البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الديمقراطية بما هي منتج إيديولوجي ( استقراء المسار التاريخي )

الباحث :  شهريار زرشناس
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 6 / 2017
عدد زيارات البحث :  2282
تحميل  ( 477.542 KB )
يرمي المفكر الإيراني شهريار زرشناس في هذا البحث إلى الحديث عن صلة الإيديولوجيا بالديمقراطية على المستويين النظري والتاريخي. ويقرر في هذا الإطار أن الديمقراطية هي الأساس النظري والإطار الواقعي لنشوء كلّ الإيديولوجيات. أما حجته في ذلك فتعود حسب قوله إلى أن الليبرالية والقوميّة والفاشيّة و... وكلّ النظريات الحداثية الأخرى هي وليدة الديمقراطية.

إلى هذا يدرس الكاتب الأسس النظرية للإيديولوجيات آنفة الذكر، ويستثني من ذلك نظرية اللاّسلطويّة، لأنها برأيه لم تعد ذات أهميّة بالغة في العالم المعاصر، ولأن أسسها الإيديولوجية لم تكن بارزة.

نشير إلى أن هذه المقالة هي فصل من كتابٍ صدر للكاتب مؤخراً في إيران تحت عنوان: «المباني النظرية للغرب المعاصر».

المحرر

لا تعني المطالبة بالديمقراطية ـ على خلاف ما هو مشهور ـ المطالبة بالحريّة، إذ لا يوجد أي تلازم منطقي وذاتي بين الديمقراطيّة والحريّة. فحتّى الفاشيّة بصفتها إيديولوجية حديثة تمثّل وجهاً من وجوده الديمقراطيّة، فالأخيرة هي جوهر الفكر السياسي الحداثوي.

لقد انتشرت إبّان عصر التنوير وتزامناً مع نشوء الحداثة، عقيدةٌ تفيد بأن الإنسان لا يحتاج إلى هداية الوحي والدين، وبإمكانه أن يؤدّي دور «المشرّع». لقد أنيطت بموجب هذه العقيدة مهمة «التشريع» للإنسان وأصبحت من أهم الخصائص التي أفرزتها الحداثة ومنحتها للإنسان. كانت الأنظمة الملكية المطلقة في أوروبّا طوال القرون الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر تمنح «حق السلطة» و«حق التشريع» للملك، ولكن الديمقراطيات الحديثة [المتأصلة في أفكار «جان بودان»[2] و«سبينوزا»[3] وفلاسفة عصر التنوير من أمثال «جون لوك»[4] و«جان جاك روسو»[5] تعطي هذين الحقَّين للشعب [دموس]. لقد اختلفت الإيديولوجيات في تحديد مصداق الـ«دوموس/الشعب»، إذ عدّت الليبرالية الكلاسيكية الطبقات الثريّة والمتوسطة في المجتمع التي تستطيع دفع الضرائب هي «الدوموس»، وفيما ذهبت الماركسيّة إلى أن مصداق الـ«دوموس» هي الطبقة «البروليتارية»[6]. أمّا القوميّون فقد عدّوا القوميّة أو المنتمين إلى عرقٍ معيّن هم الـ«دموس»، فيما أولت المدرسة النسويّة الجانب الأنثوي اهتماماً بالغاً في المجتمعات الإنسانية الحديثة «الدموس».

خلاصة القول إنّ الديمقراطية بمعنى حاكمية «الدموس/الشعب» وحقّه في التشريع، تستقل عن أطر الشرائع السماويّة التي تمنح حق التشريع إلى الله سبحانه. إن للديمقراطيات الحديثة ميزات إنسانيّة (Humanism) وترى مصداق «الدموس/الشعب» في الفئات الإنسانية الواسعة كالقوميات أو الطبقات الاجتماعية. أمّا الليبرالية المصطبغة بالديمقراطية الاشتراكية إبّان القرنَين التاسع عشر والعشرين فإنها تعدّ حق السلطة للـ«دموس/الشعب» وفق المعنى العام الذي تحمله هذه الكلمة. ولكن لمّا كان «الناس» غير متفقين دوماً على أمر واحد ولمّا كانت لفظة الـ«دموس/الشعب» تمثل مفهوماً اعتباطياً وفاقداً للمصداق، لذلك ظهرت نظرية «حق الأكثرية»، واعتمدها الليبراليون الديمقراطيون ذوو الميول الاشتراكية وعدّوا الديمقراطية مرادفة لحقّ الأكثرية في التشريع؛ وبطبيعة الحال أفرز هذا الموقف إشكاليات عديدة حول العلاقة بين الأكثرية والأقليات. ثمّة فلاسفة من أمثال «جون لوك» و«جان جاك روسو» و«مونتسكيو»[7] و«جون ستيوارت مل»[8] و«هيغل»[9] يعَدّون من أقطاب الديمقراطية الأوائل ومنظريها الأساسيين بصورها المختلفة، فللديمقراطية صور عديدة كالفاشيّة التي تعدّ «الجنس الآري» مصداقاً للـ«دموس/الشعب» وتستقي في الوقت ذاته الأسس النظرية الموجودة في نظرية «العقد الاجتماعي» لدى «جان جاك روسو» المتأصلة في آراء «فيشته»[10] و«هيغلـ«، وبالتالي هي نتاج التلاقح بين اشتراكية الدولة والقوميّة الاستعلائية.

الأسس الفلسفية للديمقراطية، قراءة نقدية:

إن الديمقراطية هي الوجه السياسي للعالم الحديث. لقراءة الأسس الفكرية والفلسفية للديمقراطية يمكن التنقيب في أسسها الأنطولوجيّة والإبيستمولوجية والسياسية.

لدراسة الأسس الأنطولوجيّة بإمكاننا عدّ ثلاث خصائص رئيسة للديمقراطية:

1ـ أصالة عالم الناسوت أو المجال الناسوتي لوجود الإنسان

2ـ الإنسانيّة (Humanism)

3ـ تقديم تعريف إنسانيّ [نفسيّ] للبشر والقول بأصالة احتياجات الإنسان التي هي بمنزلة تأصيل أهواء الإنسان النفسانيّة.

إن الفكر الحداثوي لا يؤمن بتسلسل مراتب العالم التي تصل إلى مراتب غيبيّة، ويرى أن مرتبة الناسوت وحد هي واقعيّة. حتّى إذا كان مؤمناً بوجود المراتب الغيبيّة فإنه يعزو الأصالة للناسوت. إن القول بأصالة الناسوت هو من متلازمات الإنسانيّة(Humanism). ليس هذا فحسب، بل إن الفكر الإنساني (Humanism) مبنيٌّ على أصالة الجانب الناسوتي لوجود الإنسان ويعرّف الإنسان بصفاته النفسيّة فحسب. إن الإنسان كمّا تراه هذه المدرسة هو نظام متناسق من الاحتياجات الجسميّة والنفسيّة، وهو مجبولٌ في إطارٍ نسميّه في الموروث الديني بـ«الأهواء النفسيّة». إن أصالة الأهواء كامنة في ذات المدرسة الإنسانيّة؛ لأنّها تعدّ الإنسان مستقلاً عن الوحي وغنيّاً عن هداية الوحي والتعاليم السماويّة.

إن الفكر الديمقراطي ينظر للإنسان وفق التعريف الذي تقدّمه المدرسة الإنسانيّة، ومن هنا تصبح احتياجاته وإرادته أساساً للتشريع. وبهذا يتوضّح لنا بأن الديمقراطية أيضاً تؤمن بأصالة الأهواء النفسيّة لدى الإنسان. إن القول بأصالة الأهواء النفسية تتبلور تارةً على الصعيد الفردي وفي إطار «الديمقراطية الليبرالية»، وتتبلور تارةً أخرى على الصعيد الجمعي وفي إطار «الديمقراطية الاشتراكيّة والفاشيّة والقوميّة».

أمّا فيما يتعلّق بالمحور الإبيستمولوجي فيمكن أن نعدّ الخصائص التالية للديمقراطيّة:

1ـ النسبويّة[11]

2ـ النفعيّة[12]

3ـ الكميّة

إن المفكّرين المؤسسين للفكر الديمقراطي يرون أن الحقيقة قضية نسبيّة ويعتقدون باستحالة تلقي الحقيقة المطلقة، لذلك عرضوها في إطارٍ نسبي وقرروا أن «رأي الأكثريّة» هو المعيار للحقيقة. في الواقع لمّا تغيب القاعدة الواضحة واليقينيّة لتلقي الحقيقة، يصبح مبدأ هشّ كرأي الأكثريّة معياراً للحقيقة. إن الفكر الديمقراطي يرى أن الحقيقة لدى الأكثرية والحقّ معها. إذا كانت الأكثرية وفق هذا الرأي هي ذاتها المُعبّر عنها بـ«دموس» وهم كلّ الأفراد بما فيهم الوضعاء والوسطيين في المجتمع، سيكون رأياً بعيداً عن أيِّ أساس معرفي رصين. لأنه لا يوجد أي دليل عقلي أو بديهي أو تجريبي أو تاريخي يشير إلى أن رأي الأكثرية في مجتمعٍ ما [الأكثرية التي يشكلها «الوسطيون/الطبقة الوسطى» في كلّ بلد] هو رأي صائب بالضرورة.

هذا الاعتقاد بأحقيّة رأي الأكثرية يوضّح المنحى الكمّي في أسس الديمقراطية. إن النظام الديمقراطي يفترض بأن الرأي الصحيح والحق في كلّ المجالات هو ذلك الرأي الذي يكون عدد المقتنعين به أكثر من غيره، وهذا ليس إلّا انحيازاً للمنهجية الكميّة[13]. إن العقل في المدرسة الإنسانيّة هو عقل يعوّل كثيراً على الكميّة ويصدّق بمعطيات هذا المنهج، فكما أسلفتُ فإن هذا الميل للنهج الكمّي يتجلى في الاعتقاد بأحقيّة رأي الأكثرية. فضلاً عن ذلك ثمّة تناقض كبير آخر تستبطنه الديمقراطية. يتمثل هذا التناقض في جمع الديمقراطية بين النسبويّة والتيقن في آنٍ واحد. بمعنى أن الديمقراطية بعد أن تبيّن نسبية الحقيقة تأتي وتقول بلغة يقينيّة وقاطعة إنّها ــ أي الديمقراطية ــ هي أفضل نظام فكريّ سياسي واجتماعي وهذا هو تناقض بعينه. لأن اطلاق الحكم القاطع والمتيقن يتعارض مع مبادىء (النسبويّة/Relativism).

أمّا في الإطار الإبيستمولوجي فإن الفكر الديمقراطي يعتمد «البرغماتية». أي إن النتيجة العمليّة لفرضيةٍ ما هو المعيار في تشخيص صحة الفرضية من عدمها. فمثلاً يقول «ويليام جيمز»[14] البرغماتي الأميركي الشهير حول وجود الله: (إذا كان الاعتقاد بوجود الله يمنح لحياتكم اطمئناناً وسكينة فهذا يعني أن الله موجود.) من الواضح أنّ هذه الرؤية وهذه المنهجية في الاستدلال تشير إلى الطابع النسبوّي في الأسس الإبيستمولوجية ولا يوجد هناك ماهية وغاية أخرى في الأمر.

القواعد السياسية للديمقراطية:

1ـ تعريف مفهوم «السيادة» وفق مبادىء المدرسة الإنسانيّة (Humanism): السلطة وفق هذا النهج هي حق من حقوق الإنسان المستقل عن الوحي. بناءً على هذا الأساس يُستبدَل المبدأ القائل بأن «الحكم لله» بمبدأ آخر يفيد بأن أصل الحكم أو السيادة مستقلٌّ وللإنسان، وليس لإنسان ينوب عن الله ويتبع شرعه. في بدايات العصور الحديثة كانت الدول الملكيّة الأوروبيّة تقرّ بأصل الحق الإلهي في الحكم والممنوح للملك، ولكن ما كان أي أثر للشرع الإلهي وقانون السماء في أرض الواقع، وكان الحكم السائد يتمثل بإرادة الملك واستبداده. ولكن اعتبرت «السيادة» إبّان القرنَين السابع عشر والثامن عشر حقّاً من حقوق الناس، وتأصّلت على الصعيدَين النظري والعملي كلٌّ من الإنسانيّة وكبح شهوات الأفراد [أوالأكثريّة] في إطار ما يسمّى بالديمقراطية.

2ـ الاعتقاد بأحقّية رأي «الأكثرية/دموس»: سبق أن أشرت إلى هذه الفقرة في سياق الحديث عن النهج الكمّي في الفكر الحداثوي.

3ـ أصالة التعاقد: تفترض الديمقراطية الحديثة أن المجتمع السياسي الدولة تشكّلا وفق «عقد اجتماعي» وبناءً على هذا الأساس اجتمع الأفراد وشكّلوا الدولة. يرى «توماس هوبز»[15] وهو من منظري فكرة العقد الاجتماعي بأن هذا العقد يُبرَم مرةً واحدة وللأبد ولا يوجد أيُّ حقٍّ للاعتراض والانقلاب عليه. في حين يعدّ «جون لوك» للعقد الاجتماعي شروطاً ومستلزمات، إذ يرى أنّ للأفراد الحق في التمرد على الحاكم إذا لمسوا عدم رعايته لبنود العقد.

على أيّ حال فإن نظرية «العقد الاجتماعي» على خلاف المعتقدات الإغريقية والرومانيّة لا تعدّ الإنسان مدنيّاً بالطبع، بل ترى أنّ الأفراد يُعرَّفون بفرديتهم [الفرديّة في الإطار النفسي] ومن ثمّ يجتمعون ويبرمون «عقداً اجتماعياً»، وبهذا يولد الاجتماع السياسي والدولة.

تمثّل نظرية العقد الاجتماعي أساس الفكر السياسي الحداثوي والديمقراطي، وإن ركنها الرئيس يفيد بأن الفرد الواحد هو ذئب مفترس بالقوّة أو بالفعل للفرد الآخر. ولأن لكلّ الأفراد ميولاً نفسانيّة ويريدون تحقيق هذه الميول يحدث تعارضاً في المصالح، وإن الحلّ لمعالجة هذه المشكلة هو أن يخضع الجميع «للإرادة الاجتماعية» التي أفرزها العقد الاجتماعي [وفق رأي روسو] أو للدولة الليبرالية الناتجة من هذا العقد [وفق رأي لوك]. الفرق بين الحالتين هو أن روسو يرى بأن على الجميع قبول ما جاء بالعقد الاجتماعي ليكونوا ملزمين برعاية بنوده، وبالتزامه بالعقد يمنح حقوقه كلّها للدولة. أما رأي «لوك» فغالباً ما يراعي مصالح التجّار وأصحاب رؤوس الأموال البريطانيين في القرن السابع عشر. أمّا «روسو« فإنه يبلور صورة ثابتة لعلاقة المواطنين بالدولة وغالباً ما يهتم بالطبقات الفقيرة والمعدمة في المجتمع الفرنسي إبّان القرن الثامن عشر.

4ـ قيام الإنسان بالتشريع: يتمثلّ أحد أركان الديمقراطية بمبدأ حق التشريع بوساطة البشر. إن الفكر الديني الأصيل المبني على «التوحيد في الربوبية التشريعية» يؤمن بأن حق التشريع هو من حقّ الله، ولا يستطيع البشر أن يمارس التشريع. كلّ ما يمكن للإنسان فعله هو تدوين الضوابط والمقررات والأصول القانونية لتنظيم الحياة اليومية، على أن يكون ذلك وفقاً للشريعة السماوية. أمّا الفكر الحداثوي فينكر التوحيد في الربوبية التشريعية، ويستند إلى الشرك الكامن في أفكار المدرسة الإنسانية ليصبح الإنسان بذلك صاحب حق التشريع وذا شأن في ذلك. كما أسلفنا فإن أحقية الإنسان أو أحقية العقل المنقطع عن الوحي في التشريع وسن القوانين يُعَد من الأسس السياسية للديمقراطية. تسنّ وتشرع القوانين والضوابط في النظام الديني استناداً على أساسيات الفكر الديني والقانون الإلهي الثابت، إذ تستلهم كل التشريعات في النظام الديني من الشرع الإلهي ولا يجوز الخروج عن إطاره. أما الفكر الديمقراطي الذي يعدّ الإنسان مستقلاً عن الوحي فإنه يملك حق التشريع ويقوم بذلك بناءً على هذا الأساس. ولأن هذا البشر يُعَد كائناً مستقلاً وذا احتياجات نفسانيّة فبالتالي لا تكون أحكامه التشريعية إلّا نتاجاً لاحتياجاته وتمنياته النفسية.

5ـ العلمانية: إن الفكر الديمقراطي المبني على استقلالية الذات الفرديّة ينكر أي هداية غيبيّة ودينية ويترتب على هذا الإنكار إزالة القداسة عن المقدسات وجعلها أموراً عرفيّة ودنيويّة. من هنا يتبلور معنى العلمانيّة. إن العلمانيّة تزيل القداسة عن القضايا الدينية وتقصي الدين عن كلّ شيء. تتحقق هذه الخصوصيّة في السياسة بنَفي السياسة المرتبطة بالدين والمعنويات الدينية والمعنوية واثبات السياسة المبنيّة على الاحتياجات النفسيّة [أي الديمقراطية]. إذاً فإن للديمقراطية جوهراً علمانياً.

