البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

بين ملا صدرا وهايدغر

الباحث :  محمد رضا أسدي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  5
السنة :  السنة الثانية - خريف 2016 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 1 / 2016
عدد زيارات البحث :  2419
تحميل  ( 279.233 KB )
يتحلّى الإنسان بحسب الخِلْقَةِ الأصلية بقوّتين إحداهما نظرية والثانية عملية، ولكلتيهما تأثير في طريقة عيشه. ومن هنا، كان من الطبيعيّ أن يُطرح السؤال عن العلاقة بين هاتين القوّتين لمعرفة أيّ منهما تتقدّم على الأخرى؟ من هذا الوجه عالج الفلاسفة المسلمون وكذلك الغربيّون هذا السؤال وقدّموا أجوبة مختلفة عنه. لجلاء هذه الإشكالية اختارت في هذه الدراسة الفيلسوف المسلم صدر الدين الشيرازي والفيلسوف الألماني مارتن هايدغر لتجري مقارنة بين رؤية كل منهما لمفهومي النظر والعمل وأيهما أسبق عل ى الآخر. لقد تبنّى كلٌّ منهما جوابًا مختلفًا عن الآخر، على الرغم من اشتراكهما في بعض المبادئ الفلسفية وفي بعض أسس نظرتهما إلى الإنسان.

من أهمّ ما ذهب إليه هذا البحث المقارن هو التالي:

يرى هايدغر، بناءً على تعريفه الخاصّ للعمل والنظر، أنّ العمل متقدّم وجودًا على النظر، في مقامِ تشكيل المعرفة البشريّة. بينما يرى ملّا صدرا، وانطلاقًا من تعريفه الخاصّ لمفهومي النظر والعمل، أنّ النظر والمعرفة متقدّمان على العمل في مقام تشكّل المعرفة البشريّة وتفضيل الإنسان على غيره من الكائنات.

المحرر

-------------------

يختلف الموقف من تحديد طبيعة العلاقة بين النظر والعمل باختلاف تعريف كلّ من المفهومين. ولكن ربّما يمكن القول بكلمةٍ عامّةٍ: لمّا كان الإنسان يتحلّى بمجموعة من القوى العلميّة والعمليّة، وأبرز مصاديق القوى العلمية عند الإنسان هو الوعي والفهم، وفي الجهة المقابلة فإن أبرز مصاديق القوى العمليّة العزم والإرادة، وعلى ضوء هذا التحديد العامّ يُتاح لنا الحديث عن أشكال أربعة للعلاقة المتصوّرة بين النظر والعمل، وبعبارة أخرى بين الوعي والإرادة عند الإنسان، وهذه الأشكال الأربعة المحتملة هي:

أوّلًا: تقدّم العلم والمعرفة على العمل، وأنّ المعرفة هي التي تضفي على العمل قيمته واعتباره، والإرادة أداة خادمة لتكامل فهم الإنسان.

ثانيًا: تقدّم العمل، وكون الوعي والعلم في خدمة تنمية الإرادة والعمل عند الإنسان، وما لم يصدر العمل من الإنسان لا تظهر قواه العلمية ولا تنمو أو تتطوّر.

ثالثًا: أن يكون العلم والعمل حيثيّتان لحقيقة واحدة، ولا تمايز ماهويَّ بينهما، وعليه لا يصحّ الحديث عن تقدّم أحدهما على الآخر. وحقيقة الحال بناءً على هذا الاحتمال أنّ الوعي والفهم والتفكير والتعقّل أشكالٌ من العمل الذي تنجزه النفس الإنسانيّة في مسيرة كشف الحقيقة والوصول إليها. في المقابل، العمل والفعل، هما نوعٌ من الوعي الإنسانيّ، ولا يمكن أن يتحقّق عملٌ أو يصدر عن الإنسان من دون أن يكون مقرونًا ومشوبًا بالعلم والمعرفة.

رابعًا: الحيثية العملية والحيثية النظرية عند الإنسان تعمل إحداهما بموازاة الأخرى، دون أن تتأثّر إحداهما بالثانية، وكأنّ كلًّا منهما جزيرة معزولة عن الجزيرة الثانية لا علاقة تربط إحداهما بأختها.

من بين الاحتمالات الأربعة المذكورة أعلاه يختار هايدغر، وعلى ضوء تعريفه الخاصّ لكلٍّ من العمل والنظر، يختار تقدّم العمل (  practice = الممارسة) والفعل (التطبيق العملي  = praxis)[2] على النظر في مقام تشكيل المعرفة الإنسانيّة. وأمّا ملا صدرا وبناء على تعريفه المختلف لكلٍّ من هذين المفهومين، فإنّه يختار القول بالتقدّم الوجوديّ والقيميّ للعلم والمعرفة على العمل في مقام تشكّل المعرفة الإنسانيّة وترجيح الإنسان على سائر الكائنات. وسوف نحاول توضيح نظريّة كلٍّ من الفيلسوفين في النظر والعمل.

