البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

هل كان هايدغر نازياً ؟ .. معادياً للسامية؟

الباحث :  أعدها أريك دي روبيرسي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  5
السنة :  السنة الثانية - خريف 2016 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 1 / 2016
عدد زيارات البحث :  1333
تحميل  ( 355.379 KB )
تدور مناقشات هذه الندوة حول القضية الأكثر إثارة للجدل، وهي تحاول الإجابة عن التساؤل عما إذا كان عايدغر نازياً أم معادياً للنازية. وقد جاءت الندوة على شكل محاورة دارت بين مدير «مجلة العالَمَينْ» Revue des Deux Mondes، أريك دي روبيرسي مع المفكر والباحث الفرنسي فرانسوا فيديه. أما المحور الأساسي لهذه المحاورة فقد تركز على التساؤل القلق حول معنى أن يكون المرء فيلسوفاً ويكون في الوقت نفسه داعية إلى الظلم والقهر كما هي التهمة التي وجهت إلى هايدغر لجهة صلته بالحزب النازي في ألمانيا. علماً أن هذه المحاورة لا تجزم في خواتيمها بأن هايدغر كان مؤمناً بالنازية، وإن هادنها في لحظة ما من رئاسته للجامعة.

المحرر

----------------

تبقى قضيّة مارتن هايدغر (1889-1976) من دون أيّ شكّ، إحدى القضايا الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الفلسفة على الرغم من أنّها تفيض بالصراع والجدالات، فضلًا عن أنّ كتابه الأساسيّ «الكينونة والزمن» (1927)، هو الكتاب الأكبر في الفكر في القرن العشرين. إنه بالتأكيد كتابُ أحدِ الرجال الذين قد تأمّلوا بحماس وعمق كبيرين تهديدات عصرنا. ليس أمامنا سوى أن نتذكّر هذه السطور من «السكينة»: إن الثورة التقنيّة التي تتجه نحونا صعودًا تمكّنت منذ بداية العصر النوويّ من أن تفتنَ الإنسانَ وتبهره وتدوِّخ رأسَه وتأسره بحيث أصبح التفكر الحسابيّ ذات يومٍ هو الوحيد القابل للممارسة. ما هو الخطر الكبير الذي يهددنا؟ ثم إنّ المدهش أكثر هو براعة الحساب الذي يخترع ويخطّط، مصحوبًا... باللامبالاة تجاه الفكر التأمليّ، أي الغياب الكامل للفكر. وبعد ذلك؟ إنّ الإنسان رفض ونفى أنظفَ ما لديه ليعرف أنّه كائن مفكّر. هل المسألة هي إذًا إنقاذ هذا الجوهر للإنسان؟ المسألة هي الحفاظ على يقظة الفكر[2]. أو هي أيضًا ما لا يمكنه أن يكون أكثر وضوحًا وصفاءً، ومبدئيّةً وأساسيّةً في محاضرة  «كلمة نيتشه» «مات اللّه»: «ربّما ندرك ذات يوم أنّ لا التوقّعات السياسيّة المستقبليّة، ولا الرؤى الاقتصاديّة ولا الرؤى السوسيولوجيّة والفنيّة والعلميّة، ولا حتى الرؤى الدينيّة أو الغيبيّة كافية للتفكير بما يحدث في العالم في هذا القرن. لأنّ ما يقدّمه هذا للتفكير بالفكر ليس معنى نهائيًّا ومستترًا، ولكنّه شيء أقرب: إلى المعرفة الأقرب التي نتجاوزها دائمًا لأنّها ليست بالتحديد سوى الأقرب. من خلال مثل هذا التجاوز، نحن نمارس على الدوام، من دون أن ننتبه، قتلَ وجود الموجود[3]، باختصار، الفكر الذي لا يمكن الإحاطة به، حيث لا تتقاطع فيه فقط مسألة الكينونة والوقتيّة، والمسألة الأساسيّة والتقنيّة لنهاية الميتافيزيقا أو التاريخ، أو أيضًا مشكلة العلم واللغة...

تبقى حقيقة أنّ كتاب هايدغر جديرٌ اليوم أكثر بإيقاظ ليس ردّ الفعل ولكن أيضًا ببعث النقاش السياسيّ لدى منتقديه المتأثّرين بالهاجس الإيديولوجيّ، لتثبيته في النازيّة بأيّ ثمن. مع ذلك في فرنسا ـ حيث استفاد المـُدانُ ـ أو بالأحرى المذنب ـ  من الإعجاب الذي لقيه بفضل جون بوفريه (1907-1982)، الشخص الذي أُرسلت إليه «رسالة حول الإنسانيّة»، ومؤلٍّف «حوارات مع هايدغر»، الذي، عندما سألته كي أعرف بالتحديد إذا كان، بحسب رأيه، فكرُ هايدغر، الذي ظهر تحت النازيّة المولودة، لم يطرح أيّ مسألة تستند بشكل دائم إلى الحاليّة، كان من ضمن إجاباته: «إنّ اتهامَ فكرٍ كبير هو واحدٌ من عجائب التسيس [...] الذي يستقطب كلّ الاهتمام مع تفسير الفلسفة كـ «إيديولوجيا»، وهذا قمّة ما سمّاه ريمبو «ضعف العقل[4]». لقد مضى على كتابة هذه السطور أربعون عامًا. هل هي قديمة إلى هذه الدرجة؟

حسنًا، ألم تكن حيرة قرّاء «الكينوننة والزمن» كبيرة عندما تعرّفوا على مفردات خطاب مكتب رئاسة الجامعة، الذي ألقاه في العام 1933 عند تولّيه منصب رئيس جامعة فريبورغ أون بريسغو؟ لا يمكن لخطأ  مرتكَب في الحكم، الذي يُحتجُّ به عمومًا، وليس سوى سذاجة سياسيّة، ولا لاستقالته من منصبه بعد حوالى سنة أن يبدُوَا كافيَيْن لتبرئته أو لإقفال الجدالات. وبالنظر إلى ذلك، فإنّ فيليب سولير الذي، حول هذه النقطة الحساسة جدًّا، هو الأكثر تبصّرًا عندما يؤكّد: «إذا كانت النازيّة حدثًا رئيسيّا في التاريخ، فإنّ فكرَ هايدغر هو الوحيد الذي يسمح بالتعرّف على رهانَيها الحقيقيّين. النقد الوحيد لإتمام العدميّة أي للميتافيزيقا نفسها، كهيمنة عالميّة للتقنية، وكتهيئة تكيّفٍ بيولوجيّ للكائن البشريّ، هذا النقد، نحن ندين له به. حول ذلك الامر، الكذبُ شاملٌ تقريبًا[5]».
 ولقد قال سولير نفسه الذي شجبَ نيّةَ الإضرار بكتاب هايدغر: «عظمتُه هي التفكير باستفحال العدميّة الأوروبيّة. هذا مرّة أخرى ما يجعله لا يُطاق من قِبل كلّ رجال الدين. [...] انظروا، في هذا النطاق، إلى الحركة البافلوفيانيّة [نسبةً إلى إيفان بافلوف] بالنسبة إلى هايدغر. اقرأوا بسرعة الصحافة بطريقة فكريّة تشاهدوا العدوان الدائم ضدّ مَن يفكّ عقدة العدميّة. أكان هدف استبعادٍ استحواذيّ لهذه الدرجة يدلّ على أنّ الرهان محترق[6]. ولكن من دون أن نحسب اليوم أنّ مسألة هايدغر معادٍ للساميّة تشكّل، فضلًا عن ذلك، موضوع جدلٍ كبيرًا منذ الآن، وهذا بمناسبة ظهور الإصدار القادم في ألمانيا في دار فيتّوريو كلوستيرمان، الناشر لكتبه، النصّ الذي لم يُنشر كاملًا ومن 1200صفحة بعنوان «الدفاتر السوداء» (Schwarze Hefte).

