجود (الدازاين).

يبين لنا هذا لماذا كتب هايدغر بأن الموجود لا يعطي الاسم لكل ما هو حقيقي فحسب، بل لجميع الأشياء الواقعة بينه وبين الوجود ـ بما في ذلك العدم. لكن الوجود يشير إلى أكثر مما هو واقع وممكن من خلال الإشارة إلى ما هو أبعد من وقوع الجوهر الأصلي ـ كما هو الحال في الجلاء السحيق الذي لا يسبر غوره[34]. فإذا ما كان لنا أن نصل إلى وجودٍ متعالٍ، فإن على مثل هذا الوجود ألا يحيط بجميع إمكانيات الموجودات المستقبلية فحسب، بل بنفي أو منع هذه الإمكانيات أيضاً. وهكذا فإن نجاح الوجود يقع على عاتق الجلاء من حيث إنه يزيل أشكال الموجودات التي لا يمكن تحقيقها، وهذا يكشف عن الحقيقة المنعكسة من البداية الجديدة التي اعتقد هايدغر أننا بحاجة إليها إذا ما كان لنا أن نعيد تأطير الإشكاليات الهادية لمسار الميتافيزيقا الغربية.

إن الأمر الذي يواجهه هايدغر حين يعمل على نقل التركيز بعيداً عن سؤال الكينونة الأساسي ليتوجه به إلى سؤال أكثر جوهرية وهو الوجود نفسه لا بد له أن يشمل دور العدم. وأكثر ما يلفت انتباهنا هنا في النص هو أن العدم لم يعد مرتبطاً في ثنائية مع الوجود كـ«الآخر» له، بل في حالة من الـ«إما كذا (التي تعني وجود شيء وعدم آخر) أو كذا (التي تعني عدم الشيء الأول وعدم الآخر)». وكون الأمر أقرب إلى «أو« من كونه «إما» ـ كما يقول هايدغرـ يكون أسهل من خلال عدم اكتراثنا بـ«أو«. إن عدم الاكتراث هذا هو ما يرتقي بوجود «اللاوجود» إلى درجة أعلى من الوجود ـ العدم الأعلى كما يسميه هايدغرـ ولكن فكرة «اللاوجود» كوجود تبدو فارغة بقدر الحجة الإغريقية القديمة القائلة بأن اللاوجود إنما هو بالفعل نوع من أنواع الوجود. ما نحتاج إليه هو وسيلة تمكننا من التوحيد بين اللاوجود والوجود بشكل كلي ومتبادل يخضع كلاً من المفهومين إلى مستوى أعلى من العدم ـ وهو ما اعتبره كل من هايدغر وفلاسفة الطاوية المفتاح الذي سيفتح أغلاق المستوى الأعلى من الحقيقة الميتافيزيقية.

حتى نفهم فكرة هايدغر حول أهمية العدم، دعونا ننظر إلى الفقرة التالية:

تتطلب [العودة إلى] حدوث الوجود الجوهري النظر في انتماء العدم إلى الوجود، وبهذه الطريقة فقط تحصل علاقة الإما ـ الأو على جدَّتها وأصالتها. بما أن الوجود يتغلغل فيه «اللاَّ» فإن المحافظة على حقيقته يتطلب استمرار النفي هذا. وبذلك يتطلب ما لا وجود له، أي المضاد السالب لكل شيء. وهكذا فإن السلب الذاتي في الوجود يقتضي أن يتطلب الموجود ويحتاج إلى ذلك الذي يظهر نفسه في الدازاين كالإما ـ أو، الواحد أو الآخر، وفقط هؤلاء[35].

ويمكننا أن نقارن هذه الفقرة بفكرة مشابهة أطلقها تشوانغتسي:

لا يمكن للوجود أن يستخدم الوجود لخلق الوجود، ولذا فلا بد له أن ينشأ من اللاوجود، ولكن اللاوجود هو نفسه العدم[36].

مع أن هايدغر يقر بالجمعية المتضمنة بين العدم والوجود، إلا أنه يحد حركة الأول بحركة الأخير، أما بالنسبة إلى تشوانغتسي، فالعدم هو الوسيلة الميونطولوجية التي يشخص فيها الطاو نفسه في الأشياء الكثيرة ضمن العالم بينما يحافظ على تعاليه وتنزهه. من خلال كون الطاو مظلم ومبهم فهو يؤلف إبداع العدم الخلاَّق الذاتي والسالب؛ ومن خلال كون الطاو لا علامة له، فهو يشير إلى رابط أنطولوجي خلاق مع الوجود أيضاً.