البحث عن مفهوم الشرعية في الرأي العام: إن شرعية الدولة وفق المنظور الديني هي أمر سماوي. إن دولة المعصوم8 تستمد شرعيتها من جوهرها الإلهي والقدسي ولا تحصل هذه الشرعية بتأييد الأفراد ودعمهم. أي إذا لم يؤيد الناس الحكومة فإن الشرعية الإلهيّة باقية ولا تزول. في هذا الإطار يمكننا التمييز بين الشرعية والمقبولية. إن الدولة الدينية تستمد شرعيتها من ماهيتها الدينية وليس من رأي الأكثرية وتوافقهم. أمّا في الأنظمة الديمقراطية فإن الرأي العام ورأي الأكثرية يعد معيار الشرعية، إذ إن الكيانات الديمقراطية في ذاتها غير دينية وعلمانيّة.

إن السياسة وفق الفكر الديمقراطي هي عبارة عن آلية للحفاظ على السلطة لأغراض دنيوية بحتة، أو لتأمين متطلبات حياة الأفراد. إن الحداثة لا تتبنى مشروعاً تربوياً لنمو الأفراد وكمالهم المعنوي. إن السياسة وفق المنظور الحداثوي هي مجرد فن أو علم لإدارة المعيش وحياة الأفراد الماديّة، ولذلك تتميز بطابع مادي صِرف. هذا هو معنى السياسة الفارغة من أيّ غاية روحانية تكاملية.

إن الديمقراطية في ظاهرها هي حكومة عامة الشعب ولكنها في الباطن تمثّل حكومة البيروقراطيين أصحاب السلطة، كالنموذج الديمقراطي الاشتراكي المطبّق في الاتحاد السوفيتي وفي دول أروبا الشرقية، أو في حكومة النخبة السياسية المنتمية لمجموعة من العصابات أو الفئات الاجتماعية الدُنيا [الديمقراطيات الفاشيّة]، أو هي حكومة أصحاب الأموال الطائلة والشركات متعددة الجنسيات والكارتلات[16] الدوليّة والاقتصادية والصناعية، وذلك عن طريق تسيير الرأي العام ورأي الأكثرية بصورة غير مباشرة [الديمقراطيات الليبرالية]. إن الديمقراطية مبنيّة على إرضاء أهواء الإنسان ويتبلور ذلك في تأصيل الأهواء الشموليّة، [كالأنظمة الشموليّة الاشتراكية أو القوميّة أو الفاشيّة] أو في تأصيل الأهواء الفرديّة، كالكيانات الديمقراطية الليبرالية.

إن الديمقراطية الحديثة بشتّى صورها [الليبرالية، الاشتراكية، الفاشيّة] مبنيّة على أساس القراءة الحداثويّة لمفهوم «السلطة» وإن الشموليّة[17] كامنة في جوهر هذا المفهوم. إن السلطة في إطارها الحداثوي تميل للهيمنة والقمع والانتشار والتسلط الشامل، لأنها مبنيّة على رؤى نفسانيّة. إن ما يبعد السلطة عن الهيمنة الفاسدة هو الحدّ الشرعي وكذلك الهواجس المعنوية القدسية لدى الفرد الذي يمارس السلطة. في الواقع إن النفوذ الديني والمعنوي مبنيٌّ على الولاية [أي القرب]، ولمّا تتمركز مثل هذه السلطة في فرد أو في جماعة فإنها لا تفسد ولا تتحول إلى الاستبداد، وذلك للإمدادات الواصلة من الأنوار القدسية. بمعنى أن العدالة والتقوى تمنعانه عن ذلك. أمّا «السلطة» في مفهومها الحداثوي ووفق ما ما تقرّه الديمقراطية، على الرغم من تعرضها لتفكيك ظاهري في نطاق الليبرالية، إلّا أنها في الباطن تتميز بوحدة ومركزيّة شاملة ومطلقة، إذ تسيّر بوساطة أجندات حكوميّة أو مؤسسات ماليّة خفيّة، ولذلك فإن لها جوهراً شمولياً أو كلياً!!. ولهذا السبب أقول إنَّ الكيانات السياسية الليبرالية الديمقراطية تشبه الحكومات الاشتراكية البيروقراطية من حيث الشموليّة. غير أن شموليتها تتبلور على الصعيد الاجتماعي، وإنها شموليّة خفيّة غير مُعلنة.

إن الديمقراطية لمّا تترجم السياسة في إطار الأهواء الفرديّة والطبقيّة فإنها ستمثّل إرادة «الجمع» أو «القطيع» في صورة قوميّة شوفينية، أو ستكون تجسيداً لإرادة عدد من الطبقات الاجتماعيّة. إن الديمقراطية تمثّل نظاماً تسود فيه الإيديولوجيات، وإن كلّ واحدة من هذه الإيديولوجيات تعبّر بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن أهواء طبقة اجتماعيّة معينة أو مجموعة معينة من الطبقات. فعلى سبيل المثال إن الديمقراطيات الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وفي شرق أوروبا تحافظ على مصالح البيروقراطيين في الدولة وطبقة النخبة في تلك المجتمعات التي كانت تراعي بين الفينة والأخرى أهداف الطبقة الأرستقراطية العماليّة[18]. أمّا الديمقراطية الفاشية التي قدّمها الحزب النازي بزعامة هتلر فإنها كانت تعمل لمصلحة الجماعات الغوغائية[19] والعناصر التي ائتلفت وحازت السلطة باسم الحزب النازي. كان هذا الائتلاف متناغماً مع مصالح أصحاب رؤوس الأموال والمصانع الألمانية الذين فقدوا معظم أموالهم إثر الضغوط الاقتصادية التي سببتها الحرب العالمية الأولى.

أمّا الديمقراطية الليبرالية في دولٍ كبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وألمانيا الحديثة فإنها تحافظ بصورة وأخرى وبنسبٍ متفاوتة على مصالح أصحاب رؤوس الأموال والتجار وأقطاب الكارتلات الاقتصادية والنفطية والمافيات القوية كالماسونية ومجلس العلاقات الخارجية[20] وأمثالهما. أمّا على صعيد المبادىء والغايات فإن آفاقها برجوازية ورأسمالية، وفي الجانب الاجتماعي فإن الكيانات الديمقراطية ولاسيما الديمقراطية الليبرالية هي وليدة الرأسمالية ومن متبنياتها.

يمكن سرد الانتقادات الموجهة للديمقراطية في النقاط الآتية:

القسم الأول من الانتقادات موجهة للأسس الابيستمولوجية والأنطولوجية، كالانتقادات التي تناولت المدرسة الإنسانيّة والنسبويّة والكميّة والنفعيّة/البرغماتية، وسأتجاوز هذا القسم رعاية للاختصار ولعدم التكرار.

أمّا القسم الثاني من الانتقادات فإنها تختص بالأسس السياسية للديمقراطية:

أولاً: إن مفهوم «الشعب» وسلطة الشعب [دموس] هو مفهوم غامض واعتباطي؛ لأنه يستحيل في الغالب تحقيق سلطة الشعب مع الاعتناء بآراء كل الأفراد. إذاً فإن «حكومة الشعب بالشعب» هو أمر متناقض. إلّا إذا قلنا بحكومة مجموعة من الشعب على سائر أفراد الشعب. كأن نقول مثلاً: حكومة أكثرية الشعب.

ثانياً: ثمّة إشكال يكمن في مسألة «حكومة الأكثرية» وهو عدم وجود أي دليل عقلي واستدلالي يثبت ضرورة خضوع الأقلية للأكثرية؛ لأننا إذا لم نلتفت إلى مسألة الشرعية الدينية، سوف لا نجد أي دليل عقلي يوجّه ويبرهن إتّباع الأقلية من الأكثرية، خاصة إذا كانت الأكثرية ضعيفة بالنسبة للأقلية [مثلاً تكون بنسبة 51 بالمائة]. فضلاً عن ذلك، حتى إذا افترضنا بأن الأقلية ستسلّم أمرها لسلطة الأكثرية حفاظاً على الاستقرار وابتعاداً عن أي صراع، من أين ستستمد هذه الأكثرية مصدر شرعيتها؟ ولماذا لا يجوز للأقليّة التمرد على الأكثرية فيما حصلت على فرصة مواتية؟

ثالثاً: أيُّ دليلٍ عقلي أو تجريبي أو تاريخي يبرهن صحّة رأي الأكثريّة؟ ثمّة نماذج كثيرة تبيّن بأن الأكثرية أخطأت في اختيارها، كالدعم الجماهيري الواسع الذي حصل عليه نظام هتلر وكذلك الدعم الجماهيري لستالين والدعم الشعبي الواسع لنابليون الثالث إبان الانتخابات الفرنسية في ديسمبر1851م. هذه الوقائع التاريخية تدلّ على أن الأكثرية قد تخطئ في اختياراتها وتتصرف خلاف مصالحها الدنيوية. هنا نتساءل مرةً أخرى ما الدليل العقلي أو التاريخي يفسّر ضرورة إتباع آراء الأكثرية التي تكون مخطئة في أغلب الأحيان؟ ألم يقل القرآن الكريم: «أكثرهم لا يعقلون» وفي آية أخرى «أكثرهم لا يشعرون»؟

رابعاً: ألا يفترض إناطة مهام الدولة كأيّ عملٍ آخر إلى المتخصِّصين؟ إذا كانت غاية الدولة إيجاد العدالة ونشر الحريّة، فكيف لنا أن نسترشد بآراء الأكثرية غير المتخصّصة للوصول إلى هذه الغايات المباركة؟ إذا مرضنا، هل نتوسّل برأي الأكثرية والجماهير أم نستعين بالمتخصّص في علاج الأمراض؟ لماذا نظن بأن هداية المجتمع وإيصاله إلى محطات العدالة والتربية وتهذيب الأفراد هو عمل يجب أن تتصدى له الأكثرية؟ هذا هو الانتقاد الذي وجهه أفلاطون للديمقراطية.

خامساً: إن الديمقراطية بسبب توجهاتها الكميّة تساوي بين رأي كل من العالم والجاهل. في حين أن رأي العالم هو أثمن وأصوب من رأي الجاهل ويختلف عنه في كلّ الجوانب. هل من المعقول أن نحيل طريقة علاج مريض ملقى على فراش الموت للاستفتاء الشعبي وأن نساوي في هذا الاستفتاء بين رأي الطبيب الحاذق ورأي موظف البريد والحارس والبقّال، ومن ثمّ نختار بناءً على نتائج هذا الاستفتاء طريقة علاج المريض؟

سادساً: ثمّة ظاهرة خطيرة في الأنظمة الديمقراطية تسمّى بالتدخل غير المباشر، وهي طريقة ذات تأثير بالغ في سوق الرأي العام وفي ما يسمّى بـ«صناعة الرأي». إن مراكز القوى والأيادي المتمولة الخفيّة وراء الكواليس تعمل على تلقين مصالحها بطرائق غير مباشرة، إذ تسوق الجماهير أو الأكثرية نحو أهدافها. هذه هي أحدى أكبر الإشكاليات الواردة على الأنظمة الديمقراطية، ولاسيما الليبرالية منها.

سابعاً: إن غاية الدولة هي هداية المواطنين ومساعدتهم في المجالات التربوية وتنمية الجوانب المعنوية، أو في أضعف الإيمان تتمثل غاية الدولة في تهيأة ظروف مناسبة تساعد على تحقيق هذه الغايات. أما القوانين والضوابط من وجهة نظر الديمقراطيين لم تألف مصالح الإنسان الحقيقية واحتياجاته لتنمية الروحية، فلذلك تعجز عن تلبية هذه الاحتياجات؛ وكما أسلفتُ إن الديمقراطيات لا تتبنى مثل هذه القضايا والأمور، وهذا يعد ضعفاً ونقصاً بحدّ ذاته، إذ إنّ الأنظمة الديمقراطية تهتم بمعاش الناس وإدارة شؤونهم وحسب ولا بأيّ شيءٍ آخر.

ثامناً: إن الأنظمة الديمقراطية غيّرت «الحق» و«اتباع الحق» نسب التصويت. إن الديمقراطية في أصلها لا تبحث عن الحق والحقيقة ولا تعتقد بها أصلاً. إنها تدور في فلك الكميّة ورأي الأكثرية، ولا تعتدّ بالحق ومصالح الأفراد الوجودية.

تاسعاً: إن كلّ الأنظمة الديمقراطية النيابية في كل أنحاء العالم لم تعالج إشكالية اختلاف الرأي بين النائب ومن يمثلهم. بمعنى آخر إذا كان رأي نائب ما مختلفاً عن رأي من يمثلهم، فعندها ماذا سيكون الحل؟ وكيف سيستمر تمثيله للأفراد؟ ولاسيما وأن مصدر شرعية النائب هو صوت الناخبين. في مثل هذه الحال إذا اختلف رأي النائب مع رأي الناخب فكيف ستعالج قضية شرعية النائب؟

الليبرالية، الإيديولوجية المناسبة للرأسماليين

إن الإيديولوجية الرئيسية في الغرب الحداثوي التي أصبحت الفكرة المهيمنة على الأفكار السياسية والاجتماعية في الغرب هي «الليبرالية». الليبرالية مأخوذة من كلمة «Liber» بمعنى «الحريّة». لمّا استُعمِل مصطلح الليبرالية في القرن السابع عشر كانت الكلمة تدلُّ في حينها على الفسق وعدم الالتزام بالضوابط الأخلاقية الدينية. ولكن بعد أن انتشرت آراء «آدم سميث»[21] الاقتصادية إبان القرن الثامن عشر وبعد انتشار آراء «جون لوك» السياسية وآراء «شارل مونتسكيو« في مجال الفصل بين السلطات وكذلك آراء «فولتير» حول التساهل والتسامح الديني، ولا سيّما الآراء الاقتصادية التي نشرها الفيزيوقراطيون[22] والكلاسيكيون، تحوّلت الليبرالية إلى إيديولوجية حديثة.

في منتصف القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر والعشرين، أصبحت الليبرالية إيديولوجية واضحة المعالم. تعود بدايات نشوء الفكر الليبرالي إلى نهايات القرن السابع عشر. إن كلّاً من «جون لوك» (1704) و«ديفيد هيوم» (1776) البريطانييَن و«شارل منتسكيو« (1755) و«فرانسوا فولتير» (1778) الفرنسييَن، وكذلك «آدم سميث» (1790) الاقتصادي البريطاني يمثلون أقطاب الفكر الليبرالي. إن النواة الأولى والمكونة للفكر الليبرالي هي «الحريّة». ولكنّ للحرية وجوهاً مختلفة، وعند الحديث عنها يجب الإجابة عن هذا السؤال المهم: «التحرر من ماذا؟» و«الحريّة لأجل ماذا؟»

إن مفهوم الحرية في الإطار الليبرالي يُعرَض في ثلاثة أوجه:

1ـ الحرية الأخلاقية والدينية

2ـ الحرية السياسية

3ـ الحرية الاقتصادية

إن المفكرين الليبراليين أولوا هذه المحاور الثلاثة اهتماماً عند توضيحهم لمفهوم الليبرالية. فعلى سبيل المثال تحدّث «جون لوك» ــ الذي يمكن أن نعدّه الزعيم الفكري الأول لليبرالية ــ عن كلّ من هذه المحاور الثلاثة. أمّا سائر منظري الليبرالية فقد تناول كلّ منهم محوراً من هذه المحاور دون الآخر، ولكن برغم كلّ ذلك فإنها موجودة في أكثر التنظيرات التي أفرزها هؤلاء.

إن الليبرالية تتطلب للوهلة الأولى «التحرر من القيود الأخلاقيّة والدينيّة»، وإذا أمعنّا النظر نرى أن ذلك هو المعنى الرائج في القرن السابع عشر. كانت القيود الأخلاقيّة والدينية تقبّح الحياة المتأثرة بالأهواء النفسية والدنيوية، وترفض الإفراط في جمع الثروات وأكل الربا وتحوّل الإنسان إلى كائن طمّاعٍ أسير الاحتياجات الدنيوية، إذ يكون همّه الأول والأخير كنز المال. كان الليبراليون يرومون التحرر من هذه «القيود الأخلاقية والدينية»، ليتمكّن التجّار والمرابون وأصحاب المصانع من جمع الثروات وكسب الأرباح وتضخيم رؤوس الأموال ومن دون أيّ قيود دينية وأخلاقية. لقد كانت المضامين الحقيقية في تعاليم التطيهريين أو (البيوريتانيين)[23] ومجمل آراء البروتستانيين مواكبة لمطالب الليبراليين، إذ أدت مثل هذه الآراء إلى فكّ القيد الأخلاقي عن ضمائر أصحاب رؤوس الأموال، وجعلتهم يكنزون الأموال ويمارسون الاستثمار بضمير مرتاح. كما أن الليبراليين أيضاً بأنكارهم القيود الأخلاقية والدينية راحوا يبحثون عن حرية النفس الأمّارة في الحياة الدنيوية الملأى بالأرباح واللذات. بالطبع كان جُلّ توجه الليبراليين منعطفاً نحو تهيئة بيئة مناسبة ليتمكن أصحاب رؤوس الأموال من كسب الأرباح ومن دون أي تأنيب للضمير وبارتياح مطلق.

على الرغم من ذلك فإن الليبرالية قد تناولت أيضاً الجانب السياسي في مفهوم «الحريّة» ودعت في إطار مطالبتها بالحرية إلى تحرر أصحاب رؤوس الأموال والبرجوازيين الجُدُد من القيود الارستقراطية والإقطاعية المهيمنة آنذاك على السلطة السياسية. كانت الليبرالية باستعمالها شعار «الحريّة» روجت لمفاهيم أخرى كـ»الفصل بين السلطات» و«النظام البرلماني»، وسعت في أواخر القرن السابع عشر وفي جزء من القرن الثامن عشر إلى تحديد سلطة الملك لتمنح جزءً منها للطبقة البرجوازية. وفي نهايات القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر كان الليبراليون يسعون لتطبيق «الحريّة» بغية الاستحواذ الكامل على السلطة.