العلم والنظر في الفلسفة الصدرائيّة:

يقسّم ملا صدرا قوى النفس الناطقة الإنسانيّة إلى قسمين هما النظريّة والعملية[3]، وكلّ واحدة من هذه القوى لها مراتب خاصّة، والوصول إلى آخر مراتب كلّ واحدة من هذه القوى النظريّة والعملية هو كمال الإنسان[4]. وما يوجب كمال الإنسان وفضله على الملائكة وسائر موجودات العالم هو كمال قوّته النظرية وليس كمال عمله بالقياس إلى عمل سائر الكائنات[5].

وما يميّز الإنسانَ عن غيره من الكائنات هو أعماله وأفكاره؛ ولكن أعمال الإنسان تكتسب قيمتها واعتبارها من العلم والمعرفة اللذان تستند إليهما. وبناءً عليه لا شيء أفضل من العلم والمعرفة[6].

وقد وصل الإنسان إلى مقام الخلافة الإلهيّة بعد اتّصافه بالعلم بالأسماء الإلهيّة، وبهذا العلم استحقّ سجود الملائكة له.

ويبيّن ملا صدرا فكرة تقدّم العلم على العمل؛ بل تقدّم المعرفة على كلّ شيء في العالم، بطريقة أخرى مبنيّة على موضوع «السعادة». فهو يرى أنّ السعادة الإنسانية تنقسم إلى قسمين، هما: السعادة البدنية والسعادة العقلية.

والبدنية هي ما يُدرك بالمشاعر الجسمانية كالسمع للمسموعات والبصر للمبصرات... والعقلية ما يُدرك بالقوّة العاقلة كإدراك العقل للمفارقات كذات الباري وصفاته وأسمائه وملائكته العلوية. والسعادة العقلية أفضل وأرقى بمراتب من السعادة البدنية؛ وذلك لأنّ اللذة الحاصلة من العقلية أشدّ قوّة وأدوم زمنًا من اللذة الحاصلة من السعادة البدنية[7].

وبناء على ما تقدّم، وعلى الرغم من الترابط المتبادل بين العلم والعمل، بحيث إنّ العلم في النهاية يجب أن يفضي إلى العمل، وهذا الأخير يترك أثره على الروح ويصوغها وفق أسسه ومقتضياته، والعمل من جهته مبنيٌّ على المعرفة والوعي، على الرغم من ذلك كلّه، فإنّ كفّة العلم هي الراجحة في مدرسة الحكمة المتعالية؛ وذلك لأنّ العلم هو الذي يوصل الإنسان إلى الكمال والعمل لا يكون حسنًا إلّا إذا كان في خدمة العلم المفضي إلى التكامل[8].

العلم والفهم والعمل عند هايدغر:

ما هي نظرة هايدغر إلى العلاقة بين الفهم والعمل والعلم؟[9]

