البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

معنى الكلمتين، ما بعد العلمانية وما بعد العلماني

الباحث :  جان مارك لاروش - Jean - Marc Larouche
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  8
السنة :  السنة الثالثة - صيف 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  August / 13 / 2017
عدد زيارات البحث :  1004
تحميل  ( 323.847 KB )
في هذا البحث يركز الباحث في علم الاجتماع والأستاذ المحاضر في جامعة كيبك الكندية جان ـ مارك لاروش، على توضيح الالتباسات المعرفية المتصلة بمصطلح ما بعد العلمانية وما بعد العلماني. وهذا المصطلح الذي أخذ مساره يتحوّل إلى مفهوم متداول في الوسط الأكاديمي الغربي يجد أهميته في تعريفه للقارئ العربي وسط الجدالات التي يرتفع منسوبها يوماً بعد يوم بين النخب العربية والإسلامية حول المستقبل الذي ينتظر مجتمعاتها.

المحرر

بالنسبة إلى مَن يريد أن يقوِّم أفكار الحركة الخَلْقيّة (mouvement créationniste) في المجال الأكاديمي الأميركيّ وخطابَها الشموليّ الهادف إلى التأسيس لفهمِ العالم والمعياريّة الاجتماعيّة على قاعدة نظريّة الإبستيمولوجيا المعدّلة [علم المعرفة المعدّلة]،  فإنّ كتاب جوان ستافو-ديبوج، الذئب في الحظيرة، يشكل مدخلاً ممتازاً لهذا الموضوع. على الرغم من أن الصورة التي يرسمها لهذه الحركة وتفرّعاتها وصانعيها الأساسيين، تستند أساسًا إلى البحث الذي أجراه هو مع فيليب غونزاليس الذي يُتوقّع أن تُنشر نتائجه خلال العام 2013 تحت عنوان تفويض (mandat) الأصول: مقاربة اجتماعيّة ـ تاريخيّة لنظريّة الخَلق المجاهدة فإنّ الأصوليّة المسيحيّة الأميركيّة لكونها تتكوّن من تيّارات مختلفة، فلا يمكن أن نستنتج من خلال نظرية الخَلق الفرضيّةَ القائلة بأنّ الأصوليّة المسيحيّة تغزو أكثر من أي وقت مضى المجالَ العامّ.

في أولى الملاحظات في مقدّمة كتابه، يخبرنا جوان ستافو-ديبوج بأنّ هذا الغوص في نظريّة الخلق الأميركيّة دفعه إلى إعادة النظر «جدّيًّا» بالأفكار التي وسّعها في أطروحة الدكتوراه عن «الإيمان في نظام علمانيّ ـ ليبراليّ، عن المتطلّبات العمليّة للتسامح وعن ما بعد العلمانيّة الهابرماسيّة» (ستافو ديبوج، 2012، ص 12)[2]. لذلك، كما كتب في البداية في الموجز الكبير، فإنّ كتابه «يسعى إلى إعادة النظر (mettre en cause) في المسار ما بعد العلمانيّ[3] الذي تبنّاه مؤخّرًا يورغن هابرماس (2006 و 2008)، وأيضًا تشارلز تايلور (2007) وجان مارك فيري (2008) وجمعٌ من الفلاسفة الآخرين، وعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع». لهذا فإنّ هدف الكتاب هو «معالجة الحركة الخَلْقيّة كاختبار للمرغوبية الاجتماعيّة والتلاؤم السياسيّ لـ «ما بعد العلمانيّة» (ستافو ديبوج، 2012، ص 9). هذا الهدف يرسم، إذاً التحليلات والأطروحات، المُدافع عنها في هذا الكتاب، على سجل النقاشات حول مكانة الدين في المجال العام، وقصدُ المؤلفِ في هذا الصدد هو أكثر وضوحًا:

«إنّ كتابي سوف يرافعُ، إذاً، ضدّ العلمانية، عبر التذكير بأنّنا نُحسن صنعًا إنْ لم نهاجم بتهوّر كبير علمانيّةَ المجال العام السياسيّ وإن لم نرفض الفروقَ بين «الإيمان»و «المعرفة»، وبين العقول «الدينيّة» و«العقل العام»، وبين الأخلاق الدينيّة والقوانين الوضعيّة» (المرجع نفسه، ص 10).

