البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

صورة الآخر الحضاري ، نقد الاستعلاء في المركزية الغربية

الباحث :  عامر عبد زيد الوائلي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  10
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  2207
تحميل  ( 381.600 KB )
لم يتوقف تشكّل المركزية الغربية على التجربة التاريخية الكولونيالية فيما سمي ببلدان الأطراف في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، بل هي استحالت مفهوماً بقصد إعادة إنتاج أطروحة الهيمنة بأشكال وآليات جديدة.

هذه المقالة تسعى إلى إجراء مقاربة نقدية لصورة الآخر في المركزية الغربية.

المحرر

في توصيف فرنان بروديل يقول:»منذ أبد الآبدين أوما يقارب ذلك، كان هناك شرق متوسطي آهل بالسكان وغني بحضارته القديمة جداً، وتنشطه صناعات كثيرة، وعالم غربي ـ تماشياً مع المبدأ نفسه للغزو الروماني ـ أوغرب بعيد إذا أردنا Far West «وهوغرب متوحش وربما غير مثقف». اذاً هكذا كانت البداية في تصوير الذات بالمقارنة مع الآخر وهي ليست بالضرورة مقارنة إيجابيّة بل في كثير من الأحيان منحازة كما سوف يظهر لنا في بحثنا هذا الذي تكمن غايته في الكشف عن أطياف المركزيّة الأوربيّة اوالغربيّة  (Eurocentrism)، ونجد أنّ هذا يتحقق في التحليل والكشف عن الدلالة التي يحتويها مفهوم المركزيّة وهذا يتطلب تحديد الدلالة اللغويّة والاصطلاحيّة، ثم إحصاء السمات التي يمكن إجمالها في تلك الظاهرة الثقافيّة، المجتمع الغربي، فهذه المرحلة مهمّة في اكتشاف أبعاد تلك الظاهرة وتبيان الوقائع التي من الممكن رصدها وهي تعبر عن تلك الظاهرة أوتعدُ محكومةً بالسلوك النفسي والثقافي ذاتهِ،الذي يمكن البحث عنه في الأصول أوالممارسات الثقافيّة، وتبيان الأصول التي تعتقد أنّها أصولها، ثم كشف الممارسات التي تحكم جملةً من النظريّات الثقافيّة ذات أبعاد عرقيّة في نظرتها إلى ذاتها وتميزها من غيرها، النقاط الآتيّة:
أوّلاً: التأصيل المفهومي:
التعريف اللغوي: هي مصدر فعل ركز، ومركز هوالمقر الثابت الذي تتشعب منه الفروع والمركزي  هوالمنسوب إلى المركز، والمركزيّة، نظام يقضي بتبعيّة البلاد لمركز رئيس واحد، ونقيضها (اللامركزيّة) وهوالنظام الذي يمنح للأقسام المختلفة نوعا من الاستقلال المحلي.
التعريف الاصطلاحي: تعرف بأنّها الممارسة غير الواعيَة التي تركِّز على الاهتمامات الأوربيّة أوالغربيّة عموماً في مجالات الثقافة والقيّم  بحسب  الثقافات الأخرى. وهي تعني ببساطة أنّ الغرب وفي قلبه أوروبا هومركز العالم‏، والمنتج الأوحد للقيّم الإنسانيّة‏ ،‏ والحكم المطلق وفي وضع وتقنين معايير التقدم والتخلف‏، والمرجع الأوحد في تسجيل انتقال شعبٍ ما أوثقافةٍ محدّدة من البربريّة والهمجيّة إلي المدنيّة‏‏.
ومن أجل تحقيق هذه الغايّة لابدّ من تحديد حدود البحث هنا التي وجدناها تكمن في مبحثين الأوّل يتناول المركزيّة الغربيّة من حيث «المفهوم والمرجعيات» التي يعتقد بها أساساً لها، فيما جاء المبحث الثاني استكمالاً للأوّل في استكمال التوصيف بالنقد فكان عنوانه «نقد المركزيّة الغربيّة» والنقد: هوفتح لإمكان المعنى ولمسارات الدلالة فيه من ضمن علاقة ليست ذهنيّةً أوفكريّة فقط،بل واقعيّةً، وأحياناً ملموسة، ذلك أنّ اليقين، لم يعد افتراضاً في معنى أحادي أو واحدي، كما شأن كل شيء سائر إلى التدخل والاشتباك والتكامل في معرفة الوجود والعالم فالنقد يكمل الأمر في توصيف تلك العلاقة الملحميّة بين العالم الاسلامي الذي كان يعاني تخلفاً وتمزقاً داخلياً بعد توقف حضارته وتمزقها بفعل عوامل الضعف الداخليّة، فكانت الدولة التي ورثتها الدولة العثمانيّة تعيش في حالة من الضعف «والتخلف الحضاري الشامل على الرغم من نزعتها العسكريّة ذات البأس وهي دولة الأتراك العثمانيين» فيما كان الغرب يعيش «التطورات المتلاحقة أصبحت هذه المواجهة غير متكافئة: فقد أخذ العالم الغربي الصاعد يواصل تقدمه في كافة الميادين». هكذا ظهر مفهوم جديد للقوة والشبكة الخفيّة من علاقات القوّة التي أقامها الغرب مع دول العالم الثالث وقد أخذ بالهيمنة على مقدّراتها.
المبحث الأوّل
المركزيّة الغربيّة والمرجعيّات الفكريّة في المفهوم
ظاهرة ثقافيّة، بمعنى أنها تفترض وجود ثوابت ثقافيّة مميّزة تشكل المسارات التاريخيّة للشعوب المختلفة. ولذلك، فإن المركزيّة الأوروبيّة (Eurocentrism) معاديَة للكونيّة [العالميّة]؛لأنّها غير مهتمّة بالسعي إلى قوانين عامّة محتملة للتطور الإنساني. ولكنها تقدم نفسها كونيّةً؛ لأنّها تزعم أن تقليد جميع الشعوب الأنموذج الأوروبي هوالحل الوحيد لتحديّات عصرنا، فالبحث في التمركز وآليات التحليل والنقد محكومة بجدليّة العلاقة بين الأنا والآخر في الفكر الغربي، فدراسة الأخر لا شأن لها، بخصائصه الذاتيّة هو، إنما بإعادة إنتاج لمركزيّة الغرب، مقابل تهميش الآخر، والغربي «عندما يدرس الآخر، فهو يعيد إنتاج نفسه، عبر إخضاع الآخر لمنهجيّات العلوم الإنسانيّة التي تعد المحصلة التركيبيّة العليا والأخيرة لتلك الميتافيزيقيا الإنسانيّة نفسها التي تقود المشروع الثقافي الغربي»، اذ عملت هذه الأخيرة على استدامة الإحساس اليوناني القديم بالتفوق، وتعضيده بالفكر الديني، أوحتى بالتصورات الفلسفيّة والفكريّة. على الرغم من احترامها لأسئلة كبرى وتحقيقها في مجالات معرفيّة ونظريّات هيأت للعقل وضعيّته النقديّة وسلطته المتُسائلة... بل ومراجعتها للنوازع الثاويّة خلف الفكر الغربي، والتي كانت إلى عهد قريب بمنزلة يقينيات غير مفكّر فيها… فضلاً عن مقولاته الكبرى كالعقل والذات الغربيين التي أسست نزعة التمركز حول الذات الغربيّة ورسخت هيمنتها على الثقافات غير الغربيّة.وهذا ما يظهر في الأمثلة التي أوردها عبد الله ابراهيم:
فإنّ أصول التمركز يمكن الرجوع فيها إلى اليونان إذ يتعلق الأمر بالتقسيم اليوناني للعالم إلى «إغريق» برابرة» أوبعبارة أخرى، إلى «أحرار بالطبيعة» عبيد بالطبيعة» وهوتقسيم يعود إلى أرسطو، وهوتفكير يكشف عن نوع من التعصب العرقي المبكِر، وفيما يقرن التقسيم الأرسطي «الآخر» بمفهوم العبوديّة الطبيعيّة، ويحرر الذات منها ويخضع الأمر في القرون الوسطى  إلى معيار الإيمان فيصلاً بين الذات والآخر، ثم يقوم التفكير الغربي الحديث، باعتماد مبدأ «الحضارة». ولهذا تتشكل ثنائيّات ضديّة دائمة: إغريق / برابرة، أحرار /عبيد، مؤمنون / كفّار، متحضرون/ متخلفون. ومهما تعددت صيغ التعبير فليس ثمة اختلاف في محتوى التعبير؛ العالم في جوهر التفكير الفلسفي الغربي لا ينبغي إلا أن يكون كذلك: مركزاً ومحيطاً.
