البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مبحث الوجود عند هايدغر

الباحث :  مازن المطوري
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  5
السنة :  السنة الثانية - خريف 2016 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 1 / 2016
عدد زيارات البحث :  1710
تحميل  ( 274.841 KB )
يعرض هذا المقال للباحث العراقي مازن المطوري إلى مبحث الوجود عند مارتن هايدغر، مبيّناً الأركان الأساسية التي يقوم عليها هذا البحث من خلال ما عرف بـ سؤال الوجود".

نشير إلى أن كتاب "الكينونة والزمان" سيكون لدى الباحث المرجع الأساسي لمقالته، وذلك بهدف بيان أبرز الأطروحات الواردة فيه، ومن ثم إجراء بعض التعليقات النقدية عليها.

المحرر

------------------

على طريقةِ النقد غيرِ الصّريح اتّهم الفيلسوفُ الألماني مارتن هايدغر (1889-1976م) معاصريه من الفلاسفةِ بنسيان سؤال الوجود (الكينونة)، عندما قرّر أن السؤال المذكور قد ذهب في النسيان، برغم اعترافه بأنَّ العصرَ الذي يعيش فيه يَعتبِرُ القبولَ بالميتافيزيقا ضَرباً من التّقدم[1].

لكن هذا النِسيان لسؤال الوجود، والذي قد يكون بفعلِ فاعل، لم يُشكّل حاجِزاً أمام هايدغر في ولوج البحث عن سؤال الكينونة، برغم أن المرء يعفي نفسه عن مشاقّ إشعال معركة عمالقة حولَ الكينونة كما رأى هايدغر، ذلك أن هذا السؤال قد أرهق من قبل أفلاطون (427 - 347 ق. م) وأرسطو (384 - 322 ق.م) لأجل أن يُخرسَ بما هو سؤال مفصّل لمبحث برأسه! لكن ما ظَفر به هذان الفيلسوفان والذي انحفظ حتّى منطق هيغل (1770 - 1831م)، وبرغم المشاقّ العليا للفِكر التي بُذلت حتّى يُنتزع، قد ابتُذِل طَويلاً.

وقرّر هايدغر أن ما تشكّل من مباحث الوجود على أرضِ اليونان، والذي أرهقَ أفلاطون وأرسطو، هو بنفسه في الوقت ذاته الذي يحفّز على سؤال الكينونة، يصادقُ على تفويت ذلك السؤال لِما يُقرّره من أن الكينونة هي التصّور الأعم والأفرغ، ومن ثمَّ فهو يستعصي على محاولات التعرّف عليه. وفضلاً عن ذلك، فإن كلَّ امرئ يستعمله دوماً في حياته، وفي كلّ مرَّة يفهم ماذا يريد به، وهذا بدوره يجعل التفلسف القديم حول الوجود قلقاً.

وحتّى ينطلق هايدغر في عملية فهم سؤال الكينونة يتعرّض لثلاثة أحكام للوجود كمدخل لذلك، وقد تمثّلت تلك الأحكام في: كليّة تصّور الكينونة، تصّور الكينونة غير قابل للتعريف، الكينونة تصّور مفهوم بنفسه.

بداية ذكر أن كلّية الكينونة ليست كلّية جنسية منطقية، وإنما هي شيء متعالٍ، وهي في الوقت ذاتِه لا تعني غناه عن البيان وأنه الأوضح من كلّ شيء، وإنّما يمثّل تصور الكينونة التصور الأشد إبهاماً، بل إن هذا التصور للكينونة بنفسه غير قابل للتعريف، ومرجع ذلك لكلّيته القصوى.

ويمضي هايدغر ليقرّر أن تصور الوجود مفهوم بنفسه! وينظّر لذلك بكثرة استعماله في كلّ تلفّظ وسلوك إزاء الكائن الآخر، أو في سلوك الكائن نفسه. ولكن عدم قابلية الكينونة للتعريف كما سلف لا تعفي من السؤال عن معناها، وإنما هي بنفسها تستدعي السؤال عنه استدعاءً.

وبعد توقّف هايدغر عند الأحكام الثلاثة للوجود خلص من دراستها إجمالاً إلى أن سؤال الكينونة بنفسه غامض وبلا وجهة، فضلاً عن فقدان الإجابة عنه، ولأجل ذلك وحتى نعاود بحث مسألة الوجود، لابُدَّ من استئناف طرح سؤال الكينونة، فيشرع في ذلك.

