البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المطلق النسبي وغيرية الموجود ، دراسة في هوية الميتافيزيقا عند فريذيوف شوان

الباحث :  حمادة أحمد علي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  10
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  1517
تحميل  ( 365.905 KB )
أخذت الغيريّة مساحة واسعة وعميقة في فضاء الفلسفة منذ الحقبة اليونانية الأولى وصولاً إلى الميتافيزيقا الحديثة. وكان الكلام على ثنائية العالم ووحدته محور الاشتغال على المفاهيم.
هذه المقالة تدور حول ثنائية المطلق والنسبي لدى الفيلسوف السويسري فريذيوف شوان. وفيها مسعى لتأصيل الهوية الميتافيزيقية للغيرية في عالم الموجودات.
ولد فريذوف شوان بمدينة بازل في سويسرا 1907، واعتنق الإسلام في السادسة عشرة من عمره وحمل اسم الشيخ عيسى نور الدين، وقد كتب ما يربو على العشرين مؤلفاً في الميتافيزيقا والتصوف، وقد لاقت مؤلفاته قبولا منقطع النظير في القرن العشرين.ومن أعماله عين القلب، العرفان: حكمة ربانية، المنطق والتعالى، لعبة الأقنعة، طرق الحكمة الخالدة، مقامات الحكمة، تحولات الإنسان، الوحدة المتعالية للأديان، أحوال الإنسان وجذورها، كنوز البوذية، الشمس المجنحة، الطريق إلى القلب، المسيحيَّة والإسلام.

هذه المقالة تبحث في آرائه الميتافيزيقية ونقده المفاهيم الغربية التي جرَّدت الطبيعة البشرية من عليائها الروحي. علماً أن على المدرسة التقليدية الداعية إلى الحكمة الخالدة مؤاخذات كثيرة أهمها عدم التمييز بين الدين الوحياني والدين الوضعي، وكذلك الدعوة إلى نوع من الغنوصية المتأتية بثقافات متعددة.

المحرر


تتعلق هذه الدراسة بالميتافيزيقا التراثية، وهي طرحٌ لمفهوم جوهري هو’المطلق النسبيّ‘، ذلك الاصطلاح الذي أبدعه فريذيوف شوان (F.Schuon) لحل اشكالية تطبيق مفاهيم المطلق والنسبي، والتي تترى بين حين وآخر في الأدبيات الجوانية، ووصلت في المرحلة الحالية من دورة الإنسان على الأرض إلى محاولة تحويل كل مطلق إلى نسبي كما يجري في فلسفة الحداثة وما بعد الحداثة، كما وافق ذلك صيغ المبالغة في الفكر والقول التي جعلت من النسبيات مطلقات، من دون وعي بالمطلق والنسبي بما هما.
يعدّ شوان فيلسوفاً من حكماء مدرسة الفلسفة الخالدة، ويساوي مصطلح الفلسفة الخالدة المصطلح اللاتيني (philosophia perennis) الذي استخدم على نطاق واسع في التوماوية الجديدة المعاصرة ‘لألدوس هكسلي’ الذي ألف كتابًا بالاصطلاح نفسه، وأصبح الاصطلاح مشاعًا على غير المتخصصين في الدين والفلسفة، لذا وجب أن نوضح معناه في سياق هذه الدراسة. وقد أضاف كوماراسوامي صفة الكليات إلى الحكمة الخالدة، وهي تعني المعرفة الكائنة، والتي ستكون، ولها معنى كلي سواء أكان  بين أناس لهم أطر ومفاهيم مختلفة أم معلنًا بمبادئ كلية. وهذه المعرفة متاحة للبصيرة  وتقبع في قلب كل دين أوتراث ويمكن تحصيلها وإدراكها بمناهج التراث التي تتمثل في الطقوس والرموز والصور أو بوسائل توحي بها السماء أوقبس من الربوبية التي توحي بكل تراث، ومن السهل نظرياً أن يكتسب الإنسان هذه المعرفة في مستواها الظاهري بالبصيرة، وهي ’طبيعة خارقة‘ ومجبولة في جوهر الإنسان.
ويمثل هذه المدرسة رينية جينوR. Guénon  وأناندا كوماراسوامي A.K.Coomaraswamy  وماركوبالليس   M.Pallisوتيتوس بوركار T.Burckhart ومارتن لينجزM.Lings ولورد نورثبيورنLord Northbourne وليوشايا L.Schay وهويتهولبيري W.N.Perry  وهوستن سميث H.Smith وفريذيوفشوانF.Schuon.
ومن يتحدثون في الحكمة الخالدة يركزون على مظهر الدين، مثل الله والإنسان، والوحي والفن المقدس، والرموز والصور، والشريعة والطقوس، والتصوف والأخلاق الاجتماعية، والكون واللاهوت. ويهتمون بالحقيقة التاريخية المتحولة في الدين في حدود التاريخ فحسب، وهم يرفضون العرض الأكاديمي للتاريخ، والذي تطور في أوروبا إبان القرن التاسع عشر. ومن ثم فهم على النقيض من المدرسة الظواهرية التي لم تُحسن الكشف التاريخي لتراث بعينه أوتفسير دلالة الظاهرة الدينية وقيمتها في إطار تراث له تاريخ.
  وتتحدث مدرسة الحكمة الخالدة عن التراث، وتؤمن بأن هناك تراثاً أولانياً شكّل الكمال الروحي للإنسان، والموروث البصيري الذي تجلى عن الوحي مباشرة، في زمن تعانقت فيه الأرض والسماء. وقد انعكس التراث الأولاني في أشكال التراث المتأخرة التي ليست مجرد استمرار لأفقيته أوتاريخيته. وقد تميز كل تراث بأنه تنزيل رأسي من الأصل، حيث يهب الوحي كل تراث مركزه وعبقريته الروحية وحيويته وتفرده.
