البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الذات والغير ، بين المفهوم الكلي والمفاهيم الفرعية

الباحث :  محمد رضا زائري
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  10
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  10452
تحميل  ( 343.674 KB )
تتناول هذه المقالة عرضاً تحليلياً لثنائية الأنا والآخر أو الذات والغير، وما تفرَّع من هذا المفهوم الكلّي من مفاهيم أخرى في حقل الفلسفة وعلم الاجتماع والفكر السياسي. لقد سعى الباحث إلى الإضاءة على ثمانية مفاهيم تؤلِّف على جملتها البناء المعرفي للذات والغير في كل ما يتصل بالاجتماع الإنساني والحضاري.
أما هذه المفاهيم فهي: الأنا ـ الشخصي ـ الذات ـ الأنا والأنت ـ  الآخر ـ الغيريّة  الهوية ـ الاختلاف.

المحرر

1 - مفهوم الأنا
تدلّ كلمة الأنا على الذّات..وهي بالمعنى المباشر تدلّ على الشّخص بجميع لواحقه وأعراضه.. أمّا بالمعنى الفلسفي فتدلّ على جوهر الذّات..أي ما يبقى منها حين نستثني اللّواحق والأعراض.. وبالتّالي يتحدّد الأنا تبعاً لتصوّر ماهيّة الذّات الإنسانيّة..لهذا نجد أنّ فلسفة الوعي تحدّد الأنا بالوعي مثلما يقول ديكارت: «النّفس التي أنا بها ما أنا» أي أنّ إنّيّته تكمن في النّفس، أوفي الأنا المفكّر. وتحيل الأنا أيضاً إلى حامل التّمثّلات.. ومثلما ذهب إلى ذلك إيمانويل كانت، فقد عدّ الأنا يمثّل شرط الوحدة والتّأليف بين الحدوس والإدراكات في الوعي.
يقول كانت : «إنّ الأنا المفكّر يرافق بالضّرورة كلّ تمثّلاتي». وفي علم النّفس التّحليلي الأنا هومنطقة من الجهاز النفسي للشخص، كل شخص.

2 - معنى الشخص
الشخص هوالتمثيل الموضوعي للأنا. أي إنه المصداق الواقعي لمفهوم الِأنا. وتعبير الشخص يدل على الكائنات العاقلة. وكما تدل عليها طبيعتها كغايات في حد ذاتها لا يمكنها أن تستخدم ببساطة كـ (وسائل). نميّز الشخص من الشيء حين نغني الكائنات التي يرتبط وجودها بالطبيعة، والتي ليس لها إلا قيمة الوسائل. وفي حين أن الاشياء هي غايات ذاتية الأشخاص هم (غايات موضوعية) فإن وجودها له غاية في حد ذاته، ولا يكون مطلقاً وجودها بوصفها وسيلة بسيطة. فإن خدم الشخص أوخُدِم فيجب ألا يستعبد شخصاً آخر. أساس الواجب هوالشخصية التي ترفع الإنسان الى ما فوق نفسه لتجعل منه هدفاً غائياً وعضواً في مملكة الغايات. في هذه المملكة كل شيء له قيمة نسبية (كرامة) كقيمة مطلقة.
فالذي له كرامة هوأعلى من أي سعر ولا يقبل أن يضاهيه شيء. وحدهما الأخلاق والإنسانية (كونها جديرة بالأخلاق) لهما كرامة. وجوهر الشخص هي الشخصية و(الشخصية) ليست شيئاً آخر سوى (الحرية).
