البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الطبيعة البشرية ، نقد الوهم الغربي حيال الذات والآخر

الباحث :  مارشال سالينز - Marshall Sahlins
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  10
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  1654
تحميل  ( 409.438 KB )
هذه المقالة هي جزء من كتاب تحت عنوان "الطبيعة البشرية والوهم الغربي" للباحث الأميركي مارشال سالينز ولقد كان لنا أن نختار هذا الفصل منه انسجاماً مع ما ينطوي عليه العدد الحالي من "الاستغراب" من مقاربات مختلفة لمفهوم الذات والآخر في الفكر الإنساني المعاصر.
تتناول المقالة التي تشكل تلخيصاً لأبرز الأفكار الواردة في الكتاب، نقداً لأوهام الغرب حيال الذات والرؤية الاستعلائية حيال الآخر.
ويؤسس الباحث عمله هذا على الطبيعة البشرية بوصفها معيارية تحليلية للظاهرة الغربية.

المحرر

استعين بالمبدأ النيتشي: القضايا الكبرى كالمياه المثلجة، علينا الخروج منها بذات السرعة التي دخلنا اليها.
منذ أكثر من ألفي عام، ظلّ من أطلق عليهم اسم «الغربيين» مسكونين بشبح طبيعتهم: إن لم تُخضع لحكم ما، انبعاث هذه الطبيعة البشرية الجشعة والعنيفة قد يدفع المجتمع إلى الفوضى. غالباً ما اتخذت النظرية السياسية الخاصة بالحيوان غير المنضبط مسلكين متناقضين: إما التراتب وإما المساواة. إما سلطة الملك وإما التوازن الجمهوري، إما منظومة مهيمنة قادرة مثالياً على وضع حد لأنانية الطبيعية للبشر بفضل عمل سلطة خارجية، وإما منظمومة ضابطة ذاتياً حيث المشاركة المتساوية للسلطة وأداؤه الحر قد ينجحان في توفيق المصالح الخاصة مع المصلحة العامة. تجاوزاً للسياسة، نجد هنا منظومة غيبية شمولية تصف ترتيباً طبيعياً للأشياء: نجد بالفعل ذات المنظومة الفوضوية الأصلية بين العناصر التي نرتبها إما بالتراتب وإما بالمساواة. تطبق هذه المنظومة في تنظيم الكون كما في تنظيم المدينة، وتدخل أيضاً في مفهوم صحة البدن البشري. فهي نظرة غيبية خاصة بالغرب، لأن التمايز المفترض لديها بين الطبيعة والثقافة يحدّد تقليداً خاصاً بنا، يميزنا من الشعوب كلها التي ترى أن الحيوانات هم أصلاً بشر، وليس أن البشر هم بالأصل حيوانات. بالنسبة لهم، لا وجود لـ«طبيعة حيوانية» يجب إخضاعها. فهم على حق، لأن الجنس البشري كما نعرفه، «الهوموسابينس»، ولد في زمن غير بعيد نسبياً، ضمن تاريخ ثقافي للبشر أقدم بكثير. يشهد على ذلك علم «الإحاثة» paléontologie: نحن أيضا حيوانات ذات ثقافة، وإرثنا البيولوجي محدّد من قبل سلطتنا الرمزية. واستعبادنا اللاإرادي للميول الحيوانية ليس إلا وهماً متجذراً في الثقافة.
لا أوافق على الحتمية الجينية المشتهرة في الولايات المتحدة اليوم، التي تزعم تفسير الثقافة بحالة غريزية في البشر تدعوهم إلى البحث عن مصلحتهم الشخصية في وسط تبارزي. تدعم «العلوم الاقتصادية» هذه الفكرة، وترى أن الأشخاص لا يسعون إلا لإشباع رغباتهم من خلال «خيار عقلي». لا مجال هنا للحديث عن العلوم الشبيهة، والتي تحظى بشعبية كبيرة، مثل علم النفس التطوري وعلم الاجتماع البيولوجي، اللذين جعلا من «جين الأنانية» المصطلح الحاوي لكل شيء في العلوم الاجتماعية. ولكن كما قال أوسكار وايلد عن الأساتذة، الجهل هوثمرة الدراسة المطولة. وكونهم نسوا التاريخ وتعدد الثقافات، لم يلاحظ هؤلاء المتعصبون للأنانية التطورية أن  وراء ما يسمونه الطبيعة البشرية تختبئ صورة البرجوازي، إلا إذا كانوا يحتفلون بمركزيتهم الإثنية باعتبار تقاليدنا وعاداتنا تثبت نظريتهم حول التعامل البشري. بالنسبة لهذه العلوم، النوع espèce هوالأنا.
الادعاء بأن الخبث الغريزي في الإنسان خاص بالفكر الغربي يعارض الخطاب المسيطر، أي خطاب ما بعد الحداثة ورغبته بالغموض. يجب التقليل من حدة هذه المقولة، إذ يمكن إيجاد أفكار شبيهة في أنظمة دولاتية تطمح إلى ضبط سكانها، كما هي الحال في الفكر الكونفوشي، حيث الفرضية التي تقول إن الانسان بطبيعته طيب (منسيوسMencius)  أو قادر بطبيعته على العمل الصالح (كونفوشيوس) تحاذي الفرضية المعاكسة حول الخبث الطبيعي في الإنسان (هسون تزوHsun Tzu). ولكن أرى أن من بين كافة التقاليد ـ بما فيها الصينية ـ التقليدَ الغربي هوالأكثر احتقاراً للبشرية وللجشع البائس الأصلي لطبيعتنا، بالتأكيد على أن الطبيعة مناقضة للثقافة.
غير أننا لم نكن دوماً متأكدين من فسادنا. ثمة طرق أخرى للنظر إلى الإنسان، مثل النظر إليه من خلال علاقات القرابة، ما أشارت اليه بعض النظريات الفلسفية. على الرغم من ذلك، لا زلنا، بشكل نصفي على الأقل، حيوانات، وهذا النصف الذي يحددنا هوفعل من الطبيعة أكثر شراسة من أي تكلّف في الثقافة.
لا أنوي سرد تاريخ هذا الضمير الأسود لما نحن فيه، ولا بلورة تاريخ الأفكار، ولا حتى البحث عن آثار هذا الضمير. أريد فقط التأكيد على أن هذه الفكرة كانت دائماً موجودة، من خلال الإشارة إلى المثقفين الأوائل، مثل Thucydide ، إلى Machiavel، أو أصحاب الـ Federalist، مرورا بـSaint Augustin، ووصولا إلى علماء الاجتماع البيولوجي، ويمكن إدخال جميعهم في فئة «أنصار Hobbes». كان بعضهم ملكيين، وبعض الآخر موالين لجمهورية ديمقراطية، غير أنهم كانوا جميعاً يحملون النظرة الكئيبة ذاتها إلى الطبيعة البشرية.
سأبدأ بعرض الرابط الوثيق بين طروحات هوبز السياسية وبين طروحات Thucydide 
وJohn Adams. العلاقة المدهشة بين المؤلفين الثلاثة ستسمح لنا برسم المثلث الميتافيزيقي (Metaphysique) المؤلف من مفاهيم الفوضوية والتراتبية والمساواة. على الرغم من أنهم لا يقترحون حلولاً مشابهة لمشكلة خبث الطبيعة البشرية، وجد Hobbes وAdams في كتاب Thucydide «حرب Peloponnese» وخاصة في روايته الشهيرة عن انتفاضة Corcyre، منبع كافة الأمراض التي قد تصيب المجتمع، إذا لم تقف، أمام حب الانسان للسلطة والمال، سلطة سيادية وفقا لـ Hobbes أوتوازن السلطات وفقا لـ Adams.
هوبز وآدمز من أنصار Thucydide
كتب جون آدمز اليافع في العام 1763 بحثاً قصيراً بعنوان: «الناس كلهم طاغية إذا استطاعوا ذلك». ولكنه لم يطبعه بل أعاد صياغته في 1807 ليأخذ الخاتمة: كل أشكال الحكم «البسيطة»، بما فيها الديمقراطية النقية، وأيضاً كافة القيم الأخلاقية، والقدرات الفكرية، والغنى، والجمال، والفن والعلوم، كلها عاجزة أمام الرغبات الأنانية الصاخبة في قلوب الناس والتي تولد الطغيان. فهويبرّر عنوان بحثه بالتالي: يكفي النظر إلى الطبيعة البشرية، ومن لا يقرأ بتاتاً بحثاً أخلاقياً أولم يعاشر العالم سيصدر عنه التفكير ذاته: الشهوات الأنانية أكثر قوة من الرابطة الاجتماعية، ستطغى دائما عليها إذا تركنا الإنسان يسير وفقاً لانفعالاته الخاصة، بغياب أي سلطة خارجية تكبحه أوتراقبه.
هذه هي قناعة آدمز العميقة؛ بالإضافة إلى أنه كان يعتقد أن حكومة ذات السلطات المتوازنة هي الوسيلة الوحيدة لضبط الحيوان. فقد أعلن في العام 1767، أنه مقتنع، بعد مضي أكثر من 20 سنة في دراسة «الحوافز السرية» للأعمال الإنسانية، أن «منذ سقوط آدم إلى اليوم، فشلت البشرية بشكل عام، واستغرقت في الوهم، وتراجعت أمام المشاعر الدنيئة وأمام الجشع والميول العنيفة.» يضيف أن هذه الشهوات المنحطة «أقوى من الرابطة الاجتماعية». مستعينا بالألفاظ المستخدمة من قبل Thucydide لوصف حوادث حرب الـ «Peloponnese». يأسف آدمز لضعف المؤسسات المدنية أمام الغرائز الأنانية لدى الإنسان. «الدين والمعتقدات والقسم والتربية والقوانين تتراجع أمام الشهوات والمصلحة والسلطة»، أوعلى الأقل، «تواجه الغرائز والمصلحة والسلطة». من هنا يأتي دفاعه العنيد عن حكومة تتحدد فيها السلطات المختلفة. بجعل هذه الميول المفسدة متعارضة، ستتمكن المؤسسات من إنتاج تأثيرات صالحة. كان آدمز، مثل العديد من شركائه المتنورين في الوطن، يدافع عن نسخة جمهورية لحكم مزدوج من  النوع الأريسطي  Aristotelicien أوالبوليبي Polybien، حيث يسود الشعب في المؤسسات التي تمزج الديمقراطية بحكم النخبة والملكية، بالحفاظ على ميزات كل منها وبالتالي ضبط إفراطها. من خلال تأسيس هيئة مؤلفة من الممثلين المنتخبين من الشعب في مقابل هيئة مؤلفة من أرسطقراطية مبنية على الغنى، يمكن تفكيك قنبلة الصراع الكامن بين الأغنياء والفقراء، وإن وجدت هذه المؤسسة لمواجهة سلطة تنفيذية واحدة. إن تركت هذه السلطات الثلاث تسير كما يحلو لها، وبالتوافق مع الطبيعة البشرية، ستتجه تدريجياً نحوالطغيان؛ فمن خلال اختلاطها معاً، ستتمكن هذه السلطات الثلاث التي تناضل من أجل بقائها فقط، من الحفاظ على الهدوء العام.
كان آدمز يدرك جيداً تشاؤم Hobbes، Mandeville، وMachiavel، وأشباههم، حول الطبيعة البشرية، ولكن حين كان يعطي أمثلة من التاريخ، كان يستشهد بـThucydide. حين كان يقرأ هذا الأخير وTacite، كان يبدوله أنه «يقرأ تاريخ أيامه وحياته». في سياق الصراعات الحزبية التي كانت تبشّر بولادة الجمهورية الأميركية، وخاصة الصراع بين الفئات الاجتماعية الشبيه بالصراع الذي كان يدور في القرن الخامس في اليونان، أصبح  Thucydide في نظر آدمز الشاهد الأفضل للدمار الناتج من الرغبات غير المنضبطة والمصالح الفئوية. لهذه الاسباب، يظهر المؤرخ اليوناني في قلب المقدمة لـ"الدفاع عن دساتير الولايات المتحدة»، حيث كتب آدمز: «مستحيل قراءة ما وصفه Thucydide في الجزء الثالث حول الفئات والاضطرابات التي توالت في اليونان، دون الارتجاف من شناعة الوضع، بسبب إرادة توازن القوى» يستعيد آدمز رواية Thucydide حول الحرب الأهلية في (Corcyre 3، 70- 3، 85) بكل تفاصيلها.
