البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

في الحوار الأخير مع مارتن هايدغر

الباحث : 
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  5
السنة :  السنة الثانية - خريف 2016 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 1 / 2016
عدد زيارات البحث :  1261
تحميل  ( 387.452 KB )
قد لا يتوقع القارئ العربي حواراً مع الفيلسوف الألماني الكبير مارتن هايدغر طغى عليه الشخصي على الفلسفي. غير أن لهذا الحوار بالذات حكايته ومذاقه الخاص. وتبعاً لوقائع تلك الحكاية وخواتيمها تتبدد للوهلة الأولى علامات التعجّب وإشارات الاستفهام. سوى أنّ مضمون هذا الحوار يبقى يثير الكثير من النقاش، ليس فقط للجانب الشخصي في حياة هايدغر وإنما للإشارات التي يمكن التقاطها بين حين وحين.

قبل عشر سنوات من رحيله، أي في العام 1966 أجرت مجلة «دير شبيغل» الألمانية هذا الحوار مع هايدغر حيث ركزت على مساحة رمادية في حياته ولا سيما لجهة علاقته الملتبسة بالنازية. ليس بالأمر الهين القول بمثل هذا الالتباس لدى الحديث عن فيلسوف يوصف بأنه الأبعد أثراً في القرن العشرين.

 وبلغت حساسية الموضوع إلى حد أن الصحيفة لم تنشر تلك المقابلة إلا بعد عشر سنوات، وتحديداً بعد وفاة هايدغر! وقد حملت عنواناً لافتاً «وحده الله بإمكانه أن يمنحنا النجاة».

في ما يلي نستعيد هذا الحوار:

المحرر

----------------

دير شبيغل: أستاذ هايدغر، لاحظنا مراراً تعتيماً على أعمالك الفلسفية من خلال الإضاءة على بعض الأحداث من حياتك التي مع أنها لم تدم طويلاً، فإنك لم توضحها، إما لأنك كنت شديد الغرور، أو لأنك لم تجد فيها ما يستحق التعليق.

هايدغر: تعني عام 1933؟

دير شبيغل: نعم قبل وبعد، نريد أن نضعها في سياق أوسع، ثم نتوجّه من هناك لطرح بعض الأسئلة التي تبدو مهمة بالنسبة لنا، مثل: ما هي إمكانات الفلسفة في التأثير على الواقع، بما في ذلك الواقع السياسي؟ وهل احتمال التأثير مازال موجوداً أصلاً؟ وإذا كان الأمر كذلك، فممّ يتشكّل؟

هايدغر: هذه أسئلة مهمة. هل بمقدوري الإجابة عنها كلها؟ لكن دعني أبدأ بالقول إني لم أكن بأي حال ناشطاً سياسياً قبل أن أتولّى رئاسة الجامعة. في شتاء -1932 1933 كنت في إجازة وقضيت معظم وقتي في مكتبي.

ديرشبيغل: إذاً كيف صرت رئيساً لجامعة فرايبورغ Freiburg؟

هايدغر: في كانون الأول من عام 1932، انتُخب جاري فون مولندورف (Von Mِllendorff)[2]، وهو أستاذ في التشريح، رئيساً للجامعة. وكما تجري العادة في جامعة فرايبورغ، رئيس الجامعة يتسلَّم  منصبه في الخامس عشر من نيسان. خلال الفصل الدراسي الشتوي سنة 1932-1933 تحدثنا مراراً عن وضع الجامعة، وعن أوضاع الطلاب، التي كانت إلى حدّ ما تدعو إلى اليأس. كان رأيي: بقدر ما أستطيع الحكم على الأشياء فإن الإمكانية الوحيدة الباقية هي أن نحاول إقامة توازن بين التطورات المقبلة وبين القدرات البنّاءة التي ما زالت حيوية.

ديرشبيغل: إذاً أنت من أشار إلى أن هناك علاقة بين وضع الجامعة الألمانية والوضع السياسي في ألمانيا عموماً؟

هايدغر: بالتأكيد لقد تتبّعت مجرى الوقائع السياسية، بين كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) 1933، وأحياناً كنت أتحدّث عنها مع زملاء شباب أيضاً. لكن في الوقت الذي كنت أعمل فيه على تفسير مكثف للتفكير ما بعد السقراطي، ومع بداية الفصل الدراسي الصيفي عدت إلى فرايبورغ. في هذا الوقت بالذات تولّى الأستاذ فون مولندورف منصب رئيس الجامعة في الخامس عشر من نيسان. وبعد أقل من أسبوعين بقليل تمّت إقالته من منصبه بأمر من وزير الثقافة في بادن Baden حينها ويكر Waker. أما سبب الإقالة فيعود إلى أن مولندروف منع نشر إعلان ما يُعرف بالإشعار  المتعلّق باليهود في الجامعة[3]، وهذا سبب كان ينتظره الوزير لاتخاذ القرار.

دير شبيغل: كان فون مولندورف اشتراكياً ديمقراطياً. ماذا فعل بعد صرفه من الخدمة؟

هايدغر: جاءني في يوم صرفه وقال: «هايدغر، الآن عليك أن تتولى إدارة الجامعة». قلت إني لا أملك خبرة في الإدارة. لكن المدير السابق في ذلك الحين سوورSauer حثّني أيضاً على الترشح لانتخابات رئيس الجامعة؛ بسبب خطورة الإتيان بموظف عادي مديراً للجامعة. إلى ذلك فإن الزملاء الشباب، الذين ناقشت معهم مسائل بنية الجامعة لعدة سنوات، ألحّوا عليّ بالطلبات من أجل تولّي الإدارة. لقد تأنيّت لوقت طويل. وفي النهاية أعلنت بنفسي القبول بالمنصب، لكن فقط من أجل مصلحة الجامعة، وفقط إذا ضمنت الموافقة التامّة والكاملة. لكن الشكوك حول قدراتي الإدارية بقيت. وفي صباح يوم الانتخاب ذهبت إلى مكتب المدير وقلت لزملائي فون مولندورف (الذي أقيل من منصب المدير كان حاضراً) والمدير الأسبق سوور أنني لن استطيع تولّي المنصب. أجاب الزميلان أن التحضيرات للانتخابات قد أنجزت بطريقة لا تسمح لي بسحب ترشيحي.

ديرشبيغل: بعد ذلك أعلنت جاهزيتك. إذاً، كيف تطوّرت علاقتك مع الاشتراكيين القوميين؟

هايدغر: في اليوم التالي لتعييني، جاءني مدير شؤون الطلاب مع اثنين آخرين في المكتب الذي اتخذته مركزاً للإدارة، وطلبوا ثانية تعليق الإشعار المتعلِّق باليهود. رفضت. خرج التلاميذ الثلاثة مع ملاحظة أنهم سوف يعلمون قيادة الطلاب القومية بالرفض. بعد أيام قليلة تلقّيت اتصالاً هاتفياً من مكتب التعليم العالي في القيادة العليا في الجيش النازي من قائد المجموعة النازية الدكتور بومان Baumann. وأمر بنشر الإشعار المشار إليه الذي نشر في الجامعات الأخرى، فرفضت، وكان عليّ أن أتوقّع أنني سأقال من منصبي أو حتى إغلاق الجامعة. رفضت وحاولت الحصول على مساعدة من وزير الثقافة في بادن لهذا الرفض. شرح لي أنه لا يستطيع فعل شيء يعارض الحزب النازي. مع ذلك لم أتنازل عن رفضي.

شبيغل: هذا لم يكن معروفاً بهذا الشكل من قبل.

هايدغر: سبق وسمّيت الدافع الأساسي الذي جعلني أقرر تولي الإدارة في المحاضرة الافتتاحية «ما هي الميتافيزيقا؟» التي ألقيتها في فرايبورغ عام 1929: «مجالات العلوم تتباعد، والطرائق التي تعالج فيها موضوعاتها مختلفة أساساً. وهذه التعددية المتشرذمة للحقول العلمية تجتمع اليوم من خلال المنظمة التقنية للجامعات وكلياتها فقط، وتكتسب بعض المعنى فقط بسبب الأغراض العملية الموضوعة للأقسام. لكن جذور العلوم في أساسها الجوهري لم تعد موجودة».[4] ما حاولت فعله خلال فترة تولّي الإدارة بالنسبة لأوضاع الجامعة (التي مازلت في حالة متدهورة حتى الآن) مشروح في خطاب تولّي الإدارة.

ديرشبيغل: نحاول اكتشاف كيف وإذا كانت هذه الجملة التي أطلقتها عام 1929 تتناسب مع ما قلته في خطاب تولّيك المنصب كمدير سنة 1933. سنأخذ جملة واحدة من سياقها هنا: «إن أسمى «حرية أكاديمية» سوف تفقد من الجامعة الألمانية؛ لأن هذه الحرية ليست أصيلة فهي كانت سلبية فحسب».[5] أعتقد أنه يمكننا الظن أن هذه الجملة تعبّر، على الأقل، عن بعض الآراء التي ليست غريبة عنك حتى راهنا.

هايدغر: نعم مازلت على موقفي. لأن هذه «الحرية الأكاديمية» كانت بأساسها سلبية بالكامل: التحرّر من مجهود الانخراط في التفكير والتأمل الذي تحتاجه الدراسة العلمية. الجملة التي انتقيتها بالمصادفة، لا يجوز عزلها، بل يجب أن توضع في سياقها. عندها يتّضح ما أردت أن تفهمه بـ«الحرية السلبية».

ديرشبيغل: جيد، هذا مفهوم. لكننا نعتقد أننا سمعنا لهجة جديدة في خطاب تنصيبك عندما تكلمت، بعد أربعة أشهر من تسمية هتلر مستشاراً لألمانيا، حول «عظمة ومجد هذه الانطلاقة الجديدة»[6].