ويرى التراثيون أن تصور الدين يتسع  ليشتمل على أشكال الدين سواء أكانت أولانية وتجريدية أم سامية وهندية أم خرافية. وكما يفهم التراثيون أمثال ‘شوان’ أن التراث يشتمل في طياته على صيغ التجلي الرباني ومستوياته. فهكذا يحمل مذهب التراث هذه الصيغ والمستويات، ويطور الرؤية اللاهوتية في الدين المقارن أوما ينبغي أن نطلق عليه ميتافيزيقا الدين المقارن، والذي يصف لاهوتيا أهداف كل دين، ويخول لدارس الدين أن يهتم بموضوعية وجود الأديان الأخرى، ويزيد ما يحتكم عليه في طبيعة دينه، حتى يتجاوز الحدود والعوائق التي تفصل عالم إبراهيم عليه السلام عن كريشنا وراما، أوعالم الهنود الأمريكيين عن التراث المسيحي على سبيل المثال.
وتؤكد الحكمة الخالدة أن الوحدة بين الأديان كامنة فيما وراء تنوع الصور الدينية، وأنها الحقيقة الجوهرية في قلب كل الأديان، ولا تزيد عن كونها فلسفة خالدة فحسب. ولا وجود لهذه الوحدة على مستوى الصور الظاهرة.
ولا تجمع المدرسة التراثية الأديان جنبا إلى جنب في نهج ظواهري يحشد الظواهر الدينية بلا حكم معياري، كما لو كان يجمع رخويات، وإنما تستند إلى المعرفة اليقينية من الحكمة الخالدة، فالتراثيون يميزون مراتب التجلي الرباني من مستوياته المتفاوتة، وكذلك درجات النبوة وما قل أوكثر من تدبير سماوي، وأسراريات الدين الواحد سواء أكانت كبرى أم صغرى، وللمدرسة بعدٌ معياريٌ، ودراسات دينية تبغي بها الحقيقة من أجل الحقيقة ذاتها، لا غير من دون أن تقع في الذاتية، وتسمح هذه الحقيقة للباحث أن يتحرر من سجن الذاتية، ويتجاوز البدع التي يواجهها، لأن هذه الحقيقة تعلوعلى الفردية، لذا فهي حكمة خالدة وكلية.
ولا يميز بناء رؤية الحقيقة بما هي في مدرسة التراث بين الدين الحق والدين الزائف، ومراتب التجلي المختلفة، للمبدأ الرباني في فلسفة الحكمة فحسب، بل يخترم كل عالم للدين، لإبراز تعاليمه وهويقارنه بالأديان الأخرى في ضوء الحكمة الخالدة من دون أن تقول بنسبية الحقيقة الدينية، وحذف الروابط والحدود التراثية بين الطبيعة والدين، وكيف يدرس الأديان الأخرى بتعاطف من دون أن يفقد معنى الإطلاق، وهوشرط لا غنى عنه للدين والحياة الدينية، ويعكس حقيقة أن الدين لا يأتي إلا من مطلق.
ويعد شوان الوحيد من بين التراثيين في عرضه الشامل للدين من وجهة نظر الحكمة الخالدة، فقد كرس عدداً كبيراً من الدراسات التي تدلل على روحانية الإنسان، ودور ما يسميه ’الهامش الإنساني the human margin‘ في مظاهر الحياة الدينية والفكر، والذي لا يفهم ولا يفسر إلا عن طريق فهم طبيعة الإنسان المتلقي، والتحسب لغموض النفس البشرية.
ويقول شوان «إن الحكمة الخالدة وحدها من بين باقي الأمور خيرٌ بكاملها وبدون أدنى تحفظ، أما البرانيَّة مع كل تحديداتها الجليَّة فتشتمل دوماً على فقه ‘أهون الضررين’ بسبب تساهلها الحتمي مع طبيعة الإنسان الجمعي، وبالتالي مع إمكانيات الإنسان العادي الروحيَّة والأخلاقيَّة والفطريَّة، ونقصد بالإنسان العادي الإنسان ‘الهابط ’، فقد قال المسيح عليه السلام  لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. ومن وجهة النظر الواقعية بعيداً عن وجهة النظر التأمليَّة فإن البرانيَّة تضع الذكاء البحت بين قوسين، فيمكن القول إذا جاز التعبير إن الجوانيَّة تستبدل الذكاء بالعقيدة، والعقلنة المشروطة بالدين، وهو ما يعني أنها تؤكد الإرادة والانفعال. وتلك هي مهمتها وسبب وجودها، إلا أن تلك التحديدات سيف ذو حدين، وليست عواقبها إيجابيَّة بالكامل كما هي حال التحيزات الدينيَّة كلها. أما القول إن غموض البرانيَّة مرتبط بمشيئة ربانيَّة  فهوأمر صحيح”.
ويجيب شوان عن كون الحكمة الخالدة إنسانية أو ربانية فيقول “قد يتساءل البعض هل الحكمة الخالدة أمر إنساني؟ والإجابة عن هذا السؤال مبدئيا هي ‘نعم’، لكن الواقع أن إجابة هذا السؤال يجب أن تكون ‘لا’، لأن الإنسانيَّة بالمعنى الاصطلاحي للكلمة إنما تنطوي على إجلال وتوقير للإنسان القديم الذي هبط من الجنة وليس إجلال الإنسان التائه بما هو. والإنسانيَّة عند المحدثين تُعرف جزئياً بمدى المنفعة التي يرجى الحصول عليها من وراء الإنسان المتشظي، فهي الرغبة في جعل الإنسان المفيد لا نفع فيه بقدر الإمكان”.
ومجمل القول لا تنفصل فلسفة شوان عن الإطار الذي تتحدث فيه مدرسة الحكمة الخالدة، وتؤمن فيه بكل تراث إنساني أولاني، دون أن تركز على دين بعينه، وأن الإنسان جسد وروح، وهي على خلاف المدارس الفلسفية الحديثة والمعاصرة التي اختزلت الإنسان في الجسد تارة وفي النفس تارة أخرى، وفي كلتا الحالتين أضفت عليه المطلقية. وهذا الإطار الذي قدمنا فيه بإيجاز الخلفية الفكرية لمدرسة الحكمة الخالدة وعلاقة شوان بها يحدو بنا لتقديم تصور شوان المطلق والنسبي.    
ثانياً: مفهوم المطلق والنسبي
يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري أن المطلق هوالتام والكامل والمتحرر من كل قيد، واجب الوجـود المتجـاوز للزمان والمكـان، ولذا فهويتســم بالثبات والكلية.
