البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

تناظر الهوية والدين ، مسعى لاستقراء تأويلية إيمانويل ليفيناس

الباحث :  صابرين زغلول السيد
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  10
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  2427
تحميل  ( 411.346 KB )
شغلت قضية الهوية الدينية ومنزلتها في المجتمع الغربي حيِّزاً مركزياً في فلسفة الحداثة. وفي هذه المقالة إضاءة على منطقة معرفية ظلت ولما تزل مدار اهتمام المفكرين وعلماء الاجتماع في الغرب المعاصر. وقد سعت الباحثة صابرين زغلول السيد إلى مقاربة هذه القضية الإشكالية عبر مناقشة رؤية الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس حول التناظر المعقد بين الهوية والدين.
كما تعرض المقالة أبرز أفكار ليفيناس ورؤاه وتتناولها بالنقد والتحليل.

المحرر

في ظل العديد من الفلسفات الغربية المعاصرة التي عبثت بالذات الإنسانية والتي نُظِر إليها بوصفها ذاتاً متعالية سلبت الآخر هويته، ومع دوام الحاجة إلى وضع الآخر في مكانة تضاهي مكانة الأنا، جاءت أفكار الفيلسوف الفرنسي الليتواني الأصل إيمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas   1906 - 1995 لتدين خطوط العنف التي تنادي بإقصاء الآخر ورفض الغيريّة رفضاً مطلقاً. المهمة الرئيسة لفلسفة ليفيناس ليس تأسيس نظرية للمعرفة أونظرية سياسية وإنما فهم العلاقة بالآخر بوصفها أصل كل علاقة بالوجود. يتجلى ذلك في القدرة على احترام غيريّة الآخر وليس في محاولة اختزاله في هوية الشبيه، ولذلك صاغ ليفيناس فلسفته بشكل مختلف كل الاختلاف عن مجمل الفلسفة الغربية عن طريق الاستعاضة بالأخلاق التي اعتبرها ليفيناس «الفلسفة الاولى» بديلاً عن الأنطولوحيا التقليدية التي اعتاد عليها معظم الفلاسفة الغربيين، ومن خلال استقراء إیمانویل ليفیناس تاریخ الفلسفة، وضع مفهوماً جدیداً للهوّیة على أساس مفهوم المغایرة والاختلاف اللذين جعلهما اللبنة الأساسیة لفلسفته إذ رفض المفاهيم الفلسفیة القائمة على المماثلة والمشابهة والتي فقد فيهما الإنسان إنسانيته، وضاعت هویته الحقيقية في غمار تلك المشابهة والمماثلة، ومن هنا وضع ليفيناس مشروعه الفلسفي على أساس إیتیقي أنطولوجي مبني على الحوار مع الآخر، هذا الآخر هو الاختلاف والمغایرة، وبوصفه مفكراً يهودياً فقد وقف الباحثون في مفترق الطرق على تصنيفه كونه فيلسوفاً أو مفكراً دينياً فقد أصبح التشابك بين الأخلاق والدين في فكر ليفيناس عميقاً ومعقداً لدرجة أنه أصبح مسألة خلافية بالنسبة لبعض الباحثين ولذلك أثيرت فكرة هذا البحث من خلال عرض البُعد الديني لمفهوم الغيريّة في علاقة جدلية بين الهوية والدين، والتي حاولت من خلالها تقديم العمق والأبعاد الخفیة في فلسفة ليفيناس تلك الأبعاد التي أراها تتسم بطابعها الإنساني في مقاربات منهجیة بنزوع دیني متجذر في عمق الطرح اللیفیناسي.

 ومن خلال هذا البحث نتواجه وجهاً لوجه مع أسئلة ليفيناس التي تضع أمامنا العديد من الإشكاليات أهمها:
أولاً: كيف يمكن للذات التي هي مصدر للأنانية، أن تدخل في علاقة بالآخر من دون التخلي عن أنانيتها على الفور؟ وكيف يمكن للآخر أن يدخل في علاقة بالأنا من دون التعرض للخطر؟
ثانياً: ما الجوهر الديني الذي يجمع بين الذات والآخر لتتخلى الذات عن فرديتها من أجل الأخر؟
ثالثاً: كيف تستطيع الذات المُدرِكة  قبول الآخر بوصفه موضوعاً مدرَكاً من دون أن يذوب وينصهر داخلها وكيف يستطيع الموجود الحفاظ على هويته من دون الذوبان داخل الوجود الكلي؟
رابعاً:هل تكون علاقة الأنا بالآخرعلاقة أصلية بحيث تكون شرطاً للانكشاف الإلهي؟
خامساً: ما النتائج التي تترتب على احترام غيريّة الآخر على الفرد والمجتمع؟
 يبدو لي أن هذا التشابك الذي دخل في غماره ليفيناس هوأكثر تعقيداً من مفهوم التماثل الأخلاقي الأحادي الجانب، وهو ما سأحاول توضيحه في هذا البحث.
جدل الذات والآخر
يؤكد ليفيناس من خلال جميع كتبه بأن «الإنسان نفسه لا يبتلع الآخر ولا تمتص الذات الآخر، ولا تخوض في حرب معه حتى الموت» وهذا الاستيعاب المتبادل، يدحض ماذهب إليه ميكا فيللي، وهوبز، وهيجل، وسارتر في ذوبان الآخر في غمار الأنانية المنبثقة من الذات على نقيض ما ذهب إليه ليفيناس بأن الهوية هي هوية الاختلاف بين الأنا والأخر فلا ينصهر أحدهما في الآخر، لذا يأخذ ليفيناس على الميتافيزيقا التقليدية تأسيسها علاقة الأنا بالآخر من خلال العقل والتفكير اللذين هما أساس الأنطولوجيا التي لا تفصل بين الوجود والموجود كما يتضح عند هايدجر الذي جعل من الأنطولوجيا «إدارك الموجود في استقلالیته عن الوعي الذي یُدركه في حين أن الغير ليس مجرد موضوع معرفة عند ليفيناس بل هو دخول في العلاقه معه» لذلك تتجلى النزعة الإنسانية عند ليفيناس في دعوته إلى التعامل مع الآخر بوصفه ذاتاً لا موضوعاً، وهي «المعاملة التي أطلق عليها اسم البينذاتية مؤكداً في أكثر من موقف أننا في تعاملنا مع الآخرين إنما نحن نتعامل مع الأرواح لا مع أشياء»، لذا وحتى تصبح علاقتنا بالآخر علاقة أخلاقية إنسانية وجب الاقتراب من الآخر والاعتراف بغيريته واحترامها والتحاور معه والشعور بالمسؤولية ومشاركته بدلاً من إقصائه، وهي كلها شروط ضرورية لبناء علاقات إنسانية مع الآخرين، لذلك مع أن ليفيناس يرى هيدجر أحد المصادر الرئسية في فلسفته يرفض ما ذهب إليه هايدجر من إعطاء الأولوية للوجود على حساب الموجودات وهو ما يعني «أن الوجود أكثر جوهرية من الموجودات بل يعني أيضاً أن الموجودات لا تتحدد بالآخر من خلال فكرة الوجود المجردة اللا شخصية»، وهنا يوجه ليفيناس نقده الشديد لهايدجر لاختزاله الموجود في حدود الوجود يقول: «لا أعتقد أن هايدجر يعترف بالموجود دون الوجود وذلك يبدوسخيفاً له»، لذا یدعو لیفیناس إلى اكتشاف علاقة أخرى بالموجود، بعیداً عن الكلیة التي تتأسس على المیتافیزیقا التقليدية، فلا یمكن الحدیث عن الغیریة في ظل منطق لا شخصي، وفي ظل وجود لا یتكلم، وجود بعيداً عن المظاهر والظواهر، ولتحقيق ذلك انطلق ليفيناس من خلال المنهج الظاهرياتي الفينومينولوجي فقد نشر ليفيناس أطروحته للدكتوراه المعنونة، نظرية الحدس في الظواهر في 1930، وكان أول كتاب مقدم لفكر هوسرل 1859-1935 في الفرنسية. من خلال تفضيله موضوع الحدس، وقد أكد من خلال المنهج الفينومينولوجي «أن التجربة الإنسانية ليست ماهية تحقق جلاءها بنفسها وليست كوجيتو خالصاً فهي نتيجة صوب شيء في العالم يشغلها» وعلیه یثور لیفیناس على فلسفة الأنا سواء عند هوسرل أوعند دیكارت تلك الأنا التي تحمل معنى العالم بداخلها ولا تلتفت إلى الآخر، إنها نتیجة تأمل ترنسندنتالي حيث يصبح الحديث مع الآخر حديثاً أحادياً ينطلق من الأنا ويعود إليها وبالتالي يمتص الآخر داخل الأنا فيتلاشى وجوده ليختزل داخل الأنا، إن ما يريده ليفيناس أن نحافظ على المسافة بين الأنا والأخر بحيث ينبثق من خلال هذه المسافة الاختلاف الذي يحافظ على كينونة الآخر وهويته، ولذلك أعطى للآخر بُعداً من أبعاد التجربة الإنسانية المعاشة وبشكل مباشر مع الآخر، بُعداً يقوم على عاطفة الأنا تجاه الآخر، فمن وجهة نظر ليفيناس تتخذ العلاقة بالآخر بُعداً عاطفياً، وفي هذا يقول ليفيناس: «الآخر هومعروف من خلال