البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

« معرفة الحداثة والاستغراب » للباحث كتشويان نيان ( تنظير جديد في نقد الذات والآخر )

الباحث :  جهاد أ. خضر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 6 / 2017
عدد زيارات البحث :  2122
تحميل  ( 322.854 KB )
صدر هذا الكتاب عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي في بيروت وهو للمفكر الإيراني حسين كتشويان نيان وعنوانه: «معرفة الحداثة والاستغراب ـ  حقائق متضادة».

يعتبر هذا العمل في نظر الكثيرين من النقاد والقارئين في إيران والعالم العربي، من الأعمال النادرة والمميزة في مجاله الفكري. والسبب هو انه يناقش علم الاستغراب انطلاقاً من تحليل عميق له من وجهة نظر الحداثة الغربية نفسها. أي أنه يحاول أن يكشف كيف تناول فكر الحداثة في الغرب قضية الاستغراب باعتباره علماً ومعرفة من جهة، ومن جهة اخرى باعتباره علاقة مع الآخر في عصر الاستعمار.

ومن الواضح أن البحث في علم الاستغراب يأخذ مساحة مهمة من جهود الأكاديميين والباحثين في إيران. وهذه الجهود تعتبر نادرة في المجتمعات الإسلامية بصورة خاصة، وفي مجتمعات العالم الثالث بشكل عام.

وهذا ما يوضحه المؤلف في التمهيد لكتابه عندما يقول إن فكرة التأليف ولدت أثناء مؤتمر شارك فيه حول «علم الاستغراب»، «فوجد الفرصة السانحة لتدوين ما كان يختلج في ذهنه من أفكار، ثم اقتضت الحال أن يصل الأمر الى هذه المرحلة، وأن تتمخّض المقالة القصيرة عن كتاب بهذا الحجم.

وحول الأسباب التي دفعته الى طرق  هذا الباب الجديد في معرفة الغرب. يلاحظ المؤلف انه عندما يدَّعى أن ثمة مجالاً بحثياً جديداً يحمل اسم «الاستغراب» أو «علم الاستغراب» قد بدأ يزهر حديثاً، فسيكون من الضروري إثبات دعوى حداثة هذا المجال البحثي وأهميتة العلمية والحضارية. قبل هذا الإثبات لا يمكن ـ بحسب الباحث ـ القيام بأي خطوة، وهذا يفترض برأيه عدم القيام بأي خطوة في الوقت الحاضر من دون تأمين هذا الشرط المنطقي(أي إثبات كون الاستغراب هو قضية معرفية مغايرة لتقاليد الدراسات الغربية.

يقع الكتاب ضمن أربعة محاور جاءت على شكل فصول. هذا بالاضافة الى المقدمة والخاتمة. أما هذه المحاور فقد تناولت القضايا التالية:

ـ الحداثة و«علم الاستغراب»: محورية الإنسان والمجتمع والتاريخ الأخير للعالم.

ـ علم الحداثة الغربي من الحداثة بمثابة التاريخ البشري العامّ الى الحداثة بما هي تاريخٌ غربيٌ خاصّ.

ـ الوعي الذاتيّ في الحداثة: الحداثة كبداية للتاريخ ونهاية له. وبالتالي قبول الحداثة باعتبارها انتصاراً للعقل في التاريخ بل هي مانعٌ لا يُخترق في وجه الاستغراب.

ـ علم الاجتماع كأسلوب علمي العلميّ لفهم الذات وكمسار معرفي عرض الحداثة على الآخرين.

ـ علم الحداثة المابعد حداثيّ: الحداثة القلقة أو الحداثة المطلقة.

ـ تطورات علم الحداثة في الشرق: عملية الانعتاق من الوعي الحداثوي.

ـ علم الحداثة الاولي لدى الإيرانيين: قبول التاريخ الحداثوي باعتباره تاريخاً لمسار العلم والعقل البشري الطبيعي.

ـ عدم رؤية الحداثة حداثةً: الظن المهلك بالتساوي بين الشرق والغرب الحداثوي.