بنية سؤال الوجود

بعد ذلك المدخل المختزل، قرّر هايدغر أن إعادة طرح سؤال الوجود تحتاج إلى شفّافيّة مناسبة لما يمثّله من سؤال أساسي، وقرّر أن كلّ سؤال يشكّل بنفسه بحثاً، وأن للبحث قدوته السابقة التي تتمثّل في البحوث التي تعرّضت للموضوع نفسِه.

إن السؤال عن الوجود ـ كما رأى هايدغرـ هو بحث عارف عن الكينونة وكيفية تحققها، وأن مثل هذا البحث، يمكن أن يصير مبحثاً عندما يكون بحثاً عن التعيّن الكاشف عن الشيء الذي لأجله انبثق السؤال، ضرورةَ أن كلّ سؤالٍ له مسؤول عنه ومسؤول، وضمن ذلك السؤال الذي يفتح باب بحث معين، ينبغي أن يُعيَّن الموضوعُ المسؤولُ عنه ويُتصَوَّر. أما الغاية المسؤول لأجلها فهي تكمن في صلب المسؤول عنه، باعتبار أن السؤال لم يُقصد لنفسه وإنما لغيره، ما يعني أن هذه الغيرية، أي المسؤول لأجله، كامنة في صلب المسؤول عنه، والسؤال إنما يبلغ غرضه في تحقق المقصود الذي هو المسؤول لأجله.

وفي الوقت الذي يمثّل فيه السؤال عن الكينونة سلوكاً للكائن الذي هو الإنسان، يمثّل كذلك طابعاً خاصاً بالكينونة، والسؤال لا يمكن أن يتحقق بوصفه مجرد تساؤل أو طرح صريح للسؤال، وإنما يمثل طابعاً وجودياً للكائن، والأمر الأهم أن يكون السؤال واضحاً في نفسه من خلال خصائص مقومة له، كما رأى هايدغر.

من كلّ ذلك خلص هايدغر إلى انبغاء طرح السؤال عن معنى الكينونة، فثمة ضرورة في أن تُبيّن مسألة الكينونة بالنظر لما تقدم، ذلك أن سؤال الوجود ينصب على الكينونة وهي التي ينبغي الاشتغال عليها، فهي التي تعين ماذا هو كائن بها، والتي على جهتها يكون الكائن. ولكن كينونة الكائن ليست بحد ذاتها كائناً، والخطوة الفلسفية الأولى التي تكمن في فهم إشكالية الكينونة تتمثّل في ألا نسرد قصّة بالرجوع إلى سلسلة كائنات يعيّن أحدها الآخر.

ورأى أن الإنسان يتحرك بعد فهم محدود للكينونة، فيكون ذلك الفهم منطلقاً للسؤال عن معناها الأعمق وحقيقتها، ولأجل ذلك، وبرغم عدم معرفة الإنسان للكينونة، إلا أنه بمجرد تعرضه لسؤالها فإنه ينطلق من فهمٍ ما لها وإن كان ذلك المستوى من الفهم لا يحدد لنا بشكل واضح مستوى التصور لمعنى الكينونة، وأكثر من ذلك، فإن الإنسان لا يعرف الأفق الذي يجب من خلاله إدراك وتحديد معنى الكينونة.

قرر هايدغر أن هذه الوسطية الفضفاضة للكينونة أمر واقع، وهذا الفهم المضطرب والباهت والمحدود بحدود اللفظ للكينونة، يمثل ظاهرة موجبة تحتاج إلى الإنارة والبحث، وفضلاً عن ذلك فإن هذا اللاتعيّن والفهم المضطرب والباهت يمكن أن يكون متخلّلاً بالنّظريات والآراء التقليديّة حول الكينونة، لما تمثّله من مصادر للفهم السائد في هذا المضمار.

إن سرد قصّة حول الكينونة يصور لنا الكينونة وكأنها ذات طابع كائن ممكن، والحال أنها تتطلب ضرباً خاصاً من البيان والكشف يختلف عن كشف الغطاء عمّا هو كائن بتلك الكينونة! وبسبب ذلك فإن الكينونة التي تمثّل المقصد والمسؤول عنه تتطلب جهازاً خاصاً يصورها، يختلف جوهرياً عن التصورات التي بموجبها يتحقق ويتعيّن الكائن.

وبما أن الكينونة تشكّل صُلب سؤال الوجود، أي أنها المسؤول عنه، وفي ذات الوقت تعني كينونة الكائن، فهذا معناه أن المسؤول هو الكائن عينه، فتضحى إشكالية الكينونة سؤالاً للذات واكتشافاً للذات. وهذا يتطلب وفق هايدغر الظفر بنمط الولوج القويم إلى الكائن وأن يُؤَمَّن ذلك قَبل كلّ شيء.