في الملخّص الكبير، يلخّص خطيئة ما بعد العلمانية:

"لأنّ ما بعد العلمانية تقوم على الرغبة في رفع أيّ قيدٍ على التعبير عن المعتقدات الدينية في المجال العام، فإنّها مفيدة جدًّا لنظريّة الخَلق ولحركات رجعيّة أخرى مَسُوقة أيضاً باسم العقائد الدينيّة. جميعها أمثلة على القصد ما بعد العلماني بانفتاح المجال العام بشكل تامّ على المعتقدات الدينيّة، التي يقول لنا العديدُ من الكتّاب بأنّ لها شرعيّة كاملة للتعبير من غير تحفظ ولأنْ تؤسّس بنفسها قرارات سياسيّة ملائمة للجميع، ومؤثّرة على أيّ كان».

إنّ ما بعد العلمانية، معروضةً على هذا الشكل، قد تمّت محاكمتها، والحكمُ المعلَنُ لا يمكنه سوى إدانة مَن يقوم، من خلال مثل هذا الانفتاح من دون تحفظ، «بإدخال الذئب إلى الحظيرة، من خلال فتح الباب له بابتسامة ومن ثمّ الابتعاد بلطفٍ سامحًا له بالمرور» (المرجع نفسه، ص 162). في هذه الحالة هنا، واسميًّا، المشتبه به رقم واحد، وهو الفيلسوف يورغن هابرماس، يصبح مذنبًا وينتشر الخبر: «تحت تأثير رؤية ما بعد علمانيّة للمجتمع والتي غذّاها الفلاسفة المحترمون مثل يورغن هابرماس، نحن نشهد، عاجزين ومتسامحين جدًا، بروز نوعٍ جديدٍ من الثيوقراطيّة، تجعل العقل الدينيّ يعمل ضدّ العقل العام» (بريل، 2012)[4].

بالنسبة إلى مَن لم يقرأ نصوص يورغان هابرماس حول الدين والتي استند إليها ستافو ديبوج في كتابه، وكذلك نصوص المؤلِّفيْن الآخريْن المتَّهمَيْن (جان-مارك فيري؛ شارلز تايلور)، فإنّ الاستنتاج المنطقي تِبعًا لقراءة الذئب الحظيرة في والملخص الكبير هو، بالتالي، بالحكم غير القابل للاستئناف بإدانة يورغان هابرماس وشركائه. بالنسبة إلى من قرأ – وكذلك مع الإشارة إلى الحدود (على سبيل المثال توزل، [لا.تا])- إنّ مثل هذا الاستنتاج لا يمكنه سوى أن يبدوَ مُفرِطاً. هذا ينطبق على الحالة التي نحن فيها. في الواقع، لا يمكن ضمّ يورغان هابرماس وجان مارك فيري وشارلز تايلور إلى «رفع من دون قيود»، و«الانفتاح الكامل [...] من دون تحفّظ» للاعتقادات الدينيّة في المجال العام، إلى «ما بعد علمانيّة» الأصوليين الإنجيليين، مثل نيكولاس والترستورف، وكريستوفر أبيرل، وألفين بلانتنغا وستيفن كارتر، الذين يطلق عليهم جوان ستافو-ديبوج المنظّرين "المنارات" لِما بعد العلمانيّة.