هايدغر: نعم كنت مقتنعاً بذلك أيضاً.

ديرشبيغل: هل يمكنك شرح الأمر قليلاً؟

هايدغر: بسرور. في الوقت الذي لم أر فيه خياراً آخر. وفي الإرباك العام في الآراء والميول السياسية لاثنين وثلايثن حزباً، كان من الضروري إيجاد وجهة نظر وطنية وخاصة اشتراكية، ربما على خطى محاولة فريدريك نومان Friedrich Naumann.[7] ويمكن أن أشير هنا لمثل واحد، وهو مقالة كتبها إدوارد شبرنغر Eduard Spranger تتجاوز إلى حدّ كبير ما جاء في خطابي[8].

ديرشبيغل: متى بدأت بالتعاطي بالشأن السياسي؟ كان الاثنان وثلاثون حزباً موجودين قبل ذلك بكثير. وكان هناك ملايين العاطلين عن العمل في عام 1930.

هايدغر: في تلك الفترة، كنت مازلت مأخوذاً بالمسائل التي تطوّرت في «الكينونة والزمن» (1927) وبكتابات ومحاضرات السنوات التي تلت. تلك مسائل فكرية أساسية ترتبط أيضاً بطريقة غير مباشرة بمسائل وطنية واجتماعية. وأنا كأستاذ في الجامعة كنت مهتماً أيضاً بمسألة معنى العلوم، وبالتالي بتحديد مهمة الجامعة. تمّ التعبير عن هذا المجهود بعنوان خطابي «إثبات ذات الجامعة». لم يكن في حينه عنواناً خطراً. لكن هل قرأه بتمعّن أولئك الذين شنّوا حملة عليه، وهل فكّروا في مضامينه جيداً، وهل فهموه من منطلق الأوضاع السائدة في حينه؟.

ديرشبيغل: إثبات ذات الجامعة، في عالم بهذا المستوى من الاضطراب، ألا يبدو ذلك غير مناسب؟

هايدغر: لماذا؟ «إثبات ذات الجامعة» يقف ضد ما يسمى بالعلوم السياسية، التي سبق وكان الحزب والطلاب الاشتراكيون القوميون ينادون بها.. كان لهذا العنوان معنى مختلفاً كلياً في حينه. لم يعنِ «علم السياسة» ما يعنيه اليوم، لكنه يتضمن: العلم بما هو علم، معناه وقيمته، كان محموداً بسبب فائدته العملية للأمة. تمّ التعبير عن الموقف المضاد لهذا التسييس للعلوم بشكل خاص في الخطاب.

ديرشبيغل: هل نفهمك صحيحاً؟ في ضمّك للجامعة إلى ما شعرت أنه «انطلاقة جديدة» أردت أن تؤكّد على الجامعة مقابل ما قد يشكّل تيارات ذات سلطة كبيرة كانت تسعى لتغيير هوية الجامعة؟

هايدغر: بالتاكيد، لكن في الوقت نفسِه كان لإثبات الذات أن يقوم بمهمة إيجابية وهي إعادة اكتساب معنى جديد للجامعة، في مواجهة التنظيم التقني الصِّرف لها، من خلال التأمّل في تراث التفكير الغربي والأوروبي.

ديرشبيغل: أستاذ، هل نحن نفهم أنك فكّرت حينها أن استعادة الجامعة يمكن أن يتم على أيدي الاشتراكيين القوميين؟.

هايدغر: هذا تعبير خاطئ. كان على الجامعة أن تجدّد نفسها من خلال تفكيرها الخاص، لا مع الاشتراكيين القوميين، وبعدها تكتسب موقعية ثابتة ضد خطورة تسييس العلم ـ بالمعنى الذي تحدثنا عنه سابقاً.

ديرشبيغل: ولهذا أعلنت هذه الأعمدة الثلاثة في خطاب تنصيبك: الخدمة العملية، الخدمة العسكرية، الخدمة العلمية. من خلال هذا يبدو أنك اعتقدت أن الخدمة العلمية يمكن أن تُرفع إلى مستوى مساوٍ، مستوى لا يمكن للحزب الاشتراكي القومي أن يلغيه؟

هايدغر: لا ذكر للأعمدة. لو قرأت بتأنٍّ سوف تلاحظ أنه رغم أن مستوى الخدمة العلمية وضع في المكان الثالث، فهي موضوعة في المكان الأول من حيث معناها. فعلى المرء اعتبار أن العمل والدفاع هما كأي نشاط إنساني يتأسسان على المعرفة ويستنيران بها.

ديرشبيغل: لكن ينبغي (لقد انتهينا تقريباً من هذا الاقتباس الرهيب) أن نذكر جملة أخرى هنا، جملة لا نظن أنك مازلت متمسكاً بها اليوم. «لا تجعلوا القواعد والأفكار أنظمة كينونتكم. القائد the fuhrer نفسه ووحده هو الحقيقة الألمانية الحاضرة والمستقبلية وقانونها[9]».

هايدغر: هذه العبارات ليست موجودة في الخطاب، بل فقط في جريدة طلاب فرايبورغ، في بداية الفصل الدرسي لشتاء 1933-34. عندما تولّيت الإدارة، اتضح لي أنني لن أنجح من دون تنازلات. اليوم لا أتبنّى هذه العبارات التي ذكرتها. حتى في عام 1934، لم أقل بعدها أي كلام من هذا النوع. لكن الآن، واليوم بإصرار أكثر من الماضي، بودّي أن أكرر عبارة «إثبات ذات الجامعة الألمانية»، لكن هذه العبارة قد تكون بلا قيمة كما كانت في السابق.

ديرشبيغل: هل نستطيع مقاطعتك مرة ثانية بسؤال؟ لقد اتضح خلال الحديث لغاية الآن أن تصرفك عام 1933 تأرجح بين قطبين. أولاً اضطررت أن تقول مجموعة من الأمور من أجل إرضاء العامّة، هذا قطب. غير أن القطب الثاني كان أكثر إيجابية، عبّرت عنه كما يلي: كان لدي شعور أن ثمة شيئاً جديداً، ثمة انطلاقة، هذا ما قلت.

هايدغر: هذا صحيح.

ديرشبيغل: بين هذين القطبين ـ وهذا معقول تماماً عندما يؤخذ من وجهة نظر الوضع الذي كان سائداً حينئذ...

هايدغر: بالتأكيد. لكن يجب أن أؤكّد أن تعبير «العامة» لا يؤدّي الدلالة المطلوبة. اعتقدت أنه في وقت مواجهة النقاش مع القوميين الاشتراكيين أن طريقاً جديداً، الطريق الوحيد الذي مازال ممكنا للتجديد، قد يتاح له أن يفتح.

ديرشبيغل: تعرف أنه في ما يتعلق بهذا الأمر هناك بعض الاتهامات التي وُجّهت إليك والتي تتعلق بتعاونك مع حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني ومع تنسيقياته. وحتى الآن لم تنفِ هذه الاتهامات. أنت اتُّهمت، مثلاً، أنك شاركت في عمليات حرق كتب نظّمها طلاب شباب أو شباب هتلر.

هايدغر: أنا منعت حرق الكتب الذي كان مخططاً أمام مدخل الجامعة الرئيسي.

ديرشبيغل: اتُّهمت أيضا أنك أزلت الكتب التي ألفها يهود من مكتبة الجامعة أو من قسم الفلسفة في الجامعة.

هايدغر: بوصفي مديراً للقسم، كنت مسؤولاً عن مكتبته فقط. لم أتجاوب مع مطالب متكررة لإزالة الكتب التي ألفها يهود. يمكن لمشارك سابق في ندواتي أن يشهد اليوم أنه ليس لم تتم إزلة الكتب التي ألفها اليهود فحسب، بل أن كتابات هؤلاء المؤلفين وخاصة هوسرل، كانت تقتبس وتناقش تماماً كما كان عام 1933.

ديرشبيغل:سوف نأخذ ملاحظة عن ذلك. ولكن كيف تشرح صدور هذا النوع من الشائعات؟ هل هو نوع من الخبث؟

هايدغر: مما أعلمه من المصدر، أميل للاعتقاد بذلك. لكن الدافع للتشهير يبقى أعمق. ربما كان تولِّيّ للإدارة حافزاً وليس السبب المحدد لذلك. وعليه فإن الهجّائين يبدعون عندما يكون ثمّة حافز.

ديرشبيغل: كان لديك تلاميذ يهود بعد عام 1933. علاقتك مع بعضهم، ربما ليس جميعهم، كان من المفترض أن تكون حميمة. حتى بعد 1933؟

هايدغر: موقفى بقي على حاله بعد عام 1933. إحدى أقدم وأذكى تلاميذي هيلين فايس Helene Weiss التي سافرت في ما بعد إلى سكوتلاندا، نالت شهادة الدكتوراه من جامعة بازل (بعد أن لم يعد بمقدورها نيلها من كلية فرايبورغ) على أطروحة مهمة جداً عن «السببية والصدفة في فلسفة أرسطو»، طبعت في بازل عام 1942. في نهاية المقدمة تكتب المؤلفة: «المحاولة لتأويل فينومنولوجي، الذي نقدم الجزء الأول منه هنا، صار ممكناً بفضل تأويلات الفلسفة اليونانية غير المنشورة لمارتن هايدغر».

هنا ترى النسخة المخطوطة المهداة لي والمرسلة من المؤلفة عام 1948. لقد زرت الدكتورة فايس مرات عدة في بازل قبل وفاتها.