يتّضح معنى التفسير الذي يقدّمه هايدغر للفهم على ضوء العلاقة بالدازاين[10] والوجود، وهذا يعني أنّ الفهم في الواقع هو أحد الأبعاد الوجودية للدازاين. والدازاين له أبعاد عدّة وإمكانات مختلفة، وهذه الأبعاد والإمكانات يمكنها أن تسقطه في اليومية، كما يمكنها أن تبدّله إلى وجود أصيل. وفي هذا الإطارِ الفهمُ هو أحد إمكانات الدازاين، وهذا الإمكان بدوره هو نحو من أنحاء وجود الدازاين[11] وفي الوقت عينه يمكنه نحت أنحاء أخرى من كينونة الدازاين، والدازاين بواسطة الفهم يؤدّي إلى انعكاس ذاته وأخذها إلى الأمام[12]. وكلّ فهم هو بالنسبة إلى الدازاين خطّة تساعده على مواجهة العالم، وبناء عليه يعطي الفهم الدازاينَ إمكانية انكشاف نفسه والتعرّف إليها، كما يعطيه إمكانية اكتشاف العالم ومعرفته. والدازاين بواسطة الفهم ينال أمرين هما: مكشوفية نفسه ومكشوفية العالم. والدازاين هو طومارٌ (سجل ملفوف أو لفافة) من الإمكانات التي يسهم الفهم من حيث هو واحدٌ من أكثرها حيويّة في فتح أقفالها. نعم فالفهم هو إمكانٌ مفتاحيٌّ يستفيد منه الدازاين في الكشف عن سائر الأبعاد الوجوديّة الخاصّة به، كما عن سائر أضلاع الموجودات المحيطة به وبواسطته يفكّ رموزها. وبناء على ما تقدّم يتبيّن أنّ الفهم من وجهة نظر هايدغر يتجاوز في أثره وأهميّته دائرة المعرفة النظريّة. وفي الحقيقة تولد المعارف النظريّة والقضايا العلمية في أحضان إمكانٍ اسمه الفهم. والدازاين، بواسطة الفهم، وعن طريق البنية المسبقة (Fore  structure)، ينفخ روح المعنى في الأشياء الميتة التي لا روح فيها. وعليه يتّضح أن كلّ فهمٍ مبنيٌّ على المسبقات الوجودية المتوفّرة للدازاين أي في قالب المكسب السابق (Fore having) والرؤية السابقة (Fore sight) والتصوّر السابق (Fore Conception)  في التعامل مع الأشياء والموجودات الخارجية تصبح هذه الأشياء ذات معنى[13]. وبعبارة مختصرة المقصود من هذه البنية الثلاثية الطبقات للفهم أنّ إدراكنا لأيّ موضوع يعتمد على ما يتوفّر لدينا من مفاهيم ومشاهدات قبليّة. ومن باب المثال: فهمي العامّ وتصوّري لمفهوم الرياضة يسعفني لتكوين معرفة أفضل بالجمباز (gymnastics) من حيث هو رياضة في إطار الأرضية العامّة لفهمي، ولكن أيضًا تساعدني الرؤية القبلية والبصيرة المسبقة على إدراك أفضل للعلاقات والروابط في إطار تلك الأرضية المعرفية العامّة. وبصيرتي في ما يرتبط بالحركات المتوازنة للأيدي والأرجل في الرياضة تساعدني في فهمٍ أفضل للجمباز، وفي نهاية المطاف توقّعاتي أو مفاهيمي القبلية هي التي تشكّل توقّعاتي المستقبلية، وتوقّعاتي هذه تظهر في قوالب تلك المفاهيم القبلية وهي التي تشكّل فهمي لموضوع معيّن. فبما أنني أتوقّع العيش مع سلامة الجسم وقوّته، فإنّني أنظر إلى الجمباز من وراء تلك السلامة وهاتيك القوّة، فإذا لم تخدم تلك الرياضة أهدافي أي لم تحقّق لي السلامة والقوّة، ففي هذه الحالة أشكّ في فهمي للجمباز بوصفه رياضةً.

إذًا، أنا أصوغ القضيّة العلمية التي تقول: «الرياضة تسهم في الحفاظ على سلامة الجسم وتزيد من قوّته»، على ضوء الفهم بطبقاته الثلاثة المشار إليها آنفًا. وبناء على هذا العرض للتصوّر الهايدغري يتّضح أنّ الفهم متقدّمٌ على النظريّة أو القضيّة العلميّة، وفي إطار الفهم تحدث حوادث عدّة، ما صياغة القضيّة العلمية أو النظرية إلا شيءٌ منها.

وبناء عليه، الفهم ليس نوعًا من الوعي والمعرفة؛ بل هو أساس كلّ وعي ومعرفة وعليه يقوم بنيانهما. وكذلك الفهم ليس من جنس المعرفة فقط؛ بل هو نوعٌ من الكينونة والوجود، ونوع من العمل أيضًا. والفهم، وفق التبيين الهايدغري موجود ذو وجهين. فضلًا عن أنّه نحو وجود للدازاين. وهذا الوجود للدازاين ذو وجهان هما المعرفانية والعملانية.

وبناء عليه فإنّ الفهم له عرضٌ عريضٌ في شعاع وجوده يمكن رؤية ما ليس مرئيًّا؛ ولأجل هذا عدّه هايدغر من جنس «الوعي والمعرفة»، ومن حيث إنّه يخرج الظواهر من ظلمة اللافهم هو من جنس «العمل والنشاط».

وعلى ضوء ما عرضناه من رؤية هايدغر ونظرته إلى الفهم يتّضح أنّ النظريّات والقضايا العلمية تنمو في أحضان الفهم، وهذه النظريّات والقضايا العلميّة هي بدورها في مقابل العمل والسلوك الإنسانيّ. فالفهم من جهةٍ أشبه ما يكون بالأمّ التي تربّي في أحضانها طفلين أحدهما النظر والآخر العمل، ومن جهة أخرى لها وجهة وهويّة عملانية، ولكنّ هذه الهويّة لا تقع في مقابل الطفل الآخر الذي هو النظر الذي بدوره نجم عن «الفهم». وبعبارة أخرى: العمل والممارسة على نوعين، أحدهما توأم الفهم والآخر في مقابل النظر.

