البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

هل تأثر هايدغر بالشيرازي . وكيف؟

الباحث :  نديمة عيتاني
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  5
السنة :  السنة الثانية - خريف 2016 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 1 / 2016
عدد زيارات البحث :  1996
تحميل  ( 267.699 KB )
تبحث هذه المقالة في إشكالية تأثر مارتن هايدغر فيلسوف الوجودية الحديثة، بصدر الدين الشيرازي فيلسوف الحكمة الوجودية المتعالية. ولأجل هذا المقصد أسست الباحثة عملها على محورية كتاب المفكر والمؤرخ الألماني ماكس هورتن الذي صدر تحت عنوان:  «أنظومة الفلسفة عند الشيرازي» في العام (1913). وتسأل عما إذا كان هايدغر استلهم إصطلاحيته الفلسفية عن الوجود ههنا (الدازاين Dasein) مستفيداً من قراءته لمبحث أصالة الوجود عند الشيرازي؟..

نشير إلى أن هايدغر كان معاصراً لهورتن وقارئاً له على غالب الظن، ومن هنا تبدأ فَرضَية هذه المقالة.

المحرر

-----------------

هل تأثر هايدغر باصطلاحية الفيلسوف صدر الدين الشيرازي في مبحث الوجود والكينونة.. وهل كان كتاب الباحث الإلماني ماكس هورتن « أنظومة الفلسفة عند الشيرازي Das philosophische system von shirazi الصادر عام 1913، الحلقة الضائعة التي تكشف عن تأثر هايدغر بالفيلسوف الإسلامي ؟

تبين الدراسة اللغوية ـ المقارنة (الفيلولوجية) أنَّ ثمة تشابهاً يبلغ حد التطابق بين مصطلحات هايدغر في مؤلفة «الوجود والزمان» كالدازاين Dasein (الكائن ههنا ـ الآن) ومصطلحات الشيرازي كالوجود العيني المتحقق في ههنا الوجود في كتاب «المشاعر» أو الوجود المتحقق في ههنا الوجود في كتاب (الأسفار الأربعة).

فهل اطلع هايدغر على اصطلاحية الشيرازي في كتاب ماكس هورتن[2] بالالمانية؟.

يبيّن هورتن في كتابه المشار إليه العناصر المميزة في البناء المعرفي لفلسفة الوجود عن الشيرازي. كما يظهر فراده.. الأطروحات التي قدمها في مجال الحكمة المتعالية ومقولة أصالة الوجود واعتبارية الماهية. في فصل بعنوان الوجود واللاوجود sein und nichtsein أو الوجود والعدم، يطرح ماكس هورتن إشكالية الوجود عند الشيرازي القائلة بأن الوجود حقيقة عينية (ذاتية)، تتعين بالوجود عينه، في ههنا ـ الوجود. والوجود عند الشيرازي، والحال هذه هو الوجود، الذي تقع عليه الوطأة بفعل الكون (كان أو فعل الكينونة ـ عن هايدغر) وهذا التمييز بين الوجود والكينونة الذي نظّر له هايدغر، دشنه، قبلاً، الشيرازي، في التفريق بين الوجود والموجود الذي يقع عليه اسم الإشارة هنا،ههنا (الوجود، ههنا) وهو الذي سماه هايدغر الدازاين Dasein (الوجود، ههنا) وهنا يبلغ تأثر هايدغر بالشيرازي حد التطابق[3].

قد يختلف الشيرازي عن هايدغر، في أولوية البُعد الميتافيزيقي على (الأُنطولوجي) عند الأول عن البُعد الظواهري (الأُنطيقي) عد الثاني، وهذا أمر لا يضير ريادة الشيرازي في مبحث الوجود والكينونة، نظراً للفارق الزماني بين الفيلسوف (كان الشيرازي معاصراً لديكارت في القرن السادس عشر، بينما توفي هايدغر في سبيعنيات القرن العشرين) ولم يكن التطور الفلسفي والعلمي في عصر الشيرازي قد توصل إلى ما وصلت إليه الفينمنولوجيا الظواهرية مع إدموند هوسرل، التي بنى عليها الفلاسفة الوجوديون نظرياتهم في الوجود والكينونة. غير أن القطيعة الإسبتمولوجية (وإن لم يعرف الشيرازي باشلار[4]) قد قامت على التمييز بين الوجود ـ العيني (الكينونة) والوجود العام، الجوهري، والماهوي، وقد نقلت هذه القطيعة مفهوم "الذاتية" إلى ذرى وصدى فلسفية حديثة قامت عليها وجودية هايدغر وسارتر، وميرلوبونتي في الفلسفة الحديثة. وفرضيتنا تقول بأن هايدغر قد تأثر يالشيرازي في هذا المجال.