أما ما هو الكائن الذي يكون متعلق الكينونة؟ فيقرر هايدغر أننا نسمي أموراً شتّى متباينة (كائناً)، فالكائن هو كلّ ما نتكلّم عنه، وما نقصده، والكائن هو أيضاً ما نحن، وكيفما نحن أنفسنا. فالكينونة تتمثّل في أن الشيء يكون وكيف يكون، في الواقع والقيمومة والبقاء والصلاحية والوجود.

من أيّ كائن نبدأ؟

أما من أي كائن ينبغي أن نبدأ لنستخلص معنى الكينونة، وأي كائن هو أوّلي في فهم هذه الكينونة؟ فيرى هايدغر أن سؤال الكينونة إذا كان ينبغي أن يطرح طرحاً صريحاً شفّافاً، فإن بلورة ذلك وفق ما تقدم تتطلب أولاً أن يفسّر كيف يُتلفّت جهة الكينونة، وكيف يفهم معناها ويدركها تصوراً.

ويتطلب ثانياً إبراز نمط الولوج المخصوص إلى هذا الكائن، وثالثاً تهيئة الإمكان لاختبار الكائن النموذجي تخيّراً سديداً.

وهذه الخصائص كُلّها سلوكيات مقومة للسؤال عن الكينونة، وتمثل في الوقت ذاته ضرباً من الكينونة لكائن معين، وهذا الكائن هو نحن السائلون أنفسنا. وهذا يقتضي أن نجعل ذواتنا الكائنة شفافةً في كينونتها، كما وأن طرح مسألة الكينونة بهذا المعنى أي كونه نوع كينونة خاصة بكائن ما، يتعيّن في ماهية السائل بما هو متضمن في سؤال الكينونة، لأنا عرفنا سابقاً أن الكينونة تشمله وتستعمل فيه، إذ أن هذه الذات تمتلك إمكانية كينونة السؤال، وهذا الكائن يصطلح عليه هايدغر اسم (دازاين) الذي معناه: (الموجود هناك). ومن ثمَّ فطرح السؤال الصريح والشفّاف عن معنى الكينونة يتطلب تفسيراً سابقاً مناسباً عن كائن ما (دازاين) بالنظر إلى كينونته ووجوده، فيكون الدازاين في ذات الوقت سائلاً عن معنى الكينونة ومستجوَباً في ذلك السؤال. فالدازاين يمثل نقطة البدء في البحث الفلسفي عند هايدغر. وتشير كلمة هناك في (الموجود هناك) إلى أن الدازاين يتكون جوهرياً من الوجود في العالَم، فضلاً عن دخوله في العالَم.

ويلفت هايدغر إلى أن هذا المعنى، أي كون الدازاين في ذات الوقت سائلاً مستجوَباً، يقود إلى السقوط في مغامرة الدور، لأن ذلك يتطلب أولاً تعيين الكائن (الدازاين) في كينونته، ثم يراد على أساس ذلك التعين طرح السؤال عن الكينونة لفهما أول مرة! وهذا دور واضح لتوقف فهم الكينونة على كينونة الكائن وكينونة الكائن بنفسها كينونة.

لكن هايدغر يرى أمام إشكالية الدور أن مثل هذه المحاجّات الصورية، كالدور في البرهان، عقيمة على الدوام فهي لا تنفع في فهم الأمر المدروس، ولا تعطينا أي شيء غير إعاقة التوغّل قدماً في حقل البحث!

ويمضي مقرراً أن طرح هذا السؤال في الواقع خالٍ من الدور، ومرجع ذلك إلى أن الكائن أو الدازاين يمكن أن يُعيّن ويُعرف في كينونته من دون أن يستوجب ذلك التوفّر على تصور صريح لمعنى الكينونة مسبقاً. ولو لم يكن الأمر بهذه الشاكلة لما أمكن أن توجد معرفة أنطولوجية ليس لأحد أن يجحد قيامها في الواقع!