في الجـُمل المذكورة أعلاه، كما هي الحال في عدّة مواضع في الكتاب، إنّ ما بعد العلمانيّة هذه، المرتبطة بالأصوليين، تُعزى أيضًا إلى يورغن هابرماس. ولكن في أماكن أخرى كثيرة، يشير جوان ستافو- ديبوج إلى الاختلافات بين مواقف هذا الأخير ومواقف الأصوليين. إنه يعترف بأنّ قصد يورغن هابرماس لا يذهب أبعد من أنّ هناك تحفّظاتٍ وقيوداً وحدوداً مفروضةً على استخدام المعتقدات الدينيّة في المجال العام. على الرغم من هذه الاحتياطات، فإنّ الانزلاق الذي سبّبه جوان ستافو- ديبوج يعمل، وبما أنّه «لا يوجد دخان من دون نار»، فمن الذي أشعل النار؟ نحن لن ننطلق هنا في سَوْق الاتهامات ولا في القرارات الاتهاميّة التي تحتوي على جميع الحجج التي ساقها جوان ستافو- ديبوج في مرافعته. وبما أنّ عملنا ليس إعداد تقرير، فإننا نترك عمدًا بعض التفاصيل المثيرة معلقةً، ومن دون أن نزعم أنّنا نقوم بدور محامي الدفاع عن مواقف يورغان هابرماس حول الدين والمجتمع ما بعد العلماني، فإن النقاش مع ذلك يدور حول نقطتين: 1) حول معنى «ما بعد العلمانية»  وحول انزلاقها؛ 2) وحول السبب الأساسيّ الذي يتمسّك به جوان ستافو-ديبوج ليوجّه الاتهام إلى يورغان هابرماس،  وهو النقاش الذي يثيره هذا الأخير حول موقف العالـِم اللاهوتيّ نيكولاس ولترستورف، الذي يرى أنّهُ يجب أن يُزال الشرط المحدّد لجون راولس فيما يخصّ مكانة الدين ضمن العقل العام.

انزلاق المعنى

ما إن نضيف اللاحقة « ـيّة» (isme)  إلى تيّار فكريّ، تكون العملية معروفة، فذلك يتمّ بغية إعطائه معنى محدّدًا وإبراز بعدٍ أيديولوجيّ فيه. إذا كان التعبير postsécularisme / postséculariste [ما بعد العلمانيّة/ ما بعد العلمانيّ] يمكن أن ينفع في المعنى الذي أعطاه إيّاه جوان ستافو-ديبوج،  فهو يلائم كما كتبنا أعلاه، الأصوليّين الإنجيليّين المطالبين برفع كلّ القيود الضيقة عن استخدامهم العام للعقل الدينيّ. هذا الموقف لا يمكن أن يُنسب إلى يورغن هابرماس كما يُلمّح جوان ستافو-ديبوج. إنّ استخدام مصطلح «ما بعد العلمانيّة» للدلالة على السواء على المسلك التي ينتهجه هؤلاء الفاعلون الدينيّون ومسلك يورغن هابرماس وشركائه، يتعلّق ببلاغة في الاختيار، إسناد معنى محدّد (restrictif) لفكرته بضمّه إلى فكرة أخرى.   

إنّ الطريقة أيضًا gih rdlm يورغن هابرماس. عندما يستخدم هذا الأخير مصطلح sécularisme) séculariste  (sنkularistische)، العلمنانيّ/العلماني، فهو يقيده بمعنى محدّد. وبالتاليّ إنّ لمصطلح العلمانية/ العلماني (sécularisme/séculariste ) دلالة خاصّة بالنسبة إليه ويجب أن تكون مختلفة عن دلالة العلمانيّ (séculier /sنkular) وعن الاسم المشتق منه "المُعلْمَن" (sécularisé (sنkularisierte المستخدمَيْن كلاهما للدلالة على الشرط الحديث لعقل مستقلّ متحرّر من الدين والذي يتولّى مهمّة الفصل بين الإيمان والمعرفة:

“خلاف غير المؤمنين الذين يحتفظون بموقف لا أدريّ (agnostique) مقابل المزاعم بصحّة الأديان [المواطنون المـُعَلْمَنون]، يتبنّى العلمانيّون [sنkularist] موقفًا مثيرًا للجدل ويرفضون أيّ تأثيرٍ عام للعقائد الدينيّة. هذه العقائد فاقدة للقيمة بنظرهم، لأنّها ليست مبنيّة على أسس علميّة. في العالم الأنجلوسكسونيّ، تستند العلمانية اليوم إلى طَبعِيّة (نزعة طبيعيّة/ naturalisme) طُلْبَة، تمنح علوم الطبيعة حصريّة المعرفة المعترف بها اجتماعيًّا. أنا أرى أنّ مثل هذه العِلْمَويّة تعسفيّة. إنها لا تتّفق مع فكر ما بعد ميتافيزيقيّ، يُمدِّد القوّة الخطابيّة ٍعقل علمانيٍّ، ولكن غير مشوَّه، لتطال القضايا المعنويّة والأخلاقيّة والجماليّة، من دون أن تمحو بأيّ شكلٍ من الأشكال الحدودَ بين الاعتقاد والمعرفة» (هابرماس، 2008 أ، صص 30-31. ملاحظتنا).

