البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، هذا سبيلنا إلى مجتمع عالمي ما بعد علماني

الباحث :  حاوره: إدواردو مندياتا - Eduardo Mendiata
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  8
السنة :  السنة الثالثة - صيف 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  August / 13 / 2017
عدد زيارات البحث :  3578
تحميل  ( 333.948 KB )
هذا الحوار مع الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يعدُّ محطة تأسيسية في سياق الكلام على نظرية المجتمع ما بعد العلماني. هنا تصل الأسئلة والأجوبة إلى عمق التنظير الفلسفي حول قضية شكلت محور الجدل المديد الذي عصف بأزمنة الحداثة على امتداد أربعة قرون خلت.

في الحوار التالي الذي أجراه معه الباحث الإيطالي إدواردو مندياتا أحاط هابرماس بمساحة مهمة من المسائل والإشكالات المتصلة بمفهوم ما بعد العلمانية.

وفي ما يلي وقائع الحوار:

المحرر

إدواردو مندياتا: خلال العامين المنصرمين كنت تدرس مسألة الدين من وجهات نظر مختلفة: فلسفية، سياسية، سوسيولوجية، أخلاقية، معرفية. فقد قاربت في محاضراتك بجامعة يال Yale من خريف 2008 التحدي الذي تشكله حيوية الدين وتجديده في المجتمع العالمي من حيث الحاجة لإعادة التفكير في العلاقة بين النظرية الاجتماعية ونظرية العلمنة. ورأيت في تلك المحاضرات أننا نحتاج لفصل نظرية الحداثة عن نظرية العلمنة. فهل هذا يعني أنك ابتعدت عن تيارات النظرية الاجتماعية السائدة في الغرب التي بدأت مع باريتو Pareto، واستمرّت مع دوركهايم Durkheim، وبلغت ضروتها مع فيبر Weber، وكذلك عن تمركزها الأوروبي Eurocentrism الواضح والمصرّح به؟

يورغن هابرماس: ينبغي ألا نرفض الكل بسبب عدم رضانا بالجزء. في بادئ الأمر أدّى النقاش حول الأطروحة الاجتماعية للعلمنة إلى إعادة النظر في التعابير التكهّنية. فمن جهة، اختلفت المنظومة الدينية كثيراً وقيّدت نفسها بالاهتمام الرعوي؛ أي تخلّت عن جزء كبير من  وظائفها الأخرى. ومن جهة أخرى، لا توجد علاقة عالمية بين الحداثة الاجتماعية وفقدان الدين المتزايد لأهميته، فلو كانت هذه العلاقة قريبة لكان بمقدورنا الرهان على اختفاء الدين. فخوزيه كازانوفا José Casanova مثلاً، طوّر فرضية جديدة مهمة، حول الحوار الذي لم يحسم بعد حول ما إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية المتديّنة أو أوروبا الغربية الأكثر علمانية استثناء للمسار التطوّري العام. على كل حال، يجب، على المستوى العالمي، أن نؤمن بوجود حيوية مستمرة لأديان العالم. 

بالنظر إلى النتائج التي تتحدث عنها، أرى في برنامج المجموعة الملتفّة حول شموئيل أيزنشدات Shmuel Eisenstadt وبحثها المقارن حول الحضارات مشروعاً واعداً وتثقيفياً. ففي المجتمع العالمي الناشئ، وبالنسبة للبنية التحتية الاجتماعية، هناك إلى الآن، كما كان في السابق، مجتمعات حديثة فقط، لكن هذه المجتمعات تظهر على شكل حداثات متعددة؛ لأن للأديان الكبرى في العالم قدرةً كبيرةً على التشكيل الثقافي في كل عصر، وهي، إلى الآن، لم تخسر هذه القدرة بالكامل. فكما حصل في الغرب، مهّدت هذه التقاليد «القوية» الطريق في شرق آسيا، والشرق الأوسط، وحتى في أفريقيا لتطوير الأنظمة الثقافية التي يواجه بعضها بعضاً في أيامنا هذه – كما يحصل مثلاً، في الخلاف على الحق في تفسير حقوق الإنسان. نشأ فهمنا الذاتي الغربي للحداثة من المواجهة مع تراثنا الخاص. ويكرّر الجدل بين التراث والحداثة نفسه اليوم في أجزاء أخرى من العالم، حيث يرجع المرء إلى تراثه لمواجهة التحدّيات التي تفرضها الحداثة الاجتماعية، عوضاً عن الخضوع لهذه التحديات. وفي مقابل هذه الخلفية، لا يمكن بعد الآن الخوض في أي حوار أكثر عدلاً بين الثقافات لمناقشة أسس النظام العالمي من جانب واحد، ومن منظور “الأبكار”. يجب أن تصبح هذه الحوارات اعتيادية وأن تجرى في ظروف متكافئة للأخذ بوجهات نظر متبادلة إذا، في النهاية، أخضع اللاعبون الدوليون ألعاب قوى داروينيتهم الاجتماعية للسيطرة. فالغرب مشارك من المشاركين، ويجب أن يكون لجميع المشاركين رغبةٌ في التنوير من الآخرين حول النقاط المظلمة فيهم. لو كان لنا أن نتعلّم درساً من الأزمة المالية، فهو أن الوقت المناسب قد حان للمجتمع الدولي متعدد الثقافات لتطوير دستور سياسي. 

إدواردو مندياتا: سأرجع إلى سؤالي الأساسي: إذا فشلنا في تفسير الحداثة انطلاقا  من ارتباطها بالعلمنة، فكيف إذاً يمكننا أن نتحدث عن تطوّر اجتماعي؟ 

يورغن هـابرماس: تشكّل علمنة سلطة الدولة حجر الأساس لعملية العلمنة. وهذا ما أراه إنجازاً ليبرالياً ينبغي ألا يضيع وسط الجدل الدائر بين أديان العالم. لكنني لم أراهن أبداً على التقدم في البعد المعقّد لـ «الحياة السعيدة”. فلماذا علينا أن نشعر بالسعادة  أكثر من أجدادنا أو أكثر من العبيد اليونانيين المحررين في روما القديمة؟ بالطبع هناك أشخاص أوفر حظاً من غيرهم. الأمر شبيه بركوب البحر، حيث تكون مصائر الأفراد معرضة لبحر من الاحتمالات. والسعادة اليوم موزّعة بالقسمة الظالمة التي كانت دائماً نفسها. وربما تغير شيء في المسار التاريخي في الصبغة الذاتية للتجارب الوجودية. لكن لا يمكن للتطوّر أن يغيّر أزمة الخسارة، والحب، والموت. ولا شيء يسكّن الألم الشخصي للذين يعيشون في بؤس، والذين يشعرون بالوحدة، أو المرضى، والذين يعانون البلاءَ، والمهانة والذل. غير أن التبصّر الوجودي في الثوابت الأنثروبولوجية، ينبغي ألا يدفعنا إلى نسيان المتغيرات التاريخية، بما فيها التقدّم التاريخي الثابت الذي يوجد في تلك الأبعاد التي يمكن للبشر أن يتعلّموا فيها كلِّها. 

لا أقصد أن أناقش حول وجود كثير من النسيان في مسار التاريخ. لكننا لا نستطيع الرجوع قصدياً إلى نقطة سابقة على نتائج عمليات التعلّم. وهذا يفسّر التقدم التكنولوجي والعلمي، وكذلك يفسّر التطور الأخلاقي والقانوني - وهذا يعني ألا تكون وجهات نظرنا متمركز  حول الأنا -أو متمركزة حول الجماعة حين ترتبط المسألة بالإنهاء غير العنفي للصراعات القائمة. كانت هذه الأنواع المعرفية - الاجتماعية من التقدم تشير إلى البعد الإضافي لزيادة التأمل، أي قدرة المرء على التراجع إلى ما وراء ذاته. وهذا ما قصده ماكس فيبر حين تحدث عن «التحرر من الأوهام” «disenchantment».