ولو نحن قرأنا الأطروحات الأساسية لمنظومة الحكمة المتعالية لوجدنا الكثير مما فيها متطابقاً مع فكر مارتن هايدغر، وما طرحه هايدغر في إشكالية الوجود والزمان، متماهياً مع اصطلاحية الشيرازي، في إطار فلسفته العامة.

يُعد صدر الدين محمد بن براهيم الشيرازي القوامي، الملقب بالملاّ صدرا أو « صدر المتألهين» (توفي عام 1050هـ * 1645م) مؤسساً للفلسفة الوجودية الإسلامية الحديثة، وهي فلسفة تقوم على فكرة أصالة الوجود، مقابل فكرة أصالة الماهية، من الوجهة الميتافيزيقية، وعلى فكرة الحركة الجوهرية، من الوجهة الطبيعية (الفيزيقية) أو الفيزيائية.

برزت فلسفة الحكمة المتعالية، كمدرسة فلسفية مستقلة، مقابل المدرسة المشائية (فلاسفة الإسلام من الكندي حتى ابن رشد) وحكمة الإشراق (السهروردي) وصوفية ابن عربي وفي مقابل الخط الأشعري (الغزالي) والحنبلية الجديدة (ابن تيمية) التي رفضت الفلسفة والمنطق بالكلية، كخطاب ( «تهافت الفلاسفة» (الغزالي) و«الرد على المنطقيين» و«نقض المنطق» عند (ابن تيمية).  جاءت فلسفة الشيرازي في الحكمة المتعالية ـ من الوجهة التحقيقية ـ لتؤكد استمرارية الفلسفة في المشرق بعد أفولها في المغرب، في العصر الحديث.

والفلسفة ـ عند الشيرازي ـ في تعريفها، هي استكمال النفس الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليها، والحكم بوجودها تحقيقاً بالبراهين لا أخذاً بالظن والتقليد، بقدر الوسع الإنساني. أو نظم العالم نظماً عقلياً على حسب الطاقة البشرية[5].

موضوعية العلم الإلهي

تقوم الفلسفة الإلهية عند الشيرازي على موضوعية العلم الإلهي (الميتافيزيقي) بناء على مبدإ «أولوية الوجود على الماهية»، ومبدإ أصالة الوجود. فالوجود برأيه لا سبب له، وهو أولى بالموجودية من غيره، وهو متقدم على جميع الموجودات بالطبع، وكذا وجود كل واحد من العقول الفعالة على وجود تاليه، ووجود الجوهر، المتقدم على العرض، في وحدة الجوهر والعرض في ههنا الوجود الآني.

ـ للوجود حقيقية عينية، هي خصوصية وجوده التي تثبت له، فالوجود أولى من ذلك الشيء ـ بل من كل شيء ـ بأن يكون ذا حقيقة، كما أن البياض أولى بكونه أبيضَ مما ليس ببياض ويعرض له البياض.

ـ الحقائق الوجودية هويات بسيطة، ليس لها معنىً جنسيٌ (الجنس) ولا نوعيٌ (النوع) ولا كليٌّ مطلقاً، بل الوجودات هويات عينية ومتشخصة بذواتها، من غير أن توصف بالجنسية، والنوعية والكلية.

وفي ردوده على التشكيكات بمبدإ أصالة الوجود العيني رأى الشيرازي أن الواجب لذاته ـ بعكس نظرية الواجب والممكن السينوية ـ هو واجب من جميع جهاته، وبالتالي لا يمكن أن يكون الواجب لذاته متعيناً ومتعلقاً بغيره.