كان البرجوازيون وأصحاب رؤوس الأموال يتبنَّون هذه المفاهيم الجديدة كـ»الفصل بين السلطات» و«نقل السلطة إلى البرلمانات» التي انتشرت إبّان القرنَين السابع عشر والثامن عشر. لأنهم بتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات يستطيعون الاستحواذ على جزء من السلطة. بمعنى آخر إن الفصل بين السلطة القضائية والتنفيذية والتشريعية يسمح للبرجوازيين بالهيمنة على البرلمان (السلطة التشريعية)، وبهذا سيحصلون على قسط من السلطة السياسية. لأن القوى التنفيذية والقضائية كانت تحت تصرف الملك والطبقة الارستقراطية والإقطاعيين. في بعض الدول الملكية كفرنسا كان الملك هو صاحب السلطة المطلقة، وكان البرجوازيون يسعون إلى تحديد صلاحيات الملك وذلك من خلال رفع الشعارات الليبرالية والاستعانة بقوة البرلمان، الأمر الذي أفرز نظاماً ملكيّاً دستورياً أو جمهوريّاً ليبراليّاً، تهيمن عليه الطبقة البرجوازية. كان الليبراليون يطالبون بحريّة الصحافة، لأن فيها نشرٌ لأفكار التنويريين البرجوازيين، وإن احتكار الصحافة سيؤدي إلى انتشار البرجوازية. ثمّة محور مشترك بين الشعارات السياسية والدينية والأخلاقية التي رفعها الليبراليون للمطالبة بالحريّة، وهي مصالح أصحاب رؤوس الأموال، أي الطبقة البرجوازية. ولاسيما وأن الإنسان من وجهة نظر الليبرالية هو كائن برجوازي.

يتمثّل الوجه الآخر من الشعارات الليبرالية المطالبة بالحرية بـ«الحريّة الاقتصادية». إن الليبرالية تؤمن بالحرية الاقتصادية، أي إن الحرية في جمع الثروات والرغبة في جمع المال يجب ألّا يحدّها أي رادع أخلاقي وديني وسياسي، ويجب ألّا تتدخل الدولة في ذلك. إن الليبراليين يعتقدون بأن هناك يداً خفيّة تدير الأمور، وإذا سعى كلّ فردٌ في تحقيق مصالحه وبطريقة أنانيّة فستتحقق مصالح المجتمع كلّها. عرض الليبراليون هذه الفكرة في إطار ماسمّوه بـ«اقتصاد عدم التدخل»[24].

أثبتت التجارب التاريخية والواقع العيني أن المشروع الذي تتبناه الليبرالية خاطىء جملة وتفصيلاً. لمّا يقوم فرد رأسمالي بجمع الأموال واحتكار سائر الإمكانات، ستُحرَم فئات اجتماعية أخرى بقدر ما يحتكره من مال، لأن القدرات الماليّة محدودة، وبالتالي سيتفشى الفقر وعدم المساواة. لذلك يعتقد النقّاد بأن الليبرالية تسبب في نشر الفقر والفواصل الطبقيّة وعدم رعاية المساواة والعدالة.

إن الاقتصاد الليبرالي المبني على مبدأ «الحريّة الاقتصادية» هو بيان صريح للمطالب البرجوازية. إن الإيديولوجية الليبرالية في الإطار الاقتصادي تدافع بقوّة عن مطالب أصحاب رؤوس الأموال، وتُعَد المتحدثة باسمهم، حتّى وصل الأمر بأقطاب الفكر الليبرالي إلى أنهم لا يتحرجون مطلقاً من تأكيد هذا الموقف. إن الليبراليين الكلاسيكيين الذين لم يواجهوا بعد الحركات الاعتراضية من قبل الطبقات الفقيرة، كانوا يحصرون حقّ التصويت بطبقات متموّلة معينة ويعدّون الأثرياء هم من يملكون العقل وحدهم.

إن الأفكار العلمانية لدى البرجوازية والتصدي للطبقة الأرستقراطية والإقطاعيين تكمن وراء شعار التسامح والتساهل الذي رفعته الليبرالية. ولكن هذا التسامح يتوقف عند حدود معينة، إذ إنّ كبار الليبرالية كـ«كارل بوبر» و«استيليش» قالوا صراحة إنّ الدولة الليبرالية يجب ألّا تتساهل مع الأفكار التي تناهض «المجتمع» و«العقل» الليبراليَين.

إن الغاية الحقيقة التي تبتغيها الليبرالية من وراء «الدعوة إلى الحرية» هي «التحرر من الدين والأخلاق»، و«التحرر من أجل إرضاء النفس الأمّارة». بعبارة أخرى إن الغاية الأخلاقية والسياسية والاقتصادية من «الحريّة» في المنظور الليبرالي هي الحرية في الأفق النفساني، وإن البرجوازية تجسّد في هذا المضمار النفسيّة الإنسانية المستثمرة والظالمة في العصر الحديث.

يمكن تلخيص الأسس الأنطولوجية والابيستمولوجية والسياسية لليبرالية في النقاط الآتية:

1ـ الإنسانيّة (Humanism): إن الليبرالية هي إيديولوجية إنسانوية، لأنها تعدّ الإنسان كائناً مستقلاً بذاته، وقد تجذّر هذا التوجّه من المنظور الفلسفي في الذاتانية[25] لدی ديكارت.

2ـ الذريّة[26] من المنظور الحقوقي والاجتماعي: تعتقد الليبرالية بأن الأفراد هم ذرّات منفردة، يتبعون إراداتهم النفسيّة. أي إن كل فرد هو بمنزلة ذرّة مستقلة قائمة بذاتها. تُستَمدُّ هذه النظرية من الفردانيّة[27] الديكارتية ومن نظرية «المونادات»[28] لدى «لايبنتس»[29]. أمّا من الناحية الحقوقية أيضاً فإن الفرد ــ وفق هذا المنظورــ هو ذرّة مستقلة قائمة بذاتها، وبناء على هذه الفرضية تصبح الحقوق «فرديّة».

على الرغم من أن الليبرالية من الناحية الحقوقية هي نظرية ذات طابع فرداني وذرّي، وعلى الرغم من أنها تعدّ «المجتمع» مفهوماً اعتباريّاً، ولكن في مجال ممارسة السلطة تصبح الليبرالية رقيبة على الفرد، وتتحقق هذه الرقابة من خلال الهيمنة على «الرأي العام»، و«الصحافة البرجوازية»، و«لغة الإعلام» والتشجيع لثقافة الاستهلاك والتنويع، وهذا ما يوضّح التوتاليتارية الاجتماعية الكامنة في ذات الليبرالية. إن الفرد المراقَب في السلطة الليبرالية لا يتسنّى له لمس الجانب المعنوي في فرديته، وبالتالي لا تتحقق بالكامل تلك الصفات الخاصة المتجذّرة في «دوره الوجودي» والحكمة من خلقه، وتتعطّل الطاقات الروحيّة والفطريّة الموجودة لدى الأفراد.

3ـ التجريبية (الإمبريقية)[30] والوضعيّة[31]: إن الإبيستمولوجية الليبرالية هي تجريبيّة ووضعيّة. إن أغلب الليبراليين كانوا يصرحون أو يلمحون بتوجههم الوضعي في المجال الإبيستمولوجي. إن المنظور الذري لا يتواءم تماماً مع الإيمان بالجماعيّة[32]، إن الفلسفة الوضعيّة تتلاءم أكثر مع الصبغة النفسانية والناسوتية في الليبرالية.

4ـ الحريّة الليبرالية تعني عدم التعرض لحريّة الآخرين: إن كلّ ذرة نفسيّة ــ حسب التعبير آنف الذكر ــ تبحث عن مصالحها، ولا يحدّها أي شيء في سبيل تحقيق احتياجاتها النفسية، إلّا إذا تعارضت هذه الحريّة الممنوحة للنفس مع حريّة فرد آخر. يغفل هذا التعريف للحرية، العدالة والغاية من النمو والكمال الإنساني، إذ يُعَد الإنسان حرّاً حتّى وإن عمل على مخالفة الحقيقة والعدالة والمصلحة الإنسانية، ويبقى حرّاً بشرط ألّا يحدّ حريّة فرد آخر، ويمثّل هذا التعريف توجهاً نفسانيّاً بحتاً.

5ـ حقوق الإنسان: إن النظام الحقوقي الذي تقدّمه الليبرالية مبنيٌّ على الاعتقاد بالحقوق الذاتية لكلّ «فرد» بصفته «ذرّة نفسانيّة» أو «ذرة». إن كل فردٍ ـ وفق هذا المنظورـ يمثّل ذرّة نفسانيّة تتعرف إلى حقوقه بالاستناد إلى احتياجات النفس الأمّارة ومطالبها، ومن دون الاعتناء بالغاية الكليّة من نموّ الإنسان وكماله والعدالة والحقيقة. إذاً فإن نظام «حقوق الإنسان» الليبرالي يتعارض تماماً مع المنظور الديني لحقوق الإنسان الذي يعدّ الفرد عبداً لله ومخلوقه، ويرى له حقوقاً وواجبات. إن الفرد وفق المنظور الليبرالي لـ«لحقوق الإنسان» هو كائن مستقل بذاته ولا يحتاج إلى إرشادات الوحي، ولذلك تعدّ جذوره استكبارية.

إن نظام «حقوق الإنسان» الذي عرض في القرن الثامن عشر كان صورة مطوّرة لمفهوم «الحقوق الطبيعية» الذي عُرض إبّان القرنَين السادس عشر والسابع عشر. أمّا الآن فإن الأنظمة الليبرالية تنظّم علاقات الأفراد في مجال الحياة المدنية وعلى الصعيد القضائي بالاستناد إلى المنظور الليبرالي لمفهوم حقوق الإنسان. [أي بناءً على النفعيّة النفسية لدى كلّ فرد، باعتباره «حق فردي»].

إن حقوق الإنسان الليبرالية تعدّ الإنسان كائناً مستقلاً بذاته وتابعاً لاحتياجاته النفسية، وبناءً على هذا الاعتبار تنظّم له الحقوق والواجبات. أمّا في الفكر الإسلامي فإن الإنسان هو مخلوق الله وعبده، وبناءً على هذه العبوديّة يتبلور له نظام من «التكاليف ـ الواجبات»، وهذا ما يمثّل الفرق الجوهري بين هذين النظامين الحقوقيَين. إن الليبراليين يعدّون «حقوق الإنسان» مطلقة، ويرون أن أي تعريف آخر للتكاليف والحقوق مخالفٌ لحقوق الإنسان. في حين إن ما يسمونه بحقوق الإنسان ما هو إلا افتراضات ذهنية نابعة من الصراعات النفسانيّة ولا شيء آخر. إن كلّاً من «جان جاك روسو« و«فرانسوا فولتير» و«جان استيوارت ملـ« هم من المنظرين الأوائل الذين تناولوا نظرية «حقوق الإنسان».

6ـ الفصل بين السلطات: بلور أقطاب الليبرالية نظرية «الفصل بين السلطات» من أجل الحدّ من سلطة الملك وسائر النبلاء والإقطاعيين، وليحصلوا على جزء من السلطة. لقد تبوّأ البرجوازيون مراكز السلطة السياسية بدءً من أواخر القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر. لقد كانت نظرية «الفصل بين السلطات» طوال هذه الفترة بمنزلة توجيه فكري لممارساتهم السياسية، إذ كانوا يدّعون أنهم يعتمدون مبدأ «الفصل بين السلطات» وقايةً من التمركز السلطة وحدوث الاستبداد والدكتاتورية.

غير أن مفهوم «السلطة» هو مفهوم مغيِّر، ومحدِّد ومؤثِّر. ولأنه مبنيٌّ على أصل «الإطلاق»، حتّى وإن تفكك ظاهرياً فإنه متحد في الباطن وغير متكثّر. لذلك فإن تمركز السلطة حاصلٌ في المجتمعات الليبرالية بشكلٍ من الأشكال، إذ غالباً ما يكون ذلك بيد السلطة التنفيذية أو البرلمان. ولكن هذا التمركز والوحدة الباطنيّة للسلطة تظهر بغطاءٍ يفككها صوريّاً، إذ يبدو الفصل حاصلاً، ولكنه في الحقيقة خدعة. إن مبدأ «الفصل بين السلطات» ما هو إلّا غطاء ظاهري لإخفاء التمركز، بل هو استبداد السلطة في الدول والمجتمعات الليبرالية. إن معالجة إشكالية «السلطة» والوقاية من استعمالاتها التعسفية لا تكون بفصل السلطات. بل بتأكيد أصل الولاية، بصفتها الجانب الباطني للدولة، وبالتالي استبدال الولاية المعنوية بالسلطة الدنيوية. إن الأصل في مثل هذه المقولة ــ كسائر المقولات ــ هو حضور الروح الإلهية أو الشيطانية. إن الاستبداد بالرأي [سواءً علي الصعيد الفردي أو رأي الأكثرية، أي الديمقراطية] هو نتيجة عدم الالتزام بالتقوى والحضور القُدسي والشهود الديني. فيما لو غاب هذا الحضور والتقوى سيكسب القانون المبني على أساس الحاجات النفسيّة ماهية استبدادية ويكون باطن الاستبداد النفساني. على أيّ حال فإن الفصل بين السلطات هو أمر صوري، ولا يغيّر ماهيّة السلطة. إن الحل يكمن في الولاية القُدسية المبنيّة على الولاية الإلهية.

7ـ النظام البرلماني: إن الاعتقاد بمبدأ النظام النيابي أو البرلماني هو من أهم خصائص الأنظمة الديمقراطية الليبرالية. لطالما كانت البرلمانات ـ بدءً من القرن السابع عشر ـ مظهراً لإرادة أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب المصانع، إذ كانوا يعتمدون آليات مختلفة من قبيل الصحافة والرأي العام من أجل تسيير الناس نحو أغراضهم السياسية.

إن الليبرالية هي إيديولوجية ديمقراطية، ولذلك تتأثر بنقاط ضعف الديمقراطية وزلاتها. إن الأنظمة الليبرالية مبنيّةٌ على التعريف النفساني للإنسان واحتياجاته، ولذلك تعتمد مثل هذه الاحتياجات والأغراض الدنيويّة في التشريع وممارسة السلطة. يمكن توجيه بعض الانتقادات لفكرة النظام النيابي ومبادئه النظرية وآليات عمله، وسنتناول ذلك في موضع آخر.

8ـ التساهل والتسامح: كانت أوروبا تعاني الحروب والصراعات الدينية طوال القرنَين السادس عشر والسابع عشر، حتّى تحولت هذه النزاعات إلى مانع كبير أمام الوحدة الوطنية وتأسيس الدول الحديثة. كان الليبراليون بطرحهم فكرة التساهل والتسامح يبحثون عن بيئة مناسبة تحدّ من الصراعات الفئوية والدينية، وبهذا استطاعوا تهيئة الظروف لنشوء الدّول القومية والمركزية.

إن الأساس النظري لمبدأ «التساهل والتسامح» مبني على النسبويّة(Relativism). بما أن الليبراليين كانوا يعدّون الحقيقة أمراً مجهولاً ولا يرون أصولاً قدسية وسماويّة للدين، عدّوا العقائد الدينية من بناة أفكار البشر وقالوا بأن النزاعات العقائدية واهية. ولذلك سعوا في تهيئة اطارٍ جمعوا فيه العقائد الدينية المنحرفة والصحيحة والسماوية معاً اعتماداً على مبدأ «التساهل والتسامح». كلّ ذلك من أجل عدم المساس بالنظام والأمن الاجتماعي. من المؤكد أن المبدأ الرئيس في العمل وممارسة السياسة في الدول الليبرالية مبني على التوجهات العلمانية. لذلك يمكن أن نقول إنّ التساهل والتسامح الليبراليَين مبنيان على الاعتقاد بالنسبويّة والاعتقاد بعدم سماويّة الأديان. أمّا الغاية من وراء ذلك هو الحفاظ على الوضع الراهن وسيطرة دولة البرجوازيين.

9ـ النسبويّة: إن الليبرالية تؤمن بالنسويّة من الناحية الإبيستمولوجية والأخلاقية. فعلى الصعيد الأخلاقي لا تؤمن الليبرالية بأي معيار أخلاقي ثابت ومطلق، إلّا بـ«أصل التلذذ». أي كلّ ما كان يحقق اللذة فهو «خير»، وكلّ ما لم يحقق اللذة ويؤدي إلى المشقة هو «شرّ». إن أساس التلذذ والتألم في الفكر الليبرالي نابع من ألم الجسم ولذته. وعلى هذا الأساس يكون مفهوم الخير ومفهوم الشر ومعاييرهما في إطار الأخلاق الليبرالية تابعين للذة الأفراد ومشقّتهم، ولا يوجد أي معيار عقلي أو قدسي مطلق آخر، إذ يكون الأمر متغيراً ونسبيّاً تبعاً لأحوال الفرد النفسيّة. يؤكد «جيمز بنتام» و«جون استيوارت مل» صراحةً على الأسس النفسيّة والجسدية للأحكام الأخلاقية.

10ـ عدم تدخل الدولة في الاقتصاد: تعتقد الليبرالية الكلاسيكية بأن عدم تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية هو من أجل إطلاق عملية كسب الأموال. إن الأزمات الاجتماعية والنزاعات التي أحدثتها هذه النظرية والفقر الذي سببته في الطبقات المعدومة جعل الليبراليين ذوي التوجه «الاشتراكي ـ الديمقراطي» يعملون تعديلاً في هذه الفكرة، إذ قدّموا بعض الحلول وقالوا بضرورة تدخل الدولة في بعض الأمور لحماية الطبقات المحرومة، وتبلور هذا الأمر في مجالات مختلفة كالتأمين الصحي ومعالجة البطالة. كان ذلك من أجل الحد من الاعتراضات وحدوت الثورات.