وهكذا يميز كانت ما بين الاستعداد  للبهيمية على أنها شخصية نفسية، وبين الاستعداد للإنسانية بوصفها شخصية استعلائية وعاقلة، وكذلك الاستعداد للمسؤولية على أنها شخصية أخلاقية. فالأول يوافق الموضوع التجريبي وتعريف الطبيعة الحيوانية. ولكي نتمكن من تكوين الإنسانية بالمعنى الحصري للكلمة يستلزم شرطاً له الثاني الذي يوافق الموضوع الاستعلائي ولكن في الواقع فإن الثلاث الذي يوافق الأخلاق يعطينا جوهر الشخص. في الحقيقة إذا كان مخلوق الأنا لا يُعطى لنا عن طريق علم النفس وإن كانت عبارة (أنا أفكر) بقيت وحدة صورية، فما ذاك إلا لأن جوهر الذاتية، يكتمل كإرادة وكمسؤولية عن الذات.
ولئن كانت الطبيعة الحيوانية لا تكفي لتحديد جوهر الإنسان فإن الإنسانية والعقلانية لا تستوفيه كذلك الأمر. والسبب أن هذا الجوهر يشتمل على موضوع أخلاقي يذهب الى ما بعد حدود ذاته أي الشخصية، وهوما يجعل الإنسان قادراً على الترفع إلى ما فوق نفسه في السلوك الأخلاقي ويجعل العقل خارقاً للطبيعة.

3 - مفهوم الذات
ذات الانسان هي انعكاس لكل ما بداخل الأنا؛ وهي تمثل وجهة صاحبها  في الحياة وقدراته وطموحاته. أي إنها تمثل نظرة الإنسان عن نفسه وقدراته ومهاراته. وذات الإنسان هي نتاج الخبرات التي يمر بها. فالذاتهي الطابع الخاص للإنسان ومستوى الأداء يتحدد مع مدى تأثره بالبيئة المحيطه به. بمعني آخر، هي اعتقاد الشخص المكوِّن عن نفسه أوتقييمه لنفسه من حيث إمكانياته ومنجزاته وأهدافه ومواطن قوته وضعفه وعلاقاته بالآخرين ومدى استقلاليته واعتماده على نفسه. والذات تتشكل تلقائياً نتيجة لعلاقة الفرد بالمجتمع والبيئة. ولقد ظهرت الكثير من النظريات المختلفة التي تحاول فهم الإنسان عن طريق تصور عامل مساعد داخلي يتوسط بين داخل الإنسان وخارجه، فظهرت مفهومات العقل والأنا والذات، وكما ظهرت فكرة الذات في مجال علم النفس وخصوصاً عند وليم جيمس وسماها الأنا العملية، وهي مجموع ما يمتلكه الإنسان أوما يستطيع أن يقول إنه له مثل :-
 جسمه، سماته، قدراته، ممتلكاته المادية، أسرته، أصدقاؤه، ومهنته الخ...
 وفي علم النفس الحديث تطور مفهوم الذات وأصبح يعني جانبين:
- الذات بوصفها موضوعيةً أي معرفة الفرد لذاته وتقييمه لها، والذات بوصفها عملية أي حركة، وفعلاً، ونشاطاً، ومجموعة من النشاطات والعمليات العقلية كالتفكير والإدراك والتذكر.
كما يلعب مفهوم الذات دوراً محورياً في تشكيل سلوك الفرد وإبراز سماته المزاجية، فكل منا يسلك الطريقة التي تتفق مع مفهومه عن ذاته، فإذا كان مفهومي عن ذاتي أنني رزين ووقور فمن الصعب توقع أن يصدر عني سلوك يختلف عما تفرضه الرزانة، وما يفرضه الوقار، وإذا كان مفهومي عن ذاتي أنني مريض ضعيف البنية فأغلب الظن أنني لن أشارك في أنشطة تتطلب كفاءة بدنية أوجهداً جسمانياً، وإن مفهومنا عن ذاتنا يحكم سلوكنا بشكل واضح سواء كان هذا المفهوم صحيحاً أوخاطئاً.