وهكذا نرى أن هايدغر كان محقاً بشكل جزئي حين يقول بأن الوجود متخلل بالعدم، ويتطلبه حتى يحافظ على حقيقته الوجودية. لكن، ومن زاوية طاوية، فلا تخلو عبارة هايدغر من الإشكال نتيجة رفض هايدغر لأن يرى في العدم أي شيء إلا الإما ـ أو في أو الحضور الإنساني مع الوجود (الدازاين). إن تقلب الوجود في هاوية الجلاء السحيقة يشير بشكل صحيح إلى انقلاب بعيداً عن اللاوجود، لكن هذا التقلُّب الذاتي للوجود، ومن الناحية الأنطولوجية ـ الكوزمولوجية ـ لا يمكن له أن يكون نتيجة الوجود نفسه، بل لا بد وأن يكون العدم ما يوجهها، ولهذا سنجد أن الطاوية تجادل ضد فكرة أن هذه القفزة محجوبة بالعدم بينما هي في الحقيقة ليست إلا العدم نفسه!

بناء على هذا، يمكننا أن نبني المزيد من الفروقات بين دور العدم في فلسفة هايدغر ودوره في الطاوية من خلال ملاحظة أن قيام هايدغر بإعادة مساءلة الميتافيزيقا الغربية لا يهدف إلى تقديم تفسير إيجابي للعدم؛ بل على العكس تماماً، فلا يزال هايدغر يدعونا إلى أخذ تفكيرنا في العدم إلى أبعد من الحجة التقليدية التي تقول إنه يجب أن يستمر باستقلال عن الوجود ـ وهو مصدر إدانتنا للوجود وكراهيتنا له ـ إلى حيث يكون الوجود «مضاءاً بالعدم»[37] مما يتيح له المجال كي يظهر كما هو في جوهره. وبالإضافة إلى ذلك فإن الانتماء الذي يتحدث عنه هايدغر ليس إلى العدم لأن «الوجود، بما أنه الأكثر تميزاً وندرة، إذا ما أخذ ضد العدم فسوف يرجع نفسه من شمولية الموجودات، وكل التاريخ ـ حيث يصل الوجود إلى جوهره الحقيقي ـ سيخدم فقط تراجع الوجود إلى حقيقته الكاملة»[38]. إن تراجع الوجود من عالم الموجودات مشابه لحالة العدم الوسطية، وفي هذه الوسطية تظهر حقيقة الوجود بما هو الحدث الأهم.

تراجع الوجود وظهور حقيقته

إن الحدث الذي يمثل جلاء الوجود هو حدث فريد لم يشهده أحد، إلا الإله ـ بحسب هايدغر، لكن هذا يمثل تناقضاً صارخاً مع العزلة المنسوبة إلى الطاو التي أشار إليها لاوتسي:

يوجد شيء لامتعيَّن وكلِّي وُجِدَ قبل السماء والأرض؛ صامت وفارغ ومنفرد وغير متغير، هو موجود في كل مكان لكنه يظل حراً من الأخطار، وذلك يمكنه أن يعتبر أم السماء والأرض. لا أعلم ما اسمه ولذلك أطلق عليه اسم: الطاو[39].

بالنسبة إلى لاوتسي، ذاك الذي يقدر على فتق رتق كتلة الموجودات التي تبدو وكأنها غير قابلة للخرق ليس الوجود، بل العدم. بما أن الطاو يعكس سكون العدم الفارغ الفرداني فإنه يسكن في سر لا ـ وجوده الخاص، مشكلاً الأرضية الأساس التي ينبثق منها وفيها الوجود. وبما أنه وجودي فياض في توجهه فإن حريته تظل غير متأثرة سرمداً. هنا نجد سبب اتصال الطاو بالعدم، إذ إن العدم فقط هو ما يمكنه لعب دور الأرضية الأصيلة للوجود، ومن هذا الوجه يظل منزهاً عن الأصل ومتفرداً بالذات.

