البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مارتن هايدغر - سيرته الذاتية، فلسفته، وأبرز أعماله

الباحث :  رشا زين الدين
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  5
السنة :  السنة الثانية - خريف 2016 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 1 / 2016
عدد زيارات البحث :  1321
تحميل  ( 417.521 KB )
عُرِفَ الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889م ـ 1976م)، لدى قرَّاء العربية منذ ما يقرب من نصف قرن، وقد ترجمت بعض محاضراته وأبحاثه إلى اللغة العربية. وعلى العموم يتميز هايدغر بغزارة إنتاجه الفكري؛ حيث بلغ ما صدر من أجزاء لأعماله الكاملة نحو أربعة وسبعين مجلداً. وقد تنوعت أبحاثه وتعددت حتى غطت شتى المباحث الفلسفية تقريباً. ولذا لابد من الإشارة إلى أن حياة هايدغر العلمية شهدت تطورات ومنعطفات كان لها تأثيرات حاسمة على أطروحاته ونظرياته الفلسفية.

في ما يلي عرضٌ عام لأبرز  المحطات في سيرته الشخصيّة والعلميّة بالإضافة إلى أهمّ الأعمال والمؤلفات التي نشرت له.

المحرر

------------------

يُنظر إلى هايدغر على أنه «مفكر شديد الأصالة»؛ لأن دأبه وديدنه في كل ما يتناوله بالبحث العودة إلى الأصل. وهو في الوقت ذاته يتخذ سنداً له من تاريخ الفلسفة، وبخاصة من الفلاسفة السابقين على سقراط في كل منحى ينحوه.

ولأنه لم يسلك الطريق الأسهل، وفضَّل شق الدروب الوعرة ولم يدخر وسعاً في البحث عن الحقيقة، فقد تعرض لهجوم قاس وعنيف، ووُصِفَ تفكيره بأنه شديد الصعوبة. بل لقد اعتبر بيتر فوست أن أفكاره هي «أحجية عظيمة». وهو «يتبع ذلك الضرب المرهق العنيف من الاشتقاقات اللغوية».

وبصرف النظر عما أُلصق به من تُهم وتأويلات فإن معظم الباحثين في فلسفة هايدغر يجمعون على فكرة أساسية سيطرت على تلك الفلسفة، وهي التفكير بالوجود نفسه. أي التفكير في معنى ان يكون الإنسان موجوداً، وليس في ما ينجم عن وجوده أو ما يتصل بالاشكاليات المتعلقة بذلك الوجود. وهذه الفكرة هي أساس لانطولوجيا قوية، حيث الاولوية للتفكير بالإنسان باعتباره «وجوداً»، في الكون والزمان. فقد حاول هايدغر اكتناه الوجود (حين أشار اليه بالكلمة الالمانية «زاين» Sein) باستخدام التحليل الظواهراتي (الفينومينولوجي) للوجود الإنساني (اشار اليه بكلمة «دازاين» Dasein)، أي بتحليل مواصفاته في الزمان والمكان. واعتقد ان الوعي في محتوياته قابل للوصف في شكل غير متحيّز، أي في طريقة وصفية.

عرض هايدغر تلك الفكرة بعمق ضمن مؤلفه الذائع الصيت «الوجود والزمان. قد ترجم اجزاء منه إلى العربية المفكر المصري الراحل عبد الرحمن بدوي تحت عنوان «الكينونة والزمن». في هذا المؤلف وجه هايدغر نقداً جذرياً إلى المجتمع التكنولوجي الغربي. وانتقد اتكاء ذلك المجتمع على خطاب مضمر قوامه إعطاء مكانة مركزية للعلم والتكنولوجيا. واعتبر ان ذلك الخطاب لا يستطيع حل معضلات الحضارة الإنسانية، ولا يصلح كأساس للفكر الإنساني، لأن جوهر التقنية لا يكمن في التقنية، بل في المحمولات المضمرة فيها. وذهب إلى القول إنّ جوهر ما يُسمى بالخطاب العلمي للغرب لا ينبع من العلم، ولا يستطيع ذلك، بل يعبر عن موقف ميتافيزيقي للعقل الإنساني يقدم العلم بصفته وعداً بسيطرة الإنسان على العالم[2]. وعُرف هايدغر بنقده مدرسة الوضعية المنطقية (تُسمى أحياناً بالايجابية المنطقية) التي قادها الفيلسوف رودولف كارناب مؤسس ما عُرف باسم «حلقة فلاسفة فيينا». وبدا موقفه مخالفاً و«عدمياً»، خصوصاً في ظل الاحتفاء بالعلم الذي ساد التفكير الفلسفي في القرنين التاسع عشر والعشرين.