أما النسبي فهوما يُنسَب إلى غيره ويتوقف وجوده عليه ولا يتعيَّن إلا مقروناً به. وهومُقيَّد وناقص ومحدود، مرتبط بالزمان والمكان، ويتلون بهما ويتغيَّر بتغيرهما، ولذا فالنسبي ليس بكلي.
ويعد هذا التعربف للمطلق والنسبي تعريفاً عاماً بالنسبة إلى الرؤية الجوانية لشوان، فيقول «إن قول ’مطلق‘ هوذاته قول "لانهائي"، والعالم يتجلى من ذلك"البعد" حتى يُمكن للدنيا أن تتخذ شكلاً. والمطلق اللَّانهائي هوالخير الأسمى Agathon عند أفلاطون، وقد قال القديس أوغسطين إن من طبيعة الخير الأسمى أن يُقدم ذاته، ويعكس العالم الذي يشتمل على اللانهائية.
واللَّانهائية والكمال من الأبعاد الكامنة في المطلق، وتبرهن على ذاتها "في اتجاه هابط" حسب النشأة الكونية للتجليات، حتى يتسنى لنا القول إن الكمال هوصورة المطلق في انعكاساته في الوجود، وهوما يُؤلف اللانهائية، وهنا تتدخل المايا الربانية وهي النسبية إذ ينبثق من المطلق لانهائية فاعلة تتجلى في الخير، وترسم بالتالي بنية أقنومية في اتجاه "خالق" حتى نهاية التجليات.
إن المطلق لانهائي، ويشع ذاته ليعكس نوره في الخير المتجلي، ولن يشع المطلق بذاته، ولن يُنتج صور الخير ما لم يكن هوذاته الخير والنور معصومًا في صمديته عن التجليات، وبتعبير آخر، إنه يتحلى بهذه الأبعاد  اللّامتفاضلة إذ إنه قد تعالى على النسبية، وهذا هو الأساس الأول لمذهب الأقانيم المسيحي. ولئن كان شوان عرَّف المطلق بأنه لانهائي وكامل، فهذه الصفات لا تساويه، إنما هي صور أو تجليات كامنة في المطلق، وتعلن عن نفسها في حال انفصالها عنه.
ويناظر المطلق الوجود والقدرة في لاهوت التثليث، - هوأمر ينعكس في العالم الحيوي في العلاقة بين "الكتلة والطاقة"، أما فكرة "الوجود" فلا يصح تفسيرها هنا بالمعنى الأنطولوجي المحدد الضيق، بل كمرادف بسيط للواقع، ويجوز التساؤل حين نتفكر في التشابه بين "الثالوث"المسيحي، والثلاثية الفيدانتية ‘الوجود، والوعي، والرضوان "sat، chit، ananda"، عن العلاقة بين "الخير"و"الوعي"، ففي اللحظة التي  ينبثق فيها الخير من المطلق، والذي يتضمنه بشكل لا تفاضل فيه، فإنه يتناظر مع وعي المطلق بذاته في "الكلمة الربانية"، ألا وهي "المعرفة"، لا يُمكن إلا أن تكون "الخير"، فالله سبحانه يتعرف إلى ذاته في الخير فحسب.
وقد اقترن مفهوم المطلق عند شوان بالربانية حيث لا وجود لأنا ولا لأنت من منظور المطلق ولا من منظور الرب في صفاته الحسنى، إذ إنه سبحانه يعز ويجل عن الوصف بالكلمات والأفكار كلها.
ومما سبق يتضح أن المسيري في تعريفه العام، وشوان في تعريفه الجواني، لا يحيدا عن المعنى اللغوي الذي يحدده ابن فارس في تعريف المطلق حين يقول: « الإطلاق هوذكر الشيء باسمه لا يُقرَن به صفة ولا شرط ولا زمان ولا عدد ولا شيء يشبه ذلك».وقد أقول أطلقت القول أي أرسلته بغير قيد ولا شرط، وأطلقت البيِّنة أي شهدت من غير تقييد بتاريخ.
وتعمق شوان في تحديد ماهية المطلق متجاوزاً للتحليل اللغوي المعجمي وهو يقدم مجموعة من التساؤلات ويجيب عنها قائلاً:” لوسُئلنا عما هوالمطلق، لقلنا أولاً إنه الجوهري واجب الوجود، وليس العرضي ممكن الوجود فحسب، وبالتالي فهو لانهائي وكامل، ولقلنا ثانيًا إنه كل ما انعكس في الوجود، كوجود الأشياء بحسب مستوى السؤال، ولا وجود بغير المطلق، ويتجلى وجه المطلقية في وجود شيء ما يُميز الموجود عن اللاموجود، فحبة الرمل الموجودة معجزة بالقياس إلى الفضاء الفارغ.. ولونحن سُئلنا عما هو اللانهائي، لقلنا إنه المنطق شبه التجريبي الذي يطلبه السؤال نفسه، ويتبدي في الوجود كصيغ للمدِّ والجزر، شأنه شأن المكان والزمن والشكل والعدد والتكاثر والمادة، وحتى نكون أكثر دقة نقول بطريقة أخرى: إن هناك صيغة حافظة هي المكان وصيغة مُحَولةً هي الزمن، والذي يعني لانهائية اطراد التحولات، لا تحديد الدوام فحسب، وصيغة كمية هي العدد الذي يعني لانهائية العدد ذاته لا تحديد الكم فحسب، وصيغة مادية هي المادة وهي الأخرى لا حدود لها كتجلي النجوم في السماء، ولكل من هذه الصيغ امتداد في الحال الحيوي وما وراءه، فهي أعمدة الوجود الكوني. وأخيرًا لوسُئِلنا عن الكمال أوالخير الأسمى، لقلنا إنه الله سبحانه، والخير هو ما يتجلى في الوجود على شكل فضائل، أوبالحري ظواهر كيفية تتبدى في كمال الأشياء لا في وجودها فحسب، والمطلق واللانهائي والخير، لا تناظر الوجود والأنواع الموجودة وما يتعلق بكيفيات وجودها فحسب، بل هذه العوامل معًا في آن، لتبين معنى الأوجه الربانية فيما وراء العالم لوجاز القول».