لن أذكر منها إلا الأهم. فالحرب الأهلية كانت عبارة عن انتفاضة «فئة القلة» ضد «الجماهير» في Corcyre: انتفاضة الطبقة الميسورة ضد قواعد الديمقراطية لدى الشعب، بهدف تحرير المدينة من أثينا وإقامة حكم نخبوي يرتبط بسبارطه. توالت المواجهات، وتم استباحة القوانين والدين، وتداولت الانتصارات بين الفئتين، وتصاعد عدد الضحايا عند تدخل سبارطة وأثينا في الصراع، الأولى إلى جانب أنصار حكم النخبة والثانية إلى جانب الشعب. وأخيراً، حاصر الأسطول الأثيني المدنية وتم سحق أنصار حكم النخبة بالدم.
خلال الأيام السبعة التي تلت وصول Eurymedon مع أسطوله المؤلف من 60 سفينة، ارتكب أهل Corcyre مجزرة بحق شركائهم في الوطن الذين أصبحوا معارضين، وحمّلوا المسؤولية على مناهضي الديمقراطية، ولكن سقط أيضا بعضهم كضحايا للكراهية الخاصة، وغيرهم، حيث سقط من كان قد أقرض مالاً تحت ضربات مدينيهم. اتشح الموت بالأشكال كلها، وكما يحصل في مثل هذه الحالات، أصبح كل شيء مباحاً، قتل الأب الابنَ، والمصلون يُنتزعون عن المعابد أويقتلون فيها، وتم دفن بعضهم في أسوار معبد ديونيسوس.
تجاوز عنف الحرب الأهلية في Corcyre الحروب كلها التي شهدتها المدن السابقة، وفتحت الأبواب لمسلسل من الصراعات الدامية في حرب الـ Peloponnese. التوترات السياسية القديمة أنتجت تمزقات حقيقية في المدن حيث كانت سبارطة وأثينا تؤيدان على التوالي النخبويين والشعب. وصف Thucydide هبوطَ المجتمعات المدنية يشبه وصف الطاعون الذي ضرب أثينا؛ انتشرت «التشنجات» السياسية  كالوباء، وأدامت دمارها حين أصابت مدناً أخرى. كانت هنا المصيبة عبارة عن طبيعة بشرية غير منضبطة: «أصبحت الطبيعة البشرية، الثائرة دوماً على القانون، سيدة نفسها؛ تتيح لشهواتها المنفلتة بالانفجار فخراً، وتظهر نفسها متجاوزة العدالة، وتعلن عن نفسها عدوة لكل ما قد يكون متفوقاً عليها.» فيقول إن «سبب كل الداء كان حب السلطة الذي يولده الجشع والطمع، وصدر عن هذه المشاعر الخلافات العنيفة بين الأحزاب المتعارضة.» ولكن في حين اعتبر Thucydide أن هذه الآفات ستظهر من جديد، في «عوارض» أخرى،  «طالما بقيت الطبيعة البشرية كما هي»، لم يوافقه جون آدمز الرأي، فكتب: «لوكان هذا المؤرخ العصبي قد تعرف إلى توازن السلطات الثلاث، لما اعتبر أن هذه الآفة مستعصية، بل كان أضاف طالما لم تجد أحزاب المدينة التوازن بينها».
علينا الإضافة أن في رواية Thucydide لهذه الآفة، لم تكن مؤسسات المجتمع قد عانت وحدها من الطبيعة البشرية، بل انحلّ اللسان أيضا، إذ يترافق الظلم مع النفاق الأناني، بحيث «يتغير معنى الكلمات لتتبنى ما يقدم لها». في كتابه المميّز Representative words، يشير Thomas Gustafson إلى «اللحظة الثوسيديدية» (من Thucydide)، حين يلتقي فساد الشعوب بفساد اللسان. انطلاقاً من الفقرة ذاتها عند Thucydide، يشير Quentin Skinner إلى ما يسمى paradiastole، وهي أسلوب في علم البيان تظهر صراع القيم في الكلمة ذاتها، كما نتكلم على الديمقراطية للإشارة إلى حكم «الرعاع» (إدارة بوش مثلا، خفضت الضرائب عن الأغنياء على حساب المجتمع تحت ستار «التعامل المحافظ الرحيم» بحجة مبدأ «العدل»، فهم استحقوا ذلك، ولديهم حق علينا، - ولنتذكر أيضا ضريبة الوراثة التي سميت «ضريبة الموت»). هذا ما حصل لـ Corcyre حين فقدت الكلمات معناها في هذا الصراع الشديد على السلطة: يصبح الظالم عادلاً والعادل ظالماً. أصبحت المؤامرات «الدفاع العادل»، وتم هجاء الاحتراس بنعته بـ"الجبن»، اعتبر العنف الحيواني «شجاعة»، والاعتدال «نذالة». لم يعد القسَم يربط الذين لديهم مصلحة بفضّه. فلم يبق إلا مبدأ واحد، كما يقول W. Robert Conner:
الحساب الأناني. لقد تم تدمير القواعد كلها المعمول بها في اليونان – الوعد، القسم، التوسل، احترام الأهل، المضيف الحسن، وحتى المتفق عليه، أي اللسان. فنحن أمام ما أسماه هوبز bellum omnim contra omnes.
تأخذ هذه الملاحظة أهميتها كون هوبز كان أول من ترجم Thucydide إلى اللغة الانكليزية. إن بدا Thucydide شديد القرابة من هوبز، ذلك لأن هوبز كان من أنصار Thucydide. في ترجمته لـ"حرب البلوبونيس» الصادرة عام 1628، يرى هوبز أن Thucydide هو«أعظم مؤرخ سياسي على الإطلاق»، واضعاً إياه إلى جانب هوميروس بالنسبة للشعر، وأريستوتالس للفلسفة، وديموستانوس لعلم البيان. أعجب هوبز بنفور Thucydide الواضح للديمقراطية وإصراره على بيان إخفاقاتها (هكذا إلى الأقل حسب قراءته المؤلفَ). يرى هوبز أن لهذه الإخفاقات ذات الأسباب التي جعلها جون آدمز ضرورية لنجاح الجمهورية، أي توازن السلطات. في وصف Thucydide للسياسة كما كانت مطبقة في تجمعات المواطنين في أثينا، لم يلحظ هوبز إلا الغوغائيين التابعين لمصالحهم الخاصة، و«الرافضين لنصائح الغير»، والملحقين بالضرر لمدينتهم. نفهم إذاً الأبيات الصغيرة التي ألفها هوبز في سيرته الذاتية، إذ يقول «إنه قرأ Homère، Virgile، Horace، Sophocle
Plaute، Euripide، Aristophane، وآخرين، غير أنه يفضل عليهم كلهم Thucydide، الذي يقول إن الديمقراطية خدعة، وإنه يفضل الملك».
لاحظ أخصائيوهوبز أن رواية Thucydide  عن الحرب الأهلية في Corcyre  أوحت بمفهوم «الحالة الطبيعة» لدى هوبز. يعلن مثلاً Terence Bell: حالة الطبيعة لدى هوبز ما هي إلا صدى لوصف Thucydide للثورة في Corcyre.»
إلا أن التشابه يذهب أبعد من ذلك. إضافة إلى الطبع الفوضوي في الحالة الأصلية، والذي ينبع عند Thucydide من «حب السلطة الصادر عن الجشع والطمع» في كل إنسان، فإن الوصف الذي يقدمه هوبز للـ"مزعجات» التي تصيب الإنسان في الحالة الأصلية شبيه جداً بما يكتبه Thucydide عن أصل اليونانيين (ما يسمى بالجزء «الأركيولوجي» في الكتاب الأول). كان الأوائل يعيشون مشتتين ومعدمي الثقافة، يخشون الانقضاض عليهم، وكما كانوا لهوبز، كانوا يفتقرون للتنظيم الاقتصادي، للأسطول وللزراعة. لم يكن لدى اليونانيين الأوائل أي ثروة واضطروا لحياة الرحل، لم يبنوا أي مدينة ولم «يقوموا بأي عمل». وعند هوبز، البشر في الحالة الطبيعية لا يبنون «منازل مريحة»، ولا يخترعون التقنيات، ولا يعرفون القراءة ولا قياسة الزمن، فحياتهم «في عزلة، فقيرة، قذرة، خشنة وقصيرة».
بالنسبة لجون آدمز، يشكل الخروج من حالة الفوضى التي وصفها هذا «المؤرخ العصبي» لليونان القديمة منظومة لسلطات محددة منتظمة ذاتيا، في حين يرى توماس هوبز أن الحل يكمن في شخصية الملك الواحد والجبار، الذي يخشاه الكل، من خلال ضبط بالقوة والقانون، ميل الإنسان إلى البحث عن مصلحته الخاصة على حساب الآخرين. يمكن القول إن هذين المفكرين قدما حلولاً مختلفة للمشكلة الواحدة، لأن هوبز وآدمز متفقان حول ضرورة الحكم. يقول هوبز في «Du Citoyen»: المبدأ الأول الذي أضعه، والذي أدركه كل إنسان من خلال التجربة، والذي لا ينفيه أحد، هوأن نفس الإنسان هي من تلك الطبيعة، وإن لم يمتنع الناس خشية من قوة عامة ما، سيخافون بعضهم من بعض، ويعيشون سوياً في حالة حذر متواصلة، وبما أنه يحق لكل فرد استخدام قواه الذاتية للبحث عن مصالحه، سيكون له حتماً الإرادة لذلك.
كما يقال أحيانا، وكما يقول C. B. Macpherson في تحليله «الفردانية المستأثرة»، فإن وصف هوبز التحولَ من الحالة الطبيعية للحالة السياسية في كتاب Leviathan هو بمنزلة الكتابة عن الأسطورة الأصلية للفكر الرأسمالي. فمجرد اعتبار رغبة كل إنسان في المحافظة على ملكه مقدمةً، سينتج حتما ندرة الوسائل المعيشية، وسيؤدي ذلك إلى هجمات متبادلة حيث «سلطة الفرد تواجه بالمقاومة وتعيق سلطة الآخر». مرة أخرى، ما يعتبره آدمز حسنة، يراه هوبز منبع الأسوأ. و«الأسوأ» يشير إلى التحول من الحالة الطبيعية للبرجوازي الصغير حيث يسود التنافس، إلى الاستغلال الرأسمالي المفرط، حيث يدرك كل فرد أنه لا يستطيع تأمين ملكيته إلا بإخضاع غيره واستغلال موارده للوصول إلى غاياته. نشير في هذا الصدد إلى أنه على الرغم من  الانتقاد اللاذع من قبل هوبز لتحويل الكلمات، فالقول إن الأفعال كلها، بما فيها الأكثر تقديراً، ما هي إلا وسائل لتوسيع السلطة على الغير تشبه الـparadiastole. الكرم واللطف وعلو النفس أومهما كانت صفات الانسان التي تجلب حب الآخرين أوخشيتهم منها، أوالشهرة التي تؤكد امتلاكَه صفة معينة، فهذا بمنزلة سلطة، لأنها وسيلة لجذب مساعدة وخدمة الكثر». هذا ما يذكرنا بوسواس الباحثين في مجال العلوم الاجتماعية والثقافية حول مفردة «السلطة»، أي نفعية السلطة التي استطاعت تذويب كل أشكال التنوع الثقافي في مغطس «تأثيرات السيطرة» الحامض. يرينا هوبز أيضا أن علينا إلغاء «هذه الخطابات الفارغة كلها» من الجامعات. لنعود إلى حالة الطبيعة لدى هوبز. بسبب اتباعهم الحكمة وإطاعة الخوف، يتمكن هؤلاء الناس من التوافق بقبول التنازل عن حق استعمالهم القوة، إلى سلطة سيادية قد تمثلهم كافة، وقد تستخدم قوتهم لتأمين السلام وحماية الجماعة. وعلى الرغم من أن هذه السلطة السيادية قد تتخذ شكل الهيئة الجامعة، نجد أن تجاوزات البرلمان الانكليزي وقتل الملك شارل الأول أقنعا هوبز بأنه ـ باستثناء الحكم الإلهي ـ يبقى الملك هوالأفضل.