ويعرِّف عالم الاجتماع جورج ميد الذات بأنها مفهوم ديناميكي وقيم الإنسان يستخدمها لسلك طريقه، وهذه القيم لا تقتصر فقط على الجسم، بل على ما يدخل الإنسان من مجالات مادية ومعنوية. أما نظرية كارل روجرز: فتفيد بأن الذات تشكيل منظم ومرن، ويتكون من إدراكات الفرد الخاصة وقدراته هو، وتقوم نظريته على عاملين، وهما الظاهرية والكلية، ولقد وضع روجرز لنظريته عدة نقاط منها: أن الفرد يعيش في مكان متغير فيدرك ذلك. تفاعله مع العالم الخارجي يتوقف على تلك الخبرات. يكون تفاعل الفرد مع المحيط بشكل منتظم. يتسابق الفرد في إثراء خبرته وتطويرها. من أهداف سلوك الفرد إشباع حاجاته. سلوك الإنسان تحركه عاطفة، وشدتها تعتمد على سلوكه. نظرية سينج وكومبز: استخدمت بهذه النظرية المجال الظاهري للفرد، بحيث تحدد سلوكيات الإنسان بالمجال الظاهري الحي.

4 - مفهوم الأنا والأنت عند بوبر
طبقاً لما جاء في نظرية الفيلسوف الألماني مارتن بوبر (1878 - 1965). فالعالم ذوطبيعة مزدوجة. وذلك لأن موقف الإنسان مزدوج بسبب ثنائية الكلمات الأساسية، الكلمات – المبادئ التي من شأنه أن يتلفظ بها. يقول بوبر في هذا المجال: «إن أساسات اللغة ليست كلمات معزولة، بل إنها مجموعات من الكلمات [كلامنا لفظ مفيد] .
واحدة من هذه الأسس في اللغة هي العبارة المركبة «أنا – أنت» والمجموعة الأخرى هي «أنا – ذلك» وفيها يمكن أن نستبدل بـ «ذلك»  «هو« و «هي» من دون أن يتغير المعنى.
الموضوعة الشاملة لفلسفة بوبر التي عبَّر عنها في أهم أعماله، الأنا والأنت Ich und Du، كانت حوارية ووجودية؛ وذلك على الرغم من أن هذا الكتاب يتطرق إلى العديد من الموضوعات المهمة الأخرى، كالوعي الديني والحداثة ومفهوم الشر والتربية والقيم وتأويل الكتاب المقدس.
ففي مؤلَّفه المذكور يعرض بوبر مفهومه للوجود الإنساني، المستوحى جزئيًّا من فويرباخ وكيركِيغارد، معمقًا هذا المفهوم من خلال شرح فلسفته لثنائية الأنا–أنت والأنا–هوالمعبِّرة عن مختلف أشكال الوعي والتفاعل والوجود التي يتعامل الفرد من خلالها مع الآخرين، سواء كانوا بشرًا أو أيَّ شيء آخر. فمن خلال هذا الثنائي الفلسفي (أي «الأنا–أنت»)، يتطرق بوبر إلى المنظور المعقد لوجود الإنسان أي لـ»وجوديته». فالشخص، كما يعبِّر عنه بوبر، يتفاعل دومًا، وبطرق شتى، مع العالم المحيط؛ لذا فإن «الأنا–أنت» هي تلك العلاقة التي تؤكد ما هومتبادل و«كلاني» holistic بين كائنين: أي إنها مقاربة عملية تنطلق من واقع أن الكائنات تلتقي عمليًّا خلال وجودها الفعلي والموضوعي دون أيِّ إعداد مسبق فيما يخص تلك العلاقة التي لا دور فيها حتى للخيال؛ ما يجعلها، بحسب بوبر، واقعية وتفتقد لأيِّ بنيان ذهني لأنها تعبِّر عن المواجهة اللامتناهية والكونية بين الأنا والأنت. وهذه العلاقة، على الرغم من عدم إمكان البرهان عليها كحدث (بمعنى عدم إمكانية قياسها)، هي واقعية، ومن الممكن إدراكها حسيًّا، كما هي في الحياة اليومية حال العلاقة بين عاشقَين أوبين مُشاهد وهرة أو كاتب وشجرة أومسافرين في قطار، حيث تكون علاقة الأنا ـ أنت عمليًّا تعبيرًا عن التلاقي والحوار والتفاعل. وأيضًا وخاصةً ـ  وهوالأهم في ما سبق ـ  هوأن بوبر ربط علاقة الأنا ـ أنت هذه بعلاقة الإنسان بالخالق، لأن الطريق الأوحد لتفاعل الإنسان مع الألوهة هي من خلال تفاعُله مع ذاته من خلال الآخر.
