البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مارتن هايدغر أو عبور الليل

الباحث : 
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  5
السنة :  السنة الثانية - خريف 2016 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 1 / 2016
عدد زيارات البحث :  1239
تحميل  ( 335.548 KB )
تحت هذا العنوان المثير للجدل ـ كما سنرى ـ انعقدت هذه الحلقة التفكيرية حول سيرة حياة مارتن هايدغر. المشاركون أكاديميون ومتخصصون بالفلسفة العامة والفلسفة السياسية على وجه التحديد. وهم: ايمانويل فاي ـ غايتين بيني ـ بياتريس فورتين وميشال كوهين.

لقد تضمنت هذه الحوارية المشتركة آراء ومواقف هي في غاية الأهمية لجهة التعرّف على طبيعة السجال الراهن الذي يدور في أوروبا حول فلسفة هايدغر. ربما كان وصف أعمال هايدغر بأنها أشبه بعملية عبور لعتمة الليل من أهم الأوصاف والنعوت التي تدخل في نطاق العملية النقدية لهذا الفيلسوف الذي ملأ دنيا الفلسفة المعاصرة ضجيجاً وحيرة.

المحرر

------------------

غايتن بيني: إيمانويل فاي، أنت نشرتَ مؤلَّفًا جديدًا عن هايدغر والنازيّة أضاف بالتأكيد عناصر جديدة إلى ملفٍ دسمٍ مسبقًا كما نعلم، ولكن أنت استنتجتَ منه فرضيّةً راديكاليّة، بما أنّك ستصل في نهاية الأمر إلى نفي مكانة الفيلسوف عن هايدغر. بالنسبة إليك، كلّ كتابه، وهذا منذ Sein und Zeit [الكينونة والزمن] إلى العام 1945 على الأقلّ (طالما أنّها مرحلة دراستك)، مشبع بالنازيّة من أساسه، حتى وإن ركّزتَ في المقام الأوّل على الندوات من 33-35، حيث تشكّلت تحديدًا هُويّة الاختلاف الأنطولوجيّ مع العلاقة بالشعب والدولة. لن أعود هنا إلى البعد التاريخيّ لكتابك- فهذا ليس موضوعي ولا مجالي ـ  ولكنّي أعود إلى هذا الاستنتاج الذي استخلصتَه من تحَرِّيكَ التاريخيّ. ثمّة بالتأكيد بعدٌ رهيب لالتزام هايدغر، ولكنّك قفزت حتّى إلى نفي «فلسفيَّتِه»، من أجل استخدام كلمة غير فصيحة. لكن إذا اتّبع هايدغر أسوأ الأنظمة فإنّه مع ذلك ليس الأوّل في تاريخ الفلسفة الذي يضع نفسه في خدمة الأنظمة الأكثر قابليّة للجدل أو لصياغة إيديولوجيّات كارثيّة أخلاقيًّا أو للدفاع عنها. وهكذا إذا أخذنا مثالَين من مجموعتين من التقاليد المختلفة، يمكن أن نتذكّر أنّ أفلاطون في الجمهوريّة كانت لديه نظريات يمكن أن نصفها من حيث المفارقة التاريخيّة بـ «علم النِّسالة»، أو أن نتذكّر جون لوك في دساتير كارولينا حيث يسعى لإضفاء الشرعيّة على الهيمنة المطلقة للبِيض على السود (انظر إلى الدستور 110 على سبيل المثال). في حالة لوك أيضًا كان ثمّة عنف يقترب من أسوإ نصوص شميت، عنف كتابة الادّعاءات القضائيّة ولكن في تأكيداته من خلال جوهر متناقض مع جوهر القانون نفسه.

 إذًا سؤالي بسيط وفظّ. إذا اتّبعناكَ، أيجب أيضًا إخراج أعمال أفلاطون ولوك من مكتبات الفلسفة، كما أوصيتَ أن نفعل بالنسبة لهايدغر؟ لماذا ليس توكفيل أيضًا، الذي أشار في المجلّد الثاني من «من الديمقراطيّة في أمريكا» إلى أنّ الهنود محكومون بالزوال كالثلج تحت أشعة الشمس، أو ماركس الذي استُخدمت نصوصه على نحوٍ كارثيّ؟ لماذا لا يُرفض أيضًا أولئك الذين هم غير سياسيّين في الظاهر، مثل روسّو الذي يبدو قد راعى مسألة العبوديّة، أو ديكارت الذي ربّما يمكن أن نفكّر أن مراسلاته مع بعض ذوي الأسماء الكبيرة كانت لها أهدف أخرى غير فلسفيّة (ونرغب بإضافة: إلخ)؟

إيمانويل فاي: قبل الإجابة عن سؤالك ـ أو بالأحرى، عن اعتراضك ـ ينبغي أن نرى إذا كانت هذه المفردات تناسب كلامي. يبدو أنّك تفكّر بأنّني من باب السخط الخلقيّ أردتُ أن أطرح ثانيةً، في استنتاجاتي، الطابع الفلسفيّ لكتاب هايدغر. والحالة هذه، إذا أشرتُ إلى أنّه ليس ثمّة فلسفة من دون موقف خلقيّ، فالحجّة أوسع بكثير ولا تتلخّص أيضًا بتحقيق تاريخيّ. إذا قرأتَ الخاتمة، وكذلك العديد من مقاطع الكتاب، حيث تتحدّد إعادة النظر بالطابع الفلسفيّ للكتاب الهايدغريّ مع تقدم الأبحاث نحو أُسس الكتاب (الصفحات 20-21، 33، 363، 370-371، 454، 484، إلخ)، سترى أنّ إعادة النظر هذه  ليست حادّة كما توحي لك. إنّها في الواقع حصيلة مشاعر من الوعي المتوالي. هذا ليس فقط التزامًا سياسيًّا لهايدغر، ولكنّها أيضًا نيّته بتدمير التفكير المنطقيّ، واستخدامه المنحرف للغة الفلسفيّة، ورفضه الصريح للفلسفة المعاصرة كأنّها انتهت مع هيغل ونيتشه وتأكيده على الطابع المهجور للأخلاقيّة ما يجعل المشكلة جديّة. مع هايدغر، تمّ تدمير كلّ أبعاد الفلسفة تدريجيًّا. هذا شيء كبير، يفسِّر إلى حدّ كبير النفوذَ والسحرَ اللذين يلقيهما في الكثير من الأذهان. كان هنالك اعتقاد بأنّ هايدغر كان لديه القدرة على تخطّي كلّ شيء، لأنّه كان يطمح لتدمير التراث الفلسفيّ الغربيّ بأكمله، ولكن لم نر أنّه كان يميل أيضًا إلى أن يحقّق في الفكر ما أرادت الهتلريّة تحقيقه في التاريخ.  فضلًا عن ذلك، نحن منغمسون مع هايدغر في واقع النازية، حيث القدرة على التدمير والراديكاليّة هما من قبيل المقارنات التاريخيّة التي، مع ما سبق، لا تذهب أبعد من الذات. أن يكون هناك جوانب إشكالية لدى الكثير من الفلاسفة، فهذا أمرٌ لا يقبل المناقشة، ولكن الأمثلة التي تقدّمها لا تبدو متناسبة مع المشكلة التي تطرحها علاقة هايدغر بالنازيّة. وأنت ذكرت أفلاطون ولوك. سأبدأ مع ملاحظة بسيطة، ذات طابع تاريخيّ. إنّ ما هو في جمهوريّة أفلاطون، وربّما يكون قريبًا من أهداف تحسين النسل، يبدو أقلّ بكثير من ممارسات الحقبة التي كان فيها الأطفالُ غير المقبولين من قِبل أبيهم «يُعرضون» حتّى الموت...

غ.ب.: بالتأكيد، ولكن هدفي لا يعتمد على أفلاطون أو على لوك بكلّ معنى الكلمة. إنّه بالأحرى يُعنى بطرح السؤال عن علاقة الفيلسوف بالسياسة. ولكن للعودة إلى ما قلتَه للتوّ، لا يمكن تبرير أفعال فيلسوف من خلال تحديد موضعه «بالنسبة إلى عصره»،  أو بالتالي يجب أن نعذر أسوأ التزامات هايدغر التي هي على المحكّ. عندما نبدأ بإيجاد العذر لفيلسوفٍ من خلال النظر إلى بيئته، ننفي عنه صفة الفيلسوف الكبير، طالما أنّه لم يحمل هذا الانفتاح، وهذا التغلّب على الأحكام المسبقة للعصر الذي يميّز فلسفةً كبيرة.

إ.ف.: أنا لا أزعم، من خلال هذه الملاحظة، تبرير ما كان لديه من علم تحسين النسل في الجمهوريّة، وأُقرُّ معك بكلّ ما هو غير مقبول في الصفحات التي ذكرتها لـ لوك. بالنسبة إلى ديكارت، على العكس، لا يمكنني أن أتبعك، لأنّ الأميرة إليزابيت التي كان يتراسل معها، هي من عائلة مخلوعة، في المنفى، من دون أيّ سلطة سياسيّة، وليس هناك شيء مثير للاشمئزاز إنسانيًّا في مراسلاته الأخلاقيّة مع إليزابيت أو إلى الملكة كريستينا، التي لم يدّعِ أبدًا أنّه كان مستشارها السياسيّ.