يقول أرسطو إن الأضداد تولد الأضداد. هذا التناقض بين التراتبية والمساواة، وبين الحكم الملكي والجمهورية، هوتناقض جدلي لأن الواحد يتحدد ضد الآخر خلال التاريخ، وفي الممارسة السياسية الفعلية، وفي المناظرات الفكرية. السياق التاريخي لوجود هذين المؤلفين يفسر الكثير: شارك آدمز في الثورة ضد الملكية البريطانية، واستبدادية هوبز هي ردة فعل على الهجمات ضد امتيازات الحكم الملكي. ولكن بغض النظر عن السياق الآني، يشارك المؤلفان في صراع تاريخي في الغرب بين السيادة الشعبية وسيادة الملك، وكل واحد منهما يستقي حججه من الخصوم الفلاسفة وأمثلة لأنظمة سياسية قديمة. كان لآدمز بعض التقدير لهوبز: «هوبز، هذا الإنسان الشقي الذي دافع عن مبادئ بغضية، كان يحتل موقعاً مرموقاً بين معاصريه من حيث النبوغ والذكاء». أما بالنسبة للحكم الملكي لدى هوبز، وكما أشار اليه Quentin Skinner، فيشكل إجابة تناصية لمبادئ جمهورية قديمة، ولنظريات النظام العام في روما وفي مرحلة التنوير، التي رفعت مكانة المساواة في الكلام للمواطنين كلهم في الحكم. يرى Skinner أن أحد أهداف هوبز هو«زلزلة أسس الفكر الجمهوري، وخاصة فكرة مساواة المواطنين، التي تبناها التيار الأنسي في الفكر الاجتماعي». إضافة إلى أن ذلك كله يقف على المبدأ (hegelien) الذي يقول إن الشيء يحافظ ويتجاوز عكسه بإنكاره: التراتبية تحتوي على المساواة والعكس بالعكس. المشكلة لدى هوبز هي أنه في حالة الطبيعة كما يصفها في بداياتها، يحظى كل شخص بالحقوق ذاتها للكل، ما يولّد حربا دائمة؛ والمشلكة عند آدمز أن هذه الحرب في حالة الطبيعة تصل إلى الطغيان. إذا نظرنا إلى نمط هذا الفكر في شموليته، يجب علينا عدّ الاستبدادية لدى هوبز هي الكف الآخر للفكر الجمهوري الذي سعى إلى زلزلة مبادئه. من ناحية التزامنية وديناميتها، يحرك هذا التفكير مضادين تابعين بعضهما لبعض: يقدم نموذجين متناقضين للنظام الثقافي يتتابعان بالتناوب طول مسيرة التاريخ.
لهذا السبب، السيطرة السيادية والتوازن الجمهوري، وهما شكلان من الحكم يسعيان إلى ضبط الحيوانية الإنسانية، يقفان إلى جانب ثنائية الطبيعة والثقافة، ما يشكل أساس هذا النمط من الفكر. الطبيعة ترجع إلى الضرورة، أي الأنانية ما قبل المجتمع أوالمعادي للمجتمع، وعلى أي ثقافة التعامل معها، إلا إذا سقطت الثقافة، كما كانت الحال في Corcyre، حيث تم تصفية النظام الثقافي في زوبعة الحب اللامتناهي للسلطة والربح. التناقض بين الطبيعة والثقافة أقدم من Thucydide، كما سنراه، ومنتشرة بقدر انتشار الأنانية الطبيعية.
إن استخدام هذه الأسماء فقط، Thucydide، هوبز وآدمز، هوللإيجاز. دافع عدد كبير من المفكرين الآخرين، المشهورين وغير المشهورين، عن فكرة ضرورة كبح الغطرسة البشرية. كتب كانط أن «الإنسان حيوان بحاجة إلى سيّد» مع الاعتراف أن المشكلة بلا حل طالما كان «السيد حيوانا بحاجة إلى سيد أيضاً». وقفزاً في الزمن، لنستشهد بـ Herman Melville الذي يعيد كتابة انتفاضة Corcyre  لمواجهة Draft Riots (الثورات ضد التجنيد ذات الطابع العنصري التي نشبت في نيويورك عام 1863) قائلاً إنه تم الاستيلاء على المدينة من قبل الجرذان... لا يشير Melville  فقط إلى الفوضى في الحالة الطبيعية، بل يطالب أيضا بمداواتها بالسلطة السيادية. ووراء الساعد القوي للقوى المتحالفة التي سحقت الثوار، يرى Melville  الصورة الديكتاتورية لإبراهام لينكولن، الذي أقام «طغيان الملوك- العدل» واستباحوا التناغم الجمهوري والإيمان بطيبة الطبيعة البشرية.
وبما أننا نتكلم على الطبيعة البشرية، تنتقل الأسطورة إلى أبعد من الدائرة السياسية. الترسيمة المتحركة ذاتها موجودة في مناطق مختلفة من الواقع الثقافي، منذ التركيبة الأولية للمادة إلى بنية الكون، مروراً بمصطلحات الصحة الجسدية وتنظيم المدينة. أمامنا ميتافيزيقيا حقيقية للنظام تعود جذورها إلى حقبة التاريخ القديم، يمكن وصفها بتجرد كالآتي: العبور من حالة رافضة تسعى فيها العناصر الفردية إلى التطور الذاتي، إلى تكوين جماعة أصبحت مستقرة بفعل سلطة قمعية خارجية تبقي كل عنصر مكانه، أومن خلال العناصر ذاتها التي يحدد بعضها بعضها الآخر. هذه فكرة قديمة، ميتافيزيقا متجددة ومتحركة تتداخل فيها مفاهيم الفوضى، التراتبية والمساواة.
اليونان القديمة
كل شيء يسير وكأن رواية Thucydide  حول الفوضى في Corcyre  مأخوذة من Hesiode. قبل  Thucydide بقرون، يشتكي  Hesiode في «الأعمال والأيام» من انحلال الإنسانية في (الحقبة الحديدية) بعد انسحاب العدالة عن المكان وطغيان الصراع بين الفرد والفرد الآخر. يشير إلى انتهاكات العلاقات العائلية والأخلاق، وإلى «الكلمات الملتوية» ذاتها و«القسم الكاذب»، والميل ذاته إلى السلطة والمال، والعنف والرغبة في التدمير ذاتها. (...)
وقتئذ بإمكان Gerard Naddaf أن يعلن أن «بغياب العدالة، يرى Hesiode  أن الناس قد يبتلع بعضها بعضها الآخر، كالحيوانات. قد تلحق بها حالة طبيعية شبيهة بالتي وصفها هوبز، والتي لها علاقة بالعهد السابق لزوس.Zeus»
يبدو إذاً هوبز أقل فرادة إذا وافقنا "نداف" بالقول إن عهد السلام والنظام الكوني هو ما فرضه زوس الذي أخضع الTitans المعاندين، الذين تصورهم التقاليد كنماذج للطبعية البشرية. فقد بيّن كل من Detienne  وVernant في تعليقهما على كتاب  Theogonie إذ نجد هذا التنظيم بالقول: «لا وجود لنظام كوني من دون تمايز، تراتبية أو تفوق، ولا وجود أيضا لتفوق من دون صراع، من دون قهر، ومن دون عنف». في بداية الرواية، تسيطر الجريمة والعصيان لدى الآلهة، والمجتمع غير المنضبط هوصدى حالة الكون الأصلية الفاقدة للشكل ولكن تنتهي الرواية بانتصار زوس الذي يحكم وحيداً الكون المستقر والمميز بين السماء والأرض وجهنم. نشير إلى أن تسوية الفوضى بالقوة وليس بالتعاهد يجعل هذه الرواية أكثر نيتشية (nietzche) من هوبزية. بالنسبة لنيتشه، تم بناء «الدولة» عن طريق الفتوحات العنيفة والحكم الاستبدادي الشرس، ما يراه ضرورة لفرض النظام على الشعوب الأصيلة المتوحشة:
استخدمت كلمةَ «دولة»: ما يفهم منها معروف، - مجموعة ما من الحيوانات المفترسة الشقراء،  عنصر من الأسياد والفاتحين الذين يتمتعون بتنظيم حربي ولديهم قوة تنظيمية، تضع من دون تردد أظافرها الهائلة على شعب ربما يفوقه عددياً، ولكنه غير منظم ومتجول. هذه بداية الدولة على الأرض.
كذلك في الـTheogonie، يسود النظام بعد معركة شرسة دامت عشر سنوات تصارعت خلالها أجيال جديدة من الآلهة، بقيادة زوس، ضد كرونس (والده) والـ Titans غير الملتزمين بأي قانون، من أجل حكم الكون. ينجح زوس في هذه المعركة بفضل ذكائه وقوته الفائقة، ويترك الـTitans مقيدين في منطقة Tartare الرطبة. بعد فوزه مرة أخرى ضد متمرد خطر Typhon، يوزع زوس التكريمات والامتيازات على الآلهة كلها، بتحديد مكانهم ودورهم في الكون. في ظل حكم زوس، قد تستقر السلطة إلى الأبد، لأن الخلافات بين الآلهة مقيّدة بالقسم. وإذا ينقض البشر عقودهم بهذه السهولة، كما حصل في Corcyre، فلأن التناحر والتعاسة والآفات قد طردت من السماء لتسقط على الأرض. هذا هو مصير البشر، حيث يعمل زوس على تخفيف حدته، بتزويدهم بالعدالة وأيضا بالآمال المجنونة، هذا «الداء الجميل»، الـPandore المختبئة في الجرة التي احتوت تعاسة العالم كلها.
يجب التنبيه على علاقة القرابة بين الـ Titans والنوع البشري، التي تعكس النظرة الغربية إلى السياسة، وهي نظرة الضغط الممارس على عدم أهلية البشر للاجتماع. يلاحظ Paul Ricoeur  أن الـTitan هو«الصورة التي من خلالها يتجذر الشر البشري في الشر ما قبل البشري». في الأساطير «الأورفية»، ينحدر البشر من جمرات الـTitans التي طمرها زوس بعد مقتل Dyonisos. في كتابه Les Lois، يشير أفلاطون إلى عصيان الـTitans حين يجزم أنه في حال عدم ضبط الموسيقا، قد نشجع إباحة الديمقراطية، لأن هذه الموسيقا قد تظهر «طبيعة الـTitans التي أشارت اليها التقاليد، وعندما يتخذها الإنسان نموذجا له، بالعودة إلى الوضع الذي كانت فيه، قد يعيش حياة مؤلمة لا متناهية. (هل يجب اتهام ألفيس أوالبيتلز؟ أيهما مسوؤل عن أمراضنا الحالية؟) إن كان البشر Titans بالطبيعة، فملوكهم القدامى هم تجليات والدهم زوس. 
تؤكد نظريات نشأة الكون على شكل السلالة. أقدم أساطيرنا عن مدن Peloponnèse تستحضر أبطالاً قدموا من أمكنة أخرى، ولدوا من زواج زوس من امرأة من البشر، وهم  تزوجوا بدورهم من بنات الملوك الأصليين من أجل السطوعلى المُلك. أصل الدولة هي النسخة الأرضية لنشأة الكون، الذي ولد من توحد الكون بين السماء Ouranos والأرض Gaïa. والغريب Lacédémone، ابن زوس، ارتبط بسبارطة وهي بنت ملوك أرضيين، منحوا إلى المدن أسماءها، ومن توحدهم، ولدت سلالة شعوب الـ Eurotas المانحة للحضارة. Agamemmon  ملك Mycènes هوأيضا من ذرية زوس، ومنه جاءت سلطته على الملوك الآخرين من جيشه الضخم. ولكن في زمن هوميروس، الصورة المطابقة والبشرية لسيادة زوس الكونية أصبحت مستحيلة منذ أربع أوخمس مئة سنة، منذ اختفاء المملكات الميسانية Mycènes القديمة. في الملاحم الشعرية للقرن الثامن، تحمل بعض السلطات الملكية سمة الألوهية. فعدالة بعض الرؤساء المشهورين لطيبتهم لا تؤثر في ازدهار المدينة فحسب في «الأعمال والأيام» لـHésiode، بل تنمي الطبيعة. ولكن كان للملوك في زمن Hésiode امتيازات أقل بكثير من التي تمتع بها أجدادهم الميسانيون، البعيدون ولكنهم دائما في الذاكرة، وسلطتهم أصبحت على المحك ومتنازع عليها من قبل نخبة معارضة. يذكر Ian Morris في كتابه Archaelogy as cultural History،وهومختصر مميّز حول تاريخ المدينة اليونانية في الزمن الكلاسيّ، صعود الأرستقراطية في إشارة إلى أنها كانت معاصرة لعودة التبادل مع نخب الشرق، بعد «زمن الظلمات» الذي جاء بعد سقوط ملوك ميسان. في الحقيقة، لم تكن الروح الرياضية التنافسية سمة النخبة المقاتلة فحسب، بل سادت، كما يقول Jean-Pierre Vernant، في المجتمع بكامله. ويذكر أبيات شعر Hésiode: «يحسد الخزفي زميله، ويحسد النجار زميله، والفقير يحسد الفقير والمغني يحسد المغني»، ليستنتج أن التنافس يتضمن بعض المساواة بين المتخاصمين، وإن هدفت إلى إقامة تراتبية. يمكن القول إن النقيض، أي التراتبية، يحتوي على إلغاء نفيه الذاتي، أي المساواة. هذا ما حصل نوعا ما في الصراع بين الأرستقراطيين والسلطة الملكية أوالطاغية. وقبل أن يتم تطبيقها مع الديمقراطية اليونانية في القرن الخامس، كان الميل إلى المساواة السياسية، Isonomie، قد تم رفعه من قبل شرفاء بعض المدن القديمة، التي تدهورت في ظل التنافس على السيطرة. كانت بعض النخب، التي عارضت مصادرة حقوفهم السياسية من قبل الطغاة، تطالب بالـIsonomie، «المساواة». يضيف Kurt Raatlaub أن الـ Isonomie «مفهوم» أو«قيمة ارسطقراطية».