11ـ العلمانيّة: إن الليبرالية هي إيديولوجية علمانيّة بالذات، وهذا نابع من جذورها الإنسانية. إن جوهر الفكر الإنساني في كل مجالاته، ولاسيما في مجاله السياسي هو جوهر غير قدسي وعلماني، وإن الليبراليين يؤكدون هذه العَلْمَنة.

إن الإيديولوجية الليبرالية التي نشأت في حدود القرن السابع عشر، نمت وانتشرت شيئاً فشيئاً، حتّى صارت في نهايات القرن العشرين تتمثل بالتيارات الثلاثة الآتية:

1ـ الليبرالية الكلاسيكية: التي اشتهرت على الصعيدين النظري والتطبيقي (في المجال السياسي) بدءً من النصف الثاني للقرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر. إن «جون لوك» و«بنتام» و«آدام سميث» يمثلون أقطاب الليبرالية الكلاسيكية.

2ـ الليبرالية الاشتراكية: انتشر هذا النوع من الليبرالية في بدايات القرن العشرين. تتمثل أسباب نشوء هذا التوجه الليبرالي بالأزمات الاقتصادية والاعتراضات الشعبية العارمة التي عمّت العالم من قبل الكادحين ضد ظلم الليبرالية الكلاسيكية والأنظمة الليبرالية. تبلورت الليبرالية الاشتراكية في آراء «برنشتاين»[33] و«كائوتسكي»[34] ومن ثمّ في «الشيوعية الأوروبية». كان هذا التيار الليبرالي يعتقد بأن على الدولة التدخل في الشؤون الاقتصادية في حدود معينة لتقضي على البطالة، وقاية من حدوث أي تمرد اجتماعي. كان لـ«جون مينارد كينز»[35] أحد أقطاب نظرية «الدولة المرشدة» دوراً مهماً في بلورة نظرية الليبرالية الاشتراكية من الناحية الاقتصادية. كانت السنوات التي أعقبت الحروب العالمية، والعقود الخامسة والسادسة والسابعة من القرن العشرين تمثّل فترة الازدهار السياسي لليبرالية الاشتراكية في أوروبا وإلى حدٍّ ما في أميركا. يمثّل «جون رولس»[36] أحد منظري الليبرالية الاشتراكية في النصف الثاني من القرن العشرين.

3ـ النيوليبرالية[37] أو الليبرالية الجديدة: إن الأنظمة التي تطبق الديمقراطية الاشتراكية استطاعت الحد من حدوث الثورات الشعبية عن طريق احتكار اليد العاملة وثروات الشعوب المضطهدة في العالم الثالث وتخصيص جزء يسير من هذه الثروات لتقديم الخدمات للمواطنين في الدول الرأسمالية. لقد أدّى هذا الأمر إلى انخفاض أرباح المستثمرين في القطّاع الخاص وضخّ الأموال لمصلحة الدولة، الأمر الذي يؤدي إلى وقوع خسائر ماديّة لدى الليبراليين والرأسماليين على مدى الطويل.

إن الركود الاقتصادي الذي واجهته الأنظمة الرأسمالية في الدول التي طبقت الديمقراطية الاشتراكية خلق أزمات كبيرة لدى تلك الدول، وهذا ما أدّى إلى إعادة النظر في أسس الليبرالية الكلاسيكية، وبالتالي ظهور ليبراليةٍ أخرى بحُلّةٍ جديدة. على الرغم من أن الليبراليين الجُدد كانوا يصبّون جلّ اهتمامهم على التصدي لتدخل الدولة ومقابلة الاعتراضات الجماهيرية، إلّا أنهم أو ْلَوا على مكونات الليبرالية الكلاسيكية اهتماماً بالغاً للحفاظ على استمرارية نهب الثروات من قبل الرأسماليين.

يبدو أن الليبرالية الجديدة الغربية تفتقر إلى أسس نظريّة قويّة، لاسيما وأنها ظهرت كتيار سياسي مسعور يروم تقويض كل الأسس السياسية الأخرى. إن كلّاً من «مارغاريت تاتشر»[38] و«جون ميجر»[39] في بريطانيا و«رونالد ريغان»[40] و«جورج بوش»[41] في الولايات المتحدة يمثلون تيار اليمين في الليبرالية الجديدة. أمّا على صعيد الفكر والفلسفة فإن «كارل بوبر»[42] كانت له توجهات ليبرالية جديدة واضحة.

إن استمرار الأزمات الاقتصادية في الأنظمة الرأسمالية لن تسمح لليبراليين الجدد بالمناورة والنشاط. إن الليبرالية الجديدة كنظريتها الكلاسيكية تحمل صورةً عنيفة، وهي على خلاف الديمقراطية الاشتراكية لا تتمتع بهياكل حزبية داعمة وشعارات مخادعة.

يمكن سرد الخصائص الاجتماعية والطبقية في الأنظمة الديمقراطية ذات التوجه الليبرالي كالآتي:

أولاً: إنها تعتمد شمولية (توتاليتارية) معقّدة وخفيّة. إن الشمولية هي آلية للهيمنة على الرأي العام عن طريق أجهزة الإعلام.

ثانياً: إن ماهية الأنظمة الديمقراطية ذات التوجه الليبرالي تتميز بهيمنة رأس المال، وهذا ما يسبب تفشي الفواصل الطبقية والتمييز الطبقي. على أن هذه الفواصل الطبقية هي أقل من نظيراتها في المجتمعات في دول العالم الثالث التي تقلّد الديمقراطية الليبرالية.

ثالثاً: إن الدول الديمقراطية ذات التوجه الليبرالي هي كلها قوى امبريالية[43] (أي رأسمالية حصرية) ويكمن داخلها الذات المهيمنة والمتجاوزة والقامعة.

رابعاً: يتمثل الركن الأساس والرئيس في الأنظمة الليبرالية الديمقراطية باستبداد صاحب رأس المال. إن مفردات رئيسة كـ«القانون» و«الحرية» و«حقوق الإنسان» يجري تعريفها في النظام الليبرالي في إطار مصلحة رأس المال واستبداده، وهي بالأساس مفاهيم صوريّة.

خامساً: نظراً للنزعة النفسانيّة الكامنة في الدول الديمقراطية ذات التوجه الليبرالي فإنها تصبح أسيرة الاغتراب[44] وهذه هي صفات المجتمعات المتجذرة في مبادىء المدرسة الإنسانية (Humanism) والعدمية.

الاشتراكية: الأسس النظرية والأصول الاجتماعية

تعود جذور الاشتراكية بصفتها ايديولوجية إلى السنوات الأولى التي أعقبت الثورة الفرنسية. إن الثورة الصناعية والضغوط التي سببها الاقتصاد الليبرالي على الطبقات الفقيرة هيأ الظروف لنشوء ايديولوجية جديدة.

استُعمل مصطلح «الاشتراكية/Socialism» لأوّل مرّة في «مجلة التعاون»[45] التي كانت تروّج لأفكار «روبرت أو ين»[46]. ولكنها أصبحت مصطلحاً سياسياً في عام (1832) بعد أن استعملتها صحيفة «غلوبـ«[47] العائدة لـ«سان سايمون»[48].

يُعَد «روبرت أو ين» و«سان سايمون» من مؤسسي الفكر الاشتراكي، وقد سمّاهم «كارل ماركس» بالاشتراكين الطوباويين أو المثاليين». ولكنني هنا سأبحث في الاشتراكية بصفتها ايديولوجية حديثة. وقبل كلّ شيء يفترض تعريف لفظة «الاشتراكية/ Socialism» من الناحية اللغوية. إن كلمة «Socialism» مشتقة من كلمة «Socilare» بمعنى الاتحاد والائتلاف والمشاركة. وكلمة «Socil» التي تعني التعاقد القانوني والرسمي بين المواطنين، وتتضمن في الوقت نفسه معنى العلاقة العاطفية والصداقة والتعاون بين الأفراد.

تبلورت الاشتراكية بصفتها ايديولوجية في العالم الحديث إبان العقدَين الثاني والثالث في القرن التاسع عشر، وفي آراء «سان سايمون» (1825م) و«شارل فورييه»[49] (1837م) و«روبرت أو ين» (1858م) واشتهرت في صور مختلفة كـ«الاشتراكية المسيحية» و«الاشتراكية الصنفية» و«الاشتراكية الأخلاقية» و«الاشتراكية الماركسيّة».

وعلى الصعيد التنظير يمكن لمس ملامح الاشتراكية في الثورة البريطانية في القرن السابع عشر وثورة الفلاحين المعروفة بحركة اللولريين. ولكنها اشتهرت في أدبيات الفكر السياسي الأوروبي في عام (1832).

إن الاشتراكية هي ايديولوجية حديثة وصورة من صور الديمقراطية. تؤمن الاشتراكية بأصالة «الشعب/الدموس» وبسلطة النفس الأمّارة. إلّا أن الإيديولوجيا الاشتراكية على خلاف غيرها تؤمن بأصالة «النفس الأمّارة الجمعية» وتعدّها مصداقاً لـ«دموس».

يمكن إيجاز الأسس النظرية للاشتراكية في المحاور الآتية:

1ـ الإنسانية ذات النزعة النفسانيّة (Humanism).

2ـ القول بأصالة النفس الأمّارة الجمعيّة بصورة نسبية أو مطلقة وعدّها مظهراً لإرادة (الدموس/الأكثرية).

3ـ الاعتقاد بمفهوم «العمل ـ رأس المال» في إطاره الحداثوي.

4ـ الاعتقاد بمبدأ النمو والتطور

5ـ الاعتقاد بأصالة إرادة الأكثرية (الدموس) على الصعيد التشريع والتنفيذ.

إن هذه الأسس النظرية نجد ملامحها في النظرية الديمقراطية ذات التوجه الليبرالي، ولاسيما أن الاشتراكية هي كالليبرالية، إذ تُعَد إيديولوجية حداثوية انسانوية وبالطبع ديمقراطية. أمّا الفارق الذي يميز بينهما هو موقفهما من الديمقراطية ومفرداتها كـ«دموس» و«حكم الشعب» وطبيعة الحقوق والحريات.

إن الوجه المشترك الآخر بين الديمقراطية الليبرالية والاشتراكية يتمثل باتفاقهما حول مفهوم «العمل ـ رأس المال». إن «العمل» في الاقتصاد الحديث يُعرَّف في إطار متنافر ومهيمن وسلطوي وفي علاقته مع مفهوم «رأس المال». كما أن مفهوم «رأس المال» في الإطار الحداثوي لا يناظر مفهوم «الثروة» في إطارها ما قبل الحداثوي. إن «رأس المال» هو ثروة متراكمة فعّالة ومتنامية وذات نزعة انتهازية وسلطوية، إذ تراكم ذاتها في الوقت ذاته تُغيّر وتطوّر ما حولها. يمثّل «رأس المال» علاقة وجودية بين الإنسان الحداثوي بصفته «كائن/Subject» والطبيعة بصفتها «شيء/Object».

إن هذا المفهوم الحداثوي لـ«رأس المال» الذي له علاقة جدلية مع المفهوم الحداثوي «للعمل» لم يكن متداولاً في القرون الوسطى والعالم القديم. إن «رأس المال» يمثّل علاقة وجودية تستمد كيانها من قوّة «العمل» بمفهومه الحداثوي المهيمن على الطبيعة، وهو مفهوم يجسّد روح العصر الحديث.

إن الإيديولوجيا «الاشتراكية» تقرأ ـ كالليبرالية ـ مفهوم «رأس المال ـ العمل» في إطاره الحداثوي، وهذا ما نجده واضحاً في أفكار «كارل ماركس» الاقتصادية وآراء «روبرت أوين» وقراءته لآلية تنظيم العمل. وقد انعكست جلّ هذه الأفكار في آراء «كارل كاوتسكي»[50] و«فيلي برانت»[51] والاشتراكيين الديمقراطيين ذوي الميول الليبرالية والاقتصاديين الكلاسيكيين من أمثال «آدم سميث» و«دافيد ريكاردو«[52].

إن الفرق بين الاشتراكية الماركسية ذات النزعة الثورية مع الليبرالية الكلاسيكية لا يكمن في تعريفهما لمفهوم «العمل ـ رأس المال». بل إن الفرق يتمثل في رؤية الاشتراكية الماركسية لرأس المال، إذ ترى ضرورة استحواذ الدولة عليه، فهي (أي الدولة) من تمثل إرادة الأكثرية أو (الدموس). في حين ترجح الليبرالية أن يكون رأس المال بيد القطاع الخاص وأصحاب رؤوس الأموال الذين هم تشبه الذرات النفسانية التي تشكّل العصر الحديث. تدعو الليبرالية إلى أن يكون نشاط أصحاب رأس المال بعيداً عن الرقابة الحكومية أو تحت إشرافها وأن تجري عملية جمع الثروات بصورة مستقلة. لذلك فإني أعدّ «الاشتراكية» إيديولوجية ذات نزعة رأسمالية. لأنه حسب التعريف الذي قدمته للرأسمالية فإن الدول الاشتراكية أيضا تمثّل صورة من الدول الرأسمالية.

إن نشوء الأفكار الاشتراكية في أوروبا وأميركا إبان القرنَين التاسع عشر والعشرين هي نتيجة الفقر المتفشي الذي سببته الدول الليبرالية والأفكار الليبرالية والرأسمالية. إن هذا الفقر المدقع واستغلال الأطفال والنساء في العمل وكذلك بروز الفواصل الطبقية كان من نتاج هذه الأزمات المتعاقبة التي سببتها زيادة الإنتاج والبطالة. مثل هذه الأزمة جعلت بعض المهتمين أن يقدّموا حلولاً مثل فسح المجال لإشراف الدولة على عملية الإنتاج والتوزيع (وهي فكرة «سان سايمون»)، أو تأسيس جمعيات تعاونية (وهي فكرة «فورييه»)، حتّى إزاحة الدول الليبرالية ــ الرأسمالية وتأسيس دول عمّالية ذات توجهات اشتراكية (وهي فكرة «كارل ماركس»). كانت الغاية الأولى من وراء هذه الحلول هي القضاء على البؤس والحرمان والفقر المتفشي في المجتمعات. من بين هؤلاء المنظرين كان «برودون»[53] يرى بأن الحل يتمثل بالرجوع إلى النظام الزراعي التقليدي غير الصناعي الذي يهمين فيه الاقطاعيين الصغار، وذلك للتخلص من شر ضغوط الليبراليين.

يمكن وصف المحاور الرئيسة في الإيديولوجية الاشتراكية في النقاط الآتية:

1ـ الدعوة إلى الحد من الملكية الشخصية الكبيرة، بل في بعض المَواطِن إزالة أيّ ملكية شخصية.

2ـ تأكيد الدور الرقابي الذي تمارسه الدولة أو الكميونات[54] أو النقابات العمّاليّة والفلّاحيّة على عملية الإنتاج أو التوزيع أو على كليهما.

3ـ الالتفات النسبي إلى تأمين احتياجات الفئات المحرومة التي أُهْمِلت في النظام الرأسمالي الليبرالية، وهي طبقة كادحة محرومة من أدنى متطلبات العيش الكريم.

إن الإيديولوجية الاشتراكية تأخذ اتجاهات متعددة بحسب قراءتها للمحاور آنفة الذكر، ولاسيما أنّها تمثّل مجموعة من الأفكار تكون الاشتراكية الماركسية في جزء منها وفي جزء آخر تكون الاشتراكية الليبرالية. فالاشتراكية الماركسية تؤكد إزالة الملكية الشخصية والإشراف الحكومي على علمية الإنتاج والتوزيع، أمّا الاشتراكية الديمقراطية فإنها قد أدمجت تقريباً مع الليبرالية، والفارق الوحيد بينها وبين الليبرالية هو حمايتها من الطبقة الكادحة والمعدمة وطالبتها بنشر التأمين الصحي وتأمين العاطلين من العمل.

إن عملية اندماج الاشتراكية الديمقراطية بالليبرالية بدأت في العقد الأخير من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، وذلك عند هزيمة الاشتراكية الماركسية ذات النزعة الثورية وعند تبلورِ الاشتراكية الجديدة في كلٍّ من أوروبا وأميركا. لهذا يمكن أن نقول إنّ «الديمقراطية الاشتراكية ذات الطابع الليبرالي» تحوّلت شيئاً فشيئاً إلى الإيديولوجيا الرئيسة في العالم، وبهذا فقدت الاشتراكية كلّياً قوتها الثورية ضد الأنظمة الرأسمالية الليبرالية ونصف الليبرالية. ولاسيما أن الاشتراكية الماركسية ذات النزعة الثورية في أو ج اقتدارها وشهرتها لم تنجح في تجاوز حدود الرأسمالية الحديثة والعقل الحداثوي، وذلك بحكم العقائد المشتركة الموجودة في المدرستين كمبادىء المذهب الإنساني (Humanism) والاعتقاد بأصل التطور والقراءة الحداثوية لمفهوم العمل ورأس المال والديمقراطية.

يمكن وصف أبرز الاتجاهات الفكرية في المدرسة الاشتراكية في تاريخ الفكر الغربي في النقاط الثلاث الآتية:

1ـ الاتجاه المعروف بـ «الاشتراكية الخيالية»[55] التي كانت تدعو إلى الاصلاحات الفوقية وتأسيس تعاونيات في مجال الإنتاج والتوزيع. يمكن تعقّب جذور هذا الاتجاه في آراء «هوس» و«جون ويكليف»[56] الحركة الفلّاحية في بريطانيا.