هذا ولكن هل الماهيّة العملانيّة للفهم تختلف عن العمل الذي يجعله هايدغر في مقابل النظر، أو لا تختلف؟ إنّه سؤال قمينٌ بالبحث والدراسة؛ ولكنّ هايدغر لا يبدي أيّ جوابٍ صريحٍ في ما يرتبط به. ولكن يبدو لنا بناء على المباني التي يرتضيها هايدغر أنّه يمكن تفكيك هذين النحوين من العمل أحدهما عن الآخر، وأعني بهما العمل الذي هو توأم الفهم، والعمل الذي يجعل في مقابل النظر. ونعفي أنفسنا من الخوض في تفصيل الكلام في هذه النقطة كي لا نبتعد عن الهدف الأصيل لنا من هذه المقالة، ونكتفي بالتذكير على نحو الإجمال بأنّ العمل توأم الفهم والعمل اللاحق للفهم الذي يجعل في مقابل النظر كلاهما من جنس «العمل»، مع ملاحظة أنّ فصل كلٍّ منهما يختلف عن الآخر. ومن جهة أخرى ربّما يمكن تفسير كلمات هايدغر في كتابه «الكينونة والزمان» بطريقة أخرى بحيث لا يبقى ثمّة تعدّدٌ لـ «العمل» من حيث الفصول المقوّمة، بل لا يكون سوى عمل واحد في مقابل النظر، سواء كان هذا العمل سابقًا على النظر أو لاحقًا له.

ثمّ كيف ظهر في فلسفة هايدغر أمران أحدهما العمل والآخر الممارسة؟ والجواب الذي يطرحه بعض شرّاحه حاصله: «إنّه يعتقد بأنّ الحقيقة تظهر نفسها من طرقٍ شتّى كالفنّ، والشعر، والمسرح، والفعل الأصيل التاريخانيّ، وفكر المفكّرين الكبار وما شابه ذلك»[14].

ومن بين الطرق المذكورة أعلاه يرى هايدغر بحسب كتابه «الكينونة والزمان» أنّ الفعل له الدور الأهمّ في تظهير الحقيقة. فالفعل الأصيل بما هو صورة من الحقيقة وقسم من ظهور الوجود وحضوره يتحقّق في قالب نشاط الدازاين. «فالعلاقة النظريّة للإنسان بالكون، بحسب هايدغر، والتي تشمل الكثير من المجالات بدءًا من الميتافيزيقا التقليدية إلى اللاهوت المسيحي، مرورًا بمقام التشريع والتقنين للإنسان والطبيعة، انتهاءً بالفيزياء المعاصرة والتقانة الحديثة، تنشأ من التجربة العملية للعيش الإنسانيّ»[15].

والإنسان، بحسب هايدغر أيضًا، موجود فاعلٌ وعملانيٌّ [16] أكثر ممّا هو مفكّرٌ نظريٌّ، وهذه الفعالية يكسبها الإنسان بشكل مقدّم على النظر عن طريق العمل والتعامل مع المحيط والبيئة التي يحيا فيها. ولكن عندما يخسر الإنسان أنسه بالأشياء وصلته العملية بها يبدأ بالنظر إليها بما هي موضوعات خارجيّة يتعامل معها بطريقة نظريّة وتنظيرية. ومن هنا نجد أنّ هايدغر يطرح العمل والنشاط العملانيّ للإنسان بما هو نشاط انكشافيّ وأساسيّ للدازاين وأخيرًا لحقيقة الوجود، ولعلّه يمكن القول إنّ أحد أهداف كتاب الكينونة والزمان هو إثبات تقدّم العمل على النظر. بل ربّما لا يكون مجانبًا للحقيقة ولا مبالغة القول بأنّ تحليل الظواهريّ لحيثية العمل والممارسة في الدازاين هو أحد أهمّ مراكز الثقل في التحليل الفينومينولوجي الهايدغري.