والواضح أن وصف شوان المطلق بصفات اللَّانهائي والكمال والخير الأسمى قد يتساوى وصف المثال الأفلاطوني الذي يتسم بالثبات من ناحية، وهوالخير الأسمى الذي تفيض منه الموجودات وتتشاكل معه عن طريق النفس من ناحية أخرى. لكن شوان يختلف عن أفلاطون في مبدأ التجلي الرباني حيث يتجلى المطلق للنسبي في حين كانت العلاقة غامضة بين مثال المثل والمحسوسات  عند أفلاطون؛ وهوالأمر الذي جعلنا نلتطم بأمواج من التفسير والتأويل لفهم معنى التشاكل، وكيفية تجلي الكلي في الجزئي ومشاركته الوجود.

المطلق حقيقةً دينية
ومهما يكن من أمر، فإن المنظور الذي يمكن رؤية شوان فيه هوالجانب الديني الذي لا ينفصل عن  الوجود، وقد يتجلى ذلك حين يرى شوان أن "معنى المطلق" لا يقوم بالمنوال نفسه على كل العناصر العضوية بين دين وآخر، وإلا استحالت المقارنة بين عناصر الأديان الظاهرية، وتتضح هذه المسألة في الطبائع المختلفة لحالات التحول عن دين إلى آخر بين المسيحية والإسلام مثلا، ففي حين يبدو التحول إلى المسيحية من جوانب معينة كما لوكان بداية حب عظيم يجعل من حياة الإنسان السابقة غرورًا وتفاهة كما لو كان "ميلادًا جديدًا" بعد "موت"، فالتحول إلى الإسلام يبدوعلى العكس مثل يقظة من حب تعس، أوصحوة من سكر بيِّن، أوكما لوكان بكارة صباح بعد ليل مضطرب.
واتفق مارتن لنجز وهو من أقطاب مدرسة الحكمة الخالدة مع شوان وهو يقول: إن الله سبحانه مطلق والوجود مطلق، كما أنه اللانهائي كذلك، وحيث إنه مطلق لانهائي فلا تشوبه ثنوية، فهوالكمال مطلقاً. والكمال إذن هوما يشارك فيه كل من المطلق واللانهائي، وحيث لا وجود لثنوية فلا فاصل بين الذات والموضوع في العلم الرباني، وقد نعبر عن الوقائع بصيغة ذاتية أوموضوعية، والتي سينبثق عنها "هو" بدلاً "لأن" وينطوي الوعي بالذات على تساؤل ضمني "ماذا أنا؟"، والتي يمكن أن تصاغ كسؤال موجه إلى النفس "ماذا أنتِ؟". والإجابة في المقام الأعلى هي "أنا الكمال المطلق اللانهائي"، أوهي ببساطة "أنا هو" كما وردت في التراث الإسلامي، ويقول القرآن الحكيم “لا إله إلا أنا»، وكما يقول «لاإله إلا هو«، وهناك على الدوام انتقال سهل بين ضميري المتكلم والغائب في القرآن بكامله.
وحيث إن الكمال المطلق اللانهائي هوالمثال الأسمى للثنويات، ويمكن أن يُدرك ككمال واحد له جانبان كما تبلورَ في المنظور الطاوي،لكن من الممكن أيضًا الاعتبار في المصطلح التثليثي تعبيراً عن المثال الأسمى لكل الثلاثيات في الوجود.

ويقول شوان إننا ندرك المطلق سبحانه على قمة الهرم الأنطولوجي، أوبالأحرى فيما وراءه، وهوالذي تشتمل طبيعته على اللانهائية والكمال، واللانهائية تشع من الباطن والظاهر، أي تشتمل على قدرات المطلق عز وجل وتنشرها في الآفاق، والكمال الذي تماهى مع هذه القدرات هوالذي يعكسها على عالم النسبية، وهوالذي يتفجر منه إمكان الصفات كافة سواء أكانت في الوجود أم في العالم أم في أنفسنا. وإذا كان المطلق هوالحقيقة الصرف، فإن اللانهائية هي الإمكان، والكمال أوالخير الأسمى هوجُمَّاعُ محتوى اللانهائي.
الوجود المطلق والوجود المحض
وقد ميز شوان نوعين من الوجود من حيث الإطلاق وهما الوجود المطلق والوجود المحض، أما الوجود المطلق فيمثل انعكاس المطلق البحت الذي يتجلى في النسبية، ولا يمكن أن يتحول الوجود المطلق إلى الوجود البحت كما يدعي فلاسفة النسبية المعاصرة، وإن حدث التحول، وهذا مستحيل، لتنزهت الثنويات والثالوث عن مخالطة البشر أو محادثتهم، لأن التنزيه من صفات المطلق البحت، وهكذا يقول شوان «لا يتطابق الوجود المُطلق مع المطلق البحت، فهوتابع للنظام الرباني بقدر ما هونعكاس للمطلق في عالم النسبيَّة، ومن ثم يمكن تسميتهمطلقاً نسبيًّا على الرغم مما تحمله التسميَّة من تناقض، فهوأقنوم رباني، وإذا كانت الأقانيم الربانيَّة هي المطلق بما هو لتنزهت عن مخاطبة الإنسان». والوجود المُطلق هوالمطلق النسبي أو هو الرب مطلقاً نسبياً قادراً على الخلق، فالمطلق البحت أي "غيب الغيب" يتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.

النور الإلهي يملأ ظلمة الكون
ويشتمل المطلق أوالجوهر على اللانهائيَّة التي تشع بنوره، فالنور الإلهي يعكس الجوهر على "الفراغ" دون أن "يخرج" إليه بأي شكل كان، إذ إن المبدأ معصوم لا ينقسم، ولا يمكن أن يُغتصب منه شىء، فانعكاسه على اللا شيء يتجلى بصيغة "أشكال" بادية و"أفعال" حادثة، و"حياة" اللانهائي ليست فعالة بقوة مركزيَّة centrifugal فحسب ولكن أيضا ببنية مركزيَّة centripetal، وبشكل تبادلي أومتزامن بدءًا بالإشعاع وعودًا إلى المبدء، والمبدأ الأخير يعني نشوراً وعودة الأشكال والحوادث إلى الجوهر، ومن دون أن يُزيد أويُنقص من الجوهر شيئا، فهوالنعمة والكمال مطلقاً، وهوخصيصة من خصائص المطلق كما لوكان حياته الباطنة، أوحبه الذي يفيض ليخلق العالم.