إلى هنا، يمكننا بالفعل اقتفاء أثر آخر جهد يتناسب اجتماعياً مع عاكسية الوعي للحداثة الغربية. في بدايات عصر الحداثة، فيدلّ الموقف الأداتي لبيروقراطية الدولة تجاه السلطة السياسية المتحررة بشكل كبير من المعايير الأخلاقية، على هذه الخطوة العاكسة، كما يفعل الموقف الأداتي، الذي ظهر في الوقت نفسه تقريباً، تجاه الطبيعة الموضوعية بمنهجيتها، التي بالدرجة الأولى تجعل العلم الحديث ممكناً. بالطبع، قبل كل شيء أتذكر، خطوات التأمل الذاتي، في القرن السابع عشر، التي كان القانون المنطقي والفن الحر مدينين لها بوجودهما؛ ثم تلاها في القرن الثامن عشر الأخلاق العقلية والتعابير الدينية والفنية الباطنية المختلفة للتّقَوية والرومنسية؛ وكذلك أخيراً، التنوير التاريخي والتاريخانية في القرن التاسع عشر. فهذه الجهود المعرفية التي كان لها تأثيرات واسعة النطاق – لا تسمح لنفسها أن تُنسى بسهولة. 

علينا انطلاقاً من الارتباط بهذا الجهد المنتشر تجاه التأمل أن نراجع التحلل التقدمي للتقَوية التقليدية الشائعة. التي نشأ عنها شكلان حديثان خاصان من الوعي الديني: فمن جهة، الأصولية التي إما أن تنسحب من العالم الحديث أو تتوجه نحوه بعدوانية؛ ومن جهة أخرى، الإيمان التامّلي الذي يربط نفسه بالأديان الأخرى، ويحترم الأفهام القابلة للخطأ والنابعة من العلوم المنهجية، وكذلك حقوق الإنسان. لا يزال هذا الإيمان ثابتاً في حياة الجماعات الدينية ولا يمكن الخلط بينه وبين الأشكال الجديدة غير المنتظمة من التديّن المتقلب التي ارتدّت بشكل كامل إلى الذاتية. 

إدواردو مندياتا: كنت على مدى أكثر من عقدين تدافع عن تفكير فلسفي تنويري قائم على “تفكير ما بعد ميتافيزيقي”. ولقد مِزْتَ التفكير ما بعد الميتافيزيقي على أساس إعادة التعبير عن العقل بأنه إجرائي ـ وهذا يعني جعله لغوياً تماماً ـ وفي الوقت نفسه هو كائن في حالة تاريخية، وهذا ما أدّى إلى تقلّص ما هو استثنائي. وهكذا يكون التفكير ما بعد الميتافيزيقي قابلاً للخطأ وشحيحاً، ومتواضعاً في مطالبه. لكنك ترى في عملك الحديث أن التفكير ما بعد الميتافيزيقي يجبرنا على اتخاذ الخطوة التالية ؛ أي خطوة ما بعد العلمانية. ثم تتحدث عن «مجتمع ما بعد علماني»، بوصفه شرطاً اجتماعياً، وواقعاً ثقافياً ـ اجتماعياً. إذاً، بأي معنى تشكّل التطوّرات الاجتماعية حافزاً للعقل ما بعد العلماني، وبأي معنى هو نتيجة للتفكير الديناميكي ما بعد ميتافيزيقي؟

يورغن هابرماس: يلفتني سؤالك إلى مدى النقص في وضوح المصطلح. فالصيغة الشائعة لتمييز كل أنواع الظواهر الجديدة عن الظواهر المألوفة من خلال إضافة السابقة «بعد»  «post» يشوبها عدم الوضوح؛ لأن التفكير ما بعد الميتافيزيقي يبقى علمانياً حتى في حال وصفه بـ«بعد العلماني»، لكن في هذا الوضع المختلف، قد يصبح واعياً بإساءة فهم علمانية للذات. يتراءى لي أنه كان ينبغي أن أجتنب المساواة المضللة بين «ما بعد الميتافيزيقي» و«ما بعد العلماني». 

وإذا اعتبرنا كانت Kant أول مفكّر «بعد ميتافيزيقي» فأنا ببساطة أتّبع تقليداً. لقد أنهى “الديالكتيك المتعالي»، الذي تحدّث عنه كانت، العادةَ السيئة في تطبيق مقولات الفهم، التي تشكّل إسقاطاً للظواهر الباطنية، وللعالم ككل. وهذا التقليل من قيمة كلام من يؤمن بالجوهرية حول الطبيعة والتاريخ ككل هو أحد النتائج بعيدة المدى لـ «الثورة الاسمية» في نهاية العصور الوسطى وبداية الفكر الحديث. يتجّه التمركز حول الإنسان نحو إنجازات تشكيل العالم للذاتية أو اللغة ـ أي التحول النموذجي نحو فلسفة الوعي واللغة ـ  يرجع كذلك إلى هذه الثورة. سبق في القرن السابع عشر، أن أدّت موضعة objectifying العلوم الطبيعية إلى فصل العقل النظري عن العقل العملي. وقد دفع هذا الفصل بدوره محاولات القانون العقلي والأخلاق العقلية لتسويغ الإلزامات والرؤى الكونية على أساس العقل العملي فقط، لا على أساس «طبيعة الأشياء». وأخيراً ومع نشوء العلوم الإنسانية في مطلع القرن التاسع عشر، دخل الفكر التاريخي الذي يقلل من قيمة المقاربات المتعالية بقوة. بالإضافة إلى أن نتائج  الهرمنيوطيقا تواجهنا بانفصام في وصولنا المعرفي إلى العالم: لا يمكن لعالَم الحياة الذي يكشف نفسه لفهمنا فقط بوصفنا (على الأقل عملياً) مشاركين في كل الأعمال اليومية كلها، أن يوصف من وجهة نظر العلوم الطبيعية بالطريقة التي نستطيع فيها إدراك أنفسنا في هذا الوصف الموضوعي.

تحرر العلوم نفسها من إرشادات الفلسفة في هذين الاتجاهين: فمن جهة، إنها تحكم على الفلسفة بالعمل الأكثر تواضعاً في التفكير الاستذكاري، وفي التطور المنهجي المناسب للعلوم، ومن جهة أخرى، على وجهات نظر الملامح الكلية الاحتمالية لهذه الممارسات والأشكال من الحياة التي هي بالنسبة لنا من غير بدائل، حتى لو وجدنا أنفسنا فيها إمكانياً. بمعنى آخر، النظم الكونية التي لا مفر منها لحياة العالم عموماً تأخذ مكان الكائن المتعالي. بموازاة مسارات جنيولوجيا الفكر الحديث، التي رسمت هنا، سقطت المزاعم الميتافيزيكية القوية ضحية للتمييز الذي حصل. كما يمكننا أن نفكر في عملية التمييز هذه كنفاذ عبر الأسباب التي ما زالت وحدها تفسّر التفكير ما بعد الميتافزيقي. في المقابل تمّ للوهلة الأولى التقليل من قيمة الكلام المتعلق بالماهيات النموذجية للفكر الميتافيزيقي حول الواحد – الكل، ومقولات الأسباب التي يمكن للتفكير الميتافيزيقي أن يحشدها. 

