البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مصطلحات هايدغرية

الباحث :  إعداد : محمد سبيلا
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  5
السنة :  السنة الثانية - خريف 2016 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 1 / 2016
عدد زيارات البحث :  1444
تحميل  ( 375.785 KB )
أخذ المصطلح في نظام هايدغر الفلسفي متّسعاً من الجدل والتأويل، لم يجد من يناظره في تاريخ الفلسفة الحديثة، فعلى الرغم من انتساب الكثير مما قدّمه في أعماله الكثيرة، وخصوصاً عمله الأشهر "الكينونة والزمان" إلى عالم المفاهيم الغربية وفلاسفتها السابقين عليه، فقد تعامل هايدغر مع المصطلح كمنحوتة تنطوي على سرّها الخاص، ماذا إذاً عن المصطلح الهايدغري؟

في ما يلي تظهير لأبرز المصطلحات التي احتوتها منظومة هايدغر الفلسفية، وقد تولى إعدادها وتقديم شروحها المفكّر والأكاديمي المغربي البروفسور محمد سبيلا.

المحرر

------------------

 العدمية Nihilisme:

هناك مدخلان لدراسة مفهوم العدمية في فكر هايدغر:

الأول يتمثل في تأويله للعدمية عند نيتشه في كتابه حول نيتشه وبخاصة الجزء الثاني حيث يوضح أن نيتشه يقصد بالعدمية سيرورة انحطاط أو الحط من القيم التقليدية (المسيحية) السائدة في التاريخ الغربي. فالعدمية حسب نيتشه ليست فقط هي المرحلة الأخيرة لانحطاط القيم بل تشمل أيضا العملية الأولى لإقامة القيم مع أفلاطون انتهاء بمسخها وانحطاطها لكنه يرى أن نيتشه لم يستطع تخطي النزعة العدمية بل حملها إلى ذروتها ونقطة اكتمالها لأنه لم يفهم ولم يدرك ماهية الميتافيزيقا التي تنتمي إليها النزعة العدمية وتشتغل ضمنها. فالمفاهيم النيتشوية الأساسية وخاصة إرادة القوة والعود الأبدي مدموغة بالميتافيزيقا من حيث تعريفها من خلال الثنائيات الميتافيزيقية ثنائية الوجود والماهية كما أن مقولة الإنسان الأعلى مرتبطة بذاتية الإنسان كحيوان عاقل وفق تصور أرسطو فقط مع إعادة ترتيب الحدود الميتافيزيقية.

المدخل الثاني يتمثل فهمه الخاص لمدلول العدمية حيث يرى أن العدمية هي نتيجة لمسار نسيان الكينونة واكتمال لهذا المسار الذي ابتدأ مع سقراط وأفلاطون واستكمل تدريجيا مع المسيحية والميتافيزيقا الغربية عامة وبلغ أوجه في العصور الحديثة.

نسيان الكينونة يعني أن الكينونة تتقنع وتتخفى وتتحجب، وتنسحب بقصد الاحتماء فالنسيان احتجاب واحتماء وهو تحجب الكينونة -الحاضر لصالح الكائن- الحاضر بمعنى أن نسيان الكينونة لا يعود فقط إلى إهمال من طرف الفكر بل هو من صلب الكينونة نفسها.

      للتغلب على العدمية يقترح هايدغر رفض كل المقولات الميتافيزيقية والتوجه نحو مساءلة الكينونة، أي ليس التفكير في كينونة الكائن أو في مجموع الكائنات أو في الكائن الأسمى، بل في "حقيقة أو معنى الكينونة" من حيث اختلافها عن الكائن هذا الاختلاف الذي يدعوه الفيلسوف أحيانا "الثنية" (le pli). وبذلك نزع عن الميتافيزيقا سر قوتها العدمية أي ألا تكون تاريخ «نسيان الكينونة».

مسألة الله

يقول هايدغر بأن كل عمله الفلسفي إنما هو محاولة للحوار والجدال وربما من تصفية الحساب (Explication) مع المسيحية. فالمسألة الدينية عامة ومسألة الله واللاهوت هي قضايا حاضرة بقوة، إما صراحة أو ضمنا، في كل عمله الفلسفي، حتى وإن لم تكن هي موضوعه الرئيسي.

يميز بعض الباحثين بين ثلاث مراحل في تفكير هايدغر في مسألة الله:

المرحلة الأولى هي مرحلة كتاب «الكينونة والزمن» حيث يبدو أن مسألة الله مطروحة بشكل ضمني لكنها لم تكن محط تحليل أو تطوير خاص.

في المرحلة الثانية كما تمثلها الكتابات اللاحقة للكتاب الرئيسي يبدو أن هايدغر يتجه إلى التمييز بين مسألة الله ومسألة الكينونة وإلى الفصل بينهما فهو يرفض الصهر الذي قام به التقليد الفلسفي بين الكينونة والثيولوجيا (الأونتوثيولوجيا) أي الخلط بين الكينونة والكائن الأسمى.

أما في المرحلة الثالثة والتي تمثلها كتابات الفترة المتأخرة ويطبعها بصفة عامة نوع من المنظور ما بعد الميتافيزيقي وخاصة في كتابات المرحلة الأخيرة.

- موجودية الشيء قبل استعماله Vorhandeheit:

أ- أمام اليد:

يعني هذا المصطلح موجودية الشيء قبل أن يصبح أداة مستعملة أو قابلة للاستعمال. فالقلم موجود هناك، قائم هناك باستمرار، أمامي، أمام يدي بغض النظر عن استعمالي له وعن حاجتي إليه؛ هذا المستوى يحيل على العالم من حيث هو مجموع الأشياء الموجودة والمعروضة والتي يحيل بعضها على بعض، قبل أو خارج استعمالها أو استعماليتها.

ب- طوع اليد Zuhandeheit

ج - من أجل (zu) اليد (hand):

تعني الجاهزية أو الجهوزية لاستعمال الأشياء من حيث قابليتها أو جهوزيتها للاستعمال اليدوي.