شهدت الفترة التي عاشها هايدغر تغييرات كبرى أحدثتها الثورة الصناعية الميكانيكية ثم الالكترونية. فقد تمكن الإنسان في تلك الفترة من أشياء بدت بالنسبة إليه كأنها أحلام اسطورية، مثل الطيران وصنع الآلات الميكانيكية والنظر إلى اعماق الكواكب وفي دواخل الخلايا الحيّة والمركبات الآلية وتوليد الطاقة. بالإضافة إلى منجزات علمية لم تعرفها البشرية من قبل.  في هذه الحقبة بدات العلم كأنه قوة هائلة، وسرعان ما مال التفكير الفلسفي حيال العلم إلى اعتباره خلاصاً غنوصياً. وعلى سبيل المثال فإن وصف الاحتفال بالعلم ينطبق على كارل ماركس، الذي لم يرَ للفلسفة شأناً سوى محاولة استخلاص قواعد عمل من العلوم، وتطبيقها على الفكر والتاريخ والمجتمع. وينطبق ذلك أيضاً على نقيضيه الرأسماليين من المدرسة البراغماتية هنري برغسون وجون ديوي. لكن هايدغر غادر هذه النمطية من الاحتفاء بالعلم، ليقول ان ما يُحتفى به هو فرح الإنسان بالسيطرة على الأشياء من حوله، وان ذلك يؤول على انه سيطرة للانسان على العالم. وبالنسبة إلى الفيلسوف الذي لام الفلاسفة لانهم انشغلوا أصلاً بالكائن الإنساني، وما يحيط به، بدلاً من تركيز التفكير على ماهية ذلك الوجود، بدا الاحتفال بالعلم وكأنه الذروة في مسار لم يقبله. لذا، مال كثيرون إلى وصف موقف هايدغر من العلم بالعدمية (النيهيلية)، على رغم انه يُقدّم تفكيراً في العلم، يأخذ مسافة ليتأمل الظاهرة العلمية من دون الانشداه بها، ويصف موضعها في مجمل الفكر الإنساني. أما مجمل ما توصل إليه في هذا الشأن فهو ان الخلاص ليس بالعلم، بل بالعقل.

وجود الإنسان، عند هايدغر، نوعان؛ الاول وجود أصيل ينتابه القلق للبحث عن ذاته، وحقيقته، ووجود أصيل يهرب من القلق بـ: (الثرثرة اليومية، التسلية، الالتباس)، وهو يرى ان الوجود الأصيل هو الذي يمنح العالم معنى.

يقول في هذا المضمار: «في القلق يكون المرء» في وحشة/الوطن(Unheimlich). وإن في ذلك لتعبيرا أول عن اللاّعيّن الأصيل الذي لدنه يجد الد ّازين نفسه في القلق: الشيء ولا مكان. وتوضيح المعنى الكياني للوجود ـ من حيث اختلافه عن الدلالة المقولية للــ «باطنية»، قد عيِّن الوجود ـ  بوصفه سكناً- لدى... ووجوداً ـ مألوفاً مع... وإن طابع الوجود  ـ في هذا قد جُعِل من بعد ذلك منظوراً بشكل أكثر عينية بواسطة العمومية اليومية للهم، الذي يجلب الطمأنينة الساكنة، «الوجود- في- بيته» (Zuhause-sein) المفهوم ـ بنفسه إلى صلب اليومية الوسطية للدّازين. أما القلق فإنه على العكس من ذلك يسترد الدازاين من انهماكه المنحط داخل «العالم». فتنهار المألوفية اليومية في نفسها. إن الدأزين إنما هو مفرد، لكنه مفرد بوصفه وجوداً ـ في ـ  العالم. إن الوجود ـ في يأتي في [هيئة] «الضرب» الكيانوي الذي من شأن ما ليس ـ في  ـ  بيته (Un-zuhause). ولا شيء يعنيه الكلام على «اللاوطن» غير ذلك»[3].