بالنسبة إلى هذا الفكر العلمانيّ إنّ «المعتقدات الدينيّة هي في حد ذاتها غير حقيقيّة، ووهميّة أو لا معنى لها» (هابرماس، 2008ب، صص56-57) والمظاهر والتعابير الدينيّة يُنظرُ إليها، نوعاً ما كبقايا قديمة، والحريّة الدينيّة مفهومة فيها كحقٍّ أساسيّ، أقلّ منها كـ «إجراء لحماية الثقافة لمصلحة أنواع آيلة للانقراض» (المرجع نفسه، ص 199). ومن الواضح جيّدًا أنّ معنى الكلمات يختلف من مفهوم إلى آخر. تبعًا لهذه الاعتبارات، هل يمكننا أن نعزو علامة [تسمية] (ما بعد العلمانيّة) ليورغن هابرماس؟  ليس بالمعنى القوي الذي نسبَه جوان ستافوـ ديبوج للعلمانيّة، كانفتاح من دون تحفّظ على المعتقدات الدينيّة؛ نعم يمكننا أن نعزو ذلك بالمعنى الذي تأخذه كلمة العلمانيّة لدى يورغن هابرماس آخذين بالاعتبار أنّ هذا الأخير يدين العلمانيّة، يدين ستاره العلمويّ المعادي للدين والذي ينادي منه بتجاوزه، إذًا، إلى  (ما بعد العلمانيّة).

لكن هابرماس لا يستخدم شخصيًّا هذا المصطلح "ما بعد العلمانيّة/ ما بعد العلمانيّ". إنّ ما يشكّل جزءًا من معجمه اللغويّ هو عبارة «مجتمع ما بعد علمانيّ» (Postsarularen Gesselshaft) كشرطٍ (موضوعي) وأفق (معياري). على وجه التحديد، من وجهة نظر المراقب، يتناول هذا  المؤلِّف المجتمعَ ما بعد العلمانيّ بوصفه مفهوماً تجريبيّاً: «وصفُ المجتمعاتِ الحديثة كـ (مابعد علمانيّة) يُحيلُ على تغيير الوعي» الذي يُرجعه إلى ثلاث ظواهر وثّقها علم الاجتماع: 1) لم يعد وعي العيش في مجتمع علمانيّ مرتبطًا باليقين بأنّ التحديث الثقافيّ والاجتماعيّ يتمّ على حساب المعنى الشخصيّ والعامّ للدين»؛ 2) «حقيقة أنّ الجماعات (groupes) الدينيّة تأخذ على نحو متزايد دورَ التجمّعات (communautés) التفسيريّة في الحياة السياسيّة للمجتمعات (sociétés) العلمانيّة»، هذا ما يُجبر «غير المؤمنين على الأخذ بالاعتبار بشكل أكثر وضوحًا ظاهرةَ دينٍ مرئيٍّ على المستوى العامّ»؛ 3) التعدديّة الدينية تتضاعف «بالتعدديّة في أشكال الحياة» الناجمة عن الهجرة والتدفّق السكّانيّ المكوّن من أناس يتحدّرون من "ثقافات ذات طابع تقليدي قويّ" (هابرماس، 2008 ج، ص7).