يعبر هايدغر عن مشاعر مشابهة حين يقول: «تشكل فردانية الوجود أصل أحديته، وبحسب هذا لا يلقي الوجود حول ذاته إلا بالعدم الذي تظل مجاورته أصيلة إلى أقصى درجة والذي يظل أكثر الحرس أمانة في حماية هذه الأحدية»[40]. بعد أن ذكر هايدغر ذلك عاد بعد قسمين من كتابه ليقول:

يذكرنا الوجود بـ«اللاَّ شيء»، ولذلك فالعدم ينتمي إلى الوجود. نحن نعلم القليل القليل حول هذا الانتماء، ولكننا نعلم إحدى نتائجه التي تبدو في مظهرها سطحية بالقدر الذي تدعي فيه أنها سطحية: نحن نخشى «العدم» ونمقته، ونعتقد أن علينا دائماً أن نكرس أنفسنا بكامل الحماسة لإدانته بما أن العدم بحق ليس إلا اللاَّشيئية المحضة[41].

فما الذي يعنيه هايدغر إذن بالعدم كاللاوجود إذا ما تذكرنا بأنه يقول أيضاً إن العدم يذكرنا بالوجود؟ يبدو لي أن هذا سؤال في غاية الأهمية تعتمد كيفية إجابتنا عنه  على مدى تقبلنا لأخذ العدم كعامل مساو للوجود في إسهامه في تنظيرنا الميتافيزيقي وكيف تسري هذه المساهمة. بعبارة أخرى: هل ثنائية العدم ـ الوجود ذات اتجاه واحد أم هل هي مزدوجة الاتجاه؟ وهل يؤثر هذا بدوره على الطريقة التي نفسر فيها القفزة؟

مع أننا قدمنا بعض الإرشادات بالنسبة إلى الإجابة، إلا أنها في الواقع تبدو أكثر تعقيداً مما قد يفترضه المرء! فأولاً، يقول لاوتسي إن «الرجوع هو حركة الطاو، والضعف هو عمليته. تولدت الأشياء الكثيرة من الوجود، لكن الوجود ينشأ من العدم»[42]. هذا يعني أن الطاو كإمكانية الكون الخلاقة، هو في الوقت ذاته الوجود واللاوجود، وتتآلف الموجودات من خلال إحاطته في وحدة واحدة، لكن الطاو لا يحتفظ بأي جزء منها لنفسه وبالتالي يظل غير متأثر بتمازج الموجودات وانقسامها. فالعودة إلى الطاو إذن إنما هي استيعاب فائدة اللاوجود، وحين يتم الاستيعاب بهذا المعنى يمكن للواحد أن يمتزج من وحدة الأشياء اللاَّمتعينة ـ أو إن شئت قلت: من ضعفها.

لكن هايدغر يرى بأن الميتافيزيقا الغربية لطالما أخطأت في تفسير العدم، معتبرة إياه ضد الوجود الأدنى منه «حاطِّين إياه إلى مجرد نفي تعين الموجودات ووساطتها كما فعل هيغل وجميع الميتافيزيقيين من قبله... [ولذلك فما نحتاج إليه هو] تجربة العدم كمتوجه إلى حقيقة الوجود، وعلى أساس هذا التوجه الوصول إلى معرفة ثابتة بحصول الوجود الجوهري»[43].  إن السبب الذي جعل هيغل ومن سبقه يرون بأن العدم محدود بدور التوسط هو توجههم إلى التفكير بطريقة تشعبية ثنائية تقوم على ما هو كائن وما ليس بكائن، ما هو صحيح وما ليس بصحيح، وهكذا دواليك. ينظر هايدغر إلى هذه المسلكيات حين يحتج بأن علينا أن نتقبل «إمكانية أن يكون النفي من جوهر حتى أعمق من كلمة «نعم»، خصوصاً وأن الـ«نعم» تؤخذ بسرعة بمعنى أي نوع من القبول، وبالسطحية ذاتها الذي تؤخذ بها الـ«لا»[44].