فالأمر هنا يتعدى مجرد وجود الأشياء أمام اليد (Vorhandeheit)، بل وجودها من حيث هي منذورة للاستخدام ومن حيث هي مسخرة للاستعمال اليدوي.

وتلك هي العلاقة الأولية للكائن الإنساني مع العالم وأشيائه وأدواته والتي هي أساسا علاقة عملية استعمالية، انتفاعية قبل أن تكون علاقة محايدة.

يحيل هذا المعنى إلى معنى للعالم من حيث هو لا فقط مجموع الأشياء المعروضة، بل هو مجموع الأشياء من حيث هي أدوات طوع اليد وجاهزة للاستعمال.

ـ النيتشوية:

نيتشه في نظر هايدغر، هو آخر فيلسوف ميتافيزيقي، وهو الذي دفع التراث الميتافيزيقي الغربي إلى مداه الأقصى نحو استكمال وتحقيق كل ممكناته.

إلا أن نيتشه في نظر هايدغر، رغم كل هذه المسافة الفكرية التي قطعها نحو التخلص من الميتافيزيقا ظل مع ذلك أسير حدودها ومشدودا إليها، وهو ما يجيز لنا الحديث مع هايدغر عن ميتافيزيقا نيتشه، وهي الميتافيزيقا التي بدأت ملامحها تتحدد بالتدريج بدءا من كتاب «الفجر» (1881) الذي حضرت فيه فكرة العود الأبدي وهي الفكرة التي سيعلنها زرادشت حيث سيبشر بالإنسان الأعلى وبأن ماهية الكينونة هي إرادة القوة التي ستعيد قلب كل القيم السائدة إلى الآن.

فعبر هذه العناصر الأربعة: العود الأبدي، إرادة القوة، الإنسان الأعلى، قلب المرجعيات القيمية، إضافة إلى العدمية، تتأسس ميتافيزيقا نيتشه وتشكل نوعا من المنظومة المتكاملة، على الرغم من الشكل الشذري المعبر عنها. فإرادة القوة تعبر عن ماهية الكائن. والعود الأبدي لذات الشيء أو للمتماثل يعني كيفية أو نمط وجود الكائن.

أما قلب المرجعيات القيمية فسيعني أن القيم السائدة حتى الآن قد بطلت وأفلت، بل إن المرجعيات الأساسية التي تستقى منها هذه القيم وجودها هي ذاتها قد انهارت وأفلت.

الإنسان الأعلى هو ذلك الإنسان القادر على أن يضطلع بالكائن من حيث هو إرادة قوة وعودٌ أبديٌّ لذات الشيء.

أما العدمية فتخص تاريخ حقيقة الكينونة من حيث أنها -في ماهيتها- إرادة قوة وعود أبدي لذات الشيء.

إرادة القوة هي ماهية الكائن والعود الأبدي هو كيفية كينونته وقلب المرجعيات القيمية هو النظر إلى الكينونة كقيمة والعدمية تتعلق بتاريخ حقيقة الكينونة. الإنسان الأعلى هو ذلك الكائن الذي يقيم علاقة خاصة بين الكينونة والإنسان.

الكينونة والحضور (Etre-sein):

يرى هايدغر أن الكينونة تعني الحضور (presence-anwesen) وقد فهمت مقولة الحضور في تاريخ الميتافيزيقا فهماً خاصّاً نأى بها عن معناها الأصلي. فقد فهم الحضور على أنه دوام permanence وعلى أنه حاضر.

يلاحظ هايدغر وجود نوع من السر الخفي في هذا الأمر لأن الحضور لم يتم التفكير فيه تفكيراً خاصاً به من حيث هو أي من خلال الزمن، ومن خلال المدة والاستمرار بل فكر فيه كحاضر متمجد.

لكن الزمن رغم أنه يجري ويمر باستمرار، فهو مع ذلك يظل زمنا ولا يتخلى عن زمنيته أي عن كونه زمنا. فالدوام والاستمرار لا يعني الانمحاء أو الغياب أو الاختفاء بل البقاء والتقدم المستمر نحو الكينونة أي الحضور المستمر للكينونة (Anwesen) حضورا أصليا مع الزمن من حيث هو زمن ـ ديمومة.

الفكر والشعر:

هناك تماثل كبير لدى هايدغر بين الفكر والشعر لكن هنا التماثل لا يبلغ درجة التطابق فهما معا يقولان الشيء نفسه لكن بطريقتين مختلفتين. وذلك لأن ماهية الشعر تقوم حسبه في الفكر. فالشعر أساسا فكر. وهذا الفكر هو فكر شعري أو فكر استذكاري. والذاكرة أو الاستذكار يردان هنا لا بمعنى الملكة أو الوظيفة السيكولوجية المعروفة بل بمعنى «تجميع الفكر»، فالذاكرة، أصلا وماهية، هي ما يحمي ويحفظ ما يتعين التفكير فيه كأقوال قديمة تكتنفها الحكمة وحتى وإن لم يكن ذلك هو واقع الفكر لأن الفكر لا يفكر في ما يتعين التفكير فيه بل ينسى ويتناسى هذا الموضوع. لكن الشاعر يرعى الحكمة القديمة ويتعهدها فتنعكس في أبياته فالشاعر يتذكر ويستذكر في الوقت الذي ينسى فيه أو يتناسى فيه الآخرون وهذا هو معنى كون الشعر فكرا يتذكر ولا ينسى.

والشعر هنا يؤخذ في معنى واسع فالشعر هو كل فن أو هو الفن في صورته العامة. وبهذا المعنى فإن الشعر، أي الفن عامة، هو إخراج (فني) للحقيقة أو انفتاح.

ميزة الخطاب الشعري هو قرابته وقربه من الكينونة، ومن فكر الكينونة أي من فكر تخلص من الأحكام الميتافيزيقية المسبقة، فكر لا يفرض تصوراته المنطقية على الكائن.