لكن خلافاً لذلك، إن تعبير «بعد علماني» ليس نَسَبياً genealogical، بل هو محمول اجتماعي، فأنا أستعمل هذا التعبير لتوصيف المجتمعات الحديثة التي تحتاج للتعامل مع الوجود المستمر للجماعات الدينية والملاءَمة المستمرة للتقاليد الدينية المختلفة، حتى لو كانت المجتمعات ذاتها معلمنة بشكل واسع. وبقدر ما أصف بـ «بعد العلماني»، ليس المجتمع ذاته، بل التغير الموازي للوعي فيه، يمكن أيضاً استعمال المحمول للإشارة إلى فهم ذاتي معدّل للمجتمعات المعلمنة بشكل واسع في أوروبا الغربية، وكندا، وأوستراليا. هذا هو سبب سوء فهمك. في هذه الحال، «بعد العلماني» يدل مثل «بعد الميتافيزيقي» على انقطاع في تاريخ الذهنية. لكن الفرق هو أننا نستعمل المحمول السوسيولوجي بوصفه وصفاً من منظور الملاحِظ، في حين أننا نستعمل المحمول النسَبي من منظور من يشارك في هدف فهم الذات. 

أنا أختار النقاش حول أطروحة العلمنة فقط كنقطة بداية للسؤال الذي يهدف إلى توضيح الفهم الذاتي للتفكير بعد الميتافيزيقي؛ لأن الثورة الاسمية أثمرت نتيجة أخرى، أي إن لاهوت القرن السابع عشر فقد الاتصال بالعلم المعاصر الذي قدمته له فلسفة أرسطو الطبيعية برؤاها الكونية المبنية على أسس غائية. منذ ذلك الحين اصطفت الفلسفة مع العلوم، وتجاهلت اللاهوت بدرجات متفاوتة. على أية حال، منذ ذلك الزمن حصل تغير في توزيع عبء وجوب تقديم البيّنة على المدّعي. حتى فلاسفة المثالية الألمانية، الذين استأثروا بتراث التقليد اليهو – مسيحي يفترضون ببساطة سلطتهم القادرة على تحديد ما هو صحيح في المحتوى الديني وما هو غير صحيح. وهم أيضاً ما زالوا يعدّون الدين في الأساس شكلاً للماضي. لكن هل هو كذلك؟

بالنسبة للفلسفة، هناك مؤشرات اختبارية على أن الدين ما زال شكلاً معاصراً للروح 

[Gestalt des Geistes]. علاوة على ذلك، تجد الفلسفة أيضاً أسباباً داخلية لهذا؛ أي تجد أسباباً في تاريخها الخاص. فقد بدأت العملية الطويلة من ترجمة المضامين الدينية الأساسية إلى اللغة الفلسفية في أواخر العصور القديمة؛ ونحن لا نحتاج إلا أن نفكّر في مفاهيم مثل الشخص والفردية، والحرية والعدالة، والتكافل والجماعة، والتحرّر، والتاريخ، والأزمات. ولا نستطيع أن نعرف إذا كانت عملية مواءمة الكوامن الدلالية في الخطاب الذي لا يمكن كنه جوهره قد استنفذت نفسها، أو إذا كان يمكنها أن تستمر. يتحدث العمل المفهومي للكتّاب المتديّنين والمؤلفين مثل بلوخ Bloch الشاب، وبنجامين Benjamin، ولفيناس Levinas، أو دريدا Derrida، لصالح الإنتاجية المستمرة لهذا الجهد الفلسفي، وهذا يقترح تغييراً في الموقف لصالح علاقة حوارية، مفتوحة على التعلم، مع كل التقاليد الدينية، والتأمل حول موقع التفكير ما بعد الميتافيزيقي بين العلوم والدين.  

يدفع هذا التأمّل في اتجاهين. فمن جهة، ينقلب ضد الفهم الذاتي العلماني للفلسفة الذي يوحي بالاندماج بالعلم أو ليظهرا بمظهر واحد. كلُّ تشبّه بالعلوم هو تخلٍ عن البعد التأمّلي الذي يميز الجهد الفلسفي لفهم الذات من البحث. العلوم الموجّهة منهجياً توجّه نفسها من غير توسّط لحقول موضوعها، وهكذا من غير تحقّق تلقائي من الإسهام الحتمي للأعمال البحثية العلمية في نتائجها. يجب عليهم الادعاء بأنهم ينظرون إلى العالم من مكان بعيد. فهذا النسيان للذات مقبول. ولا يصبح مشكلة إلا حين يرتدي الفلاسفة زيّ العلماء؛ ليتعمم بعد ذلك؛ أي ليتمتدّ إلى العالم ككل  إلى موضوعات العلوم بطريقة خفية. ولأن «اللامكان» الذي كان لا يزال مفترضا أنه من غير تفكير، والذي انطلقت منه الرؤية الكونية الطبيعانية للعلموية الصارمة ليس إلا الشريك السري لـكيفية الفهم الميتافيزيقي الفارغ “لمفهوم القدسي». 

من جهة أخرى،  ينبغي ألا نضفي شيئاً من الضبابية على الفارق الموجود بين الإيمان والعلم في صيغة التسليم جدلاً. حتى لو أدى التفكير حول الوضع ما بعد العلماني إلى موقف معدّل تجاه الدين، ولا يمكن لهذه التعديلية أن تغيّر حقيقة أن التفكير ما بعد الميتافيزيقي هو تفكير علماني يؤكّد تمييزَ العلم والمعرفة بوصفهما صيغتين مختلفتين ماهوياً. أكرّر: في الغالب، يمكن أن ندعو «ما بعد علماني» الوضع الذي يرتبط فيه العقل العلماني والوعي الديني الذي أصبح تأمّلياً، على سبيل المثال، علاقة الحوار بين ياسبرز Jaspers وبولتمان Bultmann هي أحد النماذج. 

إدواردو مندياتا: في مخطوطتك «الجذور المقدّسة لتقاليد العصر المحوري»  

«The Sacred Roots of the Axial Age Traditions» قدّمت لنا نظرة عامة إجمالية شاملة للنظرية السوسيولوجية والأنثروبولوجية لكي تستكشف العلاقة بين الأسطورة والشعيرة الدينية. ولقد شرعت في البرهان أن للتفاعل الرمزي  في الممارسات الشعائرية جذورَه الأنثروبولوجية. وعلى الرغم من اعترافك بصعوبة تقديم دليل منطقي على أولوية الشعائر على الروايات الأسطورية، يبدو أنك تبرهن على أن الأبعاد الاقتراحية للتفاعل المتواسط لغوياً ترجع إلى تطوّر الطقوس، التي على الأقل، نعرف أنها تسبق تمثلها الرمزي على شكل رسوم على جدران الكهوف. هل تشير إلى أن الإنسان  قبل أن يصير إنساناً عاقلاً  Homo sapiens، كان إنساناً طقسياً  ritualis Homo؟

يورغن هابرماس: أنت تشير إلى فصل من كتاب ما زال في مرحلة التأليف. ألخّص فيه موضوعاً قديماً في ضوء تحقيقات جديدة وتحدثت فيه عن: مصادر اللغة، وهذا يعني استعمال الرموز التي لها المعنى نفسه بالنسبة لأعضاء المجموعة، في المراحل الزمنية الطويلة لتطوّر الإنسان العاقل، ولا بدّ من أن هذا الاستعمال كان في تصرّف أسلافنا، ثم بعد ذلك، في المرحلة التي نظّمت فيها المجموعات عيشها معاً بوساطة العلاقات النَّسَبية المعمّمة رمزياً – أي؛ حين عاش البشر معاً في عائلات. الأهل، والأعمام، والأولاد كلُّهم مكلفون بالوضع نفسه بوصفهم أهلاً، وأعماماً، وأولاداً. نظراً لأن للغات النحوية نظاماً معقّداً بحيث – كما يرى تشومسكي - لا يمكن أن ينشأ بين ليلة وضحاها، بل اليوم يمكن للمرء أن يقترح مستوى قبلياً من التواصل الإيمائي الذي لم يميَّز بعد منطقياً. وهكذا يبدو أن الممارسات الشعائرية التي نعرفها من الأنثروبولوجيا الثقافية تتناسب مع هذا المستوى. فحتى لو مازت نفسها من التواصل اليومي بين المرسِل والمتلقّي عن طريق بنيتها الدائرية والذاتية المرجعية المخالفة للمعتاد. وكذلك يوجد بعض الأدلة على الرأي القائل إن الطقوس على أساس التاريخ التطوّري، أقدم من الروايات الأسطورية، وهذا ما يقتضي لغة نحوية. على كل حال، أنا الآن مهتم بإشكال الطقوس والأسطورة، ليس لأسباب نظرية اجتماعية (كما في نظرية الفعل التواصلي)، بل لأن الطقوس ما زالت حية في الممارسات الدينية الجماعية لأديان العالم. فحين نسأل أنفسنا اليوم ما الذي يَمِيزُ «الدين» بهذا المعنى الضيق للتقاليد «القوية» التي ما زالت في طور التشكّل، من الرؤى الكونية الأخرى، تكون هذه الممارسات هي الجواب. 