هذا الافتراض يفضي حسب هايدغر إلى الوقوف على حقيقة «أن العالم قد أخذ طابع لا مدلولية تامة (Unbedeutsamkeit volliger) تخترق فهم الدّازين لنفسه من كل جهة. بيد أن ذلك لا يعني  تبدد العالم، فالعالم كان دوماً هنا، أي منفتحاً مانحاً للدّازين جهة ما للتوجه. ولكن هل لا يزال للجهات من معنى؟ ان القلق «لا يرى» (Sieht nicht) أن ثمة «هناك» (Hier) أو «هنالك» (Dort) يمكن الاقتران معه: فإن من شأن القلق «اللاّمكان» (Nirgends)؛ في حين ان اللاّمكان ليس «لا شيء» (Nichts) بل هو ينطوي على «ناحية ما بعامة، [على] انفتاح ما للعالم بعامة»[4]. ثم إن مامنه يكون قلق، هو وضع عمومي ويومي يلتبس بعالمية العالم، فيفقد معه الموجود-تحت-اليد كل تعيُّن وكل مدلولية. فبفقدان التعيُّن يصبح كل موجود داخل العالم «لا شيء»؛ وبالخلو من كل مدلولية يتصيّر كل موجود في «لا مكان». ولكن ماذا يبقى عندما تتبدد الموجودات التي داخل العالم؟ إنه ما كان ليبقى سوى حضور»العالم بما هو عالم» (die Welt als Welt).

إن رأس الأمر في القلق هو أنه «يفرّد» (Vereinzelt) الدّازين، بل يجعله يستقي من «اتفرد» (Vereinzelung) إمكانية وجوده: إن القلق هو ما يكشف عنه «بوصفه [مجرد] موجود- ممكن» (als Moglichsein) لا غير[5].

هايدغر والمسيحية

لم يكن هايدغر غائباً في قلقه الوجودي عن الهم الديني. فقد بحث في ظاهريات الدين، من خلال فصول بعض كتبه ومحاضراته، مثل محاضرته (ما الميتافيزيقا؟)، التي ألقاها عام 1929م، في جامعة فرايبورغ، ومحاضرة (فينومينولوجيا الدين) في الجامعة ذاتها. كان هايدغر يرى ان السؤال عن الله يختلف كلياً عن السؤال عن أي شيء آخر، وكا يصرح بوضوح بأن (الإلهي وحده هو الذي ينقذنا). وكان يرى انّ لـ: (الله بعدين فلسفيين؛ الاول ثيولوجي، وهو المهم الذي يعرفنا بالألوهية (التي رأى هايدغر أنها تسبق الله)، وأنهاه مقصد الدين والفلسفة معاً، والثاني انتربولوجي ويتعلق بالموجودات والطقوس وغيرها وهو ما لا يرى هايدغر له أي أهمية. أما الألوهية فرآها تشتمل على (الآلهة، البشر، الأرض، السماء) هذه هي التي رسمت تاريخ الأديان  والفلسفة بشكل أدق.

لذا كان هايدغر يهتم بالمسيحية بمعناها الاصيل والعميق، وهو ما دفعه إلى نقد الكنيسة والطقوس، وظل يبحث في البعد الروحي الفلسفي للمسيحية. والغريب ان هايدغر راح يجد ضالته في الشعر، ويبحث في حالة الشاعر الألماني الكبير هولدرلين حيث رأى في هذه الحالة مصيراً يرصد الإنسان إن هو تخلى عن حضور الله في حياته.