من وجهة نظر المشارك، يظهر المجتمع العلمانيّ بالنسبة إلى يورغن هابرماس أفقًا معياريًّا للمجتمع السياسيّ حيث تكون شروط الإمكان ضروريّة. بالنسبة إلى يورغن هابرماس، للمجتمع العلمانيّ أربع عتبات معياريّة: 1) أولويّة دولة القانون الدستوريّ (هذا ما يستلزم ويشمل الفصل بين الكنيسة والدولة)؛ حياد الدولة في المسألة الدينيّة؛ الاعتراف بالحقوق الأساسيّة؛ 2) أولويّة العقول العلمانيّة (غير الدينيّة) في الاستخدام العامّ للعقل كمصدر للمعياريّة الاجتماعيّة والسياسيّة والقانونيّة؛ 3) أولويّة العلم (الإجرائيّ والفهميّ والنقديّ) كأداة رافعة لجميع المعارف. 4) تعدديّة دينيّة مسالمة.

إذا كانت العتبات الثلاث الأولى تميّز جيّدًا ما نفهمه عادةً من مجتمعٍ علمانيٍّ أو مُعَلمَن، فإنّ العتبة الرابعة، الناجمة عن الأخذ بعين الاعتبار استمرار الدين ليس واقعاً فقط ولكن بوصفه تحدّيًا للفكر العلمانيّ والتعايش معًا، تشير إلى العبور نحو المجتمع "ما بعد العلمانيّ". كيف نعيش في مثل هذا المجتمع؟ ما التحدّيات المعرفيّة والعمليّة أيضًا (المزايا المدنيّة والسياسيّة) التي يجب على المواطنين المؤمنين والمواطنين العلمانيين مواجهتها؟ هذه الأسئلة ترفض الأفق المعياريّ الذي ينص يورغن هابرماس عليه على النحو التالي:

«المجتمعات العلمانيّة توجب الاعتراف بأنّ تحديث الوعي العام يسوق ويغيّر بطريقة تأمليّة في المراحل المتعاقبة، الذهنيّات الدينيّة والدنيويّة. يمكننا من الجهتين، شرطَ أن نعتبر معًا التعلمنَ عمليّةَ تعلّمٍ تكامليّة، أن نأخذ على محمل الجدّ، بالتبادل ولأسبابٍ معرفيّة، إسهامات كلّ منها حول الموضوعات المثيرة للجدل في المجال العام» (هابرماس، 2004 ص16).

بالنسبة إليه، العقل العلمانيّ، مع بقائه على الإلحاد، يمكنه أن ينفتح على التقاليد الدينيّة ويعترف بمضمونها المعرفيّ والبدهيات الأخلاقيّة ذات الصلة، وهذا ما يرفضه العقل العلمانيّ. يَذكر أنّ العقل الحديث سبق أن نجح في ترجمة الكثير منها بلغة علمانيّة (مفاهيم الاستقلاليّة الذاتيّة، الفردانية، التحرّر والتضامن: فئات التشييء والاستعباد ـ الناتج من حظر صورة الإله وعن الخطيئة الأصليّة - كفئات للنظرة الناقدة حول الأمراض الاجتماعيّة في عصرنا الحاضر). هذا الانفتاح يعني أنّه ينبغي على المواطنين غير المؤمنين أن يواجهوا هم أيضاً تحدّيًا معرفيًّا. في هذا الصدد، المجتمع العلمانيّ متطلِّبٌ سواء تجاه الوعي الدينيّ أو تجاه الوعي العلمانيّ. إنّه يتطلّب من هذا الأخير أن يفهم «عدم اندماجه بالمعتقدات الدينيّة بوصفها معارضة من المعقول توقّعها» (هابرماس، 2008ب، ص 201)، وأن يفهم أنه يمكن أن يتعلّم منها.