 من أجل العودة إلى هايدغر والنازيّة، إنّ ما كنتُ على وشك أن أقوله هو أنّ المسألة لم تكن تتعلّق فقط بضمانةٍ تُحمل لممارسات اجتماعيّة كانت موجودة من قبل، ولكنّها تتعلّق باختراعِ همجيّةٍ لا اسم لها. وهذا يجعل من أيّ محاولة للمقارنة إشكاليةً. لنأخذ مثالًا على ذلك في تعليمه، الطريقة، التي يجعل هايدغر فيها تشبيه الكهف نازيًّا بشكل كامل، مرعبة، وذلك في دورته في شتاء العام 1933-1934 الذي صدرت مؤخّرًا بعنوان «من جوهر الحقيقة»:  بينما يفكّر أفلاطون بـ نسآليّة [تَوليد (استخراج الحقّ من النفس بتوجيه الأسئلة في منهج سقراط)]  يشير هايدغر، من جهته، بصراحة إلى هتلر وإلى «رؤية العالم القوميّ ـ الاشتراكيّ». هذه الـ Weltanschauung لهتلر [الرؤية الهتلريّة للعالم]، يقدّمها بعبارات متّقِدة  كـ «التحوّل الكامل» (Gesamtwandel)، الذي يتزامن مع ما يسميه، في الدورة نفسها، «التحوّل الكبير في وجود (Dasein) الإنسان»[2]. هل ينبغي عليّ أن أذكِّر بالإضافة إلى ذلك بأنّ هايدغر في هذه الدورة نفسها يوصي بـ «التدمير الكامل» للعدو الكامن في جذور الشعب؟ هذا الاعتذار الهايدغريّ لرؤية العالم معاديًا للساميّة، وعنصريًّا وإباديًّا، والذي تزامن بالنسبة إليه مع «جوهر الحقيقة»، يضعه على خلاف مع أي فلسفة أو حتى بشكلٍ خاصّ إذا كان قد استخدم بهذه المناسبة، ولكن بطريقة منحرفة، مفردات اللغة الفلسفيّة كـ «جوهر» و«حقيقة».

غ.ب.: أنت تؤيّد لاقياسيّةَ النازيّة، وهذا ما يقودنا إلى التساؤل الكثير والعميق حول مسألة التفرّد هذه. ومن المؤكد أنّه تمّ تجاوز الحدود أكثر من أيّ وقت مضى، ولكن في الوقت نفسه كان هناك أيضًا نسخة مُفرطة من الاتجاهات وأشكال القوة التي ظهرت من قبل ثمّ عادت لاحقًا في أشكالٍ هي من دون شكّ أقل كثافة ولكنّها مع ذلك مرعبة.

ولكنّني أعود إلى قضيّة سؤالي الأوّل: هناك استمراريّة في التزام بعض الفلاسفة في أشكال السلطة، وبين أكثرها عنفًا. من خلال التخلّص من هايدغر، نتخلّص من مشكلة الفلسفة ومن أجل الفلسفة: هي مشكلة علاقته بالسلطة.

علاقات الفيلسوف والأمير ـ كما هي عليه، بما في ذلك الأسوأ ومن ثمّ تتعقّد ـ كلّما كان هنالك مشكلة حقيقيّة. إنّها مشكلة خاصّة بالفلاسفة: مشكلة استخدام الصلاحيّات التي تعطيها لهم الفلسفةُ. ومن خلال إنكار «فلسفيّة» هايدغر نُبعد هذه المشكلة.

إ.ف.: لاحظتُ، منذ صدور الكتاب، أنّ إعادة النظر بالمكانة الفلسفيّة لكتاب هايدغر أثارت لدى البعض ردّات فعل قويّة بشكل خاص. كان يجب توقّع ذلك مع القداسة التي أحاطت باسم هايدغر في فرنسا. إنّ ما أفهمه قليلًا، هو أنّ هذه الاستنتاجات هوجمت أحياناً من قِبل أشخاص لم يقرأوا على ما يبدو الخمسئة صفحة تقريبًا من البراهين التي سبقتها والتي أسّست لها. إذا أرادوا نقد استنتاجاتي، من الضروريّ أيضًا، وبكلّ صدقٍ، مناقشة بالتحديد النصوص المقتبسة من هايدغر والتحليلات النقديّة التي اقترحتها.

بالنسبة إلى الجوهر، أنا أفهم أنّ استنتاجاتي تثير النقاش وهذا هدفها الرئيسيّ. ليس لديّ في الواقع أي سلطة للبتّ في المكانة المعترف بها لكتاب هايدغر في مجتمعاتنا وفي تعليمنا. عندما تحدّثت في جامعة السوربون بناء على دعوة من الزملاء المعلّمين في المدرسة الثانويّة، قلت كم كنت أحترم الحرية التربويّة للأساتذة. كلّ ما يمكنني فعله هو أخذ النتائج الفكريّة لأبحاثي والتوجّه، كما فعلتُ، لإجراء مناقشة موضوعيّة. بمقدار ما يأخذ المؤلِّف مسؤوليّة مواقف محددة ومبرهنة يمكن للمساحة العامّة للنقاش أن تنفتح.

فضلًا عن ذلك، فإنّ استنتاجاتي الحرجة، حيث أشكّكُ في المكانة الفلسفيّة الممنوحة لكتابِ هايدغر، لا تأخذ كلّ معناها إلّا بالنسبة إلى الواقع الحاليّ للمؤلَّفِ المـُسمّى «الأعمال الكاملة» أو Gesamtausgabe، الذي نُشر منه اليوم 66 مجلدًا من أصل 102 حديث. نحن نواجه بالفعل واقعًا تحريريًّا وحيدًا: إنّ هايدغر نفسه هو الذي أراد أن تُنشر، بعنوان تtre et temps «الكينونة والزمن» نفسه وفي المجموعة نفسها، نصوصٌ مثل العشرين مجلّدًا للدروس التي نُشرت في ظلّ الرايخ الثالث من العام 1933 إلى العام 1944، والتي نجد فيها أقوالًا نازيّة بنسبة ملحوظة. هذه حالة فريدة من نوعها في تاريخ النشر الفلسفيّ: حتّى إنّ كارل سميث لم يبرمج إعادة نشر مقالاته ومؤلَّفاته النازيّة التي تعود إلى الأعوام من 1933 إلى 1944. قد أكون أوّلَ مَن قَلِقَ من هذا الوضع التحريريّ وهذه حقيقة، ولكن منذ الآن الـ Gesamtausgabe [الأعمال الكاملة] هو الذي من المهم مناقشته، وكذلك التحليلات التي اقترحتها منه، بدلًا من النتائج المأخوذة بشكل منعزل، بينما هي مبرّرة من خلال الأبحاث التي أدّت إليها وليس لها هدف آخر غير وعي جديد.

ما هو اليوم موقف الفيلسوف تجاه الواقع التحريريّ لـ «الأعمال الكاملة»، الذي يغيّر بشكل جذريّ معطيات قبول كتاب هايدغر؟ يبدو لي من غير الممكن أن نقترح نوعًا من «الفرز»، الذي نميز من خلاله أكثر المجلدات نازية بشكل علني والمجلّدات ذات التضمين الأقلّ صراحة. كما يشير عنوانه، تصور هايدغر خطّة كتابه «الأعمال الكاملة» ككلّ، ولقد كانت روحه الجماعيّة هي موضوع الخلاف.

بالتأكيد أنا لا أنفي قدرة هايدغر على تنظيم دورة دراسيّة عن الفلاسفة. عندما يتخذ موقفًا لصالح أوّل إصدار la Critique de la raison pure [نقد العقل الخالص]، نلاحظ أنّ هذا الأمر يمكنه أن يثير اهتمام مؤرّخي الكانطيّة [نسبة إلى كانط]. إلّا أنّ العنف الذي من خلاله، استغلّ قراءته لكانط ليجعل منها سلاح تدمير قُلِبَ ضدّ العقل الإنسانيّ في العام 1929 نفسه في دايفوس، عبّر عن نفسه بعبارات وبسياق لا يخلوان من مفاهيم سياسيّة.

ولكن ما يجب أن ندركه هو أنّ اليقظة، تبدو تقلّصت مع مرور الوقت، في حين كان يجب أن تكون على العكس من أجل الحفاظ على المستقبل. وهكذا نُشرت اليوم كلّ أعمال لجان الأكاديميّة للقانون الألمانيّ لـ هانز فرانك، حيث تمّ إعداد قوانين الرايخ الثالث، في برلين باسم استمراريّة عمل فقهاء القانون! كذلك نشرَ المؤرّخ التعديليّ [مُتعلِّق بالنَّزْعَة الَّتِي تَدعُو إلَى إعَادَة النَّظَر فِي نَظَرِيَّة أوْ دُسْتٌور] كريستيان تيليتزكي، تلميذ أرنست نولت وهايدغر، مؤخّرًا تاريخ الفلسفة الألمانيّة من [جمهوريّة] فايمار إلى العام 1945، حيث يقلِّلُ فيه إلى الحدّ الأدنى انفصال العام 1933 ويعمل من أجل أن يُدخِلَ في تاريخ الفلسفة المؤلِّفين الأكثر علنيّة في النازيّة مثل ألفريد بوملر. إنّ هذا الانزلاق اللامقبول أبدًا نحو التعديليّة هو الذي أردتُ أن أشير إليه في استنتاجاتي.