ـ واجب الوجود واحد لا بمعنى أن نوعه منحصر في شخصه، وإنما وجوده هو غير وجوده في مرتبة وجوده. وفي هذا تتلاقى فلسفة الشيرازي مع الفلسفة الشخصانية، باعتبار الشخص هو الفرد، جمعية العقل والروح والجسد في وحدة الشخص (الإنسان الكامل)، وهو الشخص ـ الكائن في علاقة الكينونة الكبرى (الحق مقابل الخلق). هو ذا الفرق بين الإنية الوجودية الرحمانية والأنانية الوجودية، الرافضة لوجود الآخر، وللبعد الإلهي للإنسان، في علاقة الكائن بالكينونة.

يطرح الشيرازي في فلسفته للحركة الجوهرية مبدأ الحدوث الدائم (سيلان الوجود)، وهذه الفكرة تتلاقى مع فكرة هيراقليطس (جدلية السيرورة والصيروة) وفكرة المعتزلة ـ وابن رشد ـ في الحدوث الدائم ـ وكذلك برغسون في الديمومة. ومفاد نظرية الحدوث الدائم، أو الخلق المستمر أن أفعال الله قديمة ـ متجددة متتابعة، متلاحقة، آخرها لاحق لأولها وأولها سابق لآخرها، وهو ما تسميه نظرية الكوانطا الحديثة الحركة التموُّجية، وبهذا لا يعود الوجود مشروطاً بالعدم، والعدم بالوجود، وإنما بالجدلية الديالكتيكية.

والوجود هو الوجود عينه، الموجود بذاته، وهو الوجود الذي تقع عليه الوطأة بفعل الكون «كان» واسم الكون (الموجود) والفارسية «هست»، وهو الوجود العيني المتحقق في ههنا الوجود.

تتميز هذه الأطروحة بالتأكيد على الواقعية في الفكر الفلسفي، المتمثلة في مباحث الوجود، القديمة والحديثة.

وهي تؤكد ريادة الفيلسوف صدر الدين الشيرازي في الفلسفة الإسلامية والوجودية الحديثة، وفي العلاقة بين فلسفة الوجود عند الشيرازي ومباحث الوجود في الفلسفة الكلاسيكية القديمة والحديثة؟

أما الفرضيات التي انطلقنا منها فندرجها بالنقاط التالية:

-1  تجاوز الشيرازي النظريات السابقة (السينوية، والرشدية والتومائية) التي تقدم الذهني على العيني والكلي على الجزئي، والماهية على الوجود.

-2 تقدم على معاصره ديكارت في مسألة الكوجيتو فبدلاً من أولوية الفكر على الوجود (أنا أفكر إذن أنا موجود) طرح الشيرازي مبدأ الإنية بإعتبارها إنية موجودة « أنا موجود إذن أنا أفكر».

-3 وبما أن الإنية هي الذاتية المفكرة فإن الشيرازي يكون قد سبق كيركجارد في مسألة الذاتية التراجيدية، (وفي إكتشاف مفهوم الذات والذاتية).

بين (الدازاين)  وها هنا الوجود

وهنا نصل إلى مقصد مقالتنا في جدلية التلاقي والتناظر بين هايدغر والشيرازي.

لا ريب أن لمصطلح هايدغر في «الوجود والزمان» (الدازاين) (الكائن ههنا ـ الآن) أساساً في مصطلح الشيرازي ههنا ـ الوجود (كتاب المشاعر) أو الوجود العيني المتحقق في ههنا الوجود (الأسفار الأربعة).

لقد حدد الشيرازي الوجود بالعدم، في أولوية الوجود بالعلاقة مع العدم Nichtsein (كعنصر من عناصر الوجود) بالمقارنة مع سارتر. وهكذا يتلاقى مفهوم الحركة الجوهرية مع مفهوم الديمومة الزمكانية عند برغسون. ولكن يبقى السؤال النقدي، في مقارنة وجودية هايدغر مع مفهوم الوجود عند الشيرازي:

هل تأثر هايدغر بإصطلاحية صدر الدين الشيرازي من خلال كتاب ماكس هورتن «أنظومة الفلسفة عند الشيرازي»؟

في مبحث أصالة الوجود: يقول الشيرازي في المشعر الثالث (في تحقيق الوجود عيناً أن الوجود أحق الأشياء بأن يكون ذا حقيقة موجودة) وعليه شواهد عدة.

