البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ثقافة الغرب في ميزان النقد المعرفي ( الشيخ مصباح اليزدي..نموذجاً )

الباحث :  محمد عبد المهدي سلمان الحلو
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 6 / 2017
عدد زيارات البحث :  2815
تحميل  ( 306.661 KB )
لا يبدو الوقوف على المنجز الفلسفي والثقافي للفيلسوف الإسلامي الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي بالأمر الهيِّن. ويمكن أن يُردَّ ذلك إلى سببين: الاول يعود إلى أنَ الشخصية موضوع البحث ذات غزارة انتاجية في حقول معرفية واسعة تتراوح موضوعاتها بين الفلسفة وعلم الكلام والفقه وعلم أصول الفقه.. والثاني يعود إلى أن مقاربة شخصية فلسفية ودينية رفيعة كالشيخ اليزدي تحتاج إلى منفسح من النقاش والشرح لا يسعه هذا البحث. ذلك لأن القضايا والمعارف التي تناولها في خلال مسيرته التفكيرية كثيرة ومتنوعة ومعقدة. وهو  الأمر الذي حدا بالكاتب أن يركِّز في واحدة من مناطق تفكير الفيلسوف اليزدي وهي نقد الفلسفة الثقافية للغرب الحديث.ـ

المحرر

----------------------------

يعدُّ مفهوم الثقافة من المفاهيم التي اتسع البحث فيها، حتى أصبحت ذات محور خاصّ في العلوم الاجتماعية وعلم النفس الاجتماعي والعلوم الإنسانية الأخرى. فمفهوم (ثقافة) مفهوم له عمق تاريخيّ متطوِّر، وهذا التطوُّر مرتبط بالمجال الاجتماعيّ والسياسيّ ولهذا تعدّدت تعريفات الثقافة: ( إنّ صراعات التعريف هي في الواقع صراعات اجتماعية، إذ  إنّ المعنى يتأتّى من رهانات اجتماعية أساسية )[1].

ومع ان كلمة ثقافة في بدء استخدامها لاتينيّ يعني فِلاحة الارض، لكنّ المفهوم شهد تطوراً وانتقالاً من الفلاحة إلى استخدامات متنوعة : ثقافة الفنون، ثقافة الآداب، ثقافة العلوم [2]، وكان من التعدد أن جمع له المتخصّصون سبعاً وعشرين صفحة تتحدث عن تعريف الثقافة [3]، وحاول تايلور أن يضع لها تعريفاً جامعاً مانعاً وُصِفَ بأنه أقدم تعريف وأشدّها رسوخاً، فعرفها بأنها: (تلك الوحدة الكلية المعقّدة التي تشمل المعرفة والإيمان والفنّ والأخلاق والقانون والعادات، إضافة إلى أيّ قدرات وعادات اخرى يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع)[4] ومن الغريب وصف تايلور للثقافة بهذا المفهوم بأنّ الإنسان لا يتمكّن من امتلاكها[5].

ومن مفهوم الثقافة ننطلق مع المفكر الإسلامي المعاصر (مصباح اليزدي) الذي جعل من الصراع الغربي ـ الجمهورية الإسلامية (الشرق الاسلامي) صراعاً ثقافياً يدور حول مسالة العقيدة والقيم الإسلامية ومحاولة تدميرها، التي جاء بها الاسلام واكدتها الثورة الإسلامية في ايران، فكانت بذلك هذه الثورة امتداداً لثورات الانبياءD، وسياسة الغرب محاولة للقضاء على الحركة الثقافية في الجمهورية الإسلامية [6].

تعدد تعاريف الثقافة 

يرى مصباح اليزدي أنّ الثقافة مصطلح متعدِّد التعريفات، وأنّ تعريفاتها تربو على خمسمئة تعريف، وإن كان لا بدّ من تعريفها فهي مجموعة من الأصول التي تُميّز سلوك الإنسان عن سلوك الحيوان، فتحديد مصطلح الثقافة من خلال أركانها، فالثقافة لها ركنان أساسيان الاول: العقيدة (الرؤية الكونية) التي تعتمد على معرفة الأمور الموجودة أي ما ينبغي معرفته، والثاني: القيم (المثل العليا) ما ينبغي أن يوجد وما يجب على الإنسان أن يفعله[7].

فهذان هما الأساسان لكل ثقافة، وبهما أيضا تمتاز ثقافة على أخرى، وهو  لا يعترض أن يكون من الثقافة الآداب العرفية، أو الكتابة أو اللغة، لأنها أمور إن تغيرت لا يتغيّر (جوهر ثقافة الإنسان) فالإنسان المسلم الذي يتكلم اللغة العربية، إذا سافر إلى بلد ما وتكلّم اللغة الانكليزية، فتغيير اللغة لا يغير ثقافته بجوهرها كما أنها لا تغير جوهر الإنسان بالذات، والحال كذلك في الكتابة باعتبارها وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي، فما يغيّر (جوهر الثقافة) هو  العقيدة (الرؤية الكونية) والقيم (المثل العليا)، ليصل مصباح بعد ذلك إلى رؤية واضحة وحاسمة ومهمة، وهي أنّ تغيير عقائد الشخص هو  ما يغير الرؤية الكونية والقيم وتحويل ثقافته من الايمانية إلى الإلحادية، فالثقافة بهذين الركنين ترتكز على أسس ثلاثة:

رؤية كونية: معارف واعتقادات.

قيم وميول: مثل عليا.

تصرفات وأفعال: سلوكيات[8].

وهذه المرتكزات والاسس تُركّز في مكانة الإنسان في الكون ومعرفته بأمور ثلاثة: محله من هذا الكون، أين هو؟ من أين جاء؟ إلى أين يذهب؟ وعندما يفكر الإنسان ويدرك هذه الأمور الثلاثة، يكّون حدّاً فاصلاً بينه وبين الحيوانية بالوصف القرآني، لأن مصباح يرى أن معنى التفكير القرآني  يختلف عن معنى التفكير العادي.

وبذلك يقسم مصباح الثقافة إلى قسمين: ثقافة إلهية ومن ضمنها الثقافة الإسلامية، مع ما مضى عليها من التطورات، وثقافة إلحادية معتبراً الثقافة الغربية من هذا الفرع بدءاً بعصرِ التجدّد والنهضة وما بعد التجدّد او ما بعد الحداثة. والفرق بين الثقافتين مجموعة امور:

الكون: النظرة الإلهية إلى الكون تختلف عنها في الثقافة الغربية فهي تعتمد على أمر تعلقي، بمعنى أنها ثقافة لا تقوم على امر مستقل وإنما على أمر قائم بالغير، واستدلّ الشيخ مصباح بما ورد في القرآن الكريم: Nلَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّـهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُM (الحج /64 )، في حين أن الثقافة الغربية لا تنظر إلى الكون إلا بنظرة طبيعة مادية.