العقل Ratio:

يرى هايدغر أن «العقل هو العدو الشرس للفكر» فالعقل وخاصة العقل الحديث لم يعد مجرد تأمل في الكينونة وللكينونة، كما كان الأمر لدى الإغريق بل أصبح هو قدرة الذات الإنسانية على تمثل واستحضار الموضوعات وحسابها. بل أصبح العقل في الفكر الحديث هو المحكمة العليا التي يخضع لها كل شيء ويحتكم إليها ويستمد صدقيته وحقيقته منها سواء تعلق الأمر بموضوعات المعرفة المختلفة أو بالقيم بل أصبح تجسيدا لقدرة الإرادة الإنسانية ورغبتها في إضفاء صفة الشرعية على كل ما تفعل.

العقل الحديث في نظر هايدغر، هو عقل، حسابي، تحكمي، موضوعي يعكس إرادة ورغبة في التوحيد الشكلي الكامل لكل الكائنات.

بل لقد أصبح الكائن عبارة عن عملية الاستخدام والتدجين (Machination Machenschaft) التي يقوم بها العقل وقد أشار هايدغر مرارا إلى الصلة والتناظر القائم بين Macht بمعنى القوة وMachen بمعنى العمل وMachenschaft بمعنى ترسيخ قدرة الذات. فالعقل يتطلب ويفرض ويريد أن يجعل من الكائن موضوعا لذات أو مطروحا أمام ذات تفرض عليه شروطها وإملاءاتها. ولعل خير مثال على ذلك هو تطبيق الرياضيات على الواقع حيث تقوم الرياضيات بتوحيد شكلي للواقع Uniformisation ييسر خضوعه للسلطة المطلقة للإرادة الإنسانية.

يرفض هايدغر التعريف التقليدي للإنسان بأنه كائن عاقل، فالسمة الأساسية للإنسان بالنسبة له ليست هي العقل بل هي علاقته بالكينونة.

الإنسان هو الكائن المتميز بقدرته على التفكير في كينونته وفي الكينونة عامة. سمته الأساسية هي كونه كائنا  ـ في العالم ـ كائنا منفتحا على العالم.

يبدو أن هايدغر يختزل العقل في العقل الأداتي –العلّى- الحسابي أو في العقل التقني ويعتبر هذا النوع من العقل أو العقلانية هو الشكل الوحيد للعقل في حين أن مفهوم العقل والعقلانية أوسع بكثير من ذلك حيث نجد العقلانية الاستدلالية والعقلانية العملية أو الأخلاقية.

التيولوجيا الفلسفية philosophical theology:

      تحدث بعض الدارسين عن تيولوجيا فلسفية لدى هايدغر فهو ينتقد البراهين الفلسفية على وجود الله من حيث إنّ هذه البراهين ـ بغض النظر عن اعتمادها على أدوات المنطق الصوري الصارم ـ لا تبرهن على شيء لأن هذا الإله الذي لا يدين لوجوده إلا إلى هذه البراهين ليس في النهاية إلا إلها كيانا ناقص الألوهية. ومن ثمة فإن البرهان على وجود الله يؤول في النهاية إلى نوع من التجديف. بل إن الله ربما سيكون أكثر إلاهية عندما نتطرق إليه بيقين وإيمان وعندما نعتبر وجوده أكيداً. وذاك هو الإله الحي أو الإله الإلهي الذي هو قريب من التصور المسيحي وذلك مقابل إله الفلاسفة الذي هو في حاجة إلى برهنة.

وهايدغر يقيم تعارضاً قوياً بين الإيمان والعقل بين لامشروطية الإيمان وإشكاليات الفكر أي بين ميدانين مختلفين كلياً وجذرياً، ومن ثمة هو يرفض مفهوم «الفلسفة المسيحية» التي هي أقرب ما تكون بالنسبة له إلى الدائرة المربعة. بل إن هذين الشكلين الهندسيين يمكن أن يجمع بينهما انتماؤهما معا إلى المكان في حين أن الهوة بين الإيمان المسيحي والتساؤل الفلسفي هي هوة سحيقة لا يمكن اجتيازها.

ويتحدث بعض الباحثين كذلك عن تيولوجيا تاريخ الكينونة عند هايدغر، وهي تيولوجيا تجمع «بين الغياب الكامل للإله» ونزع الطابع الإلهي عنه Entgŏterung وهو النزع الذي لا يعود سببه للإنسان. وهو يدرج غياب الألوهية في إطار غياب المقدس كما يدرج هذا الأخير في سياق غياب الكينونة. وفي سياق هذا اللاهوت الفلسفي يتبين أن المقدس ـ الذي هو الإطار أو الفضاء الوحيد والأساسي لظهور الألوهية ـ لا يظهر إلا مع ظهور وانبثاق الكينونة. إلا أن الله والكينونة ليسا متطابقين إذ لا يمكن التفكير في ماهية الله بواسطة أو من خلال الكينونة.

ومع ذلك فإن هناك ترابطا بين الألوهية والمقدس والكينونة بمعنى أن المقدس شرط أساسي للوجود الإنساني.

فمقارنة الألوهية تتوقف على مصير الكينونة كما أن ماهية المقدس لا تتيسر إلا من خلال حقيقة الكينونة. وهكذا فإن التيولوجيا الفلسفية الهايدغرية تؤول في النهاية إلى فكر تاريخ الكينونة.

ـ الدازاين Dasein:

- الموجود الإنساني ـ الكائن الإنساني ـ الوجود هناك: الدازاين مصطلح أساسي لدى هايدغر. معناه الأصلي في اللغة الألمانية dasein الوجود-هناك لكن الفيلسوف يحول معناه ليصبح دالا على الوجود الإنساني من حيث هو وجود معروض ومنفتح.

يختلف الدازاين عن مفهوم الذات (sujet) من حيث إنّ هذا الأخير ذو حضور موضوعي في حين أن الدازاين هو كينونة تتشكل من زمنيتها الخاصة، بما أنها كينونة منفتحة وقادرة على فهم أو إعطاء معنى لكينونتها في أفق زمني.

والدازاين أو الإنسان أو الكائن الإنساني هو الكائن الذي يمتلك القدرة على فهم الكينونة، ومن ثمة فإن مساءلته هي الطريق إلى فهم الكينونة ذاتها.