بالنسبة إلى هابرماس، هذا الانفتاح على الأديان ليس إذًا من دون تحفّظ، بل على العكس من ذلك، يصرّ في كتاباته كلها على العتبات التي ينبغي على الجماعات المؤمنة والمواطنين الدينيين أن يجتازوها تمامًا بطريقةٍ انعكاسيّة ذاتيّة في مجتمعٍ تعدّديّ وديمقراطيّ: الاعتراف بأولويّة دولة القانون الدستوريّ؛ أولويّة العقول العلمانيّة/ الدنيوية في الاستخدام العام للعقل كمصدر  للمعياريّة الاجتماعيّة والسياسيّة والقانونيّة؛ أولويّة العلم بوصفه سلطة إبستمولوجيّة [معرفيّة]؛ أخيرًا، التعدّديّة الدينيّة مسالمة من خلال التغلب على التنافر المعرفي الذي لا يخفق  لقاءٌ مع بقيّة الطوائف والأديان الأخرى أبدًا في إظهاره (المرجع نفسه، صص 197-198 و 2002، صص 151-152). فضلًا عن ذلك، يتطلّب المجتمع العلمانيّ وعياً علمانيًّا ـ وبشكل خاصّ إذا كان يقدّم نفسه كأغلبيّة ـ وعدم استغلال «قوة التعريف المكتسبة تاريخيًّا لتعرّف نفسها وفقًا لمعاييرها الخاصّة، بما يجب أن تكون عليه الثقافة السياسيّة الإلزاميّة للمجتمع التعدّديّ» (هابرماس، 2003، ص 165).

الإشارة إلى الذئب ألفا (Alpha)

هذا العرض الموجز لمواقف يورغن هابرماس ينبغي أن يُحصّنة ضدّ الانزلاق الذي قام به جوان ستافو- ديبوج.  ولكن ربّما يكون لهذا الأخير أسباب وجيهة بما أنّ يورغن هابرماس يسمح لنفسه بأن يأخذ على محمل الجدّ الاعتراض الكامل لرئيس العصابة، الذئب ألفا الذي هو نيكولا ولترستورف. إنّه يعترض على النظريّة الراولسيّة التي تُقصي الدين في استخدام العقل العام. بالنسة إلى يورغن هابرماس، المطالبةُ الراولسيّة بالمعاملة بالمثل، التي تدعو جميع المواطنين إلى جعل عقولهم مفهومة بلغة يمكن بلوغها من قبل الآخرين، تشكُّل بالنسبة إلى المواطنين الذين لا يمكن أن ينقسموا إلى قسمين أحيانًا باللجوء إلى عقول علمانيّة، وأحيانًا إلى عقول دينيّة»، عبئًا عقليًّا ونفسيًّا لا يُطاق» (هابرماس، 2008ب، ص 186). كما أشار نيكولاس ولترستورف: «الدين، بالنسبة إليهم، ليس حول شيء آخر غير وجودهم الاجتماعيّ والسياسيّ؛ هو أيضًا حول وجودهم الاجتماعيّ والسياسيّ» (أودي وولترستورف، 1997، ص 105). يجد يورغن هابرماس هذا الاعتراض قويًّا نظراً إلى أنّ ما هو على المحكّ بالنسبة إليه هو المساواة في المعاملة بين المواطنين، حتى ولو كانوا جميعهم دينيين بالمعنى الذي قصده نيكولاس ولترستورف. ولكنّ المهمّ هنا هو أن نفهم دافع يورغن هابرماس. إنّه يريد من خلال الاعتراض المتكامل، أن يثبت أنّ  التقييد الراولسي يرتكب خطيئةَ الإفراط في العلمانيّة.

“لم تكن الاعتراضات [مثل اعتراضات ولترستورف] تركّز على المنطقيّات الليبراليّة بقدر ما كانت تركّز على تعريف ضيق جدًّا ولائكي [علمانيّ] (Laique sakularistich/sécularisé) للدور السياسيّ للدين في الإطار الليبراليّ. [...] لا يمكن الخلط بين حجج ترافع بقوّة لصالح دور سياسيّ أوسع للدين، وهي تتنافى، بصفتها تلك، مع الطابع العلمانيّ للدولة الدستوريّة، والاعتراضات المبرّرة ضد الفهم اللائكوي (laiciste) للديمقراطيّة ودولة القانون. [...] وفي المقابل، فإنّ الشرط اللائكويّ (Laiqste laizistshe forclerung) الذي وفقًا له يجب على الدولة أن تمتنع عن دعم أيّ سياسة تدعم أو تقيّد الدين، بما هو دين، هو قراءة ضيقة جدًّا لهذا المبدأ. ولكن هذا الرفض للائكوية (laicisme) (التسطير منّا/الكاتب) يجب ألّا يعني أنّ الباب مفتوح على مصراعيه للتنقيحات التي من شأنها أن تلغي الفصل بين الكنيسة والدولة» (هابرماس، 2008ب، صص 182-183).