دعا هايدغر إلى إعادة التفكير في المسائل التي طرحها الفكر الإنساني على نفسه، منذ نشأة الفلسفة، أي بمراجعة الفكر الفلسفي كلاًّ. ولعل سعي هايدغر إلى تجديد الفلسفة عبر نقد جذري للمسائل التي طرحتها على نفسها، يبدو متناقضاً مع مقولة ماركس الشهيرة «ان الإنسانية لا تطرح على نفسها سوى المسائل التي تستطيع حلّها»، وهي مقولة يمكن العثور على ما يشبهها لدى معظم الفلاسفة الذين نادراً ما نقدوا قدرة العقل البشري نفسه على تحرِّي علاقته بالكون. ورأى هايدغر ان الوصول إلى تجديد الفلسفة يكون في طرح سؤال «الوجود» عليها، وليس بالتركيز على الكائن الإنساني، كما درج الفلاسفة على ان يفعلوا دوماً. لاحقاً، سار كثر من الفلاسفة المعاصرين، وخصوصاً الذين يصنفون ضمن ثقافة ما بعد الحداثة، لتبني التقليد الهايدغري، إذا جاز الوصف، بإعادة النظر في اشكاليات الفلسفة تاريخياً. فمن المعروف ان جيل دولوز، الذي توفي بعد هايدغر بعشرين سنة، أعاد النظر في مجمل الارث الفلسفي، بدءاً من نقد الاسلوب الثابت عالمياً في تدريس الفلسفة باعتبارها تاريخاً للفلاسفة وافكارهم. وفي هذا المجال كتب دولوز سلسلة كتب أعاد فيها التفكير بأولئك الفلاسفة، بدءاً من ارسطو ووصولاً إلى نيتشه. وتوصل دولوز، إلى ان مهمة الفيلسوف تكمن في إعادة صوغ المفاهيم، وعلى نحو مستمر. وكذلك رأى هايدغر ان اللغة، وخصوصاً الشعر، هي الأداة التي تُمكّن الفكر من الوصول إلى فهم «الوجود» بصفتها الشكل الذي «يُكَّون» فيه فكر الإنسان. وظهرت تلك الافكار في محاضراته التي تناول فيها قصائد الشاعر الألماني هولدرلين. وكذلك المدرسة الفرويدية التي شددت على اللغة، باعتبارها محتوى وأداة متلامسة مع اللاوعي (الفردي والجماعي)، ما فتح الباب أمام تقاطع كبير بين افكار فرويد وفلسفة هايدغر، وهو ما عبّرت عنه في ما بعد افكار هربرت ماركوز.

الجامع بين الأنطولوجي  ـ الفينومينولوجي

لعل الدرس، الذي يمكن ان نستخلصه من فينومينولوجيا الدين، عند هايدغر، هو إفلاس التقسيم الثنائي، الإيمان ـ الإلحاد بخصوص الفكر، والعلم، والأدب، والثقافة. فمصطلحات مثل: الإلحاد المنهجي، والعلمانية المؤمنة، والوجودية الدينية، ولائيكية المعرفة، التي ترددها بعض الألسن هي مجرّد مقولات جوفاء. إذا كان الذي يمكث بين البشر هو آخر آلهة العالم القديم، فإن الناس غير قادرين على بلوغه؛ لأنهم يتحدثون عنه بشكل لا يسمح لهم بفهم إيمانهم الذاتي به، ألم يصدق هايدغر حينما صرح: أن السؤال مَن هو الله؟ هو سؤال في غاية الصعوبة بالنسبة إلى البشر، وبوسعهم، على الأكثر، أن يسألوا: ما هو الله؟ لكن أليس طرح السؤال بهذا الشكل هو بحث ميتافيزيقي عن الماهية، وتكريس طرق التفكير المألوفة، وغير الكافية؟ أفلا ينبغي أن نبحث عن طرق تفكير غير معروفة، وأن نستخدم الإشارة في ظل ضيق العبارة؟»[6].