ـ التهيؤ الوجداني Stimmung

الأنماط الأساسية لوجود الكائن الإنساني (الدازاين) هي:

ـ الوجدان أو التهيؤ الوجداني

ـ الفهم أو استيعاب السياق

ـ الكلام أو القدرة على الكلام والتعبير

ـ الوجدان والتهيؤ الوجداني Stimmung وهو انفتاح الكائن أو الموجود الإنساني على العالم وانقذافه فيه. والتهيؤ الوجداني مرتبط بالقلق الذي هو حالة وجدانية ملازمة ولصيقة بالكائن الإنساني (والذي يختلف عن مجرد الخوف) وهذه الحالة هي التي تضعنا في العالم وأمام العالم، وهي غير الاندهاش وغير الخوف.

ـ العصور الحديثة  Neuzeit:

العصور الحديثة في تاريخ الفلسفة هي الفترة الممتدة من ديكارت إلى نيتشه، ومن المنظور الهايدغري تشكيلة فكرية تاريخية تتميز بتصور خاص للكائن، وبتصور محدد للحقيقة.

يورد هايدغر العديد من السمات، من بين السمات الأساسية للعصور أو للأزمنة الحديثة:

1 – تشكل العلم

2– ظهور التقنية الممكننة من حيث إنّها هي التي تحدد العلم وتوجهه (العلم التقني technoscience).

3– تبلور التأويل الثقافي المستقل عن الدين لكل الأنشطة الإنسانية من حيث إنّها ناتجة عن هذه الفعالية ذاتها.

4– دخول الفن في أفق علم الجمال أي النظر إلى المنتوج الفني كموضوع للتجربة الإنسانية وللحياة الإنسانية.

5– تبلور الحقيقة كيقين للذات والفكر كمحدد لما هو حقيقي.

6– تنصيب الذات الإنسانية كحقيقة أولية تحدد الموضوع الذي أصبح مشروعا رياضيا.

7– الانفصال عن سلطة الكنيسة وحلول الوعي والعقل كأساس وتحول الغبطة الأبدية للغيب إلى سعادة دنيوية للجميع.

يتحدث هايدغر في درس له عن شلنج عما يسميه «ارتعاشات النهضة» حيث بدأت تعبر عن نفسها حركة استقلال الإنسان وتحرر قواه الخلاقة عبر المعرفة والفعل حيث بدأ تطور التجارة والاقتصاد، وظهور التقنية، وتحرر الفن عن طريق تمجيد العبقرية الفردية وأولوية الذوق، وابتكار الدولة الحديثة...

والوقت نفسه حدث تحول تدريجي في التجربة المسيحية الوسطوية حول يقينيّة الخلاص نحو إقامة يقين مؤسس ذاتيا، بموازاة مع تلازم المشروع الرياضي مع التحرر من سلطة الكنيسة..

يمكن أيضا أن نتصور مع هايدغر أن العصور الحديثة هي فترة ظهور تصورات شاملة للعالم (weltanschauungen) من حيث إنّها تصور الذات الإنسانية كذات مدرِكة والموضوع أو العالم كصورة مدرَكة أي كصورة قابلة لأن تُتَمَثَّلَ وتُستحضَر وتُموضَع ليكون مجموع الكائنات حاضرا أمام الذات الإنسانية. والأمر هنا لا يقف عند حد تكوين فكرة أو صورة عن العالم بل يذهب إلى حد اعتبار العالم مدركا من حيث إنّه هو ما يمكن أن نكوِّن عنه فكرة ومن حيث إنّ كينونة الكائن تؤول في النهاية إلى كونه قابلا للتمثل والاستحضار. وهذا التحول من الإدراك إلى التحكم هو ما عبرت عنه فلسفة نيتشه حيث أصبح معنى الكينونة هو القيمة التي تضعها وتفرضها إرادة القوة والقدرة.

الأساس الفكري أو الفلسفي لهذه التحولات الجذرية هو بلوغ الميتافيزيقا نضجها واكتمالها في فلسفة الوعي أو التمثل (أو الاستحضار) Ego Cogeto أي تأويلها من طرف نيتشه كإرادة قوة وقدرة للذات الإنسانية (Egovolo) التي تقد الواقع على مقاسها وتراكم القدرة والقوة.

في مستوى أول نجد أن فكر هايدغر هو محاولة للتفكير الشمولي في الماهية الفلسفية أو الميتافيزيقية للعصور الحديثة، ومن ثمة قوته الوصفية والتشخيصية لهذه العصور، لكن في مستوى ثان نجد أن فكر هايدغر هو محاولة ضخمة وقوية لتفكيك وتقويض الأسس والمرتكزات الفكرية للحداثة الغربية، ورسم لمعالم فكر ما بعد الحداثة الذي كان نيتشه بنقده لأسس الحداثة (العقل ـ التقدم ـ الديمقراطية ـ الدولة ـ العلم...) قد مهد له.

تتناثر في كتابات هايدغر تسميات أخرى للعصر الحديث تتراوح بين الوصف والنقد فهو عنده العصر التقني أو عصر هيمنة التقنية، والعصر الذري، «والعصر الصناعي» وعصر سيطرة الموضوعية، وعصر السيبرنتيقا، وعصر ديكتاتورية العمومية والغُفلية، وعصر غياب المعنى، وعصر بلا مسافة، وعصر تنميط الإنسان وتسطيحه وتوحيده، عصر أفول الآلهة وتنكرها، وعصر نهب الأرض وإعتام العالم، وعصر الانجثات deracinement والانقلاع، عصر الكليانية، عصر الترويح وتزجية الوقت عصر التعطش للأخبار وتسقط الوقائع والتهافت على الأحداث، وعصر التيه وعصر الحساب، وعصر المحنة والبلاء...

يعتبر هايدغر أن العصور الحديثة هي حقبة خسوف أو كسوف الكينونة حيث هوت إلى القاع، وهجرتنا واستترت عنا.