ما يوجد في نفسي من التعاطي،... إن قلب العلاقة مع الآخر هي التي تُميز حياتنا الاجتماعية» وعلى الرغم من وجود هذا التعاطف بين الأنا والآخر الذي يتحدث عنه ليفيناس يجب ألا نعتبر أن علاقة الأنا بالآخر متبادلة فإذا كان من التزاماتي التعاطف مع الآخر فيجب ألا أطلب منه مبادلتي العاطفة نفسها، فيرى ليفيناس أن «صميم العلاقة مع الآخر هي التي تميز حياتنا الاجتماعية، ولكن يبدو أنها علاقة غير متبادلة،وهذا، قمة التناقض، ولا يرجع ذلك إلى عوامل فسيولوجية أونفسية بل بسبب غيريّة الآخر المختلفة عن الأنا» وعلى الرغم من حرص ليفيناس على فصل أعماله الفلسفية عن أعماله اليهودية وتكراره المستمر هذا الفصل وتصريحه أنه «أخذ أجازة من الله» نجد أنه يطالعنا خلال كتاباته بتأثير ديانته اليهودية والأحداث السياسية والدينية التي عاشها ليفيناس في تشكيل مفهومه للهوية، وفلسفته على وجه العموم ولذلك تشكل ذكرى المحرقة الصورة الأساسية عند ليفيناس للظلم ومعاناة الآخر وإقصائه بعيداً عن الذات والمجتمع لذلك ونظراً لخلفية ليفيناس الدينية بوصفه مفكراً يهودياً فإنه يعطي الاختلاف بُعداً دينياً من خلال مصطلح الجار متأثراً بطريقة دريدا في تفكيك المصطلحات فيقول «الآخر هو الجار، الذي ليس بالضرورة القريب، ولكن الذي يمكن أن يكون بهذا المعنى، إذا كنت للآخر، فأنت من أجل الجار» لذا فلابد إن يجد الجار كل الحب والترحاب من جاره بل يذهب ليفيناس إلى أبعد من ذلك بتقديسه مفهوم الجار والذي هو رمز للآخر بحيث أصبحت طبيعة علاقة الإنسان بالله عنده لا معنى لها ما لم ينظر إليها منذ البداية على أنها ذهاب نحوالشخص الآخر ويظهر ذلك من خلال عباراته التي صاغها في كتابه الله كما يتبادر إلى الذهن فبدلاً من «القول أنا أؤمن بالله» ويستبدل بها عبارة «أنا هنا، من أجل الجار الذي يجب أن أعطيه أكثر» هذا العطاء التي تعطيه الذات للجار هوحق مشروع كما نصت عليه النصوص المقدسة، فمن واجب الذات نحوالآخر أوالجار ليس فقط الدخول معه في علاقة وحوار بل أيضاً الترحاب والحفاوة به من خلال واجبات الضيافة، التي يراها ليفيناس علامة من علامات قبول الآخر ولذلك فمصطلح الضيافة هوأحد المصطلحات المهمة والضرورية في فلسفة ليفيناس كي نفهم مقصده للغيرية، فيقول «عندما أتشارك مع شخص آخر من خلال الحوار، فلا بد أن أتصرف في آن واحد على أنه حوار بين مضيف وضيف» فالمضيف هوالذات والضيف هوالآخر، ويبدو هنا تأثر ليفيناس بفلسفة الفيلسوف الوجودي سورين كيركجور في مفهومه للجار فقد دعا كيركجور إلى الحب للجار،حباً أعمى ونحن مغمضو العينين فيقول «المرء يري الجار فقط بعينين مغلقتين، أو بواسطة البحث بعيداً عن أوجه التنافر» على أن مقصد كيركجور بالنسبة لمفهوم الجار اتخذ بُعداً إيمانياً خالصاً من أجل علاقة تتجاوز فيها الذات على أنانيتها كوثبة تعلوفيها على نفسها من أجل اتباع أوامر الله الذي يوصي بحب الجار والتعاطف معه، في حين كان مقصد ليفيناس هوأبعد من ذلك إذ أعطى الجار معنى دينياً سياساً متمثلاً في الشعب اليهودي فيقول: «عندما تدافع عن الشعب اليهودي، فإنك تدافع عن جارك».
ومن هنا اصطبغ مفهوم الهوية عند ليفيناس بصبغة سياسية دينية، وبشكل مجمل فإن تأسيس الهوية عند ليفيناس من خلال اختلاف الذات عن الآخر هوخروج للأنا من انغلاقها على نفسها وانفتاحها على الآخر وما یُقّرب الذات من الآخر لیس ما یجمعها به، بل ما یجعلها تتحمله في غیریته، وما یجعل الآخر یتحمل الذات، ولا یكتمل بحث لیفیناس عن الهویة إلا بإرجاعها في نهایة الأمر إلى الآخر، والطريق إلى ذلك فيما يرى ليفيناس هوالوجه الذي هو الدلالة الأساسية عنده لمفهوم الاختلاف.

دلالة الوجه كمفهوم للاختلاف
«الوجه هوالتعبیر عن التفرد وعن جوهر الآخر الإنساني الفردي، لذلك یضع لیفیناس الوجه الأصيل ضد الواجهة الزائفة، فالآخر الذي يُعرض أمام الأنا يُعرض فقط كوجه إنساني، لذلك كان الوجه هوأساس علاقة الغيريّة بين الأنا والآخر في فلسفة ليفيناس، وإذا كانت الهوية عند ليفيناس تستمد وجودها من خلال الآخر، فإن اللقاء بالآخر لا يتم إلا بواسطة الوجه، حيث يتبدى الآخر بشكل خاص من خلال وجهه، وليس الوجه بما يظهر منه من ملامح بيولوجية لوجود الأنف ولون العينين وشكل الجبين والأذن والفم الخ، ولكن من خلال التعابير التي تنبثق عبر جلد الوجه نفسه فكما يقول ليفيناس إن «جلد الوجه هوالذي يعبر عن البُعد الأكثر عُرياً، والأكثر حرماناً» ليكشف لنا عما يحاول الآخر إخفاءه عن الأنا ومن هنا يصبح «الوجه المكشوف، مهدداً بالخطر» ويتحدث ليفيناس عن هشاشة الوجه وعريه متأثراً بالمنهج الوصفي لفينومينولوجيا هوسرل فيقول «الوجه يعبر عن نفسه ويفرض نفسه، ولكن يفعل ذلك بالضبط عن طريق مناشدته لي من خلال مظاهر الفقر والعري والجوع دون أن أكون قادرا على أن أكون أصم لهذا النداء. فالوجه يقدم نفسه، ويطالب العدالة»، إن الوجه يتميز بالقرب والمسافة في الوقت نفسه، فكثير منا يتقابل مع الآخر ويقول له وجهك مألوف وربما لا نتذكر أسماء بعض الناس الذين قابلناهم في حياتنا لكننا لا نستطيع أن ننسى وجوههم بما لها من تعابير وقسمات، لذلك يجعل ليفيناس من الوجه الركيزة الأساسية في تحديد الهوية فيرى «أن الوجه هوموقع إظهار التعبيرات والعواطف بل إظهار الروح ذاتها» وهذا لما للوجه من قسمات يعتبرها ليفيناس بمنزلة اللغة التي ينشأ من خلالها جسر العلاقة بين الذات والآخر،ولذلك يصور لنا ليفيناس علاقة الأنا بالآخر بصوره أشبه بالصور التمثيلية الحية لما يجب أن تكون عليه هذه العلاقة فيصور لنا أن الآخر يدعوني من خلال «الكلام ويدعوني من خلال السؤال، إنه يواجهني ويضعني في السؤال ويجبرني على الخطاب» وبناء عليه كما يرى ليفيناس تحدث علاقة في الكلام، فيتحدث الآخر لي وأنا أرد عليه وعندها فقط يظهر الوجه، هذا الوجه ليس بصفاته الفيزيولوجية من ملامح، كما سبق وأشرنا، ولكن وجود الآخر يتضح من خلال الكلمات التي يتحدث بها، وبالتالي تهرب الأنا من عالم غير شخصي وأبدي ومن وجود غير متمايز، وهنا كما يصف ليفيناس تحدث ولادة الأنا الفردية على أنها قوة لوضع هويتها،على أن هذه الأنا الجديدة تعطي حريتها للآخر «بحيث تشكل هويه الشخص في تأكيده على حريه الآخر على نفسه» ويرى ليفيناس أن تضحية الشخص بحريته هي المؤشر في الاستجابة نحوالآخر لذلك كانت حرية الذات ليست هي القيمة العليا أو الأوليه بل «إن الطابع المتغاير لردنا على الإنسان الآخر، أوعلى الله باعتباره الآخر، يسبق الاستقلال الذاتي لحريتنا الذاتية» لذلك فعندما أمتثل أمام الوجه ووفقا لما تتطلبه إشارات وجه الآخر، كما يقول ليفيناس «فأنا مطالب دائماً بفعل أكثر مما أفعله لنفسي» ذلك أن الذات من خلال الوجه تستطيع معرفة ماذا يريد الآخر ويستطرد ليفيناس في قدرة الوجه على التعبير ورفض الآخر لأي قمع أوسيطرة ويصف ذلك بقوله «إن الوجه يقاوم السيطرة والاستحواذ، يقاوم قواي» كذلك من خلال الوجه نستطيع معرفة رفض الآخر لأي اختزال داخل الذات بل العكس يؤكد ليفيناس أنه من خلال الوجه تستطيع الأنا فتح حوار مع الآخر ذلك أن الآخر كما يقول ليفيناس «يتكلم معي وبالتالي يدعوني إلى علاقه» وهنا يحاول ليفيناس توضيح أن الوجه يعطينا دلالات من شأنها أن تفتح بُعداً جديداً لمعنى الوجود أهمها تلك الدلالة