ثانياً: المرجعيّات الفكريّة للمركزيّة الغربيّة:
في مجال تحديد الهويّة الغربيّة في الدراسات التي تنحو نحواً يقوم على المركزيّة الغربيّة، نجد أنّ هناك تحديداً للهويّة انطلاقاً من توصيف مكاني جغرافي هوالغرب the west على الرغم من كونه ليس توصيفاً بريئاً خاليّاً من بطانة نفسيّة تقيم علاقة مع الآخر بوصفه شرقاً.«فإنّ التساؤل فيه ضروري حول الأنا أيضاً، ذلك أنّ هذا الخطاب لا يقيم علاقة بين حدين متقابلين، وإنما علاقة بين آخر وأنا متكلِمة عن هذا الآخر».
وهوينطلق أيضاً من قراءة حديثه تتجه صوب الماضي من أجل تقديم قراءة أنموذجيّة كما يريدها الغربي اليوم ليس كما هي في الماضي بل يتم انتقاء  أحداث من هذا التاريخ يرتجيها القارئ الحداثي عن ماضيه كما يريد له أن يكون؛ وهو بهذا يختلق هذا الماضي.ينطلق من بحثه عن هويّة يتخيلها بسمات محدّدة من أجل تمايزه عن الآخر غير الغربي.يقول كافين رايلي  في التمركز العرقي: «ما من مجتمع آخر، أنتج مجموعةً من الشعراء والفلاسفة والدبلوماسيين المؤمنين بالعنصريّة كتلك التي أنتجتها الطبقة الحاكمة الأوربيّة والأمريكيّة، وما من مجمع آخر ربط بين قيمه المدنيّة والخلقيّة والاجتماعيّة والشخصيّة  بين العنصريّة، هذا الربط الوثيق، ولعل هذا وحده ينهض دليلاً على مدى شموليّة الاستغلال العنصري الغربي، لقد ألحّ الغربيون كثيراً وطويلاً وبشدّة قائلين (إن ما يفعلونه لم يكن إلا أمراً طبيعياً)».
فإنّ هذا النقد الغربي يقابل نقداً آخرَ من العالم الثالث ينتقد المركزيّة الغربيّة ويحلل ميولها عن الآخر فيقول: «فإنّ التصور عن الآخر كما قلنا هوفعاليّة نفسيّة مثلما هي سياسيّة تحاول أن تمنح الآخر توصيفاً أو تنميطاً وهو قد يكون سلبياً أولا إيجابياً على الرغم من كونه سلبياً، وقد ظهرت كثير من الدراسات كشفت عن علاقة الغرب المستعمر بالآخر وهي دراسات تدخل في نطاق يهتم بدراسة الاستعمار الكولونيالي، وما يحمله من تنميطات هومي بابل (Homi K.BahBah) فهويرى:أنّ المستعمر يميل إلى تنميط المستعمر، من خلال وصفه بصفات ثابتة ومبالغ فيها، ويحرص على تكرارها، مثل وصف المستعمر بالوحشي والانحراف الجنسي؛ فهذا التوصيف  يراعي التمييز بين الغرب كجهة موحّدة مركزيّة «يدل على نمط وُحدوي من الخصائص: (التاريخيّة والأثنيّة والثقافيّة والحضاريّة )عموماً، والتي تشكل في مجموعها ملمح النقاء بإزاء الأنماط المفارقة أوالمختلفة، قومياً ولسانياً، وما إلى ذلك من معايير التفريق.
 فإن كان مجال «الآخريّة في السياق الحديث قد اختزل في الغرب وحده، فإن مجال الآخريّة في السياق الوسيط كان متشعباً ومتعدداً وممتداً بامتداد المعلوم من العالم آنذاك».
إذ تجلّى هذا الغرب في (المعاجم الأوربيّة المعاصرة يتم التمييز بين “الغرب” occident كجهة جغرافيّة وبين “الغرب” Occident بحرف O الكبير للدلالة على العلميّة) مثل مصطلح جيوسياسي الذي يطلق على: “جزء العالم القديم الذي يقع غرباً في الإمبراطوريّة الرومانيّة”. أوربا الغربيّة والولايات المتحدة، وبكيفيّة عامّة الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي، بلدان أوربا الغربيّة والولايات المتحدة تحديداً، وقد تختص بهذا المعنى كلمة (West Ouest بالفرنسيّة) فهذا التحول من التوصيف الجغرافي إلى التوصيف الثقافي يمثله بعض المؤرخين الغربيين الباحثين عن بلورة هويّة غربيّة، وقد وجدوا له سندات تراثيّة إذ نلمس أنّ هناك توصيفات مكانيّة جغرافيّة مثل التوصيف المكاني الذي ظهر «بعد تقسيم الإمبراطوريّة الرومانيّة إلى غرب وشرق في أواسط القرن الثالث الميلادي، وانقسام الكنيسة المسيحيّة إلى غربيّة وشرقيّة ابتداء من القرن الحادي عشر....الخ» أويجدون له سندات ثقافيّة عبر إقامة صلات بين تراثيات متنوعة ومتفرقة فهم ينطلقون من حاجات حديثة أومعاصرة في خلق هويّة متماسكة تقوم على عقدة التفوق على الآخرين إذ تبحث عن مسوغات لها في الواقع عبر التقدم الصناعي والثقافي والعسكري القائم على مرجعيّات تمنحها التفوق على غيرها؛ لهذا نجد أنّ هذه السرديّة تقوم على أصول متنوعة وأحياناً متقاطعة إلا إنها تقود إلى ثلاثة تقاليد فلسفيّة ممثلة بالتراث الإغريقي وتجلياته في الفكر والفن والتراث الروماني وتجلياته في القانون الروماني والنظام السياسي، أمّا التراث الثالث فهواليهودي ـ المسيحي وهوممثل بالكنيسة الكاثوليكيّة وتعاليمها الأخلاقيّة؛ هكذا تم اصطناع أصول تولد الإيهام «بأنّ الغرب ما هوإلا بدايّة مطلقة (ليس قبله شيء)، وأنه ظهر كنبتة قد نمتنع عن تتبع جذورها، نبتة منعزلة ووحيدة من المعجزة التاريخيّة».
كما يقول تييري هننتش: «لا وجود للشرق خارج رؤوسنا -نحن الغربيين-. ولا وجود حتى للغرب. فالغرب فكرة تسكننا كما تسكننا فكرة الطرف النقيض. حين لا نشعر بالحاجة لأنْ نعرفه: نحن الغرب».