ـ الأليتيا  Alètheia:

تعني انكشاف، انفتاح حقيقة، واقع، عدم النسيان. وهي كلمة إغريقية تدل على كل من الحقيقة والواقع معا حقيقة-واقع.  يستعمل اللفظ حاليا استعمالات متعددة في الدين والفلسفة والأدب. ولقد استعمل هايدغر هذا المصطلح سنة 1930 للتعبير عن محاولة فهم الحقيقة بمعنى رفع الحجب، والكشف والانكشاف، والحقيقة

ـ الكينونة والوجود Being and Existence:

الكينونة أعم وأشمل من الوجود وذلك لأن الوجود يمكن أن يوجد أو هو موجود في حين أن الكينونة ـ في حد ذاتها ـ لا يمكن أن توجد أو أن تكون موجودة. بل إن الكينونة هي الوجود ذاته أو هي ـ على الأدق ـ ما يمنح الوجود (وبالتالي الموجود) إمكانية وجوده.

أقرب تشبيه للكينونة هو اعتبارها بمثابة الضوء أو النور ـ الذي (بغض النظر عن مصدره أو نقط مبعثه) ينير ويضيء الكائنات ويجعلها مرئية أو قابلة للرؤية لكنه لا يضيء ذاته.

الكينونة هي درجة أعلى من الوجود درجة تلقائية ـ انبثاقية ـ بدون لماذا وغير قابلة للإحالة إلى شيء آخر، إنها هبة.

ـ الزمن Time:

يميز هايدغر بين تصورين للزمن: التصور العادي الجاري والتصور «الأصلي» أو الأصيل.

الزمن العادي هو الزمن من حيث هو تلاحق مستمر لسلسلة من الآنات التي تتكرر إلى ما لانهاية.

الأساس الفلسفي لهذا التصور هو فيزياء أرسطو حيث يتصور هذا الأخير أن الزمن هو «مقياس» الحركة التي هي تلاحق لحظات حاضرة، وهو التصور الذي ساد تاريخ الميتافيزيقا.

أما الزمن «الأصيل» فهو يتعارض مع التصور السابق من حيث إنّه يتعلق بتناهي الدازاين، ومن ثمة فهو ليس قائما على تلاحق مستمر ولانهائي لآنات الحاضر، بل هو تعبير عن لهاث مستمر نحو الآتي أو المستقبل أي نحو انشداد الدازاين إلى مستقبله الذي يتمثل في منذوريته للموت أو مائتيته.

يعتبر هايدغر الزمن العادي زمنا مشتقا لأن الدازاين من أجل أن ينفلت من تناهيه الذي يداهمه باستمرار يتجه إلى التشبث بزمن مقطع، مموضع يتكرر ويتدوّم باستمرار ويفلت من وحدته، وكأنه يود أن يتحكم في الزمن ويتصرف فيه ويحوسبه، في حين أن الزمن في العمق يفلت من أيّ عملية قولبة وحوسبة وتحكم.

انطلاقا من ذلك يميز هايدغر بين زمنية الدازاين وزمنية الكينونة (Zeitlichkeit - Temporalitنt) محاولا فتح طريق للانتقال من زمنية الدازاين إلى زمانية الكينونة خاصة وأن الكينونة لا تمنح ولا تهب ذاتها إلا عبر فهم الدازاين وزمنيته أي أن الكينونة لا يمكن فهمها واستحداسها إلا انطلاقا من الزمن وذاك هو الطريق الذي دشنه كانط بمحاولته الاقتراب من هذه العلاقة بين الكينونة والزمن، وإن لم يتأت له أن يسير بعيدا في هذا الاتجاه لأنه كان ضحية الأنطولوجيا الكلاسيكية حول الذات المتوارثة عن ديكارت وهو المسار الذي سينبري له هايدغر محاولا فحص العلاقة بين الكينونة والزمن انطلاقا من أنطولوجيا الدازاين، وهو ما تطلب منه العودة إلى التجارب الأصيلة في الأنطولوجيا الإغريقية مبينا أنها تقوم على تأويل غير متطابق أو غير دقيق ووحيد الجانب للكينونة منظورا إليها كحضور دائم محدد للجوهر أو للمادة الجوهرية (ousia)، وذلك في إطار التخفيف من ضغط وقوة الحاضر في هذا التصور ومن أجل فهم الزمن لا انطلاقا من الحاضر بل انطلاقا من المستقبل ومن الزمنية المتناهية للدازاين.

الزمن الذي يتحدث عنه هايدغر ليس الزمن الجاري زمن الوقائع والأحداث أو الزمن الواقعي، بل هو زمن أعمق زمن الوجود أو الكينونة.

نحن نفهم الزمن الواقعي فهما تقطيعيا على أنه تتالي وتلاحق آنات ولحظات وكأننا أمام أو بمواجهة موضوعات خارجية نتعامل معها ونستقبلها كما لو كانت أحداثا خارجية في غير علاقة مع الزمنية العميقة.

أما الزمن الذي يتقصد هايدغر الحديث عنه فهو زمن أعمق، هو زمن الوجود أي المرتبط بالموقف الأساس من الوجود وهو موقف الانهمام. وهذا الزمن ليس تلاحقا وتتاليا لآنات بل تداخل وتوتر داخلي ثلاثي الأبعاد.

الماسيأتي: في هذه الحالة يكون الوجود الإنساني العميق (الدازاين) في حالة توتر وانشداد قلق نحو المستقبل أو الماسيأتي أو الماسيقدم أو الماسيحدث كإمكان وارد.

الماكان: وهو يحيل على ما كانه الوجود الفردي للإنسان، أي إلى عالمه أو ما يدعوه الإدراك العامي بالماضي. والانشداد والانسقاط إلى المستقبل والآتي لا ينفك عن هذا الانشراط بالماكان أو بالشرط التاريخي.

الماهوقائم أو الحاضر: وهي تلك اللحظة المتوترة والدينامية المتداخلة بين الماسيأتي والماكان والتي ترى الذات الإنسانية فيها نفسها أو صورة عن نفسها.

ـ الكينونة Etre Sein being:

 الكينونة هي أعم المفاهيم إطلاقا لأنها تشمل وتطول كل الموجودات، وهي بالتالي أكثر السمات اشتراكا بين كل الكائنات والأشياء فهي نوع الأنواع وخصوصية الخصوصيات لأنها تلازم كل فرد أو حالة خاصة.