يبدو لنا أنّ الموقف الصريح هنا ليورغن هابرماس لا يتطابق مع ذلك الانفتاح من دون تحفظ الذي يعيده إليه جوان ستافو- ديبوج. علاوة على ذلك، عمد المترجمون الفرنسيّون لهذه النصوص إلى اختيارات تطمس المعنى المحدّد الذي يعطيه هابرماس لمصطلح العلمانيّة (sécularisme) وذلك لما يفضّلون ترجمته في بعض المواضع بـ «اللائكيّ» (Laïque). ومع ذلك، عندما يستخدم هذا المؤلِّف الكلمات الألمانيّة المشتقة من  مصطلح العلمانيّة الفرنسيّ

(« Laizismus/laïcité » ; « laizistische/laïciste » ; «laizistischer »/ من وجهة نظر الدنيويّة»؛ laizistischer »/ فهمٌ دنيويّ)،

فهذا مرتبط غالبًا بالسياق الفرنسيّ الذي لا تنقصه الإشارة إلى الانعطاف العلمانيّ، هذا الأنموذج الإيديولوجيّ للعلمانية هو الذي يرفضه[5]. بذريعة دراسته حول نظريّة الخلق، أراد جوان ستافو-ديبوج إظهار أنّ الفكر ما بعد العلماني (postséculière) ولا الفكر ما بعد العلمانيّ (postseulariste)  ليورغن هابرماس هو الذي كان قد فتح البابَ للذئب. كان جوان ستافو-ديبوج قد فتح بذلك باباً على التركيز على معنى الكلمات وعلى المواقف الواضحة لهذا المؤلِّف حول مكانة الدين في الفضاء العام[6].

المصادر والمراجع:

أُضيفت (معرِّفات الوثائق الرقميّة) آليًّا إلى المراجع من قِبل بيلبو، أداة التحشية الببليوغرافيّة للنشر المفتوح. بإمكان المستخدِمين في المؤسّسات المشاركة في أحد برامج الفريميوم للنشر المفتوح تحميل المراجع الببليوغرافيّة التي وجد لها بيلبو معرِّف وثيقة رقميًّا.

Audi R. & N. Wolterstorff (1997), Religion in the Public Square. The Place of Religious Convictions in the Political Debate [الدين في المجال العامّ، مكانة المعتقدات الدينيّة في النقاش السياسيّ]،   Lanham, Maryland, Rowman and Little field Publishers.

Briel P. (2012), «Fondamentalisme chrétien. Vers une nouvelle théocratie ?"  [الأصوليّة المسيحيّة. نحو تيوقراطيّة جديدة؟]   , Le Temps, 3 novembre.

Brosseau O. & C. Baudoin (2013), Enquête sur les créationnismes. Réseaux, stratégies et objectifs politiques [تحقيق حول نظريّات الخلق. شبكات، إستراتيجيّات وأهداف سياسيّة] , Paris, ةditions Belin.

Calhoun C., Mendieta E. & J. Van Antwerpen (dir.) (2013), Habermas and Religion]   [هابرماس والدين Oxford, Polity Press.

Habermas J. (2002), L’Avenir de la nature humaine. Vers un eugénisme liberal [مستقبل الطبيعة البشريّة. نحو علم نِسالة ليبراليّ]  ?, Paris, ةditions Gallimard.

Habermas J. (2003), « De la tolérance religieuse aux droits culturels » [من التسامح الدينيّ إلى الحقوق الثقافيّة] , Cités, n° 13. DOI: 10.3917/cite.013.0151

Habermas J. (2004), « Pluralisme et morale »  [التعدّديّة والأخلاق]  Esprit, juillet.

Habermas J. (2008a), « Retour sur la religion dans l’espace public. Une réponse à Paolo Flores d’Arcais »,[عودة إلى الدين في المجال العام]  Le Débat, vol. 5, n° 152, pp.