التي تدعوني دائما لوجود علاقة بين الذات والآخر، لذا كانت «دلالة الوجه هي بمثابة يقظة أمام الإنسان الآخر في هويته غير المميزة والتبادل معه بشكل غير مختزل في التجربة» على نحوما ذهبت إليه الأنطولوجيا، لذا فمن المتعثر للذات أن تتجاهل «عالماً ذا مغزى قُدم اليها من خلال وجه الآخر» ولا بد للذات من خلال تجاوزها الوجود أن تتقبل ذلك الآخر الذي يعرض نفسه من خلال الوجه الذي يطالب الأنا باستمرار لوجود تلك العلاقة ويأتي هذا التجاوز حين يستطيع هذا الآخر «أن يقدم نفسه كشخص غريب دون اعتراضي في أن أجعله عقبة أوعدواً لي» ومن أجل ذلك فلابد من الاستجابة للآخر من خلال وجهه الذي يدعوني دائماً إلى فتح الخطاب، ذلك أن الوجه عند ليفيناس هودائما دعوة من أجل فتح الخطاب، بل «هو بالفعل الخطاب، حيث يأتي ليظهر نفسه، وفقا لتعبير أفلاطون، لمساعدته الخاصة، إنه في كل لحظة يستدعي حضوري» إن الخطاب المفتوح بين الأنا والأخر هو بمنزلة الكلمة الأولى التي صدرت مع اللحظة الأولى للوجود وهنا تظهر الأبعاد الدينية للهوية عند ليفيناس، فمن خلال تأثر ليفيناس بديانته اليهودية نجده لا يصور الوجه على أنه شكل عفوي يفرض نفسه بل يسترشد بقراءته التوراة فيفاجئ القارئ في كتابه الكلية واللانهائي بربط مفهوم الآخر بالكلمة المقدسة كما جاء في الكتاب المقدس من خلال سفر يوحنا «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ» حيث تظهر كلمة الله وحكمته متجليتين من خلال وجه الآخر ولاسيما فيما ينبثق من المسؤوليه الكاملة من الذات تجاه الآخر لذلك فالخطاب هو لاعلاقة أخلاقيه وهوالمسؤولية كما يتضح ذلك من خلال فلسفة ليفيناس، لذلك فالوجه، كما يقول ليفيناس: «يفتح الخطاب البدائي من خلال الالتزام الذي هو الكلمة الأولى».
يكمن في الوجه السلطة العليا للأمر الإلهي الذي هو كلمة الله، لذا كان الوجه الإنساني هوالقناة لكلمة الله، وكذلك كانت كلمة الله متمثلة في الآخر، ويذهب ليفيناس إلى أبعد من ذلك بإعطائه الآخر مكانة التقديس الإلهي فيأتي الآخر كما يصفه ليفيناس معبراً عن الظهور المقدس لله عن طريق تجليه من خلال الآخر فيقول ليفيناس «الآخرالإنساني ليس تجسداً لله، لكنه «ظهور للعلوحيث يتجلى الله» ويتجلى الله عن طريق الوجه، لذلك حدد ليفيناس هوية الآخر بالوجه فيقول «أما الآخر فوجه» ومن هنا وصف ليفيناس عُري الوجه بالظهور المقدس للوجه، وذلك بناء على ما يوجد فيه من أثر للتجلي الإلهي من خلال العلاقة بالآخر فيقول «البعد الرباني يُشرع انطلاقاً من الوجه، إن ظهور الأخر يقوم على مناداتنا عبر بؤسه في وجه الغريب والأرملة واليتيم، إن علاقتنا بالآخر هي سلوك أخلاقي وليس لاهوتاً أومعرفة بخصائص الله عبر التماثل» ويستكمل ليفيناس من خلال أثر الوجه وقسماته صياغة الأبعاد الدينية التي يعبر عنها الوجه فيقول «إن قسمات الوجه البدائية تُكون التعبير البارز، لتصوغ الكلمة الأولى من خلال فحوى الإشارات الصادرة من العيون التي تنظر إليك» وهذا يعني أنه بمجرد النظر في عين الآخر أستطيع أن أترجم ما بداخله من احتياجات ومتطلبات ينادي بها من خلال وجهه، حيث أجد كما يقول ليفيناس «الآخر يظهر نفسه من خلال المقاومة المطلقة الصادرة من عينه العُزل» فمن خلال دلالات العين أستطيع معرفة الحالة النفسية التي يمر بها الآخر من طمأنينة وخوف وما شابه ذلك من حالات نفسية يمر بها الآخر، بل إن الوجه يمثل لوحة يستطيع من خلالها الآخر عرض بكل متطلباته حتى الاستغاثة للدفاع عن نفسه، ذلك أن الوجه هو ما لانستطيع قتله أو هوعلى الأقل يوحي ويتكلم من خلال قسماته وتعبيراته بعدم القتل، وسنلاحظ وجود صله متعمده بين تحليلات ليفيناس الفلسفية والدينية ولذلك جاءت تأويلات ليفيناس لما ورد من نصوص في الكتاب المقدس متوافقة مع فلسفته منطلقاً من وصية لا تقتل ويرى ليفيناس أن تحقيق هذه الوصية يتم من خلال الوجه فيقول «فالوجه يمنعنا من القتل»، فكما أن الوجه «يدعوني إلى عمل من أعمال العنف، فهو في الوقت نفسه، يمنعنا من القتل» ولذلك يحث ليفيناس على اكتشاف وجه الانسان الآخر فنعي إمكانية فهمه ومتطلباته وهوما يبعدنا عن العنف الذي يتولد غالباً من الصدام مع الآخر وعدم فهمه ولذلك فمن خلال الوجه نعي إمكانية القتل وعدم إمكانيته في آن واحد وهذا الوعي هوتأكيدي لضميري، لذلك كانت لانهائية الوجه كما يقول ليفيناس «تشكك في حريتي التي كشفت أني قاتل ومغتصب وهنا تأتي قاعدة لا تقتل ليست قاعدة للسلوك الإنساني بل هي مبدأ للحياه الروحية والخطاب العام للإنسانية، لذلك جاء تناول ليفيناس الأخلاق ذا أبعاد ميتافيزيقة مختلفاً عن التناول الفلسفى التقليدي الذي عدّ الأخلاق قاعدة السلوك الإنساني وهذا ما سأتناوله في ما يأتي:

العلاقة بين الأخلاق والهوية
المتتبع تاريخ الفلسفة يجد العديد من المناهج المختلفة التي أثارها المفكرون والفلاسفة في تقديم البُعد الأخلاقي في فلسفتهم فمنهم من ركز على البُعد الديني من خلال الإرادة الإلهية للأخلاق ومنهم من اشتق أسس فلسفته من الكتب المقدسة ومنهم من لجأ إلى التفسير العقلي وغير ذلك من التفسيرات المتعددة في مجال الفلسفة الخُلقية، وعندما نقف على تفسيرات ليفيناس نجده يتخذ بُعداً أخر تميز به من غيره إذ صاغ فلسفته الخُلقية من خلال الغيرية، فبدلاً من اتخاذ العقل أوالأفكار أساساً لفلسفته الخلقية وبدلاً من التمييز بين الخير والشر استعاض ليفيناس بعلاقة الغيريّة من خلال الآخر وهنا تعمل الأخلاق على تشكيل بُعد آخر لمفهوم الهوية حيث إن الاعتراف بالآخر في فلسفة ليفيناس هو نقطة الارتكاز الأساسية في فلسفته الخُلقية ولذلك اتخذت فلسفة ليفيناس معنى مختلفاً عن الأخلاق التقليدية القطعية  moral التي تهتم بالسلوكيات السائدة في مجتمع ما والأخلاق الإتيقية ethique التي تبحث فيما ينبغي أن يكون، فالإتيقا ليست مسألة نظرية أوجدلاً أوإصدار قواعد، ولكنها تستند إلى تجربة من التجاوزات التي أواجهها، هذا التجاوز يحدث كما يقول ليفيناس «عندما يتحول الوجه نحوي، في عريه الشديد جداً، ملتمساً مني الاستجابة المباشرة وليس بالرجوع إلى نظام أوقواعد» لهذا السبب، تبدأ فلسفه ليفيناس الأولى من تفسير الأخلاق أوالإتيقا والتي تختلف عن الأخلاق التي تسن الأوامر وقواعد السلوك الإنساني، فالإتيقا قائمة على العلاقة المباشرة بين الأنا والآخر من خلال مفهوم الاختلاف ولذلك يطلق ليفيناس على هذه العلاقة علاقة إتيقية، وهنا يجب التمييز بين الأخلاق بمعنى الإتيقا وبين الأخلاق بمفهومها العام في تفسير ليفيناس، ذلك أن الإتيقا تطلق كما يقول ليفيناس «على العلاقة بالأخر بصفته الفردية، في حين أن هذه الأخيرة -يقصد الأخلاق العامة- مفهوم من مفاهيم القيم والسلوك» لذا كانت الإتيقا هي «الحدث الأول الذي يأٔتى منه سؤال الحقيقة ويصاغ منه معنى الكينونة وينبثق من خلاله إمكانية اللقاء مع الآخر الإنساني وجهاً لوجه» ويؤكد ليفيناس أن الإتيقا هي القادرة وحدها على بيان الدلالات الأولى التي تعطي للإنسان معنى كينونته ولذلك أصبحت فيما يرى ليفيناس «وحدها القادرة على فهم الحدث الأول الذي أسس لسؤال معنى الكينونة الذي أثاره هايدجر في كتابه الكينونة والزمان، وهي بذلك تتقدم على الأ نطولوجيا أي علم الوجود إنها تشير إلى فضاء أكثر أصلية من هذه الأ خيرة».