وهذا النص يدلل على أن فلسفة شوان لا تنفصل عن الإطار التراثي، حيث تتكامل العلوم، ويتحد الوجود في وحدة كلية، ويرى التراثيون أن الفراغ ليس عدمًا كما هو في الفلسفات المعاصرة، فلا يمكن أن ندرك الشكل من دون الفراغ، فتخيل، نافذة أوباباً من دون فراغ، أي هل يمكن أن نعرف قيمة الشكل من دون الفراغ؟، وتعبر هذه القضية عن مكنون الفن المقدس أوالتراثي، لدرجة يمكن أن نقول فيها كي يكون الفن فنًا ينبغي أن ياخذ صفة من صفات المطلق وهي اللاتناهي. والملاحظ هنا أن المطلق عند شوان يعطي الفراغ شكلاً من دون أن ينقسم لأنه جوهر، والجوهر عند أرسطو هو ما لا يحمل على موضوع، وما عداه فهي أعراض، وهوعند المتكلمين الفرد الذي لا ينقسم، ولذلك كان من أحكام الجوهر، أنه قابل للعرض، ومتحيز، أي تأخذ ذاته حيزاً من الفراغ.
ويمكن القول إن المطلق واللانهائي والكامل هي التعريفات الأولية للطبيعة الربانية، ولو وصفناها بلغة الهندسة لقلنا إن المطلق أشبه بالنقطة التي تستبعد كل ما ليس هي، واللانهائي أشبه بالصليب أوالنجمة أوالحلزون الذي يمتد من النقطة ليسَعَ كل شيء، والكمال أشبه بدائرة أوبدوائر متراكزة على النقطة تعكسها أوتنقلها إلى امتدادها. ومطلقيته هي الحقيقة الأسمى بذاتها، ولانهائيته هي قدرته الكلية وعلمه الكلي، وكماله هوالإمكان بمدى ما يحقق من احتمالات. والخليقة أوالتجلي الكلي أثر للطبيعة الربانية، فالله تعالى لا يكفُّ عن الإشعاع، فيتجلى في خلقه بموجب لا نهائيته.
ويرى شوان أنه على الرغم مما تعرضنا له من تعريف للمطلق، فهذا نسبية محضة، ويمكن إحلالها بأي ألفاظ، فلا تساوي الصفات الذات، وإن محاولة التعريف خطوة نحو الفهم، والخوض فيها إدركا للماهية وليس الذات. وتعريف المطلق بما هولا بد أن يكون مطلقاً بدوره، وكل محاولة لوصفه تنتمي بالضرورة إلى النسبيَّة بموجب تنوع طبيعة محتوياتها، وليست غير صحيحة لهذا السبب ولكنها بالأحرى عرضيَّة محدودة قابلة للإحلال بغيرها، حتى إن المرء لو حاول أن يضفي على المطلق تعبيراً مطلقاً لما أمكن سوى أن يقول "الله واحد"، ويقول الصوفيَّة إن "التوحيد واحد"، ويقصدون بذلك أن التعبير في حدود إمكانياته لا بد أن يكون متوحداً مع غايته.
ولا يُدرك المطلق في حد ذاته لكنه يتبدى في وجود الأشياء، ولذلك يمكن القول بصورة مشاكلة إن اللانهائيَّة تتجلى في التنوع الذي لا ينتهي، وكذلك يتجلى الكمال في صفات الأشياء الكيفيَّة، إذ يبين الزهد أمام المطلق في تجلي اللانهائي، فالأمور تتبدى في تناغمها وهندستها.
ويقول شوان « أما بالنسبة للنسبية فقد أخذت على عاتقها اختزال كل عنصر من المطلق إلى أمر نسبي، في حين أسبغت على ذلك الاختزال ذاته استثناءات غير منطقية، فصارت بمنزلة قول "إن الحق هو ألا وجود للحق"، أوقول "إن الحق المطلق هوألا وجود سوى للحق النسبي"، أو أن نقول بلغتنا "لا وجود لشيء اسمه اللغة"، أو أن نكتب بأدوات كتابتنا "لا وجود لشيء اسمه الكتابة". وباختصار فكل فكرة قد اختزلت إلى نسبية من نوع ما، سواء أكانت نفسية أم تاريخية أم اجتماعية، ولكن البرهان يمحو نفسه كلما قدم ذاته على أنه نسبية نفسية أوتاريخية أواجتماعية، والحق أنه يمحونفسه بنفسه برهانًا على بطلانه، ويكمن بطلانه الأول في الادعاء الضمنى بأنه فريد في بابه وذلك بهروبه كما لو كان بالسحر إلى افتراض قيام نسبية بمقومات ذاتها.
والمُسلّمة البدهية للنسبية هي"أن الإنسان لا يستطيع التخلي عن ذاتيته"، فإذا كان الأمر كذلك فلن تحتكم المقولة إلى أية قيمة موضوعية، وينال من صدقها حكمها ذاته، ومن الثابت عيانًا أن الإنسان يستطيع التخلي عن ذاتيته وإلا ما صار إنسانًا، وبرهان ذلك قائم في حقيقة أننا قادرون على إدراك الذاتي بما هوذاتي، وإدراك ما وراءه أيضًا، فالإنسان حبيس ذاته لن يستطيع تصور ماهيته الذاتية، والحيوان يعيش ذاتيته من دون أن يتصورها لأنه لا يحتكم إلى موهبة الموضوعية مثل الإنسان».