الإنسان: تنظر الثقافة الإنسانية إلى الإنسان باعتباره ذا بُعد روحيّ، يبقى من خلالها الإنسان إنساناً وإن انفصلت عنه الروح بعد الموت، مُشكِلة هذه الروح هوية وشخصية الإنسان المحفوظة في دنياه وآخرته، وهي أيضا ما تحفظ وحدته كانسان في العوالم المختلفة التي يمرّ بها تكّونه حتّى موته وبعد البعث والنشور، لكنّ الثقافة الإلحادية تنكر وجود هذه الروح وتعتقد بموتها بعد موت البدن ولا علاقة لبقائها مع هذه العوامل المختلفة.

القيم: الاختلاف في زاوية النظر إلى المسائل القيمية (المسائل العملية) قيم، أخلاق، قانون، باعتبارها أموراً اعتبارية أم أصلية، وهل هي تابعة إلى ذوق الإنسان أم أحكام وجدانية، وهنا تختلف النظرة بين الثقافتين.

الدين: من المسائل التي تشكل فرقا بين الحضارتين أو الثقافتين، بين من يجعل الدين أساساً في الحياة كالثقافة الإلهية، وبين من يفصل بين الدين والحياة كالحضارة الغربية [9].

وهذا لا يعني أن مصباح يتّجه اتجاهاً سلبياً من التقدم الغربي، فهو  يحاول أن يفصل بين الثقافة والتكنولوجيا، ولا يرفض التقدم  الحديث أو الإجراءات لأيّ عملية تحديثية في الثرات والآداب القديمة ولا ينكر التقدم التكنولوجيّ الذي حصل في الثقافة الغربية وما وصلت إليه في الجانبين الاقتصاديّ والعلميّ، فهو  تقدم لا ينكر، لكنه لا يُعدّ هذا التقدم (ثقافة)، وكما سبق لأنّ الثقافة عنده الرؤية الكونية مع ما تشتمل عليه من القيم، وخسارة هذين الامرين، يعني خسارة الإيمان والقيم السامية وهذا ما يسعى الغرب جاهداً لهدمه وتخريبه[10].

إن الاهتمام بمفهوم الثقافة بوصفه مفهوماً واسعاً، ينتقل من خلاله مصباح من الهوية إلى الغزو الثقافي، فلكل أمة ثقافتها الخاصّة والمميزة التي تميّزها عن غيرها، وتُكوِّن سببا وملامح بارزة في هويّتها، فالشرقيون تُبنى ثقافتهم بشكل واضح بالمعارف الإلهية والمباحث العرفانية: ((وهذا المعنى ـ يصنّفنا به ما يصفنا به الغربيون كأحد الملامح البارزة لهويتنا ـ ولو أننا لا يمكننا أن نحسن الظنّ كثيرا بكلامهم ـ))[11]، فما يُميز الثقافة والحضارة الشرقية ويحدد لها هويتها هي المعنوية الإنسانية والاخلاق والعاطفة التي تنبى كأساس على فلسفة الاسلام ونظرياته في ما بعد الطبيعة، في حين ان الغرب لا يعرف الا بالتقدم التكنولوجي وحده، وهو  تقدم خال من العناصر المتقدمة ما أثار الامتياز الشرقي مواجهة الغرب بأقسى مواجهة، والعلائقية بين الهوية ومحوها وبين الغزو الثقافي هو  ما يسعى الغرب اليه، لقطع الصلة بين الهوية والدين عند الإنسان الشرقي من خلال القضاء على الفكر والرؤية التوحيدية في كل العالم.

ومع أنه يعترف بضبابية مفهوم الثقافة وتعقيده، في الوقت نفسه يحدّد تعريفاً واضحاً ومميزاً للغزو الثقافي: (فهو  عبارة عن مجموعة الأصول الفكرية القيمية التي تؤثر في السلوك الإرادي والاجتماعي للإنسان) [12].

وكنتيجة للغزو الثقافي الغربي، يميز مصباح بين نوعين من الثقافة الاسلامية، الثقافة الإسلامية المنسجمة، وهي ثقافة تتحدّد من خلالها القيم مع تنسيق وانسجام سلوكي، وثقافة إسلامية لا تراعي هذا الانسجام بين القيم الإسلامية والسلوك ويصفها بأنها ثقافة لقيطة وملوثة ولا تتلاءم مع الإسلام بشيء[13].

ويحدّد مصباح مجموعة من العوامل التي تتفاوت في الأهمية من جرّاء الوقوف ضدّ الثقافة الغربية، فهو  لا يكتفي بوصفها بأنها ثقافة تافهة وملوثة، وليس سبب الوصف المتقدم هو  كوننا شرقيين وهم غربيون، بل من الاسباب وقد يكون السبب الرئيسي لهذا التقابل، الفرق الأصلي بين الثقافة الإلهية والثقافة الملحدة، وهي مسالةُ المادية التي يتمتع بها الجانب الغربي، فلم تكن المخالفة للاختلاف بين الآداب والتاريخ والجغرافية، لكنّ السبب ما تحمله الثقافة المادية من آثار وأبعاد مفسدة تؤدي إلى الانحطاط والسقوط الأخلاقي [14].

والغرب يريد ويجهد بمحاولة لتغيير واضح لمحددّات الثقافة الإسلامية ( المعارف والمعتقدات، القيم والميول، التصرّفات والاحوال ) بما يعني محاولة تغيير رؤية الأفراد إلى الله والعالم والإنسان، والخلط او تغيير القيم الصالحة وعدم التمييز بين ما هو  صالح وما هو رديء، فالغزو يعمل جاهداً لتغيير هذه القيم، وتعتمد تصرفات الأفراد وأفعالهم بصورة مباشرة على هذه القيم والميول بما يؤدي إلى انحرافها [15].

