البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الغير بين سارتر وبوحديبة ، تضاد الرؤية والمنهج

الباحث :  محمد سيد عيد
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  10
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  2235
تحميل  ( 323.472 KB )
تبني هذه الورقة المقارنة فرضياتها على أطروحتين: الأول للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في "الوجود العدم" ومؤاداها: «إن الغير يسترق مني وجودي وبالتالي حريتي..
 إن الغير يسلبني امتلاكي لنفسي».
أما الثانية فهي للمفكر العربي التونسي عبد الوهاب بوحديبة وتفيد أن «للغيرية معانيَ ومستويات متعددة غير قابلة للانفصال  عن أي تجربة إنسانية ولا تغدو سلبية إلا إذا كانت فاقدة المحبةَ».
كيف يظهر الغير والغيرية عند كل من سارتر وبوحديبة وما  عناصر الوصول والفصل بينهما؟
في ما يأتي مسعى للإجابة النقدية في هذه الورقة.

المحرر

لم يكن من قبيل المصادفة أن نقارن بين ثقافتين متباعدتين أوبين مفكرين من ثقافات مختلفة. فإذا تحدثنا عن المفكر التونسي عبد الوهاب بوحديبة نقول إنه المفكر والسسيولوجي، الذي تربى في كنف الثقافة الفرنسية وتأثر بها وبمفكريها والذي يبدو واضحًا من كتاباته. فقد تأثر بكل من ميرلوبونتي وريكور والذي كان متابعًا لمحاضراتهما، وأيضًا باشلار، وكذلك تأثره بسارتر كما سيتضح.
إن أثر الثقافة الفرنسية في بوحديبة وأثر مفكريها فيه لا يمكن إنكارهما، فهي التي أسهمت في تكوين فكره، وليس أدل على ذلك من أن معظم كتاباته قد كتبها بالفرنسية. ولكنه على الرغم من ذلك يحاول أن يتجاوز هذه الثقافة، بل أحيانًا يحاول استخدامها في تحليل ثقافتنا العربية. وهذه المحاولات نجدها في العديد من كتبه، فنجدها ـ على سبيل المثال ـ في أشهر كتبه وهو«La sexualite en Islam» (الجنس في الإسلام) والذي يرتفع فيه صوت كل من ميرلوبونتي وباشلار. وكذلك نرى محاولة أخرى، وهي ما سنتعرض إليها، وهي في كتابه «القصد في الغيرية» والتي يتعالى فيها صوت سارتر في الفصل الأول من الكتاب.
في ذلك الكتاب الأخير يبدأ بوحديبة من منطلقات فرنسية وينتهى بتحليل للتجربة العربية. مع أن آخر صفحة في هذا الكتاب تعرف «الغيرية» على أنها «قصد» بالمعنى الذي يقصده هسرل من هذه الكلمة. ربما محاولة لتبني المعاني الفنومنولوجية والوجودية في تحليل التجارب العربية. فهل هي محاولة للاستعانة بالغرب وبمصطلحاته لتحليل تجاربنا، أو أن الثقافة التي عاشها بوحديبة هي التي فرضت عليه هذا النوع من التحليل؟! ما المنطلقات في ضوء الازدواجية وما النتائج؟! ذلك ما سنحاول الوصول إليه في ضوء تلك المقارنة من خلال مفهوم شديد الخصوصية لدى كلا المفكرين.

يبدأ بوحديبة حديثه قائلاً:
«لابد أن نتعرض بادىء ذي بدء لإشكالية الغير الكلّية. نحن نولد جميعًا في الغيريّة ونثبت ذاتنا في نطاق الغيرية»، نحن نولد في عالم اجتماعي نحن» تعني أن هناك غير هو أيضًا له «نحن» والإنسان في جوهره غيري للغير. ربما يبدو ذلك المدخل وجودياً فالغير قابع فيَّ فهو يتدخل في تكويني. إن ما يؤكد وجودية هذا المدخل هوالاستعانة بالعديد من نصوص سارتر من «الوجود والعدم».
يشكل الغير خصوصية شديدة عند كل من سارتر وبوحديبة، فالغير مفروض عليَّ ولا فكاك منه فهي طبيعتي. فالغير لديهم هوالآخر أي الذات التي ليست أنا. فمنطوق كلمة «أنا» يعني أن هناك «آخر». ذلك الآخر المتعايش معي والذي يحد من حريتي دائمًا مُشكل بالنسبة لي «الجحيم» من شأني أن أتعايش معه وأن أحقق تلك الاستقلالية للذات. ثمة ثنائية هنا تواجه الإنسان في محاولة تعايشه في هذا العالم، هذه الثنائية والثنائيات التي تليها نجدها في دلالة العديد من المصطلحات من بينها مصطلح «Mitsein» (الوجود مع)، ومفهوم الغير، ومصطلح «In-der-welt-sein» (الوجود-في-العالم)...إلخ. وعلى الرغم من تجاوز بوحديبة سارتر ونقده له والذي يبدو تحليلاً للظروف التي عاشها سارتر، لكنّ كلا المفكرين يعترف بالثنائيات المتضمنة داخل مفهوم «الغير».
