البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الإيديولوجيا - الكلمة، الفكرة، الشيء

الباحث :  بيار ماشريه Pierre Macherey
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 6 / 2017
عدد زيارات البحث :  1640
تحميل  ( 308.160 KB )
يناقش المقال الظروفَ التي مرّت فيها لفظة « الإيديولوجيا » بين عام 1796، التاريخ الذي ابتكرها فيه ديستودي تراسي، وعام 1845، التاريخ الذي استُخدمت فيه من جديد مع مؤلفات كارل ماركس. ويبين الكاتب ما طرأ على مفهوم الإيديولوجيا من تطورات حتى دخلت عالم السياسة حيث انتقلت من قيمة إيجابيّة (كعلمٍ عامّ للأفكار) إلى قيمة ذات مضمون سلبيّ (كنظام اجتماعيّ لمعتقدات صارمة ووعي زائف كما جرى ذلك مع الأدبيات الماركسية.
الكلمات المفاتيح: المعتقدات، الإيديولوجيا، التمثيلات الجماعيّة.
المحرر
------------------------------------------

الهدف من هذا العمل هو وضع أول نقطة على مفهوم الإيديولوجيا، التي لها وقع سيئ جدّاً اليوم، لمصلحة الحجج التي ليست جميعها من طبيعة واحدة، ولكنّها في نهاية المطاف تلتقي جميعها في موضوعيّةِ ما تتوافق مع الصيغة التي تقدّمَ بها دانيال بيل. لقد أُطلقت تسمية «نهاية الإيديولوجيات»، على ما أثير حول اضمحلال «الشيء» الإيديولوجيّ وانخفاض قيمة الفكرة التي طُبِّقت عليه والتي يُتنازع على شرعيّتها. في الواقع يمكن القبول وبسبب الظروف التي تكوّنت خلالها، بأنّ الإيديولوجيا » ليست مفهوماً جيّداً جدّاً، وأنّ استخدامها يجب أن يخضع لنقاش دقيق وكثيف، كما هي الحال مع كلّ المفاهيم. إلى جانب ذلك، ينطرح السؤال: هل هناك مفاهيم تكون «كلّها جيّدة» ولا تتضمّن أي خطر ينبغي الحذر من الانجراف نحوه؟
يمكن لنا أن نتوقّع ذلك بشكل معقول. ولهذا السبب يجب أن نصمّم على استخدام المفاهيم التي وفقاً لها نحافظ بشكل دائم على شيءٍ من الحذر الذي يجنّبنا إغراءات تطبيقها آليّاً في جميع الحالات، بحيث تبدو كما لو أنّها تقدّم حلولاً متكاملة. في حين أنّ دورَ المفاهيم في عمل الفكر هو في الواقع شيء آخر: هو ليس لضمان الحلول الدائمة، ولكن لضمان إمكانية إظهار قضايا جديدة، وبالتالي صياغة إشكاليّات الحقائق التي ترتبط بها، من خلال الإضاءة عليها بشكل غير مباشر وغير منحاز، ما يدفع بشكل أفضل إلى إدراك في أيّ اتجاه تنحرف المضامين التي يُحال إليها، من أجل تصحيح التصويب، كلُّ ما يبدو ضروريّاً لكلّ الصدمات، أو تقريباً. فما هي المشاكل التي يثيرها استخدام مفهوم الإيديولوجيا ؟ عن أيّ صعوبات حقيقية عبّرت هذه المشاكل؟ هذه هي الأسئلة التي نود أن نحمل لها بداية إجابات.
للقيام بذلك، من الأفضل أن نأخذ فكرة الإيديولوجيا من مصدرها، من أجل تحديدٍ أفضلَ للمجال الذي باشرتْ داخلَه العمل. بالطبع ليس في فضاء الأفكار المحضة، حيث يُفترض أنّ هذه الأفكار مُكوَّنة من قبل، ولكن في وضعٍ ظهر استجابةً لبعض متطلّبات وضرورات حقبة معيّنة، وبالتالي في علاقة مع رهانات تاريخيّة محدّدة بدقّة، حيث استطاعت في ما بعد تطويرها ما دفع نقطة تطبيقها إلى التحرّك. وفي النتيجة، فقد فرضت إعادة صياغة الافتراضات على أسس جديدة. إن تحديد مفهوم الإيديولوجيا في تاريخها، هو الاعتراف بأنّ معناها قد تطوّر، وتحوّل في إطار التكيّف مع طرائق جديدة لمعالجة الواقع الاجتماعيّ من أجل الوقوف على جوانب منه بقيت غير مكتشفة سابقاً. من دون ذلك، لا يمكن أن تُحدَّد. إذ إنّ المسألة ليست أن نولي مفهوم الإيديولوجيا ثقةً عمياء، ولا إدانته بشكل كامل وغير قابل للاستئناف، ولكن لدراسة الظروف التي تمكّنت في ظلّها، في جوانب معينة من الحياة الجماعيّة، من اتخاذ أشكال «الوعي» الذي يتوافق معها والذي ساهمت في جعله معروفاً، بشكل جزئيّ على الأقلّ.
في بداية هذه القصّة، نجد شيئاً يمكن الاعتماد عليه كأساسٍ من دون مجازفة: كلمة أو مفردة «الإيديولوجيا »، هي ذات أصل متأخّر أكثر ممّا توحي به الأصداء اليونانيّة التي تتناول العصور القديمة. من النادر التمكّن من تعيين تاريخ محدّد لولادةِ كلمةٍ قلّلَ الاستخدامُ الشائع لها من شأنها. ومع ذلك، فإنّ مفردة «إيديولوجيا»، الكلمة المستحدثة، نطق بها للمرّة الأولى علناً، بشكل محدّد في 20 حزيران/يونيو، ديستودي تراسي، الأرستقراطيّ المنتسب إلى مثاليّي الثورة ونجا على مدى عامَين سابقين من مجازر الرعب، أمامَ صفِّ العلوم الأخلاقيّة والسياسيّة في المعهد الوطنيّ الذي كان عضواً مشاركاً فيه، في الجزء الثاني من بحثه «مذكّرة حول القدرة على التفكير» التي يعود تاريخ إصدارها الأوّل إلى عام 1798: كان المقصود من هذا المصطلح تسمية «علم الأفكار» الذي اقترحه فلاسفة المجتمع الجديد، ليحلّ محلّ الميتافيزيقيا القديمة المـُدانة بسبب الـ «المـُطلقيّة» المنسوبة إليها. وبالتالي فقد كان لهذا الابتكار اللفظيّ سياقٌ ترميدورينيّ [الترميدورينيّة: انقلاب ضمن الثورة الفرنسية ضدّ قادة نادي اليعاقبة ...الذي أنهى المرحلة الأكثر تطرّفاً في تاريخ الثورة الفرنسيّة] من الثورة الفرنسيّة، الحقبة المهمّة التي ثُبّت فيها وانعكس تنظيمُ ما سُمِّيَ في ما بعد «المجتمع البورجوازيّ». وبالتالي لمّا وُضع بشكل خاصّ، ولأوّل مرّة في فرنسا، نظام التعليم العام مع المدارس المركزيّة في الجمهوريّة، تحت سلطة الدولة. هذا الأمر يُشكِّل الجانب الأساسيّ، لا بل حجر الزاوية في هذا التنظيم، حيث الجانب الآخر هو تحمّل مسؤوليّة الصحّة العامّة، الـ biopouvoir biopower أي الطاقة الحيويّة. وهي العلاقة بين السلطة والحياة قبل الأدب الذي تولّاه تحديداً العضو الآخر المهمّ في الحركة «الإيديولوجيّة»، الطبيب كاباني. ومن الجدير بالذكر أنّ فكرة الإيديولوجيا التي يمكن التقدير بأنّه كان من المستحيل تصوّرها، في ظلّ النظام القديم ـ جرى ربطها مباشرة وتكييفها في مؤسّسةِ صهرِ النظام السياسيّ والاجتماعيّ في فرنسا. فقد ساهمت من خلال منحى التعليم، بحصّة من الأداة، ما ساعد على الانخراط في الواقع التاريخيّ الذي يفيض على الإطار الزمني المـُعطى للحركة الواحدة للأفكار والكلمات المستخدمة للتعبير عنها. في 20 حزيران/يونيو1796، عندما جرى التداول لأوّل مرّة بكلمة «إيديولوجيا» من قِبل أولئك الذين سَمُّوا أنفسَهم رسميّاً «الإيديولوجيّين»، تزامن ذلك مع انطلاق ما يمكن تسميته الحقبة أو العصر الإيديولوجيّ، حيث كان يحقُّ للإيديولوجيّا، بالمعنى الأقوى للكلمة، العناية بالمواطنة من خلال إنتاج تأثيرات ذات معانٍ ملازمة مباشرةً لبلورة نظام جديد للمجتمع، حيث احتلّ الشيءُ الإيديولوجيُّ في الوقت نفسه مع الكلمة والفكرة مكانتَه: يمكن القول بطريقة أو بأخرى بأنّ المجتمع البرجوازيّ لكونه انطلق من الثورة الفرنسيّة يسير بالإيديولوجيّة كما تسير السيارات بالبنزين. هذا الأمر يطرح دفعةً واحدة السؤالَ ـ الذي سنتركه جانباً مؤقّتاً ـ لمعرفة ما الذي كان يحتلّ مكانَ الإيديولوجيّا، قبل أن يقوم هذا النوع من المجتمع، أو بالحريّ ما الذي كان يحتلّ الحيّزَ الذي وُلدت فيه الإيديولوجيّا بالمعنى المزدوج للكلمة وللشيء: ليس من العبث أن نفترض إمكانية أن لا تكون هناك أي إيديولوجيّا غير «البرجوازيّة»، على الأقلّ، بالمعنى الذي لا يمكنها فيه أن تظهر وتتميّز كما حصل في الوقت الذي بدأت فيه البرجوازيةُ تحتلّ مركزاً مهيمناً في الدولة والمجتمع.