وعلى الرغم من أن الاشتراكيات الخيالية إبّان القرن التاسع عشر في فرنسا وبريطانيا («سان سايمون»، و«فورييه»، و«أوين» أنموذجاً) لم تكن ثورية ولا راديكالية، إلّا أن هناك ملامح راديكالية في آراء «هوس» و«وايكليف» وأنصار الحركة الفلّاحية.

2ـ هيمنت النزعات الراديكالية والمتشددة على الاشتراكية الغربية خلال العقدَين السادس والسابع من القرن التاسع عشر وكان ذلك في إطار «الأممية الأولى»[57] وخاصة في نطاق الإيديولوجية الماركسية. تمثّل الماركسية أحد أهم وأبرز تطبيقات الإيديولوجية الاشتراكية المتطرفة طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كانت الماركسية تقدّم نفسها بأنها «علم القوانين المتكاملة في المجتمعات البشرية» وتدّعي أنّها أوسع من كونها مجرد فكرة أو حل سياسي.

على أيّ حال فإن الماركسية هي ايديولوجية منسجمة متناسقة، استمدت أصولها من الموروث الفكري والفلسفي الغربي طوال القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر.

وعلى الرغم من أن الماركسية اصطدمت بشدّة مع البُنى الرئيسة في النظام الرأسمالي الليبرالي وكانت تعمل ضد ذلك، ولكنها مع ذلك تُعَد صورةً من التوجهات الإيديولوجية في عصر الحداثة. وعلى الرغم من كلّ ذلك التطرف والممارسات العنيفة التي تحملها، إلّا أنها لم تقدّم حلّاً خارج حدود الحداثة. فقد كان ماركس يدين العمل «المغترب»[58] واستغلال الأفراد والاجحاف والظلم في النظام الطبقي، وتفشّي الفقر وتكدّس الثروات لدى فئة اجتماعية خاصّة. إلّا أنه لم يلتفت إلى أن الفقر والظلم وتكدّس الثروات، كل ذلك هو من المستلزمات الذاتية للحضارة الحديثة، وإن الأمر متجذّر في علاقات الفرد ذات النزعة الإنسانية (Humanism) مع عينه والعالم، وإن الحلّ الأمثل للخلاص من المشكلة هو تجاوز حدود البُنى الفكرية للمدرسة الإنسانية وأطر الحداثة ولا شيء آخر. ولكن ماركس كان مفكراً إنسانويّاً بامتياز، وكان يؤمن بأصل التطور وسائر المعتقدات السائدة في عصر التنوير المتعلقة بأصل العقل المنقطع عن الوحي. وقد بنى فرضياته الاقتصادية في الاطار الحداثوي لمفهوم «قيمة العمل» و«العمل ـ رأس المال» الذي تبلور على يد الاقتصاديين الكلاسيكيين. ولذلك أصبح عجْز الماركسية عن القضاء على مشاكل الحداثة تحصيلٌ لأمرٍ حاصل. وعلى الرغم من كلّ تلك الشعارات التي رفعتها لمناهضة الرأسمالية، إلّا أنها في النهاية بقت أسيرةً لهيمنة النظام الرأسمالي الحديث.

تتمثل تطبيقات الماركسية بالنموذج السوفيتي والصيني، إذ تبلورت من خلال هذين النموذجين فرضيات الإيديولوجية الماركسية على الصعيد العملي.

إن النموذج السوفيتي والصيني، وكذلك الأسس الحداثوية لفرضيات المدرسة الماركسية طوال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وأغلب العقود في القرن العشرين، كلّ ذلك يمثّل الصورة المهيمنة للاشتراكية الغربية في أرجاء العالم.

شهدت الاشتراكية الماركسية بعد وفاة ماركس في عام 1883 تطورات وانشقاقات كثيرة تَمثَّل بعض منها بأزمات فكرية وعملية عديدة. إن النموذج الذي طبّقه «برنشتاين» و«كاوتكسي»، وكذلك ظهور «اللينينية» و«الستالينية» و«الماويّة»[59]، هي بعض من هذه الانشقاقات. ومع تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الاشتراكي في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين تعرضت الحركة اليسارية الماركسية لتطورات نظرية وعملية عميقة وخرجت عن هيئته «السلطوية».

-3 ظهر مع بداية القرن العشرين توجّه سياسي جديد في إطار آراء اصلاحية أو تنقيحية[60] على يد «برنشتاين» و«كاوتسكي»، وبعض من الاشتراكيين الألمان والنمساويين والبريطانيين.

كان هذا التوجه الاشتراكي الجديد يؤمن ببعض مفردات النظام الليبرالي كالبرلمان والفردانيّة وحريّة أصحاب رأس المال في كسب الأرباح. اشتهر هذا التوجه في العقود الأولى من القرن العشرين وعُرف بـ «الاشتراكية الديمقراطية». إن أصحاب هذا الرأي يعتنون بالمُلكية الفردية وغاية ما يطالبون به هو إشراف الدولة على الصناعة ورؤوس الأموال الكبيرة. إن الاشتراكيين ذوي التوجه الديمقراطي لا يؤمنون بإحداث ثورة ضد النظام الليبرالي، بل يطالبون باصلاحات متدرّجة وقانونية وذلك من أجل ضمان حقوق الفئات الفقيرة والمحرومة.

عمل الاشتراكيون ذوو والتوجه الديمقراطي بزعامة «إيبرت»[61] الألماني و«سيدني ويب»[62] البريطاني وأمثالهم طوال العقدين الأول والثاني من القرن العشرين وأصبحوا من أبرز المنافسين للماركسيين. وعلى أعقاب الحرب العالمية الثانية حدثت تغييرات ايديولوجية في توجهات الأحزاب الشيوعية في فرنسا وايطاليا وتبلورت «الشيوعية الأوروبية»، ما أدّى إلى تعضيد مواقف الاشتراكيين الديمقراطيين. ومع حلول العقد التاسع من القرن العشرين وتزامناً مع الأزمة العالمية التي واجهتها الماركسية وظهور الليبراليين الغربيين الجُدُد، مال الاشتراكيون ذوو التوجه الديمقراطي إلى التوجهات الليبرالية أكثر من قبل، بل اندمجوا مع المدرسة الليبرالية وأمست الاشتراكية الديمقراطية ذيلاً لليبرالية أكثر من أي وقت مضى.

تمثّل آراء «جون رولس» أحد أبرز الأشكال النظرية للاشتراكية الليبرالية. وكما أشرنا آنفاً فإن الاشتراكية الليبرالية تؤمن بالمبادىء الرأسمالية الأصلية كالخصخصة والقيم البرجوازية في عصر التنوير. وفي الوقت ذاته لا تغفل مفاهيم مهمّة أخرى كالعدالة وتدعو إلى الحد من حدوث الأسباب التي تسببت في الاعتصامات الشعبية وتطالب بحماية الطبقات الفقيرة.

يتوقع بأن اندماج الاشتراكية الديمقراطية مع الصورة الليبرالية السائدة في القرن العشرين سيتحوّل بشكل متدرّج إلى التوجه الإيديولوجي السائد في الغرب وخاصّةً في أوروبا.

القومية، أسسها النظرية وحدودها

إن مفهوم «الأمّة/ Nation» هو مفهوم حداثوي، ظهر تدريجياً بعد عصر النهضة. كانت «الأمّة» في المنظور الديني تواكب المفردات الدينية، وثمّة تعابير رائجة بهذا الصدد كـ«ملّة الإسلام» و«ملّة إبراهيم». ولكن مفهوم «الأمّة» الحديث الذي تعادلة في الانجليزية كلمة « Nation» دخلت في بلدنا (أي إيران) إبّان الثورة الدستورية.

كما وأنّ هذا المفهوم لم يكن موجوداً في أوروبا القديمة والقروسطية، بل إن المجتمعات ما قبل الحداثة كانت تقسَّم حسب المبدأ القبلي أو العِرقي، أو الديني أو الجغرافي. إن مفهوم «الأمّة» الجديد ومصطلح القوميّة ظهر بعد عصر التنوير وخاصّة خلال القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر.

إن المبدأ المحوري القائل بأن «الحكم هو حقّ من حقوق الإنسان» هو من نتاجات عصر الحداثة، واعتماداً على هذا المبدأ أصبح استقلال الفرد ولاسيما الشعوب الناشئة يستند إلى اعتماد «حقّ السلطة». ففي الواقع إن «الذات النفسانيّة المستقلة» التي ظهرت إلى جانب مفهوم (الأكثرية/دموس) في العصر الجديد استمدّت أحد مصاديقها مما يسمّى بـ«الوعي القومي»، متبلورةً في مفهوم «الأمّة».

إن الأمّة أو «Nation» هي الصورة الحداثوية لمفهوم (الأكثرية/دموس) أو الشعب المستقل بذاته، إذ لا يستند إلى هو يته الطبقية ولا إلى معتقده الديني (مثل القرون الوسطى/ الأمّة الدينية)، بل يستند إلى «وعي قومي»، ويعتمد المبدأ القائل بأن «الحكم هو من حقوق الشعب».

يمكن سرد خصائص الفكر القوميّ في النقاط الآتية:

1ـ تقديم تعريف متناسق مع توجهات المدرسة الإنسانية عن البشرية.

2ـ الاعتقاد بأن مصداق هذا الإنسان المستقل بذاته يتمثّل في «الأمّة».

3ـ الاعتقاد باستحالة سلب «حقّ الحُكم» من الأمّة.

4ـ الاعتقاد بأن «الأمّة» هي مصدر شرعية السلطة.

5ـ الاعتماد على التعريف الحداثوي لمفهوم «السلطة».

6ـ الاعتقاد بأن المبدأ الأساس في تقسيم المجتمعات البشرية هو مبدأ «الدول القوميّة» المستقلّة ذات السيادة والشرعية في ممارسة السلطة.

7ـ إن المبدأ الأساس الذي تستند إليه «القوميّة» أو «العدالة القوميّة» هو «الوعي القومي» الذي يتجاوز الوعي العِرقي ويختلف أيضاً عن الوعي الديني والعقائدي.

8ـ العلمانية.

إن «القوميّة» هي ايديولوجية يصعب وضعها في إطار دقيق، إذ تتميز بهوية مشتتة. ولكن يمكن تلخيص حدودها الرئيسة في النقاط آنفة الذكر.

يرى «أندروفنسنت»[63] في كتابه «الإيديولوجيات السياسية الحديثة» بأن كلمة (nation) مشتقة عن لفظتين لاتينيتين، هما (nasci) بمعنى الولادة و(natio). ويعتقد بأن كلمة (nation) ظهرت كاسم في اللغتين الانكليزية والفرنسية خلال القرن الرابع عشر الميلادي. مع ذلك فإن مؤرخي الإيديولوجيات يعتقدون بأن «القومية» بصفتها إيديولوجية قائمة بذاتها هي من نتاجات القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وعند نمو الطبقة البرجوازية واتساع القوّة الاقتصادية لدى الرأسماليين الأوروبيون إبّان القرنَين السادس عشر والسابع عشر، حتّى أواسط القرن الثامن عشر. كانت هذه الطبقة المهيمنة تدعو إلى إزاحة القيود والموانع المحلية والاقطاعية لغرض التجارة ولتوحيد الضوابط الكمركية وتوحيد العُملة ومنظومة القوانين والحقوق، وقد وجدوا الآلية المناسبة لتحقيق ذلك تتمثل بـ«القوميّة»، وفي إطار «الدول القوميّة».

إن المنفعة الاقتصادية لدى هذه الفئة لعبت دوراً في إيجاد مركزية حديثة ووحدة وطنية وقوميّة نظّمت واختزلت كلّ الفئات والطبقات الاجتماعية والأنظمة والمؤسسات وكذلك السلطة السياسية والعسكرية والاقتصادية، تحت ما يسمّى بـ«الدولة القوميّة»، التي كانت تضمن مصالح البرجوازيين.

على الرغم من أن البرجوازية تمثّل تجسيداً مثالياً لروح الحداثة، وأصبحت مفهوماً شاملاً وعالمياً، إلّا أنها كانت بحاجة إلى ترويج القوميّة على مدى أربعة قرون، بدءً من القرن السادس عشر حتّى القرن التاسع عشر، وحتّى طوال بعض العقود من القرن العشرين. لقد كانت الغاية من ترويج القوميّة طوال هذه الفترة هي الحفاظ على مصالح أصحاب رؤوس الأموال الغربيين.

تطوّرت هذه المساعي الجادّة للحفاظ على النظام الرأسمالي بعد المنتصف الثاني من القرن العشرين إذ تصدّت لذلك مراكز رؤوس الأموال والقوى المتنفذة في أميركا وأوربّا وخاصّة الائتلاف الصهيوني الماسوني، وتكللت هذه الجهود بالدعوة إلى تأسيس حكومة عالمية واحدة تضمن المطالب والاحتياجات والرغبات البرجوازية واليهودية في العالم الحديث، حتّى أصبح أمراً شاملاً واسعاً لا يمكن قهره.

كان التجّار وأصحاب المصانع والمرابون طوال القرنَين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا يطالبون بتأسيس دول قوميّة حديثة تستند إلى وعي قومي وجماهيري، وروّجوا للقومية من أجل ذلك. وفي القرن التاسع عشر كان الرأسماليون في ايطاليا وبروسيا[64] من أبرز الداعين إلى الوحدة القوميّة ومن الداعمين للفكر القومي والحركات القوميّة.

مرّت القوميّة بثلاث مراحل على مدى تاريخها وهي كالآتي:

1ـ القوميّة الثورية الأولى في أوروبا طوال القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر.

2ـ القوميّة الشوفينية (الاستعلاء والهيمنة على العمل).

3ـ القوميّة المناهضة للاستعمار لدى الشعوب المضطهدة في القرن العشرين.

كانت القوميّة الأولى طوال القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر تستمد مبادئها من آراء «جان جاك روسو« و«هردر»[65] و«فيخته»، وإلى حدٍّ ما من «هيغلـ«، مع الاعتماد على بعض نظريات «ميكيافيلي»[66] و«جان بودان» في بعض الدول كإيطاليا وألمانيا. لقد كانت آراء الأخيرَين تدعو إلى إنشاء دول قوميّة وإيجاد وحدة سياسية ومناهضة قوانين النظام الاقطاعي والارستقراطي. ولذلك اصطبغت بطابع ثوري. وبهذا صعد نجم القوميّة ذات النزعة البرجوازية مع الاتحاد القومي في كلٍّ من ألمانيا وإيطاليا إبّان القرن التاسع عشر. فضلاً عن ذلك فإن القوميّة الأولى كانت ذات نزعة رأسمالية.

هيمنت في القرن العشرين نزعة متطرفة وعنيفة على الفكر القومي، إذ تحوّلت إلى تعصّب عرقي واستعلائي متطرف، وعرفت بـ«القوميّة الشوفينية»، وراجت في بعض المجتمعات الغربية كإيطاليا وألمانيا وإسبانيا، وكانت مدعومة كسابقتها من قبل أصحاب رؤوس الأموال حتّى العسكريين والعوائل الملكيّة، ولكنها جوبهت من قبل التوجهات القوميّة الإمبريالية في سائر الدول وهُزمت في نهاية المطاف.

ظهرت القوميّة الشوفينية إبّان الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918م) في بعض الدول الأوروبية كفرنسا والنمسا وألمانيا حتّى اليابان. كما أن هذا التوجه القومي مثّل أحد الأركان الإيديولوجية لدى الحزب النازي في ألمانيا إبّان الحرب العالمية الثانية.

انتشرت التوجهات القومية خلال القرن العشرين في بعض الدول الشرقية كالصين وإندنوسيا ومصر وإيران وغيرها من الدول الأفريقية والأميركية اللاتينية. كانت هذه النزعة القوميّة مناهضة للاستعمار، ولكنها رغم تحقيقها بعض المكاسب هُزمت وزالت في نهاية المطاف. (سوكارنوفي إندنوسيا وجمال عبدالناصر في مصر ومحمّد مصدّق في إيران).

ولأن الاستعمار والإمبريالية ظاهرتان حداثويتان ذاتا نزعة رأسمالية، فلا شكّ بأن القوميّة في المجتمعات المضطهدة والمناهضة للغرب سوف لا تصمد في حربها مع الغرب، ولا تنجح في التخلص من الهيمنة الإمبريالية. فعلى الرغم من أنها تهيمن على السلطة في هذه الدول، ولكن بعد مضيّ بضعة عقود تُدمَج ضمن النظام العالمي والرأسمالي. لأن القوميّة هي إيديولوجية حديثة متجذّرة في أسس الفلسفة الغربية الحديثة وتوجهات المدرسة الإنسانية (Humanism) وهي من أركان العالم الحداثوي الرأسمالي.

أفِلَ نجم القوميّة خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين وخاصّة بعد زوال «الناصرية» في مصر وكذلك اندلاع الثورة الإسلامية في إيران التي تناهض الإمبريالية وأسس الحداثة الغربية. على الرغم من كلّ ذلك فلا تزال بعض شرارات القوميّة المتطرفة متّقدة وموجودة في بعض المناطق الأوروبية كالبلقان وسلوفاكيا، والتي يمكن أن نعدّها اعتراضاً وصرخةً ضد سلطة العقل الحديث ونتاجاً لاهتراء النظام الرأسمالي، إذ يعبّر عنها بصورة محرّفة وبمشاعر عِرقيّة متطرفة. هذا لأن الحضارة الغربية منذ القدم كانت أسيرةً للتعصب العِرقي.