ونشير هنا إلى أن علاقة (الأنا ـ هو) مختلفة، وفق منظور بوبر، عن علاقة الأنا–أنت: ففي علاقة الأنا ـ أنت يلتقي الكائنان، بينما في علاقة الأنا ـ هو فإنهما قد لا يلتقيان في هذه اللحظة الراهنة. وبالتالي، فإن علاقة الأنا ـ هو إنما تواجِه علاقة الأنا ـ أنت كمفهوم أوكفكرة. فهذه وليدة العقل والخيال وما ينجم عنهما من مفاهيم؛ وهذا ما ينفي عن علاقة الأنا ـ هو، بحسب بوبر، صفتَها الحوارية المتبادلة dialogue ليجعل منها مجرد خطاب أحادي إلى الذات monologue. وهكذا تتأرجح حياة الإنسان، بحسب بوبر، بين هذين المفهومين، أي الأنا ـ أنت والأنا ـ هو،   وهي العلاقة السائدة حاليًّا في عالمنا التي هي أساس جميع مشكلاته ومسبِّبها.
لقد أصبحت عبارة بوبر»أنا- أنت» التي بها يشير إلى أهمية العلاقة بين الذات والأخرى، عبارة شائعة إلى حد الابتذال. ولكن بعض الأفكار التي تنطوي على أبعاد من الغنى والعمق لا يمكن للعبارات الطنانة المبتذلة أن تقضي عليها بيسر، وهذه العبارة «أنا - أنت» هي من جملة هذه العبارات التي تصمد في وجه الابتذال. يقول بوبر: «في البدء كان العلاقة الشخصية»، و«كل عيش أوحياة حقيقية إنما هوعيش وحياة بالعلاقة الشخصية». وعبارة «أنا - أنت» وما تنطوي عليه من صلة وترابط، من أشد العبارات الإنسانية أصالة وعمقاً. فهي ليست عبارة تتألف من كلمتين الواحدة منها متصلة بالأخرى، بل إنها عبارة تسبق في مغزاها الكلمتين، فإن الشخصين،أنا وأنت، يصدران عن العلاقة بينهما، ولا يمكن للشخصين أن يكونا شخصين من دون علاقة وترابط.
ولكن هناك عبارة أخرى جوهرية أصيلة وهي عبارة «أنا - وشيء آخر» عبارة لا مناص منها ولا مجال لإغفال أمرها. «لأن الإنسان لا يستطيع العيش من دون هذا الشيء الآخر، كذلك من يعيش مع هذا الشيء الآخر، ويكتفي بالعيش معه، ليس إنساناً بمعنى الإنسان». ومصدر هذا البلاء هو أن ضغط الحياة وكابوسها، لاسيما في المجتمع الجماهيري، يدفعان بالمرء لاعتبار الفرد «شيئاً آخر» لا لاعتباره أنه «أنت» أنت الذات. ورؤيتنا الإنسانَ الآخر أنه شيء هو أمر يقضي عليه، ويقضي على ذواتنا. لأن «الأنا» في العبارة «أنا - أنت» شخص قادر على العلاقات الشخصية والمحبة وعلى بلوغ الذات. أما «الأنا» في العبارة» أنا والشيء الآخر» فلا تنطوي على علاقات إنسانية بل إنها دون مستوى الإنسانية.