لذا أطلق ليفيناس على الإتيقا الفلسفة الأولى فيرى أن اللقاء بين الأنا والآخر، لقاء أخلاقي ويصف هذا اللقاء بأنه «يرتكز علي البعد الأكثر أساسية للوجود البشري وبهذه الطريقة يتحدد ويتميز على أنه مستوى من مستويات الميتافيزيقيا منذ البداية، وذلك سبب في أن   الأخلاق... الفلسفة الأولى». لقد وضع ليفيناس  مسألة "وجهاً لوجه" نقطة انطلاق لبدء الفلسفة ولم يبدأ من الوجود، أو من الله، ولكن من خلال المسائل الأخلاقيه التي تُفسر العلاقة بين الذات والآخر والذي هو الشرط الرئيس للاتصالات البشرية، وعلى هذا النحو يتشكل التعارض بين الأخلاق والأنطولوجيا، فالأخلاق تشير إلى مستوى ميتافيزيقي لا يمكن لأي أنطولوجيا بلوغه، وهوالآخرية، وبالتالي، «فالأخلاق تقوم على أولّية الآخر، وذلك بالتعارض مع الأولية التي تمنحها الأ نطولوجيا للذات» ويوضح ليفيناس أن هذا لا يعني أننا نعيش في عالم خال من القيم، ولكن هناك علاقة بالآخر تتجاوز القيم والمعايير كلها، ولا يتم ذلك إلا من خلال الإتيقا التي هي الاستجابة الفورية للإنسان الآخر الذي يطلب علاقة بي من دون تفاوض أوشرعية من جانبي، ولذلك اصبح الاعتراف بالآخر شرطاً أساسياً من أجل قيام علاقة أخلاقية معه ولا يمكن وجود الأخلاق من دون إتيقا، ويذهب ليفيناس في توضيح العلاقة الإتيقية بين الأنا والآخر ويصفها بأنها علاقة غير متناظرة، حيث إن علاقة الآخر بالنسبة لي ليست هي علاقتي به، فأنا مطالب تجاه الآخر أكثر مما قد انتظره في المقابل من الآخر بالنسبة لي، لذا جاءت العلاقة غير متبادلة، لذلك يرفض ليفيناس ما قد تكون عليه الأنا من إيثار لنفسها عن الآخر ويصفها بقوله  «إن الذاتية هي الأنانية» ومن هنا يؤكد بأنه يجب علي المرء أن يدافع عن حقوق الشخص الآخر، بالدرجة الأولى أكثر مما يدافع عن حقوقه، ويقترح ليفيناس من منظور النزعة الإنسانية ما أسماه «بالنزعة الإنسانيه من الآخر، بدلاً من النزعة الإنسانية من الأول» ويقصد انطلاق العلاقة الاجتماعية من الآخر إلى الذات وليس العكس وهذه العلاقة غير المتناظرة هي التي تشكل جوهر الأخلاق الإتيقة عند ليفيناس، وهذا ما جعل ليفيناس يستبعد الأخلاق النظرية التي تقوم فيما يتعلق بالعلاقة بالآخر، والتي غالبا ما تنادي بالمساواه بين البشر وأن جميع البشر متشابهون، فيذهب ليفيناس على النقيض من ذلك فيرى «أن هذا الافتراض غير مفهوم لأن الجميع يختلفون بعضهم عن بعض، وبهذا المعنى فإن المفهوم العام للإنسان وببساطة بعيد عن هذا الفهم» ولذلك يؤكد أن تجاوز الفرد ليس تعبيراً عن عدم الرضا عن بيئاته أوظروفه المعيشية ولا عن توقه إلى حياه أفضل أو إلى عالم مختلف لأن الهيكل النهائي للإنسانية، وفقا لما ذكره ليفيناس، «لا يكمن في المساواة والعلاقة المتبادلة، وإنما في لا نهائية وجه الآخر،ويصبح وجه الآخرفي تجاوزه وتعاليه هوالذي يشكل الهيكل الكامل للبشرية».
ويعتبر مصطلح التجاوز واللانهائية من أهم المصطلحات الرئيسة في فلسفه ليفيناس، وهويعني على وجه العموم الذهاب إلى أبعد من ذلك، وقد استخدمه ليفيناس «لتحديد قدرة البشر على الهروب من انشغالهم الطبيعي مع أنفسهم، وهوما يسمي عاده التفوق الذاتي» ويستطرد  ليفيناس في توضيح  مصطلح التجاوز واللانهائية بأنه، «يشير إلى أن التفرد الذي ينفرد به كل إنسان يكمن في حقيقة أنه مختلف عن الآخر اختلافاً تاماً» ومن دون هذا الفرق لن يصل الإنسان لمرحلة التجاوز والتفوق، وقد ربط ليفيناس هذا المصطلح فيما بعد بالدين وبكل ما يُعبر عما هو إلهي على نحو ما سيتضح بعد، ولهذا السبب يرى ليفيناس أنه من المهم تجنب استخدام بعض المصطلحات التي توحي بوجود بعض أوجه التشابه بين البشر وانتمائهم إلى الجوهر نفسه وبدلاً من القواسم المشتركة التي يتقاسمها جميع البشر كأعضاء من النوع نفسه، فإن ليفيناس يؤسس أخلاقه علي تفرد الشخص الآخر، ولا يستند هذا التفرد إلى السمات المختلفة التي يتمتع بها هذا الشخص، ولا إلى حقيقة أن الشخص يأتي من خلفية اجتماعية أو اقتصادية أودينية مختلفه، بدلاً من ذلك كما يقول ليفيناس «الآخر هو آخر بسببي، وهو فريد من نوعه وبطريقة مختلفة عن الاختلافات القائمة على الجنس والنوع، كما أن الفرق الذي يحدد الغيريّة ليس من خلال بعض الاختلافات الاجتماعية أوالشخصية التي لدى الآخر... ولكن من خلال حقيقة غيريّة الآخر المختلف عن الذات» لذا فأساس علاقة الذات بالآخر تتحدد على أساس أنها علاقة ذاتية غير متناظرة قائمة على تفرد الآخر كما سبق وأشرنا لذلك، مما يترتب عليها أثار واسعة النطاق على الممارسات الأخلاقيه أيضاً، ويرى ليفيناس بأنه بالنظر إلى علاقة الذات بالآخر على أنها «علاقة غير متبادلة وأني أعامل الآخر بكل تفرده، فلن تكون هناك وصفة أخلاقية أوقانون عالمي ملزم لجميع البشر».
وبعبارة أخرى، لا يمكن جعل العلاقة بين الذات والآخر مؤسسة على قانون الأخلاق النظرية، ونتيجة لذلك ليست الأخلاق وفقاً لمصطلحات ليفيناس ناتجة من الهيمنة والسيطرة على الآخر وإنما بالأحرى هي ناشئة نتيجة علاقة اجتماعية بين الذات والآخر بوصفه الشكل النهائي للعلاقة الأخلاقية ويمكن وصف الأخلاق الليفانسية بأنها حركة تجاه الآخر، بدلا من العودة إلى الذات كما كانت عليها الفلسفة التقليدية، وهذه الحركة تصبح أساساً للعدالة الاجتماعية وهذه العدالة لن تتحقق إلا بتحمل الذات مسؤليتها الكاملة عن الآخر وكما يوضحها ليفيناس» فنظراً لأن الآخر ينظر لي، فأنا مسؤول عنه، حتى من دون أن أتخذ في هذا الصدد مسؤوليتي عنه بعد، فمسؤوليته تقع على عاتقي... بمعنى أني مسؤول عنه مسؤولية كاملة» فالمسؤولية هي جوهر الإتيقا عند ليفيناس على نحوما سيتضح في المطلب التالي.                              