ـ علم الحداثة الاجتماعي وفيه يتطرّق إلى المرحلة ما بعد الثورية أو ما بعد الحداثوية وظهور إمكانية القيام بالدراسات الغربية.

ـ شروط إمكان الاستغراب اللوازم المؤسّساتية وإلزامات التوجّهات المعرفية.

ضرورة فهم الاستغراب

النقطة المثيرة للجدل والإشكالية في هذا التحدي الجديد الذي يتصدى له الكاتب هي عدم وجود خلاف حول كون المسألة المحورية لجميع المصلحين والمفكرين ممن يهتم بالشأن الغربي هي السعي الى فهمه. لكن المشكلة الكبرى التي كانت تواجهها الدراسات الغربية هي أنها تعمل وفق ذهنية لا تعترف بالآخر وما قدّمه من إنجازات. والواضح أن منهج عمل الدراسات الغربية يتضمن نفوذاً وانتشاراً استعمارياً للحداثة في الشرق ولا سيما في ايران، وهو ما روِّج له تحت مسمى العلم، مع أنه لم يكن سوى دراسات غربية لا أكثر. وبعيداً عما تحدث عنه الأفراد حول الحداثة ضمن المجتمع على مدى تاريخ طويل من المواجهة مع الغرب، وما كُتب عنه منذ حوالى مئة عام خلت، فقد أمست الدراسات الغربية عملية مستمرة للبحث العلمي ولا سيما بعد تأسيس الجامعات والمراكز العلمية.

إن ما يحتم ضرورة التطرق الى هذه القضية وتوضيح علاقة «الاستغراب» باعتباره نطاقاً متمايزاً عن «علم الحداثة» هو الأعمال التي قُدِّمت وتُقدَّم تحت عنوان «الاستغراب». فما عرض في إيران خلال ثلاثين عاماً خلت لا يدل على أي علامة فارقة عن لخصائص هذا المجال وميزاته مقارنةً  مع ما كان يدرس في الجامعات قبل ذلك حول الغرب، ضمن إطار العلوم المختلفة، وما يدرس الآن بالطريقة نفسها. واللاَّفت للنظر ان المؤلف يبدأ من أول الكتاب بممارسة نقدية للنخب الإيرانية التي درست وتخصصت في مجال الفكر الغربي. وأكثر الأعمال التي صدرت، ليست برأيه، سوى تكرار للنظريات الغربية ضمن إطار معرفي متنوع حول التاريخ والمجتمعات الغربية، أو حول ظهور الحداثة وتطورها من خلال ما قدمته العلوم الاجتماعية والإنسانية، وما أضافه المفكرون الغربيون، ويدرس تحت عنوان «العلم».

وعلى أي حال، يتطرق هذا الكتاب الى مشكلة «الدراسات الغربية» الأساس، وهو يشكل محاولة جدية للإجابة عن الوجه الفارق بين هذا الحقل العلمي وأي حقل بحثي آخر يحوم حول الحداثة، او قد يعد إجابة فعلية عن التساؤل الذي يثار حول الغرب باعتباره صاحب حضارة خاصة ومتميزة.

ومع السعي الى الوصول الى هذا الهدف، يهتم الكاتب بالاجابة عن السؤال التالي: ماذا لو لم يكن لدينا «دراسات غربية» في إيران؟ وبمعنى آخر: ونظراً الى الأهمية التي يحظى بها هذا التساؤل، فقد أخذ السعي الى تقديم إجابة عنه حيزاً كبيراً من العمل، حيث بذل المؤلف جهوداً علمية بارزة عندما ركز في بحثه على الشروط الممكنة لتأسيس حقل بعنوان «الدراسات الغربية»، باعتباره مقدمة لازمة للإجابة عن هذا السؤال، او نتيجة يمكن تحصيلها من خلال الإجابة عنه في النهاية. وبهذا المعنى يؤكد الكتاب مراعاة لوازم وشروط لا يمكن لـ «الدراسات الغربية» ان تتحقق من دونها.