وعليه فإنّ الدازاين هو عمل وممارسة قبل أن يكون نظرًا؛ وذلك لأنّ نظره وعلمه له جذور في الفهم وهذا الأخير ينتمي إلى مقولة العمل أكثر من انتمائه إلى النظر. هذا على الرغم من كون الفهم أمرًا إمكانيًّا وبالتالي خارج دائرة الفعليّة، غير أنّه وعلى الرغم من ذلك، يصل إلى حالة الفعليّة على ضوء العمل والممارسة. وبناء على ما تقدّم كلّه يمكن استنتاج أنّ آليّة الوصول إلى الفهم تختلف بين هايدغر وصدر المتألّهين. وذلك لأنّ كلّ علاقة نظرية بالعالم من الميتافيزيقا إلى اللاهوت المسيحيّ والفيزياء الحديثة كلّ ناشئة عن نوع من تجربة العيش العمليّ للدازاين. وفهم الدازاين هو إسقاط وتجلٍّ لذاته في صور عدّة. وأمّا بالنسبة إلى ملا صدرا فإنّ الوصول إلى الفهم لا يمرّ بالضرورة بالعمل. والأخلاق والتقوى وتهذيب النفس أمورٌ عمليّة يمكن أن تساعد في الوصول إلى مراحل من المعرفة والعلم، ولكنّ الفهم، بحسب ملّا صدرا، لا بدّ له من المرور عبر البرهان الذي هو نشاطٌ نظريٌّ كما هو معلومٌ. يُضاف إلى هذا أنّ الفهم أو العلم بحسب صدر الدين الشيرازي هو من مقولة «حصول الصورة» في الذهن، وبحسب تعبير بعض المعاصرين[17] كلّ علمٍ حصوليٍّ لا بدّ من أن ينتهي إلى الحضور. وبغضّ النظر عن تفسير الفهم وتعريفه، فإنّ ملا صدرا يرى أنّه «إذا قيل العلم عبارة عن الصورة الحاصلة من الشيء عند المدرك، أريد بالمعلوم به الأمر الخارج من القوّة المدركة... وإذا قيل العلم عبارةٌ عن حضور صورة شيء للمدرك عنى به العلم الذي هو نفس المعلوم لا شيء غيره، وفي كلّ من القسمين المعلوم بالحقيقة والمكشوف بالذات هو الصورة التي وجودها وجود نوريّ إدراكيّ خالص عن الغواشي الماديّة غير مخلوط بالأعدام والظلمات»[18]؛ وعليه إذا كان الفهم عند هايدغر من مقولة العمل وإذا كان فهم «الدازاين» نحوًا من أنحاء «كينونته»، فإنّ العلم والفهم عند ملّا صدرا من الناحية المتيافيزيقية مبتنٍ على البرهان العقليّ والنظر، وماهية الفهم في نهاية الأمر تؤول إلى «الوجود»، ولكن وجود الصورة المنزّهة عن ظلمات عالم المادّة، فضلًا عن أنّ ملا صدرا يزعم في تقرير آخر له بأنّ العلم بالشيء ووجوده حقيقة واحدة[19].

هذا ولكنّ ملّا صدرا يرى في محلٍّ آخر أنّ الإدراك والفهم من مقولة «الالتفات» والمشاهدة[20]. سواء كانت ذات المعلوم حاضرة عند العالم (العلم الحضوريّ) أم كانت صورته هي الحاضرة (العلم الحصوليّ)، ففي الحالتين تلتفت النفس وتشاهد إمّا صورة الحاضر أو عينه.

وعلى أيّ تقدير، فإذا كان هايدغر يبرّر الفهم ويبيّنه عن طريق «كينونة» الدازاين، فإنّ ملا صدرا يفعل ذلك أي تبيين الحيثية الوجودية للفهم والإدراك، عن طريق الحيثية الوجودية للصورة الحاضرة عند نفس العالم، وعن طريق المساوقة بين العلم والوجود. ولا نغفل عن أنّ الأبحاث التي يطرحها ملّا صدرا في ما يرتبط باتّحاد العاقل والمعقول وكيفية إنشاء المعلوم بواسطة النفس، لا مجال لها ولا محلّ في الفلسفة الهايدغرية؛ وذلك لأنّه لا ينظر إلى الدازاين بعين العلاقة بين النفس والجسد. بل إنّه لا يقبل التمييز والتفكيك بين النفس والجسد، كما لا يقبل تفسير الدازاين انطلاقًا من التقابل بينه وبين العالم. ومن الأمور التي تستحقّ الذكر في مقام المقارنة بين ملّا صدرا وهايدغر في ما يرتبط بالعلاقة بين العلم والعمل، أنّ دائرة العمل عند هايدغر أوسع بكثيرٍ ممّا هي عند صدر الدين الشيرازي. وذلك أنّ هايدغر يوسّع دائرة العمل لتشمل كثيرًا من الأمور التي لها بعدٌ نظريٌّ مثل العلم الحديث، فضلًا عن شمولها لكلّ ما هو عمليٌّ بشكلٍ أو بآخر مثل التقانة، فهذه الأشياء وغيرها تخرج من قلب الفعل والممارسة. وأمّا ملّا صدرا فإنّه يرى شيءًا من التقابل بين العلم والعمل على الرغم من إمكانية الترابط التوالديّ بينهما. ومن المؤشّرات الدالّة على هذا الأمر أنّه يجعل الفلسفة الأولى في مقابل الأخلاق، والعمل عنده مفهوم أقرب ما يكون إلى الأعمال الفرديّة والسلوك الأخلاقيّ وفي بعض الحالات يُستفاد من تتبّع أفكاره أنّه يدخل الأعمال الاجتماعية والعامّة في هذه الدائرة.