أ ـ إن حقيقة كل شيء وجوده الذي يترتب عليه آثاره وأحكامه وهو حقيقة كل حقيقة.

ب ـ المفهومات التي لها أفراد خارجية هي عنوانات صادقة عليها. ومعنى كونها متحققة أو ذات حقيقة أن مفهوماتها صادقة على شيء، صدقاً بالذات ضرورياً.

ج ـ إن مفهوم الحقيقة أو الوجود ـ الذي هو بديهي التصور ـ يصدق عليه أنه حقيقة أو وجود حملاً متعارفاً، إذْ صدق كل عنوان على نفسه لا يلزم أن يكون بطريق الحمل المتعارف، بل حملاً أولياً غير متعارف.

د- إن الشيء الذي يكون انضمامه مع الماهية أو اعتباره معها مناط كونها ذات حقيقة، يجب أن يصدق عليه مفهوم الحقيقة أو الموجودية.

هـ - الوجود موجود بذاته لا بغيره[6]

ـ الوجود والعدم: لو لم يكن الوجود موجوداً، لم يوجد شيء من الأشياء، في بيان الملازمة بين الوجود والماهية. وبيانه أن الماهية إذا اعتبرت بذاتها مجردة عن الوجود، فهي معدومة، وكذا إذا اعتبرت بذاتها مع قطع النظر عن الوجود والعدم، فلو لم يكن الوجود موجوداً في ذاته، لم يمكن ثبوت أحدهما للآخر.

ـ إن موجودية الأشياء بانتسابها إلى واجب الوجود كلام لا تحصيل فيه، لأن الوجود للماهية ليس كالبنوة للأولاد حيث يتَصفون بها لأجل انتسابهم إلى شخص واحد واتصافها بالوجود ليس إلا نفس وجودها[7].

ويرى الشيرازي أن نقيض الوجود هو العدم أو اللاوجود، لا المعدوم أو اللاموجود. وكل موجود واجب بالذات، إذ لا معنى لواجب الوجود إلا ما يكون وجوداً ضرورياً، وثبوت الشيء لنفسه ضروريٌّ (الشيرازي، كتاب المشاعر، المشعر الرابع، في دفع شكوك أوردت على عينية الوجود ص 68-69).

- الوجود ههنا: هو الوجود الذي تقع عليه الوطأة بكلمة «هست» الفارسية أو «هذا الوجود، ههناً».

أصول الفلسفة الوجودية اليونانية

تعود إشكالية الوجود في الحكمة ما قبل ـ السقراطية (بارمنيدس ـ جورجياس ـ هيراقليطس) في مبحث الوجود التسلسلي (جورجياس) والوجود الموجود (بارمنيدس ) والوجود المتحرك (هيراقليطس).

الوجود بالنسبة إلى جورجياس، هو الوجود المتسلسل وبما أنه ثمة وجود للوجود، فلا وجود، إذا هو الوجود المشروط بالعدم.

والوجود عند بارمينيدس هو الموجود، وهو وجود واحد، وثابت، «مبدأ ثبوتية الوجود».

والوجود عند هيراقليطس هو الوجود المقترن بالحركة، الديالكتيكية، الكمية، والكيفية (السيرورة والصيرورة) هو الوجود الديناميكي (النسبي والاحتمالي بالمعنى الحديث للكلمة).

تبيّن المقارنة النقدية بين الفلسفة الوجودية عند الشيرازي والفلاسفة المسلمين الكندي (الأيس والليس) الفارابي (نظرية العقول العشرة) وابن سينا (الواجب والممكن) أن المسلك البحثي عند الشيرازي قام على الوسطية، وبنى نظرية المعرفة على الجمع ما بين الحكمة والعرفان، بمنأى عن الاعتقاد العامي والفقهي، القائم على التقليد، والاعتبار الصوفي القائم على المعرفة الدينية والإشراق، وطريقة الكلام والمجادلة، كما خالف الاتجاه الفلسفي (المشائي) القائم على « البحث البحت» في معرفة « حقيقة الحقائق» وآثر طريقة الفلسفة الإلهية والحكمة المتعالية.