نقطة أخرى تستحق أن نتذكّرها: تقديس الشخصيّة ـ مماثلة لتلك التي تتعلّق بستالين ـ التي تحيط لدى البعض باسم هايدغر. وصل هذا التقديس في فرنسا إلى درجة غير طبيعيّة. لذلك، فقد عدّ الكثيرون للأسف النقدَ الواعي والمبرهن لهايدغر غير ممكن تصوّره، في حين إنّه تطوّر خارج فرنسا منذ سنوات. كي لا نذكر فقط الكتب التي صدرت مؤخّرًا، أفكّر على سبيل المثال بأعمال غريغوري فرايد ويوهانس فريتش عن «الكينونة والزمن» و«الاشتراكيّة القوميّة»، أو راينهارد ليند عن «التفكير الشموليّ» و«التوحّد الاجتماعيّ» لهايدغر حيث الانتقادات لبعض وجهات النظر أكثر قسوة من تلك التي في كتابي. وهكذا أردتُ، من خلال تحليلاتي واستنتاجاتي، قطعَ سلسلة الإكبار هذه التي منعت في أكثر الأحيان كلّ نقاش نقديّ في فرنسا.

كانت الـ Gesamtausgabe [الأعمال الكاملة] قد أُعدّت بغية دعم تقريرٍ ليس فكريًّا ولا فلسفيًّا، أي مبرهن ونقديّ، ولكنّه ـ نستخدم هنا كلمةٍ يحبّها جونغر ـ طقوسيّ أو «شعائريّ» بالنسبة إلى هايدغر وكتابه. هذه العلاقة من التبجيل، المنسّقة من قبل هايدغر ومن أكثر تلاميذه راديكاليةً، هي التي يجب علينا أن نتجاوزها اليوم.

 أينبغي عليّ أن لا أدعو، كما تقول أنت، إلى «أن نتحرّر» من هايدغر، ولكن على العكس إلى القيام بأبحاث نقديّة معمّقة أكثر؟ لا يُلام المؤرخُ الذي ينشر تاريخًا نقديًّا للرايخ الثالث بغية «التحرُّر» من هتلر. لماذا، منذ ذلك الحين، يُلام فيلسوفٌ، مبدئيًّا، على نقده القاسي لهايدغر، الذي هو على مستوى المشاكل التي يطرحها علينا بالتحديد؟ البعضُ ـ ولحسن الحظِّ لستَ كذلك- ذهبوا إلى درجة أن يعزوا إليّ نيّة تنظيم إعدامات بالحرق! هذه الادّعاءات غير مقبولة. أنا لم أطلب في أي مكان، أن نزيلَ كتابات هايدغر. أنا على العكس أدعو الجمهور إلى قراءة ما هو من مقّهم وقد أخفيناه عنهم دائمًا، أدعوهم لمعرفة البروتوكولات التي أعاد قراءتها بنفسه، في ندوته عن التربية السياسيّة الهتلريّة في شتاء العام 1933-1934.

 ولكن أنتقل إلى المسألة الأساسيّة التي طرحتَها، مسألة العلاقات بين الفكر الفلسفيّ والسلطات. أعتقد أنّ هذه المسألة هي مركزيّة بالنسبة لبعض الفلسفات كفلسفة هيغل، ولكن ليس لها جميعها. كلّ فلسفة مهمّة ليست مرتبطة  قسرًا بشكل وثيق بمقاصد السلطة. لقد أبدى ديكارت على سبيل المثال بضع ملاحظات حول ميكافيللي في رسائله إلى إليزابيت، ولكنّه لم يتعهّد الفلسفة السياسيّة. لقد ذهب إلى ستوكهولهم، ليس كمستشار سياسيّ، ولكن كنوعٍ من المؤدِّب، من أجل تربية كريستينا على الصعيد الخلقيّ والشخصيّ. تبقى فلسفة ديكارت من دون هدف سياسيّ مركزيّ.

إنّه مختلف تمامًا عن هايدغر الذي في ندوة له عن مفهوم الدولة 1933- 1934، يصوغ السؤال الذي يستحوذ عليه: «مَن يجب أن يحكم؟. حتّى إنّه يقدّم في ندوة له عن هيغل والدولة 1934-1935، تعريفًا للسياسة بأنها «تأكيد الذات» (Selbsbehauptung) للناس وللعرق، الذي يعدّه أكثر أصالة من  تمييز شميت بين الصديق والعدو. هذا «المفهوم» الهايدغريّ للسياسية أسالَ غالبًا الكثيرَ من الحِبر. إلّا أنّني لا اعتقد أنّ بالإمكان مع ذلك الكلام عن «فلسفة سياسيّة» لهايدغر، بالنسبة لمفهوم تافه يتشارك به مع شبينغلر وبوملر وأكثر من مؤلِّفٍ ألهمَ النازيّة أو هو نازيّ بنفسه. في الواقع، حالة هايدغر تبقى مفرطة جدًّا بحيث يمكن الاعتماد عليها في التفكير الفلسفيّ بشكل عام حول العلاقة بين الفكر والسلطة. نحن لسنا أمام فكر فلسفيّ رُبطَ مفصليًّا بمنظور السياسة العامّة، كما هو الحال على سبيل المثال لدى سبينوزا، ولكنّه من إستراتيجيّة تهدف إلى إدخال كلامٍ قاتلٍ لا علاقة له بالفلسفة، في خطاب ذي مظهر فلسفيّ. أمّا بالنسبة إلى النازيّة، لقد قادتني أبحاثي إلى استنتاج بأنّ المسألة تتعلّق بمؤسّسة تدمير جذريّة استولت على كل أشكال الوجود والثقافة: الفنّ، الشعر، الفلسفة، التاريخ، القانون، الطب، وحتّى السياسة. النازيّة ليست رأياً سياسيّاً بين آراء أخرى، إنّها، كما أثبتناها، المصير التاريخيّ للهيتلريّة، تدمير للسياسة، بمقدار نيّة الخير العامّ الموجود في السياسة ـ أو الذي يجب أن يكون موجودًا، والذي ألغته هذه الحركة.

غ.ب: أعتقد أنك تفهم أنّ ما كان لدى هايدغر من خلفيّة فلسفيّة أو جماليّة ملحوظة (لا سيّما حول الشعر وتبعيّة مكانة العمل الفنيّ) هو الذي يجعل هنا تساؤلي دراماتيكيًّا. أنا ألاحظ أنّك لا تنفي وجود مجموعة من الفرضيّات الفلسفيّة المحض هايدغريّة. من أجل رفض مكانته كفلسوف، كان يجب أن نثبت الخطأ فيها أو الصواب. ولكن ثمّة فرضيّات هايدغريّة يمكن أن تكون فيها خلفيّة فلسفيّة وجماليّة. هل تنكر إمكانيّة الحوار مع هايدغر؟ لأنّه موجود عمليًّا. ثمّة هايدغريّون لهم معه علاقة ليست فقط ثقافيّة ولكن نقديّة أيضًا. حتّى إنّه ميول قويّ! أفكِّرُ بـ فيليب لاكوـ لابارت، على سبيل المثال، في كتابه «هايدغر وسياسة الشعر».

إنّه ينظم فيه حوارًا نقديًّا مع هايدغر حول قراءة هولدرلين، وفي محاضرته «يجب»، يذهب إلى حدّ الكلام عن سخافة بعض القراءات السياسية للغاية، لهايدغر. إلّا أنّ ذلك لم يمنعه من اعتباره على الرّغم من ذلك فيلسوفًا عظيمًا؟ علاوة على ذلك، وبالتلازم، حتّى لو كان لدى هايدغر صفحات وحتى كتب لا يمكن عدُّها فلسفيّةً، ألا يمكن تصوّر أنّ الحوار الفلسفيّ (والذي هو متوجِّبٌ على الفلاسفة، ولا فقط على مؤرّخي النازيّة) مع ما هو لافلسفيّ لدى هايدغر، لم يكن ليحصل إلّا لأنّ مساره ينادينا؟ وهكذا كتب ليفيناس مقالًا عن الفلسفة الهتلريّة، وتحدث أفلاطون وأرسطو مع السفسطائيّين أو عنهم في حين أنّهم يمثلون كما يبدو نقيضَ الفلسفة.

إذًا ماذا تفعل بالإرث الهايدغريّ؟ إنّه كما قلتُ حرجًا بالنسبة إليه ويستمرّ بالانتشار.