 30-31.http://palimpsestes.fr/quinquennat/notions_etudes/comm_politique/habermas/religion_espacepublic.pdf   DOI: 10.3917/deba.152.0027

Habermas J., Entre naturalisme et religion. Les défis de la démocratie [بين الطبعويّة والدين. تحدّيات الديمقراطيّة], Paris, Gallimard, Habermas J. (2008b), « Qu’est-ce qu’une société post-séculière ?», Le Débat, vol. 5, n° 152.

 http://www.cairn.info/revue-le-debat-2008-5-page-4.htm

Jean M. (2011), Penser la laïcité avec Habermas. ةtude critique de la conception habermassiene des rapports religion-politique [لنفكّر بالدّنيويّة مع هابرماس. دراسة نقديّة للمفهوم الهابرماسيّ للعلاقات الدينيّة السياسيّة], Thèse de doctorat, Sciences des religions, Université du Québec à Montréal,

http://www.archipel.uqam.ca/4900/1/D2191.pdf .

Stavo-Debauge J. (2012), Le Loup dans la bergerie. Le fondamentalisme chrétien à l’assaut de l’espace public [الذئب في الحظيرة، الأصوليّة المسيحيّة تغزو المجال العامّ] , Genève, Les ةditions Labor et Fides.

Tosel A., « La raison communicationnelle et les religions face au défi de la démocratie » [العقل التواصليّ والأديان في مواجهة تحدّي الديمقراطيّة] , Marx au 21e siècle. L’esprit et la lettre.

http://www.marxau21.fr/index.php?option=com_content&view=article&id=61

المرجع الألكترونيّ

Jean-Marc Larouche, « Le sens des mots : postsécularisme et postséculière», SociologieS [En ligne], Grands résumés, Le Loup dans la bergerie. Le fondamentalisme chrétien à l’assaut de l’espace public, mis en ligne le 19 novembre 2013, consulté le 25 juillet 2016. URL : http://sociologies.revues.org/4527.

---------------------------------------

جان مارك لاروش : علم الاجتماع، جامعة كيبك في مونتريال، كندا.

ـ مناقشة كتاب جوان ستافو- ديبوج، الذئب في الحقل. الأصوليّة المسيحيّة تغزو المجالَ العامّ، le sens des mots: post sécularisme et postséuliére جنيف، منشورات لابور وفيدس، 2012.

المصدر: الموجز الكبير للكتاب بقلم مؤلّفه متوافر على الموقع: http://sociologies.revues.org/4524 

والمناقشة التي قام بها لورنس كوفمن متوافرة على الموقع: http://sociologies.revues.org/4526

[2]. الكلام الوارد في هذه الملاحظة أُعيد أيضًا في الملاحظة رقم 1، القسم 2، ص 59.

[3]. يستخدم جوان ستافو-ديبوج في الكتاب وفي الملخّص الكبير كتابتين إملائيّتين: مابعد العلمنة وما بعد العلمنة. يتم إيراد الشكلين الإملائيّين عندما ننقل نصًّا. من جهتنا، نستخدم الشكل الإملائيّ: postsécularisme et post-sécularisme مابعد العلمنة/ ما بعد العلمنة.

[4]. إنْ كانت الصحافيّة تردّد صدى نظريّة جوان ستافو-ديبوج، فهي مع ذلك تنهي بحثها حول ملاحظة حرجة متّهمةً المؤلّف بعدم دعم فرضيّته بالوقائع ولا الأخذ بالاعتبار الدراسات الأخرى حول الأصوليّة المسيحيّة التي تتناسب فرضيّاتها مع فرضيّات جوان ستافو-ديبوج.

[5]. ندين بهده الملاحظات حول الاستخدام الألمانيّ للتعابير إلى ماركو جون (جون، 2011، صص 13-14).

[6]. عند تصفّح هذا النصّ، لم يكن الكتاب المنتظر الذي يدور حول الدين لدى يورغن هابرماس متوافرًا بعد. إنّه يضمّ في ما يضمّ نصًّا لنيكولاس ولترستورف وعلى ردّ ليورغن هابرماس. لكانَ ذلك من دون شكّ فرصةً للانطلاق قبلًا في المناقشة (كالهون، موندياتا وفان أنويربان، 2013).