يظهر أخيراً التعارض بين المساواة والتراتبية بشكل الصراع بين السيادة الشعبية من جهة وحكم النخبة أوالملكية من جهة أخرى. بهذا الشكل، مع كل ما يتضمن ذلك للثقافة، سيستمر انكشاف هذا الصراع في تاريخ الغرب خلال ألفي سنة. يشير Morris إلى «إيديولوجية التسطيح» التي ظهرت في القرن الثامن، والتي واجهت لمدة وجيزة نظاماً أرستقراطياً للسلطة، وأحرزت أخيرا النصر من خلال إقامة الديمقراطية اليونانية. يرى أنه من الواجب فهم التاريخ الاجتماعي للزمن القديم كـ"صراع بين هذه الثقافات المتناقضة». «المسطحون» هم الموالون لنظام الإدارة الذاتية، والمتساوي، الذي يضمن مشاركة المواطنين كلهم. وعلى عكس استقراطية الأبطال الذين كانوا يحسدونهم، فقد بلوروا فلسفة نمط حياة «المتوسط». يتم ضبط الرغبات الجسدية، وتقييد نمو الجشع والإفراط وتأمين استمرارية التضامن بين أعضاء الجماعة. كما وصفهم Morris، كان المسطحون يشكلون «جماعة وهمية» من أناس معتدلين، من مواطنين متساوين، غير متشوقين للماضي أو للشرق، بعكس الأرستقراطيين الذين بقوا أوفياء لنموذج الطبقة الشريفة الميسانية، وكانوا يبحثون، متجاوزين مواطنيهم، عن أساس هويتهم وسلطتهم. فالآلهة هي التي وهبتهم موقعهم، إلى جانب الأبطال من الأجداد، والشرق، من حيث يستمدون سماتهم الألوهية.
وصل التباين بين هذه «الثقافات المتناقضة» إلى حد تولّد من وجودهما المتزامن في المدن الناشئة نشأة جماعات متصارعة، النخبة المتراصة ضد الشعب، ما أسفر عن صراعات بدت أكثر فأكثر كصراع بين الأغنياء والفقراء. يروي Plutarque كيف Anacharsis، صديق Solon هزأ منه لأنه «ظن أنه يستطيع قمع ظلم مواطنيه وجشعهم من خلال القوانين»، تلك القوانين الهشة كخيوط العنكبوت والتي باستطاعة الأغنياء والأقوياء تجاوزها بسهولة. كانت هذه القوانين بالفعل تدابير وضعها المشرع الأثيني المعروف في بداية القرن السادس لتخفيف ديون الفقراء والعقوبات التي تصيبهم، وتوسيع حق المشاركة في نظام بقي إلى ذلك الوقت من نصيب بعض المتنفذين. أجاب صولون عن صديقه قائلاً إن البشر تلتزم بتعاقدها فيما بينها حين لم يكن هناك مصلحة لأي جهة لتجاوزها، وإنه كان يجهز لقوانين إذ يصبح من المفيد للجميع ممارسة العدالة. كان صولون يأمل من دون شك، كما أمل مشرعون بعده، أنه قد يكون من الأجدر الاعتراف بحقوق الخصوم السياسيين من إثارة حرب أهلية وإغراق المدينة في الفوضى. في الأحوال كلها، جشع المواطنين، وهشاشة القوانين في مواجهة الأنانية، والتناقض بين التراتبية والمساواة وكذلك محاولة توازن السلطات، افتراضياً إن حصل ذلك، ذلك كله يشير جلياً إلى أن ميتافيزيقيا النظام الغربية كانت موجودة حين نشأت المدينة الكلاسيّة.
تميّز القرن الخامس بالتعارض بين التراتبية والمساواة، التي تجلت في صور مختلفة، إلى أن وصلت إلى ذروتها الايديولوجية في حرب الـPeloponnèse. حتى وإن حدّدنا، وفقا لـIan Morris، لحظة انتصار المُثل الديمقراطية مع وضع دستور أثينا في العام 507 قبل الميلاد، استمرت الحرب الأهلية بين النخب والمجموعات الشعبية في عدة مدن يونانية خلال أكثر من قرن، إذ تقرّبت النخب الأرستقراطية تدريجياً من نخبة الأثرياء. يفيد أفلاطون في «الجمهورية» أن المدينة الواحدة تحتوي فعليا على عدة مدن، وتنقسم أولاً إلى «مدينة» الأغنياء و«مدينة» الفقراء، المتصارعتين باستمرار، وتنقسم أكثر في داخل هذه المجموعات. كما سبق، خلال حرب الـPeloponnèse، كان هذا الصراع الداخلي موازياً لمواجهة شاملة في كل اليونان بين الديمقراطية التي دعمتها أثينا والنخبة الحاكمة التي دعمتها سبارطة، وهما نمطان من «الثقافات المتناقضة» في الحقبة القديمة. بعد التأكيد على وجود مصطلحي «الديمقراطية» و«حكم النخبة» عند هيرودوت في نصف القرن..، فأصبحا لدى Thucydide، في روايته حول تدخل أثينا وسبارطة في الحرب الأهلية في Corcyre، سببين إيديولوجيين للموت من أجلهما. ولكن، منذ تلك المدة، شعار الإمبريالية الأثينية المنعمة، الـisonomie  «المساواة» كان قد لوّث نظرات الكون والنظريات السياسية وبدأ بالتغلغل في فلسفات الجسد وفي العلوم الخاصة بالمركبات الأولية في الطبيعة.
 وفقا لـHerodote، الـisonomie هي «أجمل كلمة على الإطلاق». يتضمن مبدأ الـisonomie التي كانت أثينا تمثله، المشاركة المتساوية لكل المواطنين في نظام مشترك، تديره هيئة سيادية تجتمع في المجلس. ولأن النساء والعبيد والغرباء لم يمتلكوا هذا الحق، كانت الديمقراطية مبنية فعليا على أسس تراتبية خارجة عن الدستور ونوعا ما سلطوية (إلى جانب المسألة التاريخية المتعلقة بالعبودية، نجد التناقضات ذاتها لدى الأميركيين الذين يتبجحون بـ"العيش في نظام ديمقراطي» في حين يمضون معظم وقتهم في مؤسسات غير ديمقراطية مثل العائلة، والمدرسة، والأماكن الخاصة بالرأسمالية، من دون ذكر الجيش وبيرقراطية الحكومة نفسها. انظروا إلى هذه الديمقراطية). رأى مواطنو أثينا أن الـisonomie تعني المساواة أمام القانون، المساواة في الكلمة والانتخاب في المجلس، وفرصة متساوية للمشاركة في هيئة الخمسمئة (La boulê) التي كانت تحدّد جدول أعمال المجلس وتقوم بمهام ديبلوماسية وقضائية مهمة. في الهيئة، كل قبيلة من العشرة التي ألفها Clisthene حين أدخل إصلاحه عام 507 كانت تشمل خمسين رجلاً تم انتقاؤهم بالقرعة، لمدة عام، وتتداول كل قبيلة لمدة 36 أو37 يوماً رئاسة الهيئة وتتحمل مسؤولية أعماله كلها. هذا النظام التداولي بالمساواة جدير بالاهتمام كونه يؤسس لمبدأ تراتبي ويحمله داخل الـisonomie (سنرى أن الوضع مماثل عند الأطباء الـhippocratiques. فالتداول هوفي الواقع تطبيق للمثال الأرستوتالي الخاص بنظام يكون فيه المواطنون حكاماً ومحكومين بالتناوب. إذا قارنا أثينا بمملكات ميسان ومينوس، تحول السيادة من نظام الملكية إلى الديمقراطية، متعدد وجذري. لنستعيد تحليل Vernant حول هذه المقارنة: المملكات القديمة التي كانت محكومة من قبل فرد خاص، يستمد قوته الروحانية من القصر، تم تجاوزها بظهور المدينة polis، حيث تعود امتيازات الحكم إلى مجموعة، بشكل متساو وعلني. خلال اجتماعهم في وسط المدينة (عند الـagora)، يستخدم المواطنون العقل وفن الإقناع للبت في أمور المدينة، وللتوفيق بين مصالحهم الخاصة ومصلحة ما هوصالح للمدينة، مبدئيا على الأقل (...).
ولكن، على الرغم من المبادلة والمساواة والجماعة التي تدعمها، بقيت المدينة الديمقراطية هشة أمام النتائج المدمرة التي خلفتها المصالح الأنانية لدى مواطنيها. بالحديث عن «حب الربح الذي تسعى إليه الطبيعة كلها بشكل طبيعي وكأنه حسنة، والذي تعيده قوة القانون إلى احترام العدالة»، يشير السفسطائي Glaucon في «الجمهورية» إلى التعارض بين القانون (أوالثقافة) والمصلحة الأنانية (أوالطبيعة) الذي يميّز  رواية Thucydide حول الحرب الأهلية في Corcyre، ذلك التعارض بين الملك الخاص والملك العام، وفقا لP. A. Brunt، كان «منبع هذه الخلافات المتكررة في المدن اليونانية، وبالتالي، تطور الفلسفة السياسية في اليونان». لنأخذ مثل الـOraison funèbre لـPériclès حول ضرورة تنمية القيمة المدنية لدى المواطنين: عليهم فهم أن أملاكهم الخاصة ستكون محمية بقدر ما يدافعون عن مصالح المدينة، هذا ما يجب تذكره عندما تثني على رجال سقطوا في المعركة. سيعيد السياسيون في الأنظمة الجمهورية هذه المقولة الحكيمة لـPériclès، ما يؤكد ضرورةَ تذكيرها. ولكن في القرن السادس قبل الميلاد، قبل اهتمام أفلاطون وPériclès بالسياسة، كان Anaximandre de Milet قد جعل من المصلحة الأنانية مبدأ إعادة ترتيب الكون ضمن نظام تفاعلات بين قوى متساوية ومتعارضة.

لم يكن الكون لدى Anaximandre مرتباً من قبل إله عظيم، بل هونظام ينتظم ذاتياً بفعل التبادلات الداخلية التي تجري بين العناصر الأربعة، التي تدخل بالتساوي في تكوينه. (...) الخلاف بين كون Anaximandre والكون الذي يسيطر عليه زوس وينظمه يظهر جلياً، كما لاحظه عدد من المعلقين، وكما جاء في تحليل Charles H. Kahn الذي كتب: يرفض Anaximandre سيطرة جسم أولي أو جزء خاص من العالم على الآخرين. بالنسبة له، العالم يحدد بالمساواة والتوازن».
ينكر Anaximandre أنه منذ ولادة العالم، يكون عنصر من تكوينها الأولي قد أنتج الآخرين أو سيطر عليهم. لم يخرج الكون من الماء ولا من أي مواد أولية أخرى، بل ولد من «طبيعة أخرى لا متناهية (apeiron)». يقول التفسير العام إن العناصر المكوّنة للكون التي تتميّز في اللانهائي متساوية، ومتعارضة ومتدافعة، من دون أن يتمكن الواحد منهم من السيطرة على الآخر. بدلا من ذلك، يعوّضون عن غاراتهم المتبادلة الظالمة بإنتاج الواقع، على الرغم من  أن كل الأشياء التي يتم خلقها بهذه الطريقة تعود في النهاية، وبعد مدة، إلى عناصرها المكوّنة. يشير Gregory Vlastos في مقاله المهم عن الموضوع Isonomia إلى أن الحل الذي يقدمه Anaximandre لمشكلة العدالة الكونية، المنسجم مع العدالة المدنية والسياسية، يختلف تماماً عن النظرة الأرستقراطية أوالملكية للعدالة التي نجدها عند Hésiode. النظام الكوني، بالنسبة لـAnaximandre، «يبرر الإيزونوميا، بمعنى أن الوسيلة الوحيدة لاستمرار العدالة داخل مجموعة بشرية هي توزيع السلطات بطريقة متساوية».