إتيقا المسؤولية
يعتقد ليفيناس أن الأصوات المهيمنة في التقاليد الفلسفية الغربية تميل إلى تعريف الطبيعة البشرية من حيث العقل أوالحرية أو المصلحة الذاتية، وعلى النقيض من ذلك، فإن ليفيناس يوحي بأن ما هوأساسي لنا هوالمسؤولية الأخلاقية تجاه الآخرين من خلال وجه الآخر، الذي يكشف مسؤوليتنا عنه، فالمسؤولية هي الشرط الخاص بهوية الشخص ذاته، لذلك يصبح «جوهر الذات الإنسانية ليس سوى دعوة إلى المسؤولية ونحن لا وجود لنا بوصفنا كائنات حرة أومستمرة قبل هذه الدعوة، ولكننا نأتي إلى حيز الوجود كمواضيع من خلال الطلب الأخلاقي» ولكي تصبح الذات مسؤولة لا تستطيع أن تصبح قادرة على الهروب من هذه المسؤولية،ويؤكد ليفيناس على هذا بقوله «المسؤولية الأخلاقية لا تنشأ بين شخص من هذا النوع وشخص من هذا النوع، ولكن المسؤولية تنشأ كلما واجهت الذات أي إنسان، وقبل التفكير في معرفة ما يجب علي القيام به». ولذلك كان الآخر هوالوجود الذي يعبر عن نفسه ويفرض نفسه، ولكن يفعل ذلك بالضبط عن طريق مناشدته لي من خلال الفقر والعري ومن خلال جوعه، من دون أن أكون قادراً علي أن أكون أصم لهذا النداء، لذلك فمن خلال المسؤولية نجد كما يقول ليفيناس «أن الذات بمجرد رؤيتها الفقراء فأول ما يتبادر لها هوما الذي يمكنني القيام به» ولا بد في عمل شيء لمساعدته  وهكذا فإن التعبير الذي يفرض نفسه لا يقيد من حريتي بل العكس إنه يعزز حريتي، من خلال إثارة الخير عندي،ومن هنا كما يؤكد ليفيناس فـ «الاعتراف بالآخر هوالاعتراف بالجوع، والاعتراف بالآخر هوالعطاء، لذلك فإن فوجود الآخريشكك في سعادتي داخل العالم» وما يقصده ليفيناس هو أن سعادتي مرهونة بسعادة الآخرين لذا فما يحكم علاقتي بالآخر ليست الحرية ولكنها المسؤولية ذلك أن حریة الأنا كما يقول ليفيناس «هي التي قوضت هویة الذات وحولتها إلى شبیه، بينما المسؤولیة هي التي تدفع الأنا إلى أن تأخذ الآخر على عاتقها، وتصبح مسؤولة عن مسؤولیته، من دون انتظار أي مقابل، وإلا فلا معنى لحریة الآخر» ويستطرد ليفيناس في تأكيده مسؤولية الذات نحو الآخر بقوله «إن الذات الحاضرة تتحمل مسؤولیة الإنسان القادم لكونها مسؤولة مسؤولیة مطلقة تجاه الآخر، وهذا الآخر الذي لیس أٔنا أخرى بل الآخر في غیریته» وهنا تصبح المسؤولية من وجهة نظر ليفيناس بمنزلة الوحي، إذ يصفها ليفيناس بوصفها مسأله وحي، ويجب أن نشهدها أو نشاهدها، ويكتب «لم تكن التجربة أوالبرهان أدلة على اللانهائي، ولكنهما شاهدان على اللانهائي» وهذه الشهادة كما يراها ليفيناس في المقام الأول ليست عن طريق الكلمات والحجج، ولكن من خلال العمل، ومن خلال العطاء الملموس لأنفسنا لمساعدة الآخرين، فبدلاً من القلق والجهد في محاولة فهم الحقائق الغامضة أوالتنبؤ بالأحداث في المستقبل، بدلاً من ذلك، لا بد لنا من أن نتكلم ضد القوى التي تكون مبعث قلق بالنسبة لمن يعانون التهميش أوالضعف أو الإهمال، بالنسبة للأرملة والغريب واليتيم، فالالتزام الأخلاقي للمرء نحو الغريب ينشأ علي وجه التحديد من حقيقة أن الغريب هو الشخص الذي لا علاقة له بي، وتحديداً من خلال الروابط العائلية، بالنسبة لي، ويؤكد ليفيناس من خلال تأثره بالنصوص المقدسة التي جاءت في التوراة والتى تحث على الالتزام الخلقي نحوالغريب، والأرمله واليتيم، فقد جاء في سفر إشعيا «تعلموا الإحسان، أنشدوا الحق،أنصفوا المظلوم،اقضوا لليتيم، دافعوا عن الأرملة»، فالغريب، مثل اليتيم والأرملة كما تذكر التوراة ليس لديهم أي إدعاء علي سوى أنهم إنسان يطالبني بعلاقة به من خلال إنصافه وقضاء حاجاته والدفاع عنه لذلك فعلاقتي بالآخر تتحدد كما يقول ليفيناس «ليس بسبب خاصيته أوهيئته أوسيكولوجيته،وإنما بسبب آخريته بالذات. فهوالضعيف – على سبيل المثال – وهوالفقير،والأرملة واليتيم».
وكما ربط ليفيناس من قبل دلالة الوجه بالبعد الديني كذلك ربط المسؤولية بالدين  فيقول إن «مسؤوليتي تجاه الآخر تتحدد عندما لا أحصل على الآخر في طريق رؤيتي الله ولكن أحصل على الله باستماعي للآخر» انطلاقاً من هذا يعيد ليفيناس التفكير في المفاهيم الدينية فتغير عنده مفهوم التضحية، «فليس التضحية التي قدمت لنا لتخفيف آثامنا، ولكن بوصفها قدرة ومسؤولية» ويشرح ليفيناس هذه التضحية  بأننا يجب أن نضحي بمصالحنا من أجل الآخرين، فعلينا إخراج الخبز من أفواهنا، لتغذيه جوعهم، وعلينا الصيام من أجلهم، لذا ارتبط مفهوم التضحية عند ليفيناس بالرحمة، فالرحمة هي الاستجابة الأخلاقيه للآخر. ومن هنا فالعلاقة بالآخر كما يراها ليفيناس «هي علاقة تعتمد على العاطفة والرحمة»، وهي تختلف عن فهم سارتر العلاقة الإنسانية بالآخرين التي وصفها بأنها جحيم، إذ يرى سارتر أنه نظراً لأن الآخر يحد دائما من حرية الأنا  واستقلاليتها، فإن الآخر هوالجحيم للأنا. كما أنه يصف الأنا وعلاقتها بالآخر بأنها علاقة نزاع، والفرق واضح في اختلاف فلسفة ليفيناس اختلافاً كبيراً عما نصادفه عادة في تاريخ الفلسفة الأخلاقية الغربية، فبدلاً من التمركز حول الذات والمبادئ والقيم الأخلاقيه، تأتي فلسفة ليفيناس الأخلاقية بتأكيدها على التشكيك في حق الذات وحريتها من جانب الآخر في علاقة غير متناظرة من خلال وجه الآخر الذي يدعوني إلى التجاوز عن الشمولية والكلية التي تختزل الآخر وتحصره داخل حدود الأنا، ولذلك يُلزم ليفيناس الديانات وبالأحرى اليهودية والمسيحية التي يوليها اهتماماً خاصاً بأن عليها مهمة الشهادة على مسؤوليتنا الأخلاقية نحو الآخرين مؤكداً أن مقاطع من الكتاب المقدس بشقيه العهد القديم والعهد الجديد تدافع عن فكرته بأن الالتزام الديني هوالاهتمام الأخلاقي بالآخرين، فقد جاء في العهد القديم في سفر إرميا «من يقضى قضاء الفقير والمسكين يكون في هذا معرفة الرب».