على الرغم من أنّ الواقع يخالف هذه السرديّات التي أقامتها المركزيّة الغربيّة،هي جزء لا يقوم على وقائع الحياتيّة بوصفها مصدراً يمكن الاعتماد عليه، كما يقول جان بودريار: «بل صارت قيمتها من قدرتها (بفعل التوليد الإعلامي) على غواية الناس، هذه الخلاصة التي قدّم فيها بودريار مفهوم الشيء، أوالموضوع بمعنى قدرته على الغواية» فالبحث عن غواية القوة جعل من الغرب يصطنع سرديات لهويته على أنّها متفوقة عرقياً وثقافياً على الشعوب الأخرى، وهي ممارسة تقوم على تسويغ مشروع الاستعمار الغربي قديماً وهي اليوم تبرير للهيمنة والاختلاف عن الآخر الإسلام الأصولي. هذا ما نجده في سعينا إلى توصيف تلك الهيمنة واكتشافها في السلوك الغربي اتجاه الآخر.على الرغم من أنّ الوقائع تخالف تلك التأويلات التي تقدمها المركزيّة الغربيّة، على وفق ما تكشفه الوقائع، فالغرب لا يزال منطقة جغرافيّة غير واضحة وغير محددة. وفي كثير من الأحيان هو توصيف لأيديولوجيّة أكثر منه كحقيقة موضوعيّة. إذاً هناك خلاف داخل الغرب نفسه حول ما يجب على الدول أولاً إدراجه في هذه الفئة، من ناحيّة ومن ناحيّة أخرى، فإن «الغرب» اليوم سوف يشمل أوروبا (وخاصة دول الاتحاد الأوروبي) جنباً إلى جنب مع الأراضي التي تقع خارج أوروبا التي تنتمي إلى العالم الناطق بـ(الإنكليزيّة، والإسبانيّة والفرنسيّة)، وبالآتي لا يوجد تعريف متفق عليه لما هو«الغرب»، نجد هناك محاولات انطلقت من نظريّات الأعراق التي تحالفت مع الاستشراق في التسويغ للاستعمار الغربي فهذه الأطروحات تتمركز حول الغرب على أنه جماعة ثقافيّة متفوقة عرقياً على غيرها وهو اعتقاد قد وجدناه  من قبل كممارسات في سلوكيّات كثير من الأمم، وهووليد  اعتقاد إنسان بأنّ أمّته أوالجنس الذي ينتمي إليه يعد الأحسن والأكثر اتِّساقًا مع الطبيعة. يشير إلى الاعتقاد بأنّ جماعة الفرد هي الأفضل بين كل الجماعات، وإنّ الحكم على الآخرين على أساس أن جماعة الفرد هي مرجع هذا الحكم؛إيماناً بالقيمة الفريدة والصواب التام للجماعة التي ينتمي إليها والترفع عن الجماعات الأخرى إلى حد عدّها نوعاً من غير نوع جماعته، ولا شكّ أنّ هذا التمركز العرقي يعد عاملاً مهماً في نشأة الصراعات العرقيّة والتعصبيّة والتي قد تصل في أحيان كثيرة إلى حد المذابح والإبادة والتمرد والثورة والإرهاب والحروب. وهوتمظهر في سلوكيّات الغرب على صعيد الممارسات الاستعماريّة بكل عنفها وقسوتها وقد وجد له تسويغ ثقافي في نظريات تعد علميّة قدمت المبرر لهذا السلوك المتوحش من قبل المدنيّة الغربيّة،التي كانت تجد لها تبريراً ثقافياً شكّل المرجع «المركزيّة الغربيّة» التي قدّمت خطابين الأوّل اصطناع أصول متعاليّة من خلال وضع  سرديّات كبرى للهويّة الغربيّة، والثاني تقديم مجموعة من النظريات العلمويّة في تبرير الهيمنة. وهذه الظاهرة يؤرخ لها مارتن برنال بقوله: «بنهايّة القرن الثامن عشر، كان مذهب» «التطور قد أضحى هوالنظام الجذري السائد لقياس الأمور، فالديناميّة والتغير أصبحتا تحظيان بتقدير أكثر مما كانت تحظى به قيمة الاستقرار وبدأت النظرة إلى العالم من خلال منظور زمني تطغي على تلك التي تنظر إليه من خلال الاعتبارات المكانيّة».
1ـ الخطاب الاول، يتمثل في المرجعيّات الآتيّة:
1. 1 ـ الحضارة اليونانيّة الرومانيّة: في القراءات الغربيّة الحديثة والمعاصرة هناك تأكيد جازم على اعتبار أن تاريخهم يبدأ مع اليونان وهذا يعني تبرير تفوقهم الحضاري المعاصر على أنه تقدم له جذور وقاد هذا إلى اختراع المعجزة اليونانيّة من أجل غايات أوربيّة معاصرة وهذا جعل نقاد المركزيّة الغربيّة يذهبون إلى اعتبار اليونان اختراعاً أوروبياً فلقد تم اختراع اليونان المعجزة على وفق أُنموذج التأصيل الغربي الساعي إلى تجسيد «وهم مركزيّة»، ذاته المتعاليّة وتمت عمليّة إعادة كتابة التاريخ الغربي باعتباره نتاج مميزات الرجل الأبيض كما أعيدت كتابة تاريخ اليونان بوصفها الأصل المعرفي والثقافي والحضاري لهذا الرجل عبر عمليّة تملك ومصادرة لتراث الحضارة اليونانيّة.وهذه هي الإمبرياليّة التي أشار إليها إدوارد سعيد في كتابة الثقافة والامبرياليّة وهوينتقد الصفاء العرقي ويؤكد بالمقابل (إنّ أيّة ثقافة لم تعد إلا خليطاً من أصول ومكتسبات جديدة) لكننا نجد أنّ هناك من يعتد بالمنجزات اليونانيّة، حتى إنّ المنجزات حديثة في حقوق الإنسان حاول مؤرخوالأفكار إرجاعها إلى أصول تعود (إلى الحضارة اليونانيّة الرومانيّة بوصفها تركز على الوعي الفردي القائم على الحريّة وحقوق الانسان، حتى عدّت تلك الصفات خلقاً مميزاً لهما وقد تميّز الانسان بوعيه الفردي القائم على إدراك الإنسان وحريته وحقوقه ومسؤوليّته الشخصيّة). على الرغم من كونه «لم يشك في حقيقة أنّ الإغريق كانوا تلاميذ المصريين الذين كان لأبناء عصر النهضة اهتمام بهم يعادل الاهتمام بالإغريق إن لم يزد عليه. لقد أعجب أبناء عصر النهضة بالإغريق؛ لأنّهم حافظوا على قسم بسيط من هذه الحكمة القديمة ونقلوها إليهم )» ومن ناحيّة ثانيّة إن عدداً من «إغريق القدماء كان يجمع بينهم شعور يشبه كثيراً ما يمكن تسميته الآن بالقوميّة....لكنّ هذا الشعور كان يقترب (في الوقت نفسه) باحترام حقيقي وفعلي كان يكنه الإغريق للثقافة الأجنبيّة، وبخاصة تلك التي قامت في مصر وفينيقيّة وبلاد الرافدين، وعلى أي الأحوال فإن ضآلته بالمقارنة مع الموجة الطاغية للشعوبيّة والعنصريّة اللتين اقترنتا بعقيدتي (أوربا الشماليّة) و(الشمال)، وهما اتجاهان اجتاحا شمال أوروبا مع ظهور الحركة الرومانسيّة في أواخر القرن الثامن عشر».