ويسترسل هايدغر في الرد على إشكالية الدور فيرى أن الكينونة لا بد أن تكون مفترضة بشكل مسبق في كل أنطولوجيا، ولكن ليس بتصور واضح، وإنما بشكل إلماح غير واضح ينتظر التفصيل. أي بشكل وسطي كما تقدم والذي يتحرك من خلاله الباحث أو المستكشف والذي ينتمي في الوقت ذاته إلى قوام ماهية الدازاين نفسه. وفي مثل هذا الافتراض لا يرد الإشكال الصوري بالدور، فليس في المقام ـ كما قرّر هايدغر ـ إجابة عن سؤال من خلال الاستناد لما يُراد استنتاجه لاحقاً، وإنما هو انطلاق من ذلك الإلماح أو الفهم الوسطي للكينونة والذي يشكل مقوماً لماهية الدازاين ذاته، ومن ثمَّ فلا يوجد إشكال الدور في سؤال الكينونة، وإنما القصة تكمن في مناسبة استرجاعية أو سابقة لافتة للنظر بين المسؤول عنه الذي هو الكينونة، وبين السؤال الذي يمثّل من جهة ضرباً من كينونة كائن ما (الدازاين). وبالتالي فإن تأثر السؤال بمسؤوله ينتمي إلى المعنى الأخص لمسألة الكينونة، فيما المقصود هو المعنى الكلي فيه.

ولكنَّ هذا كُلّه لا يُثبت لنا أوليّة الدازاين، ومن ثمّ فهو بحاجة لإثبات.

الأولية الوجودية لمسألة الكينونة

بناءً على ما تقدم فإن سؤال الكينونة يعتبر سؤالاً متميّزاً، ومن ثمَّ فإن بلورته ومعالجته تتطلب جملة من الاعتبارات الأساسية. على أن ملامح مسألة الكينونة ـ كما يرى هايدغر- لن تظهر إلى النور بشكل كامل إلا في حالة تحديد الكينونة بشكل كافٍ من خلال النظر إلى وظيفتها وغرضها ودواعيها، ويتطلّب بالتالي معاودة سؤال الكينونة لشرف منبته من جهة، ولافتقاده إلى إجابة معينة من جهة ثانية، بل انعدام طرح كافٍ للسؤال بعامة، ولأجل ذلك فلابد من معرفة الغرض الذي من أجله يطرح هذا السؤال فهل يتمثّل الغرض في مبدئيته وعينيّته أم قصّة تأمل في أعم العموميات؟

يرى هايدغر أن الكينونة قبل كلّ شيء هي كينونة كائن ما، ومن ثمَّ فإن جملة الكائنات يمكن أن تصبح بحسب جهاتها المختلفة حقلاً صالحاً للدراسة، ووظيفة البحث العلمي تتمثّل بدءاً في أن يقوم بإحصاء المجالات العلمية المادية وتثبيتها على نحو ساذج، لتكون مثل هذه التصورات الأساسية الساذجة المتولدة قبل العمليات العلمية الخيوطَ الهادية إلى الفتح العيني، والتقدّم الأصيل للبحث يكمن في ما ينبجس عن هذه المعرفة المتزايدة بالموضوعات وفي الأسئلة التي تطرح في ظل تلك الهيئات الأساسية.

فالحركة الأصيلة في مختلف العلوم تقدم على أساس مراجعة المفاهيم والنماذج الأساسية مراجعة جذرية، ومستوى كل علم يكون بمدى قدرته على احتمال الأزمة في تصوراته ونماذجه الأساسية، وفي ظل مثل هذه الأزمات تهتز العلاقة بين السؤال الذي يبحث بشكل وضعي وبين القضية ذاتها التي يسائلها، ولأجل ذلك تظهر في كلّ يوم نزعات إلى وضع البحث على أسس ونماذج جديدة.

وينظّر هايدغر لذلك بعلم الرياضيات الذي يعتبر العلم الأشد صرامة والأثبت بنية، فإن هذا العلم بات في أزمة أسس، وأن النزاع القائم بين أهل التصور وأهل الحدس إنما ينصب حول الظفر بنمط الولوج الأولي إلى ما يجب أن يكون عليه موضوع الرياضيات، بمعنى أنه راجع إلى افتقاد طرح سؤال الكينونة. وهكذا الحال في الفيزياء والبيولوجيا وعلوم الروح التاريخية واللاهوت، ومن أجل ذلك فإن المفاهيم الأساسية تمثل التعيّنات التي في ضمنها يبلغ المجال المادي الذي يعرضه قاعدة كل المواضيع التي يدرسها أي علم.

على أن البرهنة الصحيحة على تلك المفاهيم الأساسية وتأسيسها، إنما يتحصل من خلال فحص سابق ملائم للمجال المادي ذاته، أي ولوج بحث الكينونة انطلاقاً من منطقة الكائن ذاته، إذ أن مثل هذا البحث السابق والذي يخلق المفاهيم الأساسية، تعبير آخر عن تفسير الكائن من جهة الهيئة الأساسية لكينونته، ولأجل ذلك فهو يقبع في رتبة سابقة لدراسة العلوم الوضعية.