إ.ف.: أنت تذكر خلفيّة هايدغر في الجماليّة والشعر. ثمّة شيء مرعب هنا: هو التعمية التي يجب أن تزول اليوم. لقد قُدِّر كثيرًا مؤتمرُه في نوفمبر 1935 حول «أصل العمل الفنيّ»، من دون النظر إلى المعبد المذكور، الذي عدّه هايدغر كمركزٍ يؤسّس فيه الشعبُ إقامتَه التاريخيّة، بأنّه لا يتوافق  أبدًا مع المعنى التاريخيّ للمعبد اليونانيّ. في المدينة اليونانيّة، في الواقع، كان الناس يتجمّعون في الأغورا [ساحة عامّة كانت المجالس السياسية تنعقد فيها] وليس في المعبد. في الحقيقة، بعد شهرين من مؤتمر نورمبرغ حيث سُنَّت أسوأ القوانين العرقيّة للرايخ الثالث، ذلك وقبل كلّ شيء، اعتمد هايدغر على المعبد النازيّ في نورمبرغ. معنى هذا المؤتمر سياسيٌّ وليس جماليًّا، والمقارنة اليوم ممكنة بين النسخ الثلاث للمؤتمر، بتطوّراتها المضرّة على مصير الشعب الألمانيّ الذي نؤيّده بالكامل. أمّا بالنسبة للمقاصّة، هذه المقاصّة التي يشيد بها هايدغر كثيرًا، بالإمكان التفكير بأنّها في البداية إشارةٌ نحو معبد النور في نورمبرغ، حيث كان 150 كشافًا ضوئيًّا من الـ DCA  يوجِّهُ إلى السماء أعمدةَ أضواء ترسم، في الليل، حدودَ المساحة حيث يتجمّع «الشعب» مُصغين إلى الفوهرر. يجب أيضًا الحديث، بحسب كلمةٍ لـ بول سيلان في مسوّدة رسالة إلى هايدغر، عن هذا الضعف الشعريّ والفلسفيّ المسؤول عنه هايدغر بشكل كبير. لن أطيلَ الحديثَ عن السطحيّة المطلقة لــ «القصائد» التي تركها لنا مراسلُ حنّة أرندت. أنا مستاء من استصلاحِ سيلان الذي يجرّبُه اليومَ بعضُ الهايدغريّين الراديكاليّين. على صعيد آخر، الطريقة التي يمزج فيها معلِّقٌ كـ مكسانس كارون شعراءَ فرنسيّين مثل مالارمي وكلوديل وسوبرفيل في إعادة صياغته لهايدغر بشكلٍ محيّر، حيث لم يحلّل حتّى ولم يذكر الدروس والكتابات السياسيّة لهايدغر التي تشكل اليوم مدوَّنة من عدة آلاف من الصفحات المنتشرة تقريبًا في الكتاب كله. هذا الموقف ليس منفردًا: إنّه موجود لدى أكثر من هايدغريّ واحد من المؤسّسة الجامعيّة الفرنسيّة، الذين علّموا خلال عقودٍ هايدغر كما عُلّم أرسطو أو كانط من دون مواجهة الأبعاد السياسيّة النازيّة لكتابه. لكنّنا نعرف اليوم الكثير من ذلك، عن طريق نشر «الأعمال الكاملة»، كي لا يُعاد النظر في هذا الموقف.

بالعودة إلى الفلسفة، أنا في الحقيقة أكثر تشدّدًا ممّا يبدو لك. ماذا يبقى بالفعل من الفلسفة لدى مؤلِّفٍ يفهم السؤال «ما هو الإنسان؟» بالتأكيدِ على الذات لشعب أو لعرق، يماثل الوجودَ بالوطن ويزعم أنّه يستخلص من الوجود نفسه «مبدأ العرقيّة»؟ أمّا بالنسبة للمسألة الشهيرة «مسألة الوجود»، حتّى لو حاولنا تجريدها من نازيّة هايدغر - وهذا ما يبدو لي مستحيلًا للأسباب التي ذكرتها ـ سوف نصطدم بالتناقض الفلسفيّ التالي: كيف يمكن في الوقت نفسه تحويل الفعل (كان) إلى موصوف، كما فعل هايدغر عند حديثه لنا دائمًا عن «الكينونة»، والزعم بالتحرّر بشكل كامل من فئة أرسطويّة «المادّة»؟ إن لم نعد نريد المادّة، لا يمكن بعد ذلك الكلام عن «الكينونة». في الحقيقة، الاستخدام الهايدغريّ لـ «الاختلاف الأنتولوجيّ [المختصّ بعلم الوجود]» للوجود والموجود سمح له بتصريفِ ـ كما دلّ على ذلك جيّدًا كارل لويت في العام 1946 ـ الجذريّة الأكبر والأكثر إبهامًا، وبأسرِ أكبر عددٍ من العقول إلى أن يحين الوقت الذي تسمح له فيه فعليّةُ التاريخ الحقيقيّ بأن يؤكّد بخشونة أمام مستمعيه بأنّ حالة الفوهرر هي الوجود نفسه الذي يجب على الموجود الذي هو الشعب أن يُلبَس حُبّه منذ الآن. أنْ يصل تعليم هايدغر، في ندوته في العام 1933-1934، إلى درجة الخداع والاستيلاء على العقول، فهذا يدلّ على أنّ ذلك لم يعُد من الفلسفة.

إنّ النقد الفلسفيّ لمجموعة أعمال هايدغر هو اليوم مهمّة ضروريّة. إنّ كلمة «نقد» ملائمة  أكثر من كلمة «حوار»، لأنّ عالم الفكر لدى هايدغر، ـ الذي تعرّف فيه ياسبرز نفسه على صفة الديكتاتوريّ ـ ليس هو عالم مَن يفتحون مساحةً حرّةً للحوار.

من ناحية أخرى، أنت أشرت إلى عنوان مقالة لإمانويل ليفيناس حول «الفلسفة الهيتلريّة»، لكن من الواضح أنّه يستخدم هنا العبارة بالمعنى الشعبيّ وليس بالمعنى الدقيق لـ «رؤية العالم». لهذا لم يجعل ليفيناس من هيتلر فيلسوفًا. إذًا لا يمكن الاحتجاج بهذا العنوان لوصف هيتلريّة هايدغر بالفلسفيّة.

تبقى المسألة التي أثرتَها عن تلقّي هايدغر. أنا أحرص على التمييز بين مسألة أسس الكتاب، الذي هو موضوع كتابي، ومسألة تلقّيه التي تتطلّب أبحاثًا أخرى، معمّقة أكثر ونقديّة أكثر من تلك التي فضلًا عن كونها مفيدة، سبق أن قام بها دومنيك جانيكود من أجل فرنسا. من الطبيعيّ أن يُطرح اليوم السؤال التالي: إذا كان كتاب هايدغر نازيًّا بهذا القدر الذي يظهره كتابي، فكيف يمكن تفسيرُ أنّ هذا العدد الكبير من الكتّاب، وليس أقلّهم لم يقعوا تحت تأثيرها؟ من هذه الناحية،  أنا مثلك: أطرح على نفسي السؤالَ نفسَه.

أعتقد أنني قد أجبت جزئيًّا من خلال تسليط الضوء على استراتيجيّات التلميح لهايدغر والتقديس غير المعتاد كثيرًا الذي يحيط باسمه، ولكن أيًّا كانت الإجابات ـ هي تختلف بالنسبة إلى كلّ مؤلِّف ـ وأنا لا أعتقد أنّ هذا السؤال يمكن اعتباره اعتراضًا على كتابي. لقد احتجت إلى أبحاث معمّقة، اعتمدتُ خلالها على نصوص ظهرت مؤخّرًا ولم تُترجم بالفرنسيّة، وتقريبًا لم يأخذها أحدٌ بالحسبان، من دون الكلام أيضًا عن الندوات غير المطبوعة التي تمكّنت من الوصول إليها. إذًا نحن حاليًّا في وضع مستجدّ: إدراك مستحدث للكتاب وحالة جديدة من النقد الفلسفيّ. على كلّ واحدٍ أن يستخلص الاستنتاجات. ولكن لا يمكن الاحتجاج ضد كتابي من التلقّي السابق للكتاب، ما عدا الرغبة بنفي وجود وسبب أن  يكون من البحث الفلسفيّ والتاريخيّ، والبلبلات التي يحملها.

 أضيفُ الاعتبار التالي. لنضع جانبًا بعضَ الهايدغريّين الراديكاليّين الذين، في قداستهم التامّة، قبلوا جميعهم بهايدغر، مع المخاطرة بدفع دفاعه حتّى التعديليّة. يبقى أولئك الذين استسلموا لمظهر الكتاب، ولكن يبدو، من دون أن يفهموه بشكل كافٍ في مجمله، ومن دون نظرة شاملة نقديّة. أنا لا أقول هذا كعتابٍ طالما أنّ ظروف التقبّل الأكمل، كما أشرت، لم تجتمع إلّا منذ وقت قصير. لم يحفظ البعض من الكتاب سوى الجزء الأوّل من التحيل الوجوديّ للكينونة والزمن، والبعض حفظوا ميتافيزيقا السلطة المعروضة في النسخة التي نُشرت في العام 1961 لدروس عن نيتشه، وفي النهاية حفظ آخرون «مسألة التقنية» المفصّلة بعد العام 1945. لأنّهم لم يحفظوا جميعهم عن هايدغر وقاموا بخيارات، تمكّن هؤلاء المؤلِّفون من الظهور كـ «نقّاد» أو ادّعوا ذلك، وكانوا بذلك بالفعل مدافعين عن الدين أصوليّين. إلّا أنّ بإمكاننا اليوم اعتبار أنّهم لم يقدّموا انتقادات كافية بحيث أنّ المقارنة الدقيقة بين مختلف مراحل إعداد الكتاب تسمح بفهم التوجّه العامّ الذي أخذه هايدغر وبإعادة النظر فيه. لهذا أفكّر أنّ ليس كتابي فقط تمّ تجاهله بشكل كبير في فرنسا، ولكن عددٌ آخر من الأعمال الأخيرة أيضًا، مثل كتابَي غريغوري فرايد ورينارد لاند اللذَين فتحا عهدًا جديدًا من التقبّل النقديّ لكتاب هايدغر، وقد أصبح في كل الأحوال ضروريًّا بالنسبة إلى المجلّدات التي صدرت لـ«الأعمال الكاملة».