1.2 ـ الحضارة المسيحيّة: على الرغم من تأكيد السرديّات الغربيّة على المرجعيّة اليونانيّة (في مجال التأمل العقلي) الرومانيّة (في مجال التشريع القانوني)؛ منحت الأصول المسيحيّة بوصفها إحدى مقوِمات الهويّة على الرغم من رفعها شعار العلمنة وحربها على الكنيسة لكنها أعطت للأصول المسيحيّة بوصفها أصولاً غربيّة تمييزاً لها من الأصول المسيحيّة الشرقيّة الأخرى فهنا تربط الهويّة بالعامل العرقي، على الرغم من أنّ المسيحيّة جاءت بديلاً من الوثنيّة الرومانيّة بعد حروب طويلة وعمليات إبادة للمسيحيين وأقامت الكنيسة مشروعيتها على تلك الأحداث وعلى أساسها أقامت قطيعةً مع كل التراث السابق بوصفه وثنياً ولهذا أقامت على أساس ثنائيّة ورثتها من التوراة على أساس شعب الله المختار وتاريخ النجاة نجده تمثّل في ثنائيّة: (مؤمنين / كافرين)، وهوفصل يعتمد على معيار الإيمان بالمسيحيّة من دون سواها من الأديان، ويتماشى مع الطبيعة التبشيريّة للمسيحيّة، التي شنت الحروب الصليبيّة على خلفيّة الصور الميتافيزيقيّة التي بنتها متخيلات التمركز اللاهوتي وتعاليمه الكنسيّة. وأول هذه التأويلات كانت لدى هيجل والآخر مع صاموئيل هنتجتن:
1-2-1 - أمّا هيجل فقد مزج بين العرق والدين على أساس جدلي إذ يرى أنّ «المسيحيّة تتضمن الحقيقة المطلقة يعني كذلك بالضرورة أنها دين الوحي أوالكشف، فهوالدين الذي يكشف فيه الإله عن نفسه تماماً على ما هوعليه أي بوصفه روحياً عينياً إذ تظهر الآن طبيعته الكاملة».وقد حاول تقديم تأويل فلسفي للمسيحيّة من خلال تركيزه على ثلاثة أجزاء هي: (مملكة الأب، ومملكة الابن ومملكة الروح)؛ لكنه كان ينظر إلى  المسيحيّة على «أنها تحوّلت إلى شكل آخر من اليهوديّة»؛ أسهم هيغل بأكثر مما فعله أي فيلسوف غربي حديث في تعميق صورة التمركز الغربي، القائم على أساس التفاوت بين الغرب الأسمى والأرفع عقلياً وثقافياً ودينياً وعرقياً، والعالم الآخر الأدنى والأوسط في كل ذلك، فصاغ بذلك غرباً يتربع على هرم البشريّة، ويدفع باتجاه تثبيتها في وضع يمكنه أن يظل في القمّة، ولعل لهذا أثره الواضح اليوم  في الأيديولوجيات الغربيّة الحديثة المختلفة التي تحكم العالم اليوم تجد – على الرغم من تناقضاتها العميقة - أصولاً مشتركة لها ومتطورة إلى هذا الحد أوذاك في الفلسفة السياسيّة الهيغليّة لا سيّما السياسي منه وكانعكاس للتناقضات العميقة التي عرفها الفكر السياسي الغربي ابتداء من النصف الثاني للقرن الثامن عشر الميلادي. إلى جانب الجدل الحاد الذي أثاره في مطلع القرن الحالي المنظّر الاستراتيجي الأمريكي فرانسيس فوكوياما عبر فكرته حـول ما أطلق عليه بـ(نهايّة التاريخ) زاعماً أنّ الهيغليّة تنبأت بالانتصار الحتمي وحتى الأبدي للعقل الأمريكي على أنه عقل كوني على النظم العقليّة الأخرى معتبراً أنّ طلائع ذلك الانتصار تمثّلت بسقوط جدار برلين وأثره في الإمبراطوريّة السوفيتيّة وولادة «النظام العالمي الجديد» متمثلاً بالسيطرة الكونيّة للنظام الليبرالي الرأسمالي بأنموذجهِ الأمريكي خاصّة، وهوما تراجع عنه لاحقاً، إنّه يستند في استنتاجاته تلك على تفسير خاص به لأطروحات هيغليّة حول هذا الموضوع.
1-2-2 - أمّا صاموئيل هنتنغتون (1927-2008م) فهوأيضاً من ضمن هذا الجدل الذي يحاول هوالآخر أن يؤكد هويته، فهويحصي ثماني خصائص هي: التراث الكلاسيكي مع الأغراب والرومان، المسيحيّة الغربيّة الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة، مستبعداً منها الأرثوذوكسيّة، اللغات الأوربيّة، الفصل بين السلطتين الروحيّة والدينيّة، حكم القانون، التعدديّة الاجتماعيّة، والمجتمع المدني، الهيئات التمثيليّة النزعة الفرديّة، وفي مقام الأثر المسيحي في الهويّة الغربيّة المعاصرة يسقط المؤلف من الذاكرة الحروب الطاحنة بين الكاثوليك والبروتستانت، وكأنها نوع من المشاجرات أوالخلافات....
حقبة الحداثة: لقد جاءت الحداثة من زاوية معرفيّة عبر تطوير طرائق وأساليب جديدة في المعرفة قوامها الانتقال التدريجي من «المعرفة» التأمليّة إلى المعرفة التقنيّة تتسم المعرفة التأمليّة بكونها معرفة كيفيّة، ذاتيّة وانطباعيّة..أمّا المعرفة التقنيّة فهي نمط من المعرفة قائم على إعمال العقل بمعناه الحسابي اعتماداً على التجربة والصياغة الرياضيّة وهنا نجد ما يذكره أولريش بيك الذي كان قد صاغ مفهوم «التحديث الانعكاسي» في كتابه الشهير «مجتمع‏ ‏المخاطرة‏: نحو‏حداثة‏ ‏جديدة». ويرى ‏بيك ‏في كتابه الشهير أن‏ ‏‏المجتمع‏ ‏الحداثي‏ ‏الأول‏ ‏الذي‏ ‏اكتمل‏ ‏نضجه‏ ‏في الغرب‏ ‏في‏ ‏القرن‏ ‏التاسع‏ ‏عشر الميلادي‏، كان‏ ‏نتيجة‏ ‏لـ‏ «‏آليّة‏» ‏ذات‏ ‏طابع‏ ‏جامد‏ ‏‏اكتسبتها‏ ‏حركة‏ ‏الحداثة‏ ‏الغربيّة‏؛ ‏بسبب‏ ‏نزوعها‏ ‏إلى‏ ‏نوع‏ ‏عملي‏ ‏غير‏ ‏أخلاقي‏، ‏ثم‏ ‏بسبب‏ ‏نزوعها‏ ‏النفعي‏ ‏الأناني‏‏. وعلاوة على ذلك يرى بيك أنّ فكرة التقدم تتراجع أكثر فأكثر بينما تتزايد أكثر فأكثر وبالنسبة نفسها تقريباً، إشكاليّة الخوف من التقدم. ويتوصل أولريش بيك في محصلة التحليل إلى حقيقة مدى التمركز على الذات الذي تمارسه الحضارة الغربيّة وكأنها حضارة «السيطرة» على الحضارات الأخرى، فضلاً عن كونها حضارة أوروبيّة وبيضاء وذكوريّة. على الرغم من أنّ الحداثة التي جاءت وريثة الإصلاح الديني والنهضة الأوروبيّة سرعان ما تحوّلت إلى سياسة التسلط وبدايّة النزوع الاستعماري الغربي إذ دُعم التمركز العرقي، وبرز إلى الواجهة معيار «التقدم» أو«المدنيّة» لفصل جديد بين الشعوب، إذ بدأ الغربي بصورة للتفوق والصفاء والقوة. ثم بدأت، في العصر الحديث، الحركة الأوربيّة التي تجلّت بإخضاع مجتمعات العالم وشعوبه للأنموذج الأوروبي، عبر مختلف أشكال الانتداب والاستعمار والسيطرة، ورأت القوى المسيطرة في الغرب الحديث ضرورة إخضاع الشعوب للأنموذج الغربي بوصفه أنموذجاً أمثلَ وأصلحَ لمختلف الشعوب، واحتل الغربي (الرجل الأبيض) فيه القطب الأول في ثنائيّة: المتقدم/ المتخلف التي شكّلت جوهر التفكير الميتافيزيقي الفلسفي الغربي الحديث. «فهي وحدها القادرة على استيعاب الديانات السابقة، فانصهرت فيها كل أشكال التعبير الديني فأصبح مضمونها هو الحق المطلق».