تُشكِّل المذكّراتُ الشخصيّة الحقيقيّة لأفكار الفيلسوف التي احتفظ بها منذ أوائل الثلاثينات حتى عام 1970، عندما قرّر أن ينشرها، ما مجموعه ما لا يقل عن تسعة مجلدات، وردت في نهاية الطبعة الكاملة لـ «أعماله الكاملة» (Gesamtausgabe) ولكن بعض المقتطفات نشرها في المجلّة الأسبوعيّة « Die Zeit « في كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي بيتر تراوني،  المسؤول عن النشر، تدلّ بوضوح، بحسب قول هذا الأستاذ في جامعة فوبرتال، على «معاداة للساميّة خاصّة» وصفها بأنّها «تاريخيّة» (historial seinsgeschichtlicher Antisemitismus) [البداية التاريخيّة لمعاداة الساميّة] كي لا تكون لها علاقة بمعاداة الساميّة التي ارتقت مع الإيديولوجيا النازيّة التي كانت هي نفسُها قائمة على العرقيّة البيولوجيّة. هذا لا يمنع: فقد وُصف هايدغر حقًا بمعاداة الساميّة. كما يُتوقَّع، تعرّض بعد ذلك على الفور في الصحف والإذاعة لردّة فعل مترافقة مع أسوإ الاتهامات، لقد شارك العالمُ بأجمعه تقريبًا بمهاجمته. نقول هنا بأنّ «الكلام كان محزنًا مُعْميًا عن أهوال النازيّة[7]»؛ هنا نتكلّم عن «فقرات تزيل كلّ شكّ ممكن حول الطبيعة العميقة والفادحة لنازيّة هايدغر»؛ إلى جانب ذلك، كُتب أنّ «هذه الدفاتر السوداء، في الواقع، مليئة بالأفكار المعادية للساميّة غير القابلة للمناقشة. حادّة، خبيثة[8]». وهذا كلّه حتى قبل التمكّن من التأسيس على ما كتبه مؤلّفه في الواقع: وبصرف النظر عن بترها عن سياقها، فإنّ الفقرات المتّهمة من هذه الدفاتر السوداء االتي أُعلن عن صدور المجلّدات الثلاثة الأولى منها في خريف العام 2014، بالتزامن مع صدور بحثٍ لبيتر تراوني، ناشرها العلميّ، «هايدغر وأسطورة المؤامرة العالميّة لليهود، فيتوريو كلوستيرمان، 2014)».

من دون شكّ، إنّها مسألة جديدة لهايدغر، بعد تلك التي أطلقها فيكتور فارياس في العام 1987، وبيير بورديو في العام 1988، وبعد ذلك وفي العام 2005 من قبل ايمانويل فاي، الذي هو نفسه مع تخمينه بأنّ الفيلسوف كان قد  كتب خطابات هتلر[9]
 ويوصي بأنّ لا شيء أفضل بالنسبة لكتابِه من الحظر والمنع» «هذا الكتاب لا يمكنه الاستمرار بتمثيل صورة المكتبات الفلسفيّة: هذا ليس جدّيًا بل إنّ مكانه في أعماق تاريخ النازيّة والهتلريّة[10]»
 هذا ليس جدّيًّا بشكل واضح.

إنّها مسألة، على كلّ حال، تزامنت مع صدور «معجم مارتن هايدغر»، ما مجموعه 615 مدخلًا يتعلّق بعدّة عناوين أبوابٍ في فهرسه الموضوعيّ: «الفنّ والشعر»، «الإلهيّ»، «العلم»، «طريق هايدغر»، ما جعله كتابًا تلقينيًّا، نوعًا من المفتاح الذي يسمح بالدخول إلى مختبر كتابه، ويسمح لأولئك الذين لا يقرأون الألمانيّة، بأن يبدأوا بكلّ العناوين التي تُرجمت فيه إلى الفرنسيّة (مِن ما هي الميتافيزيقا؟ مرورًا بالتوجيه نحو الكلام وصولًا إلى الإصدار الأخير، مساهمات في الفلسفة). في عدد من هذه المقالات تلك المقالة حول معاداة الساميّة التي يصفها مؤلّفها هادريان فرانس لانور، «الحزينة جدًّا»، قال بأنّ الجملة الأولى: «لا يوجد في كلّ أعمال هايدغر المنشورة حتى هذا اليوم، أيُّ جملة تُعادي الساميّة»، طالبت بـ «تعديل طويل[11]»
 بعد «المفاجأة العميقة والمؤلمة» عند اكتشاف «كلام إشكاليّ» وُصف من قِبله بالـ «المسبِّب للصدمة وللاكتئاب والذي لا يُطاق». وتكمن المفارقة في أنّه يضيف: «يجب علينا بكلّ نزاهةٍ لغويّة، أن ننتظر أيضًا قراءة السياق الذي كُتبت فيه، ويجب أيضًا الحفاظ على تماسك جميع جوانب المشكلة[12]». هو إعلانٌ يلتقي مع إعلان إيمانويل فاي الذي يؤيّد أنّ: «من المتفق عليه، أنّنا لا نستطيع تكوينَ حكمٍ كامل على هذه النصوص إلّا عند صدورها[13]».

وهكذا نحن في وضع يجعلنا نتساءل، إنْ كان صحيحًا أنّه لم يكن قد مُنع بعد، أن نقوم بذلك ـ كلّ الاهتمام بهايدغر يبدو منذ الآن مذمومًا ـ في نطاق هذه المسألة، مع فرانسوا فيديه، الذي يدير الترجمة الجارية لأعمال هايدغر الكاملة في دار غاليمار للنشر. إنّ فرانسوا فيديه، المتحمّس منذ نصف قرن، ليس فقط لقراءة هايدغر ودراسته من خلال النصوص بل كان متحمّسًا أيضًا لنقده، هو بمقدار نجاحه كمترجـمٍ لكتبِ هذا الأخير، لا يستاء من أولئك الذين يعتقدون بعكس ذلك. وهذا أيضًا ما سمح له بالرّدِّ مرة أخرى على منتقدي المفكّر، ولا سيّما في كتابه «تشريح فضيحة[14]»
 كهجوم مضادّ على فيكتور فارياس وفي «هايدغر، من بالأحرى»، الكتاب التجميعيّ الذي صدر بإشرافه كردّ على إيمانويل فاي[15]. مهما كان الأمر، الشيء المؤكّد هو أنّ النشر الكلّيّ للدفاتر السوداء يوفّر توضيحًا يسمعون منه هنا مساهمة ـ لا إجابة عن أسئلتنا ـ تصريحات فرانسوا فيدية المدروسة لا سيّما عندما يجعلنا نلاحظ أنّ هايدغر يشير فيها إلى أنّ «معاداة الساميّة» هي (tِricht und verwerflich) «لا معنى لها ومُدانة»، وهذا تمامًا ما يمكن قوله عنها بدقة. بالانتظار، حتّى إذا توفّر ما يغذّي الشائعات، لا مكان للاستسلام لوهم استبعاد كتابٍ بشكل نهائيّ، كما هو الحال مع مثل هذا الانتقاد الذي بالنسبة إليه «في نهاية المطاف مسألتان فقط مهمّتان. هل بالإمكان عمل الفلسفة، في القرن الحادي والعشرين، من دون أدنى اهتمام بهايدغر؟  الجواب نعم،هل يجب ذلك؟ الجواب نعم[16]». «ضعف العقل»، كما يقول ريمبو!

أريك دي بورسي

Revue des Deux Mondes  [مجلّة العالـَمَين]: كيف تفسِّرُ أنّ في بلدٍ مثل فرنسا، في لغةٍ بذلنا فيها جهودًا بكلّ تأكيد لترجمة هايدغر، نتحمّل نتيجة تفكيره عقليًّا بقدر كبير من التشنّج؟

فرانسوا فيديه، الفيلسوف، تليمذ جون بوفريه منذ العام 1955، أستاذ مساعد في الفلسفة للصفّ السادس الثانويّ بمدرسة لويس باستور في نويي ـ سور ـ سين، حتّى العام 2001، من جملة ما نشره، مارتن هايدغر: الزمن، العالم (بوكت، مجموعة، "أغورا"، 1212)، الميتافيزيقا: دروس في الفلسفة (موكت، مجموعة، "أغورا"، 2012)، كذلك "الإنسانيّة المقصودة: لمقاربة قراءة" رسالة حول الإنسانيّة" لمارتن هايدغر (سيرف، مجموعة "ليلة تحت المراقبة"، 2012).