الإيديولوجيّة في شكلها «العلميّ» الأوّليّ هي جزء لا يتجزّأ من الجهد لتنفيذ توليفة ملموسة بين الفلسفة والتربية على الأسس التي أقامها اجتماعُ قواعدِ اللغة والمنطق من خلال قونَنة تدريب الفكر، وتوفير الشرط لإتاحة المكان للمقدرة الفكريّة والإيديولوجيّة بالمعنى قد أصبح عليه حديثاً، ما دام الفكر العلميّ أدرج في بوتقة العمل الحقيقيّ للمجتمع المتصل بتمثيل مؤسّسة مُعلِّمة، يكون من مهامها الأساسيّة تطوير ونشر «الأفكار»، الأفكار الصحيحة اجتماعيّاً وفلسفيّاً، فقد توقّفت «الإيديولوجيّة»، بمعنى العلم الجديد للأفكار ـ التي كان مطلوباً منها التصدّي للفلسفة القديمة- عن تقديم اللوحة الكبيرة. يمكننا القول أمام وجهة النظر هذه إنّ الإيديولوجيّة ظهرت، أو على الأقلّ بدأت تصبح هدفاً بمجرّد تسميتها، في الوقت الذي وُضعت فيه المدرسة العامّة تحت الإشراف المباشر للمجتمع وأجهزته، وقد حلّت محل الكنيسة من أجل أن تضمن ـ عن طريق مدرّبين متخصّصين لهذا الغرض ـ إدارة العقول. وهكذا لم يكن «المنظّرون» مجرّد ممارسين للالتزام العلميّ بحصولهم على مكان في كيان المعارف المكوَّنة، إلى جانب غيرها من أشكال المعرفة حيث كان عليها أن تتشارك فيه معها في التشدّد والموضوعيّة؛ ولكن كأعضاء في مدرسة فكريّة ومجموعة «مثقّفة» مشاركة، شُكِّلت كي تدمجَ في تنظيم المجتمع منهجاً خاصّاً، هو منهج العلم الذي نُسب إليه طابعٌ جمهوريّ حقيقيّ، كانوا فعلاً ـ أصحاباً بوصفهم نوع من العقيدة الجماعيّة التي حرّكت تحيّزهم ـ إيديولوجيّين. بمعنى أنّ هذه الكلمة ستأخذ في ما بعد سياقاً آخر ـ بعد أن يصبح المذهب العقائدي، في الوقت في شكله الخاصّ الذي منحه إيّاه ديستوت دي تراسي وزملاؤه ـ باليّاً ومصيره إلى النسيان. هذا يشير إلى أنّ الإيديولوجيّا بمعناها الأوّل أي «علم الأفكار» قد أدّت وظيفتها «الإيديولوجيّة» على أكمل وجه، لدرجة أنّها كانت في ما هو أبعد من متناولِها المعرفيّ الدقيق، يُتوقع لها أن تصبح، بما تمثّله من علم الثورة، وسيلةً لترسيخ المجتمع بأكمله. لقد ابتكر المنظّرون، في الوقت نفسه «علماً» لم يُنَجِّهم والسبب أنه لم يكن منطقيّاً تماماً بحيث يضمّ تصوّراً مسبقاً لخطواتِ ما يُسمّى اليوم «الفلسفة التحليليّة». بإزاء ذلك عمدوا إلى وضع طريقةً للتعبير عن لعبة الأفكار لعمل المجتمع عن طريق إعارة هذه اللعبة تنظيماً متجانساً ينسّق فيها النتائج ويتجنّب سلفاً أيّ احتمال لنشوب صراع أو تناقض. هذا في الواقع جوهر أيّ إيديولوجيا، أن تتعرّفَ نفسَها وتجعل نفسَها مقبولة كإيديولوجيا عالميّة وضروريّة، وبالتالي أن تستبعد أيّ بديل بالمستوى الذي تقدّمه هي، والذي تنسب إليه صفةً ضامّة لا تترك مجالاً لأيّ اعتراض.
تحت اسم الإيديولوجيا، ومن خلال خلقِ علمٍ جديد، علم الأفكار، الذي انكشف له دورٌ كي يحتلّ الحيّز الذي كانت تحتلّه الفلسفة. كان الإيديولوجيّون يفكّرون بأن يفتحوا لها مجالَ التحرّي الذي لا ينتهي، والذي يُضفي على مؤسّستهم، ميزة دائمة تحت الاسم الذي سجّلها فيه. فالإيديولوجيا بالشكل الأوّليّ، سرعان ما أخذت معنًى وقيمةً مختلفة جدّاً عن تلك التي حدّدوها لها: سرعان ما توقّفت كلمة الإيديولوجيا عن كونها الاسم الخاص لنهج علميّ متقدّم يدعو إلى الموضوعيّة والدقّة. وانطلاقاً من ذلك الوقت تحديداً، الذي جرى فيه الاعتراض على قدرة هذا النهج في الوصول إلى الحقيقة التي اقتحمت اللغة المشتركة بدأت توجد فيها بالشكل الجديد للإيديلوجيا من دون الإيديولوجيا التي حوّلتها إلى كلمة شعبويّة، بقيت الكلمةُ في غياب الشيء الذي كانت تشير إليه سابقاً. لقد نتج تحوّل معنى كلمة الإيديولوجيا من طرح قيمة المعرفة المعترف بها أساساً للإيديولوجيا، فهو طرح كان في البداية أقلَّ علميّةً منه سياسيّاً، وهذا ما كان يسمح لها بأن تلعب دورين في الوقت نفسه، وهي تقدّم نفسها كمعرفة ثوريّة، مفيدة للعامّة، وهدفها خدمة إعادة تنظيم المجتمع، وبالتالي مكرَّسة للاقتران بالمصادفات وتلقّي الصدمة المضادّة للنزاعات.