ومثل هذا البحث ليس ممكناً فحسب وإنما هو واقِعٌ وأعمال أفلاطون وأرسطو طاليس خير دليل على ذلك.

ولكن ألا يقودنا هذا للاختلاط بعلم المنطق؟ فما فرق هذا التأسيس للعلوم عن تأسيس المنطق؟ ويجيب هايدغر أن ثمة اختلافاً جوهرياً، فالمنطق يعرج من وراء ويفحص عن حالة طارئة لعلم معين من جهة منهجه، أو قل هو ينبثق في مجال معين من الكينونة، ومثل هذا الانبثاق يختلف عن الفحص السابق الملائم للنماذج والأسس لكائن ما، فالمنطق يفتتح البحث في ضمن هيئة الكينونة التي من شأنه ويجعل البنى المظفور بها للعلوم الوضعية متوفراً عليها بوصفها توجيهات شفافة للسؤال.

ويعود هايدغر إلى سؤال الوجود ليقرر أن أخذ الأنطولوجيا بمعناها الواسع دون الاستناد إلى توجهات ونزعات أنطولوجية معينة، محتاج بنفسه إلى خيط هادٍ. نعم، السؤال الوجودي بالقياس إلى السؤال الأنطيقي الذي هو شأن العلوم الوضعية أكثر أصالة، ولكنه مع ذلك قد يظل ساذجاً إذا تركت مباحثه معنى كينونة الكائن بلا معالجة. ثم خرج بنتيجة من ذلك قائلاً:

بذلك لا تهدف مسألة الكينونة فقط إلى توفير شرط الإمكان القبلي للعلوم التي تتفحّص كائناً بوصفه هذا الكائن أو ذاك والتي هي بذلك تتحرك بعد دائماً ضمن فهم ما للكينونة، وإنما هي تهدف إلى شرط إمكان الأنطولوجيا نفسها التي توجد قبل العلوم الأنطيقية وتؤسس لها. إن كل أنطولوجيا، وإن توفّرت على نسق من المقولات مهما كان ثرياً وثابت الترابط، إنما تبقى في أساسها عمياء وتبقى انحرافاً عن مقصدها الأخص، إذا هي لم توضِّح قبلاً معنى الكينونة كفاية ولم تتصوّر هذا الإيضاح بوصفه مهمتها الأساسيّة.

ومتى فهم جيداً فإن البحث الأنطولوجي ذاته إنما يعطي لمسألة الكينونة أوليّتها الأنطولوجية، على نحو يتعدّى مجرد إعادة التناول لتراث جليل واستنهاض مُشكلٍ ظلّ إلى الآن غير مكشوف عنه. على أن هذه الأولية العلمية ـ المادية ليست بالأولية الوحيدة[2].

الأولية الكونية لمسألة الكينونة

بدأ هايدغر بإعطاء تعريف للعلم بِأنّه الكل الذي تؤلّفه رابطةٌ تأسيسيّة صحيحة بين قضاياه. وبعد أن أكّد على أن هذا التعريف ليس تاماً ولا يبلغ حقيقة العلم، قرّر أن العلوم باعتبارها سلوك الإنسان لها ضرب من الكينونة التي للإنسان، الذي يحدّه هايدغر بوصفه دازاين.

ويتميّز هذا الدازاين عن أي كائن آخر بشيء ينبغي أن يكون ملحوظاً وسابقاً لكل التحليلات اللاحقة التي ترفع النقاب عنه، فضلاً عن ميزة البحث العلمي.

أما طبيعة ذلك الامتياز؟ فيرى هايدغر أن الدازاين يتميّز من ناحية أنطيقية (كونية) بكينونته نفسها، فلوجوده علاقة بكينونته نفسها، أي أن الدازاين يفهم نفسه بأي طريق كان وأي وسيلة ضمن إطار كينونته، فكينونته مفتوحة لذاته، على أن نفس هذا الفهم نفسه لكينونته يمثل وجوداً خاصاً وكينونة خاصة للدازاين، فتميز الدازاين الأنطيقي وأوليته تكمن في أنه يكون على نحو وجودي، وامتلاكُ سؤال الكينونة نفسُه دليل على أن الدازاين يمتلك بعد فهماً ما للكينونة، ثم نصّ قائلاً:

إن الكينونة ذاتها، التي إزاءها يمكن للدازاين أن يسلك بشكل أو بآخر ويسلك دوماً بأي وجه اتّفق، نحن نسمّيها الوجود. ومن أجل أن تعيين ماهية هذا الكائن لا يمكن أن يتم بالإخبار عن مائيّة [كذا] مادية، وأن ماهيته إنما تكمن على الأرجح في أن عليه في كل مرة أن يكون كينونته بوصفها الكينونة التي تخصّه، فإن لفظة دازاين هي التي اختيرت بوصفها عبارة كينونة محضة من أجل تخصيص هذا الكائن[3].