ما هو  المقصود من الاستغراب؟

يلاحظ المؤلف ان «الاستغراب» هو ـ قبل أي معرفة ـ يرتبط بالمعرفة عن الذات والمعرفة الذاتية، ولا شك في أن كل رأي يخالف هذا القول ناشئ عن إدراك ستاتيكي وخاطئ عن العلم؛ فالمعرفة غير الموجهة في ذاتها ليست من الأمور والموضوعات غير الممكنة حسب؛ بل هي من الشؤون غير المؤاتية ايضاً. كما أن المعرفة في ذاتها ليست متاحة للإنسان، كما يعبر عنه في الرؤية الارخميدسية او الرؤية الإلهية، وهذا أمر بديهيٌ وجليٌّ لا يحتاج الى استدلال أو حتى إلى إيضاح. فبدون امتلاك رؤية خاصة لن يكون ثمة سؤال محدد، ومن دون وجود السؤال لن تكون المعرفة متاحة أيضاً، وبالتالي ففي حال عدم وجود علاقة أو اهتمامات، من أين يمكننا ان نتعرف الى ما نتطرق اليه والى الجانب الذي يجب ان نخوض فيه؟ إن التفات الذهن الى موضوع ما ومن ثم البحث فيه عقلياً لن يكون ممكناً بمعزل عن امتلاك رؤية خاصة وسؤال خاص.

على أي حال لو كانت المعرفة الحاصلة من «الاستغراب» تتضمن إدراكات تختص بتعاملنا ومواجهتنا للوعي الذاتي الغربي الخاص بنا وبوجودنا، فحينئذٍ ينبغي أن نعيد النظر بأسئلتنا وقضايانا المعروفة بالنسبة الى علاقتنا بالحداثة وبالغرب. لكن لا يبدو ان الحصول على هذه الأسئلة والقضايا أمرٌ ممكن بدون وعي الذات والإدراك الجلي والعميق المتسع لأنفسنا ولهويتنا الإيرانية.

المشكلة والازمة الخاصة بالعلم في إيران تتحد ـ كما يلاحظ المؤلف ـ في افتقاد والقضايا الخاصة, باعتبارها محوراً لبرنامج بحثي في المجالات الدراسية والبحثية، لذلك بلا أي لبس وغموض، فإن عدم تشكل مؤسسة العمل والمجالات المولدة للدراسات والنظريات يعود بشكل أساس الى عدم إدراك الذات واللَّبس المسيطر على أهل العلم في إدراك الأبعاد المختلفة للهوية الايرانية يحصل  هذا الى درجة أن المشكلة لا تنشأ من افتقاد الهوية الحية والفعالة او الامر الذي يرتبط بالوجود الحقيقي والواقعي للهوية، ولا تعود هذه المشكلات والتقليد غير المنتج للتنظير الحداثوي الى عدم الوضوح وفقدان الوعي بالذات بالنسبة الى الهوية فحسب؛ بل إلى فقدان الهمّ العلمي الذي هو شرط أساس وضروري لتشكيل مؤسسة العلم والبرامج البحثية المستمرة التي تنظوي تحت التأثير ذاته.

وبنظرة إجمالية الى تاريخ التنظير الاجتماعي للحداثة يتطرّق المؤلف إلى دور المعرفة وأثرها العميق والشفاف لدى المنظرين الغربيين بالنسبة الى الهوية، ولا سيما قيمها الاصلية ومقاصدها الحضارية، ودور هذه المعرفة في تشخيص القضايا وتوجيهها نحو العلوم الاجتماعية في مسارها التغييري. على أن الارتباط الوثيق بين هذه التنظيرات، وتناسبها مع الأوضاع الاجتماعية والأزمات التي تواجهها خلال المراحل المختلفة للتنمية التاريخية للعلوم الاجتماعية، لا يمكن توضيحه وتفسيره إلا من خلال حضور المنظّرين الغربيين الفعّال في قلب الحياة الجماعية للمجتمعات الغربية ومشاركتهم في التحولات المختلفة لهذه المجتمعات، مع امتلاك المعرفة الذاتية الكاملة بالنسبة الى الأهداف الغائية والقيم المحورية للهوية الحداثوية.