إن الأديان لا تبقى حية إلا بوجود الأنشطة العبادية للرعية، تلك هي “خاصيتها الوحيدة المميِّزة». في الحداثة إنها الشكل الوحيد للروح [Gestalt des Geistes]، الذي مازال يستطيع الدخول إلى عالم التجربة الطقسية بالمعنى الدقيق. والفلسفة يمكن أن تعترف بالدين فقط بوصفه شكلاً مختلفاً ومعاصراً للروح، وإذا أخذت هذا العنصر القديم بجدية، ومن باب أولى من غير التقليل من قيمته. بالإضافة إلى ذلك، كانت الطقوس مصدراً للتكافل الاجتماعي الذي لا توفّر أخلاق الاحترام المتبادل بين الجميع التنويرية نظيراً تحفيزياً حقيقياً له ـ ولم توفره أخلاق الفضيلة الأرسطية وأخلاق الخير. هذا بالطبع لا يستبعد بأي شكل إمكان أن هذا المصدر، المحمي في الوقت نفسه من الجمعيات الدينية، والذي يستعمل في الغالب من أجل غايات مريبة سياسياً، سوف يجفّ ذات يوم.

إدواردو مندياتا: قلت  في المخطوطة ذاتها: «أريد أن أعرف إذا كان المصدر المشترك للميتافيزيقا والتوحيد في ثورة الرؤى الكونية لـ «العصر المحوري»، أيضاً يحوّل وجهة النظر التي من خلالها يواجه التفكير ما بعد الميتافيزيقي التقاليد الدينية التي تستمر في إسماع أصواتها بفاعلية في المناقشات الدائرة حول الفهم الذاتي للحداثة. وربما كان الفهم الذاتي للفلسفة المرتبط بالتقاليد الدينية، وظاهرة الإيمان، والتقوى بعامة، سيتغيّر إذا تعلّم فهم البنية المعاصرة للتفكير ما بعد الميتافيزيقي، والعلم، والدين كنتيجة لعملية تعلّم يتداخل فيها “الإيمان” و”العلم” (على الأقل كما تُفهم من منظور تاريخها في الغرب) بعضها مع بعض. باعتراف الجميع، نحن نقتفي هذا الأثر النَّسَبي بوصفنا «معاصرين غربيين» حديثين. ثمّة بالفعل مزاعم عدة هنا، ولكنني أريد أن أسألك عن اثنين بخاصة. من جهة، هل ترى أن التفكير ما بعد الميتافيزيقي يخادع نفسه إذا لم يعترف بمصادره المشتركة مع التوحيد؛ بتعبير آخر،هل ترى أن على التفكير التأمّلي للذات أن يعترف بجذوره المشتركة مع أديان العصر المحوري؟

يورغن هابرماس: هناك تضليل للذات في فهم الذات العلماني للفلسفة «العلمية» التي ترى في نفسها الوريث الحصري للفلسفة اليونانية والخصم الطبيعي للدين. وهذا خطأ في عدد من الأوجه. أولاً، الخاصية الدينية للمصادر الفلسفية الأفلاطونية غير معروفة: الارتقاء إلى الأفكار هو الطريق الأصيل للخلاص الذي يَمِيز الفلسفة اليونانية كما يمكننا أن نرى فلسفة فيثاغوروس أو أنباذوقليس، بوصفها ظاهرة موازية لغيرها من كوزمولوجيات شرق آسيا وأديانها (مثل الكونفوشيوسية والبوذية). لكن الفلسفة ليست متجذّرة مطلقاً في الممارسات الطقسية للمدن اليونانية، ومع أرسطو، لكنها فوراً تبنّت توجهاً علمياً ودنيوياً. وهذا يمكن أن يفسّر سبب دمج مسار الخلاص في التراث الرهباني للعصور الوسطى مع المسار المسيحي للخلاص في الثقافة التوحيدية للعصور الوسطى ـ والأقرب بالطبع، مع التصوّف المسيحي. 

ثانياً، إن فهم الذات العلماني يكبت الآثار المفهومية، التي ذكرناها سابقاً، والتي تركت في الفكر الفلسفة من خلال الأديان التوحيدية ومن خلال طريقة  تعايش الفلسفة اليونانية مع  المسيحية البولُصية  Pauline Christianity. وهكذا مهّدت الثورة الاسمية في فكر العصور الوسطى الطريق لنشوء العلم الحديث، وللإنسانوية وللمقاربات المعرفية ومقاربات القانون العقلي الجديدة، كما بالنسبة للبروتسانتية وارتباط المسيحية بالعالم ؛ أي بالنسبة لما قصدته الكنيسة المسيحية في البداية بـ «العلمنة» من وجهة نظرها (وهذا ما أكّده تشك تايلور Chuck Taylor حديثاً في كتاب العصر العلماني A Secular Age). وبقدر ما يمكن فهم هذه التطورات المعقّدة أيضاً بوصفها عمليات تعلّمية، لا يمكن لأي مسار معقول أن يرجع إلى نقطة سابقة عليها، وهكذا يمتد فهمنا الذاتي إليها ببساطة. 

هذا التمدّد النَّسَبي genealogy، في المناسبة، يجعل البديل الذي قدمه كارل شمت  Schmitt Carl وهانز بلومبرغ Hans Blumenberg عقيماً. فالحداثة في أشكالها السياسية والروحية، ليست مجرّد نتيجة للعلمنة، وهي النتيجة التي تبقى متوقفة على جذورها الدينية؛ لأن في هذه الحالة، لا يكون المرء قد تعلم شيئاً. ولا التفكير الذي كان منذ ذلك الحين ينطلق من مقدمة «كأن الله غير موجود»   etsi deus non daretur مدين بذاته لمجرد الانفصال عن التراث اللاهوتي الذي بقي في موقع المعارض له. لأن مستويات هذه النَّسَبية التي تم التغلب عليها نقديا تدخل إلى الفهم الذاتي لما بعد الميتافيزيقا الذي يرى نفسه نتيجة للعملية التعلّمية. وهكذا يكون تقييم التوعية جزءاً من الذاكرة الخلاصية. 