ثنائيات عديدة إذن نجدها في مفهوم الغير. فهويعني فيما يعني أن هناك أنا وآخر، وهناك محاولة لاستقلالية الذات لكل منهما ولكنها قد تبوء بالفشل. فالغيرية هي تعايش بين طرفين، وكلا الطرفين يتشكل بينهما علاقة من نوع ما. ربما يبدي لنا سارتر أن هذه العلاقة هي النظرة أوالخجل أوالاستلاب للحرية، هي على العموم علاقة الضد لدى سارتر لا يمكن أن يتم فيها استقلالية الذات لأنني لا أعرف ذاتي إلا بذلك الآخر، إلا عن طريقه ومن خلال نظرته لي. ذلك صحيح ولكن هل سيظل هذا الآخر عقبة أمام تحقيق ذاتي واستقلاليتها؟ هل يمكن على الإطلاق الاستغناء عن مرآة الآخر لرؤية ذاتي؟ ومتى سيكون هناك مرآة خاصة بنا؟! 
ما الذي أدى بنا إلى وضع مثل هذه التساؤلات السابقة. إنه التصور السارتري الذي يقرؤه بوحديبة قراءة سسيولوجية، على أن هذا التصور يجب أن نربطه بتصور كلي وهو النظر إلى الظروف التي نشأت فيها الوجودية عمومًا والنظر إلى ما عاصره سارتر من أحداث سياسية. «ألم يقتصر «سارتر» على التعبير بطريقته العبقرية على حدث عاشه شخصيًا في مناخ الحرب العالمية الثانية ثم في أعقاب هذه الحرب؟ ففي ذلك الظرف برزت مجددًا أزمة حقيقية للضمير الإنساني شهدت بها الوجودية شهادة قلقة ومتبصرة. ومع رفض الأنا الذي يصعب الدفاع عنه ومع الاحتراس من الوقوع في الشرك، أصبح من الصعب إقامة علاقات صداقة مع الغير والشعور بأن وجوده مُعطى إيجابي من المعطيات التي بها يتم تحقيق الذات».
يحلل بوحديبة في النص السابق موقف سارتر من الآخر بوصفه عالم اجتماع، حيث تبدوهنا التحليلات في ضوء الظروف السياسية التي عاصرها سارتر في أثناء الحرب العالمية الثانية. حيث كانت تلك المدة هي فترة احتلال ومقاومة من الدول الأوروبية وهوما أدى بسارتر والعديد من المفكرين والشعراء والكتاب وقتها إلى التساؤل عن العلاقة مع الآخر وطبيعة العلاقة معه. فيحاول بوحديبة أن ينظر إلى هذا الموقف من الغير نظرة كلية، إنها نظرة إلى الدوافع والأسباب وراء كل هذا التصور السوداوي للآخر. وبالتالي فهذا التصور للآخر في ظل الظروف يحملنا إلى سؤال الهوية والغيرية، وهوما أدى بسارتر إلى حالة من الغثيان في الرد على مثل هذا السؤال. ففي وسط هذه الجثث ووسط هذا الدم والدمار وأنا أقف على قدمي وأرى ماذا يحدث من هنا ومن كل مكان ومن اكتشافي هذه الحقيقة الغيريّة وحقيقة الوجود، حيث يتبدى لي وكأن «الكل عفوي، هذه الحديقة، وهذه المدينة وأنا نفسي. وعندما يحدث أن يتحقق المرء من ذلك وأن يحققه... فعندئذ يبدأ كل شيء يطفو... ذلك هوالغثيان» وسط هذه المتاهات بنى سارتر مفهومه عن الغير بوصفه ممثلاً لعلاقة الصراع والجحيم. فإما أن تقام الذات على إنقاذ الغير أويُشيد الغير على إنقاذ الذات. فلا وجود للأنا والغير في وقت واحد. وعلى العكس من ذلك نجد اعترافًا بالغير وحضوراً له: حضوراً يشارك الذات، التي ليست أنا مغلقة أوكوجيتو صورياً، بل هي  ذات منفتحة حية تفسح مجالاً للحوار مع الآخر.
إشكالية الغير لدى بوحديبة لا تنهض إلا في سياق كلي شامل لمتطلبات العصر وظروفه الذي ينشأ فيه الأنا والآخر معًا. وحتى الغثيان بوصفه تجربة وجودية لم تكن تتفاعل وسط الفراغ. فربما ذلك التصور المرفوض لدى بوحديبة كان أحد العوامل التي بسببها لم يتخلص سارتر تخلصًا كليًا من فكرة الأنا وحدية Solipsism، فهي ما تزال من الحلول المفترضة سواء من المنظور المثالي أوغيره في إشكالية الآخر. «فمعنى الغيريّة يتبلور إذن انطلاقا من حالات «شاملة» تتدخل فيها الأبعاد النفسانية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتاريخية. وإذا كانت أزمات الضمير أسبابا موجِبة لظهور هذه النظرة الفلسفية أوتلك الغيرية، فإنه لا يمكن إهمال عناصر السياق الأخرى.» تلك هي الآفاق الأرحب التي ينظر بها بوحديبة إلى الغير، وهوما يجعله يختلف عن سارتر. وذلك ما يدعنا نتساءل في ضوء هذا الاختلاف عن مكانة الغير في فلسفة سارتر والتي تخالف نظرة بوحديبة، بعبارة أخرى، عن السياق الذي يتحدث فيه سارتر عن الغير.