وهنا يعتبر مصباح المعنى السلبي للغزو، ويقابله بمعنى آخر إيجابيّ، يصفه بصفة وطابع إلهيين، يمكن وصفه بـ (الاصلاح) ويشبهه بمشاريع الانبياء لتبديل القيم والسلوك المنحرف الشائع في مجتمع ما، وهذا غزو ـ عمل ـ مقبول وممدوح،: (ونحن نستقبل هذا الهجوم الثقافي الذي يؤدي إلى إصلاح الأخطاء والانحرافات والمفاسد في مجتمعنا) [16] وهذا النوع يواجه بالشكر والامتنان، عكس الاتجاه السلبي الذي يسعى إلى تغيير عكس المطلوب، فيقلب القيم إلى ضدها، ويغير الاعتقادات الصالحة إلى فاسدة، ويزرع بين الناس الترديد والتشكيك وعدم الاعتقاد، مشفوعة بحالة من التفاهات والاعتقادات التافهة الكاذبة، وهذا التمييز يرجع إلى الأصلين الأساسين اللذين بموجبهما تختلف هاتان الثقافتان والأعمال المرتبطة بهما من أعمال أهدافها الأساسية أهداف حيوانية مادية، مع عدم الاعتراض على الإشباع الغريزيّ الماديّ (الاكل، الشرب، الجنس)، لكنّه ينقد الجهود الكثيرة من أبحاثٍ علمية وتحقيقات يكون أساسها الغرائز المادية ذاتها، حتى تكون الأسس التي تحلّ بها المشاكل الاجتماعية هي الاسس الغريزية ايضا [17].

وإنّ من الأهداف الاساسية للغزو الثقافي أيضا وسلب عقائد الأمم، الهدف الاقتصادي ودوافعه المادّية، لكنّ الثقافة الإلهية (ثقافة الأنبياء والمصلحين) تعتمد حين تبديل وتغيير ثقافة الناس تصحيح الاعتقاد والالتزام بالقيم العليا [18].

الرؤية الكونية

يمتاز العالم الاسلامي الشرقي بثقافته الأصيلة والعريقة، وإنَّ دبيب الضعف فيها عرضها إلى هجمات شرقية ـ ماركسية، وغربية اوربية ـ غزو ثقافي، ما أدّى إلى انقسام ذوي الحضارة إلى هذين المعسكرين، فضرورة الإيديولوجية ودراستها لغرض التحصين الفكريّ والعقائديّ للأمة الإسلامية ضد انقسام الإسلام الشرقي إلى مؤيد للشرق، ومؤيد للغرب، والى تائه ضائع بين ذينك الطرفين، من هنا  جاء الاهتمام واضحاً بالرؤية الكونية ـ أحد ركني الثقافة ـ وهي في الوقت نفسه الإيديولوجية بالمعنى الخاصّ، التي تفترق عن المعنى العام بأنها تخلو من أفعال (الوجوب والمنع)، أي سلوكيات الإنسان المشكلة لمجموع أفكاره العملية المحددة لسلوكياته، وتحديد هذا السلوك لا يكون الا وفق نظام عقائدي ـ نظام فكري ـ يبلور الافكار العملية التي تحدد سلوك الإنسان، فالإيديولوجية بالمعنى الخاص: (النظرة الكلية التي تدور حول ما هو  موجود)) والمعنى العامّ إضافة إلى ما سبق، تحدد سلوك الإنسان تجاه ما هو  موجود وتتعلق بأعمال مباشرة ـ وجوب ومنع ـ [19]، وبهذا تتسم الحياة الإنسانية بالطابع الإنساني وفق رؤية كونية واقعية، ترافقها إيديولوجية سليمة، ويدخل ضمنها مضمون الحرية والاختيار الذي يصير الحياة الحيوانية ـ الغريزية وحدها ـ إلى حياة إنسانية باتباعها ايديولوجيتها المقررة: ((فلكي تكون لنا حياة إنسانية حقيقية يجب أن نفهم ما هي أعمالنا؟ ولأي شيء نحن عاملون؟ أو من الواجب أن نعمل هذا أو لا؟ وعندئذ نؤدي ذلك العمل الذي يجب أن نؤديه، وبالطريقة التي يجب أن نؤديه بها )[20].

ويرفض مصباح اليزدي أن تكون الرؤية الكونية متولدة من الإيديولوجية وحدها أو بالعكس، كما يرفض الإيديولوجيات ذات الرؤية الملفقة، التي تأخذ شيئاً من هذا المذهب وشيئا من ذاك المذهب من دون مراعاة للانسجام المنطقي الذاتي بينهما، فالثقافة التي تبنى على مقدمات ونتائج صحيحة، وذات استنتاج صحيح بعيد عن المغالطات هو  ما يكون رؤية كونية منسجمة، ونظام فكري يتمتع بتلك الخاصية نفسها من الانسجام الداخلي والعملي وحسب، والقران يشير بوضوح إلى هذا التمازج بينهما ـ الرؤية الكونية  والإيديولوجية ـ من خلال التفرقة التي تبينها الآيات المحكمات بين الدواب والناس فتنعتهم مرة بالكفر وأخرى بالصم والبكم (إِنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عِندَ اللَّـهِ الَّذينَ كَفَروا فَهُم لا يُؤمِنونَ ) (الانفال /55)، (وَلَقَد ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلوبٌ لا يَفقَهونَ بِها وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرونَ بِها وَلَهُم آذانٌ لا يَسمَعونَ بِها أُولـئِكَ كَالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولـئِكَ هُمُ الغافِلونَ ) (الاعراف/179)، فالحقيقة الإنسانية تدعو الإنسان إلى أن يفكر بقواه المدركة ليظفر برؤية كونية صحيحة تكون أساسا لسلوك حرّ مختار وهذا هو الإنسان المؤمن المتمتع بقيمة إيجابية، والذي يقابله الإنسان المستضعف الذي لا قيمة له لوقوعه تحت ممانعة الطغاة، والجدير بالذكر أن مصباح يقسم الإنسان إلى مجموعة من الفئات:

الإنسان المؤمن ذو القيمة الايجابية.

الإنسان المستضعف الواقع تحت ضغط الطغاة.

الإنسان الغافل الذي يكف عن استخدام التفكير المستقل وقواه المدركة.

الإنسان الكافر ذو القيمة السلبية المتعصب الناكر للإيديولوجية الحقيقية

وللرؤية الكونية بهذا المعنى ثلاثة مباحث رئيسية :

معرفة الوجود: وهي ما تؤهله للحصول على رؤية عامة عن الكون والوجود والرابطة بين المادة والوجود والتساوي بينهما او عدمه.