إدواردو مندياتا: السؤال الثاني الذي يقترحه رأيك هو كيف يكون التفكير ما بعد الميتافيزيقي -الذي تغلّب على ذهنيته العلمانية من خلال قدرته على التأمل الذاتي في مصادره- مرتبطاً بموقف حديث لا بالموقف الغربي. فهل تعتبر أن تشكيل التفكير ما بعد الميتافيزيقي، الذي تغلّب على هذا المنظور، إنجاز لا يناسب إلا الغرب، أو أنه إنجاز يتناسب مع الإنسانية العالمية ؟   

يورغن هابرماس: ربما كان هذا البديل بسيطاً جداً. من جديد، إن العلمانية فقط هي التي تضلل الفلسفة في فهم ذاتها كعلم، فالتفلسف نشاط علمي، لكن حمل «علمية» الجدال الفلسفي لا يعني أن العمل التعميمي للفلسفة من أجل فهم الذات مستغرق في العلم. فالمسار الملكي للفلسفة هو التأمل الذاتي. وهذا هو سبب كونها حقلاً معرفياً، لكنها ليست علماً «عادياً» إلى جانب العلوم الأخرى. ولهذا السبب، ليست حيادية بالدرجة نفسها بالنسبة لمحاولات فلسفية شبيهة في فهم الذات في ثقافات أخرى. من جهة أخرى، إن فهم الذات فيما يخص التفكير ما بعد الميتافيزيقي يشير أيضا إلى الحدّ من التشارك في “فضاء العقول” العابر للثقافات. 

لكن في هذا، يجب التمييز بحذر بين التحليل الفلسفي من جهة؛ أي -الاقتراحات حول الفهم الصحيح لأنواع من العقول التي يمكن اليوم أن يُعتمد عليها بالدرجة الأولى، كما يمكن توقّع أن «تحسب» بينثقافية ـ ومن جهة أخرى، الحجج التي استعملت فعلاً في المحاولات الموازية في فهم الذات، والتي تزود، كما كانت، بمواد لهذا التحليل الفلسفي الاسترجاعي. إلى هنا، أنت محقّ: إن محاولة إعادة بناء تفكير ما بعد ميتافيزيقي هو اقتراح ميتا فلسفي يمكن تطبيقه، ليس فقط على الفكر الغربي، بل على الفكر المعاصر بعامة. لكنَّ هذا الإسهام، كغيره من الإسهامات الفلسفية، أيضاً، معرّض لمناقشة نقدية بين نظرائه من الحقوال المعرفية. ومن جهة أخرى، عندما نشارك في هذا الفهم الذاتي في الخطابات البينثقافية حول موضوعات محددة سياسية أو ثقافية أو غير ذلك، فنحن ننسجم بوصفنا طرفاً ثانياً مع المشاركين من خلفيات ثقافية مغايرة. في هذه الحالة لا ننسجم بوصفنا فلاسفة يرغبون في اكتشاف خصائص العقول التي نفترضها مناسبة بشكل كلي، لكننا نوجّه أنفسنا إلى المشكلات نفسها التي يمكن أن تحل. وقد نكون قادرين، بهذا الدور الأدائي، على التعلم من الحاجة لتصحيح انحيازنا الغربي الممكن في إعادة بناء تفكير ما بعد ميتافيزيقي؛ لأن الوعي الذي شكلّته نظرية قابلية الخطأ ينتمي طبيعياً إلى التفكير ما بعد الميتافيزيقي. 

إدواردو مندياتا: لقد رجعت إلى ياسبرز في الحديث عن  نظرية النَّسَب  genealogical theory العائدة إلى العصر المحوري؛ جزئياً لأننا نجد في اقتراحه مقاربة عالمية لإنجازات البشر المعرفية لا أوروبية التمركز بخاصة. إن العصر المحوري يسمح لنا أن نفكّر في الإنجازات المعرفية والمجتمعية على أساس عملية التعلم العالمية التي تنتمي إلى الجنس البشري كما هو، وليس لحضارة واحدة. نصُّك الحديث يترك المرء بانطباع قوي أنك تعتبر أننا على الحافة أو ربّما في الجزء الأكبر من الشيء مثل العصر المحوري. فهل تعتبر أن نشوء «مجتمع عالمي بعد علماني» هو  توقّع أو أنه تعبير عن مرحلة محورية جديدة؟

يورغن هابرمس: الجهد التأملي في ثلاثة أبعاد يمكن أن يُقرأ في تطوّر الرؤية الكونية للعصر المحوري: ينشأ الوعي التاريخي بسبب قطعية العقيدة التي يمكن اقتفاء أثرها وصولاً إلى الشخصيات المؤسسة: من وجهة نظر متعالية داخلية أو خارجية للأحداث الباطنية، يمكن للمرء أن يتصوّر شمولية العلاقات البينشخصية ويحاكمها وفقاً لسلطة كلية؛ ولأن مصائر الأفراد تفصل أنفسها عن مصير الجماعة، ينشأ وعي المرء بالمسؤولية الشخصية عن حياته ذاتها. كما أننا نستطيع أن نصف هذا التمييز لحياة العالم في مضمار التعقيد الاجتماعي المتزايد: تنشأ العلاقة التأملية بالتقاليد والاندماج الاجتماعي، الاندماج الذي يتجاوز الآن الجماعات العشائرية وحتى يتجاوز الحدود السياسية: في علاقة الأفراد بأنفسهم، تنشأ التأملية كذلك. في الحداثة الأوروبية، نلاحظ جهداً معرفياً إضافياً في الأبعاد نفسها. كما أننا نلاحظ شحذاً لوعي الإمكان وتمدداً للتوقّع المستقبلي، تصبح المساواة العالمية أكثر توجهاً بالقانون والأخلاق، وهناك فردانية تقدمية. على كل حال ما زلنا نستنتج فهمنا الذاتي المعياري من هذا (بصرف النظر عن الإنكارات الشائعة والمستنزفة). 

بالطبع ينبغي ألا نرى في هذا تطوّراً متصاعداً، بصرف النظر عن بعض العتبات التطوّرية. إن مواجهة ما بعد الاستعمار مع الثقافات الأخرى في القرن العشرين أعادت إلى الأذهان جروح الاستعمار والنتائج المدمّرة للتحرر منه، كما أعادت الجدل الصادم للتأملية عالية المستوى. في الراهن نجد أنفسنا في الانتقال إلى مجتمع عالمي متعدد الثقافات تتصارع مع دستوره السياسي المستقبلي. النتيجة غير محسومة تماماً. بالنسبة لي، الحداثة العالمية كالميدان المفتوح الذي يتسارع فيه المشاركون من وجهات نظر مسارات مختلفة للتطوّر الثقافي، حول التشييد المعياري للبنى التحتية الاجتماعية الموزّعة بمستويات مختلفة. إنه سؤال مفتوح ما إذا كنا سننجح في التغلّب على الشرط الرجعي للدارونية الاجتماعية، فمبدأ “الغاية تبرّر الوسيلة”، ما زال مسيطراً في العلاقات الدولية، لكن الراسمالية التي أفلتت من عقالها عالمياً وأظهرت توحشها، يمكن تدجينها وتوجيهها بطرق مقبولة اجتماعية. 

إدواردو مندياتا: أريد أن أبتلع طعم هذه الإشارة النقدية لتلك الرأسمالية الجشعة الطليقة، لكنَّ هذا موضوع آخر لحوار آخر. لقد رأيت أن الفكر ما بعد الميتافيزيقي يجب أن يكون نقداً لإغراءات العلمانية، وأن طريقة إعاقة هذا الإغراء هي مقاربة المسألة بوصفها «شكل فكري معاصر» لا يمكن أن يُفهم بشكل صحيح إذا لوحظ من وجهة النظر الابستمولوجية فحسب. من أجل التغلّب على هذا الاختزال «المعرفي» للدين، أنت ترجع إلى دراسة الشعائر والأسطورة، وكتبت: «اليوم حين ينجز أعضاء الجماعة الدينية ممارساتهم الطقسية يبدو أنهم يسعون لضمان مصدر التكافل الذي لم يعد الوصول إليه ممكناً من خلال أي وسائل أخرى». ألا يمكن الادّعاء أن المواطنين غير المتديّنين قادرون على المشاركة في «الممارسات الشعائرية» التي هي غير ـ دينية، والتي يمكنهم أن يجدوا فيها ضمانات للتكافل؟ خذ مثلاً، الممارسات التطوّعية للقيام بتسجيل الناخب، أو التجوال السياسي، والمسيرة إلى واشنطن، وإعداد الحساء في المطبخ، وزيارة نزلاء السجون، والمساعدة في بناء منازل للمشرّدين. هناك تخمة في «الشعائر» غير الدينية ـ دعنا نسمّيها «الشعائر المدنية» ـ التي يمكن القول إنها تتيح للمواطنين كلِّهم الوصول إلى هذا الشعور بالتكافل الذي تعتقد أن للمواطنين المتديّنين فقط إمكان الوصول إليه. 