فرانسوا فيديه: أنا أطرح على نفسي السؤال نفسَه! يوجد هناك نوعٌ من التناقض. أليس التشنّج الذي تتحدّثُ عنه هو هذا الموقف المتناقض لـ «العالم العقليّ»، الذي يرضى بالتعرّف لدى هايدغر على صور كبيرة للفكر في زماننا ولكنّه في الوقت نفسه متردّد في التخلّي عن سلسلة من الأحكام المسبقة التي تنتهي كلّها بالدوران حول «المسألة السياسيّة»، ويرضى بمعرفة دعمه القويّ، خلال ما يقارب السنة، ويرضى بما كان يعتقد بأنّه «الثورة القوميّة الاشتراكيّة»؟ أنت تعلم أنّني كرّستُ الكثير من الوقت لمحاولة فهم هذا الانحراف السياسيّ. أعتقد أنّني توصّلتُ إلى نتائج يجب أن تساعد على إرخاء هذا التشنّج وعلى جعلنا نجد بعضًا من السكينة. على عكس ما عُدَّ لوقت طويل كالتحام متحمّس ـ من دون شكّ بسبب نقص المعلومات الجديّة ـ فإنّ الدعم القويّ لهايدغر تمّ بالنسبة إليه في جوٍّ من الأسى الذي أثاره الوعي الواضح للمخاطر التي يخوضها. إلّا أنّ هذه المخاطر لم تؤخذ باستخفاف. كما قلتُ منذ لحظة نشر «الكتابات السياسيّة»، كان هايدغر يعتقد بأنّه إذا توصّل كلّ الألمان المهتمّين حقيقةً بالخروج من الأزمة البغيضة التي يتخبّط فيها البلد، إلى الاتحاد حول مستشار جديد سيتيح ذلك إمكانيّة التصدّي للمظاهر المقلقة للشخصيّة  ـ هذا ما كان يأملُه. كان هذا خطأً كبيرًا. في البداية لأنّ الاتحاد الكبير لم يحصل. ونحن نعلم أنّه لم يحصل لأنّ الهتلريّين عرفوا بسرعة وببراعة كيف يناوبون الرعب (لإرهاب المعارضين المحتملين) والنزعة الإجماعيّة (لكسب أوسع طبقات المجتمع). عبقريّة هتلر السيّئة، هي بالتحديد معرفته منذ زمن طويل (حتّى اتفاقيّات ميونخ، في خريف العام 1938) كيف يغطّي واقع عزيمته الهجوميّة من خلال إعطاء انطباع آخر عن طريق المبالغة بتصريحاته السلميّة. ما يجب أن نعرفه هو أنّ هايدغر توقّف في وقت مبكّر نسبيًّا عن أن يكون مغفلَ هذا المسرح. حتّى قبل ميونيخ، كان يعلم أنّ هتلر كان ديماغوجيًّا [غوغائيًّا] لا إيمان له ولا قانون. ولكن كما تعرفون أكثر منّي أيضًا، لقد سبّب النظام النازيّ العذابَ للبلد بأكمله. مع ذلك نجح هايدغر، خلال هذه الاثنتي عشرة سنة المظلمة، بجعل طلّابه يسمعون ما يكفي من الأمور كي يصبح أكثرُهم صدقًا في ما بعد شهودًا على «مقاومته» بحسب روح العصر ـ أقول ذلك، وأنا أعلم أنّه لم يكن مقاومًا. هناك مَن يجدون ذلك لا يُطاق. أمّا بالنسبة لي، أتساءل، لو أنّني كنت مكانه، هل كنت قادرًا على القيام بأفضل مما قام به.

مجلّة العالـَمَين: ترجمتك لكتاب هايدغر «Apports à la philosophie» [مساهمات في الفلسفة]، التي صدرت بعنوان «De l’avenance» [من الحَدَث] في تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي عن دار غاليمار، وككلّ مرّة، ارتفعت أصوات ضدّ تناقض المصطلحات المفاهيميّة. ولكن ألا يجب أن نُدهش بالأحرى من المقدرة الفوق طبيعيّة التي تقدّمها اللغة الفرنسية لتتقدّم بعيدًا جدًّا في الفكر؟

فرانسوا فيديه: أنا لا تدهشني أبدًا هذه الانفعالات الفزِعة. إنّها غير قابلة للفهم. أنا أعمل الآن منذ ما يزيد على خمسين سنة بالترجمة عن هايدغر. وصدّقني، إنّه تحفيز متجدّد يوميًّا. في آخر حياته، كان جون بوفريه يستقبلني عندما كنت آتي لرؤيته، قائلًا كلّ مرّة تقريبًا بلهجة التعجبّ: «بدأت أفهم هايدغر!» في ذلك الوقت، كنت أندهش قليلًا. الآن، أنا أرى بالتحديد ما كان يقوله. كلّما اقتربنا من المواضيع التي كان هايدغر يثيرها كلّما طمحنا لتتبّع خطاه، وللذهاب في الاتجاهات التي يطلقها. خُذ، أنت تتحدّث عن قدرات مدهشة للغتنا. حسنًا، إنّ ما نكتشفه عند قراءة هايدغر بتأنٍّ، هو أنّ لكلّ لغةٍ قدرات مماثلة. أنا لا أمَلُّ من أن أكرّر اليوم كما الأمس، ما تعلّمتُه من العمل على «دروب لا تؤدّي إلى أيّ مكان». هناك توجد العبارة المزلزلة « يتكلّم الوجود، بالصيغة الأكثر تنوّعًا، أينما كان ودائمًا عبر أيّ لغة». نعم، مزلزلة، هي الكلمة- شرط أن نزنَ ما قيل بوزنه الحقيقيّ، وأن لا نكتفي بتسجيل العبارة كمعلومة نعالجها كبقيّة المعلومات، في بنكٍ من المعطيات نتمنّاه ضخمًا يمنحك الفكر. النقد الذي وُجِّهَ إليّ، أنا أنظر إليه كمديح. لأنّه يكشف بأنّ طريقتي في الترجمة هي بشكلٍ ما وفيّة للدرس الأكثر ثباتًا لهايدغر. هذا الدرس يبدو على شكل عبارة سهلة ظاهريًّا (هذا في ندوة عن هرقليطس[17]، عُقدت بمشاركة أوجين فينك في العام 1966-1967): «المفاهيم، يجب أن نفكّر بها بشكل جديد تمامًا كلّ صباح». هذا جيّد، وليس هنالك ما يخيف الأبطال «جِمال الثقافة»!

مجلّة العالـَمَين: أليس بالهمّ التلقينيّ تمامًا حقّقتَ «معجم مارتن هايدغر[18]»، الذي مع عدد من المقالات  المتعلّقة بكلّ ما مغنطَهُ فكرُه، يبدو كمفتاح للولوج إلى مختبر الكتاب؟

فرانسوا فيديه: أنا سعيدٌ جدًّا لأنّك لمـَّحت إلى «معجم مارتن هايدغر». ضمن هذا الفكر تمامًا تمّت صياغته: ليستفيد منه أكبر شريحة ممكنة من العامّة، من الطالب إلى الرجل الصادق ـ وليس أبدًا للعلماء «المتخصّصين» ـ، بغية الاستفادة منه كمفتاح يسمح بالولوج إلى مختبر المفكِّر. هايدغر نفسه كان يحبّ استخدام كلمة «المـَشغل». في الواقع، كتاب هايدغر لا يتوقّف من البداية إلى النهاية عن التحوّل والتطوير والتعمّق، باختصار، عن الاستعلام. اكتفى جون بوفريه، من دون عملِ مَن لم يكن هذا الكتاب بكلّ بساطة ممكنًا بالنسبة إليه، بالقول بأنّ هايدغر كان نوعًا ما معلّم مدرسة، يدرّب التلاميذ على معرفة الحروف والكلمات بهدف تعليمهم فنَّ القراءة. ساهمَ أكثر من خمسة وعشرين مؤلِّفًا بأوسع تنوّع ومن دون تشاورٍ بإعطائه مظهر البوليفونيّ [المتعدّد الأصوات] الذي يوحي به العنوان الفرعيّ لكتاب «مفردات تفكيره البوليفونيّ». يجب أن نعرف أنّ «المدراء» الثلاثة» ـ فيليب أرجاكوفسكي وهادريان فرانس لانور وأنا نفسي ـ لم يشرفوا في الواقع على الكتاب سوى بالمعنى الماديّ للكلمة. ليس هنالك، على عكس ما يظنّه بعض أصحاب الرؤوس العقيمة، مجلس إدارة في هذه المواد. هايدغر نفسه لم يكفّ عن المطالبة بأنّ نعيد التفكير مجدّدًا بما حاول التفكير به. إنّها هذه التعليمات نفسها التي تمسّك بها كلّ واحد من المساهمين على طريقته. في الواقع، إنّ صدور هذ الكتاب ضمن منشورات «سيرف» يساهم برأيي بالمعجزة. الحريّة التي تركها لنا هذا الناشر لا يمكن إلّا أن تظهر في الصورة التي سيكوِّنُها كلّ قارئ ـ وفقًا لنبرته الخاصّة، ولطريقة مراوَحتِهِ بين المقالات ـ عن مارتن هايدغر الرجل وعن فكره.