معرفة الإنسان: وهو  الإنسان المادي الروحي، الذي يملك روحاً تبقى بعد البدن في مرحلة ما بعد الموت، وما تشكله الروح من أهمية في الحياة الخالدة وهل الإنسان مع الروح تكون حياته خالدة ام محددة؟

معرفة السبيل: والسبيل هو  الوحي الرابط للإنسان بين الدنيا والاخرة، بين التوحيد والمعاد، بوصفه ـ الوحي ـ حلقة وسطى بين الرؤية الكونية والإيديولوجية، ويقع ضمن هذه المباحث النبوة، لتكتمل الأصول العقائدية (التوحيد، النبوة، المعاد)، وما يتعلق بمبحث النبوة من مباحث الامامة لتكوين نظرية كاملة، هذا ما يحقق سعادة لا نهائية للإنسان في بحثها وإدراكها ـ من أين؟، وفي أين؟ وإلى أين؟

 التقسيم المعرفي المتقدم يتضمن نقداً للغرب لتخليه عن بعض المباحث المتقدمة، التي تضمن حصول اليقين للإنسان، رافضا الراي السائد في الثقافة الغربية الذي يؤكد أن حصول اليقين إنما يكون من خلال المسائل العلمية ومباحثها، باعتبار أن هذه المسائل العلمية مسائل ذات نتائج احتمالية وليست يقينية، مع ان اليقين هو  المرتكز الاساسي كما تقدم للحضارة الشرقية الاسلامية[21]. ويتضح خطل الراي الغربي اكثر والنقد الموجه إلى الغرب من خلال تقسيم مصباح الرؤية الكونية إلى اربعة اقسام:

الاول: الرؤية الكونية العلمية : فبعد ان يذكر مجموعة من تعريفات العلم، باعتباره اعتقاداً يقيناً مقابل للشك، او مجموعة من المسائل التي لها موضوع مشترك وتدور حول موضوع واحد كعلم الطب، تقع الفلسفة تحت هذا التعريف، لكونها تدور حول موضوع احكام الوجود الكلية، ويعرف العلم ايضا بانه مجموعة المسائل المثبتة بالعلم التجريبي، ويكون بذلك في مقابل الفلسفة، معتمدا على الفرضيات والنظريات التي يحتاج في اثباتها إلى التجربة.

الثاني: الرؤية الكونية الفلسفية: ويعرف الفلسفة بتعريفين الأول، قديم ليشمل كل العلوم الحقيقية وتقسيماتها المعروفة في الفلسفة القديمة، والثاني الجديد، وهو  ما تكون الفلسفة فيه بمقابل العلم، لـتشمل ما بعد الطبيعة وهو  المعروف بالإلهيات او الفلسفة الاولى في الفلسفة القديمة.

الثالث: الرؤية الكونية الدينية: ويقصد بالدين مجموعة العقائد والمسائل الاخلاقية والاحكام والقوانين الفردية والاجتماعية، والتي تمثل المسائل الموحى بها من السماء ومنزلة بواسطة (السبيل) على الانبياء، وهو  ما يقصد به الرؤية الكونية الدينية المنتهية إلى الوحي الالهي.

الرابع : الرؤية الكونية العرفانية : وهي المعرفة الحاصلة عن طريق المشاهدة القلبية، لا بواسطة العقل ولا بواسطة التجربة الحسية، حيث يرى العارف الوجود مظهرا لنور الله تبارك وتعالى [22].

وكما ينقد مصباح الرؤية العرفانية والرؤية الدينية، باعتبار ان الرؤية العرفانية رؤية شخصية محضة لا يمكن أن تنقل إلى الآخرين، أو تقدّم تفسيراً للعالم يقوم على هذا الشهود، ومن جانب آخر فإنّ السلوك العرفاني يحتاج إلى معرفة كاملة بالدين، وهذه المعرفة لا تكون إلاّ من خلال الأسس العقلية الفلسفية، أما الرؤية  الدينية وإن تضمنت مسائل جاء بها الوحي والكتب السماوية، كالتوحيد ومسالة وجود الله تبارك وتعالى والنبوة وغيرها، إلا أن هذه المسائل لا يمكن الاعتماد عليها من دون تقديم برهان (فلسفيّ) لها، خصوصا أنه يشيد بدور القرآن الكريم الذي أشار إلى مجموعة كبيرة من آيات التعقّل والتفكّر العقليّ وبرهان المسائل المتقدّمة لكن: (ورود هذه البراهين في القران لا يسلبها حقيقتها الفلسفية، إذ لا يمكن أن توجد رؤية كونية دينية مستقلة عن الفلسفة)[23].

ينقد مصباح الرؤية الكونية العلمية التي يقول بها الغرب، لكونها تعتمد على منهج تجريبي احتمالي ولا يمكن ان توصل إلى اليقين، خاصة اذا كان تعريف العلم بالمعنى الثالث، مجموعة الفرضيات والنظريات المعتمدة على التجربة، لان الرؤية الكونية تعتمد على الفسقة: (المواضيع الاساسية للرؤية الكونية هي امور فلسفية لا بد من اثباتها بالطريقة العقلية، ولا وجود اطلاقا لرؤية كونية مستقلة عن الفلسفة)[24].

القيم

الجانب الثاني من الجوانب الأساسية للثقافة التي بحثها مصباح هو  جانب القيم، فهل القيم ثابتة خالدة فطرية عقلية؟ أم هي قيم متغيرة بتغير الظروف الزمكانية؟ وهنا يُسلِّط الضوء نقدياً على القيم الغربية التي يرى أنها لا تقوم على أسس ثابتة، وإنما على أسس متغيّرة بتغير الأقوام والأزمان، فشيء له قيمة في هذا اليوم، قد لا تكون له القيمة غداً، وهذه مسألة أساسية في التفكير القيمي، تتفرع عنها مجموعة كبيرة من المسائل منها أصول هذه القيم ومنبعها وتبرير الالتزام بها، وهل يمكن مخالفتها أم لا؟ وهل هذه المسائل القيمية مسائل جدّية أم غامضة؟ وما مدى تأثيرها في الإنسان، وهل هذا التأثير عميق أو سطحي؟ وهل هي تؤثر سلباً أو إيجاباً في الإنسان؟ [25].

وعلى ذلك يفرِّق مصباح بين العقل النظري، الذي يدرك من خلاله وجود الأشياء أو عدمها، ويدرك من خلاله أيضا الرؤية الكونية، وبين العقل العملي، الذي يحكم بالحسن أو القبح، بـالـ (ينبغي) والـ  لا (ينبغي) وهو  الحكم القيمي المقصود[26].