 حقبة ما بعد الحداثة: يثير (عبدالله إبراهيم) سؤالاً يثير مفارقة مهمة في هذا المجال بقوله: في خضم الجدل الجاري حول وعود الحداثة ومكاسبها، ووسط النقاش الذي رافق حركات ما بعد الحداثة في العلوم الإنسانيّة، ظهر مفهوم العولمة، ليضع مفهوم الحداثة أمام اختبار يهدف إلى التحقّق فيما إذا كانت العولمة وسيلة لتعميم نزعة الحداثة على مستوى العالم أو أنّها نزعة أيدلوجيّة من إفرازات التمركز الغربي الحديث؟.
الإجابة هنا تكمن بالتوظيف الأيديولوجي للعولمة التي تمارس سلطة أخلاقيّة وسياسيّة على الواقع الذي نعيشه.هنا كثير من الدراسات التي تحاول نقد ما بعد الحداثة من خلال ربطها بالتمركز الغربي المعاصر، لكنّ هناك دراسات تحاول التمييز بينها وبين الحداثة أومشروع الكونياليّة.وترجع عوامل الرفض للحداثة؛بفعل  ما كانت قد أحدثته إرادة القوة الغربيّة التي حاولت وتحاول الهيمنة؛ لهذا كانت هناك ردود فعلٍ اتجاه الحداثة وما بعدها خلقت مزيداً من العوائق أمّا الاتصال وتبادل الأفكار بين الغرب والشرق  وهذه دعت الشعوب في النهاية إلى اتِّخاذ مواقف وهي تؤكد الهويّةَ  «وبذرائع المحافظة على الأصالة والهويّة ظهرت ردود أفعال مناهضة للتغيرات الاجتماعيّة والقيميّة، ففي ظل توترات تجتاح العالم، وقوى إمبراطوريّة تريد إعادة تشكيله طبقًا لرؤاها ومصالحها، لجأت كثير من المجتمعات إلى الاعتصام بنفسها، وبقيّمها، وبثقافتها، وذلك في رغبة ملتبسة من الحمايّة الذاتيّة. ومن الطبيعي أن الرغبة في صيانة الذات ستؤدي إلى درجة من الانقطاع عن جملة التحوّلات الجاريّة في العالم، فيحل الرفض محل القبول، ويسود الخوف بدلاً من الأمان، والريبة مكان الطمأنينة، وتندلع نزاعات ثقافيّة بموازاة الصراعات العسكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة. وتصبح الحروب نوعاً من صراع الأفكار والثقافات. هذا السلوك خلق ثنائيّة بين الغرب والشرق فالغرب يتمثل في «السيطرة والإقصاء والاحتقار والحقد أوالرفض من الآخر... يمثل أحد اتجاهات الثقافة الغربيّة، بالمقابل الشرق هناك شعور جماعي عميق، بأننا، دائما ضحيّة الآخر...» كل هذا كان لابد وأن يدفع إلى مراجعة نقديّة لهذه الصور التي نشكِلها عن الآخر سواء كانت غربيّة أو شرقيّة.ولعل هناك تيارات كثيرة حاولت من أن تقيم تجربة العلاقة بالغرب وتمثلاتهِ عن الشرق وهو ما يدخل «الاهتمام بالمكان، والإزاحة عن المكان ملمحاً رئيساً من ملامح آداب ما بعد الكونياليّة، وهوما يعني هنا ظهور أزمة خاصّة ما بعد الكونياليّة تتعلق بالهويّة والاهتمام بتطور أواستعادة علاقة فعّالة بين الذات والمكان لتحديد الهويّة. تلك المراجعة سواء كانت غربيّة أو عربيّة فعلى الصعيد العربي هناك اتجاهان، وهذا ما أشار اليه عبد الله إبراهيم بقوله: »التصور المنهجي الأوّل يقتصر على استعمال المعرفة في هذا التصور على هويّة البنى المجتمعيّة التاريخيّة التي انتجتها. كما تتم إدانة المعرفة الغربيّة، ويرتفع الصوت بضرورة إنتاج معرفتنا الخاصّة...لا يقتصر هذا التصور على أصحاب المواقف «السلفيّة» بل يخص أيضاً أصحاب المواقف «العصرانيّة» الذين يدعون إلى تبني الأُنموذج الغربي بوصفه أُنموذجاً للعصر كله، والتصور المنهجي الثاني يتخطى استعمال المعرفة كهويّة للبنى المجتمعيّة التاريخيّة التي أنتجتها...».
المبحث الثاني:
نقد المركزيّة الغربيّة
هناك كثيرٌ من الدراسات التي ظهرت وحاولت إعادة تقويم العلاقة مع الغرب وما تركته تلك العلاقة من آثار في الذات بفعل سياسة الآخر الغربي الذي كان يعني كما مر بنا من التمركز حول الذات والاستعلاء على الآخر، وقد عرفت هذه الدراسات بأنّها كانت (تعني الدراسات الثقافيّة بتحليل العلاقة المتبادلة بين التحولات الاجتماعيّة والتحولات القيميّة، فثمة جدل عميق بين الطرفين، فكل تحول في البنيّة المجتمعيّة يعقبه تحول في نظام القيّم، كما أن انبثاق أيّة أنظمة قيميّة جديدة سيتبعه تغيير في التشكيلات الاجتماعيّة الحاضنة لها، مع الأخذ بالاعتبار أنّ القيّم نفسها نسق ثقافي من الرموز، والمعاني، والعلاقات، والتصورات. وإذا كانت هذه التحولات بطيئة في الماضي؛ بسبب العوائق الجغرافيّة، وصعوبة الاتصال، فقد جرى تذليل ذلك كله في عالم أصبح خلال العقود الأخيرة شديد التواصل بين أطرافه، فشرع يتبادل الأفكار بيسر وسرعة.ولكن ثمّة عوائق ثقافيّة جديدة استجدت، فلم يعد تبادل الأفكار، والقيّم، ميسوراً بالدرجة التي نتصورها، إذ نشأت حدود رمزيّة فاصلة بين المجتمعات؛بفعل النزاعات السياسيّة والدينيّة والثقافيّة. وبذرائع المحافظة على الأصالة والهويّة ظهرت ردود أفعال مناهضة للتغيرات الاجتماعيّة والقيميّة، ففي ظل توترات تجتاح العالم، وقوى إمبراطوريّة تريد إعادة تشكيله طبقًا لرؤاها ومصالحها، لجأت كثير من المجتمعات إلى الاعتصام بنفسها، وبقيمها، وبثقافتها، وذلك في رغبة ملتبسة من الحمايّة الذاتيّة) .