يمكن تعقّب الأسس الإيديولوجية لدى الفكر القومي في آراء «ميكيافيلي» و«جان بودان» و«جان جاك روسو» و«فيخته» و«هيغل» وفي القرن العشرين لدى «تشامبرلين»[67] و«روزنبرغ»[68].

الفاشية: إيديولوجية الأزمات

ليست الفاشيّة كالليبرالية والقومية، إذ لا يُذكر لها حضور تاريخي في قرن السابع عشر والثامن عشر مثلاً. وعلى الرغم من أن محتواها يطابق التوجهات الاشتراكية واليبرالية، إلّا أنها تُعَد منهجاً إيديولوجياً سياسياً للحضارة الحديثة وللمجتمعات الرأسمالية في الظروف المتأزمة. إذاً بالاعتماد على النزعة الرأسمالية وسائر الأسس الفكرية الغربية يمكن أن نعدّ الفاشية وجهاً آخر لليبرالية. ومن جانب آخر فإن الفاشيّة من حيث الخصائص والبرامج الاقتصادية والتحشيد السياسي والإداري تُعَد وجهاً آخر للاشتراكية البيروقراطية.

تؤمن الفاشيّة بالاقتصاد الامبريالي وتظهر في أو قات الأزمة التي تواجهها الحداثة والرأسمالية، (سواء كانت الأزمة في دولة ليبرالية أو في دولة اشتراكية بيروقراطية رأسمالية) وتُعَد منجية للحضارة الرأسمالية المأزومة.

إن الفاشية هي الحل الذي تقدّمه الحداثة في الأزمات والظروف الاستثنائية، وإنها إيديولوجية تُستدعى عند عجز الليبراليين أو الاشتراكيين عن إدارة الأمور. أطلق ماركس على الدولة التي أنقذت الليبرالية الفرنسية بعد ثورة 1848 تسمية «البونابارتية»[69].

إن نظام موسوليني في إيطاليا والقوميّة الاشتراكية الهتلرية في ألمانيا يعدّان من نماذج الدول الاستثنائية ذات الإيديولوجية الاستثنائية في القرن العشرين (أي فترة الامبريالية)، وتسمّى إيديولوجيتهم بالفاشيّة ونظامهم بالنظام الفاشي.

كانت الفاشيّة الإيطالية والألمانية خلال القرن العشرين تمثّل حركة سياسية متطرفة وقامعة لأيّ حركة سياسية أخرى واستمدّت آفاقها وطبيعة أهدافها من النزعة الرومانسية في عصر التنوير.

إن الفاشية هي من نتاجات الحداثة وهي ابنة الرأسمالية الحديثة وبمنزلة محاولة للحفاظ على الأطر العامّة للنظام الحداثوي المأزوم. كما تُعَد الفاشيّة لكمة قامعة يسددها الفكر السياسي الحديث، فلمّا يعجز الاشتراكيون والليبراليون عن إدارة الأوضاع والحفاظ على الهيمنة الحداثوية تأتي الفاشية لتصون الدولة الليبرالية الحديثة أو الدولة الاشتراكية الحديثة، ولكنها تقوم بذلك وفق طريقتها، إذ تلغي النظام البرلماني وتعتمد ديمقراطية الغوغاء بصورة مباشرة وترفع شعارات ضد الليبرالية والاشتراكية وتتقرب إلى أصحاب رؤوس الأموال وتنشىء اقتصاداً يعتمد الحرب وتفرض رقابة صارمة على نشاطات الإمبريالية لمصلحة الاقتصاد الحربي. كلّ ذلك من أجل الحفاظ على المجتمعات الحداثوية من الاضمحلال. ونجد المثال على ذلك في الأنموذج الألماني بزعامة هتلر، إذ كانت القوميّة الهتلرية ذات الطابع الاشتراكي محاولة لإنقاذ الامبريالية الليبرالية في ألمانيا وعرفت هذه المحاولة بالفاشيّة الألمانية. وعلى صعيدٍ متصل مثّلت الستالينية في الاتحاد السوفيتي طوال العقدين الثالث والرابع، حتّى وفاة ستالين في عام (1953م)، مثّلت الفاشيّة الروسية التي كانت تروم انقاض الاشتراكية الامبريالية من الأزمات التي سببتها ضغوط النظام الصناعي ونشوء الاشتراكية ذات النزعة البيروقراطية. يمكن أن نعد الأنموذج الألماني فاشيّة ليبرالية (أي فاشية في مجتمع ليبرالي)، فيما نعد الأنموذج السوفيتي فاشية اشتراكية (أي فاشية في مجتمع اشتراكي).

إن لفظة الفاشية مأخوذة من كلمةFALES وهي تعني مجموعة من الأعواد أو الأغصان التي كانت تُرفَع أمام الرؤوساء أو القنصل[70] في روما القديمة للتعبير عن القوّة والاقتدار. يبدو أن المجاميع الاشتراكية المتطرفة في صقلية في عام 1892 أطلقت على نفسها تسمية «FASCI» وبقيت هذه الكلمة تحمل طابعاً اشتراكياً حتّى عام 1914. كان موسوليني (زعيم الفاشية الايطالية الثاني) اشتراكياً في فترة شبابه، إذ انضمّ إلى تنظيم «FASCIO» في مدينة ميلانو في عام 1915. وخلال العامين 1922 و1923 وتسلّم موسوليني السلطة في إيطاليا، صعد نجم الفاشية وأصبح لها هوية وتعريفاً إيديولوجياً مستقلّاً.

إن الفاشية هي من نتاجات العقل الحداثوي وهي ابنة الفلسفة الغربية الحديثة، ولولا مفهوم «الذاتانيّة»[71] لدى «ديكارت»، ونظرية الإرادة الجماعية لدى «جان جاك روسو« والقراءة الحداثوية لمفهوم «السلطة» من قبل «ميكيافيلي» و«جان بودان» وكذلك لولا الاشتراكية القومية المتبلورة على يد «فيخته» ونظرية الدولة لدى «هيغل» ولولا العدميّة المبنيّة على الإرادة ذات النزعة السلطوية لدى «نيتشه»، لولا كلّ هذه الأفكار والنظريات لما ظهرت الفاشيّة.

لا أريد هنا أن أتّهم نيتشه أو هيغل أو روسو بالفاشية. إنهم بصفتهم مفكرين لا يمكن تحديدهم في أطر إيديولوجية معينة، غير أن توجهاتهم الفكرية المذكورة في آرائهم ونصوصهم بلورت صوراً مختلفة للحياة الإيديولوجية والسياسية في الغرب الحديث، وإن الفاشية في هذا السياق تُعَد صورة من صور الديمقراطية الحديثة وبعثاً للنزعات الفكرية الموجودة بالقوّة وبالفعل في الفكر السياسي الغربي الحديث.

يمكن أن نوجز الأسس الفلسفية للفاشية في النقاط الآتية:

1ـ الإنسانية (Humanism) وتأكيد الإنسان المستقل. كما ورد آنفاً فإن الفاشيّة هي ابنة الحداثة وتمثّل صورة عن علاقة المدرسة الإنسانية (Humanism) بين البشر والعالم، وهي علاقة لا يمكن أن تتحقق في العالم القديم أو في القرون الوسطى أو في العالم المعنوي الإسلامي. وهذا بالطبع لا يعني عدم وجود القمع والعنف في تلك الحقَب الزمنيّة، بل إن تلك الأزمنة ملأى بالدم والعُنف، ولكن الفاشية لم تكن نتاج العُنف والقمع فحسب، بل هي في الدرجة الأولى من نتاجات إيديولوجية تابعة للسلطة وتستمد جذورها من الموروث الفلسفي الغربي الحديث وتحديداً من الآراء الديكارتية التي تؤسس للذات الإنسانية المستقلة الحديثة، وتتبلور في حضارة مستقلة ومتأصلة في مبادئها النظرية.

2ـ تمثّل الديمقراطية أصلاً آخر من الأصول الفلسفية في النظرية الفاشية. إن الفاشيّة في إطار مفهوم السلطة تمثّل وجهاً من (الأكثرية/دموس) والذي هو (الشعب أو العِرق المتسيد)، كما أن الجذور التاريخية لهذه النظرية يمكن أن نجدها في آراء «روسو»، مؤسس الفكر الديمقراطي في المجال النظري، وكذلك في قراءة «بودان» لمفهوم «السلطة» الذي يمثّل أحد أركان الفكر السياسي الديمقراطي. إذن، فإن الفاشيّة هي صورة من صدر الديمقراطية التي تعد (الشعب أو العِرق المتسيّد) مصداقاً للأكثرية، وتقدّم قراءة شموليّة للعلاقة السياسية بين الدولة والمجتمع، ولاسيما أن الشموليّة تمثّل إحدى القراءات لمفهوم السلطة السياسية في عصر التنوير وما بعده.

3ـ إن نظرية «الإرادة الجماعية» الموجودة في جوهر الديمقراطية تمثّل أحد الأسس الفكرية للإيديولوجية الفاشيّة ويمكن تعقّب جذورها في آراء «روسو».

4ـ إن قراءة فيخته وكذلك هيغل لمفهوم الدولة والتي يمكن أن نجد أثرها في آراء اعضاء نادي «اليعاقبة»[72] وزعيمهم «روبسبيار»[73] إبّان الثورة الفرنسية تُعَد من الأسس الفلسفية للنظرية الفاشيّة.

5ـ إن مناهضة العقلانية التي تتبناها الفاشيّة هي تعبير متطرف عن رومانسية «جان جاك روسو» في عصر التنوير، وكذلك عن النزعة اللاشعورية لدى الفلاسفة المثاليين من أمثال «هارتمان»[74] و«شوبنهاور»[75]. إن مناهضة العقلانية السقيمة نابعة من اللاشعور الغريزي والنفسي في الفكر الفاشي وتصنّف زمن العقل المنقطع عن الوحي، والمعروف بالعقل الإنساني في عصر التنوير، على الرغم من بعض التداخلات بين الأمرين.

6ـ تنشط الفاشيّة عند توفر «الدولة الحديثة». بمعنى آخر تمثّل الفاشية صورة من صور الدولة الحديثة، كالدولة الليبرالية أو الاشتراكية. إذاً فإن الأسس النظرية للدولة الحديثة بصفتها تجسيداً لإرادة الأكثرية (الدموس) ومصطبغةً بطابع علماني ودنيوي، كامنة في الفكر الفاشي.

إن الليبراليين يستمدون قراءتهم لمفهوم الدولة الحديثة من آراء «جون لوك» و«جون استيوارت ملـ«، ويستمد الفاشيون الألمان فكرة الدولة الحديثة من آراء «روسو» و«هيغلـ«، فيما يستمد الستالينيون هذه القراءة من آراء «ماركس» و«روسو».

على أيّ حال فإن الدولة الفاشيّة هي صورة من صور الدولة الحديثة ومتجذّرة في الموروث الفلسفي والسياسي المنتمي للمدرسة الإنسانية/ Humanism.

7ـ إن القراءة الحداثوية لمفهوم (العمل ـ رأس المال) التي هي موجودة في الفكر الليبرالي والاشتراكي، حاضرة في النظرية الاقتصادية التي تقدّمها الفاشيّة، ومن هنا كانت الآراء الاقتصادية الفاشيّة مستمدّة من الأسس الاقتصادية الحديثة.

8ـ يمكن أن نعدّ الداروينية الاجتماعية[76] من ضمن الأسس الفكرية في الفكر الفاشي، إذ تبلور هذا الأساس في فلسفة «هربرت سبنسر»[77] وبصور أخرى في آراء «تشامبلين» العنصرية.

ولأن البحث في آراء نيتشه التي أثّرت في تبلور الإيديولوجية الفاشيّة يتطلب مقالاً مفصّلاً آخر، أترك ذلك في هذا السياق وأقول بإيجاز بأن بعض القراءات (سواء كانت صائبة أم غير صائبة) لآراء نيتشه في مجال (إرادة القوّة) أثّرت في تبلور الإيديولوجية الفاشيّة الألمانية، يمكن أن نعدّ الفاشيّة نظريّة عدميّة. بيدَ أن نيتشه بصفته مفكراً منتقداً يقع خارج الأطر الإيديولوجية ويجب البحث في كلّ جوانب فكره.

يمكن إيجاز الخصائص الإيديولوجية للفكر الفاشي في النقاط الآتية:

1ـ تمثّل الفاشيّة تطرفاً إرادياً وعنيفاً لجوهر العدميّة الحديثة. بعبارة أخرى إن الفاشيّة هي صورة جليّة للعدميّة الحداثويّة وانعكاس لغضب الحداثة المحاطة بالأزمات.

2ـ إن النظام السياسي الشمولي في الفكر الفاشي يدعو إلى دولة مركزيّة وشاملة ويقدّم إرادة الدولة على كلّ شيء.

3ـ تدافع الفاشيّة على الصعيد الاقتصادي عن مصالح الرأسماليين وأصحاب الأموال الطائلة، أمّا على صعيد السياسة الاقتصادية فإنها تتراوح بين الدعوة إلى «دولة ليبرالية محدودة» و«رفض المُلْكيّة الاشتراكية». وفي واقع الحال تعتمد الفاشيّة النقابات العُماليّة والرقابة الحكومية وفي الوقت ذاته لا تعارض الملكيّة الخاصة وتتبنى سياسة تدعو إلى الحرب وبذلك تحافظ على البرجوازية واستمرارية حياة المجتمع الحداثوي وتسعى لإنقاذه من الأزمات.

4ـ إن الإمبريالية هي فاشيّة في ذاتها. بعبارة أخرى تُعَد الفاشية دولة الطوارىء التي تأتي بها الرأسمالية التي تظهر عند الأزمات. إذاً فإن الفاشيّة ظاهرة خاصّة بالقرن العشرين، وما كان يتوقع ظهورها في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر وفي زمن تنافس الرأسماليين، وبالتالي يكون عدم وجودها في القرون الوسطى والعصور القديمة تحصيلاً لما ورد آنفاً.

5ـ إن القوميّة ذات النزعة الشوفينية والعنصرية هي جزء لا يتجزء عن «الفاشيّة الليبرالية». أمّا الفاشيّة الاشتراكية فإنها قوميّة تعددية تدعو إلى أفضليّة الطبقة العُماليّة الشيوعية بدلاً من القومية العنصرية.

6ـ تُحدِث الفاشيّة تغييراً في بعض الثوابت في النزعة الإمبريالية الليبرالية، وفي الإمبريالية الاشتراكية، ولكنها تحافظ على الأسس العامة لكلٍّ من هذين التوجهين.

7ـ العلمانية. إن الفاشيّة علمانيّة في ذاتها، إذ نشأ منظروها في أحضان الأفكار العلمانية من أمثال «جيوفاني جنتيلي»[78] الايطالي و«روزنبرغ» الألماني و«تشامبرلين» البريطاني. فضلاً عن ذلك فإن أسلاف الفاشيين من الفلاسفة (الذين يحملون توجهات فاشية في بعض أفكارهم)، من أمثال «فيخته» و«روسو«، وكذلك أنصار المفهوم الحداثوي للسلطة من أمثال «ميكيافيلي» و«جان بودان» كانوا علمانيين. كما أن زعماء الحركات والدول الفاشيّة من أمثال «موسوليني» و«هتلر» و«غوبلز»[79] كانوا علمانيين حتّى ملحدين.

8ـ تنقد الفاشيّة ــ على الصعيد الإيديولوجي ـ الليبرالية والاشتراكية، ولكنها على صعيد المبادىء والغايات الإيديولوجية حداثوية بامتياز.

9ـ تعتمد الفاشية المبادىء التكنوقراطية[80] وهي في الأساس ـ سواء في مجال الحركة الثورية أو في مجال إدارة الدولة ــ تمثّل نتاجاً للمجتمعات الحديثة التي تملك أنظمة تكنوقراطية، وبهذا لا يمكن وجودها في المجتمعات القديمة.

10 ـ إن الميل لخوض الحروب وكذلك اعتماد السياسة العسكرية[81] كإستراتيجية في إدارة الدولة يعد من خصائص الدولة الفاشية. عندما تخوض الدولة الفاشية الحروب تستثمر ظروف الحرب لمعالجة الأزمات التي تواجهها الحداثة الغربية وتنقذ الأنظمة الرأسمالية من خطر الانهيار. هذه هي رسالة الفاشية.

11ـ تُظهِر الفاشية عنفاً كامناً في بطن المجتمع الليبرالي. يستمد هذا العنف قوّته من النزعة العدمية الموجودة في الحضارة الحديثة. إذاً فإن الفاشيّة عدميّة بامتياز، وتبلور إرادة القوّة ذات النزعة العدمية.

12ـ إن الفاشية هي ظاهرة لا يمكن حصولها إلّا في الفكر الديمقراطي الحديث، إذ إنّها من نتاجات الحداثة، وإن من يرم البحث عن أصول الفاشية في إطار الأفكار التقليدية ذات النزعة المعنوية أو في إطار الأحكام الدينية فهو لم يعرف الدين ولا الفاشية.

عند البحث عن مفهوم الدولة الطارئه الحديثة والفاشية والإيديولوجية الفاشية نجد «الستالينية» بصفتها دولة طارئة اشتراكية تتفاوت في بعض الأمور عن نظيرتها الإيطالية (بزعامة موسوليني)، والألمانية (بزعامة هتلر). كما أنّ بعض الصفات والخصائص آنفة الذكر تبدو غير موجودة فيها وهذا ما يحتّم علينا الحديث عنه في مقال مستقل آخر إن شاء الله.