هكذا يمكننا أن نفسر «النعم» و«اللا» على أنهما ينتميان إلى الموجود لأنه من طبيعة الوجود أن يولدهما. لكن هايدغر يعود ليكمل ويقول بأنه وبالرغم من هذه الحقيقة فإنّ "النعم" الجوهرية "واللا" الجوهرية يأخذان كلاهما الدازاين على أنه منزلهما، والدازاين بدورها يسكن في الوجود؛ فإن تشوانغتسي كان سيجد إشكالية في التفوق الذي يضفيه هايدغر على الوجود؛ وهذه إحدى نصوصه تقدم رواية شخصية نابضة بالحياة عن زوجته حول سبب ذلك:

"كان هناك وقت قبل أن تولد. بما أنه كان هناك وقت قبل أن تولد فقد كان هناك وقت قبل أن يكون لديها جسد. وبما أنه كان هناك وقت قبل أن يكون لديها جسد فقد كان هناك وقت قبل أن تكون لديها التشي [نَفَس الحياة / الطاقة الحياتية]. في وسط عدم التمايز الهائل هذا، حدث تغيير وكان هناك التشي، ثم تغيرت التشي وكان هناك جسد، ثم تغير الجسد إلى الحياة، والآن حدث تغيير آخر وهي الآن ميتة[45].

تظهر لنا رواية تشوانغتسي كيف يمكن للعدم أن يسبق الوجود زمانياً ووجودياً من خلال تتبع عودة زوجته إلى الطاو باستخدام لغة كوزموجونية (تتعلق بنشأة الكون). بينما تستهدف القفزة التي نجريها إلى حقيقة الوجود كيفية تفكيرنا في الدازاين وتأطيرنا له، إلا أنّه وبالرغم من ذلك هو إطار يعجز طريقه عن التمدد متجاوزاً نفسه. إن القفز إلى «الليس» يعرِّف الما هو كائن بالوجود، وبذلك تظل إحدى أعلى أهدافه مجرد المصلحة الذاتية. ما نحتاج إليه هو وسيلة نوحد فيها بين السلب والإيجاب في «الإما ـ أو« بحيث يصبح الكل واحداً إذ إن فعل ذلك سيمكننا من الالتفاف على حضور «الدازاين» الدائم لنستبدل به أعجوبة الطاو الميونطولوجية. إن القفزة إذن هي العودة إلى مركز كينونة الإنسان، وهو مركز يتسامى عن الزمنية والقياس، والذي تضرب جذور ثباته في سرمدية العدم.

كما ذكرنا لتونا، يتصور هايدغر القفزة على أنها فعل عقلي يحملنا بعيداً عن أنفسنا إلى أنية «الدازاين»، وأن هذا يتيح لنا المجال كي نترك وراءنا البداية الأولى التي انطلقت منها الميتافيزيقا الغربية في تفكيرها في الوجود لنسعى إلى بداية جديدة يرتبط فيها الوجود بالعدم بهدف السمو فوق معرفتنا التاريخية الموجودة مسبقاً حول الإنسان[46]؛ وليوضح هايدغر ما يعنيه بهذه القفزة كتب أن «القفزة هي القفز إلى الاستعداد للانتماء إلى الحدث... إن تدخل الوجود المعطى إلى الكائنات البشرية التاريخية لا يظهر نفسه أبداً لهم مباشرة إلا بطريقة مخفية باطنة وفي أوجه إيوائه للحقيقة»[47].

فلنقارن ما قاله هايدغر مع الأوصاف الكثيرة التي أضفاها تشوانغتسي على الطاو وسنلاحظ تشابهاً كبيراً في مسار الجدل الذي اتبعه مع جدل هايدغر، فقد كتب التالي: «للطاو حقيقته وعلاماته ولكن ليس له أي فعل أو شكل؛ يمكن تمريره ولكن لا يمكن تلقيه؛ يمكنك الحصول عليه ولكن لا يمكنك رؤيته؛ الطاو هو مصدره نفسه، هو أصل نفسه»[48]. يخبئ الوجود نفسه عن قبضة الرتابة حين يلوذ بالجلاء، وبما أن الجلاء يشير إلى الموقع الذي تنكشف فيه حقيقة الوجود، يظل مدى امتداد وجودها محجوباً ومبهماً؛ لكن غموض الوجود لا يكاد يذكر إذا ما قورن بالطاو، فلم الأمر كذلك؟ الأمر كذلك لأن الطاو ـ وبخلاف الوجود ـ يحتوي مصدره في نفسه أما جذوره فترجع إلى العدم.