غ.ب.: إذًا المشكلة كلّها هي عدم الفهم بشكل جيّد كيف تمكّنت كلّ الخلفيّة الهايدغريّة في بعض أقواله من إيجاد مسافة مع النظام، لا سيّما في كتابات ما بعد الحرب، التي تحدّثتَ عنها قليلا جدًّا في كتابك ـ لكنّ كتاب مارتن هايدغر لم ينته في العام 1945! لو تتبّعنا قراءتك حتّى النهاية، لا نفهم بوضوح كيف تمكّن هذا الكمّ من الأفكار النقديّة لليبراليّة والرأسماليّة من النهل من ينبوع هايدغر وفكره، أعتقد على سبيل المثال بمسألة التقنية كما أعاد صياغتها ماركوس وآخرون، ولكن بالإمكان مضاعفة الأمثلة.

إ.ف.: هناك أوّلًا مسألة الأمر الواقع، أيمكننا أن نتحدّث بجدّية عن مسافة نقديّة اتخذها هايدغر تجاه النظام؟ في «ملفّ هايدغر» في محفوظات كولمار في وزارة الخارجية، نكتشف أنّ هايدغر عُدَّ في العام 1938 بأنه «موثوقٌ به سياسيًّا» من قِبل جهاز الأمن (SD) «service de la sécurité» (SS)  «Sicherheits  dienst» وفي العام 1943، عندما أعدَّ ألدُّ أخصامه في النازيّة، أرنست كريك، تقاريرَ ضدّه، دافع عنه مسؤولون في الـ NSDAP [الحزب النازيّ أو حزب العمال القوميّ الاشتراكيّ الألمانيّ.

يجب علينا أيضًا أن نرى كيف عاش هايدغر الذعر عند هزيمة النازيّة. نحن نعرف أنّه ذهب في العام 1944 إلى برلين مع زوجته ألفريد لإجراء اتصالات وتقويم الوضع، وأنّه تناول الغداء بالتحديد مع الفقيه القانونيّ النازيّ كارل شميت: كانت مناقشاتهما تنحصر في مسألة الحرب. ثم مع وصول قوّات الحلفاء ـ وفقًا لشهادة تلميذه وصديقه المؤرّخ التعديليّ أرنست نولت ـ هربَ هايدغر الذي كان قد لجأ إلى مسكريتش مسقط رأسه على درّاجة خوفًا من إلقاء القبض عليه. فور اكتمال الهزيمة، حاول الاحتماء لدى رئيس الأساقفة غروبر الذي لم يكن قد التقاه من العام 1933 وقال لأخت هذا الأخير: «بالنسبة لي، انتهى الأمر».

عاش هايدغر هزيمة النازيّة ككارثة تاريخيّة وشخصيّة في آن واحد. انظر إلى إحدى رسائله إلى أحد أكثر تلاميذه قربًا إليه، المؤرّخ رودولف ستادلمان: مع هزيمة الرايخ الثالث، دخل الألمان في ليل طويل. في 20 حزيران/يونيو 1945، كتب هايدغر له:

 نحن، الألمان، لا يمكننا الانحناء لأنّنا لم ننهض بعد وينبغي علينا أوّلًا أن نعبر الليل. GA) [الأعمال الكاملة] 16،371)             

لم يتخلَّ هايدغر عمّا سمّاه، في رسالته إلى أليزابيت بلوكمان في 12 أيلول/سبتمبر 1929 (القوّة الأسطوريّة والماوراء الطبيعيّة الأصليّة لليل»...

بالإمكان أيضًا الاستناد على محادثات سجينَين من سجناء الحرب الألمان المسجونين في روسيا، نُشرت في ج. 77 من الـ GA  [الأعمال الكاملة]: فقط  في لحظة هزيمة النازيّة قال بانّه يخشى إبادة الإنسان.

إذا «قدّم هايدغر تنازلات» أمام لجنة فرايبورغ عندما حاول تبرير نفسه، وإذا تحدّث عن عاره في رسالةٍ إلى جاسبر ياسبرز عندما احتاج إلى دعمه  كي يُرفع الحظرُ عن ممارسته التدريس، فقد كان هذا كلّ شيء تقريبًا. ماذا فعل ما إنْ تمكّن من رفع رأسه، ما إنْ رُقّيَ إلى أستاذ فخري في العام 1951 وسُمح له من جديد بالتدريس بعد ستّة أعوام من الحظر؟ في الدورتين [التدريسيّتين] اللتين ألقاهما في 1951-1952، واللتين نُشرتا تحت عنوان «ماذا يُسمّى التفكير؟»، كان بعيدًا عن التراجع وانتقاد القوميّة الاجتماعيّة، ولم يُشر إلى الحرب العالميّة الثانية إلّا من حيث النتائج التي رتّبتها على ألمانيا. تحامل من جديد على الديمقراطيّة، وقارن الوضع في أوروبا بين سنوات العقد السادس وسنوات العقد الثالث من القرن العشرين حيث بحسب قوله «لم يكن عالم التمثيلات على مستوى ما يرتفع من الأعماق»...وفي السنة التالية، أي في العام 1953، نشر دورته التي ألقاها في العام 1935، مقدّمة عن الميتافريريقيا، حيث يحافظ على ثنائه على «الحقيقة الداخليّة والعظمة» للحركة القوميّة الاجتماعيّة. ضمن هذا السياق الثقيل جدًّا ألقى هايدغر كلماته حول التقنية ونشرها: «Le Ge-stell» في العام 1949 في برام و«مسألة التقنية» في العام 1953 في ميونيخ. للحقيقة إنّ الكلام عن عالميّة التقنية هو من دون أصالة كبيرة وتم استيحاؤه بشكل واسع، وبشكل خاصّ من الكتاب الذي صدر في العام 1946 لفريدريك جورج جونغر (الذي كان هايدغر قريبًا منه)، Die Perfektion der Technik [كمالُ التكنولوجيا]. من جهة أخرى، من الممكن الآن إدراك واقع أنّ الرفض الهايدغريّ للتقنية هو خطاب يعود إلى العام 1945. في الواقع نحن نعرف ذلك من خلال نشر نصٍّ مُصّحّح لدوراته حول النازيّة في  Gesamtausgabe [الأعمال الكاملة] عن علاقة الشعب الألمانيّ بالتقنية وعن «استخدام الجيش الألمانيّ للسيارات»، وهو ليس في سياق رفض التقنية بل على العكس. هذه نقطة رئيسيّة سأعمل على توسيعها في كتابةٍ مقبلة، وهي تفترض إعادة تقويم شامل لتقرير هايدغر إلى أرنست جونغر، في ضوء نصوصه عن «العامل والسيطرة العالميّة للعرق النازيّ»، التي صدرت في الـ GA  [الأعمال الكاملة ](إلى أرنست جونغر، ج. 90). ما سأقوله ببساطة لإكمال حوارنا، هو أنّ كتابه لا يحمل لنا أيّ ضوء حول الأسئلة التي يطرحها تطويرُ التقنيات، والدمار الذي تخلّفه، ولكن أيضًا تطوير المعرفة الناتجة عنها لا سيّما في علم الفلك وعلم الكون ـ المجالان المجهولان تمامًا من قبل هايدغر-. إنّها في الواقع لا تقوم سوى بتغذية الخطابات الكارثيّة التي تُلقى غالبًا اليوم عن رد الفعل النقديّ.

بياتريس فورتن: نحن لا نعيش ولا نموت أيضًا، نحن لا نفكّر ولا نتكلّم أيضًا منذ انتصار الجنون القاتل للمخيّمات. يبدو من الضروريّ التذكير بأنّ بريمو ليفي يذكرها كـ "الجنون الهندسيّ". إنّ "سلّة نفايات" المخيّمات، "الخِرقة"، بحسب ما قالته آن ـ ليز سترن، هذا التقلّص غير المسبوق للإنسان إلى إنسان آخر ضمن النوع البشريّ كان له في البداية معنى أنّ تكون اللغة قد أُعيد السيناريو المسرحيّ لها.