يوصف هايدغر غالباً بانه فيلسوف للفينومينولوجيا الانطولوجية. ويجدر شرح السياق التاريخي لهذه الفكرة، التي تُعطي أيضاً تفسيراً للعلاقة الملتبسة بين هذا الفيلسوف والنازية.

بالنسبة إلى هوسرل، بدت الفكرة الاساسية ان الفينومينولوجيا هي علم الوعي وأشيائه. أي انها النظرة التي تركز على ان اشياء العالم تحمل قابلية لان تُفهم بحد ذاتها، ويتطابق خطاب وعيها مع وجودها نفسه، من دون ضرورة ردها إلى «مرجع ما» لكي يعطي تفسيراً لمتضمناتها واشاراتها. ان نقطة الانطلاق هي، كما عند كانط، الكائن الإنساني الذي يتعامل فكره مع الظواهر، في شكل منعزل (او مجرد)، ما يجعل إمكان وصف محتوى الوعي في شكل مجرد، أمراً ممكناً.

بين هوسرل وارسطو والنازية

سرعان ما صار هايدغر شارحاً لافكار هوسرل. فقد أعاد صوغ فلسفة أرسطو انطلاقاً من رؤية فينومينولوجية، ما ضمن له شهرة كبيرة. والمفارقة ان هوسرل مال في آخر ايامه، للتقاطع مع تفكير الفيلسوف كانط، لكن هايدغر لم يتأثر بذلك الميل المُتأخر،وفضّل عليه الافكار المُبكرّة التي وضعها هوسرل في مؤلفه الشهير «استقصاءات منطقية»، خصوصاً في التركيز على فهم الأشياء كما هي (أي باعتبارها «ظاهرة» بحد ذاتها). ثم عمل على التعمّق في هذا الضرب من التفكير. وبين عامي 1923 و1925، انتقل إلى تدريس الفلسفة في جامعة ماربورغ. وفي العام 1927، ظهرت الصيغة الأولى من مؤلفه «الكينونة والزمان» الذي اعتُبر سريعاً النص الفلسفي للقرن العشرين. لقد ضمن ذلك الكتاب لهايدغر العودة إلى جامعة فريبورغ. وشهد العام 1933 بداية العلاقة المُلتبسة مع النازية. ففي تلك السنة، انتخب مُشرفاً على جامعة فريبورغ، بعد اشهر قليلة من تسلم أدولف هتلر منصب المستشارية في المانيا. وفي مقابلته مع المجلة الالمانية دوشبيغل، يقول هايدغر، الذي نأى بنفسه غالباً عن النشاط السياسي، انه قبل بمنصب المُشرف على الجامعة لكي يضع حداً لتغلغل النفوذ السياسي فيها، بما في ذلك النفوذ النازي. وزاد في الالتباس، انه القى خطاباً لقبول منصب المشرف، حمل عنوان «التأكيد الذاتي للجامعة في المانيا». وتحت اشرافه، راحت جامعة فريبورغ تتبنى الافكار الاساسية للنازية، خصوصاً ما يتعلق منها بالقومية الاشتراكية. وبعد سنة، استقال من منصبه. وترك الشأن السياسي. وراح النازيون يصفون خطابه التشريفي بانه ليس نازياً ما فيه الكفاية إذ لم يتضمن خطاب التفوق العرقي (أي دمج البيولوجيا مع خصائص تاريخية ثابتة للكائن الإنساني) ولا العداء لليهود. واعتبر الحزب النازي ان كتاباته، التي جُمعت لاحقاً في «اسهامات في الفلسفة»، تتضمن نقداً للفكر النازي، فأبقى الغوستابو عينه مفتوحة على نشاطات هايدغر الجامعية. ثم عبروا عن سخطهم بأن أرسلوه ليحفر الخنادق في الراين، باعتباره فائضاً عن حاجة الجامعة! ولم يحل ذلك دون منعه من التدريس مدة ثلاث سنوات، بعد سقوط النازية.