يورغن هابرماس: اكتشف نورمن بيرنبوم Normen Birnbaum  في كتابه بعد التقدّم  After Progress  الجذور الدينية للخلفية الدافعة لتلك الحركات الاجتماعية والتقدمية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية التي شاركت في تقرير التاريخ الاجتماعي الغربي لأكثر من قرن، وصولاً إلى انهيار نظام الاتحاد السوفييتي. كانت هذه الحركات الاجتماعية، وفقاً لفهمها لذاتها إلحادية تماماً. يمكن للمرء أن يفكّر أن المشاركات المدنية، بهذا المعنى، حتى بين المواطنين غير المتدينين في بعض الحالات حافظت على بعض خصائص المشاركة المثقفة والمخففة للعناء في العبادة التي تمارسها الأبرشية يوم الأحد. لأننا، كما نعرف، هذا النوع من التطوعية هو واحد من السمات المائزة للثقافة السياسية الأميركية. يبدو أن ما كشف في هذه التطوعية هو أن التشابه بين الطقوس الدينية والمدنية أقل من الكوامن المحركة المستمرّة لاندماج الدين في المجتمع، تستمر في أن تكون فاعلة بطريقة لاواعية. 

أنا لا أفكر كثيراً في الصيغة واسعة الانتشار بين علماء الاجتماع، التي تطبّق مفهوم الممارسة الطقسية النوعي نفسه على كل سلوك متكرر. خلاف ذلك، يبدو أن المصادر الأساسية للقوى المزودة بالتضامن في الطقوس التي وصفها الأنثروبولوجيون هي تلك الأفكار والتجارب التي تدين بنفسها لشكل مميز جداً من التواصل. هذا الشكل يَمِيز ذاته، أولاً، بغياب العلاقة بالعالم في ممارسة شيوعية ذاتية المرجعية تدور حول نفسها. ثانياً، تميز نفسها من خلال المضمون الدلالي الشامل للاستعمال الأيقوني للرموز غير المتمايز أو الذي لم يتمايز بعد منطقياً باستعمال الرموز الأيقونية المختلفة (مثل الرقص، والغناء، المسرحيات الإيمائية، الزخرفة، تلوين الجسد... إلخ). أريد أن أؤكّد اليوم، أن الجماعات الدينية فقط، عن طريق ممارساتها العبادية، تبقي الوصول إلى هذا النوع من التجارب القديمة متاحاً. تبقى هذه التجارب مستغلقة لمن هم على خلاف في المسائل الدينية، الذين يشبهونهم منا مضطرون لإقناع أنفسهم بالتجارب الجمالية بوصفها بديلاً متعالياً جداً. إن هذا التشبيه دفع بيتر ويس  Peter Weiss لإيجاد أمل سياسي في «جماليات المقاومة»؛ أي في قوة الفن المذهلة التوحيدية التي “تخترق الحياة”. حتى لو تضاءل هذا الأمل الذي أوحت به السريالية  surrealism  في هذه الأثناء، ليس هناك بالطبع سبب للاعتماد الآن بصورة عمياء على القوى التحفيزية للدين ضد تفكيك التضامن الليبرالي الجديد للمجتمع. وكما نعرف، فإن هذه القوى التحفيزية متعارضة جداً من الناحية السياسية. والدولة الديموقراطية الدستورية لا تنسجم مع كل ممارسة دينية، بل فقط مع الممارسة الدينية غير الأصولية. 

إدواردو مندياتا: كنت تناقش أن الأيديولوجيا العلمانية للديموقراطيات الدستورية الحديثة حرمت دائرتها الشعبية من المضامين الدلالية اللازمة للحياة الأخلاقية لأنظمتها السياسية. لهذا السبب، أنت تدافع عن تسامح أكبر، أو حتى عن التكيّف في الدائرة الشعبية، من أنواع البراهين التي يمكن أن يقدّمها المواطنون المتديّنون. والآن ومن وجهة نظر الولايات المتحدة، إن مناداتك بدائرة شعبية ما بعد علمانية ما هي في الحقيقة إلا ذكرى لما حصل من قبل. ماذا لو أمكنني القول عن اقتراحك لدائرة شعبية بعد علمانية ما قاله روتري   Rorty عن راولز  Rawls؛ أي إن ليبراليته السياسية كانت التعبير السياسي الفلسفي عن الممارسات السياسية للمواطنين الأميركيين؟ بمعنى آخر، ما تعبّر عنه نظريتك هو ممارسة محلية جداً؛ أي نوع من الدين المدني والمثاقفة من خلال التماهي المذهبي الذي تتفرّد به الولايات المتحدة. 

يورغن هابرماس: أفهم سبب حصول هذا الانطباع. فنقدي موجّه ضد الفهم العلماني لفصل الدين عن الدولة. وهذه وجهة نظر أوروبية. أمّا في هذا البلد، حيث يصلّي الرئيس في مكتبه وعلى مرأى من الجميع، النقد الذي يوجه نفسه بالمبادئ نفسها ينبغي أن يصوّب بالاتجاه السياسي المعارض. برأيي إن المواقف التي لا ترغب في تعريض التأثير السياسي للأصوات الدينية للقيود الرسمية يطمس الحدود التي لا يمكن للدولة العلمانية أن تحافظ على عدم تحيزها من دونها. ما يجب أن يصان هو أن قرارات المشرعين، والفرع التنفيذي، والمحاكم ليست فقط مصاغة بلغة يمكن الوصول إليها عالمياً، بل هي مسوغة أيضاً على أساس الأسباب المقبولة عالمياً. هذا يستثني الأسباب الدينية المصادق عليها من الدولة – أي الملزمة قانونياً.  بمعزل عن ذلك، أنا لا أعتقد أن المواطنين العلمانيين يمكن أن يتعلموا أي شيء من التعاليم الأصولية التي لا يمكن أن تواجه حقيقة التعددية، والسلطة الشعبية للعلوم والمساواة في مبادئنا الدستورية. من جهة أخرى، أنت على حق فالثقافات السياسية هي شديدة الاختلاف أصلاً بين مجتمعاتنا الغربية؛ لأن المبادئ الكلية للدور العام للدين ـ بشكل عام- بالنسبة لما نسميه في الغرب “فصل الدين عن الدولة”  يجب أن تكون محددة وتصبح مؤسسية بشكل مختلف في كل سياق محلي. 