هذه اللغة كانت بالتأكيد الجبهة التي عُملت أوّلًا لهويّة الشخص، ولكنّها أيضًا للمشهد الإنسانيّ للعالـَم الإنسانيّ التاريخيّ والناطقة عن الكائنات البشريّة. كذلك ليس كثيراً السؤال عمّا استوحته الفلسفة من النازيّة المسؤولة عن "السلالات الجزّارة" (ليجاندر) وعن عار الجريمة غير المسبوقة، بأنّ ما يشير في اللغة إلى العالم، يشير إلى الوجود المحايد بدلًا من الوجود الذاتيّ الذي يستند إلى مواكبة لغةٍ وبالتالي إلى مواكبة مشهد يقوم على هزيمة الفكرة الإنسانيّة للإنسان. ما هي إذًا الدلالات الكبيرة التي تظهر في الفلسفة الهايدغريّة وتبدو لك تنافس ظروفَ –كما قال فرويد- إخراجِ ليس الحلم، ولكن هذا الجنون المنظّم هندسيًّا؟

لنركّز قليلًا على مشكلة الحياد والتحييد. الحياد، أو بالأحرى أيضًا حياد الأنتولوجيا التي يمكن استخلاصها من  "es gibt،ein Dasein» [هذا يكون، الوجود]، «die Welt" [العالـَم]، إلخ، يساهم في تقلّص الإنسان إلى شيء موجود. التحييد من خلال هذا الحياد الذي يطبع حرفيًّا اللغة في المخيّمات، مساهمًا بذلك بتدميرٍ هويّاتيّ وتاريخيّ للأشخاص، وهذا أيضًا نوع من الرعب العجيب الذي يمسك اللغة المفرغة من إشارتها إلى الحالة النفسيّة وإلى الجسد الإنسانيّ. هناك جسد البطل، ولكن هناك أيضًا نظيره، الجسد الأسير. هذه اللغة التي لا نزال ورثتَها الفكريّين تدلّ على كره للظرف البشريّ وبشكل عامّ أكثر كره للنفسيّة بعنوان فرديّتها الشخصيّة. «Ein geistig Toter» [الميت روحيًّا]، يقول هوش، لم يعُد بمستوى المطالبة داخليًّا بحق الحياة الشخصيّ؟» (السماح بتدمير الحياة لا يستحق الحياة، 1920) هل تحمل لغةُ هايدغر بصماتها؟ وفقاً لأيّة أنماط؟

على نمط «الحياديّين»، الذي من خلاله تطوّرت الأُطُر الدلاليّة في لغة فلسفة هايدغر، يُضاف بُعدُ تنكّرِ اللغة، الذي أصبح كما نعرف أحد لوازم الواقعيّة الحديثة المـُعدّة لإجازةِ الإبادة الجماعيّة. سمة الانحراف هذه المـُشار إليها في اللغة النازيّة، جعل منها معجمُ «اللغة اللإنسانيّة» صدًى (Strenbergern،Storz،Süskind,) دار أولستاين للنشر 1989). تشير هذه النقطة إلى استبدال الكلمات لخدمة الواقعيّة الجديدة التي أصبحت مشهدًا لقتلٍ «مُزيَّتٍ آليًّا» يقول كيرتيش، حيث الأمثلة المعروفة أكثر هي «الاستحمام»، «الخِرَق» أو «وجوه» الموتى. هل تعتقد أننا نجد فيه مبدأ «إعادة دلاليّة» مماثلة في كتابات هايدغر؟ إذا كان الأمر كذلك، فيممَّا يتكوّن هذا المبدأ وما هي مجالات الواقع التي يلامسها؟

 إذًا هي ثلاثة أسئلة تتسجّل في منطق لغة «إعادة الدلاليّة» من قِبل النتزيّة وتعبّر عن القلق نفسه: إنّه ليس مجرّد تأثير واضح للنازية على هايدغر وطريقة تفكيره الفلسفيّ، المسألة تتعلّق بالجذر الأساسيّ للتفكير وأيضًا بتأثير الدلالات التي نظّمت تدمير قوّة تظنّ نفسها شخصيًّا خارج هذه الحاشية من اللغة التي أورثتنا منذ ذلك الحين شكلًا من أشكال الفكر، وبالتالي شكلًا للغة سمَح بما لا يمكن تصوّره.

إيمانويل فاي: إنّ أسئلتك تفتح مجالًا لردّ فعل مهم لا يمكنني تجاهه حاليًّا سوى اقتراح بضعة ميادين.  مع هايدغر ليس هنالك فقط تحيديّة، ولكن هنالك تدمير شامل للوجود الذاتيّ. هو نفسه يقول في رسالة بتاريخ 1933 إلى الجسم التعليميّ في جامعة فريبورغ، إنّ «الفرد، حيث يقف، لا قيمة له». إلّا أنّ هذه التحيديّة للنفسيّة وهذا الإلغاء للانسان الذي وصفتَه جيّدًا، أراد هايدغر تسجيله في لغة الفلسفة. كان الإلغاء التديريجيّ لكلمة «الإنسان» منذ «الكينونة والزمن». لقد استُبدلت بكلمة الـ  Mensch[الكائن البشريّ] كلمة Dasein [الوجود]. من خلال هذا اللفظ Dasein، كلّ ما هو أكثر استخدامًا في اللغة الألمانيّة، يسعى إلى فرض-في الصفحة 74 من «الكينونة والزمن» خلال ثلاثينات القرن العشرين ـ مفهوم الـ  Sein [له]، «الوجود»، الذي لا يمكن أن يحدث سوى في جماعة من شعب متحد في مصيره التاريخيّ و«مهمّته [العرقيّة]». في ندوةٍ له في العام 1933-1934 وهي غير منشورة، لم يُخفِ هايدغر أنّ هذه الوحدة متأصلة، كما بالنسبة إلى كلّ النازيّين، في وحدة الدم والعرق، وفي العلاقة الحيّة للشعب بفوهررِهم.

المسألة تتعلّق بالنضال لتأكيد الذات (Selbstbehauptung) في وجه الهيمنة العالميّة. هذا يفرضُ أن نتجاوز زمن الـ أنا إلى زمن الـ نحن. إنّ ما كان يقوله غوتر أندارس عن شبهِ واقعيّةِ «فلسفة الوجود» لهايدغر، يلامسُ الصواب: إنّ الوجود الذي وُصف في «الكينونة والزمن» لا يعرف الجوع. كما أشار ماسكولو، هو لا يعرف الحبَّ أيضًا. كلّ ما بقي له من الخصوصيّة، هو الموت: بالنسبة إلى الشبّان الألمان المنضوين تحت النازيّة، هو الموت «الأرقى والأصعب»، إنّه موت التضحية، Opfer [الضحيّة]، الذي لطالما أشادَ به هتلر في كتابه Mein Kampf [كفاحي]، وبالنسبة إلى هايدغر في مناسبة تأبين النازيّين لـ ألبرت ليو شلاغتر الذي مات شهيدًا؛ بالنسبة إلى الأعداء الذين ينبغي طردهم من بين الشعب، هي الإبادة الشاملة التي كان هايدغر يدعو لها علنًا في دورته في شتاء العام 1933-1934.

 يوجد في كتاب هايدغر، لحظات كثيرة في استراتيجيّته للقضاء على النفس البشريّة. في ندوة غير منشورة 1933-1934، يحض على امتلاك حقيقيّ للنفس البشريّة من خلال القيادة الهتلريّة. مفردتا «الحرية» و«القرار» لم تعودا تعنيان استخدام الحَكَمِ الحرّ، ولكنّهما تعنيان ولاء للشعب التامّ لفوهررِهم. وهكذا دارت كلّ مفردات الفلسفة إلى نقيضها. في دورات عن نيتشه، تحت اسم «الميتافيزيقا» كان تعريف شموليّة الموجود على الإفراط في قوّة الوجود هو ما تمّ تحديده. أمّا بالنسبة إلى كلمة «الذاتيّة»، فهي لا تعني الـ أنا، ولكنّها تعني التأكيد على الذات للمجتمع وللشعب وللعرق الذي تولّاه هايدغر تمامًا في دروسه حول نيتشه كما يمكن أن نقرأها اليوم في Gesamtausgabe [الأعمال الكاملة] ـ من دون التزييف المتعمّد في طبعة العام 1961-، لدرجة  أنّ هايدغر يرى أنّ الإنجاز الأقصى للذاتية يكمن في اختيار العرقيّة! تبقى النصوص التي لا تُحتمل أكثر من غيرها هي ندوات برام في العام 1949: وضع هايدغر على المخطّط نفسه الزراعةَ الآليّة وغُرَف الغاز، وطرح، بالنسبة إلى ضحايا مخيّمات الإبادة، نقاش إمكانيّة الموت نفسها. المسألة لا تتعلّق ـ كما تحاول التفسيرات التعديليّة أن تجعله مقبولًا ـ باستنكار الظروف الوحشيّة لإعدامهم، ولكنّها تتعلّق بالتأكيد على أنّ فقط الذين يمكنهم الموت هم أولئك الذين جوهرهم «يحبّ جوهر الموت» والذين من خلال الجوهر هم «في منأىً من الوجود». تواصل التمييز وتجذّر في ما هو أبعد من تطبيق تاريخيّ لـ «الحلّ النهائيّ». هذا ما تطلقون عليه االكرهَ للظرف الإنسانيّ الذي استمرّ يسكنُ هايدغر حتّى ما بعد العام 1945. تبلغ إرادةُ الإبادة ذروتها في ما أطلقتُ عليه الإنكاريّة الأنتولوجيّة.