وينظر هايدغر إلى مقولة الفهم والعمل بعين الأنطولوجيا، وملّا صدرا ينظر إلى العلم والفهم بهذه النظرة أيضًا، ولكنّ هذا الأخير لا ينظر إلى العمل من الناحية الأنطولوجيّة المحضة ولا يقصر تحليله على هذه الناحية. فهو بعد تحليله الأنطولوجي للعلم ينتهي إلى تبيين العلاقة بين العلم والعمل  على ضوء المعارف الدينيّة ويتحوّل إلى البحث الأنطولوجيّ والقيميّ. وأمّا هايدغر فإنّه يعمد إلى معالجة مسألة الفهم والعمل والنظر على ضوء الأنطولوجيا بعيدًا عن المعالجة الدينيّة أو حتّى القيميّة. هذا ولكن وعلى الرغم من إصرار هايدغر على تحاشي الميل نحو المعالجة القيميّة والدينيّة، ويعبّر عن هذا التجنّب في عدد من المواضع في كتابه «الكينونة والزمان»، فإنّه لا يوفّق في الوفاء بهذا التعهّد.

وبناء على التوجّه الأنطولوجيّ والقيميّ والدينيّ للمعالجة الصدرائيّة للعلم والعمل[21]، ينتهي ملّا صدرا إلى ترجيح العلم والنظر على العمل. وفي بعض تحليلاته يقسّم العلم إلى أقسام عدّة ويبيّن قيمة كلّ واحد من هذه الأقسام ويفضّل بعضها على بعضها الآخر ويسمّي  العلوم الممدوحة والأخرى المذمومة، وذلك بطريقة لا تفضي إلى قطيعة كاملة بين الدائرتين، بل يُستفاد منه أنّ كلًّا من العمل والعلم يمكن أن يكون وسيلة للتقرّب إلى الله تعالى. وهذا يكشف في نهاية المطاف عن أنّ العلم والنظر ليسا مطلوبين بالذات؛ بل إنّ قيمة الأمرين تنبع من إسهام هذين الأمرين في تأصيل حالة العبودية لله وتعميقها في النفس الإنسانيّة. العلم بالنسبة لملّا صدرا هادٍ للعمل وهذا الأخير يجب أن يكون مأتمِرًا مطيعًا، وعلى الأمرين أن يكونا جناحين تحلّق بهما روح الإنسان وترتقي إلى الله. وتعطي المعالجة الصدرائيّة للعلم والعمل مقامًا مقبولًا للسير والسلوك العمليّ وتهذيب النفس، ويقرّ للعمل بدورٍ في تنمية معرفة حقيقة كلٍّ من الوجود والإنسان. وهذا يعني في نهاية المطاف أنّ العلم لا يغني عن العمل في الفلسفة الصدرائيّة وخاصّة العمل الذي له طابع أخلاقيٌّ.

وفي مقابل ملّا صدرا يعطي هايدغر للفعل والتطبيق العمليّ الاعتبار التامّ والمنزلة الأرقى[22]، وليس ذلك من الناحية القيميّة بل من حيث البعد الأنطولوجي، ومن جهة أنّ الدازاين يرهن كلّ ما يرتبط به ببعده العملانيّ. فالدازاين يفهم العالم عن طريق «العمل» وينشئ العلاقة النظرية بينه وبينه، ومن هذا المسار ينتج العلم والتقانة ويشرّع القوانين وغير ذلك ممّا هو عصيٌّ على العدّ. والأبعاد الوجوديّة للدازاين كلّها لها بعدٌ عملانيٌّ أو متأثّرة بالعمل بدرجة كبيرة. وعلى الرغم من أنّ «الحيثية العملانيّة للدازاين» بالنسبة إلى هايدغر من أهمّ مصادر «التعرّف» و«الصيرورة»، فإنّه لا يقصد من العمل ما يرمي إليه ملّا صدرا، أي لا يقصد من حديثه عن دوره «العمل» في فهم الحقيقة، العمل بمعنى تهذيب النفس أو دور الأخلاق في معرفة الحقيقة. أضف إلى هذا أنّ الدازاين الهايدغريّ ليس هو الذات العالِمة عند ديكارت ولا الأنا المتعالية عند كانط؛ بل هو نوع من العمل وكيفية العيش والحياة. والدازاين الهايدغري ليس منزويًا بل هو في الجمع والمجتمع، وليس في الخلاء بل في العالم، وهو يتفتّح بواسطة العمل وعن طريق الممارسة والاختيار والتصميم. ومعرفته وتفتّحه توأمان وهما حاصل عملانيّة الإنسان وليسا حاصل علمويّته، ومن هنا نرى أنّ العمل مقدّم على العلم وجوديًّا وليس قيميًّا. فليس العمل متقدّمًا على النظر من الناحية القيميّة، وذلك لأنّ المعالجة الهايدغرية للعمل معالجة أنطولوحيّة.