ديرشبيغل: كنت صديقا لياسبرز Iaspers فترة طويلة، لكن العلاقة بدأت بالتوتر بعد عام 1933. انتشرت إشاعة بأن هذا التوتر كان مرتبطاً بحقيقة أن زوجة ياسبرز كانت يهودية. هل تريد التعليق على هذا؟

هايدغر: ما تذكره هنا كذب. فأنا وياسبرز صديقان منذ 1919. زرته وزوجته خلال الفصل الدراسي الصيفي لعام 1933، عندما ألقيت محاضرة في هيدلبرغ. وأرسل لي ياسبرز كل مؤلفاته بين 1934و1938- وكتب عليها «مع تحياتي الحارة». ويمكنك رؤيتها هنا.

ديرشبيغل: مكتوب هنا:  «مع تحياتي الحارة». حسناً، التحيات ربما لا تكون «حارة» لو كان ثمة توتر في العلاقة[10]. سؤال آخر شبيه: كنت تلميذاً لإدموند هوسرل Husserl، سلفك السابق اليهودي على كرسي الفلسفة في جامعة فرايبورغ الذي أوصى بك كخليفة له لأستاذية كرسي الكلية. علاقتك به لا يمكن أن تكون بلا عرفان بالجميل.

هايدغر: تعرف الإهداء في «الكينونة والزمن».

ديرشبيغل: بالطبع.

هايدغر: في عام 1929 حررتُ كتابه التذكاري لميلاده الثمانين، وفي الاحتفال في بيته ألقيت كلمة طبعت في مجلة Akademische Mitteinlungen في أيار 1929.

ديرشبيغل: لكن في ما بعد، أصبحت العلاقة متوترة. هل يمكن وهل تحب أن تخبرنا عن أسباب ذلك؟

هايدغر: اشتدت الفروقات في الآراء والمسائل الفلسفية بيننا. في بدايات الثلاثينات، صفّى هوسرل حسابه معي ومع ماكس شيلر على الملأ. لم يترك وضوح عبارات هوسرل شيئاً يرتجى. لم أستطع مطلقاً أن أعرف ما الذي دفع هوسرل لمهاجمة تفكيري بهذه الطريقة العلنية.

ديرشبيغل: في أي مناسبة كان هذا؟

هايدغر: تحدث هوسرل في جامعة برلين أمام حضور من ألف وستماية شخص، يصفه هاينريش موهسام  Heinrich Muhsam في إحدى أكبر صحف برلين بـ «مكان شبيه بقصر رياضي».

ديرشبيغل: الخلاف بهذه الطريق غير مثير في هذا السياق. فهو مثير فقط إذا كان خلافاً متعلقاً بمجرايات 1933.

هايدغر: لا أبداً.

ديرشبيغل: هذه كانت ملاحظتنا كذلك. هل أسقطت بعد ذلك الإهداء لهوسرل من الكينونة والزمن؟

هايدغر: لا. فقد أوضحت الحقيقة في كتابي on the way to language. يقول النص: إلى المعارضين الكثر، المنتشرين في كل مكان، هنالك ادعاءات غير صحيحة، فلنعبر عنها هنا أن إهداء الكينونة والزمن المذكور في نص الحوار صفحة 16 كان موجوداً أيضاً في بداية الطبعة الرابعة من الكتاب عام 1935. في حين اعتقد الناشر أن نشر الطبعة الخامسة 1941 كان في خطر، وأن الكتاب يمكن أن يمنع، تمّ الاتفاق أخيراً، بعد اقتراح ورغبة نيماير Niemeyer [11] أن الإهداء يجب أن يسقط من الطبعة الخامسة. اشترطت بقاء الهامش الذي ذُكرت فيه أسباب الإهداء في صفحة 38. وهو: «لو خطت التحريات التالية إلى الأمام في كشف «ذات الأشياء»، فعلى المؤلف أن يشكر أولاً أدموند هوسرل، الذي زوده بإرشاداته الخاصة الثاقبة، وأتاح له الإطلاع على أبحاثه غير المنشورة، التي عرّفت المؤلف بالأشكال المختلفة من البحث الفينمنولوجي خلال سني دراسته في فرايبورغ»[12].

ديرشبيغل: إذاً من الممكن أن نسأل ما إذا كان صحيحاً أنك كمدير لجامعة فرايبورغ، منعت الأستاذ المتقاعد هوسرل من الدخول أو من استخدام مكتبة الجامعة أو مكتبة قسم الفلسفة.

هايدغر: هذا افتراء.

ديرشبيغل: ولا توجد رسالة يُعبّر فيها عن منع هوسرل؟ فكيف بدأت هذه الاشاعة؟

هايدغر: وأنا لا أعرف، وليس لدي تفسير لذلك. يمكن أن أبرهن لك على استحالة هذه المسألة بكاملها من خلال المثل التالي، وهناك شيء ما مجهول أيضاً. كانت الوزارة القومية قد طلبت إقالة ـ اليهوديين ـ مدير العيادة الطبية، البروفسور ثانهاوزر[13]، وفون هفزي[14]، أستاذ الكيمياء الفيزيائية والفائز المستقبلي بجائزة نوبل. وخلال رئاستي كنت قادراً على أن أبقي هذين الرجلين من خلال اللقاء مع الوزير. وفكرة أني استبقيتهما وفي الوقت نفسه قمت بعمل ضد هوسرل، الأستاذ المتقاعد وأستاذي الخاص، بالطريقة التي أشيعت، مناف للعقل. ثم إني منعت تظاهرة ضد البروفسور ثانهوزر كان التلاميذ والمحاضرون قد خططوا لإجرائها أمام عيادته. جاء في النعوة التي نشرتها عائلة ثانهوزر في الجريدة المحلية: «لغاية 1943 كان المدير الموقر للعيادة الطبية في جامعة فرايبورغ». وكتبت جريدة فرايبورغر اونيفرستاتبلاتر في شباط 1966 عن البروفسور فون هفزي von Hevesy: خلال السنوات 1926-1934، كان فون هفزي رئيساً لمعهد الكيمياء ـ الفيزياء في جامعة فرايبورغ برايسغو Breisgau». بعد استقالتي من رئاسة الجامعة، تمّت إقالة المديرين من منصبيهما. في الوقت نفسه، كان هناك محاضرون يعملون من دون مقابل مالي، وقد تركوا مراكزهم لفترة، ثم اعتقدوا في حينه: أن وقت التحرك قد حان. ولما جاؤوا للحديث معي رفضت مطلبهم.

ديرشبيغل: لم تشارك في مأتم هوسرل عام 1938. ما سبب ذلك؟

هايدغر: دعنى أَقُلْ التالي حول الموضوع: الاتهام الذي سبّب إنهاء علاقتي بهوسرل لا أساس له. كتبت زوجتي رسالة باسمينا إلى السيدة هوسرل في أيار 1933 عبّرنا فيها عن «إقرارنا الثابت بفضله»، وأرسلنا مع الرسالة باقة ورد إلى منزلهم. ردّت السيدة هوسرل بإيجاز عبر رسالة شكر رسمية، وكتبت أن العلاقات بين عائلتينا قد انتهت. كان فشلاً إنسانيا حيث إنني لم أعبّر في ما مضى عن إعجابي وعرفاني بالجميل خلال مرض هوسرل وبعد وفاته. اعتذرت عن ذلك في ما بعد في رسالة للسيدة هوسرل.

ديرشبيغل: مات هوسرل عام 1938. وكنت قد استقلت من رئاسة الجامعة في شباط 1934. كيف حصل ذلك؟

هايدغر: سوف أتوسع قليلاً في هذه النقطة. كان قصدي في ذلك الوقت أن أتجاوز التنظيم التقني للجامعة؛ بمعنى أن أجدّد الكليات من الداخل، من جهة مهامها العلمية. مع هذا المقصد في البال، اقترحت تعيين الزملاء الشباب وبخاصة الزملاء المميزين في حقول عملهم عمداء للكليات في الفصل الدراسي الشتوي 1933-34، بمعزل عن موقعهم في الحزب. وهكذا صار البروفسور إرك وولف عميداً لكلية الحقوق، والبروفسور سويرغل عميداً لكلية العلوم الطبيعية، والبروفسور فون مولندورف، الذي كان قد أقيل من منصبه كرئيس للجامعة في الربيع، عميداً لكلية الطب. لكن في فترة الميلاد من عام 1933 كان قد اتضح لي أنني لن أستطيع تحقيق رغبتي في تجديد الجامعة مقابل اعتراضات الزملاء والحزب. فمثلاً لم يكن الزملاء مسرورين، لأني أدخلت تلاميذ ووضعتهم في مراكز إدارة الجامعة ـ بالضبط كما هي الحال راهناً. استُدعيت في أحد الأيام إلى كارلسروه Karlsruhe، بناء على طلب من الوزير، من خلال مساعده الأول وفي حضور قائد التلاميذ، وطلب مني استبدال عميدي كلية الحقوق وكلية الطب بأعضاء من الكلية مقبولين من الحزب. رفضت فعل ذلك، وقلت إنني سأستقيل من إدارة الجامعة إذا ألحّ الوزير في طلبه. هذا ما حصل في شباط 1934. استقلت بعد عشرة أشهر فقط من تولّي المنصب، في حين كان المدراء في ذلك الوقت يلبثون سنتين أو أكثر في المنصب. في حين علقت وسائل الإعلام المحلية والعالمية على تولّي المنصب بطرق مختلفة، ساد الصمت حول استقالتي.

ديرشبيغل: هل تفاوضت مع وزير التعليم القومي برنارد رست حينها؟

هايدغر: متى؟

ديرشبيغل: في 1933، قام رست بزيارة لفرايبورغ هنا مازال الحديث عنها دائراً إلى اليوم.