إدواردو مندياتا: الآن، في مقالك ما المقصود بـ “مجمتع بعد علماني؟” من مناقشة حول «الإسلام في أوروبا» في كتابك الصادر حديثاً “أوروبا، المشروع المترنّح”   Europe،  the Faltering Project، أشرت إلى ظواهر ثلاثة يمكن أن تفسر التغير في الوعي الذي تسميه «ما بعد العلماني». أولاً، الطريقة التي تحاول فيها وسائل الإعلام العالمية بشكل متواصل تسليط الضوء في الموضوعات العالمية على الدور الذي لا يتوقف للدين في رعاية الصراع والتوافق؛ وثانياً، الوعي المتنامي بكيفية تشكل القناعات الدينية للرأي العام وتوجيهه من خلال تدخلاتها في الدائرة الشعبية؛ وثالثاً، ـ وهنا أريد أن أركّز سؤالي ـ من خلال الطريقة التي لم تقم فيها «المجتمعات الأوروبية» بعد بـ «الانتقال المؤلم للمجتمعات المهاجرة ما بعد الاستعمار». هل أنك تشير إذاً، إلى أن الوعي بعد العلماني يجب أن يكون مرتبطاً بنموذج بعد استعماري من المواطنة، يكون المواطنون فيه مرتبطين بالتساوي، بصرف النظر عن عرقهم أو معتقداتهم الدينية؟

يورغن هابرماس: هناك علاقة بالتأكيد بين نشوء الوعي ما بعد العلماني والتدفق الجديد للمهاجرين الذي يثير في الأساس مشكلتين للدول القومية. أولاً، المهاجرون المتجنّسون والذين يكونون من ثقافة مختلفة يجب أن يندمجوا اجتماعياً واقتصادياً، ويجب أن يُتاح لهم المجال لإثبات هويتهم الجمعية. ثانياً، بالنسبة لغير المجنّسين، يجب، إلى حدّ ما، أن يوضع الغرباء غير الشرعييين الذين لا يتمتّعون بحقوق المواطنة على أساس مساو مع المواطنين الوطنيين على الأقل فيما يعني وضعهم المدني المتدنّي. هذه المشكلة مطروحة مثلاً، في الولايات المتحدة راهناً بالنسبة لإصلاح نظام الرعاية الصحية الذي كان يهدف في الأساس لشمول السكان غير الشرعيين. 

كان تصدّي مجتمعات المهاجرين التقليدية للمشكلة الأولى أفضل من تصدي المجتمعات الأوروبية لها، وهي التي إما أنها فتحت أبوابها للمهاجرين من مستعمراتها التي كانت تسيطر عليها (مثل بريطانيا العظمى وفرنسا) أو للعمال الأجانب (مثل ألمانيا). في مجتمعاتنا الأكثر تجانساً – والأكثر تجانساً دينياً ـ  فهمنا نحن -الأوروبيين- وطبّقنا المبادئ الدستورية الراهنة في ضوء ثقافاتنا القومية. لكن، تعددية الرؤية الكونية والثقافية فتحت الباب لهذا الانصهار. نحن نتعلم أن المبادئ الشرعية المجرّدة التي تعد كل المواطنين بالحقوق المتساوية يجب أن تنفصل عمّا سلّمت به ثقافة الأكثرية إلى الآن بشكل واضح. من الأمثلة على ذلك، قرار المحكمة الدستورية الألمانية حول الصلبان في غرف التدريس. الثقافة السياسية الأكثر انتشاراً يجب أن تشكّل نفسها وتتجاوز بحجمها ثقافة الأكثرية، بحيث يستطيع جميع المواطنين أن يجدوا مكاناً لهم فيها. 

إن التدفق الهائل للمهجرين واللاجئين الاقتصاديين هو سبب المشكلة الأخرى. وإذا كانت معلوماتي صحيحة، فإن جميع الدول عانت شرعنةَ الهجرة «الرمادية». أما اقتراحك بمواطنة ما بعد استعمارية فإنه يسعى بنتائجه وتوجّهه إلى حق لامحدود باللجوء للمهاجرين من كل الأنواع. حتى التغاضي عن ردود الفعل الكارهة للأجانب (“امتلأت السفينة”) المنتشرة في كل مكان. لا أرى أن هذا الاقتراح يمكن أن يتحقق عملياً ولو لأسباب اقتصادية بحتة. بل هذا الموضوع الملحّ يوجّه انتباهنا للتشكيل المتواصل لنظام عالمي أكثر عدلاً. إن جعل القانون الدولي دستوريا سيحفز الدستور السياسي للمجتمع متعدد الثقافات، وهكذا يفسح المجال لوجود سياسة داخلية عالمية، يمكن أن تعالج جذور تدفق المهاجرين حول العالم، بمعنى لا يمكن أن يواجه تبعات الهجرة، بل أسباب الهجرة. عموماً، لا يهاجر المرء من أجل المتعة، ولا رغبة في المغامرة. 

 إدواردو مندياتا: كنت تدير ندوة هنا في جامعة ستوني بريك Stony Brook University التي ندرس فيها أعمال شميت Schmitt، وشتراوس Strauss، ومتز Metz، وراولز Rawls. أتساءل إذا كنت تستطيع إشراكنا في أهدافك بدراسة بعض المفكّرين الذين يمكنهم، كما يمكن لأي شخص، أن يتسفيدوا من إلهاماتك ومواقفك الفلسفية. 

يورغن هابرماس: أنا مهتم في مسألة إذا كان يمكن للمرء أن يقدّم معنى غير ضار للمفهوم المشحون معيارياً لـ “الـ” سياسي، على الرغم من إساءة الاستعمال المختلفة لمداليله الميتافيزيقية واللاهوتية. فإلى جانب المفاهيم العلمية ـ الاجتماعية لـ «النظام السياسي» و«السياسة». لا يبدو أن “الـ” سياسي ـ كما يرى دريدا ـ يجد مكاناً نافعاً. بطريقة توصيفية، قد لا يدل المفهوم على أي شيء غير الحقل الرمزي الذي تقدّم فيه المجتمعات الأولى المنظمة من الدولة أنفسها لأنفسها. يرجع مفهوم  السياسي إلى العرض الرمزي والتماهي الذاتي الجمعي لتلك الثقافات السابقة الراقية التي تختلف عن المجتمعات القَبَلية المندمجة بشكل شبه طبيعي من خلال أمور مثل صيرورتها متأملة للسياسي، وهذا يعني الاندماج الاجتماعي المسوّغ بشكل واع. بعبارات تطورية، نشأ مع العقدة القانونية الجديدة والسلطة السياسية وقتذاك نوع جديد تماماً من الحاجات للشرعنة: ليس طبيعياً أن يتخّذ شخص أو مجموعة من الناس قرارات جمعية ملزمة للجميع. فالارتباط المقنع بالأفكار والممارسات الدينية وحده يؤمّن للحكام الطاعة الشرعية من المواطنين. بينما النظام الشرعي مستقر من خلال السلطة المقررة في الدولة، والحكم السياسي، بدوره يؤثر في السلطة التشريعية للقانون المقدّس لكي يكون مقبولاً بوصفه عادلاً. ينشأ في هذا البعد الرمزي الخليط التشريعي من السياسة والدين، ومفهوم السياسي يرجع إلى هذا المزيج. و”الدين” ينتزع قوته التشريعية من حقيقة امتلاكه جذورَه نفسها، باستقلال عن السياسة، في أفكار الخلاص والبؤس وفي ممارسات التعامل مع القوى المعادية للشر والداعية للخلاص. 

لكننا مدينون بمفاهيم السياسي الأولى للتفكير العرفي الإسرائيلي، والصيني، واليوناني، وبعامة، للقوة النطقية للرؤى الكونية الميتافيزيقية والكونية الناشئة حينها. وفور أن تحرر الروح الإنسانية نفسها من البحث الفردي عن الخلاص من شرك الأحداث التي نُظّمت من خلال الروايات وسيطرت عليها القوى الأسطورية ـ أنجز التحرر بالرجوع إلى إله خلف العالم أو النقطة المتلاشية المحايثة للشرعية الكونية – يمكن للحاكم السياسي أن يُدرَك فقط بوصفه الممثل البشري للقدسي، وبالتالي لم يعد يُنظر إليه بوصفه تجسيداً له. وبوصفه بشراً هو أيضا من الآن فصاعداً خاضع للعرف الذي تقاس بالرجوع إليه أفعال البشر كلّها. وأخيراً ما يحصل في الغرب هو الظروف البغيضة التي مكّنت ارتقاء المسيحية البولصية Pauline Christianity إلى دين الدولة الرومانية والاقتران المثمر بين اللاهوت والميتافيزيقا اليونانية. فقط في هذه السياقات التاريخية يمكن تفسير التفكير الموجّه بمفهوم السياسي ـ نمط التفكير الذي استطاع ليو ستراوس Leo Strauss أن يربطه بالفلسفة السياسية لليونانيين والقانون الطبيعي المسيحي، وكارل شميت Carl Schmitt باللاهوت السياسي الذي ترك آثاراً عميقة في الغرب المسيحي منذ أيام أوغسطين. 