وفي العهد الجديد جاء في إنجيل متى «.. يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذهما إنسان وزرعهما في حقله» لذلك يرى ليفيناس أن هناك حكمة يمكن الحصول عليها من دراسة الكتاب المقدس، «ليس لأنها تتألف من الحقائق التي يعطيها الله، ولكن لأنها تشهد على الأخلاق» وهذا اتجاه سلبي نحوالدين من ليفيناس فعلى الرغم من أنه يمنح مكانة خاصة لبعض النصوص الدينية، نجد أنه يقيد هذه المكانة داخل الأخلاق فقط لأنها لا تقوم على تجربة خاصة ومباشرة مع الله وربما كان الدافع وراء ذلك هوقلق ليفيناس بأن هذا النوع من الخبرة الدينية يمكن أن يدفع الناس إلى تسويغهم بعض المعتقدات أو الأفعال بغض النظر عن احتياجات الآخرين، فحين يكون المرء في خط مباشر مع الله، فما الحاجة إلى الحوار والتشاور  مع الآخرين؟ فهذه التجارب، بالنسبة لليفيناس، تعارض الدين الحقيقي. على نحوما سنعرضه في المبحث القادم

البعد الديني لمفهوم الهويّة
لعب الدين دوراً أساسياً في التاريخ الفكري والسياسي للحداثة العلمانية الغربية، وقد خالف ليفيناس المنظور السائد للدين بتقديمه تصوراً يستند إلى الأخلاق الاجتماعية التي ترتكز على السمو الديني، مسترشداً بالميتافيزيقيا الأخلاقية، فقد رفض ليفيناس التفكير الضيق في المفهوم الأيدلوجي للدين الذي يدعمه الأصوليون المتدينون ويعارضه دعاة الإنسانية من العلمانيين. وهو يبين كيف أن الدين، من خلال الانفصال والارتباط بين القداسة والأخلاق، مطلوب منه أن يؤدي دوراً إيجابياً في ظل الحرية والتعددية والديمقراطية، ولذلك رفض المصطلح التقليدي للدين الذي يقتصر على أن الدين هوالعلاقة بين الإنسان والله فقط من خلال الشعور الغامض في محاولات الإنسان الحصول على نوع من الاتصال أوالتواصل مع الله، فيرى ليفيناس أن الدين «لا يتصف بالعلاقة لأننا عادة ما نفكر في العلاقة على أنها تشكل نوعاً من كل شيء، عن طريق الربط أوالتعادل بين شرطي العلاقة». ولذلك فالعلاقة بين الوجود والمتعال من منظور ليفيناس، «لا ينتج منها في أي مجتمع أي مفهوم كلي، فهي علاقة من دون علاقة، نحن نحتفظ بمصطلح الدين» ومن هذه الصيغة يفصل ليفيناس بين المصطلحين العلاقة، والدين ولذلك يسعى ليفيناس من خلال اللغة لتفسير مصطلح العلاقة مع الحذر الشديد في ربط الدين بمفهوم التجاوز والتعالي فهو يريد بطريقة أو بأخرى إدراج الدين داخل نطاق الوجود الفعلي والنشاط البشري الذي من شأنه أن يحول المجهول إلى نطاق المعرفة، ولذلك أصبح الدين فيما يرى ليفيناس «ليس علاقة مع المتعال ولكنه هوالعلاقة التي تنشأ بين الأنا والآخر والتي لا يمكن أن تندرج داخل الكلانية» التي من شأنها أن تبتلع الآخر، ومن هنا يصبح الدين بهذا المعنى هو، فئة من النشاط، وليس علاقة بالمتعال كما يحاول ليفيناس التوضيح لهذا، ومن هذا المنطلق جاءت مفاهيم ليفيناس المتعلقة بالإتيقا والدين والهويه تهبط بمفهوم اللانهائي داخل نطاق النشاط البشري في الوجود ولذلك يؤكد ليفيناس أنه «لا معنى للدين الذي يرتكز فقط علي العقائد التجريدية والطقوس المفرطة، لأن هذا يتجاهل القلق والحب تجاه الآخرين، وهذا النوع من الدين يحول اهتمام الذات بعيداً عن الآخر» ومن هنا ينتقد ليفيناس العقائد والطقوس التي من شأنها أن تصرف اهتمامنا عن الرعاية والمسؤولية التي ينبغي أن توجهها الذات للآخر، ولذلك يؤكد ليفيناس أنه «من دون الأخلاق، يصبح الدين خطاباً فارغاً وطقوساً لا معني لها» ومن هنا فالأخلاق هي جوهر الدين في فلسفة ليفيناس، لذا جاءت فلسفته الأخلاقيه لتعمل على فتح أبعاد دينية بعيدة عن الأبعاد الدينية التقليدية السائدة في عصره، فقد أكد بُعد الدين عن التفكير المختلط المغرض، ذلك أن الدين بمجرد أن يصبح مختلطاً بالتفكير المغرض، يصبح علمانياً ويفقد سلطته المتعالية، ومن هنا أكد ليفيناس أن أي شكل من أشكال الدين إن لم يكن قائماً على علاقة أخلاقية بين البشر يمثل شكلاً من أشكال الدين البدائي فيقول «كل ما لا يمكن اختزاله إلى علاقة بين البشر لا يمثل الشكل الأعلى للدين وإنما نعده شكلاً بدائياً للدين وإلى الأبد»  ولا يوضح لنا ليفيناس ما هذا الشكل البدائي من الدين الذي يعنيه بالضبط، ولكن أرى أنه كل دين لا يسمح بتضحية من الذات من أجل الآخر بصرف النظر من هو الآخر ولذلك فهو يعارض أي أصولية دينية تقمع الحرية والمسؤولية تجاه الأخرين التي من شأنها أن تولد العنف
ولذلك فعلامة الدين الحقيقي هو القائم على العنصر الأخلاقي، ولا يستثني أي دين، من ذلك، وقد أطلق ليفيناس صيحته «الأخلاق تسبق العقيدة» وهذا عكس ما ذهب إليه بعض الفلاسفة بأنه لا أخلاق من دون دين ولا دين من دون أخلاق، وعلى ذلك فقد نادى ليفيناس بأننا «يجب أن نحترم ونحتضن ونعترف بالآخرين كزملاء مؤمنين  ومشاركين على الطريق نحو الله، وفي نهاية الأمر لا يوجد دين حقيقي يخلومن المبادئ الأخلاقية» فجوهر  الدين عند ليفيناس  «ليس الحماسة العاطفية والاتصال المباشر مع الله، ولكنه استجابة الوعي والعقل، بالمسؤولية تجاه الآخرين» وعلى ذلك نستطيع القول إن ما يسعى إليه ليفيناس هو الدين المؤسس على الأخلاق وليس دين العبادات وهو هنا يتماثل مع كانط الذي استبدل مفهوم الدين الخلقي المحض بوصفه هو الأصلح لدين عام للإنسانية بذلك المفهوم: دين العبادات الذي ربما يتبع في أغلبه أوامر لا تخص الإنسان بل تخص شأن الله.                        
ولذلك جاء تفسير ليفيناس النصوص المقدسة «تفسيراً يتجاوز النص نفسه «حيث لا يتم إنجازه من قبل النص وحده، ولكن بالأحرى من قبل القراء، وهي عملية مشروطة بإحساسهم بالمسؤولية الأخلاقيه، ويعتمد ذلك على علاقة القراء بالنص وعلى دعوتهم إلى الآخرين، عندما يقف القارئ ليس فقط عبر النص ولكن أيضاً يواجه القارئ الآخرين، فإن النص يتلقى حيوية جديدة تتجاوز الهرمونيطيقا من النص ويواجه الآخر وغيره. لذلك جاءت تفسيرات ليفيناس «ليس لقاءً انفرادياً بين القارئ والنص، وإنما هولقاء ينبثق عن النص، ويمكن للمرء أن يقدر هذه الفكرة بشكل أوفى إذا ما فكر في الأهمية بين مسؤولية القارئ تجاه النص والمسؤولية التي يتحملها عندما يطلب منه أن يشرحها للآخرين» لذلك جاءت الأبعاد المتعالية للوجود من خلال مواجهة الآخر إذ يسعى ليفيناس «إلى تغيير منظور القراءة الأصولية للنص المقدس التي يراها غير مجدية بتحويل الرسائل الميتة إلى المحادثة الحية التي هي لغة الأخلاق، من خلال الآخر»، ويدعوا ليفيناس «إلى أننا يجب ألا نقرأ النص المقدس في حد ذاته بل أن نقرأه في نهج «واحد من أجل الآخر، إنه ليس فيولا» فكما أن الموسيقى نلعب عليها للوصول للدلالات الأبدية من خلال الطابع الزمني للموسيقى كذلك النص المقدس «يستمد إشارته ليس من بعده الكامل، ولكن من الطابع الزمني لقراءته»، لذلك يرفض ليفيناس أن نجعل قراءة النص جامدة لاحراك فيها مثل أوتار الفيولا ولهذا أكد أنه يجب ألا تصبح «قراءة النص ممددة علي التقاليد مثل أوتار فيولا» ومن هنا تغير المفهوم النهائي للدين عند ليفيناس وانحصر في قوله السابق وهوعدم الجمود في قراءة النص المقدس وكأنه يريد بفلسفته أن يعدل في الخطاب الديني المسيحي واليهودي حتى لا يجمد على التفسيرات الأصولية القديمة
كذلك يظهر من هذا النص عدم رفض ليفيناس الدين كما ذهب كثيرون ولكن هو تعبير ليفيناس لرفضه القاطع للتفسير الأصولي للدين فهو يريد نظاماً إلهياً مباشراً غير قائم على الوساطة ومن هذا المنطلق تحدد مفهوم اللانهائي عند ليفيناس.

 مفهوم اللانهائي واللاهوت الأخلاقي
على الرغم من أن فكرة اللانهائي هي مفتاح الفلاسفة لإثبات وجود الله، نجد أن ليفيناس يضع هذه الفكرة في مكان آخر،فهي ليست من الأدلة على إثبات وجود الله، فقد مثلت فكرة اللانهائي كما وصفها ديكارت بأنها الشكل الرسمي لعلاقة التجاوزات وتجلى هذا المفهوم عند ليفيناس من خلال فكرة اللانهائي المتمثلة في «وجه الآخر الذي يعبر عن سماحته، ويتسم بالتعالي واللاهوت الذي ينزل منه».