ما نفهمه من هذا النص أنّ العلاقة التي كانت قائمة على التثاقف أي تأثير الغرب في عادات  المنظومة الاجتماعيّة وتقاليدها في أثناء غزو المناطق العربيّة والإسلاميّة تركت تأثيرها في تشكيل عالمنا، لكن عالمنا قاوم الاستعمار وأعاد إحياء هويته؛ نتيجة السياسات الغربيّة القائمة على الإقصاء والتعالي على الانسان في عالمنا، وكان لابد من أن تدفع الإنسان العربي والمسلم إلى (أنّ الرغبة في صيانة الذات ستؤدي إلى درجة من الانقطاع عن جملة التحولات الجارية في العالم، فيحل الرفض محل القبول، ويسود الخوف بدل الأمان، والريبة مكان الطمأنينة، وتندلع نزاعات ثقافيّة بموازاة الصراعات العسكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة. وتصبح الحروب نوعاً من صراع الأفكار والثقافات).
إن الترتيب المكاني والزماني للمعرفة يمكن أن يتّخذ شكلاً عن علاقات القوة بصورة مقصودة أوغير مقصودة. فالمعرفة التي نشأت في أوروبا سيتولى حشدٌ من المتعلمين تصدير كبار مثقفي أوروبا وما توصلوا إليه من أفكار مؤسسة على المعرفة إلى الدول المستَعمَرة، وهوما يجعل استعمار العمليّة الإدراكيّة للتجربة اليوميّة التي سوف تتكرر في قاعات الدراسة الاستعماريّة، يؤدي بكثير من العبارات والأفكار إلى أن تتحول إلى جزء من الحيــاة الفكريّة اليوميّة في أفريقيا لقد وجهت كثير من النقود إلى المركزيّة الغربيّة، النداءات الأولى جاءت من أوروبا ومدارسها النقديّة قبل أن تتعالى أصوات من ثقافات وجغرافيّات مختلفة المرجعيات ومتباينة الأنساق. من جنوب أميركا اللاتينيّة وإفريقيا، ومن الشرق والبلاد العربيّة، التي تجد نفسها وثقافاتها على الهامش مستبعدة، ووعيها بالذات معرقَلاً؛بفعل المركزيّة الغربيّة وإكراهات العلاقة مع الثقافة العربيّة. وإذا راجعت الثقافة العربيّة باستمرار علاقتها بالآخر، فقد تساءلت عن معنى التثاقف وشروط العلاقة الثقافيّة المتوازنة بين الذات والآخر. وعلى الرغم بعض الانتكاسات ومظاهر الاختلاف  والتماهي التي كان حجة لاشتغال ونقد التفكيكيّة والكتابات ما بعد الكولونياليّة، بغرض محوها وتبني قيّم الاختلاف وتحيين مفهوم الهويّة بفعاليّة الوعي والانتماء للزمن، فقد ترسّخت بعض أشكال الممارسة النقديّة في الفكر العربي المعاصر، وتوسَّع أفق الحوار ليفتح خارج الذات في ماضيها وإشكالاتها الراهنة والى الآخر الغربي في صلته بهذه الذات وإكراهاته التي تلتزمها بوصفها مركزيّة مهيمنة.  ومن هذه النقود جاء نقد عبدالله إبراهيم وقد أرجع ظاهرة التمركز ونزعتها حول الذات الغربيّة إلى مجموعة من الأسس والمرتكزات التي قلّل حضورها وفعاليتها في الفكر والفلسفة الغربيين من ضمن أبواب الكتاب والذي بدا في أكثر من مناسبة جرداً فلسفياً و/أو تاريخ أفكار حول موضوع «المركزيّة»! فهويعود بها الى:
مرتكزات علميّة وعقليّة تمثلها في انتقال أوروبا من الفكر اللاهوتي إلى السيطرة على الطبيعة على وفق أسس علميّة وأطر المعرفة العقلانيّة التي هيأت منذ الكوجيتو الديكارتي أنا أفكر فأنا موجود الوعي بالذاتيّة الغربيّة. فقد تشكّل التمركز الغربي من عناصر،وفي مستويات عديدة مسّت الشعور والوعي الفردي والمجتمعي، وجعلت من ممارسات العقل ومظاهر التعبير الفنيّة والفلسفيّة والدينيّة متمحورة حول الهويّة الغربيّة. في اعتبارها نسقاً ثقافياً هو غايّة الإنسانيّة أوضرورتها التاريخيّة من أجل التقدم. وها هو ذا هيغل باعتباره مؤرخاً للذاتيّة الغربيّة وأحد بناتها العظام، فيلاحظ الكاتب، أنّه يسهم أكثر مما فعل أي فيلسوف حديث في تعميق صورة التمركز الغربي القائم على أساس التفاوت بين الغرب الأسمى عقلياً وثقافياً ودينياً وعرقياً،وبين العالم الآخر الأدنى والأحط في كل ذلك”.
 مرتكزات فكريّة صرف، من دون إدّعاء ولا سند من تقدم المعارف والعلوم، تعود إلى الفلسفة اليونانيّة القديمة والتي عُدّت مقدمةً ضروريّةً وصارخةً لنوع من المركزيّة الفلسفيّة اليونانيّة. فبقدر ما تأصلت عن هذه الأخيرة قيم النظر العقلي، بقدر ما تمثلتها أمكنة لترسيخ المركزيّة الفلسفيّة التي أعدمت على يد الثالوث: (سقراط، أفلاطون، أرسطو)، التراث الشفاهي كله الذي سبقها أوخالفها سواء أكان يونانياً شفاهياً، أم آتياً من شعوب وثقافات البرابرة، هوما يشكل مدعاة تساؤل عن أصول الثقافة اليونانيّة والشرقيّة منها بالخصوص، وعن الاستراتيجيات التي أتبعت لإقصاء المختلف والغريب عنها.
 مرتكزات عرقيّة تقول بوجود طبائع محدّدة وخاصة تقف سبباً وراء الحضارة الغربيّة. بل وتقيم من خلالها نظاماً تراتبياً للشعوب والثقافات يحدد تاريخها ونظرة الأوروبي اليها، كما يفسر حظها اواستحقاقها من الحضور والفعل الانساني. إذ تتجلّى نزعة التمركز العربي في رغبة الذاتيّة الأوروبيّة في الهيمنة على الآخر وتصنيفه من ضمن قوالب وصور أبديّة مثل: (الهندي الأحمر، الزنجي الأفريقي، أو الإنسان الشرقي المختلف). «والحال إنّ فكرة التفاوت أصبحت فلسفةً لها بُعد اجتماعي وسلوكي، أدّت إلى انقسام عميق في الفكر الانساني».
 كما أدّى «التمركز الديني» دوراً في تثبيت الهيمنة الغربيّة على فلسفيّة التعاليم والاستغلال الكنسي لقيّم المسيحيّة. قد يكون هذا التمركز استمراراً للعصور الوسطى، بيد أنّه حكم على علاقات الدول الأوروبيّة بمستعمراتها بعد الاكتشافات. فقد كان ضمانةً للأنموذج الغربي واستمراره في مجتمعاتها، تم توظيفه وتكييف وظائفه مع العقل الحديث المتمركز حول أوروبا والذاتيّة الغربيّة.
ويمكن إجمال تلك التجارب بذكر نوعين من أنواع التمركز الغربي الأوّل منهما في الحقبة الكونياليّة والثانيّة معاصرة ارتبطت بحقبة العولمة:
أوّلا: الخطاب الاول «الاستعلاء العرقي في  المركزيّة الغربيّة»:
 في بحثنا عن جدليّة العلاقة بين الكونياليّة التي جاءت بعد الحداثة نجد أن هناك  تعاضداً بين الحداثة وعلومها والسلطة الغربيّة التي كانت تمثِّل إرادة القوّة والهيمنة على العالم ولعل هذا تمثّل في أبرز النظريات التي تفضح الاستعلاء العرقي ممثّلاً في نظريّة: «الدارونيّة والتفوق العرقي».