هذا التحوّل تزامنَ مع اللحظة التي ترك فيه الشكل الجمهوريّ المفتوح نسبيّاً (بعد الثورة الفرنسيّة)، وترك المجالَ مفتوحاً لنزاع الأحزاب، كما ساهم في إعادة القوى المـَلَكيّة إلى مركزها ضدّ القوى الثوريّة، وتأرجحَ، طوال السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر تحت وطأة تناقضاته الداخليّة. ولقد استسلم هذا النظام لـ حكومة القناصل ثمّ لـ الامبراطوريّة، كنموذجين للحكم الاستبداديّ، حيث أُلغيَ دور التجمّعات إلى حدّه الأدنى، وحيثث خضع اتجاه الأفكار لتحكّم مشدّد أجهزة الرقابة، بذريعة إنهاء فوضى الثورة مع الحفاظ على جزء من مواريثها التيي قُدِّمت كسندٍ أساسيّ لها، مثل تعديل الرمز المدنيّ، الذي حمل فعلاً تغييراً ذا اتجاه واحد على مستوى الآدابب العامّة والخاصّة: لعلّ إحدى النتائج الأكثر ظهوراً لهذه الثورة تدميرَ أوروبا بأكملها خلال خمسة عشر عاماً، والتيي انتهت أخيراً بالانفتاح عبر ترميم المـَلَكيّة، وإعادة صياغتها على شكلٍ دستوريّ، كنوع من العودة إلى النظام البرلمانيّ المكتسب من حركة ثوريّة أُعيدت إلى فكرها الأساسيّ. وسط كلّ ذلك، أمسك شخصٌ استثنائيّ اسمُه بونابرت، أصبح في ما بعد نابوليون، بكلّ طاقته بقضايا فرنسا حيث قدّم أنموذجاً لا يزال فاعلاً اليوم أيضاً، وهو أنموذج الرجل القويّ، وصاحب الرؤية الذي يملك نظر النسر، والملجأ، والمـُنقذ، والجدير الوحيد، والذي يستخدم القوة عند اللزوم لإخراج البلد من الأزمة العميقة التي كان غارقاً فيها.
لكنْ يجب علينا أن لا ننسى، أنّ بونابرت، كان في الأساس إبداعاً من إبداعات الإيديولوجيّين الذين سهّلوا بكلّ اهتمام صعوده كصديق كبير للعلماء الذين اصطحبهم في حملته على مصر. بالنسبة إلى السلطات الفكريّة الكبيرة لذلك العصر التي كرّست كلّ طاقتها لتحقيق نظام سياسيّ وثقافيّ جديد، بدا بونابرت ـ الذي كان مدعوماً من «باراس» رجل حكومة المـُديرين القويّ ـ بمنزلة الطائر النادر، والعسكريّ الذكيّ والمثقّف والمشهور بالعدل والنزاهة بما قدّمه لتقدّم الأفكار. وكما نقول اليوم، لليسار، إنه كان جديراً في النتيجة بأن يصبح، وهو الخادم الجيّد لمسيرة العقل، والمهدِّئ للأطراف، اليدَ المسلّحة للنظام الجمهوريّ، والسيفَ الذي، بحسب كلمة «سيييس»[2]، كانت الثورة بأمسّ الحاجة إليه بغية تخليد مكتسباتها الهشّة. في نهاية عام 1797، لتتويج التحالف الخارق بين السيف والمـِحبرة الهادف إلى توحيد الجيش والكنيسة، جعلوه يتعاون مع «المؤسّسة الوطنيّة»، حيث وجّهوا كفاءاته في مجال المدفعيّة؛ فلقد اضطُرّ بونابرت الذي كان مأسوراً في كبرياء سلطته يحافظ على المساواة مع أكثر الشخصيّات العلميّة المرموقة في عصره. ومن بين مواهبه الأخرى، كانت لديه موهبة الاعتناء بصورته مدّة لمتابعة أعمال «المؤسّسة» بإمعانٍ. كان مدركاً للفوائد التي يمكنه أن يجنيها من هذا الترابط بين الواجهة والعَرض، الذي يساعد بهدف سياسيّ في تمويه المشاريع الحقيقيّة التي كان يتابعها في الظلّ. ولكن عندما قدَّرَ أنّ الفرصة باتت مناسبة لتحقيق هذه المشاريع والانخراط في مغامرة «انقلاب 18 برومير[3] (فرنسا)»[4]، انتهى فجأةً الغزل مع العلماء، ولا سيّما مع الإيديولوجيّين في قسم العلوم الأخلاقيّة والسياسيّة في المؤسّسة الوطنيّة: لم يعد بونابرت ـ الذي أُطلِقَ على السِّكّة التي كان يجب أن تجعله نابليون بسرعة ـ يرى في حُماته سوى خصوم محتملين، وأدانهم كميتافيزيقيين مظلمين متشاركين في بحوث ملتبسة أنتجت فيها منافسين من النظام العام وبالتالي من ممتهني المعارضة. كان موضوعه الانتخابيّ هو الإدانة العنيفة والمحتدمة للعقلانيّة في جميع أشكالها، وهكذا أصبح الإيديولوجيّ، مقابل ازدراء التعبير الذي يشير إليه في عمق الاستخدام، مرادفاً للمـُعالِج للأفكار. وعبثيّاً متشدِّقاً ينبعث منه الدخان، وخطيباً متفلسفاً مثيراً للأوهام، يقف على مسافة من الواقع ومن مشاكله المحسوسة التي استبدل بها لعبة عقم التنظير الأجوف الذي لا علاقة له بالأفعال التي يقنِّعها بالإيماءات اللفظيّة والضرورات الصعبة. قام نابليون الذي مارس أيضاً سلطته على التعبير باللغة الفرنسيّة بجولةَ القوّة هذه: من خلال اعتزاله للإيديولوجيا التفوّقيّة التي مارسها خلال بضع سنوات، أتاح الإمكانيّة لإعادة ظهورها على مستوى التعبير، ولكن على شكل تقليص الخطابات الملتبسة والمخادعة حيث الفراغ لا يمكنه أن يؤثّر سوى في السُّذّج وتجب محاربته بأيّ ثمن. لم يكن الخطابُ حول نهاية الإيديولوجيّات، كما نراه، أي حول ضرورة الانتهاء من الإيديولوجيّات، قد ظهر في الأمس، بل لقد بدأ منذ أن عادت عبارة - إزالة سيطرة مؤسّسيها، المؤسّسين المؤقّتين لعلم الأفكار ـ بشكلها الجديد الازدرائيّ والسلبيّ.