أما الفكرة الوجودية الريادية فتظهر عند الفيلسوف الشيرازي في مبحث أصالة الوجود فالوجود عند الشيرازي هو الوجود عينه، والماهية متحدة بالوجود ـ بمنأى عن فكرة الوجود بالفعل والوجود بالقوة الأرسطية ـ وهي، أي الماهية، ليست معروضة له، كما هو الأمر عند المشائين، ولا عارضة له، كما هي عند المتصوفة، ونقيض الوجود عنده هو العدم لا المعدوم (اللاموجود) كما هو الأمر في نظرية الواجب والممكن السينيوية.

بين فلسفة الشيرازي والفلسفة الحديثة

من كيركجارد إلى سارتر: تطور مفهوم الوجود والكينونة بدءاً من اكتشاف مفهوم الذاتية عند كيركجارد ومعارضته للذاتية الهيغلية، مروراً بالكانطية المحدثة التي أكدت على مفهوم العينية والآنية، مروراً بمفهوم الشخص؛ فمقابل الهيغلية ونظامها الكلي الشمولي، أكدت الفلسفات النقدية ـ الجديدة، على الحقائق الممكنة في التاريخ والعالم، وعلى قاعدة المعارضة للموضوعية الشمولية أكدت على "الذاتية"، وعلى "الكائن الشخصاني" بصفته الزمكانية (الزمنية ـ المكانية) وعلى أولية الوجود على الفكرة والفردي على العمومي.

ويعد إدموند هوسرل بمنهجه الظواهري العلمي الجسر الذي قامت عليه الوجودية الحديثة، وجودية هايدغر وسارتر وظواهريته (الفينومينولوجية)، انطلاقاً من مؤلفات هوسرل (تأملات ديكارتية أو مدخل إلى الفينومينولوجيا).

وتصل الوجودية، كعلم للكينونة، بذاتها، مع هايدغر إلى ذروة منهجية، من خلال ربط مفهوم الكينونة بمفهوم الدازاين «الكائن ـ الموجود ههنا»، وهي النظرية التي تبحث في الوجود كموجود كائن في زمانية الوجود العالمي».

إن مقارنة آراء هايدغر في الوجود والماهيّة، مع نظريات الشيرازي، تبين أن فلسفة الأول كانت فلسفة ظاهراتية بينما فلسفة الثاني (صدر الدين الشيرازي) ميتافيزيقية.

والحق أننا نجد في البحث الأنطولوجي تشخيص نقاط ممكنة القياس بآراء الشيرازي، إذ يقترب هايدغر في تعريفه الوجود المحض، والوجودات الخاصة وسماتها ومميزاتها من بعض أفكار الشيرازي: الوجود كأرضية مشتركة لكل الأشياء والوجود الذي لا يمكن تصوره والنظر اليه من زاوية تقع خارجه، كما يتعذر استنتاجه من قاعدة أو مبدإ، أو إرجاعه إلى مبدإ.

غير أن هايدغر يرى أن الظواهر، وحدها، ممكنة المعرفة، بينما يذهب الشيرازي إلى إمكانية معرفة حقيقة الوجود وظهوره في الماهيات الأولى.

وتبيان ذلك أن الشيرازي في المشعر السابع يربط المجعول بالذات بالجاعل والمفيض بإعتباره علة الوجود. ويرفض مبدأ المجعول بالذات، على المذهب الرواقي، كما يرفض مبدأ الموجود بما هو موجود، أو الصادر بالذات، والمجعول بنفسه في كل ما له جاعل. ويرى أن وجود المعلول متقوّم بوجود علته، تقوّم النقص بالتمام، والضعف بالقوة، والإمكان بالوجوب؛ والمجعول بالحقيقة هو الوجود، وهو من فعل الله (ورحمتي وسعت كل شيء) «الأعراف الآية 156».

أما مفهوم الوجود عند هايدغر فهو أقرب إلى الكينونة (sein) منه إلى مفهوم الوجود existenz. والكينونة عند هايدغر هي الدازاين، الكائن ـ ههنا، وهو سؤال ذو طبيعة أُنطيقية ontique أولاً، لا أُنطولوجية ontologique، أي كينونة محضة، ظواهرية، غير مجعولة، ولا مخلوقة: وبناء على ذلك نجد أن تصور هايدغر للكينونة يقوم على ما يلي:

1- إن الكينونة هي التصور الأكثر كلية «إن فهماً ما للكينونة متضمن في كل ما يدركه المرء من الكائن».