إنّ تمظهرات هذا الاستعلاء العرقي نجده يظهر بأشكال متنوعة لكنها تنطلق من توظيف العلوم توظيفاً من أجل تأكيد تفوق العرق الغربي على غيره وهذا ما منحته نظريّة التطور وطابعها العرقي وقد تم رصد أشكال متنوعة من هيمنة الغرب في تلك الحقبة.
أوّلها، وقد كانت البدايّة في عام 1883م، قدِم فرانسيس جالتون (ريب داروين) وقد كانت كلمته المميزة هي «تحسن النسل» وكان مصدرها الإغريقي يعني «أحسن منذ الولادة» أو«نبيل بالوراثة» وعرف هذا البحث «بحث تحسين النسل بأنه علم تحسين السلالة البشريّة بإعطاء السلالة الأفضل أو أنواع الدماء المميزة  فرصة أفضل للسيادة».
كان جالتون يرى أنّ العلم معادل للتقدم وغير قابل للانفصال عنه وإنّ البشر قابلون للتحسن، فإذا كان مولدو النباتات يحسِّنون سلالات النباتات، أليس من الممكن إنتاج أنواع متميِّزة من البشر باختيار الأزواج المناسبة خلال أجيال قليلة؟ كان الفرض العلمي خلق هذا التساؤل، هو أنّ أغلب الخواص البشريّة موروثة. وكانت وجهة نظر جالتون مستمدة من إمكان تخطيط الانتقاء الطبيعي والتطور يقول جالتون إنّ العمليات التطوريّة هي في حالة تغيير مستمرة، بعضها لما هوجيد، والأخر للعكس، وإنّ واجبنا هوالتدخل عند  اللزوم بتشجيع التغيرات  الجيدة، وإحباط التغيرات السيئة أو الحد منها ولم تكن التغيرات البيولوجيّة، وهي فقط الموروثة في رأي جالتون، بل كان التشرد، وصف العقل، والتخلف الذهني والجنون أيضاً موروثين، ولكنّ هذه الأفكار انتشرت بفعل تأييد كارل بيوسون عالم الإحصاء المشهور في جامعة لندن والأمريكي شارلز دافنبورت الذي زعم في دراساته للسلالات البشريّة، أن بعض الأجناس ضعيفة العقل بطبيعتها، وأن الأجناس تختلف بعضها عن بعض ثم إنّه أقنع مؤسسة كارنيجي بإنشاء معمل (كولدسبرينج) لدراسة التطور البشري. وكانت إحدى نتائج انتشار تنظيم التناسل هواستعمال التعقيم ويقدر أنّه بين عامي (1907-1927م) عقم حوالي 9000 شخص في الولايات المتحدة باعتبارهم ضعاف العقول، وفي قضيّة مشهورة عام 1927، حكم القاضي أوليفر وندل هولمز Windel Holmes  بصحة التعقيم بوسائله المختلفة بما فيها قطع قناة فالوب، وله مقوله شهيرة هي أنه «يكفي ثلاثة أجيال من  المعتوهين».
والثانيّة، وقد تصاعدت هذه المطالب مع النازيّة التي ادّعت بأنّ الجنس البشري يختلف بعضه عن بعض، بأنّ ما يجعل اليهودي يهودياً والغجري غجرياً، وعدوالمجتمع عدواً للمجتمع، والمختل عقليا مختلاً عقلياً هوما يجري في دمائهم (أي جيناتهم )، ومن الصعب إنكار أن هذا المفهوم النازي قد نتج من حركة تحسين النسل، ففي عام 1932م أصدر مجلس وزراء هتلر «قانون التعقيم لتحسين النسل، وهويجبر أي مصاب بأي مرض وراثي على قبول التعقيم   إذ كانت أرنت ترى أنّ السياسة يصعب تحديدها أنطولوجياً؛لأنّها ليست كامنة في ذات الإنسان كما ظنّ أرسطو، بل تتجلّى في العلاقات بين الناس وتوجد في فضاء خارج الإنسان-الفرد، وهي سياسة أقدم في الخطاب الاستعلائي الألماني اذ ارتكب الجيش الألماني إبادة بحق قبيلتين في ناميبيا بين (1903 - 1908م)، بلغ عدد ضحاياها 80.000 شخص. والذين نجوا من الموت توفوا من جرّاء المرض أوالتعذيب.
الثالثة، طوّر مفكرو الداروينيّة الاجتماعية في أوروبا موقفاً لا أخلاقياً تجاه المجتمع الإنساني، كان من شأنه اتخاذ خيريّة العرق الأوروبي الأبيض على غيره من الأجناس البشريّة معياراً أوحد للسياسة العامة والطهارة العرقيّة، ترى الدارونيّة أنّ الأخلاق غير ثابتة في حين أنّ التطور هوالثابت، قدّمت للكثيرين فرصة العمل على تغيير المبادئ الأخلاقيّة؛بحجة نسبيّة الأخلاق وأنّها نتاج عرضي للتطور المادي وتغيّرت النظرة لقضيّة حرمة الحياة عموماً والحياة البشريّة. فحصل النازيون على التبرير العلمي للسياسات التي نفذوها عند وصولهم إلى السلطة، وقد نجم عن هذا الفكر ممارسات وحشيّة وقهريّة وظالمة ضد أولئك المعتبرين من عرق أدنى وراثياً، كالإبادة والتصفيّة العرقيّة والتجارب على البشر وتحسين النسل. كما برّر هذا الفكر للغربيين استعمارهم  لشعوب العالم وسيطرتهم عليه بمختلف الوسائل سواء أكانت عسكريّة أم ثقافيّة، أوفنيّة، أواجتماعيّة، من دون الحاجة إلى وجود مسوّغات مقنعة بدعوى أنّ هذه الشعوب متخلِّفة وأهلها في أسفل السلسلة البشريّة.
الخطاب الثاني: العولمة والتمركز الغربي:
تعد العولمة شكلاً جديداً من أشكال المركزيّة الغربيّة حول الذات ومحاولة الغرب المستمرّة  لإخضاع الآخر إلى إرادة الغرب، وحين نبحث عن تعريف العولمة نجدها (بالإنجليزيّة: Globalization) طبعاً هذه الظاهرة الجديدة استثمرت ممكنات العلم والتقنيّة والإعلام في إشاعة أفكارها وقيّمها الاستهلاكيّة وهذا ما مكّنها من اكتساح أسواق العالم وقد شجعت على الاستثمار والانتقال الحر لرؤوس الأموال من دولةٍ إلى أخرى، مما جعل تأثيرها يزداد اجتماعياً في ظل الإعلام الحر والانفتاح في تبادل المعلومات مما جعلَ( شركات متعددة الجنسيّات هي الوسيلة الفعّالة لنقلّ المعلومات، ورؤوس الأموال، والسلع بين الدول؛ إذ اتّخذت هذه الشركات العالم كله ليصبح مكاناً لتطبيق عملياتها الخاصّة في التسويق والإنتاج).
وبالآتي تسعى هذه الظاهرة إلى تعزيز التكامل بين مجموعة من المجالات الماليّة، والتجاريّة، والاقتصاديّة وغيرها، كما تسهم العولمة في الربط بين القطاعات المحليّة والعالميّة؛ من خلال تعزيز انتقال الخدمات، والسلع، ورؤوس الأموال،  ثم إنّها عمليّة تطبقها المنظمات، والشركات، والمؤسسات بهدف تحقيق نفوذ دوليّ، أوتوسيع عملها ليتحول من محليّ إلى عالميّ.