ولكنه جعل التجاوزات تحدث في بُعد أخلاقي، إذ رفض ليفيناس ما ذهب إليه اللاهوت والميتافيزيقا الغربية في تعريف الله بأنه الكيان الأعلى، فإذا كان الله في اللاهوت ينظر إليه على أنه الكيان الأعلى، لكنه ترك المعنى للغاية الحقيقية من الوجود ذاته غير مدروس؛ لذلك يرى ليفيناس أن اللاهوت هوتعبير عن التقاليد الغربية التي تحول الوجود إلى كيانات يمكن عندئذ فهمها وإتقانها، فيبدي ليفيناس مخاوفه وقلقه «من أن الرغبة في الفهم والإتقان تغطي على مسؤوليتنا الأخلاقية للآخرين» ويتفق مع هايدجر في نظرته للاهوت بأنها تغير نظرتنا لمفهوم  الوجود، إلا أنه يختلف معه في موقفه من اللاهوت،، فإذا كان موقف هايدجر من اللاهوت بأنه يفسد تفكيرنا في الوجود، فإن قلق ليفيناس «من اللاهوت بسبب أنه يفسد تفكيرنا عن الله» وهذه مقابلة بين مفهوم هايدجر وليفيناس من ناحية الدين فإذا كان لنا أن نفكر في الله،يجب أن نبدأ من الأخلاق، وليس الوجود. ويبدو أن ليفيناس أسس لمشروع جان لوك ماريون 1946.                
ومحاولة للتفكير في الله من دون أن يكون في الوجود، أطلق عليها ماريون الإله المشطوب وهوتحرير الله من الوجود، لذلك يؤكد ليفيناس أن الدين سيكون سلاحاً مدمراً وخطيراً حين لا يرتكز على مسؤوليتنا الأخلاقيه تجاه الآخرين ويرى أن العلاقة بالآخرين لا تتم من خلال المعرفة بالله بل القضية عكسية حيث تتم المعرفة بالله عن طريق العلاقة بالآخرين فكما سبق وذكرنا قول ليفيناس».. لا نحصل على الآخر في طريق رؤية الله، ولكن نرى الله في نهاية المطاف عن طريق الاستماع إلى الآخرين «ولذلك يتجلى معنى التجاوز الإلهي عند ليفيناس من خلال وجه الآخرين ومن هنا «يعتبر الله بتجاوزه الأعلى والنهائي في الوجود مقدمة العدل الإنساني» وهذا العدل وهذه الأخلاق التي يدعمها الدين التوحيدي الحقيقي فيما يرى ليفيناس تكون من خلال «الخيارات اليومية الصعبة والمهام السياسية المسيحية،وهي بالضبط التي ترسم ما هو إلهي» لذلك يتجلى الإلهي فيما يؤكد ليفيناس من وجود المعاناة للآخر التي يجب أن تحول الموضوع من رعاية الذات إلى رعاية الآخر، وعلاوة على ذلك، فإن رعاية الآخر دائما ممتعه وتجلب السعادة التي قد لا نجدها في انفراد الذات عن الآخر وهي في الوقت ذاته مؤلمة لأنها تتعارض مع النمط المعيشي الأساسي للأنا التي تسعى لمتعتها الشخصية، وعلى الرغم من أن كلاً من المتعة والمعاناة هي وسائل الإحساس، فإن المعاناة فقط كما يذهب ليفيناس «هي التي يمكن أن تجعل من الممكن موضوعاً أخلاقياً حقاً، فالذات تخضع النفس وهي معاناة المعاناة» وكما يقول ليفيناس، إن ما يجعلني أعيش في هذه المعاناة هوالشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين.
 وهنا نلاحظ أن التبعية ليست للأخلاق المتعلقة بالدين بل بقيام الدين على الأخلاق أي إن الأخلاق الليفيناسية هي لاهوت أخلاقي وليست أخلاقاً لاهوتية وهذا يدعم التماثل بين ليفيناس وكانت من حيث أسبقية الأخلاق على الدين عند كليهما، ولكن الفرق الرئيس بين كانط وليفيناس هوأن الأول يعدّ القانون الأخلاقي مصدراً أخلاقياً لتحفيز الذات الأخلاقية على تحمل المسؤولية عن الآخر، في حين يتعامل الأخير مع وجه الآخر بوصفه قوة أخلاقية تثير الشعور الأخلاقي للذات، ونجد كانت يؤسس مبدأه من خلال شرط حُسن النية؛ وعلى العكس من ذلك، يؤكد ليفيناس أن «البعد الأخلاقي للموضوع لا يكشف عن نفسه إلا بشرط أن يبدأ من اللانهائي المتمثل في الوجود الخاص للشخص الآخر الواقف أمام الموضوع» وبينما يعطي كانت الأسبقية للحكم الذاتي، فإن ليفيناس يعتبر مذهب المغايرة القائم على الآخر هو أساس للقانون الأخلاقي، ولا يمكن للذات أن تتصف بالأخلاق من خلال طاعة قاعدة القانون الأخلاقي؛ بل من خلال الآخر اللانهائي الذي يجعلها أخلاقية لذلك فالفرق بين كانت وليفيناس هو أن هذا الأخير يرى أن حق الآخر يأتي قبل الذات، وهذا يعني أن حق الآخر لا يعطى من خلال الذات ولا يُصاغ بالقانون الأخلاقي؛ بل هويسبق حق الذات نفسها. وبعبارة أخرى، بالنسبة لليفيناس، لا يمكن للمرء أن يصبح أخلاقياً في حد ذاته بل بتدخل الآخر وحده هوالذي يجعله أخلاقياً، ويعطي ليفيناس نفسه مزيداً من الأدلة على تصوره للعلاقة بين الأخلاق والدين في تفسيره العقيدة من خلال قصة التضحية بإسحق التي استقاها من كتاب خوف ورعد  للفيلسوف الوجودي سورين كيركجورد وقد أخذ على كيركجورد تحليله الذي قدم فيه إبراهيم بطلاً للإيمان بقدرته على تجاوز الأخلاق من خلال الالتزام الديني لله، والتضحيه بابنه إسحق وقد اختلف معه ليفيناس حول معنى  الأمر الإلهي، فهل يمكن للرب أن يأمر بشيء غير أخلاقي؟ بالنسبة لكيركجور «هذه ليست القضية أن يأمر الله إبراهيم بقتل ابنه، لأن الأمر لم يكن جريمة قتل، ولكن تضحيته تلبية لأمر الله وبالتالي، فإن الأمر لايبدو غير أخلاقي» ويعلق ليفيناس على تفسير كيركجور معنى التضحية في مفهوم كيركجور بقوله: «إنه بهذا التفسير قد صدم لأنه يبدو أنه يبرر العنف بدوافع دينيه» وعلى النقيض فإن ليفيناس يرى «أن أعلى نقطهةفي الدراما هي انتباه إبراهيم إلى الصوت الذي أدى به مره أخرى إلى النظام الأخلاقي»  لذا فالعثور على إيمان إبراهيم كما يرى ليفيناس، ليس في استعداده لاتباع أوامر لا معنى لها من الله، ولكن في قدرته على الاعتراف بمسؤوليته عن إسحق ورفض قتله على الرغم من هذا الأمر، وكتب يقول في ذلك «بغض النظر عما يقول لنا الله أن نفعل، يجب علينا أولاً وقبل كل شيء الرد على الشخص الآخر... الرد على إسحق هوالرد على الله».
والآخر هنا يتمثل في إسحق من خلال قسمات وجهه وعينيه التي تتحدث بالقول: لا تقتل ،ولذلك فما يؤكده ليفيناس دائماً أن الأمر الأخلاقي أقوى من الأوامر الإلهية ولذلك بالنسبة لليفيناس «لا يوجد تمييز ممكن بين واجبنا تجاه الله وواجباتنا تجاه الأشخاص الآخرين، مما  يضيء على  الفكرة القائلة بأن الله يمكن أن يقود العنف نحوالأبرياء الآخرين» ومن هنا اختلف ليفيناس عن كيركجور في كيفيه العلاقة التي تجمع بين الأنا والآخر والله، فقد رأى كيركجورد أن الله هوالوسيط بين الأنا والآخر، بينما ليفيناس رأى أنه من الأهمية إزالة مصطلح الله على أنه مصطلح وسيط بين الأنا والآخر وبدلاً من ذلك، يصبح الآخر هوالوسيط بين الأنا والله، فيجب على المرء أن يرى اثر الله من خلال تحمل المسؤولية تجاه الآخر، لذلك يرى ليفيناس أن التوحيد بالله لا يطالبنا «أن نتحد معه أومع الطبيعة،ولكن يتمثل بالبر، وحب الجار،.. لذلك فالعلاقة الميتافيزيقية تأتي من خلال السلوك الأخلاقي وليس اللاهوت».