فالإنسان أو الدازاين بفهم ذاته انطلاقاً من وجوده ومن إمكان وجوده. ومثل هذه الإمكانات إما أن الدازاين قد اختارها بنفسه أو أنه قد وقع فيها أو نشأ عليها منذ أوّل أمره، فالوجود سواء كان اغتناماً أم تفويتاً فهو لا يحسم في كل مرة إلا من قبل الدازاين نفسه، فبواسطة فعل الوجود نفسه تصفّى مسألة الوجود، وفهم الدازاين لذاته في مثل هذه الحالة فهم وجودي، إن مسألة الوجود هي شأن أنطيقي للدازاين، فلا يحتاج بذلك إلى الشفّافيّة النظرية التي هي من شأن البنية الأنطولوجية للوجود. أما السؤال عن هذه البنية فإنما يقصد إلى إيضاح ما به يتقوّم الوجود، ونحن نطلق على ترابط هذه البنى اسم الوجودانية. فإن طابع الفهم الذي يميّز تحليليتها ليس وجودياً بل وجوداني، وإن هذه المهمة المتعلّقة بتحليلية وجودانية للدازاين إنما هي بالنظر إلى إمكانها وضرورتها مرتسمَة سلفاً في الهيئة الأنطيقية للدازاين[4].

ويمضي هايدغر قدماً ليقرر أن الوجود في الوقت الذي يعيّن الدازاين، إلا أن التحليل الأنطولوجي لهذا الكائن (الدازاين)، يحتاج كذلك وفي كلّ مرّة إلى إلقاء لمحة سابقة على الوجدانية، أي على هيئة كينونة الكائن الذي يوجد، والتي تكمن في فكرة الكينونة بعامة، مما يعني أن إنجاز سؤال حول الكينونة العامة ينجز في ذات الوقت تحليل الدازاين، ثم قرّر قائلاً: إنما العلوم طرائق كينونة خاصة للدازاين، بها يسلك أيضاً إزاء الكائن الذي ليس يحتاج هو ذاته لأن يكون. والحال أن الدازاين إنما هو شأنه من حيث الماهية أن يكون في عالم ما. بذلك فإن فهم الكينونة الذي ينتمي للدازاين يمسّ على نحو لا يقلّ أصليّة فهمَ شيء من قبيل العالَم وفهمَ كينونة الكائن الذي هو مولوج إليه داخل العالَم. إن الأنطولوجيات التي تتخذ الكائن الذي طابع كينونته ليس من جنس الدازاين مبحثاً لها، هي تبعاً لذلك مؤسسة ومدفوع إليها ضمن البنية الأنطيقية للدازاين، التي تنطوي على تعيّنٍ ما من الفهم للكينونة، سابق على ما هو أنطولوجي[5].

وهذا يوصلنا إلى ضرورة البحث بداية عن الأنطولوجيا الأساسية التي منها تصدر كل الأخريات في صلب التحليلية الوجدانية للدازاين.

يخلص هايدغر من ذلك كلّه إلى أن الدازاين يمتلك أولية على كل كائن آخر، وأول مصاديق تلك الأولية هي الأنطيقية، أي تعيّن الكائن ضمن كينونته بواسطة الوجود. والثاني هو الأنطولوجية، بمعنى أن الدازاين وانطلاقاً من تعيّن الوجود الذي من شأنه، هو في ذات نفسه أنطولوجي. وفوق ذلك كلّه فإن للدازاين ومن شأنه أن يكون له فهم لكينونة كلّ كائنٍ ليس من جنسه، ويمثّل هذا الفهم أولية ثالثة، وهي أولية أنطيقية أنطولوجية.

وبذلك يجيب هايدغر عن السؤال الذي طرحه آنفاً، بمعنى أن الدازاين هو الذي ينبغي أن يُساءل على الصعيد الأنطولوجي قبل كلّ كائنٍ آخر، فالسؤال الوجودي ينطلق قبل كلّ شيء من وجود الدازاين نفسه، فإن التحليلية الوجدانية إنما هي من جهتها متجذّرة في آخر المطاف على نحو وجودي، وذلك يعني على نحو أنطيقي أنه فقط عندما يؤخذ التسآل الفلسفي الباحث هو ذاته مأخذاً وجودياً بوصفه إمكان الكينونة الذي من شأن الدازاين الذي يوجد في كلّ مرّة، إنما تتوفّر إمكانية الكشف عن وجودانية الوجود ومن ثمة إمكانية النهوض بإشكالية أنطولوجية عامة مؤسسة كفاية. بذلك فإن الأسبقية الأنطيقية لمسألة الكينونة قد أصبحت هي أيضاً بيّنة[6].