إنّ العولمة هي ظاهرة الانتماء العالمي بمعناه العام، وهي تعبير مختصر عن مفاهيم عدة، فهي تشمل الخروج على الأطر المحدودة، وهي تعني: «الكوكبيّة» أو«الكونيّة» أو«سيادة الأنموذج الرأسمالي» وهيمنته على العالم؛ لكنّ هذا التعريف لا يمكن من أن يغيب عنّا ما قاله «أولريش» ـ كما سبق تناوله فهناك نزوع يرجع العولمة إلى جذورها الأداتيّة ونزوعها النفعي الاستهلاكي الذي يتعارض مع الأخلاق وينزع إلى التمركز حول الذات وإجبار الآخر على فتح أسواقه في ظل مقولات ما بعد الدولة الوطنيّة إذ أخذت شركات متعددة الجنسيات والتي تهيمن عليها وتدعمها الدول الكبرى تخلق مزيداً من العجز لدى الدول الممانعة وتجبرها على فتح أسواقها أمام العولمة وإلّا تعرّضت إلى العقوبات.
إن أهم عوامل ظهور العولمة بالمعنى المعاصر انفراد الكتلة الغربيّة في الساحة العالميّة، وتطلب النظام الاقتصادي الرأسمالي التدويل والتعولم، كما أن أهم أهداف العولمة المعاصرة هو: سيادة النظام الغربي، وهيمنة الأفكار الغربيّة وثقافتها، فجوهر عمليّة العولمة يتمثل وبصورة خاصة في تسهيل حركة الناس، وفي انتقال كل واحد من المعلومات والسلع والخدمات على النطاق العالمي.
إنّ النظام الاقتصادي الراهن، المعزّز بالهيمنة السياسيّة للغرب، يُمثّل مرحلة جديدة من مراحل التطور السريع للسياسة الماليّة، ويجسّد صفحة حديثة من صفحات الاقتصاد الرأسمالي العالمي وقد تسمى هذه الصفحة وهذه المرحلة باسم: (العولمة) وهوقد يتّسم بخصائص عديدة من أهمها:
1: ازدياد دور الشركات متعددة الجنسيات في الاقتصاد العالمي بعد سقوط نظام بيريتون، وودز.
2: ازدياد أهميّة مؤسسات العولمة الثلاث والتي تتكون من: (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والمنظمة العالميّة للتجارة).
3: تعريف مراكز القوى الاقتصاديّة العالميّة بالتغيير الأكيد المتدرج.
4: تحويل هيكليّة الاقتصاد العالمي وتبديل سياسات التنميّة العالميّة وتغييرها.
5: تقهقر أهميّة مصادر الطاقة التقليديّة والمواد الأوليّة في السوق العالميّة وتراجعها.
وبالآتي انطباع كل هذه البنود الاقتصاديّة المذكورة وغيرها مما لم نتعرض لها للاختصار ومخافة التطويل بالصبغة السياسيّة وتحكم العولمة السياسيّة بها، وهيمنتها عليها.
وهذا من أسباب بروز العولمة السياسيّة الغربيّة. إذ لا يخفى أنّ العولمة الغربيّة باللغة العصريّة وبالمفهوم المعاصر أصبحت بمعنى الأمركة، وهي تعني سيطرة الغرب وهيمنتهم، والتحكم  بالسياسة والاقتصاد والتلاعب بهما، وفي مختلف البلاد والعباد، بل قد أخذت تمتد وتمتد لتطال ثقافات الشعوب بأجمعها، وتنال من الهويّة الوطنيّة بأسرها، إنها طفقت تسعى جادةً إلى تعميم أنموذج من السير والسلوك، وأنماط من الأخلاق والآداب، وأساليب من العيش والتدبير، تتوافق مع الثقافة الغربيّة، وتنسجم مع ميول المستعمرين، لتغزو بها ثقافات مجتمعات أخرى، وهذا لا يخلومن توجه استعماري جديد، في احتلال العقل والتفكير، وتسيير العقل والعواطف بعد الاحتلال وعلى وفق أهداف الغازي ومصالحه الشخصيّة، وقد أشار الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، إلى ذلك وأكّده حين قال في أجواء الاحتفال بالنصر ومناخ الاحتشاد من أجل الظفر في حرب الخليج الثانيّة: إن القرنّ القادم سيشهد انتشاراً للقيّم الأمريكيّة وأنماط العيش والسلوك الأمريكي.
لكن يبدو أنّ الأمر في الغرب نفسهِ يعيش حالة من نقد العولمة إذ يشير أولريش بك إلى هذا برصده ملامح هذا التحول الذي يعيشه الغرب وآثاره في الدولة الوطنيّة في الغرب فيقول: «إن المسيطرين على النموالاقتصادي، الذين يتقرب إليهم الساسة، يقوضون سلطة الدولة حين يطالبون بخدماتها، ولكنّهم يمنعون عنها الضرائب...» ثم يشير إلى حقيقة العولمة وآثارها الاجتماعيّة بقوله: «إنّ النموالاقتصادي لم يزد إلا في ثراء الأثرياء، الذين يشكلون عشرة في المائة من بين السكان، لقد استلم  هؤلاء العشرة في المائة نسبة ستة وتسعين من المائة من الثروة الإضافيّة» ويخلص إلى نتيجة مفادها: «يبدو أنّ العولمة تحطم الاتفاقيّة التاريخيّة بين اقتصاد السوق والدولة الاجتماعيّة والديمقراطيّة، التي كانت حتى الآن الأنموذج الغربي الذي دمجه مشروع الدولة الوطنيّة للحداثة وأثبت مشروعيته».
الخاتمة:
وهي تعني  أنّ الغرب وفي قلبه أوروبا هومركز العالم‏، والمنتج الأوحد للقيّم الإنسانيّة‏ ،‏ والحكم المطلق وفي وضع وتقنين معايير التقدم والتخلف‏، والمرجع الأوحد في تسجيل انتقال شعبٍ ما أو ثقافةٍ محدّدة من البربريّة والهمجيّة إلي المدنيّة.
على الرغم من أن تقدم الشرق وبربرية الغرب بحسب ما مر بنا إذ إن «منذ أبد الآبدين أوما يقارب ذلك، كان هناك شرق متوسطي آهل بالسكان وغني بحضارته القديمة جداً، وتنشطه صناعات كثيرة، وعالم غربي ـ تماشياً مع المبدأ نفسه للغزوالروماني ـ أوغرب بعيد إذا أردنا Far West  «وهوغرب متوحش وربما غير مثقف». اذاً هكذا كانت البداية في تصوير الذات بالمقارنة مع الآخر وهي ليست.
مع أن تلك التصورات ذات طابع عرقي إذ تم كشف الممارسات التي تحكم جملةً من النظريّات الثقافيّة ذات أبعاد عرقيّة في نظرتها إلى ذاتها وتميزها عن غيرها.
فهذه الانحيازات الثقافيّة، بمعنى أنها تفترض وجود ثوابت ثقافيّة مميّزة تشكل المسارات التاريخيّة للشعوب المختلفة. لكنها تقدم نفسها كونيّةً؛ لأنّها تزعم أن تقليد الشعوب كلها الأنموذج الأوروبي هوالحل الوحيد لتحديّات عصرنا.
لكن نستطيع أن نقول إن التمركز الثقافي والعرقي قديم، فإنّ أصول التمركز يمكن الرجوع فيها إلى اليونان إذ يتعلق الأمر بالتقسيم اليوناني للعالم إلى «إغريق» برابرة» أوبعبارة أخرى، إلى «أحرار بالطبيعة» عبيد بالطبيعة».
لكن النتيجة التي يمكن أن نستخلصها من التصورات السابقة هي أن الأمر ليس أكثر من كونه مخيالاً إذ لا وجود للشرق خارج رؤوس الغربيين، فالغرب فكرة تسكن الغربيين كما تسكنهم فكرة الطرف النقيض.