هايدغر: نحن نتعامل مع حادثتين مختلفتين. في مناسبة تذكارية على قبر شلاغتر[15] Schlageter في بلدته، شونو إم فيزنتال Schonau im Wiesental، سلمت على الوزير باقتضاب وبشكل رسمي. لكن الوزير لم يلحظني. في هذه الحال لم أحاول أن أتحدّث معه. كان شلاغتر تلميذاً في جامعة فرايبورغ وعضواً في نادٍ كاثولوكي. حصل الحديث في تشرين الثاني من العام 1933 في مناسبة مؤتمر كهنوتي في برلين. قدمت وجهات نظري في العلم والبنية الممكنة للكليات إلى الوزير. استمع بانتباه شديد لكل ما حذرت منه، واعتقدت أن الأمل الذي فتحت بابه قد يكون له أثر. لكنّ شيئاً لم يحصل. لا أعرف لماذا عوتبت على هذا النقاش مع وزير التعليم الألماني بينما في الوقت نفسِه  الذي كانت كل الحكومات الخارجية تتسابق للاعتراف بهتلر لإظهار المجاملات الدولية الاعتيادية.

ديرشبيغل: كيف تطورت علاقتك مع الحزب النازي بعد استقالتك من منصب مدير الجامعة؟   

هايدغر: بعد استقالتي من إدارة الجامعة، انصرفت لمهمتي كأستاذ. في الفصل الدراسي الصيفي من عام 1934 حاضرت في «المنطق». في الفصل التالي 1934-35 ألقيت المحاضرة الأولى عن هولدرلن holderlin. والمحاضرات عن نيتشه بدأت عام 1936. كل الذين كان بامكانهم الاستماع سمعوا أن هذه المحاضرات كانت مواجهة مع النازيين.

ديرشبيغل: كيف تمّ تسليم المنصب؟ ألم تشارك في الاحتفال؟

هايدغر: نعم، رفضت أن أشارك في مراسم تغيير المدراء.

ديرشبيغل: هل كان خليفتك عضواً ملتزماً في الحزب؟

هايدغر: كان عضواً في كلية الحقوق. أعلنت جريدة الحزب در ألمان Der Alemanne تعيينه مديراً في عنوانها العريض: «المدير الأول للجامعة من الحزب النازي»[16].

ديرشبيغل: هل واجهت صعوبات مع الحزب في ما بعد، أو ماذا حصل؟

هايدغر: كنت تحت مراقبة ثابتة.

ديرشبيغل: هل لديك نموذج لذلك؟

هايدغر: نعم مسألة الدكتور هنكل Hanckle.

ديرشبيغل: كيف عرفت بذلك؟

هايدغر: لأنه أتاني بنفسه. كان قد حصل على شهادة الدكتوراه. وكان مشاركاً في ندواتي المتقدمة في الفصل الدراسي الشتوي لعام 1936-37 وفي الفصل الدراسي الصيفي لعام 1937. أرسل إلى هنا (إلى فرايبورغ) من قبل المخابرات لجعلي تحت المراقبة.

ديرشبيغل: لماذا زارك فجأة؟

هايدغر: بسبب ندوتي حول نيتشه في الفصل الدراسي الصيفي 1937، وبسبب طريقة الشغل في الندوة، اعترف لي أنه لم يعد بإمكانه متابعة المهمة أو المراقبة الموكلة إليه. أراد إخباري بهذه القضية من منظور نشاطي المستقبلي كأستاذ.

ديرشبيغل: يعني ألم تواجهك صعوبات مع الحزب؟

هايدغر: عرفت فقط أن مناقشة أعمالي لم تكن مسموحة، مثل مقالة «نظرية الحقيقة عند أفلاطون». والمحاضرة التي ألقيتها عن هولدرلن في المعهد الألماني في روما في خريف 1936 هوجمت في مجلة شباب هتلر بطريقة مؤذية. على المهتمين أن يقرأوا الهجاء ضدي الذي بدأ في صيف 1934 في مجلة فولك ام فردن Volk im Werden التي يملكها إ. كريك E. Krieck[17]. فأنا لم أكن منتمياً لا للبعثة الألمانية للمؤتمر الفلسفي العالمي في براغ 1943 ولا حتى دعيت للمشاركة فيه. وكان مفترضاً أن أستبعد عن مؤتمر ديكارت الدولي في باريس 1937. وبدا الأمر غريباً جداً لمن كانوا في باريس لدرجة أن رئيس المؤتمر (البروفسور برهييه من السوربون) سألني لماذا لم أكن عضواً في البعثة الألمانية. أجبت أن المنظمين للمؤتمر يجب أن يسالوا وزارة التعليم الألمانية عن هذه المسألة. بعد فترة، تلقيت دعوة من برلين للالتحاق بالبعثة متأخراً جداً. فرفضت. والمحاضرات «ما هي الميتافيزيقا؟» و«في ماهية الحقيقة» بيعت بالخفاء من دون عناوين. وبعد 1934 بقليل، كان خطاب التنصيب قد سحب من الأسواق بإيعاز من الحزب. كان مسموحاً أن يناقش فقط في مراكز أساتذة الحزب النازي[18] كموضوع جدلي للحزب.

ديرشبيغل: في عام 1939، عندما كانت الحرب....

هايدغر: في آخر سنوات الحرب، أعفي خمسمائة من الأساتذة البارزين والفنانين من أي نوع من الخدمة العسكرية[19]. لم أكن من بين الذين أعفوا. بالعكس، في صيف 1944 أُمرت أن أحفر الخنادق قرب نهر الرين في كيزرستول.

ديرشبيغل: في الجانب الآخر، الجانب السويسري، حفر كارل بارث خنادق.

هايدغر: الطريقة التي حصل فيها الأمر مثيرة. دعا المدير جميع الكليات لمحاضرة في القاعة رقم 5. ألقى كلمة مقتضبة قال فيها أن ما سيقوله الآن متوافق مع القائد النازي للمنطقة ومع قائد الحزب النازي في غو Gau. وأنه سيقسّم الكلية بمجملها إلى ثلاث مجموعات: أولاً من لا ضرورة لهم البتة، ثانياً الذين لا ضرورة لهم جزئيا، وثالثاً الذين لا يمكن الاستغناء عنهم. أولاً في لائحة الذين يمكن الاستغناء عنهم بالكامل يأتي هايدغر، ويليه ج. ريتر[20]. في الفصل الدراسي الشتائي من عام 1944-45، وبعد أن أنهيت العمل في حفر الخنادق قرب نهر الرين، ألقيت محاضرة بعنوان «الشعر والتفكير» كانت استكمالاً لندوتي حول نيتشه، بكلام آخر كانت في مواجهة النازيين. بعد الدرس الثاني، جنّدت إلزامياً في «عاصفة الشعب»[21] وكنت أكبر أعضاء الكلية الذين استدعوا للخدمة.

ديرشبيغل: لا أعتقد أننا ملزمون بالاستماع للبروفسور هايدغر حول موضوع مجرى الأحداث إلى لحظة تلقيه مرتبة الشرف فعلياً وقانونياً فهذا معروف جيداً.

هايدغر: واقعاً، الأحداث نفسها غير معروفة جيداً، هذه ليست قضية جذابة.

ديرشبيغل: إلا إذا أحببت أن تقول شيئاً عنها. هايدغر: لا.

ديرشبيغل: ربما يمكننا التلخيص. بوصفك شخصاً غير سياسي، بالمعنى الضيق للكلمة، لا بالمعنى الواسع، وقعت في فخ تسيّس هذه الانطلاقة الجديدة عام 1933....

هايدغر:.... عن طريق الجامعة...

ديرشبيغل:... عن طريق الجامعة في سياسة هذه الانطلاقة الجديدة المفترضة. بعد سنة تقريباً، تركتَ الوظيفة التي تولّيتها في هذه العملية للمرة الثانية. لكن في المحاضرة التي ألقيتها عام 1935، والتي نشرت عام 1953 بعنوان «مقدمة لمابعد ـ الطبيعة» قلت: «الأعمال المنتشرة اليوم»، أي عام 1935 «كفلسفة القومية الإشتراكية، لكن لا علاقة لها مع الحقيقة الداخلية وعظمة هذه الحركة (بالتحديد مع مواجهة التكنولوجيا المحددة عالمياً والإنسان المعاصر) يسعون للحصول على الصيد الأكبر في مياه «القيم» و«الكليات» الموحلة[22]. «هل أضفت الكلمات التي بين قوسين في عام 1953، عندما طبعت ـ ربما لشرح ما اعتقدت أنه «الحقيقة الداخلية وعظمة هذه الحركة» لقراء 1935؛ أي حركة الاشتراكيين القوميين، في 1935 أو أن هذه الأقواس كانت موجودة مسبقاً عام 1935؟

هايدغر: كانت في مخطوطتي وهي تتناسب بالضبط مع مفهومي للتكنلوجيا في حينه، ولكن ليس مع تأويلي في ما بعد لجوهر التقنية كـ «بنية»[23]. سبب عدم قراءتي لهذا المقطع بصوت عال كان لأنني كنت مقتنعاً بأن المستمعين إليّ كانوا سيحسنون فهمي. أما الأغبياء والجواسيس والمتطفلين فكانوا سيفهمون بطريقة مغايرة.

ديرشبيغل: بالتأكيد يمكنك تصنيف الحركة الشيوعية بهذه الطريقة أيضاً؟

هايدغر: نعم، بلا ريب، كما هو محدد من خلال التقنية الكوكبية.

ديرشبيغل: وربما قد تصنف جميع المحاولات الأميركية بهذه الطريقة أيضاً؟

هايدغر: أقول أيضاً يجب أن يكون قد اتضح خلال الأعوام الثلاثين الماضية، أن حركة التقنية الكوكبية الحديثة هي قوة لا يمكن تجاهل دورها العظيم والتقليل من أهميته في صناعة التاريخ. وبالنسبة لي يوجد سؤال حاسم اليوم هو كيف يمكن تحديد نظام سياسي لعصر التقنية الراهن، وأي نظام سياسي سيكون هذا؟ ليس لديّ إجابة عن هذا السؤال. وأنا غير مقتنع أنه الديمقراطية.