مجلّة العالـَمَين: على الرغم من أنّ كتاب «Apports à la philosophie» [مساهمات في الفلسفة]، الذي دُوِّن بين العامَين 1936 و1938 ونُشر بعد وفاته، كان «أكبر ثاني كتاب» لهايدغر بعد «تtre et Temps» [الكينونة والزمن]، فإنّه في الاستمراريّة التي التزم بها، لم يعُدْ إليه طالما هنالك حديث عن بدايةٍ جديدة. كيف يجب أن نفهم، بالنسبة إلى كتابه، ما يسمّيه هايدغر «البداية الأخرى»؟

فرانسوا فيديه: أن تكون «مساهمات في الفلسفة» «بداية أخرى» ـ فهذا تمامًا ما يعود إليه! «البداية الأخرى» ـ يجب أن نضيف شيْئاً كي نكون بمستوى فهمها ـ مقارنةً مع «البداية الأولى». هذه البداية الأولى، علّمنا بصبرٍ كبير، معلِّمُ المدرسة الذي تحدّثتُ عنه منذ قليل أن نفكّ شيفرتها وكأنّها لم تكن سوى فلسفة كاملة، منذ الفجر اليونانيّ إلى ما قبل غروب النيتشيّة. ما إن لوحظت الفلسفة بمثل هذا الكمّ المدهش، أصبح من الممكن أخيرًا طرح السؤال المحدَّد: ما هي الميتافيزيقا؟ الكتاب الكبير الأوّل «الكينونة والزمن» الذي نُشر في العام 1927، هو أوّل نتيجة لمسلك هايدغر. هذا الأخير، بعد عدّة سنوات، كان مع هذا الكتاب قد وصلَ «بعيدًا جدًّا وبسرعة كبيرة». كان هايدغر رجلًا أدرك في وقت مبكّر جدًّا الجانبَ الضروريّ للفشل. إنّه إدراكٌ، باعتقادي من المستحيل من دونه، البقاء في الذروة. في الحقيقة، هو لم يكفّ عن العودة ليس فقط إلى «الكينونة والزمن»، ولكن إلى كلّ لحظات وكلّ مراحل مسيرته. أذكر ذلك المساء عندما جئتُ لزيارته ورأيته على وشك إعادة قراءة مخطوطة. كانت تلك مخطوطة «الكينونة والزمن». وعندما سألته بشكّ ومكر: «ما هو انطباعك وأنت تقرأها من جديد؟» أجابني بكلّ هدوء: « بعد كلّ شيء يبقى هذا جيّدًا». أنت تذكر من دون شكّ المراسلة الأخرى، هذه المرّة مع ماكس كومريل، الذي لاحظ لديه ميزة استثنائيّة للوجود. وصف كومريل له أحاسيسه عند قراءة الملاحظة التي اقترحها هايدغر على شعر هولدرلين «كما في يوم الراحة». قال: «إنّ نصَّكَ يمكنه أن يكون ـ لا أقول بأنّه كان ـ يمكنه أن يكون إخفاقًا». وكانت إجابة المرسَل إليه: «أنت محقّ، هذا النصّ هو «إخفاق». كان «الكينونة والزمن» أيضًا «مشروعًا خائبًا». ولكنّ المدهش لدى هايدغر هو أنّ الوضوح أمام الإخفاق لا يفي أمام الضعف، ولكنّه حافز لإعادة الاستجواب بشكل أكثف. إنّ ما أقرّ هايدغر به على الفور تقريبًا كخلل أساسيّ في «الكينونة والزمن» هو (لِنَقُلْه بقليل من الحدّة) الهجوم غير الكافي على مسألة التاريخ. بتحديدٍ أكثر: استقطاب تحليل التاريخانيّة كتاريخانيّةِ الهُناك لا يُسهّل معرفة كيف تغلبُ العلاقةُ بين الكائن البشريّ والكينونة على كلّ شيء، ومن هنا يطلب أن تُعالَج في المقام الأوّل (حتّى قبل أيّ تحليل لما هو الهُناك). هذا تحديدًا ما ترتبط به إعادة مركزة «مساهمات في الفلسفة». بهذا المعنى، هي إذًا قراءة أكبر ثاني كتاب التي تُكمل إتاحة إمكانيّة توافق ما كان قد جُرِّب في الأوّل، وليس أبدًا قراءة «الكينونة والزمن» التي تُهيّئ قراءة «مساهمات في الفلسفة».

مجلّة العالـَمَين: هل أصبح مجرّد الاتهام الخلقيّ لالتزام هايدغر بالقوميّة الاشتراكيّة في العام 1933 هو فقط السبب في اتهام فكرِه؟

فرانسوا فيديه: قبل الاتهام، يبدو لي أنّ هنالك في البداية واجباً لا يمكن لأحد التهرّب منه: إنّه واجب إصدار الحكم! وأنا أفهم كلمة «إصدار الحكم» بمعناها الدقيق: توجيه الحكم المنصف بعد تبصّر لا لبس فيه حول المسألة المحدّدة. أعتقد منذ بعض الوقت، أنّنا نقترب شيئاً فشيئاً من هذا الوضع (ما من انتكاسات، هذا صحيح، كما تُشير الحاليّةُ مؤخّرًا!). أنت تستخدم تعبير «التزام هايدغر بالقوميّة الاشتراكيّة»، إلّا أنّ هذا التعبير بحدّ ذاته غامض بشكل خطير. أيعني: التزامٌ بما كشفَتْهُ القوميّة الاشتراكيّة في نهاية المطاف؟ أم يُفهم: الالتزام بالنسبة إلى ما كان يتمنّى هايدغر (والكثيرون من بقيّة الألمان معه) أن يصير؟ هناك فرق كبير. «الاتهامُ»، إذا كان هنالك اتهام، لم يكن نفسه في الحالتين. من جهتي، ما كنتُ أحاول أن أجعله معروفًا لدى شريحة واسعة من العامّة، هو أنّ هايدغر نفسه وجّه إلى هذا الالتزام حُكمًا محدّدًا ـ وذلك قبل اندلاع الحرب، أي في حقبة كان فيها ضرر النازيّة لا يزال بعيدًا عن أن يُحكم عليه كما هو الحال حاليًّا ونحن نعرف ضخامة جرائمه. هذا الحكم أُطلق في دائرة جامعة فريبورغ أون برسغو، وبالتالي علنًا خلال شتاء العام 1937-1938. أعلن فيه هايدغر: هل كانت هذه المحاولة [محاولة ممارسة تأثير رئيس الجامعة على جامعته] خطأً؟ من دون شكّ ـ هو غلط بشكل أن يُستغلّ الأمر». البعض يفضّلون الحديث هنا عن خطأ لا عن غلط. هم أحرار. دائمًا في الوقت الذي كان فيه هتلر يراكمُ الانتصارات على الانتصارات في السياسة الخارجيّة وكذلك في السياسة الداخليّة، كان هايدغر يحكم ويدين بالتالي علنًا التزامه الوقتيّ. أليس من الفضوليّة أن نلومه أيضًا أحيانًا لعدم إدانته من جديد بعد انهيار النازيّة؟ ولكن لننظر إلى المسألة بشكل أعمّ: ما معنى ألّا يُدان التصرّف ولكن يُدان التفكير؟ ألم تكن محاكمة سقراط أو الحرمان الكنسيّ الذي نطقت به سابقًا المحاكم الكنسيّة، حاضرة بالشكل الكافي في وعي العالم لإثارة الريبة المشروعة تجاه الميل إلى إرادة إدانة الفكر؟  هذا الحرمان الكنسيّ أُطلق غالبًا ضدّ الفكر الذي يُزعج. هل كان هناك إذًا، في فكر هايدغر، ما يسبّب إزعاجًا إلى الحدّ الأقصى؟ هل من باب الصدفة أن تكون هذه النقطة الأصليّة في فكره، لمعرفة أنّ كلّ الهيئات التمثيليّة التقليديّة التي بمساعدتها يبحث الفكر الغربيّ منذ الفجر اليوناني لتحديد جوهر الإنسان لم تصل إلى مستوى كرامة الكائن البشريّ الحقيقيّة، ألم يصبح هذا الفكر حجرَ عثرة إلى هذه الدرجة المربكة التي تبرّر من دون شكل آخر للمحاكمة إدانةَ مثيرِ الفتن؟