نابليون والإيديولوجيا
كان نابليون يرى في الإيديولوجيا أنّها الشكل الذي يعبر فيه تعبيرَ الفريق الصغير من الإيديولوجيّين عن حقهم في التدخل في الشأن العام. وذلك بحجّة أنّهم يحتفظون ببعض الكفاءات الخاصّة وبصفتهم مفكّرين عالميّين، بكلّ مشاكل المجتمع حيث يمارسون بصددها أستاذيّةً أخلاقيّة تسمح لهم بالتبشير بالقانون. عندما سيستعيد ماركس في عام 1845 كلمة الإيديولوجيّا، التي استكملها دفعة واحدة بالتدويل، سيكون ذلك في إطار نضاله ضدّ إيديولوجيا الهيغليّين اليساريّين الذين تحت لواء السخريةِ ممّا سمّاه باستهزاء «انتقادهم الانتقاديّ»، يعيدون النضالَ السياسيّ إلى معركة الأفكار. وكل هذا من دون أن يأخذوا بعين الاعتبار بأنّ مستقبل المجتمع يلعب في اللحظة الأخيرة على ملعب آخر غير ملعب الأفكار، وبالتالي على غير ما في رؤوس الناس، كما كانوا يريدون أن يوحوا أو كما يعتقدون هم أنفسُهم مخطئين بهؤلاء المثاليّين الذين ما إن تُنزع الأقنعة حتّى يكشفوا عن كونهم إيديولوجيّين: وبالإمكان القول إنه مع وجهة النظر هذه لا يزال نهج ماركس يقع في مسار التبليغ بالإيديولوجيا كما قادها نابليون، الذي كان يستند إلى الفرض الأوّليّ وهو : كي يكون هنالك إيديولوجيا، يجب أن يكون هنالك إيديولوجيّيون ابتكروها وبأنّهم هم مَن يجب أن نقفل أفواههم، بهدف وضع حدّ لدمار الإيديولوجيّات التي ابتكروها هم أنفسهم. لا يبدو نابليون ولا ماركس في وقت ظهور الإيديولوجيا الألمانيّة يدركان ما هو أبعد ممّا يعطيه الـ «الإيديولوجيّون» المـُهانون لخطابهم من شكل لإيديولوجيا قادرة على الوجود بطريقة هادفة، أي كظاهرة لتيارات اجتماعيّة أوسع من تلك التي قدّمتها الطائفة السيّئة التي يشكّلونها، بالتالي نرى في توسيع نطاق استخدام هذا المفهوم على حساب احتقاره ـ الذي أدّى أكثر وأكثر إلى تأكيد الميزة الوهميّة للإيديولوجيا، وإلى التركيز في الفكر الجدليّ المحض على الدور الذي لعبه في هذه المسألة مثيرو الفتن الوهميون وهم الإيديولوجيّون ـ أنّ نابليون أشار بعمق إلى المعنى، موجّهاً الاهتمام إلى الاعتبار الحصريّ لدوره المثير للقلق، كنزوة زائدة ومن الملائم بالنتيجة طرد الهيبة الكاذبة من خلال الكشف عن التفاهة. وهكذا، فإنّ التفكير في وضع الإيديولوجيا كان محجوباً بطريقة ما، وكانت الإمكانيّة مغلقة بشكل إيجابي أمام الأخذ في الاعتبار المهمّة الاجتماعيّة الفعليّة لها، وبالتالي لطرح السؤال الحاسم: هل المجتمع ممكن من دون إيديولوجيا؟ هذا السؤال سيكون لفترة طويلة النقطة العمياء في نظريات الإيديولوجيا، ولقد تملّك بالشاب ماركس، هاجسُ الجوانب السلبيّة للإيديولوجيا وتواصلَ مع التعطّش للانشقاق عن الإيديولوجيّات المثيرة لاضطرابه، وسيحيط ـ على الأقلّ ـ ذهنيّاً بالمشكلة الأساسيّة التي يشير إليها، والتي حكمت بالغموض على مقاربة المشاكل في إطار التقليد الماركسيّ: كي يمكن التفكير في الإيديولوجيا على هذا النحو، يتطلّب في ضرورته الخاصّة، من بين أمور أخرى، التوقّف عن اعتبارها كتحفة، أي كالاختراع الزائف الوحيد للإيديولوجيّين.
إنّ الإيديولوجيا، التي يرفدها البعدُ العلميّ للحقيقة الذي نُسب إليها في اللحظة التي كانت فيها للمرة الأولى قد سُمّيت في عام 1796، أصبحت وبالتدرّج شيئاً زائداً، وحتى أكثر من اللازم، وكإفراط إضافيّ للروح التي سيكون من الأفضل التخلص منها في سبيل العودة إلى ما يخفي مظهرها الخادع: إن المشاكل الحقيقية للمجتمع، والتي ينبغي أن تُفهم في لغة أخرى غير لغة الإيديولوجيا، هي على الأرض وليست في السماء حيث يندفع دخانها البركانيّ الضارّ. إلّا أنّه بغية أن تُعدّ كتأثير لتكرار مضلِّل لواقع مستمرّ خارجها، وجب أن تكون قادرة على الاستغناء عنه. كان عليها أن تتخلّص من الكفالة الطبيعة التي تعتمد عليها فكرتها في البداية، وأن يُنظَر إليها على أنّها نتاج للتاريخ، على الأقل بعض التاريخ، وليس كتعبير للطبيعة. من وجهة نظر الإيديولوجيّين، الإيديولوجيا كعلمٍ للأفكار، هي على صلة بأمور خضعت علاقاتها المنتظمة لقوانين على غرار كلّ الظواهر الطبيعيّة الأخرى، ولا سيّما تلك التي اختبرتها الأنتروبولوجيا [علم الإنسان] ما يعني تماماً تلك الصيغة الاستفزازيّة لـ ديستودوتراسي: « الإيديولوجيا هي فرع من علم دراسة الحيوان»: وهذا مقبول، فمبادئ الإيديولوجيا هي بالتعريف مشتركة بين كلّ أفراد الجنس البشري، وتشكّل ضمانات وحدة هذا الجنس البشريّ، وليس هنالك مكان لإدخال مبدأَ التغيير في تركيبتها الذي غيّر فيها الاتساق والتماسك؛ ولكن ما إن تشكّلت الإيديولوجيا وثُقِّفَت، حتّى أُعفيت من أي منظور للتنمية والتغيير، شريطة أن تكون قد قطعها عن ظروف تشكيلها الأساسيّة: علامة لا تمحى من الطبيعة البشريّة حيث تشكل السمة المميزة الأساسيّة، كان من الصعب أن نتصوّر أنّها كانت من عمل الإنسان، في ظلّ تحويل المفهوم إلى صناعيّ، وتسليمه لتقلّبات التجهيز الوهمية كاشفة لا عن العلم الضروريّ ولكن عن تكنولوجيا التصنيع التعسفيّ. إنّ إذلال فئة الإيديولوجيا، ومن خلال نزع الصفة العلميّة عنها، من خلال سحب قاعدتها الطبيعيّة، وبنوع من الوحشيّة، والشذوذ، وبتعريفٍ خارجٍ عن المألوف، أو جدَ، إمكانيةَ إعادة تسجيل نفسها في منظور تاريخيّ، عن طريق استخراج شبكة قويّة من العلاقات الموضوعيّة التي كانت حُبست فيها منذ البداية، عندما رُصَّت في ظاهرة الإحساس الطبيعيّ. فلقد أصبحت الإيديولوجيا لعبة تعسفيّة مع تجريدات كانت قد اكتسبت ليونة ولَدانةً تجعلانها على نحو مباشر في تناغم مع روح العصر، حيث تزاوجت مع الحركات، ومع كونها دائماً إيديولوجيا الوقت، تناسب مزاج الوقت من خلال تكرار الأمور اليقينيّة. وبهذه الطريقة المقطوعة في الوقت نفسه عن قواعدها الطبيعيّة، وعن يقينيّة العلم، أصبحت الإيديولوجية مرادفةً للرأي، بمعنى شكل الفكر العبثيّ الذي يزرع الأوهام على حساب واقع الأمور.