ومن خلال تفرقته بين الواقع و الحقيقة، ينطلق مصباح لنقد الفكر الغربي الذي نظر إلى مسألة القيم بأنها ليس لها واقع عملي، باعتبارها احاسيس ومشاعر في انفسنا ولا يوجد في الواقع العيني المستقل عن الادراك شيء يسمى (القيم) فـ: ((الحسن العقلي والخير الاخلاقي والفضيلة)) يعتبرها علاقة بين أحاسيس وبين أشياء واقعية [27].

ويبين العلاقة بين (الميل) و (الواقع) في الفكر الغربي، فإذا اردنا تحقيق شيء أو نميل اليه نستخدم عبارتي (ينبغي، يجب)، ونصفه بالحسن، لكن بابتعادنا عن تحقيق هذا الشيء أو الميل إليه نستخدم العبارتين عينهما لكن بمعنى الضدّ، لا (ينبغي، يجب) ونصف الفعل الصادر بالقبح، فالحسن ميل إلى الإحساس بهذا الشيء والرغبة في عمله واقعاً، والقبح ميل عن هذا الإحساس والابتعاد عن فعله، وبهذا تكون المصطلحات من حسن وقبح وواجب وغيرها: ((أحكام عملية عقلية ليس لها واقع عيني موضوعيّ إنما هي أحكام ذاتية))[28]، وهذه الأمور ما يطلق عليها بالأمور الاعتبارية، ويدخل ضمنها الجانب الديني أو المسائل الدينية، والقصد من الحكم الاعتباري الحكم الذي لا واقع له، ولا حقيقة له، فلا شيء مطابق للواقع، وكل ما يوجد علاقة بين أنفسنا وبين شيء آخر لا يمتلك شيئاً من الحقيقة وليس هو  مطابق للواقع، وهنا يسقط أي معنى للمطابقة أو عدم المطابقة، فالفعل يكون مطابقا إذا توافق شيء مع شيء آخر، وهذا التوافق أو التطابق يطلق عليه (بالوجوب)، فالوجوب وفق النظرة الغربية ليس إدراكاً لواقع الأمر، وبهذا لا يمكن أن يتصف بالحقيقة، فالقيمة لا توصف بالحقيقة ما دامت تعبر عن إحساس.

وبعد هذا العرض يقدّم مصباح نقده للمسالة الغربية، لأهميتها في الكثير من المسائل الدينية والتربوية والأسرية، وللارتباط المباشر بين هذه المسائل أحكام وجوبية كالحلال والحرام ـ ينبغي ولا ينبغي ـ ولتصادم هذه الأحكام وهذه النظرة بينها وبين الأحكام المتعلقة بالدين وصولا إلى قاعدة اعتمدها عليها الغرب ـ حسب وجهة نظر مصباح ـ يطلق عليها ـ قاعدة التساهل والتسامح ـ ومفاد هذه القاعدة، إذا كانت الأحكام القيمية لا واقع لها وهي أحكام تتعلق بأحاسيس شخصية فلا ينبغي التشدد في العديد من المسائل، فلكل قوم فعل خاصّ بهم وفق ما يحسّون ووفق ما يرون[29]، فالمسائل القيمية مسائل تخضع للتوافق والاختبار والاشتراك بين الناس، فإن اتفق الناس على مسألة يجب مراعاتها حتّى لا تقع الفوضى والاختلاف، ونقد مصباح لهذه النظرة الغربية ويعارضها، باعتبار أن الأمور القيمية لا يمكن الحكم عليها بالسلب أو الإيجاب ما لم يكن وراءها واقع تطابقه، فالاستدلال على حسن شيء أو قبحه إنما يتعلق بمقارنة القيمة مع ما تحققه من أرصدة واقعية، يعبر عنها مصباح بأنها (قيم حقيقة)، فإذا لم يتعلق الحسن والقبح بقيم حقيقة واقعية، تكون هذه القيم قيماً زائفة، لينطلق مصباح من هذه الفكرة والعلائقية بين القيمة والمطابقة، أو القيمة والواقع مع الأحكام الإسلامية وما يتبعها من المصالح والمفاسد، فإن انتهت هذه الأحكام ـ في الواقع ـ إلى مصالح فهي تستند إلى أرصدة واقعية وبذلك لا تكون هذه القيم (نسبية) وفق مقولات الناس وأهوائهم، وإن وصفت بعض الأفعال بالقبح، فهذا أيضا يُدلِّل على أن هذه الأحكام واقعية لأنها عنت مفاسد واقعية[30].

ليصل مصباح إلى مسالة اصالة القيم، فالقول بأن حفظ الأمانة أمر له قيمة واقعية ويصدق عند جميع الناس و لا يخضع لآراء الناس وأهوائهم، وبدون حفظ الأمانة يُعاني المجتمع خللاً كبيراً، ومثل حفظ الأمانة شيوع الكذب الذي يؤدي إلى الخلط بين الصدق وعدم القدرة على التفاهم بين الناس وأبناء الجنس الواحد، ويؤثر سلباً في المجتمع، فالقول بان القيم اعتبارية او نسبية في نظرة الغرب: (مغالطة من المغالطات الشائعة في المدارس الفلسفية السائدة في الغرب)[31]، التي نشأت بنظر مصباح نتيجة للتوأمة بين الليبرالية والاخلاق الوضعية والتي ادت إلى نشوء اتجاهات ثقافية مثل النسبية والاتجاه الفردي في الثقافة الغربية فالملاك في القيمة هو  اللذة، وبما أن الناس يختلفون في الالتذاذ بالأفعال والاشياء فلذة شخص ليس مثل لذة آخر ولهذا تكون الاخلاق والقيم نسبية في المنظور الغربي[32].

إن إثبات القيم يختلف بين الثقافتين الإسلامية والغربية، ففي الثقافة الإسلامية تثبت القيم بالاستدلال والأدلة والبراهين المنطقية، فإذا أثمرت بهذا الاستدلال نستطيع أن نثبت وجوب إحياء القيمة الأخلاقية، لكن ليست هذه الطريقة الوحيدة بل إن تهييج الأحاسيس من الطرائق التي اتبعها الغرب لمجابهة القيم الإسلامية ومواجهتها، لانهم لا يملكون سلاحاً يواجهون به القيم الإسلامية الأصيلة فالتجأوا إلى أسلوب الدعاية المركزة من الكتب والروايات التي يقبلها الناس ويقرأونها بما يؤدي إلى تهييج مشاعرهم واحاسيسهم بالاستفادة من الخيال ويحاولون بثّ نوع من السلوك عن طريق فيلم معين أو شخصية بطل لفيلم[33].