نجد الفكرة ذاتها لنظام ناتج من معارضة عناصر متساوية بعضها لبعض في نظرية الكون لدى Anaximandre، حيث تحتل الأرض مركز الكون، على مسافة متساوية من الأجسام النارية في القبة السماوية. الكون يظل مستقراً، مرة أخرى، من دون أن يحتاج إلى عنصر خارجي لانتظامه. لم يكن هذا التوازن ناتجاً من المسافة المتساوية بين الأجسام فحسب، بل أيضا بسبب المساواة بين القوى المضادة، وهذا ينطبق خاصة على الأرض، المركز الرطب والبارد، المغلف بالسماء الساخن والناشف. وكما لاحظ أيضا المتخصصون بالزمن القديم، تذكّر هذه السياسة الكونية التي تمنح الأرض مكانها في الكون، النظام المكاني في المدينة الديمقراطية، حيث كانت الـagora تتوسط الأحياء السكنية، وتتداخل مصالح الأفراد وتتضارب قبل أن تنسجم بعضها مع بعض.
يعمل الكون الصغير كما يعمل الكون الكبير: في داخل أجسام المواطنين السليمة، يسيطر هنا أيضا الـisonomie. الصحة، على الأقل كما تم تحديدها في أهم بحث للطبيب Alcméon de Crotone في أواخر القرن السادس قبل الميلاد، تتمثل في هذه «الإيزونوميا» أو«المساواة في الحقوق» بين سلطات الجسد المتناقضة. (النصوص التي تستشهد بـAlcméon تذكر من بين هذه الوظائف الحار والبارد، المر والحلو، الرطب والجاف، ويجب أن يكون هناك أكثر). في المقابل، «الملكية» أوسيطرة إحدى الوظائف، تسبب المرض والفساد، كما يراها Alcméon. كان لهذا الوصف الجسدي «الإيزونومي» تأثير كبير في العهد القديم، كما جاء في وصف أفلاطون المرضَ في Timée، الذي يعود سببه إلى الإفراط أوالنقص أوحركة «مضادة للطبيعة» لأحد العناصر الأربعة في الجسد، أي التراب، النار، الماء والهواء. يذكر Charles Kahn كثرة النصوص التي قد توضّح هذه النظرة إلى الطبيعة، كـ"تفاعل حركي بين قوى متناقضة» ويستشهد بورثة Alcméon في النصوص الإيبوقراطية، التي تجسد بشكل تام «النظرية الطبيعية للقرن الخامس».
وسّعت نظرية الأمزجة لدى الأطباء الإيبوقراطيين وعقّدت مفهوم التوازن، بإدخال عوامل أخرى في اللعبة، مثل البيئة والزمن والمزاج. وفي الوقت ذاته، كانت المعالجة المغايرة allopathique التي كان يصفها الأطباء تجعل من التوازن مبدأ حقيقياً، في النظرية والممارسة. (...)
من خلال هذا المبدأ الـallopathique (الساري إلى الآن) يتبع الطب السياسة في ساحة تكون الإيزونوميا ممارسة فعلية، أي كقاعدة براغماتية ومطلوبة للعمل. نفهم إذاً لماذا نظرية الأمزجة الإيبوقراطية، التي طوّرها الطبيب Galien في القرن الثاني بعد الميلاد، ستُستحضر حتى القرن الثامن عشر لأسباب سياسية، من قبل من دعا إلى توازن السلطات، جون آدمز. فكتب أن «بعض الأطباء كانوا يعتقدون أنه اذا استطعنا المحافظة على توازن الأمزجة في الجسد، سيصبح هذا الأخير خالداً. يمكننا ربما قول ذلك بالنسبة للجسد السياسي، إذا استطعنا المحافظة على توازن السلطات». يمكننا القول إن هذه الفكرة عبرت القرون.
Empédocle صاحب نظرية لها أهمية قصوى، نظرية الأشياء ذات أربعة «الجذور»، أي النار والهواء والماء والتربة، العناصر التي تكوّن الواقع كله. كان فلاسفة القرن السادس وأطباؤه قد قدّموا نظريات حول تكوين الأشياء انطلاقاً من عناصر متناقضة مثل الحار والبارد، والثقيل والخفيف، والرطب والناشف. أراد Empédocle حصر هذه العناصر في أربعة، وبدأ بترتيبها، ولم يكن ذلك من دون قيمة، إلى جانب الآلهة في تراتبية الكائنات. هذه المواد المتساوية طبيعياً، مختلطة أو منفصلة من جراء تدخل قوى متساوية ومتعارضة للحب والكراهية؛ كل شيء مكوّن من هذه العناصر، من الأشجار إلى الأشخاص، مروراً بالطيور والحيوانات وحتى الآلهة الخالدة. نجد هنا ميتافيزيقا حقيقية للكائن، أنطولوجيا مبنية على مبدأ التبادل المتشارك بين صفات أوقوى متساوية، كما جاء في عالم Anaximandre، وفي جسم الإيبوقراطيين أوفي الديمقراطية الأثينية. نستعين بقاعدة Héraclite: «من التعارض ينشأ التوافق، ومن الخلاف ينشأ أجمل التنسيق».
سيطرت الإيزونوميا على أنها مبدأ نظام على القرن الخامس كله في أثينا؛ ولكن لم يستطع هذا من منع تطور نظريات مبنية على فكرة التراتبية قبل هذا القرن أو بعده، لا سيما عند كبار الفلاسفة. (...) يقدّم كتابا أفلطون Politique وTiméeعالماً منظماً، مثل العالم حيث يتحكم زوس بفوضى التيتان. كل شيء مكوّن من المادة، كلياً أوجزئياً، بحيث إن كل كائن ذوإحساس يميل إلى الضياع في «حركة غير نظامية وفوضوية»؛ الواقع هوحالة الفوضى، إلى حين يتدخل الإله. «أدخل الإله في الأشياء الضابطة كلها التي تتيح تقييمها من الناحية العددية ومقارنتها بعضها ببعض، في هذا المجال، وذلك في الأحيان والأشكال التي يمكن أن تتخذها، نسبة وقياسا.» على الرغم من تخليه عن الوجوه القديمة في الميثولوجيا، يواصل علم الكون لدى أرسطوتكريمها بجعل النظام الكوني نتيجة قرار إلهي، قرار أومحرِك ساكن. يمنح المحرّك الساكن الأول حركة دائمة للفلك السماوي، الذي يحرّك أعداداً من المحركات الثانوية في الأفلاك السفلى، حتى الوصول إلى المحرّك المسؤول عن الحركات الدائمة للكائنات ما تحت الأقمار (sublunaires).
بالروحية ذاتها، ولكن هذه المرة في عالم الشؤون الإنسانية والسياسية، يتخيّل أفلاطون جمهورية تحكمها نخبة من الأشخاص الطبيعيين الطيبين والمثقفين، إذ لم يمنعه من ذلك وجوده في أثينا حيث تسيطر الإيزونوميا. كان من المفروض أن تتمكن حكمة هؤلاء الحراس، وفضائلهم واعتدالهم من كبت رغبات الجمهور المشينة. السيطرة على ذاتهم تسمح لهم بحماية أنفسهم من أنواع مختلفة من الشهوات والرغبات والآلام، التي يردها أفلاطون إلى النساء والأطفال والعبيد و«الجماهير التي لا تعرف الحرية إلا بالاسم». ذلك لأن في النخبة الثلاثية نفسها، يستطيع الجزء العقلاني التحكم بمساعدة  الوظيفة الملتهبة، بالجزء الراغب، الذي يحتل المساحة الأكبر من نفس كل شخص، وهو«الجشع الطبيعي». مهمة الحماسة والعقل تختصر بمراقبة الرغبة والجشع. وإلا، بمسايرته رغبات الجسد، «الجزء الراغب في النفس يمتنع عن الاهتمام بما هو له، ويقوم بإخضاع كل من هم ليسوا تابعين لعنصره وقيادتهم، ويشوّش على حياة الكل».
تجدر الملاحظة هنا كيف أن صحة النفس الخاضعة لتلك التراتبية متعلقة بسياسة التوازن، وأيضا كيف أن الجزء الراغب في النفس يحتل مكانه بشكل طبيعي بين Pandore وحواء في النسب الأمومي لإدانة جشع البشر. أخيرا، نشير إلى أن التناقض بين النفس العقلانية  المهذبة والنفس الراغبة المتعطشة دائما يعكس داخلياً التناقض بين القانون والأنانية الطبيعية، الذي وجدناه عند Thucydide. يجب الملاحظة أيضا أنه، على الرغم من عداوته لسفسطائيي زمانه، يتبع أفلاطون تفكيرهم باستخدام التمييز بين الطبيعة والثقافة في مجال المعرفة في النفس، كما فعل أرسطو.
مهما كان السبب، ميتافيزيقيا التساوي المسيطرة في تلك الحقبة التاريخية، أو نظرية التراتبية، كانت المشكلة الأساسية في الثقافة اليونانية هي طريقة حلّ الصراع الكامن بين عناصر المنظومة. ولكن حين وجب تحديد ما السبب بالنسبة للأطر الثقافية قيد الدراسة، يجمع معظم المتخصصين الذين يرتكزون على افتراضات موروثة من دركهايم أوماركس، على القول إن المسألة تتعلق بالسياسة أولاً وأخيراً. النظرة إلى الكون وإلى النفس الإنسانية وغيرهما ليست إلا مرآة السياسة. مع ظهور المدينة الديمقراطية، تسيطر الإيزونوميا على الحكم الملكي في البحث عن الطبيعة، كما سيطرت في المجتمع. ينظر إلى الطبيعة من خلال النموذج المتساوي في المدن، كما أن الكون لدى Anaximandre هوانعكاس المدينة – الدولة polis. إلا أن اختزال الطبيعة إلى المدينة لا يتيح الحديث عن الزمن والجدلية الفاعلتين في التاريخ.
كما رأينا سابقا، قد تكون الإيزونوميا مصطلحاً مصدره أرستوقراطي، وهذا المثال كان شرطا ًلظهور المدينة- الدولة الديمقراطية بقدر ما كان إحدى إنتاجاتها (يطبق هذا المبدأ الماركسي هنا: المعماري الأكثر سوءاً يسبق دائما النحلة الأكثر مهارة، لأن الأول يستطيع بناء عمله في ذهنه قبل بنائه في الواقع). هناك أكثر من علاقة متبادلة بين الإيزونوميا والمعارضة المتوازنة في الطبيعة. قد تكون نظرية الجسم لدى Alcméon ديمقراطية، كل واحدة من الأمزجة تمتلك «حقوقاً متساوية» غير أن وطنه لم يكن ديموقراطياً، فكانت Crotone محكومة من قبل نخبة ضيقة مشهورة بمعاملتها الظالمة. فالإيزونوميا تشبه السلحفاة التي تقف على مجموعة من «السلاحفة»، فهي تتسرب إلى جميع هذه التركيبات، حتى إلى داخل طبيعة الأشياء. فتحتل موقع عمود الثقافة.
ولكن الأهم، هوأنه بالنسبة لليوناني، الحدود بين المجتمع والطبيعة ليست مثبتة بالكفاية ولا متجذرة بصلابة في التصورات، كما هي الحال لدى الأكاديميين عندنا. يستخدم Alcméon لغة سياسية لوصف حالات الفوضى وأمراض الجسم، كما يستخدم Thucidyde لغة المرض لوصف الخلاف في المدينة. يذكر Ernest Baker أن بالنسبة للبيثاغوريين، أساس السياسية موجود في الطبيعة، لأن العدالة عدد مربّع، إذ إن العدد المربّع يمثل التناسق بامتياز: أضلعه متساوية وعدد الضلع يساوي القيمة العددية لكل من أضلعه. «ما يعني أن العدالة متعلقة بمساواة أجزاء السلطة السياسية». في Les Phéniciennes لEuripide، تتوسل جكاست لابنها Etéocle كي يطيع القانون كما أطاعه أخوه Polynice: (...)
أوضح Charles Kahn أنه بالنسبة لليوناني، الطبيعة والمجتمع مصطلحان متبادلان، وفلاسفة القرن الخامس هم من حاولوا التمييز بينهما: أصبحت الطبيعة والمجتمع متضادان «بعد النقاشات حول علاقة الطبيعة (physis) بالقانون (nomos)». تشكل هذه الثنائية الركيزة لمثلثنا الميتافيزيقي: التركيبات الثقافية الخاصة بالمساواة والتراتبية تحاول ضبط الطبيعة الإنسانية ما قبل المجتمع أوالمعارضة له.