2- إن تصور الكينونة إنما هو غير قابل للتعريف، وهذا يستنتجه المرء من كليته القصوى.

3- إن الكينونة هي تصور المفهوم ـ بنفسه، في كل معرفة وتلفظ وسلوك إزاء الكائن، وفي كل سلوك ـ إزاء ـ الذات ـ بلا زيادة وذلك يعني ألا نعين الكائن من حيث هو كائن ضمن مصدره بالرجوع إلى كائن آخر[8].

أما سارتر فيعالج في كتابيه «الوجود والعدم» و«الوجودية فلسفة إنسانية» مسألة الوجود الظواهري وعلاقة الوجودية بالحرية، وأولوية الوجود على الفكر بإعتبارها أُس وأساس الوجودية الإنسانية؟

وفي مقارنة مفهوم الوجودية بين سارتر والشيرازي نجد سارتر يحدد إشكالية كتابه ـ في العنوان نفسه «الوجود والعدم» ـ بأنه بحث في الأنطولوجيا الظواهرية، ومفهومه للوجود الظواهري هو بمعنى الكينونة ـ لذاتها L’être en soi وهو وجود الأشياء والعالم، ووجود الظاهرة في ملاء الوجود[9]

الحركة الجوهرية ونظرية الكوانطا

ثمة بُعد آخر لريادة الشيرازي الفيلسوف هي في مقالة ومقولة الحركة الجوهرية التي تعود في أصولها إلى العالم الإسلامي جابر بن حيان (مبدأ الدُربة: «في الأشياء كلها وجود لكل الأشياء» وهي المعادل وَالأساس للنظرية الهيراقليطية ـ الإسلامية الذي قامت عليها نظرية الكوانطا الاحتمالية الحديثة، في مجال العلوم المختصة باللامتناهيات في الصغر والحركة البراونية (التموجية) حيث نجد المادة عبارة عن حزمة من الطاقة، مما يؤكد على البعد الدينامي للطاقة وليس مجرد الفعل الحركي القائم على الفعل ورد الفعل كما هو الحال في الفيزياء النيوتونية.

وتبين المقارنة بين الحركة الجوهرية عند الشيرازي، ومفهوم الديمومة عند برغسون من جهة فيزيائية ـ فلسفية وجودية (كتابا "التطور الخالق"، و"الفكر والمتحرك"، عند برغسون) مفهوماً تتشابه فيه مقولة الحركة الجوهرية بمقولة الديمومة Durée أي الحركة الجوهرية القائمة على جدلية السيرورة الكمية، والصيرورة النوعية، في الحركة الفيزيائية، اللامتناهية في الصغر، على الصعيد الميكروي (المادة الصغرى) والماكروي (المادة الكبرى) مادة الذرات الكهرومغنطيسية (البروتون والنيوترون) ومشتقاتها في الحالة الأولى، ومنطق المادة الطبيعية في الحالة الثانية. وهنا يتلاقى مفهوم الحركة الجوهرية عند الشيرازي بمفهوم الديمومة الزمكانية عند برغسون.

تؤكد الوقائع ريادة الشيرازي في فلسفة الوجود الإسلامية، والفلسفة الحديثة، مع إظهار التقارب ما بين فلسفة الشيرازي والفلسفة الوجودية ـ الروحانية (كيركغارد، الفلسفة الشخصانية) وكذلك إظهار التقارب والتوارد بين فلسفة الشيرازي الطبيعية في الحركة الجوهرية ونظرية هنري برغسون في الديمومة، من جهة، ونظرية الكوانطا الفيزيائية من جهة أخرى.

ومقارنة مفهوم أولوية الوجود على الفكر بالمقارنة مع ديكارت (أنا أفكر إذن أنا موجود ـ أنا موجود إذن أنا أفكر) ومقارنة مفهوم الحكمة المتعالية مع مفهوم العقل المحض (المتعالي الترانسندنتالي عند كانط).

وأخيراً نقد فلسفة الشيرازي بالمقارنة مع هايدغر: الفرق بين الوجودية الظواهرية والوجودية الميتاقيزيقية.