فالكينونة من ثمة من حيث اشتراكها وشيوعها اللانهائي هي أكثر الأشياء إفلاتا من التحدد والضبط والتعريف (indefinissable) مثلما أنها لا تُقال l’indiable أو المالا أعرف وبالتالي فهي إذن كانت هي أصل الأصول «ومصدر» الأشياء إلا أنها أقرب ما تكون إلى اللغز أو السر (mystère وEnigme) فهي بمثابة شمس لامرئية أو مصدر مجهول للضوء يلقي بأشعته على الكائنات والأشياء فينيرها ويهبها حظ الوجود لكنه هو نفسه مجهول ولامرئي أو لا يكاد يرى إلا عبر تشخصاته وتجسداته فهو «يلمع بغيابه» وهو الغائب الأكبر والحاضر الأمثل.

وهي في الغالب ما لا يمكن التفكير فيه أو ما لا يقبل أن يكون محط تفكير (Impensable) كما لا يمكن حسابه Incalculable وكأنه بديهية البديهيات أو سراب لا يمكن الإمساك به عينيا أو الإحاطة به (l’incoutournable) وما لا يمكن حسابه لأنها أقرب إلى اللاشيء منها إلى الشيء. قد تتجلى الكينونة في اللغة أو في تجربة القول باعتبار أن اللغة هي مسكن أو بيت الكينونة، أو قد تهب نفسها وتتجلى أو تبدو هناك أي في الدازاين باعتباره الكائن الوحيد القادر على مساءلة كينونته وكينونة الأشياء.

وهي كذلك حـ  ـ د ـ ث أكثر مما هي شيء وقد تمركز فكر هايدغر في فترته الثانية على ما يسميه الإيرايغنيس EREIGNIS أي الحدث الأجلّ أو الحدث الجليل أو الحدث الأكبر الذي هو أقرب ما يكون من الكينونة أو هو الكينونة ذاتها.

تتجلى الكينونة عبر الظهور والاختفاء عبر تاريخ الفلسفة فتحدد عصور هذا التاريخ ابتداء من الجوهر القائم إلى الحضور الدائم إلى الفكرة/الصورة (أفلاطون) إلى الفعل (أرسطو) إلى الكوجيتو والذاتية عند ديكارت أو الفكر المطلق عند هيجل أو إرادة القدرة عند نيتشه أو إرادة الإرادة عند هايدغر. إنها عند اليونان تعني البدوّ والظهور وفي العصر الوسيط تعني الخلق وفي العصر الحديث تعني الموضوعية بمقابل الذاتية.

ومع ذلك لا يفهم من هذا الانعطاء أنها «السبب» أو «الفاعل» أو «الصانع» أو الخالق، فهي ليست من الله في شيء ولا هي أساس العالم وسنده بل هي أقرب إلى العدم والموت والتناهي منها إلى الوجود والحياة والعيش.

ـ التقنية:

كميتافيزيقا لأنها تتضمن نظرة معينة للكائن وللكينونة وللحقيقة، فالتقنية تتعامل مع الكائن بدلالة فائديته ونفعيته وقابليته للاستخدام ومردوديته فما ليس مفيدا من الزاوية التقنية وكأنه غير موجود أو ليس له سبب وجود.

هذه العلاقة التقنية النفعية تطول كل المجالات بما في ذلك مجال المقدس فحتى علاقة الإنسان بالله اليوم هي علاقة تقنية: فالله هو مصدر لكل ما يمكن أن يشبع بعض الحاجات مانحا الطمأنينة للإنسان وضامنا له الاستمرار مستقبلا.

يميز هايدغر بين التقنية وماهية التقنية، بين الأدوات التقنية وإطارها الفلسفي والميتافيزيقي. ويؤكد أن نقده لا ينصب على التقنية بل على علاقتنا بها وعلى ميتافيزيقاها.

كانت الأشياء والأدوات في العالم القديم تظهر وتقدم مكنوناتها ضمنيا وتلقائيا لكن الإنسان الحديث وقد أصبح ذاتا عقلانية أخضع الأشياء لنوع من العنف وحاول السيطرة عليها والتحكم فيها عبر تحريض الطبيعة وتسخيرها والكشف عن أسرارها وعن حقائقها عبر عملية تحريض وعقلنة ممنهجة Arraisonnement.

هكذا تتجلى التقنية على هيئة نظام تقني وصناعي كلي Gestell مهيمن، وذلك بواسطة العلم الذي أصبح هو نفسه تقنيا.

لا يتعلق الأمر إذن عند هايدغر بإدانة التقنية بل بالتفكير في أساسها الفلسفي الذي هو ذلك القدر التاريخي الأنطولوجي الذي يتحكم في الكينونة ويوجهها نحو الاهتمام بالكائن ونسيان الكينونة. ومن ثمة يجب أن نوفق بين قول لا وقول نعم للتقنية وبأن نظل في العالم التقني، لكن بعيدا عن مخاطره. للتفكير بعمق في التقنية يجب العودة إلى الأسس الميتافيزيقية المشكّلة للعصر الحديث فالتقنية اكتمال وإنجاز وتحقيق للميتافيزيقا، لكنّ لهذه الأسس جذورا عميقة تضرب في العصر اليوناني أي في تصوره للطبيعة وللكائن وللحقيقة فهو يربط محرك الديازيل بتصور الفلاسفة لمفهوم الطبيعة والكائن كما يربط الدراجة النارية والطائرة والأسطوانات الدائرية والطاقة النووية بمفهوم اللوغوس، كما يربط المحرك الآلي بفكرة العود الأبدي عند نيتشه، أو الطاقة النووية بنداء العقلنة لدى ليبنتز، ونشأة السيبرنيطيقا بمبدإ هيراقليط في التحكم، أو بنصوص هيغل. وكأن التقنية في عمقها أنطولوجية أو هي نتيجة لها.