تكامل الوجود والعدم

حين يقفز الوجود إلى هذه الهاوية فإنه يتخذ صفاتها ويقارب العدم، ولكن نقطة الخلاص لا تمكن في معانقة سر العدم، بل تحصل من خلال الحضور الدائم مع أنية الدازاين؛ وهكذا يجعل هايدغر ثنائية الدازاين ـ الوجود الحقيقة الكبرى للموجودات كحقيقة تنكشف دائماً بشكل جزئي في العدم المحيط بها والمرتبط بكونها لا يمكن لها أن تعرف على ما هي عليه. بكلمات أخرى: ما نقفز إليه في الحقيقة هو أنفسنا المتغايرة والمتباينة في مكان وزمان الدازاين؛ ولذلك فنحن بالفعل دائما في الجلاء، عند حدث الوجود، ولهذا السبب قال هايدغر:

إن أكثر القفزات أصالة واتساعاً هي تلك التي يتخذها الفكر ـ ولا يعني هذا أن جوهر الوجود يمكن له أن يتحدد على أساس الفكر (التوكيد)، بل لأنه هنا وفي معرفة الحدث يتم اختراق وهدة الوجود إلى المدى الأبعد ويمكننا استخراج إمكانيات إيواء الحقيقة في الموجودات بالشكل الأكبر[49].

من وجهة النظر الطاوية، فإن حالة اللاَّتفكير لا تعني ألا يفكر الإنسان، بل تحمل معنى يعج بالمفارقات وهو: أن يتعلم التفكير دون عقل، أو بكلمات أخرى: أن يفكر دون أي شعور متجذر بالذات والأنا. إذا ما اعتنق الإنسان فكرة أن الطاو هو ما يجلِّي الحقيقة وكل شيء تحتويه فأي حاجة تكون لدينا عندها للتفكير من حيثيات البصر أو السمع أو أي من الحواس الأخرى ما دام الطاو هو الدليل المرشد؟ يحذرنا كتاب التشوانغتسي مراراً وتكراراً من الاعتماد على حواسنا إذا ما أردنا أن نتفاعل بشكل صادق حقيقي مع العالم، وذلك لأن العالم في جمعيته هو مجموع الموجودات ومقابلاتها من اللاموجودات، وبينما ينتظم الطاو وينتشر بحسب طبيعته الذاتية (والتي يطلق عليها الطاويون اسم زيران، وهي كلمة صينية تعني حرفياً: هو كذلك) فإن الإنسان من حيث هو الدازاين نفسه ـ أي الحضور الواعي مع الوجود ـ  هو ليس إلا واحداً من إمكانيات لا حصر لها يمكن بها للطاو أن ينتقل فيها. إن هذا الحدث ممكن فقط بسبب لا تعيُّن العدم، فلو كان الطاو يعتمد على شيء متعين متشخص محدد فلن يكون هو مصدر ذاته، ناهيك عن كونه الحامل لحقيقة الوجود.

لكن هايدغر يعود ليكتب: «الوجود دائماً في حالة شديدة من الخفاء وينتقل إلى ما ليس بالحسبان وهو الفريد من نوعه عند أعلى القمم وأحدها والتي تؤلف ما يحاذي جذر العدم السحيق وهو نفسه ما يشكل أساس العدم»[50]. يحاول هايدغر بهذا الكلام أن يتجنب التوجه إلى العدم بالمعنى السالب تمثيلياً: إن هدفه هو أن يتبنى العدم كحاجز يفرق بين الوجود والموجود، وبين البداية الأولى للتفكير في الوجود والثانية الأكثر جدة. وهكذا وبينما يشير الحدث إلى ولادة جديدة للوجود من خلال اشتماله على العدم فقد عجز فهم الإمكانيات الخلاصية التي يقدمها؛ فما لم يرغب فيلسوفنا في الاعتراف بحقيقة العدم الميونطولوجية كالوسط الإمكاني الذي تشتق منه حقيقة الأشياء الكبرى، يمكننا القول من الزاوية الطاوية إن هذه القفزة إلى هاوية العدم للوصول إلى الوجود لا تختلف عن جدل تشوانغتسي حول «هذا» و«ذاك» الذي أشار إليه في الفقرة التالية:

حتى هذا هو طريق ذاك، وذاك هو طريق هذا؛ لكن هذا لديه خطؤه وصوابه، فهل يوجد في الواقع تمييز بين هذا وذاك أم لا يوجد تمييز بين الاثنين؟ حين لا يعود هذا وذاك ضدان لبعضهما بعضاً فسوف يجد الإنسان الطاو كالمحور بينهما. حين يقف الإنسان عند المحور والمدار فعندها يمكنه أن يتعامل مع تغيرات لا نهاية لها من الخطإ والصواب. لهذا قيل إن الشيء الأفضل للاستخدام هو توضيح الأضداد لبعضها بعضاً[51].

إن القفز الحقيقي إلى الهاوية لا يتطلب سلبية زائفة للوجود، بل دهشة مكتنفة بالعدم الأصلي الأولي. إن إجراءات كهذه ستلبي دعوة هايدغر إلى «التساؤل حول الميتافيزيقا وتحديد انتماء الوجود والعدم إلى بعضهما بعضاً بشكل أكثر أصالة وجذرية»[52] بينما  ستحافظ على العدم على أنه «ممتلئ بتلك "القدرة" المخصِّصة التي يشكل احتمالها أصل جميع "عمليات الخلق" أي (أن تصبح الموجودات موجودة بشكل أكمل)»[53].

تردُّد هايدغر

يدل عجز هايدغر عن حمل تحليله إلى خطوة أبعد، وتحويل القفزة إلى وحدة أنطولوجية ـ كوزمولوجية كاملة، على تردده في التخلي بالكامل عن المعايير الميتافيزيقية الغربية؛ فهل تُرى أدت دراسته الفاشلة للنصوص الطاوية مثل التاو تي تشينغ والتشوانغتسي إلى اعتقاد أقوى لديه بقدرة الدازاين التحويلية؟ لربما كان الأمر كذلك، ولكن بالرغم من ذلك فإن استعداده حتى للتفكير في العدم كما فعل في «مساهمات للفلسفة» لهو أمر مثير للإعجاب.

إن الوقوف عند محور الطاو هو ما يتغلب على أحادية العدم التي خشيها هايدغر أشد الخشية، فالعدم لم يعد "لا شيئاً" متفرِّداً محضاً بل نسيج الواقع بأسره. العدم بمفهومه الطاوي هو خالقية الحياة في أقصى صورها، وسيلة الإمكانيات المصبوغة بدهشة الطاو والتي تقع في جوهر كل موجود كان ثم لم يعد كائناً، أو هو كائن الآن، أو سيكون لاحقاً. إن شموليتها هي اكتمالها، ومن خلال هذا الاكتمال يدع الطاو الأشياء تكون كما في استعدادها الطبيعي أن تكون؛ ولهذا أقول إن القفزة إلى هاوية العدم ليست قفزة من هذه الذات إلى ذات أخرى، بل عودة باطنية إلى السكون البسيط الفارغ المتجرد الذي يميز الأشياء التي تتناغم مع الطاو[54]. وهكذا يتم تجاوز «حدث الوجود» في الجلاء من خلال «لا حدث» الطاو؛ وهو «لا حدث» لأن الطاو يعمل كالمحور لجميع التحولات وفي الوقت ذاته يعمل كأساس حقيقتها في حال كونه دون أساس سابق له.

إن القفزة مما له جذر وأساس (الوجود) إلى ما لا جذر له ولا أساس (الطاو) إنما هو تحرير للمحدود بأصله وأساسه من خلال الالتجاء إلى العدم الذي لا أساس له، وبهذه الطريقة لا يتركنا الجلاء أبداً لأنه دائماً مرافق لنا في داخلنا.

إذن فالبحث عن الجلاء الأصلي الأولي لا يتعلق بتحويل مسار تاريخ التفكير الميتافيزيقي، بل على العكس: فهو يتعلق باستهداف الشراكة الخفية المستترة بين العدم والطاو؛ لقد أظهرنا استعداد هايدغر لتقبل فكرة أنه من الممكن لنا أن نعرف أنية الدازاين من خلال علاقتها مع "ليسية" الوجود، لكن هذا التوجه إلى العدم كان ومنذ البداية محكوماً عليها أن تستسلم للحاجة الأنانية إلى الوجود.