حول هذه النقطة، السفساطيون هم المتهمون الأوائل. يكتب Giorgio Agamben حول «النسب العنيد جداً» لثنائية القانون – الطبيعة في الثقافة السياسية في الغرب: يمكن اعتبار الجدل السفساطي ضد القانون لصالح الطبيعة (الذي سيصبح أكثر حدة في القرن الرابع) كالبداية الضرورية للتناقض بين الحالة الطبيعية والـcommonwealth الذي وضعه هوبز ركيزةً لنظرته إلى السيادة.
يجب بالطبع الاهتمام بمصادر استلهام هوبز اسم Thucidyde، الذي كان يعلم خطابات السفساطيين، وخاصة خطابات Gorgias وAntiphon، كما يجب عدم نسيان وجوه أخرى أكثر قدما، لأن السفساطيين ليسوا أول من فحص تداعيات الصراع بين الطبيعة البشرية والمدينة، وإن لم يستخدم من سبقهم فئات الطبيعة physis والقانون nomos، على الأقل بالمعنى الذي سيتبناه في القرن الخامس. فخلل الإنسان وجشعه هما، منذ Hésiode، عدوان للنظام، فتابع الشعراء المأسويّون الطريق. «الطبيعة أرادت ذلك، فلا نلتفت إلى القانون»، كما نقرؤه في مقطع لـEuripide. وفي Antigone لسوفوكل، ليس لقانون المدينة أي سلطة على علاقات الدم. سنعود إلى أهمية العلاقات العائلية وإلى المعاكسة الطبيعية بين طبيعة متبادلة جيدة وسيئة. من بين التفسيرات المعقولة لمركبات كلمتي nomos وphysis، المرهونة بما نختار لاعتباره جيداً وصالحاً للحكم، الفكرة «الروسوية» حول طبيعة قد تكون نقية وثقافة منحطة كانت دائما ثانوية بالنسبة لنظيرتها «الهوبزية» في تاريخ الغرب؛ أوبالأحرى، تتبعتها الخيال، مثلما تستدعي الخطيئة الأولية جنة عدن. غير أن الأنثروبولوجيا عندنا، كما يقول Agamben، ارتكزت دوماً منذ أواخر القرن الخامس، على النظرة التشاؤمية التي روجها السفساطيون حول الطبيعة البشرية. كائن لا يبحث إلا عن مصلحته، ينافس قسوة نظرائه، هذا هوالحيوان الذي على الثقافة التأقلم معه، وغالباً دون جدوى.
هل تستطيع الثقافة الانسحاب من اللعبة بما أنها ليست إلا مسألة اعتقادات وعادات محلية، وليست ميولاً متجذرة عميقاً في الفرد؟ «الأشياء الجملية والأشياء العادلة» يقول أرسطو، «تفضي إلى كمية من الاختلافات ومن الشكوك جعلتنا نعتقد أنها موجودة فقط بوصفها عرفاً وليس طبيعة». لم يكن أرسطو بالتأكيد سفسطائياً، ولكنه كان يركن إلى الطبيعة وأصالتها وحتى إلى سلطتها. فلهذا السبب كان يرى، مثل الكثير، التباينات الثقافية ثمرة تعدد العوامل، بالتعارض مع التحديد الذاتي للأشياء الطبيعية. لا تستطيع إرادة الانسان ولا العادة تغيير ميزات الأشياء الطبيعية. فاقذفوا الحجرة آلاف المرات، ستسقط دوما لأن هذه هي طبيعتها. يلاحظ Arthur Lovejoy وGeorge Boas أنه في زمن أرسطو، وصلت «الفيزس» لتبني معنى «الميزات الموضوعية أوالحقائق المستقلة في العالم الخارجي، في معجم علم الكون والميتافيزيقا، وبالتالي التعبير بشكل محسوس أكثر، مفهوم الموضوعية». منذ الأزمنة القديمة، كان فيزيس يحمل المعنى الذي نجده في «قوانين الطبيعة» الدائمة، منذ ألفي سنة قبل اختراعها في الموروث العلمي الغربي؛ وكانت العبارة تشير بشكل خاص إلى رغبات الأقوياء والمهيمنين في مواجهة الضعفاء والمغلوبين. هذا هو«قانون الطبيعة» الذي يلمّح إليه السفسطائيCalliclès  في Gorgias. يضع Thucydide في أفواه الأثينيين الكلام نفسه مقابل الـMéliens التعساء الذين حاصروهم. سنعود إلى هذه النصوص. ولأن الفيزيس تحيل على ضرورة مستقلة، فهي «بلا فاعل» إلا إذا خلق إله العالم، بحيث إن الطبيعة تحيل على ما لا يقع في مسؤولية البشر، في تصرفاتهم: الحاجات الملازمة وغير الإرادية للطبيعة الإنسانية. غياب الفاعل هوسمة أساسية من فكرة الغرب عن «الطبيعة»، خلاف الشعوب كلها التي تعيش في عالم مليء بالذاتية، هي كون مسكون بالشمس والقمر والنجوم والحيوانات والجبال والرعد والزرع، مجموعة من الأشخاص غير الإنسانية.
بالنسبة لليونانيين، النوموس من اختصاص الفعل الإنساني: نعرفه ونمارسه بوصفه فاعلاً، ولهذا السبب، هوطارئ وعابر وحتى عاجز عن تغيير الواقع، في علاقته بالطبيعة. (....)
إن كان بشكل الفن أوالقانون أوبشكل عام الأخلاق، مجموعة النوموس الصادرة عن أيدي الإنسان تقدم سمات (اللوكية lockéennes ) كلها لصفات الإدراك الثانوية، مثل الحار والبرد، الحلو والمر. ولكن ما أعدم مصطلح الثقافة في الموروث الغربي، هوأن النوموس أصبح مرادفاً للمزيف مقابل أصالة الطبيعة وواقعيتها. حقيقة الثقافة، التي خلقها الإنسان الاصطناعي، ليست حقيقة الطبيعة. بالنسبة لـLovejoy وBoas:
«حصلت ظاهرة لغوية مهمة في التاريخ، من الناحية الأخلاقية، عندما كلمة «نوموس» التي كانت تعني في الماضي «بالتفاهم» أو«وفقاً للأخلاق» أصبحت تعني «بالخطأ» في دلالة ليس إلى «الذاتية» فحسب بل إلى الظرف «وفقا لـ».
تناقض حقيقة الطبيعة وزيف الثقافة يغذي علوم الإنسان anthropologies التكاملية التي وصفتُها اختزالا بالـ"روسوية» و«الهوبزية»، إذ كلاهما تثمن الطبيعة على حساب الثقافة، مع منح الطبيعة معنى متناقضاً. الأولى التي تعتبر أن نقاء الطبيعة وطيبتها تتحكم بهما الثقافة، تؤكد الأساطيرَ القديمة لـ Cronos، وجنة عدن والوحش الطيب الذي كان يعيش في أميركا وجزر تاهيتي في بداية العصر الحديث. التحق الطب الإيبوقراكي والغالياني إلى هذا المفهوم، بحيث اعتبرت الصحة مثل حالة الجسم الطبيعية، وحيث كانت معالجة المرض تعني تصحيحه وإعادة توازنه، أوترك الطبيعة تفعل ما تشاء. فإن فكرة الأصالة في الطبيعة الإنسانية ثابتة في استحضار القانون الطبيعي، إضافة إلى الإيمان الطوباوي أحيانا في حقوق الإنسان الطبيعة والأخلاق العامة. إلى يومنا هذا، إن فكرة الطبيعة المفيدة مقابل الثقافة المفسدة، تعود كحجة مريحة لتسويق المنتوجات "البيو" أومياه الينابيع النقية و«البدائية» في جزر «الفيدجي» (والتي عندما تعبأ في قوارير من البلاستيك تعطي خليطاً جيداً من الثقافة). والمفهوم الآخر للطبيعة الإنسانية، أكثر تشاؤماً، كان له تأثير عميق في النفوس، كما يمكن ملاحظته في العلاقات المتعددة التي حددت بين جشع الانسان الطبيعي والنظام الصادر عن الثقافة، كما جاء لدى السفسطائيين وصاحبهم Thucidyde. وضع هؤلاء أسساً افتراضية للفكر الغربي عن المجتمع.
باستثناء Protagoras، الذي كان يعتقد أن معنى العدالة والاحترام المتبادل سيتغلبان على الميول اللاجتماعية لدى البشر، بمعاونة الآلهة، فإن أغلب الحجج المقدمة تمتاز بالصلافة الواضحة. لنأخذ مثلاً جذرياً، كدخول Thrasymaque في «جمهورية» أفلاطون ليقول إن القوة تتقدم على القانون: «العدل ليس إلا مصلحة الأقوى». وفقا لهذا الجزم، إن بنية المجتمع نفسها تعكس المصلحة الأنانية للحزب الأقوى، إن كان الشعب في الديمقراطيات، أوالعدد القليل في حكم النخبة، أوشخص واحد في الحكم الجائر. يقول كذلك الخطيب Lysias: «يجب التذكر أولاً أن لا أحد، بالطبيعة، يكون حاكماً نخبوياً أوديمقراطياً، بل يحاول كل شخص وضع دستور لصالحه». يشبه ذلك مبدأ Bentham، الذي يؤكد أن المجتمع ليس إلا تكشّف بحث كل شخص عن مصلحته. في Gorgias، يصوغ Calliclès خطاباً أقل حدة يناسب السوسيوبيولوجيا والبحث عن سوابق لدى الحيوان: النظام والمشاعر الطيبة ليست إلا تنكّرات تغطي حب الذات الطبيعي، ما يضعف الأولى. هذه المجموعة من النوموس التي تعدّ طيبة هي في الحقيقة سلاح بيد الضعفاء الذي يناضلون من أجل مصالحهم ضد عدد صغير من الأقوياء. بالمطالبة بحكم العدل والإنصاف، وبستر مصالحهم الشخصية تحت العقل الجماعي، أغلبية الضعفاء تمنح نفسها فائدة قد تحجبها عنها الطبيعة، وهي منع العدد الصغير من ممارسة قوته من خلال تشنيعه. هكذا، يواصل Calliclès، ما كان عادلاً طبيعياً أصبح غير عادل بالاتفاق، ولكن لن ينجوالمجتمع أبدا من قانون الأقوى. بالنسبة للحيوانات أوالدول أوالعناصر البشرية، فمن العدل أن يتفوق القوي على الضعيف، الأفضل على الأسوأ، والأقوى على من هو أقل قوة منه، هذا ما تعلمنا إياه الطبيعة: (...)
 في حوار الـmélien المشهور الذي ينقله Thucydide، يستخضر الأثينيون قانون السيطرة ذاته، إذ يمكن الاعتقاد أن اللجوء إلى «الطبيعة البشرية» له الوظيفة نفسها كما في الغرب الحديث، أي تبرير جاهز لممارسات ثقافية لا أخلاقية مثل خضوع المرأة، والزواج المنفرد بالتسلسل أوحب المال. بتحميل المسؤولية إلى الطبيعة، الكل يتبرأ من أي صراع أخلاقي (بين الامبريالية والمساواة الديمقراطية (إيزونوميا) مثلاً، وخاصة إن كان هوالفاعل. هكذا يتصرف الأثينيون كما لولم يكن لهم أي خيار إلا السيطرة على الميليين الضعفاء. لأن إمبرياليتهم ليست إلا التعبير عن القانون العام والدائم للطبيعة: 
«وفقا لما نفترضه عن الآلهة وما نعرفه باليقين عن الإنسان، نعتقد أن هؤلاء وأولئك يطيعون بالضرورة قانون الطبيعة الذي يرغمهم على السيطرة على الآخرين، كلما كانوا الأقوى. هذا القانون، فلم نضعه ولم نكن أول من طبقه حين تم وضعه. تناقله غيرنا ونحن نطيعه، كما يفعل من سيجيء بعدنا. لدينا اليقين أنكم وغيركم من الشعوب، لن تتصرفوا إلا بهذه الطريقة أن حصلتم على قوة مشابهة لقوتنا».