5 - مفهوم الآخر
كلمة «آخر» وإن كانت تدخل عليها «ال» التعريف فهي في أصل معناها صيغة «أفعل» (أأخر) من التأخر، أي المجيء بعد… فهي لا تفيد الضدية وإنما تقال «لأحد الشيئين» (هذا باب، وهذا باب آخر)، وفيها معنى الصفة والنعت كما في مرادفها «غير». وكلمة «غير» نفسها من الألفاظ الموغلة في الإبهام لأن معناها لا يتضح إلا بما تضاف إليه، وهي لا تستفيد التعريف من المضاف إليه إلا عندما تقع بين ضدين مَعْرِفتين مثل قولنا: «رأيت العلم غير الجهل». أما في الأحوال الأخرى فتبقى نكرة مبهمة، في معنى الصفة والبدل مثل قولك: «رأيت سيارة غير سيارتك». فكل سيارة أخرى هي غيرها. وقد تستعمل لإفادة الكثرة مثل قولك: «قرأت هذا الكتاب غير  ما مرة»، أي أكثر من مرة واحدة. وفي جميع الأحوال تفيد ما يعبر عنه بـ «الغيرية» (مصدر صناعي من كلمة غير) بمعنى مطلق الاختلاف، ولا تفيد الضدية بالضرورة، فتقول: «القمح غير الشعير»، لمجرد المغايرة، كما تقول: «البياض غير السواد» للضدية.
 والفرق بين لفظ «آخر» ولفظ «غير» عند اللغويين العرب أن الأول منهما يفيد استثناء الشيء من جنس ما تقدمه كقولك «رأيت رجلاً وآخر معه»، فـ «آخر» هنا من جنس ما تقدم (=الرجل) ولا يمكن أن يكون امرأة أوصبياً أوحيواناً الخ… وذلك على العكس من كلمة «غير» التي تفيد مطلق المغايرة فتقول «رأيت رجلا وغيره»، وهذا «الغير» قد يكون رجلاً مثله وقد يكون صبياً أوامرأة أوكائناً آخر.
يرتبط مفهوم الآخر ارتباطاً تكاملياً بمفهوم الهوية. فالهويات تتكون نتيجة لعبة الاختلاف، وهذا يعني على أساس اختلافها عن الهويات الأخرى، فتفترض أن لها معنى إيجابياً من خلال ما تستبعده. إذاً فقضية الآخر هي موضوعة ظلية في الخطابات المعاصرة حول الهوية، فيما يتعلق بكل من الهوية الفردية وتكوين الذات (في التحليل النفسي بالتحديد) والهويات الجمعية (في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية). فالآخر هوما يروغ من شعورنا وتعرفنا، وهوما يكمن خاج عام «ثقافتنا» وجماعتنا. فهواللا ذات واللا نحن. إذاً كيف نتوافق مع واقعية آخر الآخرية، مع الغيرية، والغريب، والمجهول؟ كيف نهتم بالتعرف المزعج فعلاً إلى أهمية الآخر لمن هو«نحن»؟
الحقيقة أن وجود الآخر هوواقع غامض في الجوهر ومربك. فمن ناحية، يثير الآخر المخاوف والقلق. «ما من شيء يخيف الإنسان أكثر من لمسة المجهول». فهناك تخوف مما يمكن أن يفعله الآخر بنا، مما إذا كنا سنبقى بعد تلك المواجهة مع المجهول. ومن ناحية أخرى، هناك إحساس عميق بأننا نحتاج الى الآخرية أيضاً. إذ ألا يمكن أن يكون هنالك عالم لا يشوبه اختلاف – عالم تسود فيه المشابهة مع الذات – عالم لا يُطاق؟ الآخر ضروري للتغيير والإبداع من أجل الوجود في العالم (سواء أكان ذلك في التحول الجمعي أم التغير الفردي). إذاً فالآخر هوسبب وموضوع للمشاعر والمواقف والأفكار التي تمتاز باستواء الأضداد.