وتتضمن النسبية على حد اعتقاد شوان علاقتي الانعكاس والامتداد تجاه المطلق، وتؤكد بطريق التواصل والانقطاع أن الأقانيم لا تنتمي إلى العلاقة الأولى، وهو بمنزلة إنكارٍ لطبيعتها الربانية التي تضاهي الامتداد الهندسي، فالجوهر فقط هوما سيكون ربانيًا، حيث إن النقطة فحسب هي المركز والبرهان، على أن الأقانيم مع نسبيتها لا تنتمي إلى العلاقة الثانية بأي شكل ذلك بمنزلة إنكار انفصالها عن الغيب المحض واستحالتها إلى جوهرٍ متفاضل أي متأثر بالنسبية، وهذا هو التناقض الاصطلاحي، ثم إننا نجد في النسبية أيضًا علاقتي التفاضل difference والتماهي identity، فإن الأقنوم يتفاضل عن غيره حتى لا يكون غيره وليس ذاته، ولكنه يتماهى مع الأقانيم الأخرى فيما يتعلق بجوهر الأقانيم جميعًا، ألا وهوالله سبحانه. ويعتبر بُعد التفاضل واللاتفاضل بعدًا أفقيًّا على سبيل القول ولا ينطوي على مشكلات، ولكن ذلك ليس حال البُعد الرأسي للتواصل والانقطاع، إذ تتدخل قضية المراتب، وهذا أمر محفوف بحساسية المشاعر الدينية، ناهيك عن الحذر من الفسق بأي ثمن، فيضع آلهة عدة إلى جوار الله تنزه وتعالى من ناحية، ومن ناحية أخرى يُنسب إليه مفارقة تؤدي إلى النتيجة ذاتها، فلابد أن تظل الطبيعة الربانية بسيطة، مثلما تظل الحقيقة الربانية واحدة، من دون إهمال التعقيد الذي لا يُنكر في الأسرار الربانية.
ثالثا: المطلق النسبي
قد وضع شوان تصوراً يجمع فيه المطلق والنسبي وهوالمطلق النسبي وهومتناقض ظاهرياً ولكنه واضح ميتافيزيقياً، فداخل نظامنا الشمسي الشمس هي الشمس وتُرى في مدار الفراغ، وإنها شمس واحدة بين شموس كثيرة، ويمكن الوعي بوجود شموس كثيرة بوسائل تفوق الطبيعة وفي حالة الإنسان العادية، كما أن الوعي الوجودي بعوالم دينية متعددة لا يجعل شمسنا تكف عن أن تكون شمساً، وهي مركز نظامنا الشمسي، ومصدرالحياة لعالمنا، والرمز المباشر للبصيرة الإلهية لنا، يبعثها بوهجه، وينيرها بضيائه.
يرى شوان أن معرفة المطلق التي تناظر نعمة الذكاء من حيث المبدأ تعني معرفة النسبي، وكذلك معرفة طبيعتة الوهمية، ولن يصلح شيء لإقناعنا بالتسليم بواقعة نسبية أيًا كانت باعتبارها مطلقة، ولا لأن العقيدة لم تنص على نسبيتها الأنطولوجية، وإن معرفة المطلق تتسق مع الذكاء الكلي "من حيث المبدأ"، ويعني هذا التحفظ أن الإنسان ليس له الحق في ادعاء معرفة الحقائق المتعالية، إلا بالتناسب مع إخلاص يقينه، وهو يُبرهن على هذا الإخلاص بموجب النتائج التي يستنتجها منها على المستوى الفردي، وإلا صار نحاساً يطن أوصنجاً يرن، وليس هناك غرابة عقلية في هذه الحالة على المستوى الإنساني المتكامل، فمعرفتنا لابد أن تتسق مع وجودنا والعكس.
وإن الروح الإنسانية تميل إلى واحدة من ناحيتين، فإما أن تختزل الرب إلى العالم، أوالمطلق إلى النسبي، وإما أن تختزل العالم إلى الله سبحانه، أوالنسبي إلى المطلق، ومن الثابت أن الميل الثاني يعني فكرة تراتب الحقيقة، في حين يعني الميل الأول إنكارها والتعلق بكل شىء آخر في الوجود ذاته. ويختزل بعض الناس الرب إلى العالم عملياً، في حين يُحافظون في باطنهم على إطار فكرة التعالي، وهناك آخرون يختزلون التجليات الكونية العملية إلى مبادئ ربانية، في حين يُصرِّحون بلا شيئية التجليات جميعاً قياساً إلى المبدأ. وهذه العملية من الاختزال بفرعيها سواء أكان الاختزال الهابط وهواختزال المطلق إلى النسبي أم الاختزال الصاعد وهواختزال النسبي إلى المطلق، يعبران في جوهرهما عن جدل المعرفة عند أفلاطون، إذ يرى أن هناك نوعين من الجدل وهما الجدل الهابط والجدل الصاعد، فيتجلى مثال المثل إلى عالم المادة، ويسمى جدلاً نازلاً، وإن أراد الإنسان أن يصل إلى معرفة المثال، فعليه أن يبدأ من عالم المادة حتى يصل إلى المثال الذي لا يعلوه شيء، ومن ثم يتحد بالمطلق. وقد تطور هذا الجدل عند أفلوطين، فبنى الجدل على مراتب للوجود، وقد أثر هذا البناء في فلاسفة المسلمين، وخاصة الصوفية في مسألة وحدة الوجود، وهى واضحة تماماً في الفتوحات الكبرى لابن عربي.   
ويرى شوان أن النسبي ما لم يكن شيئاً من المطلق لما أمكن تمييز النسبيات بعضها عن بعض. ومن الواضح أن الأرثوذكسية لا تمنح الخلاص كنسبية، بل بفضل مطلقيتها. والوحي نور معصوم بوصفه تجسداً موضوعياً للروح الربانية، وليس بموجب تجسده فحسب، ولن يكون من الممكن فهم الوحي ولا التراث ولا الأرثوذكسية ولا اتحاد الوعي البصيري بالوجود إلا بموجب العنصر الكيفي شبه المطلق في مركز الكون وشرايينه، والذي يشع فتتجلى في نوره ظواهر القداسة. ويعني شوان هنا أن النسبي لم يخلق ذاته، أو أنه نتيجة تطور وتراكم، كما هي الحال في نظرية التطور عند دارون، بل هو صادر من المطلق، وطالما هو كذلك فإن تمايز النسبيات لا يبنى على الكم فيما بينها بل على الكيف، وإن بُني التمايز بين الأشياء على الكم لتشابه الإنسان والحيوان والجماد.