ديرشبيغل: الديموقراطية مجرد مصطلح مشترك يمكن أن يحوي مفاهيم مختلفة جداً. والسؤال هل مازال تشكيل هذا النظام ممكناً. بعد عام 1945 أبديت آراءك في المطامح السياسية للعالم الغربي، وفي السياق أيضاً تحدثتم عن الديمقراطية، وعن التعبير السياسي عن وجهات النظر المسيحية حول العالم، وعن دولة المؤسسات- وسمّيت كل هذه المطامح «أنصافاً» halves. 

هايدغر: دعني أسالك أولاً أين تحدثت عن الديمقراطية وكل الأمور التي ذكرتها. أنا بالفعل قد أصفهم بالأنصاف لأنني لا أعتقد أنهم يواجهون أصلاً العالم التقني. وأعتقد أنههم يرتكزون على فكرة أن التقنية في جوهرها أمر يسيطر عليه البشر. برأيي، هذا غير ممكن. التقنية بجوهرها أمر لا يستطيع البشر السيطرة عليه كيفما يشاؤون.

ديرشبيغل: أي من الاتجاهات السياسية التي تحدثنا عنها أكثر ملاءمة لزمننا؟

هايدغر: هذا لا أستطيع تحديده. ولكنني أرى سؤالاً حاسماً هنا. أولاً علينا توضيح معنى «ملائم لزمننا» وما يعنيه الزمن هنا. وربما كان السؤال الأهم ما إذا كانت الملاءمة لعصرنا هي معيار «الحقيقة الداخلية» لأفعال الإنسان، أو ما إذا كان «التفكير وكتابة الشعر»، رغم كل المآخذ على هذه العبارة، ليسا الفعلين اللذين يُزوِّدانِنا بالمعيار.

ديرشبيغل: من المفاجئ أنه على مر الزمن لم يكن بمقدور الإنسان السيطرة على آلاته؛ انظر إلى تلميذ الساحر. أليس هناك شيء من التشاؤم في القول إننا لن نستطيع السيطرة على آلة التقنية الحديثة التي لا شك أنها أعظم بكثير؟

هايدغر: التشاؤم، لا. التشاؤم والتفاؤل موقفان لا يصلان إلى المجال الذي نحاول التفكير فيه هنا. لكن مع كل هذا، فالتقنية الحديثة ليست «أداة»، ولم يعد لها أي علاقة بالأدوات.

ديرشبيغل: لماذا علينا الخضوع للتقنية...؟

هايدغر: أنا لم أقل أن نخضع. أنا أقول ليس أمامنا مسار يوازي جوهر التقنية بعد.

ديرشبيغل: يمكن للمرء أن يرفض بسذاجة: علامَ يجب أن نتفاهم هنا؟ فكل الأمور تسير على ما يرام. محطات توليد الطاقة الكهربائية تُبنى شيئاً فشيئاً. والإنتاج يزدهر. الناس في الأجزاء المتقدمة تقنياً من الأرض يقومون بأعبائها. نحن نعيش برفاهية. فما الذي ينقص هنا؟

هايدغر: كل الأمور تعمل بشكل جيّد. هذا بالتحديد مكمن الغرابة. كل شيء يعمل والعمل يقودنا أبعد وأبعد إلى مزيد من العمل، والتقنية تمزق الناس وتشرذمهم وتجتثهم من الأرض شيئاً فشيئاً. لا أعرف إذا كنتَ خائفاً؛ لقد كنتُ خائفاً بالتأكيد عندما رأيت مؤخراً صور الأرض المأخوذة من القمر. نحن لا نحتاج مطلقاً إلى قنبلة ذرية، لقد بدأ اجتثاث البشر. لم يبقَ لدينا إلا أوضاعِ تكنلوجية صرفة. لم تعد أرضاً حيث يعيش البشر اليوم. كان لي حديث مؤخراً مع رينيه شار René char في بروفنس  Provence، الشاعر والمقاوم كما تعلم. قواعد الصواريخ تبنى في بروفنس، والوطن يدمّر بطريقة لا تصدق. قال لي الشاعر الذي لا يمكن مطلقاً الشك في عاطفيته أو تمجيده للأناشيد الرعوية إن اجتثاث البشرية الحاصل الآن سيكون النهائيَّ إلا إذا أحرز الشعر والتفكير قوة لاعنفية مرة أخرى.

ديرشبيغل: الآن، ينبغي القول رغم تفضيلنا للبقاء هنا على الأرض، ونحن ربما لن نجبر على تركها خلال حياتنا، من يعرف أن مصير البشرية سيكون على هذه الأرض؟ يمكن أن فهم أنه ليس للإنسان مصير مطلقاً. لكن ما هي نسبة احتمال انتقال البشر من الأرض إلى كواكب أخرى؟ هذا بالتأكيد لن يحصل إلا بعد مرور زمن. لكن أين مكتوب أن مكان البشر هنا؟

هايدغر: من خبرتنا البشرية والتاريخية، على الأقل بقدر ما لديَّ من معلومات، نعلم أن كل شيء ضروري وعظيم برز فقط عندما ملك الإنسان بيتاً وتأصّل في تقاليد. فأدب اليوم مثلا، مدمّر على نحو واسع.

ديرشبيغل: نحن منزعجون من كلمة مدمّر هنا لأنها كلمة عدمية حُمِّلت مجالاً واسعاً جداً من المعاني خاصة من خلالك ومن خلال فلسفتك. لذلك يدهشنا سماع كلمة مدمّر المرتبطة بالأدب، فكيف أمكنك اعتبارها جزءاً من العدمية[24].

هايدغر: أريد أن أقول إن الأدب الذي عنيته ليس عدمياً بالمعنى الذي عُرِّفتُ فيه العدمية.

ديرشبيغل: يبدو أنك ترى، كما عبّرت، حركة عالمية في طور إنشاء أو أنها أنشأت الدولة التقنية الصرفة؟

هايدغر: نعم! لكنها بالتحديد الدولة التقنية التي تتلاءم على الأقل مع العالم والمجتمع الذي يحدده جوهر التقنية. الدولة التقنية ستكون الخادم الأكثر ذلاً وعماء أمام سلطان التقنية.

ديرشبيغل: جيد. ولكن الآن السؤال الذي يطرح نفسه: هل ما زال الفرد قادراً على التأثير في هذه الشبكة من الحتميات، أو هل يمكن أن تؤثر فيها الفلسفة، أو هل يمكن لهما كِليْهِما أن يؤثرا معاً بحيث تقود الفلسفة فرداً أو مجموعة أفراد لفعل ما؟

هايدغر: هذه الأسئلة تعيدنا إلى بداية الحديث. إذا كان بمقدوري أن أجيب بسرعة أو بشيء من الحدّة، لكن عن تفكير طويل: الفلسفة لن تكون قادرة على إحداث تغيير مباشر لحالة العالم الراهنة. هذا لا يصدق على الفلسفة فحسب، بل على كل المحاولات والتأملات الإنسانية. فقط الإله مازال بإمكانه إنقاذنا. أعتقد أن الإمكانية الأولى للخلاص الباقية لنا هي التحضير للجهوزية، من خلال التفكير والشعر، من أجل ظهور الإله أو غياب الإله خلال الانحدار؛ فنحن ببساطة لا نموت ميتات بلا معنى، لكننا عندما ننحدر ننحدر إزاء الإله الغائب.

ديرشبيغل: هل ثمة صلة بين تفكيرك وانبثاق هذا الإله؟ هل هنالك، كما ترى، علاقة سببية؟ هل تعتقد أنه يمكننا استدعاء هذا الإله من خلال التفكير؟

هايدغر: لا نستطيع استدعاءه من خلال التفكير. في أفضل الأحوال نستطيع تحضير الجاهزية للانتظار.

ديرشبيغل: ولكن هل نقدر على المساعدة؟

هايدغر: التحضير للجاهزية يمكن أن يكون الخطوة الأولى. لا يمكن للعالم أن يكون ما هو وكيف هو من خلال الإنسان، ولكنه لا يمكن أن يكون كذلك من دون الإنسان. هذا برأيي مرتبط بالحقيقة التي أسميها «كينونة»، باستخدام كلمة تقليدية غامضة وبالية الآن، التي تحتاج إلى الإنسان. الكينونة ليست كينونة من دون كائن إنساني تحتاج إليه للكشف عنها، وحمايتها، وبنائها. أرى جوهر التقنية في ما أسمّيه تشييداً. هذا الاسم الذي عندما يطرق السمع للمرة الأولى يساء فهمه ودلالته بسهولة، إذا أعيد التفكير فيه بشكل صحيح يعيدنا بدلالته إلى تاريخ الميتافيزيقا العميق، التي مازلت تحدد وجودنا َ[ Dasein] اليوم. وسائل عمل التشييد هي: البشر الممسوك بهم والمطلوبون والمتحدّون من قوة تم الكشف عنها في ماهية التقنية. إن تجربة تشييد البشر بشيء غير ذاتهم لا يستطيعون السيطرة عليه بذاتهم، هو بالتحديد التجربة التي يمكن أن تبيّن لهم إمكانية استبصار أن البشر حاجة للكينونة. إمكانية تجربة، الكينونة ضرورية، والجاهزية لتلك الإمكانات الجديدة كامنة في ما يشكّل أكثر التقنية الحديثة ذاتها. لا يمكن للتفكير أن يفعل أكثر من مساعدة الإنسان في هذا التبصّر، والفلسفة استُنفِذت.