وعلى رغم ذلك، بقيت علاقة فلسفته بالأفكار النازية موضع سجال حار، خصوصاً أفكار الثلاثينات والاربعينات من القرن المنصرم. وقد ابدى فيها افتتاناً بفلسفة نيتشة، الذي اعتبر من المراجع الاساسية في الفكر النازي. وينطبق الوصف نفسه على افكاره حيال الشاعر هولدرلن. وما ساهم في رسمه فيلسوفاً نازياً، يتمثّل في هجرانه تقاليد الفلسفة الغربية كلها، وتشديده على الفلسفة الماقبل سقراطية أو ما قبل ظهور سقراط: المرجع «الاسطوري» للفلسفة اليونانية، بل للفلسفة الغربية كافة، بما في ذلك إرثها الميتافيزيقي. بدا ذلك الهجران متناغماً مع افكار النازية المُحتقرة للفكر الغربي، والتي راج عنها أيضاً انها تسعى إلى تقاليد جديدة في الفلسفة، وكذلك نقدها الميتافيزيقا التقليدية التي عبّر عنها شعار «الصليب المعكوف» الشهير. ويظهر رجوع هايدغر إلى ما قبل سقراط ونقده الميتافيزيقا الغربية في «مدخل إلى الميتافيزيقا» (1935).

يصف هايدغر الفلسفة الغربية بأنها فلسفة ميتافيزيقية، وتاريخها هو تاريخ نسيان الوجود، فهي فلسفة عملت على عقلنة الدين، وما وراء الطبيعة. بهذا سعى هايدغر في مؤلفاته، إلى تقويض كل تاريخ الميتافيزيقا الغربية، تلك التي بناها أفلاطون وأكملها هيغل، وشرّع لنهايتها نيتشه، وبذا فهو يريد فلسفة وجودية يمكن بناء تصور ديني فوقها، وهذا حلم هايدغر العظيم، حيث يرى أن ديناً كهذا يجب أن يكون إلهياً محضاً لا علاقة له بمكونات الأديان المعروفة، ومع ذلك، فهو يرى أن المسيحية، في جوهرها، يمكن أن تعطي فكرة عن هذا (الدين الوجودي).

من الجدير بالذكر انه كان ثمة تأثر واضح في تفكير هايدغر بأرسطو منذ الأساس إذ يعترف هايدغر نفسه أن اكتشافه للعلاقة الحميمة بين الوجود والحقيقة يعود الفضل فيه إلى أرسطو، كما تأثر بفهمه للوجود والفلاسفة السابقين على سقراط خاصة بارمنيدس وهيراقليطس.

تأتي أهمية فلسفة هايدغر من قدرتها على تجاوز الجدل الذي دار طويلاً بين الاتجاهات الفلسفية المختلفة حول أولوية الفكر على الواقع او الواقع على الفكر والقضاء على ثنائية الذات/الموضوع التي ورثتها الفلسفة من ديكارت، كما أنها أحدثت تحولاً جذرياً في العديد من المفاهيم الفلسفية سواء في نظرية المعرفة او في فهمها للزمان او فهمها للحقيقة[7]. واستطاعت أيضاً طرح السؤال عن الوجود على مستوى أكثر أصالة من أي فلسفة أخرى منذ فجر الفلسفة اليونانية، واهتمت اهتماماً بالغاً بالتفكير، واعتبرته السبيل الوحيد للخروج من أزمة الإنسان المعاصر.       

[1]*ـ كاتبة ومترجمة ـ لبنان.

[2]  - Martin Heidegger،Sein und Zeit،Copyright 19in edition 2006 by max Niemeyer verleg.

[3] - M. Heidegger،Sein und Zeit. تtre et temps،op،cit.. p 186.

[4] -Ipid. P 187.

[5] - Ibid،pp. 188.

[6]- الخويلدي، زهير: 2008، المصادر الدينية لفلسفة هايدغر الانطولوجية، تاريخ الاقتباس: 12-5-2012م، موقع دروب: DROOB.COM.

[7]- جمال محمد أحمد سليمان- مارتن هايدغر ـ الوجود والموجود- إشراف أحمد عبد الحليم عطية ـ دار التنوير ـ بيروت 2009 ـ ص 7.