مجلّة العالـَمَين: إنّ السجالات حول هايدغر تظهر وتختفي على إيقاعٍ منتظم، آخرها أطلقها بيتر تراوني، مسؤول الافتتاحيّة في النشرة الألمانيّة لـ (Cahiers noirs) [الدفاتر السوداء] التي ناقشها بحيويّة في الصحافة، حتّى قبل  بيعها. هل هنالك حقًّا ما يكفي للقول، من دون أن يرفَّ لنا جفنٌ انطلاقًا من المذكّرات الخاصّة المتدرِّجة بين العامين 1937 و1941، بأنّ هايدغر كان معاديًّا للساميّة؟

فرانسوا فيديه: أنت محقّ بالكلام عن «الإيقاع المنتظم»! هذا الإيقاع، هو الإيقاع الذي سمّاه علماء النفس في المدرسة البافلوفينيّة  [نسبةً إلى إيفان بافلوف] «إيقاع محادثات ردود الفعل المشروطة». تميّزت الحلقة الأخيرة، التي أسرعت الصحافة لفهمها بشكل كبير، بذلك الشيء الجديد الذي قدّمته هذه المرّة «المعلومات» المتعاونة لنشر كامل كتابات الفيلسوف. لم ينشر تراوني فقط المجلّدات الثلاثة التي سبّبت ضجّة كبيرة. كان قد سبق ونشر الكثير غيرها، من دون أن يقدّم عمله مادةً  لِلَّوْم. ولكن يبدو أنْ ليس هنالك ما يُقال من جديد حول عمله، ولكن حول الكتيب الذي أراد أن يرافق الطبعة. إنّ إصدار هذا الكتيب الموجود بين يديّ يحمل عنوان (هل تمّ تغييره في هذه الأثناء؟ لستُ أدري، ولكن موضوع تحقيقاته لم يتغيّر على كلّ حال): «الدفاتر السوداء لهايدغر ومعاداتها التاريخيّة للساميّة».كيف يمكن أن يكون «المتخصّص» بهايدغر...أحمقَ. لست أنا من يتكلّم، ولكن هايدغر نفسه، في أحد النصوص التي ذكرها تراوني كمثال لـ «النصّ المعادي للساميّة». هذا ما قاله هايدغر: «ملاحظة للحمقى: إنّ ملاحظتي لا علاقة لها بمعاداة الساميّة. هذه الأخيرة هي [...] لا معنى لها وبغيضة».... بصراحةٍ لم يولِ تراوني اهتمامًا خاصًّا بهذه الملاحظة. زعمَ من دون شكّ أنّه يعرف أكثر من هايدغر ما هو معادٍ للساميّة وما هو غير ذلك. هذا يشكّل صدًى لكلام هيرمان غورنغ: «إنّني أنا من حدّد مَن هو يهوديّ ومَن ليس يهوديًّا!» إذا أضفتُ الآن بأنّ ملاحظة هايدغر تتعلّق بنبوءة الكتاب المقدّس، وبأنّ تراوني ببساطة لا يفهم السياق الذي وُضعت فيه هذه الملاحظة؛ وإذا فضلًا عن ذلك أشرتُ إلى أنّ النصوص غير المـُدانة من قِبل تراوني ـ وهي في مجملها صفحتان وثمانية أسطر، من ما مجموعه ألف ومئتا صفحة ـ قُدّمت من دون سياقها، وهذا بالطبع ما يجعل تفسيرها صعبًا، فإنّك ستفهم ما يبدو لي غاية الخطورة، نظرًا للحالة الراهنة للأشياء، وهو إرادة جعل هذه النصوص تبدو معاديةً للساميّة، لتمرير هذه النصوص المعادية للسامية. معاداةُ الساميّة، أعلن هايدغر نفسه وبصراحة أنّها  في الوقت نفسه في عبارة «لا معنى لها وبغيضة». من جهة أخرى هذا يتّفقُ تمامًا مع مشروعه من أجل التأسيس لكرامة الإنسان عن طريق التخلّي عن المفهوم التقليديّ للحيوان العقلانيّ ـ أي قطع الجسور مع كلّ ما يحطّ من قدرِ الإنسانيّة إلى مستوى أرفع نوع حيوانيّ، الذي يمكن أن نتفاءل بتحسين أدائه عن طريق المعالجة العلميّة المناسبة. هذا المشروع المندرج بشكل واضح في نقائض كلّ عنصريّةٍ، لا يُعجب مُديني هايدغر الغافلين.

مجلّة العالـَمَين: أليست المقاطعُ المـُدانة كافيةً لتغيير حكمِ هارديان فرانس لانور، حول مقالة معاداة السامانيّة في «معجم نارتن هايدغر»، التي ثبّت وُجهتَها أيضًا مع فيليب أرجاكوفسكي ومعك أنت أيضًا، لدرجة أنّه وصفها بـ «الكلام الهجوميّ، البائس الذي لا يُطاق»؟