ديرشبيغل: في الأوقات السابقة ـ وليس في الأوقات السابقة فحسب ـ كان يُعتقد أن الفلسفة كانت فعّالة بطريقة غير مباشرة (ونادراً بطريقة مباشرة)، حيث ساعدت في انبثاق تيارات جديدة. بالتفكير فقط بالألمان، ومن خلال أسماء عظيمة مثل كانط وهيغل وصولاً إلى نيتشه، بالإضافة إلى ماركس، يمكن إثبات أنه كان للفلسفة، بطرق ملتوية، تأثير هائل. هل تعتقد أنّ هذا التأثير للفلسفة استنفذ؟ وعندما تقول الفلسفة ماتت، وأنها لم تعد موجودة، فهل تشمل فكرة تأثير الفلسفة اليوم على الأقل (لو فعلاً وجد بالأساس)؟ 

هايدغر: سبق وقلت إن التاثير غير المباشر، لا المباشر، ممكن من خلال نوع آخر من التفكير. هكذا يمكن للتفكير، كما كان، أن يغيّر ظروف العالم.

ديرشبيغل: عفواً اعذرنا، لا نريد أن تفلسف (فنحن لسنا بهذا الوارد) لكن هنا توجد علاقة بين السياسة والفلسفة، فمن فضلك اعذرنا لدفعك إلى هذا الحديث. فأنت قلت للتو أن الفلسفة والفرد لا يستطيعان فعل أي شيء باستثناء...

هايدغر:...هذا التحضير لجاهزية حفاظ المرء على ذاته منفتحا لوصول أو غياب الإله. تجربة هذا الغياب ليست لاشيْئاً، بل على العكس، هي تحرير للإنسان مما سمّيته «السقوط في الكينونة» في كتاب الكينونة والزمن. تأمّل في ما هو اليوم جزءٌ من التحضير للجاهزية الذي كنا نتحدث عنه.

ديرشبيغل: لكن في الحقيقة ينبغي أن يكون الدافع الشهير من الخارج، من إله أو أيّ كان. التفكير إذاً، من خلال اكتفائه بذاته ومن دون إكراه، لن يكون كافياً اليوم؟ كان كافياً برأي الناس قديماً، وحتى في رأينا، على ما اعتقد.

هايدغر: لكن ليس مباشرة.

ديرشبيغل: لقد سمّينا في ما سبق كانط، وهيغل، وماركس كمحركين عظماء. لكن الدوافع أتت من لايبنتس أيضاً ـ من أجل تطوير الفيزياء الحديثة وبالتالي أصل العالم الحيث بشكل عام. نعتقد أنك قلت الآن أنك لم تعد تتوقع هذا النوع من التاثير راهناً.

هايدغر: لم يعد ممكناً على مستوى الفلسفة. فالدور الذي أدّته الفلسفة حتى الآن تستولي عليه العلوم. ولكي نوضح «تأثير» التفكير بشكل كاف، علينا أن نخوض نقاشاً أكثر عمقاً عن معنى أثر وتأثير هنا. لأني أجد ضرورة في التمييز الدقيق بين السبب، والدافع، والدعم، والمساعدة، والتعاون، والعائق. لكن لا يمكننا اكتساب البعد المناسب للقيام بهذه التمايزات إلا إذا ناقشنا على نحو وافٍ مبدأ العلة التامّة. فالفلسفة تنحل في العلوم المستقلّة: علم النفس، والمنطق، وعلم السياسة.

دير شبيغل: وما لذي يقوم بدور الفلسفة راهناً؟

هايدغر: السبرانية  (cybernetics).

ديرشبيغل: أو الملتزم الذي يبقى منفتحاً؟

هايدغر: لكن هذا لم يعد فلسفة.

ديرشبيغل: ماذا اذاً؟

هايدغر: أنا أسمّيه التفكير الآخر.

ديرشبيغل: تسمّيه التفكير الآخر. هل بوسعك صياغة ذلك بشكل أوضح؟

هايدغر: هل كنت تفكر في العبارة التي ختمت بها محاضرتي «السؤال المتعلّق بالتقنية»: «التساؤل هو التزام التفكير»؟[25].

ديرشبيغل: وجدنا عبارة في محاضراتك عن نيتشه تبدو لنا ملائمة. قلت فيها: «لأن أكبر علاقة ممكنة سادت في التفكير الفلسفي، فكل المفكرين العظماء يفكرون بالطريقة نفسِها. لكن هذه النفسية أساسية جداً وغنية لدرجة أنه لا يوجد فرد يستطيع أن يستنفذها، بل على العكس كلٌّ يرتبط بالآخر بشكل أوثق». لكن يبدو أنك تعتقد بوصول هذه البنية الفلسفية إلى نهاية حتمية.

هايدغر: انتهت ولكنها لم تصبح باطلة بالنسبة لنا؛ بل هي حاضرة في الحديث. فكل ما قدّمته في المحاضرات والندوات خلال السنوات الثلاثين الماضية، كان بشكل أساسي شرحاً للفلسفة الغربية. العودة إلى الأسس التاريخية للتفكير، والتفكير من خلال الأسئلة التي لم تعد تُسأل منذ الفلسفة اليونانية ـ هذا ليس ابتعاداً عن التقليد. لكن أقول إن طريقة التفكير الميتافيزيقي التقليدية التي انتهت مع نيتشه، لم يعد بوسعها توفير إمكان تجريب المواصفات الأساسية لعصر التقنية الذي ما زال في بدايته، من خلال التفكير.

ديرشبيغل: في حديث مع راهب بوذي من سنتين تقريباً، تحدثتَ عن «منهج جديد كلياً في التفكير» وقلت أنه «في الوقت الراهن لا يستطيع إلا عدد قليل من الناس تطبيق» هذا المنهج الجديد في التفكير. هل تقصد أن فقط قلة قليلة من الناس، برأيك، يمكن أن يكون لها البصيرة الممكنة والضرورية؟

هايدغر: يمكنك أن تقول ذلك.

ديرشبيغل: نعم، لكن في الحديث مع الراهب البوذي، لم تصف بوضوح كيف يمكن تحقيق ذلك.

هايدغر: لا أستطيع التوضيح. لا أعرف كيف يكون هذا التفكير «مؤثّراً». يمكن أيضاً أن يوصل التفكير اليوم إلى الصمت، بذلك يمكن المحافظة على التفكير من الإبعاد في أقل من سنة. ويمكن أيضاً أن يستغرق ثلاثمائة سنة لكي يصبح «مؤثّراً».

ديرشبيغل: نحن نفهم ذلك جيداً. لكن لأننا لن نعيش ثلاثمائة سنة، فنحن هنا والآن، ممنوعون من الصمت. فنحن، الساسيّين، وأنصافَ السياسيين، والمواطنين، والصحفيين،...إلخ.، نحن مضطرون لاتخاذ قرار من نوع أو من آخر. ينبغي أن نكيّف أنفسنا مع النظام الذي نعيش في ظله، علينا أن نحاول تغييره، علينا ارتقاب الباب الضيق للإصلاح والباب الذي مازال أضيق للثورة. نحن نتوقّع مساعدة من الفيلسوف، حتى لو بالطبع، مساعدة غير مباشرة، مساعدة بطرق ملتوية. والآن نسمع: أنا لا أستطيع مساعدتكم.

هايدغر: لا أقدر.

ديرشبيغل: هذا سيقلل من عزيمة من هم ليسوا بفلاسفة.

هايدغر: لا أقدر لأن الأسئلة صعبة جداً فقد يكون معنى مهمة التفكير هذه مناقضاً لظهورها العلني، وللوعضا، ولتوزيع الدرجات الأخلاقية. وربما سأخاطر بهذه العبارة: إن سر هيمنة ماهية التقنية الكوكبية اللامفكر فيها يوازي أسبقية وعدم وضوح التفكير الذي يحاول التأمل في هذه الماهية اللامفكر فيها.

ديرشبيغل: ألا تعد نفسك من بين أولئك الذين يمكن، لو أصغي اليهم، أن يرشدوا إلى الطريق؟

هايدغر: لا! أنا لا أعرف طريقاً إلى تغيير مباشر للوضع الراهن في العالم، على فرض أن تغييراً مثل هذا ممكن إنسانياً. لكنني أرى أن محاولة التفكير يمكن أن توقظ، وتوضح، وتقوّي الاستعداد الذي ذكرناه سابقاً.

ديرشبيغل: إجابة واضحة ـ لكن هل يمكن للمفكر أن يقول: لتنتظر فقط، فسوف يحصل شيء ما لنا في الثلاثمائة سنة القادمة؟

هايدغر: المسألة ليست مجرّد مسألة انتظار حتى يحصل شيء ما للبشر بعد مرور ثلاثمائة سنة؛ إنها تتعلق بالتفكير في المستقبل، من دون ادعاءات نبوية، التفكير في الوقت الآتي انطلاقاً من الخصائص الأساسية لعصرنا، الذي لم يتم التفكير فيها إلا نادراً. التفكير ليس جموداً، لكنه بذاته الفعل الذي يتحاور مع مصير العالم. ويبدو لي أن التمييز، الصادر من الميتافيزيقا، بين النظرية والتطبيق، ومفهوم الانتقال بين الاثنين، يعترض الطريق إلى التبصر في ما أفهم أنه تفكير. يمكنني أن أشير هنا إلى محاضراتي التي نشرت عام 1954 تحت عنوان «ما الذي يدعى تفكيراً؟»[26] هذه القطعة هي الأقل قراءة بين منشوراتي، وربما هذه أيضاً سمة عصرنا.