خاصيّة الرؤية الماركسية
في العودة إلى ماركس، عندما كتب مع إنجلز الإيديولوجيا الألمانيّة، كانت القطيعة بين وجهة نظر الطبيعة ووجهة نظر التاريخ قد تمكّنت من أن تبدو حاسمة. وكانت خاصيّة الإيديولوجيا هي تماماً عند وجهة نظرها بإعادة التطبيع بشكل مخادع لما هو تاريخيّ في الواقع، وذلك بهدف التضليل وبطريقة صناعيّة مخادعة لما هو في الواقع ليس سوى عابر ومؤقّت. ولكن من أي طبيعة ومن أيّ تاريخ لم يكن يمكن تجاوز هذا التعاقب بين الموقفين؟ لكي نُعيد إلى فكرة الإيديولوجيا قيمةً موجبة خلف دلالة سلبيّة، ولإدخالها من جديد في شبكات الواقع، ألا ينبغي التغلّب تماماً على هذه المعارضة، ولا نكتفي بالتحليق فوقها كالروح فوق المياه؟
وهذا ما سيبدأ يفهمه ماركس منذ الوقت الذي استخدم فيه برنامج الدنيويّة التاريخيّ [مذهب يقول بأنْ لا موجود غير المادَّة] حيث الإيديولوجيا الألمانيّة لم تكن من هذه الوجهة سوى مخطط أو ّلي لهذا البرنامج. إذاً لن يُسمح بعد ذلك، بقصدِ تأريخ الإيديولوجيا، أن نقدمها كخَلْقٍ تعسفيّ لبعض العقول الضالّة: ولكن سيتوجّب فهمها باعتبارها إنتاجاً اجتماعيّاً مجهول الاسم ولديه ضرورته، والذي يلتزم فيه المجتمع كلّه؛ هكذا يشرح مرور النظريّة من الإيديولوجيا التي قامت في عام 1845 إلى تحليل عبادة الأوثان. ثم تطوّرت، وبروح مختلفة جدّاً، في نهاية القسم الأوّل من الكتاب الأوّل Capital [رأس المال]، حيث بيّنَ أنّ ـ مع الحفاظ على طابع خياليّ ـ عبادة الأصنام، هي إيديولوجيا ليست محض ابتكار للإيديولوجيّين في حالة الجنون. وحتى يمكننا أن نقول إنّها إيديولوجيا من دون موضوع تكون فيه القضية أو المؤلِّف يشغل في البنية الاقتصاديّة وظيفة حقيقية، حتّى لو كانت تلك الوظيفة هي وطيفة قناع.
ومع ذلك، فمنذ الحقبة التي تميّز فيها المعنى أساساً بقيمة سالبة، نتجَت عن فكرة الإيديولوجيا نتيجةٌ لا يمكنها أن تُطرح بعد ذلك بأي شكل من الأشكال وترافق كلّ تطوراتها المستقبليّة. منذ أن اضطرّت الإيديولوجيا للتخلّي عن ميزة «العلميّة» ـ التي جرت نسبتها إليها منذ ولادتها. وهذا ما منحها مدًى عالميّاً ـ لم يعد من الممكن أن نتحدّث عنها في صيغة المفرد، وذلك لأنّها غُمرت في السياق الصراعيّ الذي فجّر الرهانات تماماً: في عالمٍ من دون اقتسامٍ لإيديولوجيا أعقبت صراع الإيديولوجيّات يصبح من غير الوارد أن يمكن لأيّ خطاب إيديولوجيّ أن يغطّي بشكل كامل ومستمر، دون تقسيم، المجالَ حيث كانت هذه الإيديولوجيات تتموضع. وعند الاقتضاء، يمكن أن يُثار الوهمُ بأنّ أحد هذه الأنواع من الخطابات كان تسلّطيّاً تماماً، غير أنّه من المستحيل أن تكون هذه الهيمنة، خارج السلطة من جهة، ومن جهة ثانية، تتأكّد بشكل آخر مقارنةً مع المواقفالإيدييولوجيّة الأخرى التي تصدّت للانطلاقة؛ من هنا فإن معظم الإيديولوجيّات، تبدو فاقدة لمفهوم إعادة التركيز في القطب الوحيد للبرهنة التي ضمنت تصالحها النهائيّ.
وفي الوقت نفسه بدأت توضع ـ في سياق يتسم بالارتباك المتعلّق بكلّ نزاع وبالنزاع الذي يُفضي إليه ـ المشاكل المتعلّقة بمفهوم الإيديولوجيا السائدة المعتبرة في علاقتها بالإيديولوجيّات الأخرى المكوِّنة بالنسبة إليها كمهيمنٍ عليها، المشاكل التي ليس لها أيّ سبب لكي تثار عندما كانت الإيديولوجيا تتمتّع بأساس طبيعيّ ثابت ينظّم تلقائيّاً الاحتجاجات، وهذا ما يجنّب انضمامها إلى بنية الهيمنة. وفي الوقت نفسه، كان قد طُرح سؤال ما هو المكان الحقيقيّ لهذه النزاعات: هل هو سماء الأفكار، رأس الناس، أو الأرض حيث يعمل الناس مادّيّاً ليؤمّنوا، في الإطار الخاصّ بتقسيم العمل، وجودَهم، مقيمين في ما بينهم بعض العلاقات الخاصّة جدّاً، حيث كلّ التاريخ يشهد بأنّهم هم أيضاً متصارعون؟ كيف يتشابك صراع الإيديولوجيّات مع حيويّة العلاقات الاجتماعيّة؟ هل هو انعكاس سلبيّ؟ أم هنالك ـ ليس سوى من خلال تأثير الانجذاب الذي تمارسه في التكتّلات ـ أثراً عكسيّاً للإيديولوجيا على هذه الحيويّة التي لا تقوم سوى بنقل الاحتجاجات عبر لغتها، من دون التوصّل إلى تعديل الاتجاهات؟ بعبارة أخرى، فإنّ الإيديولوجيا، وفقاً لمفهوم يبدو مشتركاً بين نابليون والشاب ماركس، هي علامة عجزٍ، وبالتالي لم نعد نفهم ما الذي يسمح بالتنديد بخطورتها، أم هي تتمتّع بقوّتها الذاتيّة، وهذا يعني، على حدّ تعبير الفرضيّة الحادية عشرة حول فيورباخ، فإن لديها القدرة لا على تفسير العالم وحسب ولكن على المشاركة في تحوّله أيضاً، في الظروف التي لا علاقة لها مع صفاء الاكتشاف العلميّ؟ وإلى جانب ذلك الصفاء أليست في حدّ ذاتها حيلة، تعمل على القواعد التي تقدّمها الإيديولوجيا ؟ أليس هنالك أيضاً إيديولوجيا العلم التي تخفي تحت مظهر من الانتظام والاستمرارية حدّةَ المناقشات التي تجعل التطوّر ممكناً، ولا يمكن التنبؤ به، ما يعرّض كلّ الثوابت للمراجعة والتأويل مجدّداً. من المستغرب أن يظهر هذا الأمر. من أجل أن تُثار هذه الأسئلة، كان من الضروريّ أن يخضع مفهوم الإيديولوجيا لمحنة ازدرائه، حيث من خلال فرض ضرورة أن يتطوّر في سياق جدليّ، أدى إلى التنديد بالتماسكات الكاذبة، ومن خلال الإخلال بها فرضَ التفكير بالعمل على أسس جديدة.