إن مشكلة الغير لدى سارتر من بين المشكلات الرئيسة التي تناولها في معظم رواياته الأدبية، أما عن الحديث الفلسفي الصريح فهو في «الوجود والعدم»، وهوكتاب شاهد ظهوره الحرب العالمية الثانية عام 1943، وجاءت ترجمته العربية قبيل حرب يونيو1967 بعام. وعلى الرغم من  هذه الظروف المحاطة بالكتاب لم يشهد أولم يكن له أي علاقة بظروف الحرب، فهو«بحث في الأنطولوجيا الظاهراتية» لما قاله هيدجر في «الوجود والزمان»، وعلى الرغم من ذلك فإن بعض الباحثين قالوا إنه بحث في السكسيولوجيا أكثر من كونه بحث في الأنطولوجيا. والبحث في الغير لدى سارتر يأتي ضمن القسم الثالث من الكتاب. إذ يأتي الغير ضمن التقسيمة الثلاثية للوجود. فالوجود في ذاته en soi وهوما يشكل القسم الأول الذي يناقش فيه سارتر مشكلة العدم، والوجود لذاته pour soi وهوما ناقشه سارتر في القسم الثاني، أما الوجود للغير pour-autrui فهوموضوع القسم الثالث، أما القسم الرابع فهويناقش المعضلتين المتبقيتين في فلسفة سارتر كلها وهما الحرية والملك، وهي مشكلات ناتجة من العلاقة بين الأنا والآخر مثلها مثل مشكلة الغثيان والعبث.. إلخ. السياق الذي يتحدث فيه سارتر إذن سياق أنطولوجي وجودي من الدرجة الأولى، وحتى حين يتحدث عن العلاقة العينية مع الغير فهودائمًا ما يلجأ إلى السياق الأنطولوجي. إن هذا السياق كان حاضرًا بصورة كبيرة بامتداد الكتاب، مما يزيد من صعوبته. أما عن العناصر الأخرى التي نجدها فهي خادمة أوفي داخل هذا السياق.
ذلك هوالمدخل وهذا هوالسياق الذي يتحدث من خلاله سارتر عن الغير، وهويختلف كليةً عن السياق الذي يتناول فيه بوحديبة الغير. فالعنوان الفرعي لكتابه –على سبيل المثال- هو«بحث حول التجارب العربية الإسلامية». إن براعة بوحديبة تكمن في تحدثه في موضوعات الفلسفة بقراءة المؤرخ وعالم الاجتماع. وهوما نجده في «الجنس في الإسلام»، إذ لا يعرض لتصورات مجردة بل يحلل المفهوم في التجارب العربية الإسلامية، ويرى مغزاها وهو يريد أن يوضح بلغة هادئة مفهوم الحضارة العربية للغير وكيف يمكن أن نتجاوز إشكالياته.
ومن ثم يصبح من الطبيعي أن تكون النظرة إلى الغير مختلفة كليةً، ولكي ندرك هذا الاختلاف لنتأمل قليلاً كلمات بوحديبة: «سنتمثل أهداف هذا البحث حول مجتمعنا العربي الإسلامي في تفكيك آليات الرفض وإبراز مشروعية رفض الرفض والعمل على ألا يتنافى استقلالي وحريتي مع استقلال الغير وحريته.» حيث يتبدى للأذهان من العبارات الأخيرة أن بوحديبة سيقوم بتحقيق هدفين: الأول هو التحليل والثاني هوالإصلاح والنقد. وتلك هومهمة عالم الاجتماع والمفكر معًا.
ليست مشكلة الغير إذن محض مشكلة أنطولوجية بالغة العمق نتناقش فيها بلغة فلسفية معقدة ويمكن أن ننسج منها خيالاً في روايات طويلة وقصيرة، بل الغير ينشأ من أزمة واقعية من تساؤلات تثيرها الأنا وتعيشها مع الغير، فالغير هومعايشة حقة. صحيح أن سارتر والوجودية أقروا أن هذه التجربة معيشة وحية مع الآخر، ولكن هذا الطابع الأنطولوجي الذي يفرضه سارتر على العلاقة بيني وبين الآخر يصيب علاقتي به بشيء من المحدودية والجفاف، بل ربما يجعلني أرى الآخر بصورة مشوشة. كيف يحدث هذا وكيف يتسنى لنا أن نأخذ صورة صحيحة عن الآخر؟ ذلك ما سنتعرف إليه حين نتعرف مدى العلاقة مع الآخر.