وكخلاصة لما سبق، فقد قلت في النقاش الذي سبق إننا وإذا أردنا أن نعيد التفكير في طبيعة الوجود فلدينا بديل بناء وقابل للحياة. من خلال استخدام ميول الطاوية الميونطولوجية ركزت على مثال الجلاء وتمثيل هايدغر له كمكان تنكشف فيه حقيقة الوجود. أما الطاوية فتجعل العدم كالموئل الذي يحقق فيه الطاو خلاقيته، ومن خلال ذلك تنسب إليه صفات تفتقد إلى الوجود تماماً للتأكد من أن رفعته ستظل أبعد من تطفل أيدي الإنسانية؛ بالنسبة إلى كل من لاوتسي وتشوانغتسي فليس الجلاء «زوال خفاء» (أو: Alêtheia) الدازاين، بل انكشاف أن الوجود متحد دائماً مع العدم في دورة التولد وإعادة التولد والبروز والكمون. لذلك يشير الجلاء إلى موقع حريتنا الكوزمولوجية التي تسهل انجلاء جوهر الحقيقة نفسها، وهي حقيقة ترتبط دون ريب مع تعايش الطاو مع العدم واستخدامه له.

[1]*ـ أستاذ الفلسفة ـ جامعة تورنتو ـ كندا.

ـ العنوان الأصلي للمقالة: Nothingness and the clearing: heidegger،Daoism and the Quest for primal clarity

ـ تعريب: سامي اليوسف ـ مراجعة: كريم عبد الرحمن.

ـ  تشمل بعض الدراسات البارزة حول تأثر هايدغر بالفكر الشرق آسيوي المصادر التالية:

 Graham Parkes،Heidegger and Asian Thought (Honolulu: University of Hawaii Press،1987); Reinhard May،Heidegger’s Hidden Sources،trans. Graham Parkes (New York: Routledge،1996); and Ma Lin،Heidegger on East-West Dialogue: Anticipating the Event (New York: Routledge،2008).

[2]ـ أنظر:

Thomas Prufer،"Glosses on Heidegger’s Architectonic WordPlay: Lichtung and Ereignis،Bergung and Wahrnis," The Review of Metaphysics 44،no. 3 (March 1991): 607–12.

[3]ـ حيث قال: «إن قولنا أن الوجود «يشرق» يعني أنه ينجلي في ذاته على أنه الكينونة في العالم. ليس هذا من خلال وجود آخر، بل إنه هو نفسه هذا الجلاء. فقط في كينونة تنجلي وجودياً بهذا الشكل يمكن للأشياء الحاضرة موضوعياً أن تصبح في متناول الإدراك في النور أو أن تستتر عنه في الظلام». اُنظر:

Martin Heidegger،Being and Time: A Translation of Sein und Zeit،trans. Joan Stambaugh (Albany: SUNY Press،1996)،125

[4] ـ Martin Heidegger،Heraclitus Seminar،1966/67،trans. Charles Seibert (Alabama: The University of Alabama Press،1979)،161.

[5] - Lin Ma،Heidegger on East-West Dialogue: Anticipating the Event (New York: Routledge،2008)،119;

[6]ـ من الصعب جداً أن نقدم تفسيراً لهذا المصطلح، إِذِ الطاو ليس لا مبدأ ولا عملية، ولكنه أصل جميع المبادئ والعمليات. لا يمكننا أن نعرفه بأنه إلهي، فمع أن جميع الأشياء تأتي منه ومع أنه أبعد عن الزمان والمكان إلا أنه حاضر فيهما ولا يتأثر بالتغيرات التي يمران بها

[7]- Wang Bi Jijiao Shi،ed. Lou Yulie،(Beijing: Zhonghua Shuju،1980)،34.

[8]- Ma،Heidegger on East-West Dialogue،140.

[9]- Zhuangzi Jishi،ed. Guo Qingfan (Beijing: Zhonghua Shuju،1997)،150.

[10]ـ المصدر السابق، 438

[11]- Martin Heidegger،On Time and Being،trans. Joan Stambaugh (New York: Harper Row،1972): 64–65

[12]- المصدر السابق، 65.