انظر: محمد الشيخ: فلسفة هايدغر فصل مدخل إلى نقد هايدغر للحداثة، الأطروحة 1246-138.

ـ كينونة الذات والكينونة عامة:

ما هي العلاقة بين كينونة الذات أو الدازاين والتي تتميز بالهم والقلق، والكينونة عامة كما تناولها التقليد الفلسفي؟

العلاقة بين هذين النمطين من الكينونة، حسب هايدغر هي أن كل فهم للكينونة عامة يبدو أنه مملى أو مستوحى من الهم والقلق الملازم للكينونة الزمنية للذات (بمعنى الدازاين). وذاك من خلال الميل إلى تصور الكينونة الحقيقية تصورا لازمنيا، أي كحضور دائم أو كدوام حضور أو كدوام في الحضور، كما تصوره تاريخ الفلسفة أو تاريخ الأنطولوجيا منذ الكينونة دائمة الحضور عند يارمنيدس والفكرة/المثال عند أفلاطون والمكون الجوهري عند أرسطو (substance) وكينونة الله دائمة الحضور عند فلسفات العصور الوسطى إلى الكوجيتو كأساس في الفلسفة الحديثة.

ويرجح هايدغر أن هذا الامتياز والتميز الذي تحظى به فكرة الدوام (la permanence) في فهم وتصور للكينونة يقوم على أساس إنكار زمنية الذات (الدازاين).

فإعادة طرح مسألة الكينونة -كما نادى بذلك هايدغر في «الكينونة والزمن» تعني تسليط الضوء على هذه العلاقة المنسية بين الكينونة والزمنية، وتعميق التفكير فيها، والتفكير في الكينونة في منظور الزمن أو في أفق زمني.

إلا أن الزمن الذي يتحدث عنه هايدغر ليس الزمن الفيزيائي، زمن الساعات والقياسات الزمنية بل هو زمن الكينونة أي زمن الجريان والحدوث والحصول والانبجاس والانبثاق الحر.

فالكينونة في منظور هايدغر هي ذلك الانبثاق الحر والازدهار التلقائي (التفتق التلقائي للزهرة) الذي هو التجربة الأساسية أو أعجوبة الأعاجيب التي تحصل تلقائيا بعيدا عن أي تدخل إرادي أو أعجوبة الأعاجيب التي تحصل تلقائيا وبانعطاء تلقائي حر بعيدا عن أي تدخل إرادي وبدون تحكم وبدون لماذا. بدون فاعل، وبدون حساب كما هو الأمر في التصور التقني.

أما في عالم خاضع لتحكم وسيطرة وإرادة الإنسان فإن الإلهي يفقد ضرورته والحاجة إليه ويصبح ظهوره مجرد تلبية لحاجات الإنسان، أي من أجل تأمينه والتهوين عليه وتقديم تفسيرات تشفي غليله أو بعبارة أخرى أنه في عالم خاضع كليا للإنسان لن تعود هناك حاجة إلى الإلهي وسيختزل هذا الأخير إلى مجرد كونه استجابة لمتطلبات الإنسان أو مجرد أمثولة أو أصنوفة مصنوعة من طرف الإنسان وبالتالي تفقد صفتها الإلاهية الحق.

وهكذا في الوقت الذي يتحدث فيه ماكس فيبر عن تحرر الإنسان وعن نزع الورود المجملة للعالم فإن هايدغر يتحدث عن اختفاء الطابع الإلهي Entgِtterung وعن الترك والإهمال اللاهوتي للعالم (Gottesver lassenheit) بمعنى ترك الإنسان عبدا لأصنامه التكنولوجية.

ـ «الشيوعية»

يستعمل هايدغر مصطلح شيوعية دوما بين مزدوجتين للتأكيد على المعنى الخاص الذي يعطيه لهذا المصطلح. فهو لا يستعمله بالمعنى السياسي المتداول بل بمعنى فلسفي خاص. فهو يشير إلى مدلوله الميتافيزيقي في سياق العصور الحديثة المتمثل في السيطرة الكاملة والشاملة على الكائن في إطار روح التقنية الحديثة التي تعكس ذروة سيطرة الإرادة والعقل والذات الإنسانية.

الشيوعية بهذا المعنى لا تعني نظاما سياسيا مخصوصا أو رؤية للعالم ذات سمات خاصة بل تعني التشكيلة الميتافيزيقية المعبرة عن ذروة العدمية وافتقاد المعنى واضمحلال المقدس الإلهي وذروة التسخير Machenschott، وهي المعاني الميتافيزيقية المرتبطة بالإيديولوجيات الكليانية سواء في وجهها الليبرالي الفردي أو في صورتها الجموعية والاشتراكية والشيوعية. الشيوعية بهذا المعنى والفردانية الليبرالية تشتركان في الجذر الميتافيزيقي نفسِه المؤسس للعصور الحديثة.

ـ نسيان الكينونة Forgetting:

ليست الكينونة شيئاً عينياً محدداً، ليست كائنا في حين أنها قائمة وراء أي كائن كما أنها تشكل حضوره. وهي أشبه ما تكون بمفهوم الفيزيس physis الإغريقي الذي ينبثق تلقائيا، كما أنها متماهية مع الزمن الذي يترك (بابتعاده وانفصاله وامتسافه) للكينونة فرصة حصولها مثلما ما هي.

لكن تاريخ الفلسفة شهد تحولا أساسيا في تطور مدلول الكينونة مع أفلاطون الذي دشن سيرورة طويلة الأمد من الاهتمام بالكائن على حساب الكينونة، لدرجة تسمح بالقول بأن تاريخ الميتافيزيقا هو تاريخ نسيان الكينونة.

بل إن تحليل الكائنات الحاضرة التبس مع تحليل الحضور ذاته كحدث وتم البحث عن كائن أعلى وأسمى هو أصل كل الكائنات والذي منه تستمد وجودها. فالميتافيزيقا تخلت باكرا عن حدوث الحضور لتكتفي بانبثاق الحضور وبانبثاق حضور الكينونة لتركز اهتمامها على الكائن الحاضر.