النسوية

إن أعددنا النسوية إيديولوجيةً يجب أن نقرّ بعدم وجود أيّ أسس نظريّة مدوّنة لهذه المدرسة. ومن المتفق عليه هو أنّ النسويّة بمعناها الذي نعرفها به هي من نتاجات العصر الحديث. لقد بدأ الاهتمام بمكانة المرأة وحقوقها وواجباتها بعد القرن الثامن عشر في كتاب «ماري وولستونكرافت»[82] الشهير، ولكن على الرغم من ذلك لم تكن هذه الأسس رائجة جداً. على أن هذا لا يعني غياب حقوق المرأة في المجتمعات القديمة وفي القرون الوسطى. بل ما أقصده من كلامي هو أن منزلة المرأة وحقوقها وواجباتها وشؤونها الوجودية وخصوصاً علاقتها مع الجنس الآخر، كلّ ذلك جرت قراءته بمنهجٍ إنساني (Humanism) وسايكولوجي واستعلائي وغير ديني. إن مثل هذه القراءة هي من خصائص العصر الحديث وهي قراءة حداثوية تماماً من ناحية الأسس والغايات النظرية.

يرى بعض المؤرخين أن أصول النسويّة تعود للقرن الخامس عشر وتحديداً في كتاب «مدينة السيدات» للكاتبة «كريستين دي بيزان»[83]. وهناك من يعدّ مسرحيات «افرا بين»[84] (المتوفاة في1689م) بدايةً للتوجهات النسويّة. لقد كانت «افرا بين» كاتبة نشطة وفي الوقت نفسه تعمل جاسوسة في الهند لمصلحة الملك البريطاني «تشارلز الثاني». تركت «افرا بين» ما يقارب سبع عشرة مسرحية وعدداً من القصص القصيرة.

ولكن المتخصّصين بتاريخ النسويّة يرون أنّ النصوص الإيديولوجية للمدرسة النسويّة ظهرت لأول مرة بانتشار كتاب «اثبات حقوق النساء» لـ« ماري وولستونكرافت» في سنة (1792م). ولدت «مارى» سنة (1759) في عائلة مزارعة بريطانية. كان أبوها سكّيراً وفظّاً وكانت أمها تعاني بسبب عنف زوجها المستبد. أسست « ماري وولستونكرافت « في سنة 1783 مدرسة للبنات في شمال لندن. بعد خمس سنوات تعرّفت «ماري» إلى ناشر ليبرالي (ومن المتوقع ماسوني) باسم «جوزيف جاسنون»[85]. تعرّفت ماري عن طريق جانسون إلى أحد دعاة الثورة الأميركية، الماسوني «توماس بين»[86] وكذلك على اللاسلطوي (Anarchism) الشهير «ويليام غودوين»[87].

إن البيان الشهير الذي أصدرته « ماري وولستونكرافت» في 300 صفحة وبعنوان «إثبات حقوق المرأة» تضمّن الآراء الليبرالية التي تخصّ قضايا المرأة إبّان عصر التنوير. على الرغم من المظهر الجميل لبعض عبارات هذا البيان إلّا أنه كان مبنيّاً على خطأ نظري جسيم، تمثّل بِعَدّ طبيعة المرأة والرجل وحقوقهما متساويَين.

يجب الالتفات إلى أن أصل المساواة بين حقوق النساء والرجال هو أمر لا يلائم طبيعة المرأة وحقوقها الخاصة. إن المساواة بين الرجل والمرأة يجب أن يكون في الحقوق الإنسانية ولا شكّ في ذلك، ولكنّ ثمّة حقوقاً وواجبات تنبع من طبيعة المرأة بما هي مرأة، وثمّة حقوق وواجبات أخرى تنبع من طبيعة الرجل بما هو رجل، وإن انكار هذه الحقوق يُعَد ظلماً بحقّ الرجال والنساء وبالأخص النساء. إن العقيدة النسوية ذات التوجه الليبرالي تذهب إلى الشَبَه المطلق بين حقوق المرأة والرجل وواجباتهما، ولا تولي الصفات الفيسيولوجية والنفسية للجنسَين اهتماماً.

ثمّة اتجاهات متفاوتة في النظرية النسوية تكون أبرزها كالآتي:

1ـ النسوية الليبرالية

2ـ النسوية الاشتراكية

3ـ النسوية الراديكالية

لمّا دعت الحركة النسوية إلى تفعيل دور المرأة في مجال علمية الانتاج، قوبلت الفكرة بدعم واسع من قبل أصحاب رؤوس الأموال والمصانع. لأن القوّة الإنتاجية المتزايدة ترفع سقف الإنتاج والأرباح.

لقد كانت البرجوازية الأوروبية منذ البداية تروّج لأفكار المدرسة النسوية، لأن الاستفادة من الطاقة الانتاجية لدى النساء في المصانع والمناجم والورش، وكذلك استغلال الجوانب الجنسية فيهن يؤدّي إلى الزيادة في الإنتاج والمبيعات. فضلاً عن ذلك فإن حضور النساء في الدوائر والمراكز التجارية والثقافية والسياسية من دون أيّ ضابطة وحدود يساعد على تلبية شهوات أصحاب رؤوس الأموال وميولهم الجنسية. إن أكثر المتمولين والمرابين وأصحاب المصارف والمصانع في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر كانوا يميلون للفسق والفجور والتصرفات الماجنة في الحانات والنوادي الليلية، وإن حضور النساء بصفة عاملة أو ممرضة حتّى معلّمة في مصانع أصحاب رؤوس الأموال وبيوتهم يلبّي شهواتهم.

إن مجون البرجوازيين وفسقهم وفجورهم حتّى الانحرافات الأخلاقية لدى الطبقات الفقيرة طوال القرن الثامن عشر والتاسع عشر مذكورة في كتابات بعض الأدباء في تلك العصور من أمثال «غي دوماباسان»[88] و«بالزاك»[89] و«إميل زولا»[90].

يمكن تلخيص الأسس الفلسفية المعتمدة لدى المدرسة النسوية في النقاط الآتية:

1ـ استقلالية الإنسان عن الوحي.

2ـ اعتماد العقل المنقطع عن الوحي عند بيان حقوق النساء وواجباتهن وعدم الاعتناء بالأحكام الدينية.

3ـ إن النسوية هي وجه من أوجه الديمقراطية التي تُعَد «المرأة/Femin» مصداقاً أو جزءً من الأغلبية (دموس).

4ـ اعتماد مبدأ المساواة في الحقوق التي أقرتها الديمقراطية البرجوازية في توجيه المساواة بين حقوق المرأة والرجل.

5ـ العلمانية هي من أهم الأسس الفكرية لدى المدرسة النسوية، لأن الفرضية الرئيسة في النسوية تُهمِل المنظومة الحقوقية الشرعية الخاصة بالرجل والمرأة وتستند بدلاً عن ذلك إلى معتقدات عصر التنوير.

خصائص المدرسة النسوية العامّة:

1ـ إنكار مفهوم «طبيعة المرأة». المفهوم الذي يتضمن مجموعة من الامكانيات والاحتياجات الجسدية والنفسية. فبرغم وجود بعض المشتركات الأساسية، إلا أنها متفاوتة بين الرجل والمرأة، ولكن المدرسة النسوية ترفض الاقرار بهذا التفاوت.

إن الفكر الديني عندما يتناول مفهوم «طبيعة المرأة» لا ينفي حقوق المرأة الإنسانية، ولكنه يؤسس نظامين حقوقيَين مستقلَين بالاستناد إلى احتياجات المرأة والرجل، مع الاحتفاظ بالحقوق الإنسانية الخاصّة بكلا الجنسَين. أمّا النظرية النسوية فإنّها تُهمِل هذه الطبيعة الخاصة بالنساء وبالتالي تغفل عن النظام الحقوقي الخاص بالقابليات والاحتياجات العاطفية والنفسية والجسدية لدى النساء.

يُعَد «جون استيوارت مل» أحد منظري المدرسة النسوية وينكر في كتابه «استعباد النساء»[91] صراحةً وجود أي طبيعة تخص المرأة ويقول بهذا الصدد: (إن ما نطلق عليه اليوم «طبيعة المرأة» هو أمر مصطنع تماماً.) هذه الرؤية النسويّة الداعية للتشابه لا إلى المساواة تزيل الدعم الاجتماعي والأخلاقي الذي تتمتع به المرأة، وتتركها وحيدة ومن دون معين في مجتمعٍ عنيفٍ مستذئب يحكمه الرجال.

2ـ ترى المدرسة النسويّة بأن المساواة بين الرجل والمرأة يعني التشابه المطلق بينهما، ولكن الحقيقة هي عكس ذلك. فكما أشرنا آنفاً ثمّة تفاوت في الطبيعة الفسلجية والنفسية بين كلٍّ من المرأة والرجل. وبطبيعة الحال يفرض هذا التفاوت حقوق وواجبات متقابلة للمرأة والرجل وهو ما تُهمله المدرسة النسوية.

3ـ تسعى التوجهات النسويّة لفسح المجال أمام النساء للعمل في المصانع والتجارة والأعمال الحرّة والرأسمالية، والغاية من وراء ذلك هو التكسّب وجمع الثروات والأرباح.

4ـ تقدّم المدرسة النسويّة تفسيراً جسدياً وناسوتياً[92] عن طبيعة المرأة واحتياجاتها وحقوقها.

5ـ القراءة الناسوتيّة والجسمانيّة تجعل من المرأة سلعة أو أداة في المجتمع. ولاسيما أن «الحريّة الجنسيّة» قد انتشرت بشكل واسع في أوروبا خلال العقود الأولى من القرن العشرين وتغيرت الآراء بإزاء مسألة الجنس خلال السنوات الأولى التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، إذ انتشرت ثقافة العُري في الغرب وأمست المرأة ينظر لها بصفتها سلعة تجارية أو أداة لاستثمار جمالها الجسدي والجنسي، وغلبت هذه النظرة في مجال الإعلانات التجارية لتسويق البضائع والسلع التجارية.

6ـ إن الاستهانة بمفهوم العشق والحب وربطه بالعلاقات الجسدية والجنسية، وكذلك التقليل من أهمية الواجبات الأخلاقية والجوانب المعنوية المطروحة في العلاقة بين الجنسَين أدّى إلى الهشاشة في الأسس التكوينية للأسرة وانتشار الفسق والفجور والمجون العلني، وبالتالي غاب الطابع المعنوي عن العلاقات العاطفية والحميمة. فضلاً عن ذلك فقد تسببت أفكار المدرسة النسوية في انتشار العلاقات الفاقدة لأي هويّة وحدود ومسؤولية وضوابط شرعية، وهي علاقات يشوبها الغموض والإبهام، غالباً تؤدي إلى حدوث صدمات نفسية جسيمة لدى المرأة، التي يكون مستوى المجون فيها أقل بالنسبة للرجل.

7ـ ينظر الفكر النسوي «للمرأة» بصفتها (كائن/Subject) وفق المفهوم الديكارتي وهي مصداق لتلك الأنا النفسيّة التي بلورها ديكارت، وبالتالي تصبح العلاقة الثنائية بين المرأة والرجل أسيرة النفعية والذرائعية.

ولمّا كانت المرأة من منظور المدرسة النسويّة (كائن/Subject) فقد يُنظر للنساء الأخريات أيضاً بصفتهن (أشياء/Object)، ومحصورات في هذه النظرة الاستثمارية والذرائعية.

إن النسويّة هي إيديولوجية علمانية حداثوية، لها طابع برجوازي، وظهرت في أواخر القرن الثامن عشر وخلال القرنَين التاسع عشر والعشرين مواكبة لمصالح أصحاب رؤوس الأموال والتجّار وأصحاب الشركات متعددة الجنسيات، وذلك من أجل استغلال المرأة في كلّ الجوانب، ولذلك تنامت وانتشرت هذه الفكرة بسرعة في الغرب الحديث.

خلاصة القول هي أن المرأة في منظور المدرسة النسويّة هي (كائن/Subject) مؤنث مستقل بذاته، توفر طاقة العمل وكذلك الجمال الجسدي بغية الزيادة في الانتاج، وتُمنَح بإزاء ذلك «حق التصويت» و«حقّ المُلكيّة». إذا كان الرجل وفق الفكر الحداثوي بمنزلة ذرّة مستقلة بذاتها، ويلعب في جدلية (العمل ــ رأس المال) دور المستثـمِـر أو المستثـمَـر، فإنه في كلّ الأحوال كائن ناسوتي. أمّا المرأة في المنظور النسوي تمثّل أيضاً تلك الذرة النفسيّة المستقلة وتلعب كالرجل دور المستثمِر أو المستثمَر، ولكن صفاتها الأنثوية والجسدية أدخلتها في مجال سوقي وتجاري آخر، تمثّل بثقافة العُري والدعارة، وبالطبع الهدف من وراء ذلك هو الزيادة في المبيعات والأرباح وتلبية شهوات الرجال.

تعد أدبيات المدرسة النسويّة هذا الأمر «استقلال المرأة» وتعتبره وصولاً لحقوقها المضيّعة. لأن هذه المدرسة تعدّ حقوق المرأة غير دينية ونفسية وناسوتية.

لا يعني هذا الكلام انكاراً لحقوق النساء المضيّعة على مدى التاريخ ومن قبل الرجال، بل القصد هو تأكيد عدم الجدوى من الحلول التي يقدّمه الفكر النسوي، ولا يمكن احقاق حقوق النساء من خلال رميهن في مستنقع المدرسة النسوية. لأن النسوية تعرف المرأة عند حضورها في المصانع أو في معارض الأزياء والحانات والنوادي الليلية، وهذا ليس حلّاً للحصول على حقوق النساء.

***

شرعت المدرسة النسويّة بالعمل كحركة بدءً من عام 1830 حتّى عام 1920 في كلٍّ من أوروبا وأميركا، وحققت بعض النجاحات كالحصول على حق التصويت وحقّ المُلكيّة للنساء الأوروبيات والأميركيات. ومن جانب آخر أدّى هذا الاستثمار للمجتمع النسوي إلى هشاشة نظام الأسرة وانتشار العُري الخادش للحياء.

غلب الطابع الليبرالي طوال هذه الفترة على الحركة النسويّة، واستندت تلك الأفكار على المبدأ القائل بتساوي المرأة مع الرجل، وكانت تهدف إلى إعطاء الحقوق المدنية كافة للمرأة واشراكها في كل النشاطات الاجتماعية والصناعية.

إن النسويّة الليبرالية ترفض حصر المرأة في دور الأم. والنسوية الماركسية الاشتراكية التي تبلورت صورها الأولى في آراء «فريدريك آنجلز» و«أغوست بيبل»[93] ولاحقاً في آراء «مادام كولونتاي»[94]، تعدّ تحرير المرأة جزءً من مشروع تحرير الإنسانيّة من سطوة الملكيّة الشخصيّة. كان آنجلز يدعوإلى تسهيل عملية الطلاق والاستقلال الاقتصادي. ودعت مادام كولونتاي إلى إزالة مشروع الزواج والبقاء على الزوجة الواحدة وطالبت بحرية العلاقات الجنسية. كانت كولونتاي تعد الزواج والبحث عن الزوجة المناسبة جزءاً من الملكيّة الشخصية التي يجب إزالتها.

انتشرت «النسويّة المتطرفة» في العقد السادس من القرن العشرين وأصبحت في يومنا الحاضر تياراً ايديولوجياً قوياً في العالم الغربي. إن النسوية المتطرفة تشمل في بعض الأحيان آراء متطرفة كالدعوة إلى إبادة جماعية لكل الرجال، أو نشر المثلية بين النساء وتأسيس نقابات نسويّة تدعو إلى أن النساء وحدهنّ يحق لهن الحياة. مع ذلك لم تختلف كل التوجهات المتطرفة في المدرسة النسوية مع نظام الأسرة والزواج، ولكن الرأي المشترك لدى كل هذه التوجهات هو الدعوة إلى رفع مسؤولية تنشأة الأطفال أو إدارة شؤون المنزل عن كاهل المرأة.

انتشرت النسوية المتطرفة في الولايات المتحدة، وعلى حد تعبير «اليسون جاغار»[95] إنها حركة تستند إلى قراءات مجموعة صغيرة من النساء البيضاوات الأميركيات المتعلمات، والمنتميات للطبقة المتوسطة. كما يمكن تعقّب جذور النسويّة المتطرفة آراء فرويد وأتباعه وآراء «هربرت ماركوزه»[96] وآراء «فيلهلم رايش»[97] حول «الثورة الجنسية».

للسنوية توجهات أخرى كالوجودية وما بعد الحداثة، وللبحث في كلّ من هذين التوجهين نحتاج إلى مقال مستقل.

1ـ إن الإيديولوجيا في مفهومها الخاص تطلق على مجموعة من الضوابط التي تنشأ من العقل المستقل عن الوحي الحداثوي.

2ـ تمثّل الديمقراطية الوجه السياسي للفكر الحداثوي وتعني التشريع بوساطة العقل الإنساني الذي أخذ مكان الوحي. على الرغم من أن الديمقراطية تدعو إلى حكم الشعب ولكنها عملياً تتحوّل إلى حكم النخبة وأصحاب القوّة والمال.

3ـ إن مفهوم «الشعب» هو مفهوم اعتباطي، والديمقراطية الحداثوية (الإنسانوية) هي حكومة أصحاب المصانع والمصارف والمرابين ومديري الشركات العملاقة ومتعددة الجنسيات، وهي حكومة الأحزاب القوية المبنية على أسس الفلسفة السياسية الإنسانية.