وفي ختام هذا القسم من هذه المقالة لا ينبغي غضّ النظر عن ملاحظة نقديّة لفكر هايدغر، وهي أنّنا لا نعلم كيف يمكن لهايدغر الذي يرى في كتابه «رسالة في الإنسانويّة» أنّ تقسيم التفكير إلى نظريّ وعمليّ هو أساس انحطاط الفكر الأصيل، كيف يمكن لمن يرى هذا الرأي أن يعود إلى الفكر الأصيل الذي يحلم به من خلال الحكم بتقدّم العمل على النظر؟ ألا يبتني هذا التقديم على ذاك التقسيم؟! فهل يمكن فتح طرق جديدة في الفكر بالاعتماد على منشإ الانحطاط المدّعى، أو على نتائجه؟ وهل يصحّ دعوة الآخرين إلى معرفة الحقيقة وانكشافها على ضوء العمل والممارسة؟!

المصادر والمراجع:

اسميث، كركوري بروس، 1380، نيچه، هيدگر، وگذار به پسامدرنيته، الترجمة الفارسية علي رضا سيد أحمديان، آبادان، به نشر برسش.

شيرازي، صدر الدين، 1981، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ج 9.

 الشواهد الربوبية، مقدمة وتصحيح سيد جلال الدين آشتياني، قم، بوستان كتاب، قم.

 تفسير قرآن كريم، 1364، تصحيح محمد خواجوئي، قم، انتشارات بيدار، ج 2 و3.

Heidgger،M.،1990،Being and Time،trans،J. Maxquqrrie and E. Robinson،Blackwell،Oxfard.

Letter on Humanism» in Marting Heidegger: Basic writings،pp189-243.

In Martin Heidegger: 1977،Basic Writings. Ed. Davis Farrell krell،trans. Frank A. Capuzzi،with J. Glenn Gray and David Farrell Krell. New york: Harper and Row.

Macann،CHR (ed) ,1992،martin Heidegger،critical Assessments،4 Vols،1. Routledge London and New York.

[1]*- أستاذ مساعد في قسم الفلسفة في جامعة العلامة الطباطبائي، طهران - إيران.

- العنوان الأصلي للمقال: العلاقة بين النظر والعمل دراسة مقارنة بين ملا صدرا وهايدغر.

- نقله عن الفارسية: محمد حسن زراقط، أستاذ الفكر الإسلامي في جامعة المصطفى العالمية ـ لبنان.

[2]-  يستخدم الكاتب كلمتا عمل (practice) وپراکسیس (praxis)، والترجمة العربية الحرفية لهاتين الكلمتين في اللغة الإنكليزية هي الممارسة والتطبيق العملي. وقد وجدت أنّ ترجمتهما بهذه الطريقة تضرّ بجمال الترجمة وتعيق الوضوح ودقّة نقل المصطلح إلى اللغة العربية. ولذلك فضّلت استخدام كلمة عمل كمعادل لـ(practice) التي تدلّ بحسب بعض المعاجم الإنكليزية على الممارسة بمعناها العامّ، وكلمة فعل كمعادلٍ لـ(praxis) التي تدلّ في اللغة الإنكليزية على مفهوم التطبيق العملي المستند إلى نظرية. هذا مع التفاتي إلى أنّ هذا التمييز لا يتّفق كثيرًا مع الفرق الذي تذكره معاجم اللغة العربية بين كلمتي عمل وفعل. (المترجم)

[3]-  الشيرازي، الأسفار الأربعة العقلية، ص 294.

[4]-  المصدر نفسه، ص 295-298.

[5]-  الشيرازي، تفسير القرآن الكريم، ج 2، ص 356-357.

[6]-  المصدر نفسه، 330.