يبيّن Thucydide في حرب «بلوبونيسا» كيف تسمح ثنائية الطبيعة الداكنة والثقافة الهشة بالتقلبات المدهشة؛ وبين العلاقات العديدة لهذين المصطلحين، بعضها متناقض. عندما لا يناسبه استحضار الطبيعة البشرية، يتجاوزها Thucydide بكل سهولة. في المقطع الخاص بـ"الحوار الميلي» حيث يطبق قانون الأقوى، يتناسى مقطع مهم من كتاب 9 حيث ينكر الكورنثيون وحلفاؤهم الإسبارطيون العمل مثل الإمبرياليين الأثينيين، على الرغم من إمكانيتهم المؤكدة لذلك. بالفعل، وعكس الأثينيين الساعين لبسط سيطرتهم أبعد من إمكانية قوتهم، كانت ادعاءات الإسبارطيين أقل مما كانت تسمح لهم قوتهم. إن هذا المقطع مفصلي في عمل Thucydide، حيث يشدّد على تباين الميزة بين سبارطة وأثينا، ما يفسّر تباين سياستهما الخارجية واستراتيجيتهما العسكرية لكل منهما؛ يمكن الاستخلاص أن الاسبارطيين استطاعوا تحدي الطبيعة البشرية.
ينتج من الحب الطبيعي للسلطة أيضا تداعيات متناقضة، كما أشار Thucydide عندما جعله مسؤولاً عن انتفاضة Corcyre والإمبريالية الأثينية. في الحالة الأولى، إن حب السلطة «عدو أشكال التفوّق كلها» في حين أنه في الحالة الثانية يشكل السبب الرئيس. نأخذ مثلاً من بين غيرها من الأمثال حول الطبيعة الإنسانية التي تارة تخلق الثقافة وتارة تدمرها. في مثل آخر للتقلب بين النوموس والفيزيس، تبدوالثقافة في نظر Thucydide كالقناع العطوف لطبيعة إنسانية أنانية مستعدة لزج نفسها في جنون تدميري. الحرب الأهلية في Corcyre كانت أول صراع بسبب «حب السلطة المتجذر في الجشع والطمع الشخصي»؛ ولكن كان زعماء هذه الصراعات «يبحثون عن معالم الشرف لنفسهم ضمن المصلحة العامة التي كانوا يدعون الاهتمام بها»، وصولاً إلى تزيين الفوضى التي تسببوا بها بـ"كلمات جذابة، كالنظام والمساواة السياسية للمواطنين من جهة، وحكومة أرستقراطية حكيمة ومعتدلة من جهة أخرى». أو أن الثقافة هي نوع مقيّد للنزعات الطبيعية، أوعندما تركن المدينة على أسس العدل والأخلاق والمساواة أومسيمات أخرى نبيلة، فلم تكن إلا تنكّراً شكلياً لطبيعة إنسانية أكثر صدقاً وأكثر قوة. خلال النقاش في جمعية أثينا حول مصير المدينة المنتفضة ميتيلان، يعلن Diodote: «بالخلاصة، يجب أن يكون المرء ساذجاً جداً لعدم النظر إلى استحالة كبح الطبيعة البشرية بالاستعانة بقوانين أوبأي تهديد كان، وإيقاف رجال انتسبوا بشغف إلى عملية ما».
باختصار، إن الطبيعة الانسانية ستبقى دائما الطبيعة الإنسانية، إن كانت مولدة للنظام أوللفوضى، في صيغتها المهذبة أوالعكس، في حقيقتها العارية أوفي شكل متنكر. هذا تاريخ صراع حيث تعمل الطبيعة الإنسانية ضد الطبيعة الإنسانية، وحيث تخرج دائما منتصرة. فهي التي تضبط السياسة الإمبريالية الأميركية في التاريخ، مع الفرق أن الولايات المتحدة التي تروّج للفردانية في العالم أعادت تسميتها «حرية فردية». ومهما كان الأمر، إن إرادة إقامة الديمقراطية الليبرالية في كل مكان تنطلق من الافتراض القديم بأن الثقافة هي طلاء سطحي وحساس في مواجهة ضربات الجشع الطبيعي لدى الإنسان، إضافة إلى قانون الأقوى. ماذا يقول فيلم Stanley Kubrick « Full Metal Jacket »عن حرب فيتنام؟ يقول شيئاً من نوع «وراء كل فيات Viet،ثمة أميركي ينتظر حريته». نفترض أن الملكية الشخصية، أوبمعنى آخر «رغبة الحرية» هي أمنية عامة للبشر كلهم، وبعد التخلص من التقاليد المحلية، باستخدام القوة إن تطلب الأمر ذلك، قد تتيح لكل الشعوب أن يكونوا مثلنا، سعداء وعادلين. في كتاب صدر حديثا عن العراق، يعلق فيه George Packer على كلمة دونالد رمسفلد الشهيرة، الذي تسلم منصب وزارة الدفاع الأميركية، حول أفعال النهب بعد وصول القوات الأميركية إلى العراق: «هذه الأشياء تحصل». السفسطائية واضحة: الكلمات التي استخدمها رمسفلد، والتي ستجوب الكرة الأرضية، تفترض فلسفة سياسية متكاملة. يرى وزير الدفاع في حالة الفوضى الخطوات الأولى للديمقراطية. بالنسبة له ولأعضاء آخرين في إدارة بوش، الحرية هي غياب أي إكراه. لقد منح الله الحرية للطبيعة البشرية، فهي ليست من إنتاج المؤسسات أوالقوانين الإنسانية. دمِّروا نظاماً مستبداً دام خمسة وثلاثين سنة، تجدوا مباشرة ظهور الديمقراطية، لأن الشعوب تريد الحرية.
نظرة أخرى للوضع البشري
التعارض بين الطبيعة (فيزيس) والثقافة (نوموس) قد أصبح إشكالياً عند ظهور الدولة، حين أخذت تعتدي على العلاقات العائلية «الطبيعية»؛ غير أن السؤال باق: لماذا في اليونان وليس في المجتمعات التي عرفت التطور ذاته؟ في كل الأحوال، يجب الجزم بأن الصراعات العنيفة بين الدولة وبنيان القرابة، والتي منذ هوميروس أصبحت الحيز العام لدى الشعراء، تتضمن تفكيراً عميقاً حول التمييز بين الثقافة والطبيعة. في Antigone لسوفوكل، تقوم المأساة على التنافر، المتمثل بريبة أنتيغون إزاء كريون، الحاكم المستبد في ذلك الحين على مدينة Thèbes، بين مبادئ القرابة وتعليمات المدينة. في منعها من دفن أخيها، الذي قتلته المدينة التي كان يحاربها، قدّم كريون قانون الدولة على واجبات أنتيغون العائلية. استمر قرار كريون الحازم إلى أن أصبح ضحية التناقض ذاته، حين أدى القانون الذي وضعه إلى موت ابنه. لم يكن ربما مغزى هذه القصة إحدى أنواع الثنائية التي تضع الطبيعة والصالح في مواجهة الثقافة والطالح، فحسب. فأمر الواجب العائلي يتضمن نظرة إلى الوضع الانساني، التي لم تفطن إليها ربما فلسفاتنا الخاصة بالطبيعة الانسانية، فما معنى «المصلحة الشخصية» حين تربط بين الشخص والمصلحة علاقات بين أشخاص وليس بين أملاك شخصية؟
وراء المناظرات العادية حول الطبيعة الإنسانية وتداعياتها على مفهوم الثقافة، احتوى دوما ًالتقليد الغربي نظرة مغايرة للنظام والكائن، تلك التي درسها علماء الأنثروبولوجيا بكثرة: المجموعة المبنية على القرابة. في الحقيقة، لم يشدّد الغرب كثيرا على هذا البعد في الوضع الانساني، حتى وإن (أوربما لأن) العلاقات العائلية والقرابة هي منبع شعورنا وتعلقاتنا الأعمق. تنحدر فلسفاتنا الخاصة بالطبيعة الإنسانية التي تغفل هذا البعد، في أغلب الأحيان، من مجتمعات كبيرة ومنظمة وفقاً لمبادئ مختلفة تماماً. ما نفضل رؤيته في الطبيعة الانسانية، هي رغبات الرجل البرجوازي، مع إزاحة النساء والأطفال والتقاليد القديمة، على حساب المبدأ العام لقابلية الاجتماع الإنساني، أي القرابة. (...).
يتيح هذا التناقض الكامن تفسير بعض التعليمات المدهشة المتعلقة بعلاقات القرابة في الجماعة وتشكيل النظرة الذاتية لدى القدماء. صاغ كل من أفلاطون والقديس أغوستين بنية قرابة من نوع الهاواي hawaïen  بوصفها نموذجاً للمجتمع البشري كافة: كان أغوستين يؤكد أن العائلة تشكل أول نظام اجتماعي في الجنس البشري، صادر عن الله، في حين كان أفلاطون يتصور مجتمعاً مدنياً مثالياً مشكلاً من نخب في جمهوريته الطوباوية. في أنظمة القرابة الهاواية (Hawaï)، كل عضومرتبط بالأعضاء الآخرين في الجماعة، كأم أوأب، أوأخت أوأخ، أوابن أوبنت. يقول أغوسطين إن ذلك ليس عبثا حيث حب الله العام يجعلنا جميعا من ذرية أب واحد، ويجعل البشرية عائلة واحدة. هكذا سبق مطران Hippone، قبل 1500 عام، تحليلات E.B. Taylor حول تحريم العلاقة الزوجية في داخل العائلة – «تزوج بالخارج، أو اهلك!» – تحريم الزواج داخل العائلة الواحدة تسمح بتكاثر علاقات القرابة وتوسيع العائلة (....). باستحضارها جماعة مرتبطة بأب واحد، ودمج الأقرباء البعيدين في علاقات قرابة أولية (القرابة الاصطلاحية)، وتحريم العلاقة الزوجية داخل العائلة، والزواج بالخارج، كانت الأنثروبولوجيا القديمة قد أدركت القرابة بوصفها نوعاً من النظام الجماعي.
في كتابه Ethique à Nicomaque، قدّم أرسطوأفضل تعريف للقرابة. إن قراءة الفصول حول علاقات الصداقة التي تربط مختلف أعضاء العائلة، تذكرنا بقراءة Marilyn Strathern (حول المناطق الجبلية في غينيا الفوقى) أوJanet Carsten (عن سكان جزر اندونيسيا) اللتين عرّفتا القرابة كمجموعة من العلاقات مع الآخر تأسس الهوية الذاتية والموضوعية للشخص. بالنسبة لأرسطو، المرتبطون بالقرابة يتقاسمون ذات الهوية في موضوعين مختلفين: الأبناء هم «أنا» آخرون لدى أهلهم، الأخوة وأبناء العم والخال، وأقرباء آخرون أكثر بعداً مرتبطون بشعور الانتماء إلى ما بين، وإن كان على درجات مختلفة:
هكذا يحب الأهل أبناءهم كما يحبون أنفسهم (الكائنات التي تنبثق منهم هي مثلهم آخرون، «آخرون» لأنهم منفصلون عن الأب) ويحب الأبناء أهلهم كما لو ولدوا منهم (...).
اسمحوا لي بهذا التعميم: القرابة تشير إلى علاقة متبادلة. يتنمي الأهل بضعهم إلى بعض. قد يظهر هذا التبادل على شكل هوية، كما هي الحال لدى الأخوة أوأحفاد الأب الواحد. ولكن يمكن أن تتخذ شكل علاقة متبادلة وتكاملية، كما هي الحال لدى الزوج والزوجة. في كل الأحوال، العلاقة بالآخر، وبالتالي العلاقة بالذات والآخر، تحدد ضمنياً وجود كل شخص.
يتكلم أرسطو على قرابة الهوية، هوية واحدة وموحدة لكل الأعضاء المتميزين من جراء الولادة أوالنسب، وهوية تموضعت بتشارك مادة جسدية واحدة، وهم الأشخاص الذين ينتمون إلى «الدم ذاته» أوالجذع ذاته. ولكن في تشديده على علاقة الولادة أوالنسب، يبقى التحليل الأرسطي للقرابة مبتورا. ينقصه بالفعل التفكير بالتمايز القديم في الغرب بين القرابة الطبيعية بالولادة و«الدم» والعلاقات الإنسانية في الزواج أوبحكم القانون: نجد هنا المعارضة ذاتها بين الفيزيس والنوموس، التي لاحظها David Schneider في دراسة شهيرة لنظام القرابة في أميركا الحديثة. غير أن قرابة الدم ليست بالضرورة ميلاً عاماً في أنظمة القرابة، وليست مشكِلة لهوية مجموعة من الأشخاص. وجد علماء الأثنولوجيا شعوباً تقيم علاقات القرابة والتضامن والهوية على مبادئ أخرى، مثل المكان، أوالتاريخ أوحقوق الملكية المشتركة، أوتبادل الهبات، أوإنتاج الغذاء، أوالذكريات المشتركة، كلها وسائل لإقامة علاقة متبادلة. ليس من الضروري التكرار، إلا لمعاكسة هذيان البيولوجيا الاجتماعية، أن معيار علاقات القرابة لا يتبع بالضرورة النسب، ولا يتضمن أي شكل من الهوية الجسدية بين الأقارب: إن المشاركة لمادة مشتركة ليست شرطا ضروريا للقرابة. ولكن ما يصلح عامة بالمقابل في الوصف الأرسطي للمقاربة كتوزيع هوية واحدة على عدة أشخاص، هوأخلاقية الهوية: على الأقارب تبادل الحب بينهم. لأنهم يتشاركون الهوية ذاتها، فهم متساوون، على الرغم من الفوارق من وجهة أخرى، والعلاقة الاقتصادية التي يجب تحقيقها بينهم هي المساعدة المتبادلة.  وفقا لـE.B. Taylor، «القرابة» Kinship و«العطف» Kindness لهما جذور لغوية مشتركة تحيل صراحة على أحد أعمدة الحياة الاجتماعية.