ميشال كوهين-حليمي: عندما نتساءل، كما تفعلون، عن مسؤوليّة هايدغر المفكّر، أي عن تسويةٍ مخزية بين الفلسفة الهايدغريّة والنازيّة والتي بُدِئ بالتحرّي عنها في Sein und Zeit [الكينونة والزمن] (1927)، نواجهُ الكثير من الأسئلة. بالتاكيد، المسألة لا تتعلّق أبدًا بتبرئة كلّ فكرة قبل العام 1933 ولا باعتبار أنّ النازيّة تحرّكت وفقَ حركة جيلٍ عفويّ... ولكن ربّما يجب تحديد ما تقصدونه من «المبادئ الهتلريّة»، عند وجود مثل هذه المبادئ في أساس Sein und Zeit [الكينونة والزمن]. كان هابرماس قد حدّد  «مَذْهَبَةَ الفكر» الهايدغريّ بالعودة إلى العام 1929، وأنتم تُرجعونها إلى ما أبعد من ذلك، أفضل، أنتم لا تدافعون عن فرضيّة «المـَذْهبة» هذه ولكن عن تلك  الراديكاليّة الحرفيّة للتشريب المبدئيّ. إذًا ينبغي شرح شيئن وشرحهما بطريقة متلازمة: كيف تمكّن فلاسفة حذرين جدًّا مثل ك. لويت وإ. ليفيناس من الاستمرار بتبرئة الـ Sein und Zeit [الكينونة والزمن]، حتّى بعد صياغة أصعب التشخيصات عن الفيلسوف الملتزم بالنازيّة؟

إيمانويل فاي: مواقفُ إيمانويل ليفيناس وكارل لويت مختلفة جدًّا. يبدو من التناقض الاستناد إلى ليفيناس لصالح هايدغر. بالطبع، ليفيناس لم يُخفِ أبدًا أنّه كان يكنُّ نوعًا من الإعجاب بـ «الكينونة والزمن». ولكن يجب أن نرى ما الذي أعجبه في هذا الكتاب. الكينونة والزمن كتابٌ ثقيل وغير شفّاف، ذو طريقة إعدادٍ سكولاستيكيّة [مدرسانيّة] تذكِّرُ غالبًا بأبحاث كارم بريغ الذي تابع هايدغر دروسه اللاهوتيّة الدرسانيّة في فريبورغ، كما إنّ استيعاب مثل هذا الكتاب لا يمكن إلّا أن يكون بطيئًا وصعبًا. تبقى الدراسة التي كرّسها ليفيناس في العام 1932 عند عتبة هذا المؤلَّف. لقد اهتمّ بالأوصاف الأولى للتحليل الوجوديّ، ولكن لم يقل شيئاً عن القسم المركزيّ للتاريخانيّة، مع تصوّر مصيرٍ أصيل أُعيدَ إلى مجتمع الشعب (ص 74) والسحر الهايدغريّ  للتجذّر والتربة، تتجلّى الـدنيويّة Bodenstنndigkeit جيّدًا في تجميع اقتباسات كونت يورك حيث يشكِّلُ هذا التجميعُ الفقرةَ الأخيرة حول التاريخيّة (ص 77). فضلًا عن ذلك، يُشكِّلُ فكرُ الآخر واللامتناهي الذي وسّعه ليفيناس احتجاجًا إثنيًّا ضدّ  أولوية الأنتولوجيا.

عندما فهم ليفيناس ما يمثِّلُه هايدغر واقعيًّا، ألّف بضع صفحات هي أقسى ما كُتِبَ عنه . انظر إلى ما قاله في العام 1957، في الفلسفة والفكرة واللامتناهي: هايدغر موجود كـ «نتيجة لتقليد طويل من الأنَفة والبطولة والهيمنة والقسوة». إنّه «يدعم نظامَ سلطةٍ أكثر لاإنسانيّة من المكننة»، و«العبادة الإقطاعيّة حيث الناس عبيد للأسياد والأعيان الذين يأمرونهم»، التي تستند إليها، بحسب قول ليفيناس، القوميّة الاشتراكيّة. إنّها «أمومة الأرض التي تُحدِّد «الديكتاتوريّة السياسيّة» و«الحرب». في الأساس، هذا التشخيص النقديّ  بعيدٌ عن تبرئة «الكينونة والزمن»، لأنّ العقيدة الهايدغريّة للتأصيل هي بالفعل في هذا الكتاب. والصفحات التي كرّسها ليفيناس لـ «هايدغر وللهايدغريّين» في «هايدغر، غاغارين ونحن» هي من بين الأكثر وضوحًا التي نُشرت في ستينات القرن العشرين حول هايدغر: أظهرَ مؤلفها «قسوة» «انقسام البشريّة إلى سكّانٍ أصليّين وأجانب»، التي تؤدّي إليها أسطورة هايدغر عن الطبيعة والكينونة. موقفُ كارل لويت النقديّ هو الأقسى أيضًا، ربّما لأنّه كان يعرف تاريخ هايدغر الطويل وقد توغّل جيّدًا في عقيدة الكينونة والزمن. لويت لا يبرّئ هذا الكتاب أبدًا. يؤكِّدُ في نصّه في العام 1940 (حياتي في ألمانيا...) على غرار ما أكّده في مقالته التي صدرت في «العصور الحديثة» عن «الآثار السياسيّة المترتّبة على فلسفة الوجود لدى هايدغر» (1946)،  على أنّ تصوّر الوجود التاريخيّ المـُطوَّر في الكينونة والزمن هو الذي دفع هايدغر للالتزام بالحركة الهتلريّة. من جهة أخرى، هذا ما أكّده هايدغر نفسه في روما في العام 1936، في الردّ على سؤال لويت. استنتج هذا الأخير نتيجةً منطقيّة عندما أعلن، تمامًا بالنسبة إلى الكينونة والزمن، أنّ «تطبيق الممارسة السياسيّة، في الالتزام الفعليّ لصالح قرارٍ محدَّد، يبرّئ أو يدين في الحقيقة النظريّةَ الفلسفيّة التي كانت بمنزلة الأساس له» (الآثار السياسيّة.»..، ص 344). باختصار، يقدِّرُ لويت أنّ من الشرعيّ إدانة الكينونة والزمن، التي ظهرت في العام 1933، وذلك على ضوء الالتزام السياسيّ لهايدغر في النازيّة. يبدو لي وضوحُ النقد لدى لويت لافتًا، أكان تحديدًا في مراسلاته مع هايدغر في العام 1920 وفي تشخيصه عن الراديكاليّة وسلطة القرار لمؤلِّف الكينونة والزمن الذي أنا جزءٌ منه (انظروا إلى بداية القسم 1، ص19-21). من جهة أخرى، أشير إلى أنّ فَهم الكينونة والزمن يفترض سياقًا لم يُعدُّه أحد في فرنسا، ويمرّ من خلال دراسة الروابط بين هايدغر وبركر وكلاب وروثاكر. على سبيل المثال ينبغي التذكير بأنّ قالب «الكينونة والزمن» هو تقرير بقي غير منشور، للمراسلات بين دلتاي (Delthey) والكونت يورك، التي نُشرت في العام 1923 في مجموعة يديرها أريك روثاكر. كان التقرير بالإضافة إلى ذلك من ناحية أخرى مقرّرًا لمجلّةٍ أصدرها روثاكر حديثًا. كان هايدغر قد أخذ تصوّره من التاريخانيّة والتجذّر في الواقع (الدنيويّة) التي لا يخفي يورك مفهومها المعادي للساميّة. في هذا الصدد، تُشكّل المحاضرات التي أُلقيت في العام 1925 وعُنوِنَت «الصراع الحاليّ من أجل رؤية للعالم» التاريخيّ، علامة فارقة رئيسيّة. صدرت هذه المحاضرات مؤخّرًا بترجمة جيّدة لجان كلودجينز. للأسف لم تظهر قضيّتها أبدًا في التعريف الذي قدّمه الناشر: لم يُقل شيءٌ عن فكر الكونت يورك ولا عن العلاقات بين هايدغر وروثاكر. حتّى إنّ عنوان المحاضرات لم يُسْتَعَدْ على الغلاف، وأخفى نشرُ مراسلات هوسلرـ دلتاي في المجلّد نفسه، القضايا الحقيقيّة. كان يجب أن تُنشر مراسلات دلتاي ـ يورك، أو على الأقلّ أن يتمّ تحليلها في الوقت نفسه.

وهكذا ربطتُ في كتابي دراسةَ المحاضرات بدراسة الكينونة والزمن. أنا لم أنطلق من العام 1927: تمنّيتُ أنّ لا يعدَّ القارئ هذا الكتابَ كنوعٍ من المـَعالم الفلسفيّة المنفصلة، ولكن كمرحلة في تأكيد «تاريخيّة» الوجود، الذي سيدفع بهايدغر للالتزام علنًا بتأييد هتلر في العام 1933 والسنوات اللاحقة. يؤكِّد في الكينونة والزمن أنّ الوجود الحقيقيّ لا يحصل سوى في وحدة مصير شعبٍ اختار أبطالَه. يكون ذلك قريبًا جدًّا من مفاهيم وحدة المصير ووحدة الشعب اللتين هما أساس النازيّة. في هذا الكتاب الذي كُتب ونُشر بهدف الحصول على كرسيّ؟ هوسرل في فريورغ، لم يتمكّن هايدغر من أن يقول فيه المزيد، ولكنّ ما قاله كان كافيًّا.