ولذلك يقول شوان يمكن أن تنقسم مقامات الوجود الكلي نظريًّا عدة مرات، ولكن ما يهم المذهب هو الوعي بأولوية الأقسام الرئيسة بدءًا بالمطلق فيما وراء الوجود، وهوالحقيقة الوحيدة بمعنى الكلمة. وهومقام الذات الإلهية التي تتعالى على كل النسبيات والتجليات، ويتلوها مباشرة نطاق الوجود المطلق نسبياً، أي الرب الموصوف بصفة حسنى، مثل الخالق الذي ينبثق عنه كل عمليات الخلق والوجود، وفعل الخلق وسيط بين الواجد والموجود أوبين المعبود والعابد. وقد كان المقام التابع له هواستقطاب الوجود بين سماءٍ وأرض، أوبين روحٍ وجسد، ومن منظور الإنسان بين دنيا وآخرة، مع أن الآخرة يمكن أن تُدرَك بمفهوم أوسع بحيث تنطوى على كل ما تعالى على الحياة الأرضية المادية مخلوقة كانت أم لامخلوقة.
ويتطلب فهم مذهب الربوبية معرفة كافية بمبدأ الإطلاق ومعنى نسبية مراتب الوجود ومقاماته، وحتى إن كانت النسبية مصطلحاً اختزالياً ناتجاً من تناقض الوجود فهي مفتاح لازم لفهم العلم الرباني، ولنفعل كما يفعل اللاهوت حين يستخدم ثنائيات يقينية متلازمة مثل"الخالق والمخلوق"فتؤدي إلى الإيمان في غياب الشك المعتاد، ومن ثم نرتكز على عالم يقيني. أما حينما تلجأ إلى ذلك معظم الفلسفات الحديثة عندما تصل إلى مأزق حرج فإن ذلك التلازم يؤدي إلى العدم والشك نظراً لاختزالها الله تعالى في تجريد مغلوط، فليست الفلسفة إلا تساؤلات لا ضرورة لها لمشكلات أُسيء التعبير عنها.
والله سبحانه غيبٌ مطلقٌ من ناحية، وهوقادر على الاختلاف من ناحية أخرى، لكن ذلك لن يكون في المقام نفسه، فكونه مطلقًا يعنى أنه يتعالى على أقانيمه المتفاضلة، مثل التثليث وكلية القدرة وكلية العلم، أما لو تفاضل سبحانه أو اتصف بأوصاف، وهي الأمر ذاته، فذلك لأنه يَنْظُرُ إليه سبحانه من جانب نسبي، حتى لو كان ذلك الجانب مطلقًا بالنسبة إلى المخلوق بما هو، ذلك أنه مبدئي كما هيحال النظام الرباني ذاته. وأرى أن هذا حلاً جذرياً للاهوتيين وعلماء الكلام الذين أسرفوا في تفسير الصفات في محاولتهم معرفة الذات العلية، فالمطلق يمكن أن يختلف في تجليته وفي صفاته ولكنه في النهاية مبدأ لا يختلف وهوصمد، وليس كمثله شيء كما ذهب إلى ذلك المعتزلة.
وهذا ما يوضحه شوان بقوله أما بعض المؤمنين الذين يسعون إلى اختزال الميتافيزيقا حتى تناسب عقيدتهم، فإن الله سبحانه مطلق من الجوانب كلها، وأما منطق الميتافيزيقي الذي يُنكر هذه المقولة فلن يكون صالحًا لوصفه عز وجل، ففكرة الصفات الربانية وتشخيص الاسم ينتميان إلى النسبية، ولن يصح فقهيًا ولا روحيًا، ولكنهمنطقي فحسب، وهذا برهان على عجز الذكاء الإنساني في هذا المجال، فالله تعالى لن يخضع لمقتضيات العقل الجدلي، وسيكون الاعتقاد بغير ذلك انحرافًا شيطانيًّا، ولدينا أسباب كافية تدعونا إلى الاعتقاد بأن الأمر هو انحراف النفس الإنسانية، أي الاعتقاد بأن طبيعة الله سبحانه لابد أن تتبدى بشكل عبثي للذكاء الإنساني، وأن الاعتقاد بأن الله تعالى بعد أن وهبنا الذكاء وليس المنطق فقط، يشاء لنا أن نسلم بعكس ما وهب لنا من ذكاء يُناقض مضمونه الواسع، أي إنه تنزه وتعالى قد وهبنا ذكاءً عاطلا فيما يتعلق بالحقائق التي صاغه منها، في حين أن الذكاء الإنساني لا الحيواني هوالذي صُنِعَ على صورة الرب، وهو الذي يصوغ ظاهرة الإنسان ذاتها بدءًا بقوامه الرأسي حتى موهبة الكلام، وقد زعم بعضهم أن قوانين العقل والمنطق ليست من صنع الله سبحانه، وهي إن كانت كذلك، فهي مثل أي شيء آخر بموجب وجودها البسيط، وهنا نعجز عن الدفع بأن الإنسان مخلوق على صورة الرب بالمعنى الذي قصدته الكتب المقدسة، ولا نفع في الحديث عن شبه الإنسان بالرب، ولوكان هناك شبه، فلا بد أنه يتعلق أولا بالذكاء، وهوجوهر وجود الإنسان وغايته.
والحقيقة أن قوانين الذكاء والعقل الإنساني هي انعكاس للذكاء والعقل الرباني، ولا يُمكن أن تكون نقيضًا لهما، ولوكانت وظائف الذكاء تناقض طبيعة الرب، فلن يكون هناك حاجة إلى الكلام على الذكاء، فالذكاء بطبيعته لابد أن يُمهد الطريق إلى المعرفة، وهوما يعني أنه يعكس الذكاء الرباني، وقد كان ذلك وراء مبدأ القول إنه مخلوق على صورة الرب، ويقال حاليًا إن أفلاطون وأرسطو والمدرسيين جميعًا، قد عفا عليهم الزمن، وهذا يعني واقعيًا أنه لم يبق في العالم أذكياء بدرجة تمكنهم من الفهم، فقد أصبحت قمة الأصالةوالتحرر هي السخرية من الأمور البدهية الواضحة.