ويزيل مصباح الابهام عن مصطلح القيمة، ويُميِّز بينه وبين القيمة المستخدمة في الاقتصاد، مقسماً إياها إلى قسمين في مجال استعمالها، فالقيمة الذاتيّة تتضح في العلاقة بين شخص وشخص آخر، أي إن العلاقة ذاتية بينهما، لكنّ القيمة الغيرية التي تكون العلاقة فيها للواقع وليس للشيء في ذاته، كقيمة المال، فهي قيمة غيرية للفائدة المرجوة منه وليس لذاته ـ أي ليس مطلوباً لذاته ـ لكن القيمة الأخلاقية بنظر مصباح بعيدة عن القيمة بالمعنى الاقتصادي أو الفلسفي، فالقيمة تتعلق بالأخلاق وارتباطها بالسلوك الاختياري للإنسان، فالملكات النفسانية والأخلاقية انما تحصل نتيجة لتكرار العمل الاخلاقي وتصبح ملكات كالبخل او الكرم وغيرها : ( كلّ قيمة أخلاقية موضوعها السلوك الإنساني أو مبدأها أو نتيجتها الفعل الاختياري)[34]، وللقيمة أهمية كبيرة داخل المنظومة الأخلاقية الاسلامية، ومن جوانب متعددة، من جانب ارتباط اخلاقيات الفرد مع الذات ((النفس))، من جانب ارتباط اخلاقيات الفرد مع الآخر (الله، الاسرة، المجتمع)، في حين ان المذاهب الاخلاقية الغربية ترتبط ارتباطا جزئيا مع ما تقدم، فقد لا تخص الآخر (الله)، الإضافة إلى ما تحققه من عدم انسجام بينها، فوجود تضاد او تناقض بين مجموعة القيم دلالة على عدم وجود الانسجام والاتساق بين هذه القيم (المصطنعة)، ومما يدلل على اصطناعيتها تبدلها وتغيرها بين فترة واخرى ومن جيل إلى جيل، لكن القيم في الاخلاق الإسلامية منسجمة ومتسقة اتساقا وانسجاما داخليين، فهي قيم خالدة ثابتة غير متغيرة، من بداية الدين الاسلامي إلى يومنا هذا، ويشبهها بالشجرة المتأصلة الجذور، وذات الجذع القوي، ويؤكد الارتباط والانسجام بينها ويصفه بالارتباط العقلي والمنطقي[35].

ومع ما تمتاز به القيم الإسلامية من الحسن الفعلي، تمتاز ايضا بالحسن الفاعلي، فمصباح يؤكد ان هناك مجموعة من الافعال التي يكون فيها حسن فعلي مثل الصدق، لكن اذا كان الصدق لغرض الرياء يفقد الحسن الفاعلي، أي لا يترتب عليه الأجر والثواب، وهذا واضح من خلال تعابير القرآن الكريم في آياته (فآمنوا) حسن فاعلي، و(اعملوا الصالحات) حسن فعلي، أي إن الدين الاسلامي يعطي أجراً وثواباً على الفعل الأخلاقي، وبهذا يفترق عن الفعل الأخلاقي في الثقافة الغربية والذي ليس لفعله إلا الحسن الفعلي، فعمل الإنسان غير المؤمن مع امتلاكه للحسن الفاعلي، لكنة يفتقر إلى الحسن الفاعلي، فلا يكون الهدف منه الرضا الإلهي وإنما الشهرة مثلاً، أو إرضاء الناس أو اكتساب المحبة منهم [36].

فهو يعتقد أن المصالح الحقيقة للأعمال والأفعال ترتبط بعالم ما بعد الطبيعة بما فيها من منفعة روحية ومعنوية، وهذه المسائل لا يمكن إثباتها بالمنهج التجريبي الغربي، وأنّ الدفاع عن هذه القيم والمحافظة عليها هو ما يؤدي إلى حفظ الهوية والثقافة الإسلامية من محاولات (التطميس) الذي تقوده الثقافة الغربية، بل إنه يدعو إلى العنف في سبيل الدفاع عن هذه القيم، بعد أن يفرق بين العنف الابتدائي المذموم ـ بمعنى الغزو ـ والعنف الذي يكون مواجها لعنف آخر (لرفع عنف آخر) وهو  عنف لا يتسم بالذمّ، ما زال الهدف منه المحافظة على القيم من الهجمات الغربية والمنع من تبدلها بقيم مفككة منحلة، ويؤكد أن المجتمع الغربي يشيع مقالات غامضة الغرض منها قتل روح الإيثار والشجاعة في نفوس المؤمنين من خلال مقولتهم أن الاسلام يرفض العنف، ليحلوا محلّها قيماً جديدة ذات صبغة تنعدم فيها الحساسية والغيرة الدينية والوطنية وتشيع فيها روح التسامح في إتّباع القيم  بين الناس لغرض سلب الدين، الذي هو  أعز ما يملكه الإنسان المؤمن، وفي المقابل يرفض مصباح استخدام أساليب الغلظة والشدّة في الدعوة إلى هذه القيم مطالباً بأن يكون الخطاب الدعوي، خطاب صدق وأمانة لإدراك الحقيقة والتحرر من الجهل والغفلة [37].

الدين، السياسة، الحق، الحرية 

من الأسباب التي أدت إلى فارق كبير بين الثقافتين من جراء اختلاف النظرة والتفسير إلى مجموعة من المقولات الفكرية في الثقافة الإسلامية ومحاولة صبغها بصبغة عفوية بعيدة عن التصور الديني لها، شكل بدوره نقطة عداء بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية، وكانت اهم هذه المحاور العلاقة بين الدين والسياسة، والحرية، والنظرة إلى الحق والواجب، فمن ابرز المظاهر التي ادت إلى العداء بين القطبين فكرة فصل الدين عن السياسة والاعتقاد ان الكنسية ليس الا مكانا للصلاة والدعاء فالدين مكانه الكنيسة حتى اصبحت هذه النظرة دخيلة على الفكر الاسلامي، والفصل اتسع من الفصل بين الدين والسياسة إلى الفصل بين الدين وتشريع  القوانين الاجتماعية والعلاقة بين الحرية في المفهوم الديني والحرية في الفكر الغربي.