في النقاشات الثقافية المتأخرة، صُرِف الانتباه إلى الجانب المخيف في علاقتنا بالغير، تلك العلاقة التي تقترن بالاستجابات العنصرية والمرتهبة من الأجانب. يسلط ونيليوس كاستورياديس (على نحوجذري جداً) الانتباه على واقعة مؤلمة: «إن العجز الواضح عن تكوين الذات كذات للمرء من دون استبعاد الآخر... إنما هوقرين بالعجز الواضح عن استبعاد الآخرين من دون الانتقاص من قيمتهم، ومن ثم كرههم» (Castoriadis، 1997: 17) وفي عملية وجود الآخر، تُسلط مشاعر السخط والعدوانية والكراهية على من يُعتبرون أشخاصاً غرباء أوثقافات غريبة على نحو خطير.
وهكذا تدخل «النحن» من خلال استقطاب جذري في مواجهة خصامية مع من أصبح آخرنا المخيف الكريه. وكانت قضية الاهتمام الخاص بالدراسات ما بعد الاستعمارية الطريقة التي تكوّن بها «الغرب» في مقابلة مع «شرق» متخيل (أي مقولة تشمل كلاً من «الشرق الأوسط» و«الشرق الأقصى»). وقد تعلق الاهتمام بالكيفية التي تمكن بها هذا المنطق الاستقطابي للاستشراق من أن ينطوي على تشويه أساسي لسمعة الآخر الشرقي. فوصفت الثقافة «الشرقية» بأنها ثقافة تابعة، واعتبرت رجعية وغير عقلية، قياساً بالحداثة والتنوير الغربيين. ولهذا فهي مرهوبة ومكروهة أيضاً، نتيجة لهذه الخصائص السلبية والناقصة المتخيلة. ولم يكن الموقف الصليبي بعد عام 2001 من الولايات المتحدة نحوما كان يتخيل أنه آخر «محور الشر» سوى آخر الأحداث في ملحمة تاريخية ما زالت متواصلة.

6 - مفهوم الغيريّة
«الغيرية» في اللغة العربية تعني: تباين الهوى، وتمايز الذات عن دونها، والمتغير من المشخصات ما تختلف بعض أجزائه عن بعض، وهي خلاف الأنانية، والغيرية اصطلاحاً Alterity  Alterite: ما يخص الآخر دون الأنا. والأنا هوالذات المفكرة، والموضوع هوالآخر، وهي بخلاف «الأثنينية»: لأن الأثنينية هي كون الطبيعة ذات وحدتين، ويقابلها كون الطبيعة ذات وحدة أووحدات. والغيرية Altruisme عند الاخلاقيين والاجتماعيين هي الإيثار، أي تضحية المرء بمصالحه الخاصة في سبيل الآخرين.
أما الغيريّة في معناها الإجرائي عند بوحديبة فتعني: قبول الذات لغيرها، وتحاور الأنا مع الآخر شريطة ألا يحاول أحد منهما الإطاحة برصيفه أويسعى إلى الفناء فيه، ويقتضي ذلك وجود جدلية واعية تعمل على التأليف بين المتباينين والحد من مواطن التعارض للحيلولة بين تصارعهما، فالذات – عند مفكرنا – هي الأنا المبدعة التي تنتقي من الأغيار كل ما يعنيها على اليقظة والصحو والرقي والتقدم ويبعدها عن الغفلة والمحووالجمود والتخلف، وليس بالأمر الغريب في الفكر العربي الإسلامي انتحال المجددين بعض الاصطلاحات الاجتماعية أوالسياسية أوالنفسية أوالفلسفية، وبلورتها في سياق فلسفي للتعبير عن وجهتهم ورؤيتهم الخاصة، ونذكر من هذه الأنماط: فلسفة الذات لمحمد إقبال، والشخصيانية لمحمد عزيز الحبابي، والجوانية لعثمان أمين، والتعادلية لتوفيق الحكيم.