[13]- الميونطولوجيا (Meontology): هي الدراسة الفلسفية للعدم. [المترجم]

[14]- للمزيد حول نظريتي هذه حول الميونطولوجيا أنظر:

David Chai،"Meontology in Early Xuanxue Thought," Journal of Chinese Philosophy 37.1 (March 2010):

91–102; ibid.،"Meontological Generativity: A Daoist Reading of the Thing," Philosophy East & West 64،no. 2 (April 2014): 303–18; ibid.،"Zhuangzi’s Meontological Temporality," Dao: A Journal of Comparative Philosophy (forthcoming 2014)

[15]- أنظر: Daodejing،31.

أضاف شارح الكتاب «وانغ بي» (226-249 ميلادية) التالي: «قد يرغب المرء أن يقول إنه غير موجود ولكن الأشياء تستكمل وجودها به، وقد يرغب المرء بأن يقول إنه موجود ولكن صورته لا يمكن رؤيتها. لذلك نقول إنه صورة ما لا صورة له، صورة ما ليس بشيء».

Daodejing،32

[16]- Heidegger،On Time and Being،68.

[17]- Mark Wrathall،Heidegger and Unconcealment: Truth،Language،and History،(New York: Cambridge University Press،2011)،34.

[18]- المصدر السابق، الصفحة 34

[19]- Heidegger،On Time and Being،71

[20]- المصدر السابق، 71

[21]- Martin Heidegger،The Question Concerning Technology،in Basic Writings،ed. D. Krell (New York: Harper Collins،1993)،330

[22]- يتم الحديث عن محور الدولاب في الفصل الحادي عشر من تاوتي تشنغ أما الطرف المجوف فيتم الحديث عنه في الفصل الثاني من تشوانغتسي.

[23]- Daodejing،36.

[24]- Martin Heidegger،Contributions to Philosophy (Of the Event)،trans. Richard Rojcewicz and Daniela Vallega-Neu (Bloomington: Indiana University Press،2012)،88–89.

[25]- Daodejing،74.

[26]- يقول هايدغر: «إن اكتشاف «العالم» وتجلي الدازاين يأتي دائماً من خلال إجلاء الحجب والإبهامات، ومن خلال تحطيم السواتر التي يقطع فيها الدازاين (أو الحضور الإنساني مع الوجود) نفسه عن نفسه».

Being and Time،121 (129).

[27]- Daodejing،197.

[28]- Zhuangzi،810.

[29]- Heidegger،Being and Time،125 (133).

[30]- Zhuangzi،381.

[31]- المصدر السابق، 443.

[32]- Heidegger،Contributions to Philosophy،380 (269).

[33]- أنظر:

Martin Heidegger،Bremen and Freiburg Lectures: Insight into That Which Is and Basic Principles of Thinking،trans. Andrew J. Mitchell (Bloomington: Indiana University Press،2012)،46–47.

[34]- Heidegger،Contributions to Philosophy،59–60 (34).

[35]-المصدر السابق، 80 (47)

[36]- Zhuangzi،800.

[37]- Heidegger،Contributions to Philosophy،380 (269).

[38]- المصدر السابق، 328 (256).

[39]- Daodejing،63.

[40]- Heidegger،Contributions to Philosophy،371 (267).

[41]- المصدر السابق، 378 (269).

[42]- Daodejing،109 -10.

[43]- Heidegger،Contributions to Philosophy،380 (269).

[44]-  المصدر السابق، 140 (90).

[45]- Zhuangzi،614 -15.

[46]- Heidegger،Contributions to Philosophy،140 (90).

[47]- المصدر السابق  186 (120).

[48]- Zhuangzi،246.

[49]- Heidegger،Contributions to Philosophy،187 (120).

[50]- المصدر السابق 186 (120).

[51]- Zhuangzi،66.

[52]- Heidegger،Contributions to Philosophy،194 (129).

[53]- المصدر السابق 194 (129).

[54]- إن سبب كونها بسيطة وفارغة وساكنة هو بسبب انعدام الأسماء والصفات في حقها، وهي نعوت تضفيها عليهم الإنسانية ولكنها في الحقيقة أجنبية عن حقيقتها الجوهرية في ذاتها.