الحرية والكذب في التاريخ من الوسائل التي كانت تزرعها الثقافية الغربية من خلال (أصالة القدرة والقوة)، ومن خلال تطبيق أفكارها وقوانينها بقوة داخل المجتمع، ومسالة تحريف التاريخ يشير إليها مصباح باعتبارها وسيلة لإثبات النبوغ والتطور الغربي، فقام الغرب بحذف كلّ الموضوعات التي تتعلق بالحضارات الأخرى، لتكون الحضارة الأوروبية هي النابغة، ولذلك حذفوا: (الاسلام من المناهج الدراسية بعد عصر النهضة حتى يتجنّبوا الاعتراف بعظمة الحضارات غير الأوروبية)[38]، ولهذا كانوا يعتبرون  أنفسهم أنهم  الافضل، ويصفون غيرهم من الشعوب بانها الادنى [39].

يربط الشيخ اليزدي بين مفهومي (الحرية والدين) من جهة، ومفهوم ولاية الفقيه من جهة أخرى، وهذا تحت سقف الدين وفصله عن السياسة، وينطلق من فكرة الحق، ويعتبر الحقوق من المسائل المهمة التي سبق أن اكد الغرب أنها تتعلق بالإنسان وحق الشعب، ويعزل الغرب بينها وبين حق الله تبارك وتعالى، في حين أن النظرة الإسلامية إلى الحقوق وخاصة حقوق الإنسان تنشأ من حق الله سبحانه، فحقه تعالى أن يعبدوه  ويُطيعوه وينفذوا أوامره، جرّاء هذا الحق في العبادة، فإن هناك ثواباً ينتظر الإنسان الذي يُراعي هذه الحقوق، لكن هذه الموضوعات لا تتفق والنظرة الغربية، أو بعض من يُطلق عليهم مصباح (مستنيري الفكر المتدين) الذين تأثروا بالثقافة الغربية، مُطلقين على  هذا العصر، عصر التجديد او عصر التحضر، ومبدأهم  ليس الاهتمام بالواجبات التي المفروضة على الإنسان المسلم في الدين الاسلامي، مقابل حقوق مضمونة لهم، فالثقافة الغربية تنتزع الحقوق انتزاعا [40].

إذن هناك علاقة بين الحق والواجب في الدين الاسلامي كما يؤكد اليزدي وهي ذات أهمية كبيرة في استمرارية المجتمعات البشرية وديمومتها ومن جملتها المجتمعات المعاصرة، ويوضح العلاقة بين (الحق) و (الواجب)، مؤكداً أنّه إذا كان للإنسان الأول حقٌّ على الإنسان الثاني، فمن (واجب) الإنسان الثاني احترام (حق)الإنسان الأول، وهذه الخاصية تنتقل من الفرد إلى المجتمع، فيوجد حق لمجموعة من الناس إزاء مقابل هو  (الواجب) لجماعة أخرى، هذه النظرة الإسلامية تختلف عن النظرة الغربية التي تدعي الحقوق من دون أن يكون أمامها نوع من الواجب، لذا هم يقولون بانتزاع الحق إنتزاعاً دون مقابل من واجب[41].

فمنشأ النظرة النقدية للغرب، هو ترك العبادة لله تعالى، فالعبودية حقٌّ له، لكونه تعالى خالقنا، وخالق العالم، وبذلك يتوجب علينا (واجب) حق العبادة، ما دفع الغربيين إلى عدم الاعتقاد بخلق العالم وعمد الاعتقاد بوجوده تعالى، وأن منهم من ذهب للقول بوجوده تعالى من دون حق للطاعة له، وذهب فريق ثالث إلى أنه موجود، ومفترض الطاعة، وله واجبات وأوامر، لكن لا يوجد أي إجبار على الطاعة اتساقاً مع نظرية الإنسان الحرّ، ومصدر الإعتقاد هو ما جاء به "أوجست كونت" حين فصل الدين عن الاخلاق، من جرّاء هذا الفصل تحققت أخلاق لا إلهية وظهر ما يُسمّى بالدين الوضعيّ، دين بدون إله، بنوا له معابد لعبادة الإنسان وحققوا (دين عبادة الإنسان) وأصبح "كونت" نبيّاً لهذا الدين[42]. فلقد أصبح مفهوم الحرية عندهم وثناً، وأصبح من المفاهيم الدخيلة في الفكر الإسلامي، حتى أثاروا تنافي مفهوم الحرية مع مفهوم الحكم السياسي والإجتماعي في الإسلام، وهي مغالطة كما يُعبِّر مصباح، رافضاً مفهوم الديمقراطية بعد أن يُقدِّم لها مصباح صورة واضحة عنها وعن نشوئها في المجتمعات الغربية القديمة، وهو يؤكد أن هذا الاستخدام اختلف في النظام (العلماني) عن ما كان مستخدماً في السابق، فالنظام العلماني يستخدم مفهوم الديمقراطية بما يعني فصل الدين عن السياسة والمجتمع، فمع قولهم بالحرية لكن هذا المفهوم الجديد للديمقراطية لا يسمح للأشخاص بممارسة الشعائر الدينية في الدوائر الحكومية والمؤسسات، إنّ القائلين بالديمقراطية يُعطون أصالة الحكم و السلطة للناس، مع أن هذا الرأي لا يّتفق ونظرية الحق الإلهي لاعتبار أن الحاكمية كـ (حق) ليس ثابتاً للناس فرداً فرداً، لأن جميع الوجود متعلّق به تعالى، فعلى الإنسان أن يُحسن التصرّف طبقاً لأوامر الله  تعالى المالك الحقيقي ونواهيه، فليس من حقّ الناس أن يُمارسوا الحُكم على الآخرين أو أن يُعيّنوا لهم حاكماً، وبما ان الملك له تعالى، الحاكمية له، فهو  خول النبيs واعطى له مشروعية الحاكمية على الناس والتصرف في اموالهم وحقوقهم وصلاحياتهم. كان الرسول الأعظمs، في أعلى مركز في الدولة لكنه لم يكن له سلطة على الناس، والناس يملكون حرية فيما يفعلون مستدلا على ذلك بآيِ القرآن Nَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍM (الغاشية)، Nوَلَو شاءَ اللَّـهُ ما أَشرَكوا وَما جَعَلناكَ عَلَيهِم حَفيظًا وَما أَنتَ عَلَيهِم بِوَكيلٍM (الانعام)، Nمَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَM (المائدة)، لأن هدف الرسالة هو  معرفة الناس بالحقِّ ومسلكهم سلوك السعادة، وهذا ما لا يكون بالإكراه لعدم انسجام الإكراه مع التربية الإنسانية، فضلاً عن أن جوهر التربية هو معرفة الناس الحقيقة عن وعي ومعرفة[43]، ومن الإيمان الحقيقيّ التسليم والاتباع للرسولs، لأن الإيمان بشكلٍ نظري دون التطبيق العملي بدعوى الحرية، موقف يُشبهه مصباح بالفعل الديمقراطي حين ينتخب مجموعة من الأشخاص أصحاب المواعيد ـ المرشحون للإنتخاب ـ بعد أن يأخذوا مواقعهم في الحكومة فيبتعدوا عن الوعود التي يُطلقونها وهذا هو مفهوم الحرية الغربية التي جعل الغرب لها أكثر من مئتي تعريف مؤكداً الإلتباس بهذا المفهوم، وأن من العقل أن يكون الإنسان حرّاً كي يعتنق الدين الإسلامي، فمن لم يكن حرّاً فكيف يتسنى له الاعتقاد والإيمان بالإسلام؟ [44].