فرانسوا فيديه: ما اعتقده، وأعرفه منذ سنوات، هو أنّ هادريان فرانس لانور لم يتمكّن من تكوين فكرة دقيقة حول هذه النصوص ومعناها خارجَ سياقها. لا تنسَ أنّ «الدفاتر» المقصودة جمّعت من يومٍ إلى يوم أفعال وأفكار هايدغر المنغمس في ذلك العصر في الوحدة حيث قاده العملُ الخالص غير المسبوق لتوظيف الفكر باتجاه «بداية أخرى». في هذا الوضع، إنّ ما كتبه لا يمكن أن يتجنّب المظهر المختزل، والإيجاز الذي يترك المجال لإمكانيّة سوء الفهم  أو سوء النيّة. أنا نفسي لا أزال غير قادر على التحقّق من سياق هذه الكتابات، ولكنّني منذ الآن، أصبحت قادرًا على تقديم تفسير يزيل الشكَّ حول بعضٍ منها. هذا يتّضح بشكل خاصّ مع النصّ الذي ذكرتُه في الإجابة عن سؤالك السابق. لنعُدْ إليه، لو سمحتَ، لأنّ في البداية كان فرانس لانور قد فهمه هو أيضًا بشكلٍ مغلوط. وهذا هو النصّ: «إنّ «النبوّة» هي الآليّة التي يمكن من خلالها التوصّل إلى رفض ما يملكه التاريخ من القَدَر. إنّها أداة لإرادة السلطة. ومن المؤكّد أنّ الأنبياء الكبار هم يهود. لم يفكّر أحدٌ حتّى اليوم بذلك الجانب من السرّ الذي تخفيه هذه الحقيقة. (ملاحظة للغافلين: هذه الملاحظة لا علاقة لها بمعاداة الساميّة.  هذه الأخيرة هي أيضًا لا معنى لها وبغيضة حيث طريقة تعامل المسيحيّة ضدّ الوثنيّين هي طريقة كانت في البداية دمويّة ولم يكن لها ضرورة. أن تشجبَ المسيحيةُ أيضًا معاداةَ الساميّة، وتشير إليها بأنّها «تتعارض مع المسيحيّة»، فهذا يسابقُ آليّتها باستخدام القوّة في قمّة التهذيب)». «كلمة «النبوّة» أُحيطت بدايةً بهلالين مزدوجين [علامة الاقتباس]. لكن عندما تعلّق الأمر بمسألة «الأنبياء الكبار» اختفى الهلالان المزدوجان. يكتب هايدغر دائمًا بكلّ وضوح. لم تكن لديّ معرفةٌ بعدُ بسياق هذا المقطع، فلا يمكنني الآن أن أقدِّم سوى فرضية. ها هي الفرضيّة: علامات الاقتباس هنا مهمّتها حفظ المفهوم الحقيقيّ لكلمة النبوّة. تلك «النبوّة»، تضيف العبارةُ الثانية، هي أداة إرادة السلطة. وفقًا للدروس المنتظمة لهايدغر، تمنحُ إرادةُ السلطة اسمَها للتفسير الأخير لوجود الموجود في تاريخ الميتافيزيقا. النبوّة الحقيقيّة، نبوّة الأنبياء اليهود الكبار كانت حتّى قبل بدء هذا التاريخ. هذا يستلزم أنّها لن تكشف إرادة السلطة. إلى ماذا يمكن أن يلمّح هايدغر في حديثه عن شِبه االنبوّة؟ صادف أنّ في 30 كانون الأوّل/يناير 1939، ألقى هتلر أمام البرلمان خطابًا حادًّا عدَّ نفسَه فيه نبيًّا. «خلال حياتي، قال، لطالما كنتُ نبيًّا. [...] اليوم، أريد أن أكون نبيًّا من جديد. إذا كان ينبغي على المال اليهوديّ العالميّ في أوروبا وخارجها أن ينجح مرّة ثانيّة في دفع الشعوب بسرعة في الحرب العالميّة، تكون النتيجة هذه المرّة [...] القضاء على العرق اليهوديّ في أوروبا». وكأنّ «نبوّته» تحقّقت للأسف. من دون شكّ، ولكن لأنّها في الواقع لم تكن نبوّة، ولكنّها هذه الأداة لإرادةٍ شديدة، ولأنّها جعلت ما قدّرَه لنا التاريخُ الحقيقيّ مستحيلًا فعليًّا. إذا استمرَرْنا بتفحّص النصّ ضمن هذه الروحيّة، نلاحظ أنّ ما قاله هايدغر عن النبوّة الحقيقيّة يخبِّئ مفاجآت، لأنّ الحديثَ عن «جانبٍ من السرّ» الذي تتضمّنه النبوّة العبرانيّة ـ جانب من السرّ الذي لم يفكّر به أحدٌ حتى الآن ـ، هو الحديثُ عن ترك الاحتمال الكبير مفتوحًا للنظر عن قرب إلى واقع إحدى أعلى ظواهر الروحانيّة الإنسانيّة. عند التفكير بالطريقة االمنحرفة التي مكّنت من قراءة مثل هذا النصّ، يكون من دواعي سرورنا رؤية هايدغر يستبق التفسير الخاطئ: يجب أن يكون المرء مغفّلًا كي يرى فيها معاداة الساميّة. المغفّل، هو العنيد الذي يعتقد بشدّة، بأنّه ليس بحاجة إلى شيء ولا إلى أحد كي يفهم مستعينًا بموارده فقط. اليوم، وبشكل أكبر، إنّه الفرد العاجز عن إدراك حجم البُعد الذي يفصل الوضع الذي هو وضعنا عن وضع الناس الذين كانوا يعيشون منذ سبعين عامًا. ولكن بين الحقبتين، ما لم يتغيّر هو الإدانة الواضحة التي وجّهها هايدغر لمعاداة الساميّة منذ ذلك الوقت. كيف يمكن أيضًا أن نطلق صفة معادي الساميّة على الشخص الذي، أعلن في حوالى العام 1939 (في حقبةٍ كانت في ألمانيا تُتخذ إجراءات صارمة تجاه الدعاية والسياسة العنيفة المعادية لليهود)، أنّ معاداة الساميّة لا معنى لها ومُدانة؟ ما أتمنّاه، من جهتي هو أنّ أيّ شخص يشكّ بأثرٍ لمعاداة الساميّة في أي مكانٍ وفي أي كتابةٍ لهايدغر، ليتذكّرْ ما أعلنه هنا في الفيلسوف، وبالتالي ليعترفْ إذا كان هنالك معاداة للساميّة التي يدينها هايدغر ويصف هذه الكتابة بأنّ لا معنى لها. يبقى على كلّ شخص أن يتحقّق ثمّ يحكم إذا كان الشكّ شرعيًّا أو إذا كان مجرّد خيال.

مجلّة العالـَمَين: هل تعتقد، على الرغم من أنّنا ندرك بأنّ مؤلّفات فيكتور فارياس أو إيمانويل فاي لم تكن بمستوى طموحاتهما، بأنّنا سنلاحظ أخيرًا بأنّ الاعتقاد بمعاداة الساميّة البنيويّة لدى هايدغر هو في حالته أكثر من خطير؟

فرانسوا فيديه: أوّل مؤلِّفَين ذكرتَهما (ولا تنسَ جون بيار فاي، الأب المؤسّس للـ PME  الشجاعة التي كرّست نفسها منذ بداية الستينات لاتهام هايدغر!)، حاولا بكلّ الوسائل أن ينشرا بين العامّة شائعات مشينة حول الفيلسوف. إيمانويل فاي نفسه انطلق بهوس إلى حدّ المطالبة بتنقية المكتبات العامّة من كتب هايدغر. من الواضح أنّ هناك زيادة في الحماس غير المنضبط.  على إثرَ مثل هذه التجاوزات يمكن الاعتقاد بأنّ فترة الانسحاب أصبحت الآن وراءنا. للأسف! لا أعتقد ذلك. إنّ وجود فكرة مزعجة في حياتنا هو مصدر دائم للاضطراب العميق. حاليًّا، إنّ شائعة المعاداة للساميّة تلقى الاستحباب. ذهبَ تراوني، الذي أقام في هذه الحالة محطّةً لهذه الشائعات في ألمانيا، إلى حدّ الزعم ـ كما سبق وأشرتُ منذ قليل ـ بأنّ معاداة الساميّة لدى هايدغر أصبحت تاريخيّة. «معاداة الساميّة التاريخيّة» ـ هذه العبثيّة من طبيعة «العِلم الآريّ نفسها» (التي استهلكها الهتلريّون كثيرًا). تفجيرُ هذا التناقض الداخليّ لهذا النوع من العبثيّات لن يغيّر شيئاً حيال أنّ فكر هايدغر يزعج كلّ عاداتنا الراسخة. كلمّا أصبح اسم هايدغر مشهورًا إعلاميًّا، كلّما حاولت الشائعات تلويثه.  لنفترض أنّ فورةً جديدة من الجنون تعطي حدّةً للعداء للساميّة: سترون أنّ ذلك سرعان ما سيجد أفرادًا يكنون  الضغينة لهايدغر  لانّه حُكم عليه بقسوة. مع ذلك إنّ ما يطمئن بالنسبة إلينا، هو أنّه منذ الآن، كلّ الناس الجدّيين يعلمون ماذا يوجد في كلّ هذه الشائعات. قاموا من دون إثارة ضجيج، بالعمل على فكّ شيفرة كلّ ما هو حاسم بالنسبة إلى عصرنا في فكر هايدغر. هذا العمل ليس سهلًا، وليس في المقام الأوّل بسبب الهرج والمرج حوله، ولكن لأنّ كلّ تفكير حقيقيّ يتطلّب نوعًا من الاهتمام المضاعف. ومع ذلك، أعتقد أنّه لن يكون من العدل السماح بقول ترهات عن شخص وأنت تعرف بشكل علميّ أنها تشهير.