نسيان الكينونة لا يرجع إلى إهمال قصدي من طرف الإنسان أو الفكر الإنساني بل يرجع إلى بنية الفكر الإنساني ذاته: فهذا الفكر عندما يدرك كائنا ما ويحدده أو يعرّفه فهو في نفسه الوقت وفي العملية نفسها يخفى ويقنِّع الكينونة وهو يحاول تملّك الكائن متغاضيا عن الفرق الواضح بين الكائن والكينونة لأن هذه ليست ذاك كما أن الحي ليس هو الحياة والإنسان ليس هو الإنسانية، والشيء ليس هو الشيئية.

بل إن الميتافيزيقا لا تقف في هذه العملية عند حد التغاضي وإهمال الفرق، بل تذهب إلى أبعد من ذلك حيث تعوق الكينونة وتـحرمها من أن تكون لأنها تقنّعها بقناع الكائن كما تتصوره.

يمكن ـ من زاوية أخرى ـ ملاحظة أن الفلاسفة قد نظروا للكينونة كماهية أو كعمومية منطقية، وليس كحدث كـ «هناك» أو يوجد (il y a) وهذا هو الوجه الآخر لقول هايدغر بأن ما يسم الميتافيزيقا هو نسيان الكينونة.

يميز هايدغر في مسألة نسيان الكينونة بين بعدين أو وجهين مترابطين هما:

نسيان الكينونة عامة ويتعلق الأمر بنسيان التحديد الزمني للكينونة، أي اعتبار الحضور الدائم كسمة أساسية للوهم الميتافيزيقي، ويتعلق الأمر هنا بإطلاقية الكينونة إذن التي تستبعد كل قراءة للكينونة انطلاقا من وقائعية الدازاين مما يعني أن الإطلاقية الميتافيزيقية تتولد عن النمط غير الأصيل أو غير الصادق للدازاين.

 الوجه الثاني لنسيان الكينونة عامة يصاحبه كنتيجة لنسيان كينونة الدازاين أي نسيان الزمنية المتناهية للدازاين وهو النسيان الذي يتموضع في فهم أو تصور الإنسان ككائن عاقل.

وستقدم الأنطولوجيا الأساسية أو أنطولوجيا الدازاين المقولات الملائمة الخاصة بالكينونة المتناهية أي «المحددات الوجودية الأساسية» والتي هي الكفيلة برفع نسيان كينونة الدازاين وتحقيق وجود صادق حقيقي. غير أن هايدغر بعد الانعطاف سيتجه تدريجيا إلى القول بأن الكينونة لن تعود متعلقة بمشروع الدازاين أو بالدازاين كمشروع بل ستصبح متعلقة بالصيرورة الضمنية للكينونة. وفي هذه الحالة لن يصبح نسيان الكينونة أمرا يتعلق بالدازاين، ومن ثمة مسؤوليته في تصحيحها، بل ستصبح مسؤوليته هي تأمل هذا النسيان باعتباره استجابة لصيرورة أو لقدر أو لتاريخ الكينونة ذاتها.

غير أن مفهوم نسيان الكينونة قد تجلى لدى هايدغر بصورة أخرى أقرب ما تكون إلى الاستلاب (Entfremdung) أو العناء (Detresse) أو نزع الطابع الإلاهي Entgoterung أو العدمية (Nihilisme). فالفترة الحديثة هي فترة العدمية حيث لم تعد الكينونة هي همنا الكبير بل المهم هو موقع الإنسان في الكون وقدرته على التحكم في الكائن. والحال أن نسيان الكينونة والعدمية سمتان للميتافيزيقا التي تطورت وحسمت أمرها منذ أفلاطون الذي أراد أن يرى في الفكرة مبدأ حقيقة الكائن.

نعم لقد تفاقم نسيان الكينونة في العصر الحديث لأن الإنسان رفع مكانته إلى درجة كونه «ذاتا فاعلة» (sujet) مع ومنذ ديكارت بعد أن كان هذا الأساس هو الفكرة مع أفلاطون وهو الله في ـ الفكر الوسيط. وبذلك أصبح الإنسان الحديث هو السلطة التي تقرر كينونة الكائن، واختزل العالم إلى مجرد صورة مُدرَكة بالنسبة للذات.

في العصور الحديثة يحصل تقاطع قوي بين نسيان الكينونة وتضاؤل الحس الإلهي (dedivinisation). وهذا الأخير لا يعني أبدا الإلحاد أو إنكار الاعتقاد في الله بل يعني العكس تماما وهو أن كون الناس وهم يعيشون في هذه العصور نوعا من غياب الآلهة هو ما يجعلهم يندفعون بقدر أكبر من التخيل والتحمس، نحو الإله أو نحو بدائله (الإيديولوجيات) لأن مثل هذا الميل الاعتقادي هو ما يجعل نفوسهم أكثر اطمئنانا. فالآلهة التي يعدها الإنسان ستكون وفيرة من أجل إشباع الحاجة إلى الطمأنينة الروحية (أو الأمن الروحي كما يقال اليوم) لذاتية الأفراد، في هذا العصر تهيمن القابلية للاستعمال والتشغيل الوظيفي لكل كائن بما في ذلك العلاقة مع ما هو إلهي أو مقدس، وهو ما يتسبب في فرار الآلهة.

وفي هذا العصر تبلغ العدمية ونسيان الكينونة ذروتهما لأن المعيار الوحيد سيكون هو التحكم المجنون من طرف الإنسان حيث تمور الكينونة في غياهب النسيان. وبذلك يغيب المعنى عن الإنسان ويستصعب إدراك ما هو إلهي وبذلك يلتقي نسيان الكينونة مع الحياد تجاه ما هو لاهوتي (A-theisme) وتكتسب الميتافيزيقا نفسها هذه السمة. غير أن هايدغر لا يطابق بين الكينونة والألوهية بل يرى أن تجربة الإلهي ليست ممكنة إلا على أرضية الكينونة التي هي أرضية ضرورية لإنقاذ الإنسان من الانغراق في السيطرة المجنونة على الكائن.

[1]*ـ مفكّر وأكاديمي ـ المملكة المغربية.