إن مشكلة الغير لدى سارتر لها دواعٍ من الواقع، فالواقع يعلن عن حضوره فيها. فتمثل الآخر وعلاقته بالأنا على أنها صراع دائم ذلك نوع من الحضور قد جعل بوحديبة ينظر إلى سارتر نظرة كلية شاملة للسياقات الممكنة كلها. ويكفي فقط أن ندرس وضع النظرة لدى سارتر في البناء الأنطولوجي للغير حتى يتبين لنا حقيقة الصراع التي تتم بين الأنا والآخر. فالناظر والمنظور إليه لدى سارتر يتحول كل منهما إلى مُشيء كل منهما للآخر، فكل طرف منهما يحول الآخر إلى موضوع بمجرد النظر إليه. «هذه المرأة التي أراها قادمة نحوي، وهذا الرجل الذي يعبر الطريق، وهذا الشحّاذ الذي أسمع غناءه من نافذتي – هم بالنسبة إلى موضوعات، ما في هذا ريب.» وبالتالي من شأن الغير هو الآخر أن يجعلني موضوع بنظرته إليَّ، من هنا تتحول الأحاسيس والمشاعر التي أحس بها وأتصرفها مفروضة عليَّ من قبل الآخر، فأحاسيس الحياء والخجل مثلاً هي أحاسيس تنشأ عن وجود الآخر وليس عن وجود أنا. وسارتر يوضح من خلال التحليل المسهب لمثال «المتلصص» أن هناك تبادلَ تشيؤ بينى وبين الغير، ذلك الاستلاب ليس من قبل المتلصص لما ينظر إليه، ولكن من قبل المنظور إليه للناظر.
يقول سارتر «إن الغير هوالموت المستور لإمكانياتي، من حيث إني أعيش هذا الموت بوصفه مختبئًا في العالم... فإنه في الهزة التي تحركني حين أدرك نظرة الغير، فثمة فجأة استلاب لطيف لكل ممكناتي المترتبة بعيدًا عني، في وسط العالم، مع موضوعات العالم.»  هكذا يكون «المتلصص» مستلبًا في إمكانياته بعدما كان هوالسالب لممكنات الآخرين، فهومتوقع في كل لحظة أن يأتي الغير ويقبض عليه ويمسك بمخنقه، فالغير يفرض عليه حركته وألا ينطق ببنت شفه. وذلك في مقابل استقراء بوحديبة لمفهوم النظرة المتبادلة بين الجنسين على أنها فضح لحقيقة كل منهما، حيث «أصبحت النظرة.. موضوعات لدراسات مسهبة ومحلاً لتوصيات دينية دقيقة.. فالتقاء الجنسين وجهًا لوجه كما يدركه الإسلام، يحول كلا الشريكين إلى كائن منظور، بمعنى انكشاف جوهر كليهما، وذلك من خلال النظرة المتبادلة». إنه أقرب ما يكون بحوار النظرات الذي يتم فيه الكشف عن كلا المتحاورين من خلال النظرة، إنها عملية كشف أصيل يتحقق في النظرة. وذلك على عكس ما يؤكد عليه سارتر حين يتعرض للشعور بـ «الخجل» «فهوخجل من الذات، إنه تعرُّف كوني أنا تمامًا هذا الموضوع الذي ينظر إليه الغير ويحكم عليه.» فتبدوالعلاقة لدى سارتر على أنها صراع دائم بين طرفين يحاول كل طرف أن يتربص للطرف الآخر بصورة عدائية وكأنها محاولة لاحتلال أحد الأطراف لوجود الآخر، ذلك ما نجده في موقف المتلصص وحتى في موقف العلاقة العينية مع الآخر، حيث يتأكد هذا المعيار. ولكن ما الأسباب التي دعت سارتر إلى التوصل لهذه الطبيعة من العلاقة بالآخر؟
إذا أدركنا الأسباب التي دعت سارتر لتحديد طبيعة تلك العلاقة بالغير لأدركنا الفروق الجوهرية بين سارتر وبوحديبة في تصور كليهما الآخر. ومن أهم هذه الأسباب والفروق في ذات الوقت هي محدودية الرؤية التي ينظر بها سارتر للغير على أنها علاقة قائمة بين طرفين كل منهما يضع الآخر موضوعاً أمامه والذي قد يضعه موضعًا للاستلاب. وذلك في مقابل تمييز بوحديبة أنواعاً عديدة من الغير داخل الثقافة العربية. نميز في صلب مجتمعاتنا العربية الإسلامية أربعة أنواع من الغيرية: الغيريّة المطلقة المتسامية، وهي التي تؤسس علاقات الإنسان بالله، وغيرية الغيب وهي التي تتولى التعبير عن استيهاماتنا الخاصة وتأتي يتحاور فيها الإنسان مع عالم الأرواح وأهل الغيب، والغيرية في الأخوة وهي الحياة مع الجماعة ووحدة الشعور، وأخيرًا الغيريّة الحركية بواسطة المفاضلات النشيطة وهي التي تنظم علاقاتنا مع الإنسانية بأكملها».