مجلّة العالـَمَين: موقفُ هايدغر بعد الحرب ـ هو ما نسمّيه «صمته» ـ ألا يفسّر، قبل كلّ شيء، الثبات الذي معه أن يصبح فقط فيلسوفًا وصاغ كتابه كمشروع خالص للفكر؟

فرانسوا فيديه: تناولُ موضوعِ المكان الذي يحتلّه الصمت لدى هايدغر يتطلّب أن يُزال، ثمّ يُبعد كلّ ما يعيق الوصول. أنا أقول بوضوح، أنّ من الأفضل البدء بالتحقيق حول «الصمت لدى هايدغر»، بدلًا من «الصمت الهايدغريّ». هذه الصيغة الأخيرة تسمح بإدراك أنّ الفيلسوف (وخاصة بعد الحرب) سيكون أنت عندما يجب عليه أن يتكلّم وهي ليست سوى واحدة من العديد من المغالطات التي تجول حوله. هنا أيضًا، فإنه من المفيد تقديم بعض التصحيحات. الادعاء بأنّ هايدغر امتنع، بعد الحرب عن التحدّث عمّا هي فظاعة الهتلريّة، إنها بكلّ بساطة تُبطِن ما قال كأستاذ خلال كلّ مدّة الديكتاتوريّة الهتلريّة من تصريحاته العامّة والبيِّنة، لا سيّما في محاضرات بريمن في العام 1949-1950، في مؤتمر بريمن (التي نُشرت تحت عنوان «نظرة إلى ما هو«). لقد حاولوا جعل تصريحاته تبدو على العكس تمامًا ممّا تقوله. الشخص صاحب النيّة الحسنة لا يمكنه إلّا أن يدين مثل هذه المغالطات. لقد اتُّهم هايدغر أيضًا بعدم تأمين الدعاية الإعلاميّة لتصريحاته. لكنه كان يشكّ، وليس من دون سبب، بالفضيلة التطهيريّة لأشكال التوبة الواضحة جدًّا. بعد كلّ شيء، كان يعتقد أنّ الموقف الوحيد الذي يجب اتخاذه تجاه الاتهامات غير الشريفة هو موقف مونتين: «الهروب لتبرير نفسي، الاعتذار والتفسير، معتقدًا أنّ هذا يجعل  ضميري يدافع عنه».وفي معرض حديثه عن «الصمت لدى هايدغر»، الآن فجأة وفقط مجرّد الحديث عن ما يمكن أن يكوِّنَ المـَسكن الأكثر حميمية لفكره، وبعبارة أخرى لما هو أكثر غربة في ذلك، يُجبرُ على ترك كلّ الأسس المعروفة والمتفق عليها ـ وبالتأكيد ليس من أجل للقيام، لست أدري، بأيّ مسيرة مكلفة ولكن للالتزام بما يسمّيه شارل فرديناند راموز (في العام 1914، في نصّ مُدهش يسمّى «مثال سيزان») «العودة إلى النفس». ولكن كان من الممكن مع الأسف! وبعد مرور قرن على راموز، وبعد نصف قرن على هايدغر، أنْ نكون أبعد منهم بكثير من أن نتمكّن من تصوّر ما تعنيه لنا: «عودته إلى نفسه». أنْ «نعود إلى أنفسنا» ـ يجب أوّلًا أن نكون قد فكّرنا مليًّا بالأمر ـ لا يعني ببساطة جعلنا نجد وطنًا، كما نجد أيَّ شيءٍ قد اختفى. وليس هو العودة إلى النفس التي  تجعلنا نفقد الوطن. العودة إلى النفس تفتح أعيننا في واقع الأمر على أنّنا، من دون حتّى أن ندرك، فقدنا الوطن، ومنذ وقت طويل. في الأساس، بُغية تمييز الطريقة التي تناسب العودة إلى النفس، يكفي القول بكلِّ يُسرٍ: نحن لم نَعُد في العالـَم. لأنّ الوطن المقصود، هو تمامًا العالم. أمّا بالنسبة لإيجاد موجودٍ في العالم ـ فهذا ما يتطلّب شيئاً آخرَ غير الإرادة الطيّبة. أنت محقٌّ مئة مرّة عندما تتحدّث عن محاولة هايدغر كـ «مشروع محض للفكر». ولكنّ معظم معاصرينا يعتقدون بأنّ الكلام هكذا يفترض مسبقًا أنّ مثل هذا الفكر يبحث عن ملجأ بعيدًا عن «الحقائق القاسية» لست أدري ضمن أي برجٍ عاجيّ. لطالما أخبر هايدغر عن أن الكائن البشري منذ قرون قلّما فكّر بعمله، ولم يستمعوا له. في الواقع، لقد وصفَ الحالة التي تجد فيها الإنسانيّة بكاملها نفسها ـ «في التخلّي عن الوجود» كما سبق وقال أحيانًا. لقد حاول جاهدًا التفكير بهذا الوضع، بوضعنا، وهذا ما كرّس له كلَّ حياته. ما العلاقة بين هذا وبين الصمت؟ يستمرّ المرء بعدم رؤية شيء دقيق فيها طالما أنّ الجهاز المفرد ـ الذي الصمتُ فيه بالنسبة إلى هايدغر حاضرٌ ـ لن يكون واضحًا. إنّ هذا بالتأكيد ملحوظٌ من قبل. في أوّل الأقسام الستّة من «مساهمات في الفلسفة» (في العدد37) هناك تلميح عن العلميّة ـ للفعل اليونانيّ sign (الوصول إلى الصمت، صمتَ)، بعنوان «منطق» الفلسفة، على الرغم من أنّ هذه الأخيرة تطرح سؤالًا أساسيًّا انطلاقًا من البداية الأخرى»، إلّا أنّه لا يجب بشكل خاص تجاهل، كما سبق وأشرت أنتَ في سؤالك الثاني، المقدرةَ فوق الطبيعيّة التي تتيحها اللغة الفرنسيّة للتقدّم بعيدًا جدًّا في الفكر. هذا ما يمكن، عندنا، أن يسمح لنا بالتفكير بأنّ هذا الصمت، هو بالتأكيد كلمتنا «التحفّظ» ـ بشرط فهمها في اتجاه معاكس للاستخدام الحاليّ (حيث قال ببساطة إنّه تردّد كبير أمام قول ما يجب قوله، مع ميل لا يقاوم تقريبًا لعدم قول ذلك). صادفَ أنّ مقالة «الوجه» في الموسوعة، في القرن الثامن عشر، تعطي للكلمة دلالتها التقليديّة، وهي الدلالة البلاغيّة. كتبَ دومارساس: «التحفّظ يعني تمرير الأفكار تحت الصمت يجعلها تُعرف بشكل أفضل من خلال هذا الصمت ممّا لو تكلّمنا علنًا». في هذه الدلالة الدقيقة، يصبح الصمت غير كاف بشكل واضح كامتياز خاصّ بالكائن البشريّ. هو وحده يمكنه، تحت الصمت، تمرير ما لا يجب أبدًا أن نفهمه بالمعنى العاديّ حيث  نتّخذ التحفّظ، أي كتستّرٍ أقلّ أو أكثر. على العكس تمامًا! هذا الصمت، يقول النحويّ لدينا، «يزيد الوعي». غالبًا، منذ رحيله، أشعر بالأسف لأنّ الوقت لم يسمح لي لأُظهر لهايدغر هذه الروائع في لغتنا. مع طبيعتها الرائعة، يمكنها قول شيءٍ يتناغم بوضوح مع ما اكتشفه هايدغر من فرادةٍ. الصمت لدى هايدغر، حتّى منذ ما قبل الحرب، هو النقطة الأساسية في فكره. أنا لا أتردّد في تكرار أنّ هذا الصمت، ليس جموداً أبدًا، ولا انقطاعاً ولا توقّفاً عن الفكر. هو على العكس، نتيجة أو ثمرة لما أعدّه الفكر، ورتّبه وتركه يتفتّح، من خلال العمل على إمكانية أن يباشر الخطاب الصامت نفسه بالكلام. هنا يمكنك أن تلاحظ كيف انغمس هذا الرجل في العمل، ولم يكفّ عن محو آثاره، كقصائد الشعر الغنائيّ  لهوميروس ـ ليس من أجل إخفاء مساره، ولكن لينتهي به الأمر في النهاية بالتلاشي أمام الكلام المهم فقط. هكذا يبدو لي هذا المشروع الفكريّ الصافي الذي تحدّثتَ عنه. إنّه مدهش أكثر ممّا نعتقد عادة. معه يكون المرء نهائيًّا في تناقض تامّ. إنّ ما يبدو كابتعاد أقصى عن الواقع يمكن كذلك أن يكون على العكس  محتومًا معه جنبًا إلى جنب. قد يكون جيدًا أن نترك «للواقعيّين» من جميع المشارب المهملَ الوحيدَ الذي يناسبهم، المهمل لدى مستهلكي  الأوهام.