نقد الحداثة العقلانية

في إطار إحاطته بموضوعه الشائك لا يكتفي المؤلف بالنقد الذاتي بالنسبة إلى القصور الحاصل في فهم آليات التنظير الغربي للاستغراب، وإنما يعمل على تفكيك جانب أساسي في العقل الحداثوي الغربي وتبيين مواقع الخلل فيه. وقد اعتبر انه مع تقديم الحداثة نفسها على أنها تحولٌ عقلاني، وأنها المرتبة العليا التي وصلت اليها البشرية في مسارها التاريخي، فإنها لم تحمل إمكانية بناء سدود بطريقة عقلانية بعد الوصول الى ما وصلت اليه في مسار تطورها وتثبيتها لأقدامها. بل قدمت ذاتها على أنها الخيار الوحيد الذي يجب قبوله بما هو معيار للتقويم، وبما  هو حالة طوباوية لا يحق للبشرية التماس غيرها ولا البحث عنه. ولم تكتفِ الحداثة بذلك بل أذنت لنفسها بأن تتحول أداة من أدوات الاستعمار ووسيلة من وسائله التي يستخدمها في مهاجمة سائر الشعوب بحجة تحديثها والسير بها نحو الحالة المثالية المطلوبة.

ولا شك في أن العلم الغربي كان الوسيلة الأشد إغواء في نجاح الحداثة في تقديمها لذاتها، وقد ترك هذا السلاح أثره الفعال في الشرقيين عموماً وفي الإيرانيين أيضاً، فلم يعد ممكناً لكثير من المفكرين في هذه البلاد تصوّر خيارات اخرى سوى الصورة الغربية عن الحداثة.

وبسهولة يدرك من كان لديه الحد الأدنى من المعرفة بأفكار المتنورين الأوائل، الحد الذي وصل إليه وضعهم الذهني المهزوم بسهولة، كما يدرك سبب شغفهم التام بالحداثة  وبكل ما يعرف عليهم. ولا يدرك هذا الوضع الان بالسهولة التي نتحدث بها عنه، لكننا لو حركنا أذهاننا يمكننا أن نضع أنفسنا قليلا مكان من كانوا في حضارة مهزومة وتعاملوا مع هذا الوضع، وجرّبوا نتائج الهزيمة الكارثية بعد هجمات متتابعة، وسمعوا الادعاءات القائلة بانتصار العلم والعقل، وأنصتوا الى الأخبار غير القابلة للتصديق حولها.

وعلى الرغم من المساعي التي كان العلماء يبذلونها بأشكال مختلفة لإيجاد موانع نفسية – ذهنية واجتماعية لازمة لتأسيس إطار معقول لمواجهة الحداثة، كان قبول ادعاءات الحداثة واحتضان كل ما يتصور عن انتصار العقل والعلم كان يبدو كأمر طبيعي لا بد منه. ولهذا السبب عُدّت المعارضة التي كان يظهرها بعض علماء الدين معارضة للعلم والعقلانية اللذين باتا أمراً طبيعياً لا بد منه، وإن كانت نتيجتهما عكس ما كان يراه علماء الدين. وبالتدريج تحقق اندثار جميع البنى والمؤسسات التي كانت توفر نوعاً من المواجهة المعقولة، وساد الصمت المطبق في وقت انزوت فيه آخر الاصوات والمقاومات بعد استسلام الديكتاتورية القائلة والمبشرة بالتجدد والحداثة على أساس الأسباب والعوامل المشابهة- والتي كانت تطور مشروع تخريب المجتمع بعنف قمعي تحت مسمى «التحديث»-، وعُرض تصور عن الحداثة يماهي الواقع والحقيقة، تتبدل فيه إرادة الحداثة والتحديث في شكله البائن والخفي ضمن مجموعات قيمية وبنيوية الى إرادة عامة، أو بالحد الأدنى بات ما يرتبط بالعلم والتقنية هدفاً قومياً دون أدنى مقاومة.