وتظهر المقارنة بين مصطلحات الشيرازي، بالمقارنة مع اصطلاحية هايدغر، الوجود ـ ههنا ـ والدازاين (الوجود ههنا ـ الآن أو الآنية أن هايدغر لابد، قد اطلع على كتاب ماكس هورتن «الأنظومة الفلسفية عند الشيرازي» وتأثر بها في صياغة مفاهيمه الوجودية حول الكائن والكينونة، والزمان الوجودي، المشروط بالعدم.

المصادر والمراجع

أفلاطون: المحاورات الكاملة، ترجمة شوقي داوود تمراز، الأهلية للنشر والتوزيع بيروت د.ت.

أرسطو: ما بعد الطبيعة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995.

ابن سينا: الشفاء، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1975

الفارابي: كتاب السياسة المدنية (الملقب بمبادئ الموجودات ) المطبعة الكاثولوكية، بيروت 1974.

عبد الرحمن بدوي: الإنسانية والوجودية في الفكر العربي؛ بيروت 1982.

عبد الرحمن بدوي: الزمان الوجودي، دار الثقافة 1945.

هنري بوانكاريه: قيمة العلم، ترجمة الميلودي شغموم، دار التنوير، بيروت 1982.

جان بول سارتر: الوجود والعدم، بحث في الانطولوجيا الظاهراتية، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الأداب، بيروت 1966.

طراد حمادة: أوائل المقالات في الصدرائية الجديدة، دار المحجة البيضاء، 2008.

أطروحة الدكتور طراد حمادة: الله والعالم والنفس عند صدر الدين الشيرازي – السوربون، باريس، 1993.

صدر الدين الشيرازي، "الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة "منشورات مصطفوي، قم، د.ت.

صدر الدين الشيرازي، كتاب المشاعر، أنستيتيو إيران، فرنسا، تحقيق هنري كوربان.

عبد السلام عبد العالي، هايدغر ضد هيغل ( التراث والإختلاف )، الناشر: المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ودار التنوير للطباعة والنشر بيروت 1985.

يوسف كرم، العقل والوجود، دار المعارف بمصر 1964.

يوسف كرم الفلسفة اليونانية، مكتبة النهضة المصرية 1966.

إدمون هوسرل، فكرة الفينومينولوجيا، ترجمة د. فتحي أنقزو، المنظمة العربية للترجمة، 2007.

إدمون هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية الفينومينولوجيا، الترنسندنتالية، ترجمة اسماعيل المصدق، المنظمة العربية للترجمة 2008.

مارتن هايدغر ـ الكينونة والزمان، ترجمة د. فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد، بيروت 2013.

 Max Horten. Das Philosophisch system von shirazi,

ED.Biblio life ،1913.  

Kierkegaard. l’existence. P.U.F 1967 PARIS.

J.P. Sartre L’être et le Neant، Gallimard 1943.

J.P. Sartre l’existentialisme est un humanisme ,Negel,Paris 1970.

Henri Bergson, la pensée et le mouvant P.U.F ed. Paris،1950.

Henri Bergson l’évolution créatrice, P.U.F,Paris ,1983 

[1]*- باحثة في الفلسفة ـ لبنان. 

[2]ـ صدرت الطبعة الأولى عن دار Karl. J. Turbner أما الطبعة الحديثة فهي عن دار Biblio life وقد حافظت الدار الجديدة على تاريخ الكتاب القديم (1913).

[3]-انظر: Max Horten, Das philosophische system von     

[4]- Schirazi. Ed.Biblio Lifem Strassburg,1913, p.p12.    

[5]ـ صدر الدين محمد الشيرازي، الحكمة المتعالية في الاسفار الاربعة. تحقيق وتعليق الملّا هادي السبزواري.دار المحجة البيضاء، الطبعة الاولى 1432هـ 2011م (4 أجزاء).

[6]ـ (كتاب المشاعر ص 60 – 63).

[7]ـ المصدر نفسه ـ ص63.

[8]ـ (كتاب هايدغر الكينونة والزمان) (مارتن هايدغر « الكينونة والزمان» ترجمة د. فتحي المسكيني ـ دار الكتاب الجديد ـ بيروت 2012 ص 49 ـ 56.

[9]ـ (جان بول سارتر، الوجود والعدم، بحث في الإنطولوجيا الظاهراتية دار الآداب بيروت 1966 ت: عبد الرحمن بدوي).