ديرشبيغل: بالطبع، دائماً كان هناك سوء فهم للفلسفة وهو الاعتقاد أنه يجب أن يكون للفيلسوف تأثير مباشر بفلسفته. فلنعد إلى البداية. لا يمكن فهم كيف يمكن للاشتراكية القومية أن تُرى من جهة كتحقق لتلك «المواجهة الكوكبية»، ومن جهة أخرى كاحتجاج أخير، أقوى أكثر، وفي الوقت نفسِه، أكثر يأسا ًفي مواجهة «التقنية الكوكبية المحتومة» والإنسان الحديث؟ يبدو أنك تتعامل مع متعارضات في شخصك كما لو أن عدداً من النتاجات الثانوية لأنشطتك يمكن أن تشرح واقعاً في أنك، في أجزاء مختلفة من وجودك الذي لا يلامس جوهر الفلسفة، تتمسك بأشياء كثيرة تعرف بها أنت كفيلسوف أنها ليس لها استمرارية ـ مثلا تتمسّك بمفاهيم مثل «البيت»، «التجذّر» وأشياء مشابهة. فكيف تتوافق التقنية الكوكبية مع «البيت»؟ 

هايدغر: لا أريد قول ذلك. يبدو لي أنك تأخذ التقنية بكل ما في الكلمة من معنى. أنا لا أعتقد أن وضع البشرية في عالم التقنية الكوكبية هو قدر كارثي ومحتوم؛ بل بخلاف ذلك أعتقد أن مهمة التفكير بالتحديد هي مساعدة الإنسان، ضمن الحدود، في الوصول إلى علاقة كافية مع ماهية التقنية. رغم أن الاشتراكية القومية سارت في هذا الاتجاه، فهؤلاء الناس كانوا إلى حدّ ما محدودي التفكير للوصول إلى علاقة واضحة وواقعية مع ما يحصل راهناً ومع ما هو في طور الحصول لثلاثة قرون من الزمن.

ديرشبيغل: هذه العلاقة الواضحة، هل هي موجودة عند الأميركيين؟

هايدغر: هم أيضاً لا يملكونها. إنهم مازالوا واقعين في شباك تفكير براغماتي يرعى العملاتية واستخدام التقنية، لكن في الوقت نفسه يعيقون طريق التفكير بخصائص التقنية الحديثة. في الوقت نفسه، جرت محاولات للابتعاد عن التفكير البراغماتي الإيجابي في أماكن من الولايات المتحدة الأميركية. ومن منا يستطيع القول ما إذا كان في يوم ما في تراث روسيا والصين القديمين «تفكير» قد يوقظ ما سوف يساعد البشر في إمكان إنشاء علاقة حرة مع عالم التقنية؟

ديرشبيغل: لو فقدوا هذا التفكير، ألا يمكن للفيلسوف أن يقدّم لهم شيئاً...

هايدغر: لست أنا من يقرر إلى أي حد يمكن أن أصل في محاولتي في التفكير وبأي طريقة يمكن تلقّيها وتحويلها بشكل منتج في المستقبل. في عام 1957 ألقيت محاضرة بعنوان «مبدأ الهوية» في المناسبة السنوية لجامعة فرايبورغ. خاطرت فيها لآخر مرة بتبيين أنه بخطوات قليلة من التفكير، إلى أي مدى يمكن أن تصل تجربة التفكير بما يشكل الميزة الأهم للتقنية الحديثة. لقد حاولت إظهار أن تجربة التفكير هذه يمكن أن تصل إلى حد فتح إمكانية اختبار إنسان عصر التكنولوجيا العلاقة بمطلب لا يسمعونه فقط بل يخصّهم أيضاً. كان لتفكيري صلة جوهرية بشعر هولدرلن Holderlin. لكنني لا أعتقد أن هولدرلن هو مجرد شاعر، يعالج شعره موضوعاً من بين كثير من المواضيع بالنسبة لمؤرخي الأدب. أعتقد أن هولدرلن هو الشاعر الذي يشير إلى المستقبل، الذي يتوقع الإله، وبالتالي الذي لا يمكنه أن يبقى مجرد موضوع لبحث هولدرلن في الخيال التاريخي الأدبي.

ديرشبيغل: بالحديث عن هولدرلن (نعتذر أننا سنقتبس مرة أخرى)، في محاضراتك عن نيتشه قلت إن «الصراع المفهوم بطرق مختلفة بين أبولو وديونيسيوس، حيث يشكّل الشغف المقدس والرواية الرصينة قانوناً نموذجياً للمصير التاريخي للألمان، ويوماً ما ينبغي أن تجدنا جاهزين وحاضرين لتشييده. هذا الاعتراض ليس صيغة يمكن بمساعدتها أن نصف «الحضارة». مع هذا الصراع وضع هولدرلن ونيتشه علامة استفهام أمام مهمة الألمان لإيجاد ماهيتهم التاريخية. فهل بمقدورنا فهم هذه الإشارة، علامة الاستفهام هذه؟ هناك أمر واحد أكيد: إذا لم نفهمه، سوف ينتقم التاريخ منا». لا نعرف أي سنة كتبتَ هذا، لكننا نقدّر أنه كان عام 1935.

هايدغر: ربما كان الاقتباس من محاضرة عن نيتشة بعنوان: «إرادة القوة بوصفها فنًّا» عام 1936-37. ويمكن أيضاً أن تكون قد ألقيت في السنوات التي تلت.

ديرشبيغل: هل يمكنك شرح ذلك قليلاً؟ هذا يجرّنا من التعميم إلى المصير الخاص بالألمان.

هايدغر: أستطيع إعادة صياغة ما جاء في الاقتباس كما يلي: أنا مقتنع أنه يمكن تحضير التغيير من المكان نفسِه في العالم الذي صدرت منه التقنية الحديثة. لا يمكن أن يأتي من خلال تبنّي بوذيّة الزن أو من تجارب شرقية أخرى. ونحن نحتاج لمساعدة التراث الأوروبي وسيطرته الجديدة لتغيير التفكير. سوف يتغير التفكير فقط بتفكير له المصدر نفسه والمصير نفْسُه.

ديرشبيغل: في البقعة نفسِها التي صدرت منها التقنية العالمية، تعتقد أنه يجب...

هايدغر:...التعالي بالمعنى الهيغلي، لا العزلة، التعالي لكن لا من خلال الإنسان وحده.

ديرشبيغل: هل تخصص مهمة محددة للألمان؟

ديرشبيغل: نعم، بهذا المعنى، في حوار مع هولدرلن.

ديرشبيغل: هل تعتقد أن للألمان مواصفات هذا التغيير؟

هايدغر: أنا أفكر بعلاقة داخلية خاصة بين اللغة الألمانية ولغة التفكير اليونانية. تأكد لي هذا مراراً وتكراراً راهناً من خلال الفرنسيين، الذين عندما يبدأون التفكير فهم يتكلمون الألمانية، وهم يؤكدون أنهم لا يستطيعون النجاح بلغتهم الخاصة.

ديرشبيغل: هل هكذا ستشرح التأثير القوي جداً الذي تركتَه لدى البلدان الرومانية بالأخص فرنسا؟

هايدغر: لأنهم يعتقدون أنهم لا يستطيعون بلوغ غاياتهم في العالم بكل عقلانيتهم عندما يحاولون فهمه في مصدر ماهيته. لا يمكن ترجمة التفكير إلا بالقدر الذي يترجم فيه الشعر، في أحسن الحالات يمكن إعادة صياغته. وعندما تتم محاولة الترجمة الحرفية، يتغيّر كل شيء.

ديرشبيغل: تفكير مقلق.

هايدغر: قد يكون حسناً لو حُمل هذا التفكير المربك على محمل الجدّ على نطاق واسع ولو في النهاية اعتبرت المعاناة التي مر بها التفكير اليوناني الشديد الأهمية عندما ترجم إلى الرومانية اللاتينية، حدث الذي مازال يعترض طريقنا اليوم إلى تفكير واف في الكلمات الأساسية للتفكير اليوناني. 

ديرشبيغل:بروفسور، يمكننا أن نفترض دائماً وبالفعل وبتفاؤل إمكان إيصال شيء أو حتى ترجمته، لأنه إذا كان هذا التفاؤل بإمكان إيصال محتويات التفكير رغم توقف الحواجز اللغوية تكون الإقليمية التفكيرية مصدر خطر.

هايدغر: هل تسمي التفكير اليوناني إقليمياً مقابل نمط أفكار الأمبراطورية الرومانية؟ يمكن ترجمة المراسلات التجارية إلى جميع اللغات. ويمكن ترجمة العلوم (علوم اليوم تعني العلوم الطبيعية، الفيزياء الرياضية العلم الأساسي) إلى جميع لغات العالم. قل بشكل أصح، إنها لا تترجم، لكن اللغة الرياضية نفسها تستعمل للكلام. وصلنا هنا إلى منطقة واسعة ويصعب تغطيتها.