هذا ليس كلّ شيء: إنّ تعدّديّة الإيديولوجيا، نتيجة لحرمانها من الجنسيّة، أدّى إلى الأخذ بعين الاعتبار ـ لا إلى الاختلاف بين المواقفالإيدييولوجيّة المتواجهة في إطار نزاعاتها وحسب بل إلى ـ تمييز المستويات أو مخطّطات الإيديولوجيا، تلك المرتدية أشكالاً مختلفة، فُصلت بالقوّة، أي أشكال الإيديولوجيّات السياسيّة والعلميّة والقانونيّة والدينيّة والجماليّة وغيرها. فقد قامت الشبكة ـ بتماسك أو بانفصال أكثر أو أقل ـ بتعقيد لعبة العلاقات الإيديولوجيّة بعض الشيء، من خلال توسّع مجال ممارساتها في وقت واحد. وفقاً لمنطق هذا التوسّع، فإن كلّ أحداث التاريخ البشريّ تميل إلى أن تكون قد أُعيدت إلى أرضيّة إيديولوجية تصبح فيها القضيّة الرئيسيّة لجميع التحوّلات الاجتماعيّة الجاريّة: إيديولوجيا، ولكن أيّ إيديولوجيا وأيّ شكل من أشكال الإيديولوجيا ؟ لقد كان علينا أن نتساءل ما الذي يحتل على الصعيد الخاصّ بالإيديولوجيا، المركزَ المهيمن، أو، بعبارة أخرى، ما الذي يمكن أن تكون عليه الأسس الإيديولوجيّة للإيديولوجيا، وهي الأسس التي أتاحت نسبة التطوّر إليها؟ كانت إجابة نابليون عن هذا السؤال، كما رأينا، بأنّ سببالإيديولوجيّات كان العثور على هذه الطبقة المتغطرسة من العلماء والعلماء المزعومين الذين، من خلال قرارهم الخاصّ جعلوا أنفسهم فوق القانون، وشكّلوا في الواقع جماعةً من مثيري الفتن ومدبّري الدسائس والمخرّبين العبثيّين للعبة السياسيّة والاجتماعيّة. فلقد كان كافياً إسكاتهم لاستعادة النظام الإيديولوجيّ الإضافيّ. ولكن هذه الصورة المبسّطة للتفسير، والتي أربكت تدخّل المهنيّين المزيّفين المستقرّين بميولهم في موقف العصاة والمتمرّدين، كانت مستوحاةً من سابقةٍ قويّة: إعادة إنتاج أنموذج التأويل في اللحظة التي وصل النزاعُ فيها بين العقل المنير والمعتقدات الخرافيّة إلى درجة من الحِدّة لا مثيل لها. في الأساس، لم يقم نابليون سوى بأن نقلَ إلى الكهنة المنظِّرين الشعارَ التالي: «اسحقوا الشائنين!»، وهو شعار مكافحة ويلات كهنة الظلاميّة الذين يخدعون الناس عن وعيٍ: من وجهة النظر هذه يمكننا القول إنّ مناهضة العقلانية التي ألهمت ازدراء الإيديولوجيا كانت تحوّلاً إلى مكافحة رجال الكنيسة.
تأمّلات الإيديولوجيا
لهذا الأمر نتيجتان مهمّتان. من ناحية، أن نفهم على هذا الأساس كيف جرى تأويل الإيديولوجيا بشكل أساسيّ وفقاً للأنموذج الذي قدّمه الدين. فهذا الأخير قد ارتقى إلى الأنموذج المثالي لصيغة مغالطة الرأي، وحيرة العقل العام الذي لا بدّ من وضعه في الطريق الصحيح من خلال تطهيره من أوهامه. من ناحية أخرى، فإنّ الإيديولوجيا التي عُرِّفت كنتيجة لمؤامرة بدأها قادةٌ خبثاء، تبدو سمتها الاجتماعيّة أو المعادية للمجتمع ثابتةً: كانت هذه الإيديولوجيا منسوبة إلى جزءٍ صغير من المجموعة المستخرج منها فالتفّت على ذاتها من أجل الحفاظ على مصالحها الخاصّة، وبشكل ملموس جدّاً، للاستيلاء على السلطة التي تمارسها حتى على حساب ضرر المجتمع، بهذه الطريقة شرح ماركس نشأة الدولة، المتشكِّلة من إمبراطوريّة ضمن إمبراطوريّة، وتؤمّن صناعياً هيمنةً جعلتها تلعب ضدّ المجتمع المدنيّ، لا في خدمته. إنها ضمن دائرة تضع نفسها هكذا في الموضع الذي يضمُّ في إطار التعقّلِ المتّواصلِ أفكارَ التعمية والتآمر والتعسّف: تتوافقُ الإيديولوجيا الضبابيّة الأفكار والخاطئة مع إغراء التأثير الذي يُنتج في نهاية المطاف الانسلاخ الجماعيّ، وخضوع الجميع إجباريّاً لإرادة القلّة؛ هؤلاء، بعد أن سيطروا على بعض المناصب الرئيسيّة التي سمحت لهم بترؤس المجتمع، قاموا بمحاصرته في رأسه، بواسطة الأفكار السيئة التي نفخوها فيه، من بينها أداء تعسّفيٌّ من «رأس» المجتمع، والذي يعود إليه احتلال المركز المهيمِن فيه. وهكذا تجد الإيديولوجيا نفسها منفصلةً عن جسد المجتمع، الذي تشوِّشه، وهو ما لم يكن ممكناً علاجه إلّا من طريق القضاء عليه، على سبيل المثال من خلال الحكم عليه بالصمت، وبالتالي عن طريق سلبه كلّ وسائل التعبير. هكذا تماماً كانت السياسة التي واصلها نابليون ضدّ العقائديين وعبادتهم للأفكار التي يعدُّها تعسّفيّة: لهذا، ومن أجل مواجهة نفوذهم، فضَّلَ ـ باعتباره حكيماً في السياسة انطلاقاً من مبدأ «أهون الشرَّين» ـ أن يفسح المجالَ في المجتمع الفرنسيّ الذي تلا ثورة الكهنة إلى هؤلاء أيضاً، وهؤلاء، بطريقتهم، عقائديّون، ولكن أكثر من ذلك هم عرضة بسبب تدريبهم على الخنوع، ونتيجةً لذلك كان يعدّ السيطرة عليهم أسهل من السيطرة على العلماء المزعومين التائهين في غطرسة التنظير التي يرى فيها خطراً شديداً على نظام الإلهام العسكريّ الذي كان يحاول أن يجعله في مكانه بشكل دائم.
عن طريق انطلاقِه بذكاء ضدّ المنظّرين الذين كان يكرههم، وفي أعماق نفسه كان يخشى رجال الدين الكاثوليك- المتمسكين بروحانيّة معلنة ويتحمّلونها حتّى في نتائجها الأخيرة- والذين يكنّ لهم احتقاراً تامّاً، كان نابليون يعتقد أنّ بإمكانه فرض إرادته عليهم بسهولة، في اعتماده على طريقة تقديم الإيديولوجيا كقضيّة الكهنة التي مادّتُها الرأي العام غير المؤيّد دستوريّاً والمرن والمطبوع على سرعة التصديق، المستعدّ للاصطفاف في كلّ لحظة كيفما هبّ الهواء، الفاقد لكلّ تماسك خاصّ وتابع للعبة التأثيرات الخارجيّة التي تتلاعب به وفقاً لأهوائها. لذلك، وسوف نعود إلى هذا الأمر، جرى استخدام الدين كمعيار واختبار متميّز للدور المنكشف للإيديولوجيا في ذلك الوقت حيث من خلال احتقارها غير المباشر، كانت موضوع العزل الذي أقصاها عن التنظيم الاجتماعيّ: كان نابليون يريد من الكهنة أن يبشّروا بمذهبهم يومَ الأحد، اليوم المخصّص - على هامش المشاغل الحياتيّة العاديّة - لعبادة الربّ، ولكنّه كان يخشى من تدخّل المثقّفين الضالّين الذين انتحلوا حقّ إلقاء الخطب الطويلة في أيام العمل الأسبوعيّة وأن يلعبوا باستمرار، من دون أي رقابة، دورَ الضمير الأخلاقيّ للمجتمع. الإيديولوجيا هي زائدةٌ فُطْريّة، وربما لا مفرّ منها للحياة المجتمعيّة، وكان يجب أن تُقصى إلى هوامش الحياة الاجتماعيّة حيث مكانها الطبيعيّ. وبالمثل، ليس الوعي الدينيّ في نهاية المطاف سوى كلام المواساة الذي يحتاج إليه الناس لتحمّل مساوئ القدر، مثل حالتهم البائسة أو اضطرارهم لدفع ضريبة الدم التي لا تُحتمل في ظلّ الظروف التي لا تتغيّر، الجامدة بين جدران الكنيسة حيث سمح لها بترديد صدى صلواته وأناشيده: كان نابليون يرى في طائفة المنظّرين، جهازاً من رجال الدين المنحرفين وحسب يحاولون التخلّص من هذه القاعدة من خلال تقديم انغلاقهم، وممّا أصبحوا عليه، على سبيل المثال، منزلين من السماء إلى الأرض حاكمين للتعليم العام المستسلم لوحيهم الذي يقدّم وحسب ـ من خلال تطبيق الحقّ الثمين الذي نسبوه لأنفسهم ـ دروساً في المواطنة، بأنّ الإنسان قويّ وبأنّ النظام الذي أقرَّه هو لا يمكنه تحمّله. في الأساس ليست الإيديولوجيا من وجهة نظره سوى دين دُنيويّ غير مخلص لوجهته الأصليّة التي يجب من جديد التمسّك بها من خلال إعادة تصحيح الانقطاع الدنيويّ والمقدّس بشكل واضح.