4ـ إن الديمقراطية هي علمانية في ذاتها، وقد أثبتت التجربة التاريخية بأن الأكثرية (المتوسطة) قد أخطأت في اتخاذ القرارات في أغلب الأوقات، إذ إنّ هناك آليات إعلامية واسعة الانتشار تعمل على صناعة الرأي وتوجيه قناعات الناس وتسيير معتقداتهم نحو المنفعة التي تبتغيها النخبة الحاكمة.

5ـ إن الليبرالية هي الإيديولوجية الحداثوية الرئيسة وهي وجه من أوجه الديمقراطية، إذ إنها تمثّل الوجه الإرادة النفسية للإنسان الحداثوي، وهي على علاقة وثيقة مع الرأسمالية منذ القرن الثامن عشر حتّى الآن، وهي الإيديولوجية المفضلة لدى أصحاب المصارف ورأس المال والمرابين.

6ـ تمثّل الاشتراكية وجهاً آخر للديمقراطية الحديثة، ولمّا تتحول إلى اشتراكية بيروقراطية ماركسية تؤمن بأصالة الإرادة النفسية للإنسان المستقل بذاته. أمّا في المنتصف الثاني من القرن العشرين أصبحت الاشتراكية ذات الطابع الديمقراطي نوعاً من الليبرالية المعدّلة.

7ـ إن القوميّة هي إيديولوجية ديمقراطية متأصلة في آراء «ميكيافيلي» و«جان بودان»، وتقدّم تفسيراً حداثوياً لمفهومَي «السلطة» و«الأمّة».

8ـ إن الفاشية هي إيديولوجية خاصة بمجتمعٍ حداثويٍ يوجه الأزمات، ولا يمكن إدارته بالنظام الليبرالي أو الاشتراكي. كما أن الفاشية هي نتاج الحداثة والاقتصاد الإمبريالي.

9ـ تمثّل النسويّة ذاتانيّة (Subjectivism) ذات طابع نسوي، ومبنيّة على تفسير ناسوتي ومادي عن المرأة، وتعدّ المرأة جزءاً من القوّة الإنتاجية في جدلية (العمل ــ رأس المال). تهدف المدرسة النسويّة من وراء ذلك إلى رفع مستوى الأرباح وزيادة رأس المال، وتقدّم المرأة في مشروعها سلعة جنسيّة في سياق الإعلانات التجارية وذلك من أجل الزيادة في المبيعات وتلبية لشهوات الرجال. وقد دعت بعض المناهج المتطرفة في المدرسة النسويّة إلى ترويج المثلية الجنسية بين النساء وتأسيس نقابات نسائية مستقلة.

-------------------------------------

شهريار زرشناس : باحث في الفكر السياسي والفلسفي - عضو الهيئة العلمية في المعهد العالي للثقافة والفكر الإسلامي ـ طهران.

- العنوان الأصلي للبحث بالفارسية: (ايديولوجيات العالم الحديث).ـ

ـ ترجمة: حسن الصرّاف.

[2]-Jean Bodin (م)

[3]- Baruch Spinoza (م)

[4]- John Locke (م)

[5]- Jean-Jacques Rousseau (م)

[6]- يقصد كارل ماركس بالبروليتاريا الطبقة التي لا تملك أي وسائل إنتاج وتعيش من بيع مجهودها العضلي أو الفكري (م).

[7]- Montesquieu (م).

[8]- John Stuart Mill (م).

[9]- Georg Wilhelm Friedrich Hegel (م).

[10]-Johann Gottlieb Fichte (م).

[11]- Relativism، إحدى وجهات النظر الفلسفية التي تنحوإلى أن قيمة ومعنى المعتقدات الإنسانية والسلوك الإنساني ليس لها أي مرجعية مطلقة تقوم بتحديدها. (م).

[12]- Pragmatism، مذهب فلسفي سياسي يعتبر نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة (م).

[13]- Quantitative research البحث الكمي يشير إلى البحث المنهجي للظواهر الاجتماعية من خلال الأساليب الإحصائية، الرياضية أو الحسابية. ويستخدم البحث الكمي على نطاق واسع في العلوم الاجتماعية، مثل: علم النفس، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، والتسويق، والعلوم السياسية، وتكنولوجيا المعلومات. أمّا في العلوم الاجتماعية يتعلق استعمال المصطلح بالأساليب التجريبية، والتي نشأت من مجالات الفلسفة الوضعية وتاريخ الإحصاءات والتي هي على النقيض من البحث النوعي. (م).

[14]- William James (م).

[15]- Thomas Hobbes (م).

[16]-الكارتل اتفاق ناتج عن تجمع بين مؤسسات وطنية، أو دولية، لتحديد أسعار المنتجات، ويمكن أن يحدد (الكارتل) العرض (المنتجات) لرفع الأسعار من أجل زيادة أرباح الأعضاء فيه. فالكارتل يمثل شكلا من هذه الأشكال. فعلى سبيل المثال منظمة أو بك هي كارتل نفطي. (م)

[17]-Totalitarianism (م).

[18]- Labor aristocracy، الأرستقراطية العمالية هي الشريحة العمالية العليا التي تتكون من أكثر الفئات مهارة وأعلاها أجراً من مجموعة الطبقة العاملة، والمنفصلة عنها من حيث التكوين الإيديولوجي والنفسي. (م)

[19]- Lumpenproletariat، الفئات الدنيا، أو القعر الاجتماعي: الجماهير نصف البروليتارية. شبه البروليتارية، البروليتاريا الرثة، حثالة البروليتاريا، الغوغاء..الرعاع..الخ وكلها مفاهيم مترادفة ودالة على تلك»الكتلة الشعبية»الضخمة،والتي تطلق عليها الأدبيات الماركسية بعض هذه التسميات،والمدلول واحدا في معانيه. (م)

[20]-Council on Foreign Relations، مجلس العلاقات الخارجية، منظمة في شكل خلية تفكير مستقلة أمريكية، هدفها تحليل سياسة الولايات المتحدة الخارجية والوضع السياسي العالمي. أُسِّست في 1921، تتكون من أكثر من 50000 عضو جلهم من طبقة الأعمال، الاقتصاد والسياسة. مقرها الرئيسي في نيويورك، ولديها مكتب أيضا في واشنطن العاصمة. (م).

[21]- Adam Smith (م).

[22]-الفيزيوقراطية (Physiocrats)، أو المذهب الطبيعي مذهب نشأ في فرنسا في القرن الثامن عشر، وذهب أصحابه إلى القول بحرية الصناعة والتجارة وبأنّ الأرض هي مصدر الثروة كلها. (م).

[23]- التطهيرية أو البيوريتانية (Puritanism)، مذهب مسيحي بروتستانتي يجمع خليطاً من الأفكار الاجتماعية، السياسية، اللاهوتية، والأخلاقية. ظهر هذا المذهب في إنجلترا في عهد الملكة اليزابيث الأولى وازدهر في القرنين السادس والسابع عشر، ونادى بإلغاء اللباس والرتب الكهنوتية (م).

[24]-عدم التدخل من تعبير (Laissez-faire) - وتعني حرفياً «دع [الأمور] تعملـ«، في الاقتصاد، مصطلح يشير إلى ترك الحكومة التجارة دون التدخل فيها، وهو مبدأ رأسمالي تدعمه الليبرالية الاقتصادية حيث ترفض التدخل الحكومي في السوق (م).

[25]- الذَّاتَانِيَّة (Subjectivism) مذهب فلسفي يرى أنّ المعرفة كلها ناشئة عن الخبرة الذاتية. (م)

[26]- الذريّة أو المذهب الذرّي (Atomism) فكرة فلسفية تطوّرت في اليونان خلال القرن الخامس قبل الميلاد. يعتقد الذرّيون أن العناصر الأساسية للحقيقة تتشكّل من الذرة غير القابلة للانقسام والإتلاف، وهي مادة سابحة في الفضاء. ويظنّون أن الذرّة لها حركة، ولكنها تنعدم وترتدُّ بعد ارتطامها. وقد تكوّنت الدنيا نتيجة هذه الحركات. ووجدت لفترة من الزمن ثم اختفت. وهذه العوالم والأشياء الظاهرية التي وجدت عليها تختلف فقط في الحجم والشكل وموضع ذراتها. (م)

[27]- الفردية (Individualism) موقف أخلاقي، فلسفة سياسية، إيديولوجيا، أو النظرة الاجتماعية التي تؤكد على القيمة المعنوية للفرد.[1][2] تدعوالفردانية إلى ممارسة أهداف الفرد ورغباته لتكون قيمه مستقلة ومعتمداً على نفسه. (م)

[28]- يرى الفيسلوف الألماني «لايبتنس» أن هناك جواهر مركبة فلابد في رأيه أن تكون هناك جواهر بسيطة. هذه الجواهر البسيطة هي التي يسميها «المونادات»، وهي «الذات الحقيقية التي تتكون منها الطبيعة». لقد قيل بحق ان ليبنتز هو اعظم من قال بفكرة التفرد. يقول لايبتنس بهذا الصدد: ليس للمونادات نوافذ يمكن من خلالها أن ينفذ إليها شيء أو يخرج منها. (م)

[29]- Gottfried Wilhelm Leibniz (م)

[30]- الفلسفة التجريبية أو الإمبريقية (Empiricism) توجه فلسفي يؤمن بأن كامل المعرفة الإنسانية تأتي بشكل رئيسي عن طريق الحواس والخبرة. تنكر التجريبية وجود أية أفكار فطرية عند الإنسان أو أي معرفة سابقة للخبرة العملية. (م)

[31]- الفلسفة الوضعية (Positivism) إحدى فلسفات العلوم التي تستند إلى رأي يقول إنه في مجال العلوم الاجتماعية، كما في العلوم الطبيعية، فإن المعرفة الحقيقية هي المعرفة والبيانات المستمدة من التجربة الحسية، والعلاجات المنطقية والرياضية. (م)

[32]- الجماعية (Collectivism) هو المصطلح المستخدم لوصف أي وجهة نظر أخلاقية أو اجتماعية أو سياسية تشدد على أهمية التواكل المتبادل بين أفراد المجتمع. والجماعيّون بشكل عام يرغبون بإعطاء أو لوية لأهداف المجتمع كافة فوق أهداف الفرد. (م)

[33]- Eduard Bernstein (م)

[34]- Karl Johann Kautsky (م)

[35]- John Maynard Keynes(م)

[36]- John Rawls (م)

[37]-النيوليبرالية (Neoliberalism) فكر آيديولوجي مبني على الليبرالية الاقتصادية التي هي المكوّن الاقتصادي لليبرالية الكلاسيكية والذي يمثل تأييد الرأسمالية المطلقة وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد. (م)

[38]- Margaret Hilda Thatcher (م)

[39]- John Major (م)

[40]- Ronald Reagan (م)

[41]- George Herbert Walker Bush (م)

[42]-Karl Popper (م)

[43]-الإمبريالية (Imperialism) نوع من الدعاوى الإمبراطورية. اسمها مشتق من الكلمة اللاتينية إمبريوم، وتعني الحكم والسيطرة على أقاليم كبيرة. يمكن تعريفها بسعي دولة لتوسيع سلطتها وتأثيرها عبر الاستعمار، استخدام القوة العسكرية، ووسائل أخرى.لعبت الامبريالية دوراً كبيراً في تشكيل العالم المعاصر، وسمحت بسرعة انتشار الأفكار والتقنيات وساهمت في تشكيل عالم أكثر عولمة. (م)

[44]- Alienation، أو «الاغترابـ«. مصطلح بلوره ماركس في كتاباته، مشيراً من خلاله إلى الإنسان المنقطع عن طبيعته الإنسانية بسبب انهماكه في العمل. (م)

[45]- Cooperative (م)

[46]-Robert Owen (م)

[47]- Globe (م)

[48]-Saint-Simon (م)

[49]- Charles Fourier (م)

[50]- Karl Johann Kautsky (م)

[51]-Willy Brandt (م)

[52]- David Ricardo (م)

[53]-Pierre-Joseph Proudhon (م)

[54]- الكمونة من أهم المصطلحات في الأدبيات الاشتراكية يشير إلى مجموعة من الأفراد يعيشون مع بعضهم البعض لهم اهتمامات مشتركة، يتشاركون في الملكية والممتلكات والموارد وفي بعض الكميونات العمل والدخل. بالإضافة للاقتصاد الجماعي، هناك إجماع في إتخاذ القرار، والبِنيات لَيست هَرَمِية والحَياة بِشَكل بِيئيء أصبح واحد من أهم المبادئ الأساسية. (م)

[55]- Utopian socialism، الاشتراكية الخيالية (الطوباوية=غير علميّة) هي نظرية مثالية تدعو إلى بناء مجتمع إنساني سعيد يقوم على الملكية الجماعية والتساوي في توزيع المنتجات والعمل الإلزامي لكل أعضاء المجتمع. (م).

[56]- John Wycliffe (م).

[57]-في الثامن والعشرين من سبتمبر سنة 1864، اجتمع مندوبون من بلدان مختلفة في قاعة سان مارتن بلندن. كانت تلك هي المحاولة الأكثر جدية لتوحيد أكثر فئات الطبقة العاملة تقدما على المستوى الأممي. كانت الدعوة إلى هذا الاجتماع قد جرت من أجل تنظيم التضامن الأممي مع الثورة البولونية لسنة 1863. قرر اللقاء بالإجماع تأسيس الجمعية العالمية للعمال، والتي صارت تعرف باسم الأممية الأولى. أنشأ مقرها بلندن وكان يسير من قبل لجنة مكونة من 21 عضوا، كانت مهمتها صياغة برنامج وقوانين، وقد أو كلت هذه المهمة لكارل ماركس، الذي صار منذ تلك اللحظة يلعب دورا قياديا حاسما في الأممية الأولى. (م).

[58]- Alienation، أو «الاغتراب». مصطلح بلوره ماركس في كتاباته، مشيراً من خلاله إلى الإنسان المنقطع عن طبيعته الإنسانية بسبب انهماكه في العمل. (م)

[59]-Maoism، تبرز هذه النظرية أفكار القائد الشيوعي الصيني ماوتسي تونج وتعتبرها تطويراً خلاقاً للماركسية اللينينية(م).

[60]- Revisionism (م).

[61]-Friedrich Ebert (م)

[62]-Sidney James Webb (م)

[63]-Andrew Vincent (م)

[64]- المقاطعة الألمانية التي أطلق عليها لاحقاً اسم «بروسيا الشرقية». (م)

[65] - Johann Gottfried Herder (م)

[66]- Niccolٍ Machiavelli (م)

[67]- Neville Chamberlain (م)

[68]- Alfred Rosenberg (م)

[69] Bonapartism (م)

[70]- القنصل(Roman Consul) أعلى المناصب في الجمهورية الرومانية ويمثل رئيس حكومة أو السلطة التنفيذية للدولة. (م)

[71]- Subjectivism (م)

[72]- Jacobin نادي اليعاقبة أو اليعقوبيون، اطلق عليهم هذا الاسم نسبة إلى دير القديس يعقوب، الذي اعتادوا الاجتماع فيه، دافعوا خلالها عن إلغاء النظام الملكي في فرنسا مطالبين بنظام حكم جمهوري يحقق المساواة والعدل بين الناس. اعتبر هذا النادي بمثابة بذرة لنشوء الأحزاب، عند تأسيسه بتاريخ: 10 غشت 1790، وكان يتألف هذا النادي من 152 عضوشكل كتلة داخل الجمعية التأسيسية خلال الثورة الفرنسية، انتخب ماكسميليان روبسبير رئيسا له، وعقب سقوط الملكية في فرنسا عام 1792 انتخب رئيسه أو ل مندوب لباريس للمؤتمر القومي. (م)

[73]- Maximilien Robespierre (م)

[74]-Nicolai Hartmann (م)

[75]- Arthur Schopenhauer (م)

[76]- Social Darwinism الداروينية الاجتماعية نظرية اجتماعية تقوم على أفكار تشارلز داروين في تحقيق التطور عن طريق الاصطفاء الطبيعي وتطبقها على حقل علم الاجتماع. فحسب هذه النظرية الاصطفاء الطبيعي لا يفسر تطور الأحياء البيولوجي فقط، بل يمكن تطبيقه لفهم تطورات وتغيرات التجمعات الاجتماعية البشرية. (م)

[77]-Herbert Spencer (م)

[78]- Giovanni Gentile (م)

[79]-Paul Joseph Goebbels (م)

[80] Technocracy تعني حرفيا حكومة التقنية ويقال حكومة الكفاءآت وبناء على ذلك فإن الحكومة التكنوقراطية تتشكل من الطبقة العلمية الفنية المثقفة، وهي حكومة متخصصة في الاقتصاد والصناعة والتجارة

[81]- Militarism السياسة العسكرية هي اعتقاد أو رغبة حكومة أو شعب بأن بلداً ما يجب أن تظل قوية عسكرياً، وفي حالة استعداد لاستخدام تلك القوة للدفاع أو تحقيق الرغبات القومية. (م)

[82]- Mary Wollstonecraft (م)

[83]-Christine de Pizan (م)

[84]- Aphra Behn (م)

[85]- Joseph Johnson (م)

[86]- Thomas Paine (م)

[87]- William Godwin (م)

[88]- Guy de Maupassant (م)

[89]- Honoré de Balzac (م)

[90]- ةmile Zola (م)

[91]- The Subjection of Women، ترجمه للعربية د.إمام عبد الفتاح إمام. (م)

[92]- النَّاسُوتُ: الطبيعة البشرية، ويقابله: اللاهوت بمعنى الألوهية (م)

[93]-Ferdinand August Bebel (م).

[94]- Alexandra Mikhailovna Kollontai (م).

[95]-Alison Jaggar (م).

[96]- Herbert Marcuse (م).

[97]- Wilhelm Reich (م).