نقد أدوارد سعيد للاستشراق

لقـد  اهتم إدوارد سعيد بنقد الاستشراق، حيث رأى أن علماء الاستشراق أخطأوا في فهمهم للمجتمعات الشرقية وخاصة الاسلامية، وجافوا الحقيقة والصواب من خلال الدور والأداء الذي تمارسه هذه النظرية في ترويج الحداثة والاستعمار ونشرهما، والمشاركة في تكوين الهوية الغربية وتثبيتها. يقول المؤلف في هذا المجال:

قد لا يكون نقد سعيد صائباً إلا إذا كان نظره ممتداً نحو تأثير المقاصد والأهداف الغربية؛ إذ حين يُهتم بتأثير المقاصد والأهداف الغربية ـ مع غض النظر عن عدم صحة هذا التصور عن الشرق والشرقيين ـ تصير هذه المداخلة والتأثير في الحقيقة شرطاً منهجياً، حيث يصبح التنظير غير ممكن في حال فقدان نوع من هذ العلائق المعرفية. وجلي أن سعيداً كان ناظراً الى هذا النوع الثاني من المداخلات، ومن هذه الجهة فقد اهتم بنوع من الفهم الوضعي الذي يرفض تدخل القيم والعلائق في العلم، ويعتبره موجباً للخطأ المعرفي. لكن هذا الفهم الذي فُرض بشكل ضمني في أداء سعيد يتناقض مع منهجية فوكو في دراسة الاستشراق.

ومن الواضح أن المطالبة بالحصول على معرفة وحقيقة مطلقة او معرفة ارخميدسية او إلهية وخارجة عن المكانة التاريخية ـ الاجتماعية للمنظر هي شأن خاطئ وأمر غير صائب لا يمكن تحقيقه. ومع غض النظر عن نقد سعيد، فإن ارتباط التنظير الاستشراقي مع الهوية الحداثوية والأزمات الخاصة بها في مواجهة الشرق، هو أمرٌ خارج عن أي سؤال او شك وتردد، وإن كانت نخب الشرق وضعاً مشابهاً في التنظير للتنمية. وفي الأساس، فقد جاء هذا النوع من التنظير نتيجة لتطبيق فلسفة التاريخ والنظريات الاجتماعية على المجتمعات غير الغربية، التي اتخذت موضعها من التحولات والتغييرات الحاصلة في العلاقات الاستعمارية الغربية مع الشرق. وليس من شك في أن جزءاً من الأسباب التي كان لها تأثير في قبول هذا القسم من النظريات الغربية حول العالم غير الغربي من قبل الشرقيين، ومن بينهم إيران، ولا سيما أهل الفكر فيها، مع غض النظر عما قلناه وما نعمله، إنما يعود الى افتقاد الإدراك الواضح للهوية الشرقية والإيرانية، وعدم توضيح أبعادها المختلفة، ولا سيما أهدافها الغائية وقيمها الاصيلة. وقد بات من الواضح ان عدم تشكل هذا النوع من الإدراك يعني عدم تشكل منهجية صحيحة وخاصة بما يتعلق بالاسئلة والقضايا المنبثقة عن إدراك المكانة التاريخية ـ الاجتماعية للهوية الايرانية واحتياجاتها وأزماتها ايضاً. وحسب مؤلف الكتاب فإنه في ظل غياب المنهجية الصحيحة والاسئلة او القضايا المرتبطة بتطور الهوية الايرانية ونموها، ستصبح المنهجية الغربية وتنظيراتها الاجتماعية حول القضايا والأزمات التي تحيط بالمجتمع غير الغربي مقبولة بشكل واع وغير واع. وعلى هذا الأساس لا يبقى أدنى شك وتردد في ان حقل «علم الاستغراب» بعد انعتاقه من علم الحداثة وفرضياته المسبقة المختلفة – ومن بينها الفرضيات الخاصة بها ـ يستدعي امتلاك برنامج بحثي خاص بها. لكن الخطوة الاولى والعمل الضروري لتشكل البرنامج البحثي هو امتلاك أسئلة وقضايا مفيدة توضع ضمن محور هذا البرنامج ونواته بالتمايز مع أسئلة القضايا الحداثوية.