فرانسوا فيديه: اسمك مرتبط باسم هايدغر، الذي كانت لك معه مراسلات عديدة؛ أيمكنك أن تقول لنا كيف اقتحم كتابُه حياتَك منذ اللقاء الأوّل؟

فرانسوا فيديه: كنت محظوظًا برؤية هايدغر بانتظام حلال ثمانية عشر عامًا. هذا الحظّ غيرُ مستحَقّ (أنا مع أنّ الحظّ يُستحقّ في ما بعد)، هذا الحظّ الجسور، قدّمه لي جون بوفريه، ولن أعرف أبدًا أن أعبّر عن امتناني له. أنْ يقدِّمني جون بوفريه إلى هايدغر هذا أمرٌ أفضل من التأهيل. كان ذلك في إيكس أون بروفانس، بمناسبة محاضرة «هيغل واليونانيّون». بعد المحاضرة تمكّنت من الاقتراب منه. إنّ ما أذكره جيّدًا وكأنّه حصل بالأمس، هو الإلحاح عليّ بالقول: «اِطرحْ الأسئلة. هذا ما يجب أن تفعله». (كانت جلسة منتدى مقرّرة لصباح اليوم التالي). إلّا أنّ طرح الأسئلة ليس سهلًا. ما إن يترك المرءُ براءةَ الطفولة، حتّى يختلط التبختر والغرور، ويتصوّر أن عليه أن يُظهر  قبل كلّ شيء أنّ أسئلته هي «ذكية». هذا ليس سوى غباء. أشارت ماري دو جورني حول مونتين ما يمكن أن يكون عملة نادرة لأولئك الذين يجلبون إلى الفلسفة شيئاً  آخر غيرها يمكنه عند الاستحقاق أن يغيّرَ كلّ المغامرة: «رفاقه [أولئك الذين يذكرهم مونتين ويعقّب عليهم] يعلّمون الحكمةَ. هو يعمل على جعل الحماقة تُنسى. «الطريقة التي يعلمك فيها هايدغر طرح الأسئلة هي حافز ولكنّها إعادة الاستحواذ على السذاجة الفطريّة ـ هذه السذاجة لدى الكائن البشريّ المولود حرًّا أي القادر على أن يشاهد، ما هو، من دون أن يرف جفنه. إلّا أنّ خصوصيّة هايدغر، أكرر ذلك، هي أن يكون هنالك مع المزيد من البصيرة الملحوظة لدينا ـ نحن كائنات هذا الزمن العالميّ ـ صلةٌ وثيقة نكون من خلالها مثبّتين (طالما أنّنا لا نعتقد بذلك) بهذه القصّة غير العاديّة التي تبدأ مع التساؤل الفلسفيّ عند الإغريق. من هنا الواجبُ الذي يفرض علينا أن نطرح بدورنا على أنفسنا السؤالَ: ما هي الميتافيزيقا؟ إنّ طرحَهُ من جانبنا، يعلِّمُ ما يعنينا هنا ـ وليس أن نكرّر كالببغاوات، أو أسوأ من ذلك، «الانتقال إلى موضوع آخر». انظر إلى هذه الفرديّة التي تعود في كلّ ما تستتبعه إلى ما سمّاه جون بوفيه عظمةَ هايدغر. ولكن هذه العظمة لا تشتمل على أيّ مبالغةٍ، ولا على أيّ تمرّد من النوع الرومانسيّ. خارجَ كلّ ما يبدو لنا كـ «معيار» لا جدال فيه، عرف هايدغر دائمًا كيف يبقى رصينًا بشكل عجيب ووفيًّا في ذلك إلى درس هولدرلين الأكثر أمريّةً. بعد وفاته، رثاه هربرت ماركوز، الذي كان تلميذه قبل الهجرة إلى الولايات المتحدة، بأجلِّ تكريم متحدِّثًا برصانة عن «ذكرى الكرامة الرائعة التي ختم مارتن هايدغر بها أيامَه». وأضاف: «أتمنى أن نُمنح نحن أيضًا نعمةَ الكبر مع الكرامة والوضوح والصفاء».

[1]*- نقلاً عن:  Revue des Deux Mondes  [مجلّة العالـَمَين]، نيسان/أبريل 2014.

- العنوان الأصلي للمقال:

 HEIDEGGER ةTAIT-IL NAZI? ANTISةMITE?-Entretien avec François Fédier réalisé par Eryck de Rubercy.

- تعريب: هدى الفقيه - مراجعة: ألبير شاهين.

[2]- مارتن هايدغر،Sérénité in Questions III [السكينة في الأسئلة  III]،  ترجمة أندريه بريو، غاليمار، 1966، ص 180.    

[3]- مارتن هايدغر، محاضرة  "Le mot de Nietzsche «Dieu est mort»" [كلمة نيتشه «مات اللّه»] في mènent nulle part  Chemins qui ne [الطريق الذي لا يؤدّي إلى أيّ مكان]، ترجمة وُلفغوغ بروميه، غاليمار، 1962، الطبعة الجديدة. مجموعة "تل"، 1986.

[4]- أريك دي روبرسي ودومنك لو بويان، Douze questions posées à Jean Beaufret à propos.

de Martin Heidegger [اثنا عشر سؤالًا مطروحًا على جون بوفريه حول مارتن هايدغر]، بروكت، مجموعة "أعورا، 2011، ص37

[5]-  فيليب سوللرز، loge de l’infini  [مدحُ اللانهاية]، غاليمار، 2001، ص 1041.            

[6]- م.ن، ص 1043 وص 1047.  

[7]-  جون كليه مارتن، « ?Heidegger،le coma dépassé de la philosophie française »  [هل هايدغر هو الغيبوبة المتخطّاة  للفلسفة الفرنسيّة؟].

 http:// strassdelaphilosophie.blogspot.fr/2013/12/heidegger-le-coma-depasse-de-la.html.

[8]- روجر – بول دروا،  " Pour en finir avec Heidegger " [من أجل الانتهاء من مسألة هايدغر]، لو بوان، الخميس 6 شباط/فبراير 2014، العدد 2160، ص 95.

[9]- إيمانويل فاي، Heidegger،l’introduction du nazisme dans la philosophie. Autour des séminaires inédits de 1933-1935   [هايدغر، مدخل إلى النازيّة في الفلسفة. حول المحاضرات غير المنشورة من العام 1933 إلى العام 1935]، ألبين ميشال، 2005، ص243-246.

[10]-  م.ن، ص 513.

[11]-  هارديان فرانس لانور، ندوة عن قاعدة اللعب،   pensée brûlante »،une Heidegger " [هايدغر الفكر الشائك]، 8 كانون الأوّل/ ديسمبر 2013.

[12]-  هارديان فرانس لانور، « Une pensée irréductible à ses erreurs » [فكرٌ يتعذّر تبسيط أخطائه]،  لو موند، الخميس 30 كانون الثاني/ يناير 2014.           

[13]- إيمانويل فاي، « L’antisémitisme des Cahiers noirs،point final de l’oeuvre de Heidegger ? » [هل معاداة الساميّة في الدفاتر السوداء هي نهاية كتاب هايدغر؟]، حوار مع إيريس راديش،  Die Zeit[الزمن]، 27  كانون الأوّل/ ديسمبر 2013  و26 كانون الثاني/يناير 2014، مع الإشارة أيضًا إلى: إيمانويل فاي (الإشراف)، Heidegger،le sol،la communauté،la race،Beauchesn. [هايدغر، الأرض، المجتمع، العرق]، بوشسن، 2014.   

[14]-  فرانسوا فيديه، Anatomie d’un scandale  [تشريحُ فضيحةٍ]، روبرت لافونت، 1988.                        

[15]-  فرانسوا فيديه،   Heidegger،à plus forte raison  [هايدغر، بالأحرى]، فايار، 2007.           

[16]-  روجر ـ بول دروا، مقال مقتبس.، ص 96.        

[17] - مارتن هايدغرو إوجين فينك، Héraclite،séminaire du semestre d’hiver 1966-1967 [هرقليطس، ندوة فصل شتاء العام 1966-1967]، ترجمة جون لوناي وباتريك بيفي، غاليمار، 1973.

[18]-  Le Dictionnaire Martin Heidegger. Vocabulaire polyphonique de sa pensée

 [معجم مارتن هايدغر. المفردات اللغويّة للفكر]، بإدارة فيليب أرجاكوفسكي، فرانسوا فيديه وهاريدان فرانس لانور، منشورات سيرف، 2013.