على الرغم من أخلاقية الحب هذه والمساعدة المتبادلة، لم تستطع مجموعة من «الأشخاص المتجانسة» أو«شعب واحد» يرتبط أعضاؤه بعلاقات قرابة التكاثر ذاتياً، حيث تحريم العلاقات داخل العائلة يمنعهم من الاعتماد على قدرتهم التكاثرية، ويجعلهم تابعين لشعوب خارجية من أجل تحقيق هذه الحاجة. تتيح التبادلات الزوجية جريان القوة الحيوية بانتقال بعض أعضاء المجموعة إلى مراكز أخرى، ما يؤسس لعلاقات قرابة أساسية بالاختلاف والتحالف، يولد منها أطفال إضافيون (تتطلب عادة هذه الانتقالات عملية تناسلية للرجال في الأنظمة الأمومية، وللنساء في الأنظمة الأبوية، أوالاثنين في أنظمة القرابة الأخرى). إن القرابة بالتحالف تعيش نوعاً ما حياتها الخاصة، وتظهر فعلياً إحدى السمات الروحانية في الحالة الإنسانية: وجود البشر رهن القدرة على الحياة والموت، وهم ليسوا أصحابها ولا أسيادها؛ هذه القدرة موجودة خارج تنظيم جماعتهم. في حال راقب الناس وجودهم الخاص، قد لا يموتون. فهم لا يضبطون أيضاً العناصر والفصول أوالعوامل التي تلحق بها أملاكهم. نفهم بالتالي لماذا تفصح العديد من الدراسات الأثنوغرافية عن العلاقة بين القرابة التحالفية والكيانات الفضائية التي تحكم مصير الانسان، ذلك لأن لهذه الأخيرة سلطة منح الحياة وأخذها، من خلال المعاملات الزوجية. حتى الآلهة المهمة يمكنها الارتباط بالتحالف، كما بإمكان أقرباء مهمين أن يكونوا آلهة. من هنا جاءت ملاحظة Edmund Leach الشهيرة: «تعدّ القرابة التحالفية كأنها تأثير ميتافيزيقي.» تمر التبريكات واللعن من خلال العلاقات التحالفية. نجد هنا أنه في نظام القرابة، كما هوفي العلاقات بين عناصر الكون بشكل عام، المغايرة هي شرط وجود الكائن.
تتكلم الدراسات الأثنوغرافية على «الأنا ما بين الشخصي» (هنود أميركا)، أوعن الأنا كـ"مكان للعلاقات الاجتماعية أوالسِير الشخصية المشتركة» (جزر الكرولاين) أو أيضا على الأشخاص كـ"أمكنة متعددة ومركبّة للعلاقات التي تشكّلها (مرتفعات غينيا الجديدة). كتب Roger Bastide عن المفهوم الإفريقي «للفرد»: «فهوموجود بقدر ما هو«خارجي» أو«مختلف» عن نفسه». من الواضح أن في هذه المجتمعات، الأنا يتميّز عن الفرد المحدد، الواحد والمستقل الذي نعرفه – مثل هذا الفرد الأخص في نظرياتنا الاجتماعية، بل في نظامنا الخاص للقرابة. إن الشخص الفردي هوبالأحرى مكان الأنا المتعدد الذي يرتبط به بعلاقات متبادلة؛ للسبب ذاته، كل «أنا» موزّع بأقل أوأكثر في أشخاص آخرين. فكان McKim Marriot هوالذي لاحظ هذه الظاهرة في الهند وأول من طبّق عليها المعاملة الأنثروبولوجية: (...)
باختصار، في علاقات القرابة، يصبح الآخرون ملكية وجودي الخاص، والعكس صحيح. لا أتكلم هنا على تبادل الآراء التي تحدد العلاقات الاجتماعية المباشرة وفقاً لأصحاب مدرسة الفينومولوجيا. أتكلم على إدماج بعض العلاقات التي تشترط عليّ مشاركة الآخر في وجودي الخاص. إذاً «أنا الآخر»، فالآخر يهمني.
يعيش الذين يرتبطون بهذه العلاقات، أعضاء بعضهم لبعض، حياة أقربائهم ويموتون معهم. نعمل ونتحرك تحت سقف هذه العلاقات، باسم ابنه، أوابن عمه، أوزوجه، أوعضوقبيلته، أوخاله... الآخر موجود دائماً في الأفق. لاحظت Marilyn Strathern في هذا الصدد في غينيا الجديدة، أن لا قدرة العمل المؤثر (agency agentivité) ولا القصد الواعي يعبران عن الفردية، بمعنى أن كيان الآخر هوالشرط الداخلي لنشاط كل شخص. لا ينطبق ذلك على العمل فحسب، بل على الاستهلاك أيضا وهو«ليس فقط مسألة استبدال الذات، بل اعتراف وضبط العلاقات». على عكس الفردية البرجوازية التقليدية، الجسد ليس ملكية خاصة للفرد. كتبت Anne Becker عن الفيجيين أن «الجسد يقع تحت مسؤولية الجماعة الصغيرة التي تغذيه وتعتني به»، و«بالتالي، منح هيئة لهذا الجسد من اختصاص المجموعة أكثر من الفرد». تهتم القرية بشكل الجسد وتعلّق عليه، لأنه  يجسّد قدرة الجماعة على الاهتمام بأعضائها، وقدرة الأفراد على مساعدة الآخرين. في جماعات القرابة، الجسد هوجسد اجتماعي، مكان للتطابق مع الآخر، والاهتمام به والمسؤولية اتجاهه، كما أنه مكرّس، لرفاهية الآخر، بشكل متبادل، وبالتالي، ليس ثمة أي تجربة فردية حصرا، بمعنى أن الأشخاص هم أعضاء، حيث تتشارك التجارب كلها. ليس على مستوى الإحساس، بل على مستوى الحاسة: الجسد هوالوسيلة التي يستخدمها البشر للتعبير عن الحوادث. يكتب Maurice Leenhardt عن الكلدونيا الجديدية أن «التجربة موزعة على الأشخاص» و«ليست فردية». عندما يصاب شخص بوكعة صحية، يعاني انتهاكاً معنوياً أودينياً من قبل أقربائه، ما يعد ظاهرة عامة في الأثنولوجيا. ثمة العديد من المجتمعات التي يجب تعويض الأقارب من جراء جرح أحدهم (وأكثر في حال الوفاة وأقل عندما يتم قص شعره). في كثير من الأحيان، يمنح للقربى بالتحالف، من المتوفين أوالمصابين بجروح، تعويض خاص، لأنهم منبع حياته. هذا ما يمكن قراءته بالنسبة لـTinglit على الشاطئ الشمالي - الشرقي: (...)
كما أن هناك عدة مجتمعات حيث يتوفى الشخص رمزياً في الوقت نفسه مع أقربائه؛ لم يكتف الشخص بالتنكيل بنفسه فحسب، بل يبتعد عن المجتمع وفقا لشعائر مأتمية منافية للشخصية الاجتماعية العادية: حياة معزولة، جلد الذات، المنع من الاغتسال، الخ.. بالفعل، هذه الممارسات ليست منتشرة عالمياً، ولكن أحيانا، لم يتوف الشخص وحيداً. فالموت هو أيضا حدث مشترك.
هل الأنانية طبيعية؟ بالنسبة لغالبية الإنسانية، الأنانية التي نعرفها جيدا ليست طبيعية بالمعنى المحدد للكلمة: تعدّ نوعاً من الجنون أومن أعمال السحر، وشكلاً من الإبعاد والحكم بالإعدام، فهي على الأقل علامة ضرر يجب معالجته. لا يعبّر الجشع عن طبيعة إنسانية ما قبل الاجتماعية بقدر ما يعبّر عن نقص الإنسانية. فهويحفر هوة في العلاقات المتبادلة المحدّدة للوجود الانساني. إن كان الأنا والجسد والتجربة والسرور والحزن والقدرة على العمل والنية الواعية، وربما الموت، كلها علاقات شخصية متداخلة لعدد كبير من المجتمعات، وبكل ترجيح، للتاريخ البشري بمجمله، فإذن، المفهوم الغربي للطبيعة الحيوانية والأنانية لدى الانسان هوأكبر وهم عرفته الأنثرولولوجيا.
النظام الملكي في القرون الوسطى
من فكر القديس أغوستين اللاهوتي إلى علم الاجتماع لدى دوركهايم، يستند المجتمع على أسوأ ما فينا. من القرون الوسطى إلى الأزمنة الحديثة، تم اعتبار أن المجتمع هوالترياق القهري الضروري لأنانية الانسان. أكثر من ذلك، الإنسان فقط هوصاحب هذا الخبث الملازم لطبيعتنا. يلاحظ Paul Ricoeur  أن سمة النظرة الغربية إلى الكون هي عدم اعتبار السوء بوصفه ظرفاً أصلياً ولا مأساة من صنع الآلهة، بل مرتبط فقط بمسؤولية الإنسان، هذا الإنسان المحب لذاته، الذي يخالف أوامر الله ليمدح نفسه. يقع جزء من المسؤولية على حواء والثعبان، طبعاً، غير أن آدم وحده هوالمسؤول. إضافة إلى أنه، وفقا للقديس أغوستين، بما أن الزرع موجود في منى آدم، «نجد نفسنا جميعاً في هذا الرجل». الخلافات بين القدماء حول فطرية طبع الإنسان لم تعد مهمة لأن الخطيئة الأولى وسمت حضورنا في مملكة المسيح للقرون القادمة. وفقا لـElaine Pagels، المفهوم الأوغستيني للخطيئة الأولى «شكّل تفسيراً للطبيعة الإنسانية التي أصبحت، بالسراء والضراء، الإرث العام للإجيال من المسيحيين في الغرب، وأثرت بعمق في علم النفس والفكر السياسي.» السمة الأكثر تأثيراً في الفكر السياسي هي التوافق شبه الإجماعي حول وظيفة الحكم بشكل عام، والملكية بشكل خاص، أي قمع الطبيعة الحيوانية لدى الانسان.
بغياب الحكم، قد يأكل البشر بعضهم، كما يفعل السمك أوالحيوانات المفترسة. الرغبة اللامحدودة للجسد قد تسفر إلى حرب لا نهاية لها: في كل إنسان، بين البشر وضد الطبيعة. «انظروا كيف يضطهدون بعضهم» كما قال القديس أوغستين، «وانظروا كيف يفترسون بعضهم! وعندما تفترس السمكة الكبيرة السمكة الأصغر،  تأكلها سمكة أكبر منها». كان Irénée de Lyon قد استعار حكاية السمكات هذه من التقاليد الحاخامية القديمة. «منح الله القانون الأرضي لصالح الأمم، حتى لا يفترس البشر بعضهم كالسمك، خشية من القانون». إن الصورة النمطية للسمك الكبير المفترس للأصغر منه للتعبير عن الطبيعة الإنسانية واسعة الانتشار في القرون الوسطى، وتستخدم إلى الآن كصورة هجائية للرأسمالية الليبرالية الجديدة (...). استخدمت الأسطورة المسيحية فكرة شبيهة للتعبير عن ضرورة الحكم الأرضي: البشر أسوأ من الحيوانات فيما بينها، «لأن لا الأسود ولا النمور تتحارب مثلما يتحارب البشر» كما جاء في «مدينة الله». فيقول Jean Chrysostome: «انزعوا عن المدينة قيادييها، وسنمضي حياتنا، بأقل حكمة من الحيوانات، نفترس بعضنا».