إن ما يضيفه بوحديبة من أنواع الغير والذي لا تسمح به فلسفة سارتر هوالغيرية المتسامية. وذلك لأن وجود الإله في فلسفة سارتر هو رغبة مستحيلة التحقق وذلك طبقًا للبناء الأنطولوجي لفلسفته. صحيح أن سارتر افترض إمكانية ثالثة وهي إمكانية موجود ـ لذاته ـ في ـ ذاته، أي تركيب من الإمكانيتين السابقتين يمكن أن يطلق عليها اسم الله. ويمكن لهذا الموجود أن يفسر أصل الأشياء، ويمدنا بالأساس الميتافيزيقي – الذي نوده – للعالم... لكنه سرعان ما استبعده بمجرد ما قرره وافترضه، فما من شيء هناك مثل هذا الموجود –لذاته-في –ذاته. والسبب هوأن التوحيد بين الوعي والوجود الكثيف الصلب يؤدي إلى القضاء على الوعي ذاته وانمحائه. والواقع أن ـ رغبة ـ الـ «ما هو لذاته» كما تصورها سارتر، رغبة غامضة، لأنه عندما يظل وعيًا، فإنه يظل ناقصًا غير كامل، إذا ما حاول أن يصبح «ما هو-في-ذاته» فإنه ليحطم نفسه.
بينما من الجانب الآخر نجد لدى بوحديبة تأكيداً على تلك العلاقة الوطيدة التي تتم بين الإنسان والمطلق والتي تتأكد وتزداد إغالاً في كل لحظة، وذلك ما يتم من خلال العبادة اليومية التي يقوم بها المسلم والتي يتم فيها التواصل بين النسبي والمطلق. والتغير الأساسي لدى بوحديبة يكمن في المجتمعات الإسلامية والدين الإسلامي بصورة خاصة واعترافهم بأن هناك مطلقاً يتجاوز ذلك النسبي، ذلك النسبي الذي تصور سارتر أنه لا أحد غيره في الكون، وأنه على الرغم من نسبيته فمن المستحيل أن يوجد ما يفوقه. إن المأساة الحقيقية للإنسان السارتري هي مأساة الألوهية. فتحالفه مع كل من الوجود وقوة الوعى العادمة، يسوقه نحوالعلو، بحيث إن أشد دوافع حياته جذرية هو أن يكون إلهًا، لا يوجد ولا يمكن أن يوجد. هذه هي ماهية التركيب الإنساني الحقيقية: «الإنسان في جوهره رغبة في أن يكون إلهًا» وذلك في مقابل بناء العلاقة بين المطلق والنسبي عند بوحديبة على التواصل والتباعد. فالمطلق هنا رغم تباعده إلا أنه حاضر في كل لحظة فهوأقرب إلى المؤمن من حبل الوريد، ليس هذا فحسب بل إن المؤمن يمكن له الحوار مع المطلق حين يتعبد ويدعو ويقرأ القرآن.. إلخ. وهنا نجد بوحديبة يبدأ بالاستعانة بالتصوف الإسلامي وبابن عربي، فقد استعان بالحديث القدسي «كُنتُ كنزًا لم أُعرف فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق وتعرّفت إليهم فعرفوني» فالمخلوقات، بما فيها الإنسان، تنبثق من إرادة الله اقتسام كنز ذاته تعالى وذلك بواسطة المعرفة. لقد «أراد» الله أن يكون واحدًا «للإنسان». فالإنسان منبثق من رغبة إلهية. فإذا كان الإنسان بهذا المعنى كائنًا لله، يصبح الله ذاته مركزًا لعلاقة متميزة بالإنسان.
تلك علاقة بالآخر من طبيعة لم يعرفها سارتر، هي علاقة تقوم على التواصل والمحبة، فكل طرف هومن أجل الغير، فربما هي تضحية مشتركة، فالغير هنا لدى الصوفية هو«الحبيب»، إنها علاقة تبادل الحب وليس النفع وتبادل الامتلاك. إنها ليست سلطة تُفرض من المطلق على النسبي ولكنها عشق. «وليس خضوعًا وخوفًا وارتعادًا بل عبادة ومحبة. وقد يبلغ الإنسان الغيب ويدرك سر الوجود /الكائن كما يقول «هايدجر». ولقد برزت الأنطولوجيا اللاهوتية الإسلامية هذا الغياب/التسامي، ولكن في نطاق جدلية القريب والبعيد، والظاهر والخفي وحضور المطلق وتباعده» تلك علاقة تقوم على المحبة وليس الصراع، محبة قائمة بين طرفين بعيدين وهما قريبان في الوقت ذاته، ولكنه ليس قرباً مكانياً، إنه قرب روحي وجداني، فليس ثمة ثنائيات وتناقضات ولكن ثمة محبة والتحام حتى إنه قد يصل إلى التوحد لدى المتصوفة وذلك ما نجده عند الحلاج والبسطامي مثلاً.
أما الغيريّة الغيبية فهي لا ترى أن الغير مطلق ولكنه غير منظور سواء كان ملائكة أو جناً. ويكفي أن نقرأ ما يقوله بوحديبة في فقرته الأخيرة من حديثه عن هذا النوع من الغيرية: «إن «الجن» الغامضة، والتي «نراها» على الرغم من غموضها، ليست في الواقع إلا قراءتنا المزدوجة وبدائلنا السلبية وموضوع رغباتنا. أننا نتجسد فيها، ربما لامتلاك أنفسنا امتلاكًا.. وهكذا تتحقق إنسانيتنا فينا ونتحرر.. هنا يختلف الغير عني اختلافا يجعلني لا أدركه إلا بأسلوب التخيل ويظل كائناً غيبياً. وهوعلى بعد شكله وغيابه عن عيني محسوس وقريب كل القرب. هل يكون هذا الغير مجرد انعكاس لذاتي، ليس إلا قريناً أوبديلاً؟».