ويقول شوان «من الأجدر أن نبدأ في الميتافيزيقا من فكرة أن الحقيقة الأسمى مطلقة، وبناء على ذلك فهي لانهائيَّة، ولأنها مطلقة لا يُسمح فيها بأي زيادة ولا نقصان ولا تكرار ولا تقسيم، فهي ذلك الذي هوذاته فحسب وهوذاته تمامًا، وكونها لانهائية هو ألا يحدها حد ولا تنتهي عند حد، وهي الاحتمالات والقدرات كلها بما هي، وهي الأمر الواقع في إمكان وجود كل شيء، وهي إذن الافتراضيَّة Virtuality أيضا، ومن دون كليَّة القدرة فلا سبيل إلى وجود حق أوخلق، أي لا مايا ولا سامسارا. واللانهائي هوالبعد الكامن في النعمة السابغة الجديرة بالمطلق، وأن نقول مطلقاً هوأن نقول غير نهائي، فلا يمكن أن نعقل أحدهما دون الآخر، ويمكن أن نرمز إلى العلاقة بين هذين الجانبين من الحقيقة الأسمى بالصور التالية، فالنقطة على مستوى الفراغ مطلقة وامتدادها  لانهائي، أما في الزمن فالمطلق هواللحظة وهوالدوام اللانهائي، وعلى مستوى المادة فالأثير مطلق أو هو الجوهر الأولاني القابل الحاضر أبداً، بينما المادة الملموسة لانهائيَّة في تجلياتها التي لا تفرغ. وعلى مستوى الشكل فالكرة مطلق أي شكل أولاني بسيط كامل، واللانهائي هوالأشكال المركبة التي لا تنتهي، وأخيراً على مستوى الأرقام فالمطلق هوالوحدة Unity أو الوحدانية Unicity، واللا نهائي هوالمصفوفات اللا محدودة والمعطيات الممكنة أوهما معًا. ويُعبر التمايز بين المطلق واللانهائي عن جانبين أساسيين للحقيقة هما الجوهريَّة أوالوجوب Essentiality والعرضيَّة أو الاحتمال Potentiality، وهوتمثيل للمبدأ الأسمى للقطبين الذكري والأنثوي في مستوى الخلق، وينبثق الإشعاع الكوني من الجانب الثاني وهو اللا نهائي بشقيه الرباني والكوني، أي كليَّة الإمكانات الحاضرة أوالاحتمالات ممكنة الوجود».
والإنسان وسيط مؤقت بين المطلق والنسبي أوبين المطلق ذاته والمطلق النسبي أوبين الفردوسين الأعلى والأدنى بافتراض الثنوية التي تكمن في واحديته، فمن طبيعة الأمور أن الفردوسين سوف يرضيان كل تطلعاته.
وإن حرية الإنسان كلية ولا يصح أن تكون مطلقة، إذ إن المطلقية مقصورة على المبدأ الأسمى فحسب، ولا تشتمل على تجلياته، حتى لوكانت مباشرة أومركزية، والقول إ حريتنا كلية، يعني أنها مطلقة نسبيًا، أي إنها كذلك في مستوى معين وحدود معينة فحسب، ولكنها أمر حقيقي، وحرية الحيوان حقيقية بمعنى مخصوص، وإلا لما شعر الطائر الحبيس أنه محروم من حريته، والأمر كذلك لأن الحرية هي حرية بعينها ولا غير، أيًا كانت حدودها الأنطولوجية. أما الحرية المطلقة فهي حرية المبدأ الرباني فحسب، ولا يفعل الإنسان أكثر من المشاركة فيها بالمدى الذي يتسق به معها، ويسبر إمكان التواصل مع الحرية ذاتها أومع المطلق، وتتأصل كلية الإنسان النسبية في حريته، وهوما يربو إلى القول إنها في الله عزوجل، وبه، حيث لا نتحرر تمامًا إلا به سبحانه.
وإن قول: المعرفة الإنسانية يعنى القول بمعرفة المطلق التي تذكرنا بسر مراتب الوجود ومن ثم بسرِّ النسبية، ليس فقط نسبية العالم بل كذلك نسبية الأوجه الربانية وتشخصها، وهنا تتدخل إشكاليات معينة سواء أكان على مستوى الفهم أم على مستوى الجدل، فالاحتياج الميتافيزيقي إلى التسليم بهذا السر احتياج قائم في الإنسان من ناحية، ونرى من ناحية أخرى الاستحالة الفقهية للتسليم به إن لم تضعه بين أقواس، ويتحدث الفقهاء واللاهوتيون عنه بشكل هيكلي فحسب، كما لو كانوا مضطرين إلى الاعتراف بوجود الدوائر المتراكزة، فيسارعون إلى القول إن هناك أنصاف أقطار، حتى يضمنوا اتساق منظومة الشريعة والناموس، ويعملوا بتحيز للاستمرارية الخطية أوالواحدية على الرغم من كل شيء. وهذا بمنزلة القول إن التكهنات العقائدية ليست واعية لحركة الباطن التي تسمح في وجهات نظر مختلفة أن تتخذ مستوىً هيكلياً من التراتب من دون التضحية بأيٍّ من الباطن ولا الظاهر ومندون الإساءة إلى أحدهما على حساب الآخر.
الخاتمة
يمكن إجمال بعض النتائج التي انتهت إليها الدراسة على النحوالآتي:-
أولا: يمثل شوان أحد أركان مدرسة الحكمة الخالدة، تلك المدرسة التي ترفض الطرح الأكاديمي الذي لم يُحسن الكشف التاريخي عن أي تراث أولاني أودلالة الظاهرة الدينية، ذلك الطرح الذي ظهر في القرن التاسع عشر، وتفشت عنه الفلسفات الحديثة والمعاصرة التي تدعوإلى النسبية، والتي تحاول أن تضفي على النسبية إطلاق.
ثانيًا: فرق شوان بين المطلق والنسبي، حيث يتصف المطلق بأنه لانهائي وكامل وجوهر، وهوالمثال الأسمى للثنويات، وعلى قمة الهرم الأنطولوجي، وهووجود بحت، ويختلف عن الوجود المطلق الذي يعد انعكاساً له في عالم النسبية. وليست هذه الصفات هي المطلق بل هي مطلق نسبي.
ثالثا: لم يظهر اصطلاح المطلق النسبي في تاريخ الفلسفة على وجه العموم، وتفرد به شوان، حيث تاهت الفلسفة بين المطلق والنسبي، ولم تهتد إلى جمعهما في سبيل واحد. ويعد طرح شوان رؤية صوفية جوانية نابعة من اتجاهه نحوالتراث المقدس.