وبعد أن قرر هايدغر الأولية الأنطيقية الأنطولوجية للدازاين، استشهد بنص لأرسطو طاليس للتدليل على أن هذه الأولية قد تُفُطِّن لها بشكل مبكّر، قال أرسطو: إن النفس من وجهٍ هي الموجودات نفسها، ذلك أن جميع الكائنات إما محسوسة وإما معقولة، والعلم من أحد الوجوه هو وموضوعه شيء واحد، كما أن الإحساس والمحسوس شيء واحد[7].

فأرسطو في هذا النص يُرجعنا إلى أُطروحة بارميندس (501 - 450 ق. م) الأنطولوجية، تلك الأطروحة التي استأنفها في ما بعد توما الأكويني (1225 - 1274م) ضمن مهمّة استنباط المتعاليات، التي تخرج عن كل تعيّن ممكن للكائن من جهة الواقع والجنس، وعن كلّ ضرب خاص بالكائن والذي ينسب لكل شيء مهما كانت كينونته، وإنما يكون استنباطها بالاعتماد على كائن يتفق في طبيعة كينونته مع كلّ كائن، وهذا الكائن يتمثّل في النفس.

في خاتمة المطاف يرى هايدغر مستنتجاً أن الدازاين إنما ينكشف بوصفه الكائن الذي ينبغي مسبقاً الاشتغال عليه من ناحية أنطولوجية كفاية، إذا أردنا للسؤال الوجودي أن يكون شفّافاً، وفضلاً عن ذلك فإن التحليل الأنطولوجي للدازاين هو الذي يشكّل الأنطولوجيا الأساسية التي ينطلق منها، فالدازاين يقوم بالتالي مقام الكائن الذي ينبغي مبدئياً السؤال عن كينونته، ويكون في الوقت ذاته السؤال موجهاً له نفسه، فهو السائل والمستجوَب.

وأخيراً:

هذا إجمال لسؤال الوجود عند هايدغر، والوقوف التفصيلي لنقده في أصوله ومختلف زواياه يحتاج إلى فرصة أوسع من هذا المقال الموجز، ولكن ذلك لا يعفي عن تسجيل ملاحظات أساسية:

الأولى: لقد ركن هايدغر إلى الفصل بين الوجود والموجود، وهو يدرك جيداً أن مثل هذا التمييز هو من المستحيل، إذ ليس باستطاعة الموجود أن يقترب من الوجود دون أن يحترق فيه، ولا باستطاعة الوجود أن يقترب من الموجود دون أن يتعين به وتتلاشى عموميته، ومن ثمّ فكيف يمكن إيجاد جسر بينهما؟ إن الموجود إنما يتحقق بوصفه موجوداً بالوجود، فالوجود هو الذي يمنح الدازاين التحقق الوجودي الواقعي.

نعم؛ إن هايدغر أكد على أن هذا الفصل راجع لوجود الموجود الإنساني المتميّز، ولكن السؤال الأساس ينصب حول الفارق الوجودي بين وجود الإنسان ووجود بقية الموجودات من الناحية الوجودية الأنطولوجية؟ وهل يمكن إثبات أن الموجودات الأخرى لا تتمتع بما يتمتع به الإنسان من خصائص وجودية وفق الفصل الهايدغري؟

وفي الواقع لا توجد أولوية للبدء من الإنسان في سؤال الكينونة والوجود، إذ مجرد تمتع الإنسان ببعض الخصائص والظواهر التي تميّزه عن غيره من الكائنات، لا تجعله متميّزاً عنها أنطولوجياً ومن حيثية وجودية، فالإنسان وغيره من الموجودات هي التي تشكل الواقع الذي هو الوجود، فالوجود ليس شيئاً وراء وجود الإنسان ووجود غيره من الموجودات، ومن ثمّ فالتمييز بين الوجود والموجود ليس إلا تمييزاً راجعاً لطرائق التعبير اللغوي فحسب.

أجل؛ ثمة تلاعب كبير بالألفاظ، وقد حشا هايدغر سؤال الوجود بجمل غرثى ليست بالحبلى لتلد، ولا تثمر غير ضياع القارئ في تشويش لفظي، فضلاً عن اصطلاحاته الغريبة التي اخترعها، وصارت، كما ينقل لنا بوشنسكي، علةً للتندّر على فلسفته من قبل الوضعيين المنطقيين[8].