ديرشبيغل: ربما كان لهذا صلة بالموضوع أيضاً: يوجد حالياً، بدون مبالغة، أزمة في النظام البرلماني الديمقراطي، والأزمة ما زالت قائمة منذ زمن. هناك أزمة خاصة في ألمانيا، وأزمة في البلدان الديمقراطية التقليدية، في إنكلترا وفي أميركا. في فرنسا لم يعد ثمة أزمة. الآن، سؤال: هل بوسع المفكرين ألا يقدموا النصح، حتى لو كانت نتيجة تفكيرهم، ضرورة استبدال هذا النظام بنظام جديد، وكيف يمكن أن يكون النظام الجديد، أو ضرورة الإصلاح وإسداء النصح كيف يكون الإصلاح ممكنا؟ غير أن الشخص غير المثقف فلسفياً ـ وهذا يكون بشكل طبيعي الشخص الذي يسيطر على الأمور(رغم أنه لا يحددها) ـ هذا الشخص سيظل يصل إلى نتائج زائفة، وربما إلى أسوا نتائج وأكثرها تسرّعاً. إذا: ألا ينبغي أن يكون الفيلسوف جاهزاً للتفكير بكيفية تنظيم تعايش البشر في هذا العالم، الذي جعلوه تقنياً هم بأنفسهم والذي ربما أخضعهم لسلطانه؟ ألا يُتوقّع بحق من الفيلسوف أن يسدي نصيحة بما يعتبره طرق عيش ممكنة؟ ألا يقصّر الفيلسوف عن جزء ولو صغيراً من مهنته ودعوته إذا لم يوصل شيئاً عنها؟

هايدغر: بقدر ما أعرف، الفرد لا يقدر على فهم العالم ككل من خلال التفكير إلى درجة القدرة على إعطاء تعليمات عملية، خصوصاً في مواجهة مهمة إيجاد أوّليّ لركيزة من أجل التفكير بذاته مرة أخرى. وبقدر ما يكون الأمر جِدّيّاً من منظور التراث العظيم، يُرهق التفكير إذا وجب عليه تحضير نفسه لإعطاء التعليمات. تحت أي سلطة يمكن لهذا أن يحصل؟ في عالم التفكير، ليس ثمة عبارات سلطوية. الاشتراط الوحيد للتفكير يأتي من المسالة التي ينبغي التفكير فيها. لكن هذا، في بادئ الأمر، يستحق البحث. ولنجعل هذه المسألة قابلة للفهم، يبدو أن النقاش حول العلاقة بين الفلسفة والعلوم التي تجعل نجاحاتها التقنية ـ العملية التفكير بالمعنى الفلسفي يبدو بالفعل أكثر فأكثر غير ذي جدوى. فالوضع الصعب الذي وضع فيه التفكير بالنسبة لمهمته التي تتلاءم مع اغتراب يتغذى من الموقع القوي للعلوم، من تفكير يجب أن يمنع ذاته من الإجابة عن أسئلة عملانية وأيديولوجية يطرحها راهننا اليوم.

ديرشبيغل: برفسور، في عالم التفكير لا يوجد عبارات جازمة. كذلك لا يمكن في الحقيقة أن نتفاجأ بأن الفن الحديث وجد صعوبة في إطلاق عبارات جازمة أيضاً. مع ذلك تسمّيه «هدّاماً». فعادة يفكّر الفن الحديث بذاته كفن تجريبي. لأن نتاجاته محاولات...

هايدغر: سأتعلم بسعادة.

ديرشبيغل:... محاولات نتجت عن حالة عزلة البشر والفنانين، ومن كل مئة محاولة، يوجد بين الحين والآخر واحدة تستحق اللقب.

هايدغر: هنا يكمن السؤال الكبير. أين يقف الفن؟ ما هو المكان الذي يشغله؟

ديرشبيغل: حسناً، لكن ها أنت تطلب شيئاً من الفن لم تعد تطلبه من التفكير.

هايدغر: أنا لا أطلب شيئاً من الفن. أنا أقول فقط إنه سؤال عن المكانة التي يحتلها الفن.

ديرشبيغل: إذا كان الفن لا يعرف مكانته، فهل هذا يعني أنه هدّام؟

هايدغر: حسناً، امحها. غير أنني أريد أن أعلن، أنني لا أعتقد أن الفن الحديث يرسم لنا طريقاً، خاصة عندما يبقى الأمر مبهماً لجهة الرؤية أو على الأقل البحث عن خصائص الفن.

ديرشبيغل: الفنان أيضاً، ينقصه التزام بالتراث. قد يجده جميلاً ويمكنه القول: نعم، هذه هي الطريق التي كان يمكن للمرء رسمها من ستمائة سنة أو من ثلاثمائة سنة أو حتى من ثلاثين سنة. ولكن لم يعد يفعل ذلك. حتى لو أراد ذلك، فهو لن يستطيع. يمكن لأكبر فنان إذاً أن يكون المقلّد البارع هانس فان ميغرن، الذي كان بإمكانه حينئذ أن يرسم «أفضل» من غيره. لكن ما الفائدة الآن. إذاً الفنان والكاتب والشاعر في وضع شبيه لوضع المفكر. فكم مرة علينا أن نقول أَغمِض عينيك.

هايدغر: إذا اتُّخذت «صناعة الثقافة» كإطار لتصنيف الفن والشعر والفلسفة، تكون المساواة مبررة. لكن، إذا لم تكن الصناعة فقط، بل صار أيضاً ما يسمى ثقافة موضع شك، يكون التفكير في هذا الشك أيضاً جزءاً من عالم مسؤولية التفكير، برأيي، لا يوجد حتى الآن مفكر يستطيع تحديد من هو العظيم بالمقدار الكافي الذي يمكن أن يضع التفكير مباشرة أمام موضوعه وبالتالي على طريقه. إن عظمة ما يجب التفكير فيه اليوم عظيم جداً بالنسب إلينا. فقد نستطيع أن نشق طريقاً ونبني جسوراً ضيقة وقليلة الامتداد من أجل العبور.

ديرشبيغل: أستاذ هايدغر، نشكرك على هذه المقابلة.

[1]- ترجمة: علي العسيلي ـ مراجعة د. جاد مقدسي.

[2]-  كان رئيساً لجامعة فرايبورغ في السنة الأكاديمية 1933-34.Wilhelm von Mِllendorff

[3]- See note 1 to Hermann Heidegger’s «Preface».

[4]- See «What Is Metaphysics?» trans. by David Farrell Krell،Basic Writings،ed. by David Farrell Krell (New York: Harper & Row،1977)،p. 96.

[5]- Martin Heidegger،Die Selbstbehauptung der deutschen Universitنt (1933; Frankfurt: Klostermann،1983)،p. 15; an English translation،«The Self-Assertion of the German University,» is in this volume.

[6]- Die Selbstbehauptung der deutschen Universitنt،p. 19; «The Self-Assertion of the German University,» p. 13 in this volume.

[7]- Friedrich Naumann (1860–1919) was a minister and a political and social theorist who called for social reform as well as for German economic and political imperialism. After his own party failed،he joined the Freisinnige Vereinigung in 1903،which merged with the Progressive People’s Party in 1910. He was elected to the Reichstag in 1907،and in 1919 he was one of the founders of the German Democratic Party.

[8]-The essay appeared in the magazine Die Erziehung،edited by A. Fischer،W. Flitner،Th. Litt،H. Nohl،and Ed. Spranger. «Mنrz 1933,» Die Erziehung.

[9]- This is a quote from an article Heidegger published in the Freiburger Studentenzeitung on 3 November 1933. Reprinted in Guido Schneeberger،Nachlese zu Heidegger (Bern: 1962): 135–136. An English translation by William S. Lewis،may be found under the title «German Students,» New German Critique 45 (Fall 1988): 101 – 102. This translation is،however،mine.

[10]- The book Heidegger shows his interviewers is Vernunft und Existenz. Heidegger also presents Jaspers’ book Descartes und die Philosophic،which has a dedication from Jaspers to Heidegger written in 1937.

[11]-Hermann Niemeyer ناشر كتب هايدغر في حينه.

[12]- Martin Heidegger،Unterwegs zur Sprache (Pfullingen: Neske،1959)،p. 269; On the Way to Language،trans. by Peter Hertz (New York: Harper & Row،1971)،pp. 199 – 200. This translation is my own،except for the passage from Being and Time،trans. by John Macquarrie and Edward Robinson (New York: Harper & Row،1962)،p. 489.

[13]- See note 3 to Hermann Heidegger’s «Preface».

[14]- See note 2 to Hermann Heidegger’s «Preface».

[15]- Albert Leo Schlageter (1894 – 1923)،a former student at the University of Freiburg،was shot by the French occupation army in the Ruhr on 26 May 1923. For one of Heidegger’s speeches on Schlageter،see Schneeberger،Nachlese zu Heidegger: 47 – 49. An English translation can be found in «Martin Heidegger and Politics: A Dossier,» New German Critic،45 (Fall 1988): 96 – 97.

[16]- العنوان المذكور لم يتم التأكد منه بعد.

[17]- See note 16 to Martin Heidegger’s «The Rectorate 1933/34».

[18]- See note 22 to Martin Heidegger’s «The Rectorate 1933/34».

[19]- Here the Spiegel edited a reformulated statement by Dr. H. W. Petzet into the Heidegger text. Heidegger accepted it in the final version،probably because it was factually accurate.

[20]- Professor Dr. Gerhard Ritter (author of Carl Goerdeler und die deutsche Widerstandsbewegung)،at the time full professor of modern history at the University of Freiburg،was imprisoned on 1 November 1944 in connection with the attempted assassination of Hitler on 20 July 1944. He was freed on 25 April 1945 by the Allied troops. The historian became professor emeritus in 1956 and died in 1967.

[21]- The Volkssturm،an army for home defense،was organized toward the end of the Second World War and consisted of men and boys unable to serve in the regular military.

[22]- See Martin Heidegger،Eigführung in die Metaphysik،2nd. ed. (Tubingen: Max Niemeyer،1958)،p. 152. English translation: An Introduction to Metaphysics،trans. Ralph Mannheim (Garden City،N.Y.: Doubleday،1961)،p. 166. The translation is my own.

[23]- See note 2 to Richard Wisser’s «Martin Heidegger in conversation».

[24]- Martin Heidegger،Nietzsche،vol. II (Pfullingen: Neske،1961)،p. 335.

[25]- Martin Heidegger،«Die Frage nach der Technik,» Vortrنge und Aufsنtze (Pfullingen: Neske،1954)،p. 44; English translation: «The Question Concerning Technology,» The Question Concerning Technology and other Essays،trans. by William Lovitt (New York: Harper & Row،1977)،p. 35.

[26]- Martin Heidegger،Was Heisst Denken? 2nd ed. (Tubingen: Niemeyer،1961). An English translation by Fred Wieck and J. Glenn Gray has been published with the title What Is Called Thinking? (New York: Harper & Row،1968). A selection from it is published in Basic Writings as «What calls for Thinking,» pp. 345 – 367.