لم يكن النص السابق محاولة من بوحديبة للتأكيد على الجوانب الغيبية في الحضارة الإسلامية ولكنها إظهار لنوع من الغيريّة لاينهض على أساس فقدان الوعي بالذات ولكنه نوع من الغيريّة ينشأ على أساس امتلاك الذات. فعند سارتر الغيريّة تتأسس على وجود طرفين هما أنا-آخر، بينما في هذا النوع من الغيريّة قد تقوم الغيريّة على طرف واحد وهوالأنا وتقوم الذات بتجسيد نفسها في صورة هذا الكائن الغيبي. إنها محاولة نفسية للتعرف إلى الذات بالذات وليس بالآخر، هي محاولة لإيجاد مرآة خاصة بنا نرى فيها ذواتنا، بينما عند سارتر هي محاولة لرؤية الذات في مرآة الغير فالغير وحده هوالذي يمتلك المرآة وهوالذي من خلاله نرى صورتنا التي يفرضها علينا. فربما يجسد هذا الكائن الغيبي أعماقنا. وكأن الخيال يجسد شخصية «جنية» تتحقق فيها كل ما يرفضه في الظاهر ويهرب منه. وهذا الغير يختلف عنى لدرجة أنني لا أستطيع أن أدركه إلا بالتخيل. والخيال هنا ربما يعد عنصرًا مفقودًا في علاقة الأنا بالآخر لدى سارتر في إطار النظر إلى ذلك السياق الأنطولوجي الكلي الذي وضعه سارتر للحديث عن الغير. إن هذه الاستقلالية وهذا التأكيد على الذات هو ما يفتقده سارتر صراحةً، ففي أخص التجارب الذاتية مثل التأمل لا يمتلك الأنا استقلاله الذاتي. أما لدى بوحديبة فمن خلال تعمقه الشديد في التجربة العربية قد تجاوز تلك النظرة الجافة المغلقة للآخر. لقد قولب سارتر نفسه داخل ذلك الإطار الأنطولوجي، وحين فكر في الخروج عنه ضعفت كتابته ووقعت في التناقضات وذلك ما حدث في كتابه «نقد العقل الجدلي».
لقد تغيرت وجودية سارتر في الكتاب الأخير بصورة ملحوظة، فلم تصبح الوجودية الأنطولوجية المعهودة التي نجدها في «الوجود والعدم» بل أصبحت وجودية ديالكتيكية لا تنظر إلى الوجود لذاته بوصفه نوعاً من الوجود الأنطولوجي ولكن بوصفه عاملاً فاعلاً في العالم، والمشروع projet ليس فقط هوذلك المشروع الأنطولوجي ولكنه أصبح مشروعًا عمليًا أيضًا لتحقيق أهداف عملية ومادية ملموسة. وهكذا الحال أيضًا بالنسبة لعملية «التجاوز» أو«التعالي»، فإنها لم تعد عملية ذاتية زئبقية يقوم بها «الموجود لذاته» في سعيه المستمر وراء ذاته، بل أصبحت مجرد تعبير عن «الوجود خارج الذات»، في علاقته بالآخر، طبيعيًا كان أم بشريًا، من أجل تحقيق ضرب من «الوساطة» بين تقبل المعطيات الخارجية من جهة، وتحقيق دلالاتها العملية في العالم الخارجي من جهة أخرى والحقيقة أن هذا ليس عدولاً عن موقف سارتر والنظرة الأنطولوجية ولكنها صورة أخرى له ربما مكملة له. بينما ما يمكن أن نقوله هنا إنه حتى في الديالكتيك لدى سارتر هو أيضًا ديالكتيك بين الإنسان والمادة، فهويضع الإنسان بصورة رئيسة في الكون، إنها ديالكتيكية لا تفقد الإنسان ووجوده الأنطولوجي بأى حال من الأحوال بل تؤكد هذا الوجود.
العلاقة إذن إما محبة أوصراع، فنقيم الحوار مع ذلك الآخر على تعدد أنواعه أو ندخل معه في صراع امتلاك. يفسح بوحديبة أنواعاً من الآخر يمكن أن يقام معها شكل آخر من العلاقة غير قائم على الصراع ولكنه قائم على المحبة والحوار. فحوار مع الله في شكل يومي على الرغم من مطلقيته اللامتناهية وتباعده، كذلك يفسح علاقة مع الخفي الذي قد يتحول إلى حوار مع الذات وليس مع الآخر. وربما هذا الأخير محاولة للانتباه إلى الذات، ربما محاولة للتوصل للتأمل الحق ليس بالتنجيم وليس تشجيعًا على الخرافة ولكنها تساؤلات يثيرها في هدوء حتى ننتبه إلى الذات ونستمع إليها، محاولة منا للتعرف إليها قبل التعرف إلى الآخر. إنها محاولة لتجاوز تلك العلاقة مع الغير على أنها علاقة إنسانية محضة، محاولة إلى إيجاد مثل أعلى للعلاقة مع الغير وليس أمثل وأكمل من العلاقة مع الله، فهي علاقة محبة بلا حدود لن يستطيع سارتر بأنطولوجياه أن يتوصل إلى تلك العلاقة الحميمة.