الثانية: إن هايدغر وبعد أن فصل بين الوجود والموجود عاد ليقرّر أن الوجود هو الذي يجعل الموجود موجوداً، ولكن إن (موجوداً) ليس صفة للموجود، أي أن الموجود تحقق كوجود، وليس كموجود، فهو صفة للوجود، وحينئذ لا تصمد مفاصلة هايدغر، وذلك أن الموجود هو بنفسه وجود حقيقي ناجز وفعلي طبقاً لتصوره.

الثالثة: لقد أراد هايدغر أن يتخذ من الوجود الإنساني نافذة يطلُّ من خلالها على الوجود، وهذا بنفسه يحتاج إلى التوقّف مليّاً لإثبات جدوائية اتخاذ مثل هذا المنهج الذاتي النفسي في فهم الوجود والتأسيس للأنطولوجيا أو اكتشافها كما أراد هايدغر. ذلك أن الارتحال لعالَم الذات لدراسة الوجود والكشف عنه يسمح بورود المصادرات الشخصية إلى ميدان البحث دون ضابطة وحدود، فضلاً عن افتقاد مثل هذا المنهج لقابلية التحقق من الصدق بصورة موضوعية.

إن الموقف الطبيعي للكائن الإنساني يتناقض مع هذه النزعة الذاتية، فالموقف الطبيعي للإنسان يجد حقيقة الاشتراك في واقع الوجود، وأن حقانية الوجود تكسب شرعيتها من حقانية هذه الحقيقة المشتركة، أما النزعة الهايدغرية الذاتية والاستدارة النفسية، فتريد دراسة الوجود من خلال حياة الوجود الفرد، واستبدال النزعة الشاملة في تفسير الوجود بنزعة ذاتية فردانية، ثم اسباغ الحقانية عليه!

وفضلاً عن ذلك، فظواهر من قبيل الضمير والذنب والخوف والندم، هل يمكن أن ينالها الإنسان ويفهمها فهماً واضحاً ذاتياً؟ إن هذه المسألة ليست من الوضوح بمكان.

وهذه النقطة بالتحديد جعلت محرّر الموسوعة الفلسفية الإنجليزية المختصرة ينصّ قائلاً: وينتظر المرء عبثاً طيلة قراءته (للوجود والزمان) أن يجد ما يلقي ضوءاً كافياً على هذه النقطة، وحين ينتهي الكتاب ذو العنوان الفرعي (النصف الأول) يتوقّع المرء حلاً لهذه المشكلة في (الجزء الثاني)، وهذا الجزء لم يظهر إطلاقاً[9].

الرابعة: بشأن معالجة هايدغر لإشكالية الدّور، فقد رأى أن مثل هذه المحاجّات الصورية عقيمة على الدوام. وفي الواقع هذا الجواب يعود بنا إلى نظرية المعرفة، فليست القصّة صوريةً بحتة كما افترض هايدغر، وذلك أننا في كلّ معرفة واستنتاج معرفي، لا يمكن أن نجعل مطلوبَ الفَهم مقدمة في فهم نفسه! فمثل ذلك يوقعنا في التناقض الواضح، وإشكالية التناقض ليست إشكالية صورية.

[1]*ـ باحث بالفكر الإسلامي ـ أستاذ في الحوزة العلمية ـ العراق.

ـ الكينونة والزمان، مارتن هايدغر: 49، ترجمة وتقديم وتعليق: فتحي المسكيني، مراجعة: إسماعيل المصدّق، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى 2012م.

[2]ـ  الكينونة والزمان: 62.

[3]ـ  الكينونة والزمان: 64.

[4]ـ الكينونة والزمان: 64- 65.

[5]ـ الكينونة والزمان: 65.

[6]ـ  الكينونة والزمان: 66.

[7]ـ كتاب النفس، أرسطو طاليس: 119، الكتاب الثالث، 8، 431 ب 20، نقله إلى العربية: أحمد فؤاد الأهواني، راجعه على اليونانية: الأب جورج شحاته قنواتي، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى 1949.

[8]ـ  الفلسفة المعاصرة في أوربا، إ. م. بوشنسكي: 218، ترجمة: عزّت قرني، سلسلة عالم المعرفة 165، 1992م.

[9]ـ الموسوعة الفلسفية المختصرة: 520 - 525، نقلها عن الإنجليزية: فؤاد كامل، جلال العشري، عبد الرشيد صادق، راجعها وأشرف عليها وأضاف شخصيات إسلامية: د. زكي نجيب محمود، دار القلم، بيروت.