هنا مرّة أخرى، يتداخل نهجُ ماركس في بداياته مع نهج نابليون، حتى لو كان قد توصّل عبر اتباع مسارات أخرى إلى استنتاجات مماثلة، إن لم تكن متطابقة تماماً. هو أيضاً بدأ بالنظر إلى الإيديولوجيا كجهاز من المتخصّصين الذين انحكموا ذاتيّاً بشكل مصطنع نسبةً إلى مجموع المجتمع الذي يزعمون - بنوع من المعجزة التنظيريّة ـ أنّهم يقبضون على حقيقته بينما هم في الواقع يحجبونها من خلال استغلال الموهبة الرسميّة للتعامل مع الأفكار التي يملكون حقّ الإقطاع الحصريّ لها: لهذا السبب عدَّ الموقف المناسب تجاههم هو الذمّ. ونتيجة لذلك، وظَّفَ ضدّ الإيديولوجيا ـ بما هي عليه من هذه الجدليّة الحادّة والثائرة ـ قصفاً غير متناسب على بعض الصعد، جعل من الصعب جدّاً إن لم يكن مستحيلاً، تحويلها إلى نظريّة، أي، إلى فهمٍ لنوع الضرورة، إن لم تكن الشرعيّة التي كانت تنصاع إليها. أو بالحريّ، لم يعترف لها سوى بنوع خاص جدّاً من الضرورة المنطلقة من المنطق الانفصاليّ الذي يسيطر على الآليات: وهو هذا المسار الفكريّ الذي أدّى به إلى الاعتقاد بأنّ الإيديولوجيا أقرب إلى الدين من العلم الذي كانت في الأصل متعلّقة به: أليست العقيدةُ الدينيةُ هي العقيدةَ المثاليةَ للانفصال، التي تدعي القدرة الحصريّة لاحتلال حيّزٍ آخر غير الذي تجري فيه الحياة اليوميّة؟ لقد أعارت الإيديولوجيا للدينِ وَهمَها بالتعالي، الذي يترجم ميلها للخروج من العالم والخروج من واقع الأمور من خلال إعادة الصورة المقلوبة والمنقولة من مكانها، إلى المبادئ التي ليست سوى تبديلٍ لمكانها. في الواقع، لتأمُّلِ الإيديولوجيا، كما سمّاها، من خلال تصدّيه - منذ «باريس» حيث كان مستقرّاً- للإيديولوجيا «الألمانيّة»، مُعطياً بذلك الانطباع بأنّ في الإيديولوجيا شيئاً ما ألمانيّاً دستوريّاً، في إشارة إلى تقديم ألمانيا كبلد للفكر النقي والأوهام، البلد الذي كان يواصل التفوّق. كان الشاب ماركس يتمتّع بأنموذج من تحليل الوعي الدينيّ الذي جاءه من فيورباخ، وعلى وجه التحديد من العمل العظيم الذي كان قد كرّسه في عام 1841 لـ جوهر المسيحيّة (الطبعة الثانية، 1843)، من أجل توضيح الظروف التي جرى فيها التقاسم بين الجنّة والعالم السفلي [الجحيم]، بين الـ هنا والـ هناك، بين العالم الدُّنيويّ والعالم المقدّس: نتيجة هذا التحليل هي أنّ هذين العالمين ليسا في الواقع سوى عالم واحد، يتقاسمه أمران، الأوّل حقيقيّ والثاني خياليّ، حيث الثاني هو نتاج لتغيير الأوّل أو لتشوّهه، وبالتالي لا يتمتّع سوى بالاتساق المقترض، تحت عنوان شكل الواقع المشتق، الذي لا يزال ينتمي إلى الواقع على الرغم من أنّه يبدو في الواقع خارجه.
هذا التفسير، الذي يميل إلى إعادة الوعي الدينيّ من السماء إلى الأرض من خلال إعادة العمق الإنسانيّ إليه، سابقٌ في بعض النواحي على مؤسّسة Traumdeutung [تفسير الأحلام] كما تناوله فرويد في وقت لاحق: على وجه الخصوص، هو يؤدّي إلى تقديم الوعي الدينيّ على نمط الحلم الذي - من خلال ادّعائه احتلال مجال آخر غير مجال عالـَم اليقظة الذي ينافسه بطريقة ما- يعكس الرغبات والمخاوف الحقيقيّة التي ينكِّرُ مظهرَها ويمنحها مظهراً غير واقعي. كان الوعي الدينيّ، وبالتالي الإيديولوجيا المقبوض عليها وفقاً للأنموذج نفسه، قد طُبّع من جديد طبقاً لقاعدةٍ خاصّة جدّاً قدّمتها طبيعة الرغبة، على شكل الرغبة المكبوتة والحبيسة التي تزوّدها بنمط من الإخراج المنحرف والمشوّه. الإيديولوجيا المِثليّة، الإنسان فريسة للاجترار الإيديولوجيّ، وبالتالي هو نائمٌ يعتقد أنّه يعيش على هامش الواقع، في عالم آخر، بينما هذا الأخير ليس سوى فيض من حياته في اليقظة، خيال ليس مجانيّاً من دون شكّ، بالمقدار الذي هو فيه ترجمة للاضطراب وفقدان الوجود، حيث الأسباب تستدعي البحثَ ضمن الواقع نفسه. على هذه الأسس تقريباً انصرفَ ماركس في كتاباته ـ التي سبقت عام 1845، وقبل أن يتوصّل إلى إعادة مؤاءمة كلمة الإيديولوجيا التي مرّرها من اللغة الفرنسيّة إلى اللغة الألمانيّة، والذي منح استخدامَها الطابعَ العالميّ ـ إلى التفكير بالعلاقة بين الدين والسياسة التي ركّز اهتمامه فيها في سنتي 1842-1843. لذا يجب الانطلاق من هنا لنفهم من أي فرضيّات جرى ـ في سياقٍ محدّد جدّاً ـ ازدهار مفهوم الإيديولوجيا في إطار التحليل الماركسيّ، الذي أبرزَ كلّ الاستثمارات البَعْديّة، بما في ذلك تلك التي تسير في الاتجاه المعاكس للماركسيّة.