 خاتمة
بناء على ما سبق إذا أردنا فهم ليفيناس فلابد من وضعه داخل إطار فكره الديني لنتعرف إلى الأبعاد الحقيقية لفلسفته ولا سيما في عرضه ظهور الوجه تعبيراً عن غيريّة الآخر، لهذا أثار ليفيناس مفهوم المواجهة مع الآخر بشكل ميتافيزيقي غير أنطولوجي لتحويل مسار الفلسفة من الوجود إلى الموجود بوصفه الحل الحقيقي لكل مشكلة أخلاقية من خلال ما يسميه ليفيناس المواجهة وجهاً لوجه مع الآخر والتي تعطى إحساساً عميقاً بالمسؤولية من خلال إدراك الذات لكيان متعين متفرد له وجه فريد، فالوجه هو هوية الإنسان وبالنظر إليه نجده أكثر الدلالات التي تعبر عن الهوية الحقيقية للذات الإنسانية من ناحية ومن ناحية أخرى نجد أن الوجه هوأكثر التجارب أخلاقية كما يرى ليفيناس، ذلك أن وجه الإنسان هوالجزء الأكثر تعرياً لديه فهوالقادر على التكلم من دون كلام من خلال قسماته المعبرة في الوقت الذي فيه تجبرني على عدم ارتكاب الجريمة لأن الوجه كما يرى ليفيناس دلالة دون نص، هذه الدلالة تشير إلى ضرورة اعتناء الإنسان بالأخلاق شرطاً لحضور الله على نحومبهم ووحده هذا الحضور هوالذي يمثل الشكل الأصيل للدين، ومن هنا يحاول ليفيناس في علاقة جدلية للهوية والدين تخريج الذاتية الإنسانية وهويتها التي يراها تتمثل في علاقة الإنسان بالإنسان، علاقة أصيلة من حيث إنها شرط انكشاف الحضور الإلهي ومن حيث إن الإلهي هوشرط ظهورها مستعيناً بوصايا الكتب المقدسة من ناحية وبالتعاليم المسيحية من ناحية أخرى في مناولة إتيقية انفرد بها دون غيره من الفلاسفة، ولذلك جاء مشروعه مختلفاً عن الطريقة التي اعتادت أن تفكر من خلالها الفلسفة، إذ یقدم ليفيناس في تجربة روحانیة صورة عن ارتباط الهوّیة بالأخلاق والأخلاق بالدین، فنجد أن التجربة الأخلاقیة في الفلسفات الوجودیة خاصة، هي تجربة وجدانیة وإن اختلفت طریقة التعبیر عنها، لكن فلسفة لیفیناس هي فلسفة «الآخر» والتي یرتكز علیها جل بحثه الفلسفي، الآخر لیس بالمفهوم السلبي، إنه تلك العلاقة المتبادلة بین الآخر والأنا فالآخر قبل الأنا، وبذلك یأخذ مفهوم الآخر عنده مفهوماً مطلقاً یتعالى على كل مقدس، ومع ذلك نجد أنفسنا قد فهمنا فكرته من خلال عرضه دلالات الوجه كظهور للآخر أمام كادر من المفكرين الذين حولوا المعتقدات الدينية بالانزلاق بها في تحليلات الظواهر، وهذا من شأنه أن يدخلنا للعديد من النتائج المستنبطة من خلال هذا البحث:
 أولاً: اعتماد ليفيناس على الظواهرفي فلسفته لتحليل الهوية وربطها بالدين في نهاية الأمر جعل من فلسفته رهينة من قبل اللاهوت، وبالتالي ينبغي عدُّ ليفيناس مفكراً يهودياً متشدداً بدلا من الاقتصار على كونه فيلسوفاً فينومينولوجياً،  أو سجنه داخل أي شكل من أشكال الفلسفة النقدية، ولذلك وعلى غرار جان لوك ماريون، أستطيع القول إن ليفيناس حوّل المنهج الفينومينولوجي إلى منهج لاهوتي؛ إذ استخدم الظاهرة مصدرَ إلهام وليس أسلوباً، مما يجعلنا نحدد أن مشروع ليفيناس ليس له مكانة في الفلسفة الخالصة بل هومشروع لاهوتي أساساً، وببساطه فإنه فلسفة مستندة إلى اللاهوت كما قال بعض فلاسفة العصر الوسيط إن الفلسفة خادمة اللاهوت وبالتالي فالخط بين الهوية والأخلاق والدين عند ليفيناس يصبح أكثر من إشكالي.
 ثانياً: هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإنه من المحال أن نصل لله عن طريق الآخر ونجد اللانهائي في وجهه كأثر لله؛ لأن ذلك بطبيعته سيحول وجه الآخر إلى صنم، لذا يجب أن ننظر للوجه بوصفه لغزاً وليس ظاهرة، وبمنظور آخر يتضح أن أخلاق ليفيناس ليست مجرد نظرية أخلاقية أخرى، لأنها تدعونا إلى أن ننظر بتعمق أكبر إلى معنى الأخلاق، وهويذكرنا بمسؤوليتنا نحوالآخر التي قد ننساها وسط مشاغلنا وأعتقد أن هذه المسؤولية لا يمكن إلا أن تكون دينية، ذلك أن الأخلاق النظرية، التي تعتمد عادة على مبدأي المساواة، لن تكون قادرة على تقديم مثل هذا الطلب، لذلك على الرغم من إنكار ليفيناس بأن فلسفته لا بد من فصلها عن اتجاهه اللاهوتي لا نستطيع تفسير نظريته الأخلاقيه والتي هي الركيزة الأساسية لمفهوم الهوية في فلسفته إلا من خلال تقاربها مع الدين، لذلك أكد أنه لا يمكن للدين نفسه أن يضع نفسه تحت رقابة الأخلاق، ولذلك إذا كانت الأخلاق عند ليفيناس هي الفلسفة الاولى، فإنها قد تكون أيضا الدين الأول بمعني أنها شرط لا بد منه للعلاقة بالله.
ثالثاً: على الرغم من محاولة ليفيناس فتح باب المسؤولية والانفتاح في علاقة مع الآخرين مما سيكون له أثره الإيجابي في المجتمع نجد أنه يعطي الذات إحساساً بالسلبية والتشاؤم بتصويره الأحادي للآخر فقط على أنه وحده الذي يعاني القمع والاضطهاد، فقد عدّ الآخر في سجن دائم من خلال سلب هويته من الأنا مما يستدعي الأنا للمسؤولية المستمرة عنه ومن خلال هذه المسؤولية تتلاشى الذات وتختفي من خلال الآخر المطلق إن جاز لي التعبير وبالتالي يحدث ارتداد فبدلاً من الحفاظ على وسطية في العلاقة بين الأنا والآخر كطرفي للمجتمع يحدث تعالٍ للآخر وانصهار الأنا فيه، وهي الإشكالية نفسها ولكن بشكل معكوس التي انطلق منها ليفيناس، إن مايدعو له ليفيناس هوأمر بعيد عن الواقع الفعلي المعيش، فقبل أن يكون البشر قادرين على مسؤولياتهم تجاه الآخرين لابد أن يعتنوا أولاً بمسؤولياتهم تجاه ذواتهم أولاً، وبالتالي يشعرون بواجباتهم نحوالآخرين فيستشرفون تلك المسؤوليات التي يتوقف عليها مصير البشرية، وبهذا المعنى يضعون أنفسهم في علاقة مسؤولية عن أنفسهم وعن الآخرين.
 رابعاً: على الرغم من التلميحات العنصرية التي تنبثق من آن لآخر في فلسفة ليفيناس لصالح الشعب اليهودي ولا سيما في وصفه الجار كرمز لهذا الشعب نلاحظ من خلال فلسفته أنها بمنزلة دعوة للأديان للاهتمام العميق بالبعد الأخلاقي في خطاباتها وتعليمها وممارستها وتنظيمها للحياه المعيشة ولذلك رفض ليفيناس المقاربة بين الأديان لأنها تختزل ديانة الآخر داخل الذات لذا يصرّ على الأخلاق للأديان الأخرى لأن أتباعها - كما قال ليفيناس- شخص آخر، وبالتالي سيؤدي الانفتاح على هذه الديانات من خلال المنظورالأخلاقي الإتيقي الذي نادى به ليفيناس إلى احترام هوية الآخر الدينية، ومساعدته على تعزيز حريته وكرامته مما يكون له أعظم الأثر في الحد من حركات العنف السائدة في المجتمعات المعاصرة والتي غالباً ما تكون ناشئة عن الاختلافات الدينية، ومن هنا نستطيع القول إن فلسفة ليفيناس، فلسفة تهتم بحقوق الإنسان من خلال النزعة الإنسانية من الآخر بدلاً من النزعة الإنسانية من الأول على حد تعبيره.
مهما يكن من أمر، فإن ثمة التباسات كثيرة في غيريّة ليفيناس، سواء مما قدّمه هو نفسه من كتابات أومن خلال ما التأويلات التي رافقت هذه الكتابات في المدارس النقدية الغربية.
ولعل أبرز هذه الالتباسات هي تلك التي تعمِّم النظر إلى المسيحية والتي عاشتها مع الحداثة على الأديان الأمر الذي يعكس جهلاً بروح الدين ولا سيما مفهوم الرحمة والإيثار اللذين جاء بهما الدين الخاتم إلى العالمين.