وعلى أي حال، فإن هذه الأسئلة والإشكاليات التي يواجهها فرد ما او شعب ما في خضم السعي الى بقائه وتطوير ذاته تؤدي بالضرورة الى ظهور اسئلة وتشكل قضايا لحل هذه الازمات والاحتياجات. إن تحليل هذا الموضوع على النحو الذي تناوله المؤلف، يخبرنا بأن ظهور الاسئلة والقضايا المحددة التي توجه من خلال التعامل مع المشكلات او مواجهة الاحتياجات ترتبط بشكل ماهوي مع خصائص الفرد والشعب الذي يتعامل مع هذه التحديات وميزاته.

من أجل ذلك تتنوع الفوارق والاختلافات في المشكلات، وتتنوع تبعاً لها الأسئلة والقضايا الخاصة بالأفراد والمجتمع، لما للأفراد والمجتمعات فيها  من هويات متنوعة ومختلفة. وينتج عن ذلك احتياجات وهموم متغايرة، حيث تعطيها الوجهة الخاصة من خلال تعاملها والازمات التي تواجهها. ونظرا الى هذا الفارق في الهوية، فإن مسار التحول في حياة الأفراد والمجتمع يتمايز أحدهما عن الآخر أيضاً، ولذا فليس للمشكلات والقضايا طبيعة محددة مسبقاً، بل كل فرد ومجتمع خاص قد يعتبر أموراً محددة في سياق العمل والحياة أزمة بالنسبة اليه، ويشعر بالتالي باحتياجات خاصة. لذلك، وللحصول على إدراك صحيح للتحديات والمشكلات واحتياجات الفرد أو المجتمع الخاصة، يشكل إدراك الهوية الخاصة بالفرد او المجتمع الذي يتعرف إليه وإلى جوانبه المختلفة ـ ولا سيما المثل والأهداف والرؤى أو القيم الغائية الخاصة به – شرطاً لازماً لا يمكن تجنبه في أي حركة مقبلة. وعلى هذا  الأساس، يحتاج «علم الاستغرب» قبل كل شيء إلى تأملات مستمرة في شأن الهوية الإيرانية والقيام بدراسات واسعة حول جميع أبعادها المختلفة، ولا سيما الدراسات التاريخية. ويلاحظ المؤلف أنه إذا مضت النخب الإسلامية وتحديداً المفكرون والباحثون الإيرانيون في مسار «معرفة الذات» الإيرانية، يمكن الوصول الى إجماع في فهم الهوية والأبعاد المتنوعة الخاصة بها، وسوف تُتاح إمكانية التأسيس لـ «الاستغراب» او«الدراسات الغربية» باعتبارها إطاراً بحثياً وبرنامجاً تحقيقياً.

إن مقدار نجاح هذا الكتاب في تقديم إجابات صحيحة وقيِّمة، يمكن أن نلاحظه من خلال ردود الأفعال وما يثيره منها ويجعله متداولاً بين المفكرين وأصحاب الرأي. ومع غضِّ النظر عن نجاح هذا العمل في الوصول الى أهدافه أو عدم نجاحه، يمكن القول إنه استطاع ان يتقدم خطوة الى الأمام في طرحه للمشكلة وعرضه لها والإلمام بأبعادها المختلفة. وربما يمكننا ان ندعي أن من الفضائل العلمية لهذا العمل أنه يطلق نقاشاً جاداً حول أهمية التنظير في هذا الموضوع الدقيق. كما يُساهم بدرجة ملحوظة في تجنيب الباحثين في المستقبل من الوقوع في الالتباسات وسوء التقدير تجاه الفهم السليم لعلم الاستغراب ومقتضيات التعامل مع مقولاته النظرية والعملية.

---------------------------------------------------------------

ــالكتاب: معرفة الحداثة والاستغراب ـ حقائق جديدة

ــالمؤلف: حسين كتشويان نيان

ــترجمة: مسعود فكري ومحمد فراس الحلباوي

ــالناشر: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ـ بيروت 2016
---------------------------------------------------------------