وفي ختام هذا العرض لمسار ازدراء مفهوم الإيديولوجيا الذي سمح بتمديده، نلمِّح إلى ذلك الذي اقترحه الماركسيُّ الهنغاريّ كارل مانهايم في كتابه الإيديولوجيا واليوتوبيا (1929)، حيث نُشرت ترجمةٌ فرنسيّةٌ كاملة له، لأوّل مرّة في فرنسا (طباعة: la Maison des sciences de l’homme [بيت العلوم الإنسانيّة 2007): يشتمل هذا المسار، على حدّ تعبير مانهايم، على «معرفة كيف وبأيّ شكل من الأشكال ارتبطت الحياةُ الفكريّة في لحظةٍ تاريخيّةٍ معيّنة بالأشكال السياسيّة والاجتماعيّة القائمة»، ضمنيّاً بطريقةٍ من خلال حَرْفِ الإنتاج، بحيث يتوقّف عن إقامة علاقة جَبْهَويّة بالحقيقة الموضوعيّة للأشياء التي تنعكس بشكل غير مباشر على عمق «الوعي الزائف»، بمعنى الوعي الذي هو ليس خطأ لأسباب ذاتيّة خاصّة ولكن على مستوى العزم الأوسع حيث الحياة الاجتماعيّة برمّتها هي المحرَجة. في العرض التاريخيّ الذي يعطي مفهومَ الإيديولوجيا، يصرّ مانهايم ـ كما رأيناه يفعل ـ على الدور الذي لعبَه نابليون، الذي من خلال مبادرته الخاصّة، أدخلَ كلمةَ الإيديولوجيا في اللغة الدارجة، في عمليّة «تزوير» الإيديولوجيا، وبواسطتها لتزوير مسعى المعرفة نفسها، التي تسبق وتُهيّئ لاستعادتها لاحقاً من طريق ماركس. أطروحته هي أنّه كي تُعزل المعرفة - بهذا الشكل، على الصعيد العام ـ عن علاقتها الإيجابيّة بالحقيقة، توجّب الأمرُ تدخّلَ السياسيّ الذي أدّى إلى تناولها من وجهة نظر ليست نظريّاً، ولكن عمليّاً. هكذا يؤيّد مانهايم بالنتيجة أنّ كلمة الإيديولوجيا أخذت معناها الحديث - والذي لا تزال تحتفظ بجملته اليوم ـ من اللحظة التي صادر فيها السياسيّون المشكلةَ الحقيقة التي توقّفت عن أن تكون إقطاعاً للعلماء، وخسرت بُعدَها «المدرسيّ» (التعبير الذي سيستخدمه بورديو مرة أخرى بهذا المعنى)؛ في ذلك الوقت فرضَ أيضاً ما سمّاه مانهايم «علم الوجود متفرِّع عن التجرية السياسيّة» نفسَه على أساس العلاقة البراغماتيّة بواقع الأمور. في الوقت نفسه انفتح مجال المعرفة الجديدة، مع الأخذ بعين الاعتبار هذا البعد البراغماتيّ للمعرفة: هو يتعلّق، كما سمّاه مانهايم، بعلم اجتماع المعرفة، أو معرفة المعرفة بوصفها إيديولوجيا، ولكونها تقوم على علاقة واقعيّة ـ ليست تأمليّة بحتة ـ بواقع الأمور.
يمكننا أن نعزوَ إلى مانهايم طرحَ مشكلةِ الإيديولوجيا، وهذا يعني أنّ الإيديولوجيا هي نفسها أصبحت مشكلة، لذلك هناك شيء ما غير واضح ويدعو إلى نقد خاصّ، عند النظر في نهج المعرفة وقيمتها الحقيقيّة من حيث التأثير السياسيّ والاجتماعيّ، وعندما يتوقفان عن أن يُقاسا مباشرةً بالنسبة إلى واقع موضوعي مستقل عن هذه التأثيرات التي ما كانت سوى انبثاق منها أو انعكاس لها. ولكن بعد ذلك أُثيرت مشكلةٌ جديدة، هي أن نعرف ما هي طبيعة التأثيرات السياسيّة والاجتماعيّة، وإلى أيّ نوع من الممارسة تُحيلنا: هل هذه الممارسة هي تلك التي تتعلّق بمبادرةِ سياسيٍّ مسؤولٍ معزول، مثل نابليون الذي قدّم التوضيح المثالي، أمْ هي ممارسةُ جماعة منظّمة متدخِّلة في مجال النقاش الذي يؤدّي إلى تداول الأفكار كأمرٍ جماعيٍّ حركّته مصالحه الخاصة، أمْ هي أيضاً ممارسة المجتمع، بالحالة التي هو عليها من الارتباط البنيويّ وبالتالي السرّيّ، في حيويّة الإنتاج الإيديولوجيّ بشكل مغرض شِقاقيّ يعبّر بصراحة عن تناقضاته الداخلية على شكل خطاب؟ لا تَسمحُ الإحالةُ إلى البراغماتيّة التي قدّمها مانهايم من قبل، بالاختيار بين هذه الخيارات المختلفة. ومع ذلك، فإنّها تسمح بتسليط الضوء على جانب رئيسيّ من مفهوم الإيديولوجيا : الإيديولوجيا هي الفكر كما قدّم نفسه كفكر للآخر حيث الآخر هو كما الخصم الذي يحارب كلّ الملتزمين سياسيّاً، أكانت المجموعة الأخرى التي تكوّنت ضدّها وتدافع عن خياراتها الخاصّة، أمْ كانت الأخرى بالمعنى العام للغَيْريّة التي يُدخِلُها المجتمعُ في بنيته، وهذا ما يمنع اعتبارها شموليّة موجودة على شكلٍ متماسك، وبالنتيجة تستعدّ بشكل فوريّ بطريقةِ معطًى أوّلَ غير معرَّضٍ لإعادة النظر في هويّته الخاصّة. من هنا هذا الدرس: كي يكون هنالك إيديولوجيا، يجب أن يكون هنالك أخرى، حيث يوجد نمط اجتماعيّ يمكن أن تكون فيه أخرى، وتمثيلٌ للأخرى على النحو الذي هي عليه، أي أن يكون معروفاً مبدأُ الغَيْريّة التي أجاءت من الخارج أم لا، فهي تَعبُر وتعمل في نظام التفكير، على تفكيك التماسك والوحدة الظاهرَين، وتُدخِل فيه وجهةَ نظرٍ جديدة هي السلبيّة.
من خلال المساهمة في الكشف عن هذا الجانب من نظام الفكر الذي ألغاه منظِّروه المجرّدون بشكل منهجيّ، فإنّ مفهوم الإيديولوجيا على الرغم من الغموض المحيط به يتمتّع بدورُ الكاشف: من دون هذا المفهوم، كان البُعدُ الاجتماعيّ للفكر لا يزال من دون شكّ غيرَ ملحوظٍ. لهذا السبب له معنى العودة مرة أخرى إلى هذا المفهوم، وما كان إلّا لمقارنة الالتباسات، التي هي نفسها ـ أجرؤ على القول ـ انعكاسات لحقيقة واقعة، على الرغم من أنّ لها اليوم سيّئ جدّاً.

------------------------------------
[1]*-أستاذ الفلسفة في "جامعة لي" الثالثة - فرنسا.
ـ العنوان الأصلي: Idelogie: le mot, l'idee, la chose.
ـ المصدر: METHODOS savoirs et textes No 8- 2008, www.revues.org/1843
ـ تعريب: هدى الفقيه ـ مراجعة: د. جاد مقدسي.
[2]. أمانويل جوزيف سييس
[3]. برومير: الشهر الثاني في التقويم الجمهوريّ الفرنسيّ
[4]. coup d’ةtat du 18 brumaire: انقلاب 18 برومير: هو الانقلاب الذي قام به نابليون بونابرت في 18 برومير السنة الثامنة (9 تشرين الثاني 1799)، أطاح بحكومة المديرين، وأوجد بدلاً عنها حكومة القناصل، وكان نابليون فيها القنصل الأوّل.