يؤكد سارتر العلاقة بالغير/الآخر بوصفها علاقة (جسد-جسد)، ذلك ما نلحظه منذ قراءتنا العنوانات التي يتناول فيها الوجود للغير فهي كالآتي:
وجود الغير (ويتضمن فقرة بعنوان النظرة)
الجسم (ويتضمن الواقعية، والجسم للغير، والبعد الأنطولوجي الثالث للجسم)
العلاقة العينية مع الغير (وهويتضمن الحب، اللغة، تعذيب الذات، الشهوة، الكراهية، السادية)
فعن علاقة الحب مثلاً، يتدخل الجسد على أنه عنصر أساسي فيه. فيتحدث سارتر عن الجسد بصورة رئيسة في علاقة الأنا بالآخر. فيقول عن الحب «إن فكرة التملك هذه، التي بها كثيرًا ما يفسر الحب، لا يمكن أن تكون أولية، في الواقع. فلماذا أريد تملك الغير اللهم إلا إذا كان ذلك من حيث أن الغير يجعلني أوجد؟ لكن هذا يتضمن نوعًا من التملك: إننا إنما نريد أن نتملك حرية الغير من حيث هي كذلك» وهنا يكون الحب محاولة من الأنا لامتلاك حرية الآخر. ولقد سبق وأن ذكر أن الامتلاك يتم من خلال النظرة وهوامتلاك جسدي «إنني مملوك للغير، ونظرة الغير تحدد جسمي في عرائه، وتولده، وتنحته، وتنتجه كما هو، وتراه كما لن أراه أنا أبدًا».من هنا كان الامتلاك الجسدي، هو أحد جوانب امتلاك الآخر لي في الحب وأيضًا امتلاكي للآخر، فهو امتلاك جسدي مشترك. ولكن ذلك لا يعني أن العلاقة بالآخر هي فقط علاقة جسدية، وإلا كانت علاقة خارجية، فعلاقتنا بالغير يجب أن تقوم على سلب داخلي negation interne قبل كل شيء. وأنا أدرك الغير أولاً على أنه الذات التي تحيلني على موضوع، ثم الذات التي تحيلها ذاتي على موضوع. فالجسم إذن ليس هوأول ما نلقاه عن الغير، وإنما نلقاه بعد ذلك. وجسم الغير هووجهة النظر التي أستطيع أن اتخذ عنها وجهة نظر أخرى (هي جسمي) وهوالأداة التي أستطيع استخدامها (أوالتي تقاومني). فجسم الغير إذن هوتعاليه بوصفه أداةً transcendence-instrument بعد أن تجاوزته نحوأغراضي الذاتية الخاصة، وتصبح معرفته بي موضوعًا لمعرفتي أنا، ولكنها تظل خاوية لأنني لا أستطيع أن أدرك الفعل الذي به يعرف، لأن هذا الفعل عن تعالٍ خالص.
ذلك في مقابل أن بوحديبة ينظر إلى الحب بصورة مغايرة تمامًا «فالحب حركة تجاوز بها الإنسان ذاته، يتفوق عليها في اتجاه الآخرين»وكذلك الحب لديه هومحاولة للتكامل بين الزوجين «فالحب الصادق الذي تصاحبه الرغبة الملحة يعد سبيلاً إلى تحقيق الانسجام الكوني»وبالتالي فربما تكون المسألة هنا معكوسة. فعند سارتر قد يكون الحب قائمًا على الجنس، بينما لدى بوحديبة الجنس هوالقائم على الحب وهوالسبيل لا لانفصال الموجودات إلى واحد وآخر ولكن للتكامل والاتحاد بين الاثنين الذكر والأنثى، إنها الغاية التي من أجلها الجنس «إن الحب يحكم الكون، والذكورة والأنوثة تنوع في الوحدة، وتأتي من هنا أهمية الجنس وقوته التطهيرية».
وبذلك تصبح العلاقة العينية مع الغير كما يتصورها بوحديبة تختلف عن العلاقة العينية التي يرسمها سارتر في «الوجود والعدم». فإذا كان الجنس يضعه سارتر ضمن التصور الأنطولوجي على أنه يمثل إحدى علاقات الوجود للغير Pour-autroui، فإن هذا التصور يكون تصورًا جزئيًا عندما نضعه أمام تصور بوحديبة الشامل، والذي يستخرجه من القرآن الكريم، على أنه يمثل ذلك الوسيط الذي يجمع بين ثنائي من إحدى الثنائيات التي يشتمل عليها الكون. «إن الرؤية القرآنية للجنس رؤية كلية وشاملة، حيث تعتمد الأسس الكونية والاجتماعية والسيكولوجية على وحدة الجنسين، ليشتمل الجنس على عملية الإبداع والتناسل ضمن أطر التكامل والشهادة» وهنا تكتسب العلاقة العينية مع الآخر أبعادًا أخرى يمكن أن نطلق عليها أبعادًا كونية (كوزمولوجية)، وذلك في مقابل البعد الأنطولوجي الضيق لدى سارتر.