[7]-  المصدر نفسه، ص 331-334.

[8]-  المصدر نفسه، ص 173-176.

[9]-  يخصّص هايدغر الصفحات من 182 إلى 203 لتوضيح رؤيته الفلسفية إلى مقولة «الفهم»، وفي هذه الصفحات يبيّن الصلة بين هذه المقولة ومقولات أخرى مثل: الوجود، والتأويل، والتفسير، والبنى السابقة على الفهم. وكثيرٌ من هذه المباحث لا تدخل في صميم ما نحن بصدده، وما يهمّنا هو بيان الصلة بين الفهم والعلم والعمل.

[10]- الدازاين كلمة ألمانيّة، تعني الوجود الحاضر أو الوجود المقابل لللا وجود. ويستخدم هايدغر هذه الكلمة للدلالة على كينونة الموجود الإنساني أو كيفيّة وجوده؛ أي الإنسان من حيث هو الكائن المنفتح على الكون في تغيّره وعدم استقراره، وهذا يعني أنّ الدازاين يختلف عن سائر الكائنات من حيث أنّه ينجز كونه، فماهية الإنسان إذن، وجوده وحقيقته نزوعه إلى ما يريد أن يكون، فهو من يصنع ذاته بذاته ويجاوز بفعله حدود الواقع وينفتح على العالم. انظر:  صليبا، جميل. (1982). المعجم الفلسفي. بيروت- لبنان: دار الكتاب اللبناني- مكتبة المدرسة. ج1، ص 556. (المترجم)

[11]- Heidegger،1990: 185.

[12]- Ibid،188.

[13]- Ibid: 191.

[14]-  اسميث، نيچه، هيدگر، وگذار به پسامدرنيته، ص 286.

[15]-  المصدر نفسه، ص 287.

[16]-  ومن ذلك أنّه يرى أنّ نداء الضمير والعزم عند الإنسان هو من تجليّات ومصاديق الفعل بالنسبة إلى الدازاين.

[17]-  تعليقة العلامة الطباطبائيّ على الأسفار، المجلّد 2، ص 284-286.

[18]-  يذكر صدر الدين الشيرازي مثل هذا الكلام في أكثر من موضع من كتابه الأسفار، ومن ذلك: المجلد الثامن، ص 152.

[19]-  المصدر نفسه، مج 2، 150.

[20]-  المصدر، نفسه، ص 162.

[21]-  انظر: ملا صدرا، تفسير القرآن الكريم، المجلّد الثاني، ص 331-362. فهو في هذا الموضع من تفسيره يتحدّث عن فضل العلم وشرفه، وعن منزلة العالم، ومعيار العلم الحقيقيّ، ويقسّم العلوم إلى محمودة ومذمومة، ويفضّل علم آدم على علم الملائكة، ويبيّن معنى الحكمة والحكيم. ويتحدّث عن أمور قريبة من هذه الموضوعات من صفحة 55-83 من الكتاب نفسه أيضًا. 

[22]-  ثمّة نقطتان تستحقّان الذكر في مجال الحديث عن نظرة هايدغر إلى العمل والممارسة.

الأولى: يتحدّث هايدغر في مواضع عدّة ومناسبات مختلفة بطريقة مباشرة وغير مباشرة، عن دور العمل وعن الحيثية العملانية للدازاين، وذلك في عدد من كتبه وبخاصّة «الكينونة والزمان». ففي هذا الكتاب الأخير يتحدّث عن أهميّة العمل في سياق معالجته لمفهومي «ما هو تحت اليد» (ready-to-hand)، والحاضر في اليد (present-to-hand)،  في الصفحات: 135، 136، 140، 141، 142، 409، و408، يتحدّث عن أهمية الممارسة والتطبيق العمليّة دون أن يستخدم كلمة (praxis) ويطرح كثيرًا من المفاهيم والمصطلحات الخاصّة به في هذا السياق، وكلّ ذلك يصبّ في خدمة بيان الموقف الهايدغري من العمل وأثره على هوية الإنسان وكينونته.

الثانية: أنّ هايدغر وكما أشرنا من قبل متأثّر بدرجة كبيرة بالعارف الألماني إكهارت، ويظهر هذا التأثر كثيرًا في كتاب الكينونة والزمان. وهنا في سياق الحديث عن البعد العملانيّ للإنسان نذكّر بأنّ هذه المعالجة الهايدغرية ليست، كما يرى عددٌ من شرّاح هايدغر، سوى إعادة تدوين للكتاب السادس من رسالة الأخلاق إلى نيكوماخوس لأرسطو، وإن كان ذلك بلغة هايدغرية.