غير أن هذه المفاهيم المتطوّرة للغاية  للسياسية خسرت «مكانها في الحياة» في ظروف الحداثة المختلفة تماماً. مع ذلك، أراد ستراوس أن يبقى البعد السياسي مفتوحاً، حتى في الظروف الراهنة، عن طريق الرجوع المباشر للقانون الطبيعي التقليدي. بينما رأى كارل شميت في الحكم المستقل للدولة الحديثة نظاماً معدّلاً لسلطة السياسي الموحِّدة. في ظروف ديموقراطية الجماهير الفاشستية، رغب شميت في تجديد مفهوم السياسي من وجهة نظر تاريخية في عصر كيان الدولة الذي كان في الطريق لبلوغ النهاية. في رأيي، فشل المفهومان، لكن يجب أن نحذر من الخلط بين فاشية رجال الدين عند شميت وإعادة الوقعنه الهرمنيوطيقية المتقنة للقانون الطبيعي الكلاسيكي عند ستراوس. لكن مفهوم السياسي يحافظ على انتماء خاص مقابل تطورات «ما بعد الدمقرطة» التي تزيل من الوعي العام السياسة بوصفها وسيلة ممكنة لتحفيز أفعال المساواة والاندماج المجتمعي الشامل. وهذا أيضاً ما يمكن أن يفسّر الواقعية الخفية لستراوس وشميت اللذين تم تكريس نظرياتهما بطريقة غير حرجة  حتى في اليسار، والتي أفسدت الفكر السياسي بهذا الشكل الفظ. 

وبالمناسبة، لم يكن اختياري هذا الموضوعَ صدفة تحت ظروف الترهيب المشلّة: أذهلني غياب أي نوع من الاحتجاج العفوي على الظلم الاجتماعي الكبير بسبب الكفالة التي تساوي ترليون دولار التي تحابي البنوك على حساب الضرائب المستقبلية وتفشّي البطالة، وعلى حساب الطبقات الشعبية وعلى الإفقار العام والخاص لتلك الطبقات والقطاعات بالدرجة الأولى، وعلى حساب ميادين الحياة الأكثر احتياجاً لخدمات الحكومة. 

لهذا السبب، أردت في ندوتنا المشتركة، أن أختبر بالرجوع إلى المثل المضاد لكتاب جون راولز الليبرالية السياسية Political Liberalism إذا كان يمكن تحت الظرف المعتدل للديمقراطية الليبرالية الدستورية، أن يُعطى معنى منطقيٌّ لمفهوم السياسي الغني بالروابط عموماً. على الأقل للإشارة إلى هذه الأطروحة، نحتاج لفهم واحد من نتائج حقيقة عدم إمكان الخلط بين علمنة الدولة وعلمنة المجتمع المدني. فطالما بقي التراث الديني والمنظمات الدينية قوى حيوية في المجتمع لا يمكن لفصل الدين عن الدولة في السياق الدستوري الليبرالي أن يؤدّي إلى إزالة تامّة للتأثير الذي يمكن أن تمارسه الجماعات الدينية على السياسة الديمقراطية. وللتأكيد، تقتضي علمنة سلطة الدولة دستوراً حيادياً بين الرؤى الكونية، وعدم انحياز للقرارات الجمعية الملزمة الصادرة عن دستور في مواجهات مجموع الرؤى الكونية والأديان المتنافسة. لكن الديمقراطية الدستورية، التي تتيح للمواطنين ممارسة حياة دينية بوضوح، لا تُميَّزُ في الوقت نفسه ضد هؤلاء المواطنين في دورهم بوصفهم شركاء ديمقراطيين في التشريع. منذ وقت طويل كانت هذه الإشارة إلى وجود مفارقة تثير الضغينة ضد الليبرالية -بطريقة ظالمة- إذا لم يساوِ المرء بين الليبرالية السياسية وتفسيرها العلماني. لا  تستطيع الدولة الليبرالية منع المواطنين الدينيين من حرية التعبير، في الدائرة السياسية الشعبية، وهذا أصل العملية الديمقراطية، كما أنها لا تستطيع السيطرة على دوافعهم عندما يدلون بأصواتهم في صندوق الاقتراع. 

إلى هنا، ينبغي ألا يبقى الفهم الذاتي الجمعي لنظام الحكم الليبرالي بعيداً عن التأثر بالرؤية الكونية التعددية في مجتمع مدني. ومن المؤكّد، أن محتوى التعابير الدينية يجب أن يترجم إلى لغة يمكن فهمها من الجميع قبل إمكان تحويلها إلى أجندات رسمية وقبل أن تنساب في مداولات جماعات صنع القرار. لكن المواطنين المتدينين والجماعات المتدينة يبقون مأسورين تحديداً في تلك الأماكن التي نشأت فيها العمليات الديمقراطية في المواجهة بين الفئات المتدينة والفئات غير المتدينة من السكان.  وطالما أن الرأي العام المرتبط بالموضوعات السياسية يتغذى من خزان الاستخدام الشعبي للعقل من خلال الناس المتدينين والناس غير المتدينين، يجب أن ينسب إلى فهم الذات الجمعية لكل المواطنين أن تسويغ الديمقراطية التي تتشكّل عن طريق التداول يتغذى أيضاً عن طريق الأصوات الدينية والمواجهات التي أثارها الدين. إن مفهوم «السياسي» بهذا المعنى المنقول من الدولة إلى المجتمع المدني، يحافظ على مرجعية الدين حتى في الدولة العلمانية الدستورية. 

إدواردو مندياتا: إتماماً لما مر، كنت متفاجئاً لسماع مناقشات في ندوتنا توحي  بأن لك تصوراً مختلفاً لشميت مقابل ستراوس من جهة، ومتز Metz من جهة أخرى، وكما عبّرت، يوجد شكلان من اللاهوت السياسي: واحد معادٍ للتنوير، والآخر موالٍ له. إذاً، هل يمكنني القول إن صيغة اللاهوت السياسي التي أثارها متز تجسّد نوعاً من التنوير الديني ما بعد الميتافيزيقي الذي تبنّيته في فلسفتك السياسية؟ وهل تعتبر متز شريكاً لك في الحوار ما بعد العلماني الديني المثالي؟

يورغن هابرماس: هذا تعبير عنه بجملة مضللة، لكنها ليست خاطئة تماماً. فالاستحقاق العظيم لمتز هو دراسة موضوع الحساسية الزمنية للتفكير ما بعد الميتافيزيقي من دون أي تعتيم سياقي، وبطريقة يمكن من خلالها أن يكون الموضوع جسراً للاهوت معاصر. وهكذا برز عن طريق تأثير مرتز الجزئي، جيل شاب من اللاهوتيين في ألمانيا. وهذا الجيل لم يعد مشاركاً في الرأي الذي عبّر عنه البابا في خطاب رجنسبرغ. بدأ أعضاء هذا الجيل لاهوتياً، كما كانت الحال، بعد نقد "كانت" العقلَ؛ لذلك فهم لا يندبون الفلسفة الاسمية nominalism بوصفها مدخلاً لتاريخ انحطاط الحداثة، بل يدركون في التوجّهات ما بعد الميتافيزيقية للفكر العمليات التعلّمية التي انبثقت منها هذه التوجّهات.