فلم يستطع سارتر أن يصل إلى علاقة تفوق تلك العلاقة الامتلاكية التي يتم من خلالها تبادل الامتلاك بين الأنا والآخر سواء أكان هذا الامتلاك جسديًا أم امتلاك التعالي والحريات، بينما من الناحية الأخرى كانت العلاقة لدى بوحديبة تتسم بصفات أخرى ولها دلالات واسعة وذلك في إطار تصور علاقة المحبة والحوار المتبادل بين الطرفين. لكن المحبة ليست التي يتم فيها صراع التملك كما هي عند سارتر ولكنها المحبة التي يتم فيها العطاء بلا حدود والذى يتم في نهايته التوحد بين الأنا والآخر وهوما حدث لدى الصوفية. ومن الطبيعي بهذا التصور للعلاقة بالآخر أن يرفض سارتر التحاور مع الآخر وذلك لأنه يمثل له «الجحيم»، وأي محاولة لمجرد تبادل النظرات هي صراع وليست حواراً، بل سيتحول الحوار إلى حوار استراتيجي يتم فيه تربص كل طرف بالآخر.
هكذا كان الغير عند بوحديبة محاولة لتجاوز نظرة سارتر للغير، وذلك على الرغم من البداية السارترية. ففي مقابل الغير الأنطولوجي لدى سارتر كان الغير يُنظر له نظرة كلية شاملة. وعن لغة الحديث عن الآخر نجدها تنوعت بين اللغة الانطولوجية الجافة واللغة الروائية التي يحاول فيها سارتر أن يُدخل لغة الخيال على الرغم من السياق الأنطولوجي المحيط بمفوم الغير. وذلك على عكس بوحديبة الذي كان يتحدث بلغة سسيولوجية وفلسفية وتاريخية في آن، وذلك لم يعن أنه تخلٍّ عن عنصر الخيال، إذ جعل هذا العنصر هو الأساس في الغير الغيبي. فمع انطلاق كليهما من نقطة التعايش مع الآخر لكنّ كلاً منهما اختلف في طريقة التعايش، فهي إما صراع وتعامل مع الآخر بوصفه الضد أوالشبيه، أو أن نتعامل مع الآخر بصورة الحب والحوار المفتوح لزيادة التعرف إلى الآخر.
كانت المنطلقات إذن لدى كلا المفكرين وجودية، ولكن على الرغم من ذلك كانت الوجودية من نوع مختلف لدى كل منهما وذلك رغم المصطلحات التي تبدو مشتركة والمفاهيم التي تبدوواحدة. والسؤال الآن موجه لنا ولمجتمعنا العربي والذي أفرز ذلك النوع الذي ينتمى إليه بوحديبة، فالسؤال هو ما التصور الذي نحتاج إليه من هذه الوجوديات المتعددة؟ وأي صورة للآخر نعتمد عليها هل صورة الآخر لدى سارتر هي الأمثل الآن في تقبلها؟ أو نحتاج إلى الصورة التي يطالعنا بها بوحديبة من عمق الحضارة الإسلامية؟ هل نحن محتاجون إلى الآخر الذي يجلب لنا الغثيان أو نحن بحاجة إلى آخر يحتوينا ونحتويه نتحاور معه ويتحاور معنا؟. وإذا سلمنا بأحد من الآخرين فهل سنقبل القيم التي يفرضها علينا ذلك الآخر المختار؟ نقبل حب التملك أو حب التوحد، حب سارتر أو حب ابن عربي! نحن بحاجة إلى النظر إلى الواقع، هل الواقع الذي نعيشه يحتاج إلى سارتر آخر أو إلى آخر يقبل الحوار؟ ألسنا الآن نعيش الغثيان! ومذ متى نحيا الغثيان! هل الواقع حقًا هوالذي يفرض علينا نوع الآخر أو أننا بحاجة إلى التعرف إلى الإنسان الحق حتى نجيب عن سؤال اختيار الغير.

المصادر والمراجع
1 - جان بول سارتر: الوجود والعدم، ترجمة د. عبد الرحمن بدوى، دار الآداب، بيروت، ط 1، 1966
2 - د. عبد الوهاب بوحديبة: الإسلام والجنس، ترجمة وتعليق هالة العوري، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ط 2، 2001
3 - د. عبد الوهاب بوحديبة: القصد في الغيرية، الوسيطى للنشر، تونس، 2001
4 - جيمس كولينز: الله في الفلسفة الحديثة، ترجمة د. فؤاد كامل، دار غريب للطباعة والنشر، القاهرة، 1973
5 - د. زكريا إبراهيم: دراسات في الفلسفة المعاصرة، مكتبة مصر، القاهرة، ط 1، 1968
6 - د. فؤاد كامل: الغير في فلسفة سارتر، دار المعارف، القاهرة، د.ت
7 - د. محمود رجب: الميتافيزيقا عند الفلاسفة المعاصرين، دار المعارف، القاهرة، ط 3، 1987