 أنا لا أعتقد أنّه كان هنالك نقطة تحوّل في العام 1929. هي أسطورة ابتدعها من بوغلر وللأسف ردّدها هابرماس، من دون تدعيمها بالتحليل الدقيق. بالتأكيد، انفتح هايدغر أكثر في دورة العام 1929-1930 على المفاهيم الأساسيّة للميتافيزيقا (بما في ذلك الصفحة 38 الشهيرة حيث ندّد بـ «التيه السياسيّ» لجمهوريّة فايمار) وفي نقاش دافوس مع كاسيريه. في الوقت نفسه، استمرّ بإخفاء ما يشكِّل الأساسيَّ برأيه: تدلّ رسالتُه في 2 ت1/أكتوبر إلى المستشار شوارير على أنّ معاداته للساميّة الراديكاليّة، ونضاله ضدّ ما لا يتردّد بتسميته «التهويد المتزايد» للحياة الروحيّة الألمانيّة، «بالمعنى الضيّق كما في المعنى الواسع»، يبقيان مستترَين إلى حدٍّ كبير. يتصرّف هايدغر كأعضاء بعض «الدوائر العرقيّة»: أفكّر على سبيل المثال بـ « Bund des Artamanen» [رابطة أرتامانن] التي يمدحها جونغر ـ ومنها انطلق هيملر وداريه- والتي تُخفي عداءً للساميّة القاتلة، تحت ستار منح لقب التشريف من خلال العمل والعودة إلى الأرض.

 مهما كان عليه الأمر، اليوم ونحن نمتلك دروس العرقيّة للعام 1933-1934، لم يعد بإمكاننا تجاهل التفسير الذي قدّمه هايدغر نفسه لـ «الكينونة والزمن» إلى تلاميذه. نراه على سبيل المثال يقدّم في العام 1934 الهمَّ -التعبير المركزيّ أكثر في «الكينونة والزمن» ـ كـ «شرط الإمكانية كي يتمكّن الإنسان أن يكون ذاتًا سياسيّة» (GA  [الأعمال الكاملة] 36/37، 218)، كلّ هذا في درسٍ تحدّث فيه عن «هيمنة الاحتمالات الأساسيّة لجوهر العرق الألمانيّ الأصيل» (م.ن، ص89). يؤكّد هايدغر في ذلك التاريخ ـ بعد سنة على وصول الحركة القوميّة الاشتراكيّة إلى السلطة ـ على «أنّنا أنفسنا»، أي الشعب الألمانيّ المنضوي تحت الفوهرريّة الهتلريّة، نتمسّك «بعزيمة أكبر أيضًا» ممّا كانت عليه في السابق، بأصل الفلسفة اليونانيّة! هذه العزيمة كما حدّدها، «تمّ التعبير عنها في كتابي الكينونة والزمن». وأضاف أنّ المسألة هي «عقيدة يجب أن تظهر عبر التاريخ» وتتعلّق بـ «التاريخ الروحي لشعبنا» (م.ن، ص 255).

هي ليست فكرة فلسفيّة تلك التي تكمن في عمق كتاب هايدغر، ولكنّها اعتقاد عرقيّ بالتفوّق الأنتولوجيّ لشعبٍ وللأرومة التي توجد فيه. في واقع الأمر، القراءة المتأنّية لفقرات الكينونة والزمن حول الموت والتاريخانيّة، مع مدحها للتضحية ولاختيار الأبطال والمصير الحقيقيّ للوجود في وحدة الشعب، تدلّ عل أنّ هذه العقيدة كانت موجودة مسبقًا في الكتاب في العام 1927.

م.ك. ـ خ.: السؤال الثاني «الملازم»، يبدو ضروريًّا لتحديد التعريف المنفرد والمـُجدِّد الذي الذي قدّمَته للنازيّة كـ «Bewegung» [حركة]، أكثر منها كإيديولوجية من أجل فهمٍ أفضل لتشخيصك الخاص بالـ  «الكينونة والزمن». أيمكنك أن توسّع هذه الفكرة؟ هذا التوسيع يبدو لي ضروريًّا لإزالة بعض الالتباسات.

إ. ف.: هذا التعريف، في الواقع، ليس جديدًا: هو الأسلوب الذي يشير به النازيون إلى أنفسهم، وهايدغر لا يُخالف القاعدة. المعنى الكليّ للنازيّة لا يمكن أن ينعكس في البنية الفوقيّة لـ «إيديولوجيا»، حتى لو كان لا مجال للشكّ بأنّ نجد في الهتلرية عددًا قليلًا من الثوابت - بدءًا من معاداة الساميّة ـ التي يمكن تشبيهها تمامًا بنوعٍ من نواة للإيديولوجيّة. في الواقع، النازيّة مؤسّسة إبادة مبدؤها ونهايتها يجب أن يبقيا مستترين: انظر إلى السرّ الذي يحيط  بتطبيق «الحلّ النهائيّْ. ينبغي في هذه  الروحيّة نفسها فهم كلام هايدغر عن السر، الباطن الخفيّ والظاهر، أو عمّا «ارتفع من الأعماق» في عشرينات القرن العشرين. قدرة التلميح لـ «الحركة» ملفتة. انظروا إلى خطابات الفوهرر عن السلام، في الوقت الذي لم يكن يحلم فيه سوى بإعادة تسليح ألمانيا بشكل كثيف. وبعد العام 1945، كما يعبّر هايدغر عنه في رسالة لم تُنشر إلى جونغر يوضح فيها القول المأثور لريفارول، «الحركة» تستمرّ في «السبات»: صفاء الطمأنينة الكاذبة، التهدئة بانتظار إله جديد، ليسا أقلّ رعبًا  بالنسبة إلى المستقبل من خطابات العام 1933 الأكثر عدائيّة.

م.ك. ـ خ.: في السلسلة الأخيرة للديالكتيك السلبيّ بعنوان «تأمّلات في الميتافيزيقا»، ولا سيّما في المقطع التالي: «إنْ أمكنَ أن يحدثَ هذا في الحضن نفسه لكلّ هذا العرف الفلسفيّ للفنّ وللعلوم التنويريّة فهذا لا يعني فقط بأنّ العرف والروح لم يصبحا قادرين على ملامسة الناس وتغييرهم». في هذه المقاطع نفسها، يكمن الكذب في المطالبة المنمّقة بالاكتفاء الذاتيّ. كلُّ ثقافةٍ تَلَت أوشفيتز [معسكر أوشفيتز للاعتقال والإبادة]، بما في ذلك نقدها السريع، ليس سوى كومة من القمامة. من خلال ترميم نفسها بعد ما جرى من دون مقاومة في أثناء عبورها، أصبحت هذه الإيديولوجيّة قويّة بشكل كامل منذ أن سمحت لنفسها، في أثناء معارضتها للوجود الماديّ، بإعطائه الضوء الذي حرمه منه انفصال الروح والعمل الجسديّ. إنّ مَن يُرافع للحفاظ على ثقافة مذنبة بشكل جذريّ ومتهالكة يتحوَّل إلى متعاونٍ، في حين إنّ مَن يمتنع عن الثقافة يساهم فورًا بالهمجيّة التي تتكشّف الثقافة عنها. حتى الصمت لا يخرج عن هذه الدائرة. إنّه لا يقوم، من خلال استغلاله لحالة الحقيقة الموضوعيّة، سوى بتأصيل عجزه الشخصيّ، مقلِّصًا مرّة أخرى هذه الحقيقة إلى [مستوى] الكذب».، أدورنو يسلّمنا معضلةً يائسة مع الحاجة الملحّة للخروج منها. كيف تُحدِّد تحليل كتابك بالنسبة إلى هذه اللفتة الأدورنويّة المزدوجة؟

 أ.ف.: أنا لا أعدُّ هذا النص دعوةً للتخلّي عن عمل نقد الفكر، بل على العكس. أدورنو نفسه، في «مصطلحات الأصالة» كما هو الحال في الديالكتيك السلبيّ، انغمس في النقد الأكثر حسمًا والأكثر تبصّرًا الذي كُتب عن هايدغر. بعد قولنا هذا، لا يمكننا عبور النازيّة من دون معرفة اليأس اللامحدود. يبدو أنّ هذا هو ما يُعبّر عنه أدورنو. ولكنّني لا أعتقد أنّه ينبغي علينا مع ذلك، كما كانت الحال مثلًا مع دريدا، الوقوع في الفخّ الهايدغريّ وأن نُحَمِّلُ الفلسفة نفسها، أو «الميتافيزيقا الغربية» كما فسّرها هايدغر مسؤوليّةَ الانحرافات الاستبداديّة في القرن العشرين. إنها تنشأ على عكس انحراف الفلسفة وتدمير الفكر والحسّ الإنسانيّ الذي يبقى أنموذجه الأكثر تطرفًا على وجه التحديد هو أنموذج هايدغر.

[1]- العنوان الأصلي للاستطلاع:          Martin Heidegger ou La Traversée De La Nuit - Question à Emmanuel Faye

Gaëtan Pégny, Béatrice Fortin et Michèle Cohen - Halimi.

ـ المصدر: أسئلة موجّهة إلى إيمانويل فاي.غايتن بيني، بياتريس فورتين وميشال كوهين-هليمي- نُشر للمرّة الأولى في  السفينة الشبح، العدد 5، الليل، خريف العام 2005 هايدغر، الصفحات 8-36.

- نقلت النص إلى العربية: م. الدرويش - راجعه: كريم عبد الرحمن.

[2]- هايدغر،  Sein und Wahrheit، [الكينونة والحقيقة]، Gesamtausgabe [الأعمال الكاملة] [GA 36/37، ص 119 و225.