ومع تعدّد ألوان الحريّة الغربية ـ حرّية الدين، حرّية العقيدة، حرّية الزواج...الخ ـ فإن هذه الحريات لا يمكن تقييدها باعتبارها حقوقاً طبيعية، مع أن الحرية التي فرضوها مُقيّدة بحقوق الآخرين حتى أكدوا أن الحرية فوق القانون ولا يمكن تقييدها ـ فإن هذه الحرية منشأ الفساد بمختلف أنواعه ـ الأخلاقي والجنسي والاجتماعي ـ لاعتقادهم أن الدولة لا يحق لها أن تتدخل في تحديد حرية أبنائها، وبذلك جعلوا العقائد من الأمور الفردية النسبيّة الشخصيّة، وكان هذا من وراء الاسباب التي دعتهم إلى تزوير تعريف الثقافة ومعناها حتى يحددوا النقاط التي يتمكّنون من خلالها الهجوم على الشعوب المختلفة.



[1]* ـ باحث وأستاذ في كلية التربية ـ جامعة الكوفة ـ العراق.

ـ اية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي من مواليد الجمهورية الإسلامية الايرانية، ولد عام 1935، درس وتتلمذ على بعض العلماء البارزين مثل الامام الخميني والشيخ بهجت ودرس الشفاء والحكمة المتعالية عند السيد محمد حسين الطباطبائي، يترأس مؤسسة الامام الخميني للتعليم والبحث العلمي في قم المقدسة، وهو  عضو سابق عن محافظة خوزستان الايرانية وحاليا عن محافظة طهران في مجلس خبراء القيادة، له مجموعة من البحوث والمؤلفات في الفلسفة الإسلامية والمقارنة والالهيات والاخلاق والعقيدة الاسلامية.

http://mesbahyazali.org/arabic/ http:mesbahyazdi.ir/ar.

- 1. دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة : منير السعيدان، المنظمة العربية للترجمة، بيروت – لبنان، الطبعة الاولى، 2007، ص 11.ـ

[2]- المصدر السابق، ص 18.

[3]- كليفورد غيرتز، تاويل الثقافات، ترجمة : محد بدوي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت – لبنان، الطبعة الاولى، 2008، ص 81.

[4]- المصدر السابق، ص 8.

[5]- المصدر السابق، ص 8.

[6]- الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، اصول المعارف الإنسانية، ترجمة : مركز نون للتاليف والترجمة، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، بيروت –لبنان، الطبعة الاولى، 2001، ص 9.

[7]-المصدر السابق، ص 11. وينظر ايضا : الغزو الثقافي، مؤسسة ام القرى، قم – ايران، الطبعة الاولى، 2005، ص 73.

[8]-  اصول المعارف، مصدر سابق، ص 11.

[9]- اصول المعارف، مصدر سابق، ص 163-164.

[10]- المصدر السابق، ص 170، وينظر الغزو الثقافي، ص 13.

[11]-  الغزو الثقافي، ص 9.

[12]- المصدر السابق، ص 11-12.

[13]- الغزو الثقافي، مصدر سابق، ص 15.

[14]- المصدر السابق، ص 21.

[15]- المصدر السابق، ص 75.

[16]- المصدر السابق، ص 77.

[17]- الغزو الثقافي، مصدر سابق، ص 78.

[18]- المصدر السابق، ص 81.

[19]- الإيديولوجية المقارنة، مصدر سابق، ص 10.

[20]- المصدر السابق، ص 11-12.

[21]- الإيديولوجية المقارنة، مصدر سابق، ص 15-17. ينظر ايضا، اصول المعارف الإنسانية، مصدر سابق، ص 161-167.

[22]- الإيديولوجية المقارنة، مصدر سابق. ص 19-22.

[23]- المصدر السابق، ص 24

[24]- المصدر السابق، ص 24.

[25]- المصدر السابق. ص 19.

[26]- المصدر السابق، ص 78.

[27]- مصدر سابق، ص 80.

[28]-مصدر سابق، ص 79.

[29]- المصدر السابق. ص 79.

[30]- اصول المعارف الإنسانية، مصدر سابق، ص 82. وينظر ايضا : الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي،النظرية السياسية في الاسلام، ترجمة: خليل الجليحاوي، دار اولاء، بيروت –لبنان، الطبعة الاولى، 2008، ج2، ص 269.

[31]- اصول المعارف الإنسانية، مصدر سابق، ص 84، وينظر ايضا : الغزو الثقافي، مصدر سابق، ص 181-182.

[32]- الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي،النظرة الحقوقية في الاسلام، ترجمة : وليد المؤمن، دار اولاء، بيروت –لبنان، بدون طبعة ولا تاريخ ج1، ص 367، وينظر : ج2، ص 269.

[33]- الغزو الثقافي، مصدر ثقافي، مصدر سابق، ص 161-163.

[34]- الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، الحاجات الاساسية للادارة الاسلامية، ترجمة : سلمان الانصاري، دار النبلاء، بيروت –لبنان، الطبعة الاولى، 2002، ص 148.

[35]- المصدر السابق، ص 151.

[36]-الحاجات الاساسية للدارة الاسلامية، مصدر سابق، 280-283.

[37]- النظرية السياسية في الاسلام،مصدر سابق، ج2، ص 220-222.

[38]- الغزو الثقافي، مصدر سابق. ص 32.

[39]-  المصدر السابق، ص 32-33.

[40]- النظرة الجقوقية في الاسلام، مصدر سابق، ج1، ص 167-177.

[41]- المصدر السابق، ج1، ص 177.

[42]-  المصدر السابق، ج1، ص 178 وكذلك ينظر : ج2 ص 210.

[43]- النظرية السياسة في الاسلام، ج1، ص 82.

[44]- المصدر السابق، ص 107.