أما الغيريّة بوصفها مفهوماً أنثروبولوجياً فلا يمكننا التأصيل لها إلا على وجه الترجيح؛ وذلك لأن جذورها متغلغلة في الثقافة المصرية والهندوسية والصينية وغيرها من الثقافات العريقة التي رفضت مظاهر العنصرية كلها ورغبت في التسامح الديني والفكري.
وإذا ما انتقلنا إلى الفكر الإسلامي وجدنا مفهوم الغيريّة قد تطور فيها تبعاً لمتغيرات الأركيولوجية الثقافية للخطاب. فقد طرحه فلاسفة المشرق والمغرب خلال مناقشتهم قضية التوفيق بين النقل والعقل، والشريعة، والحكمة، على اعتبارها جدلية بين الحكمة الإلهية التي تبنتها الذات المسلمة، والحكمة الفلسفية التي ابتضعتها الأنا من الأغيار، وظل هذا الطرح سائداً في كتابات رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وأحمد فارس الشدياق وغيرهم من رواد النهضة الإسلامية الذين حاولوا التأليف بين المشخصات الإسلامية والفكر الوافد من الغرب، ثم تطور هذا المفهوم في أحاديث الأفغاني ومحمد عبده ومدرسته خلال المطارحات التي حفل بها الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حول الأصول الإسلامية والمدنية الغربية، ثم شغل به حل رواد التنوير في النصف الأول من القرن العشرين خلال مثاقفاتهم حول قضايا: القديم والجديد، والتراث والتجديد، والأصالة والمعاصرة، ثم طرح في الربع الأخير من القرن العشرين في كتابات المجددين المعاصرين بمسميات عديدة: الإسلام والغرب، الأنا والآخر، ثم الغيرية. أما في الفكر الأوروبي المعاصر فقد ظهر مفهوماً واصطلاحاً في كتابات معظم الوجوديين الفرنسيين والألمان ولا سيما سارتر وهايدغر، وكذا في كتابات فلاسفة السياسة واللغة والدين، من أمثال: ريمون آرون، وحنا أرندت، وأشعيا برلين، ومارتن بوبر، وبول تلش، ومرسيا إلياد، وناعوم تشومسكي، وهوجي بابا، روبرت بانج، وأيمن سيزار، وإدوارد سعيد، ذلك فضلاً عن كتابات الساسة المستشرقين من أمثال: فرانسيس فوكوياما، صموئيل هنتكون وفريتس شتيبات. وقد قدّم المتأخرون هذا المفهوم خلال مناقشتهم لقضية صراع الحضارات والعولمة، وتأثر المفكرون المعاصرون في المغرب العربي بهذه الأطروحات وأدرجوا مصطلح الغيريّة في مصنفاتهم، أما المفكرون المصريون والشاميون فما برحوا يستخدمون مصطلح الإسلام والغرب، والأنا والآخر، للتعبير عن مفهوم الغيرية.
من المرجح كثيراً أن الغيريّة من دون أن نتكلم هنا على معناها الأخلاقي ـ تتطابق مع نماذج عديدة: أولاً نموذج الحد الأعظمي في القسم المنتشر من الرصيد الجيني (ويعادل الشرح البيولوجي ـ الاجتماعي)، ثانياً نموذج ثبات التفاعلات بين شتى وظائف الاستجابات ومقاومتها الاضطرابات بواسطة عدد من الطفرات (نموذج التنسيقات التي توصل مصالح الأفراد إلى حدها الأعظمي، لا بل نموذج التعاون الذي يبلغ بالمصالح الجماعية حدها الأعظمي، ويستطيع الأفراد أن يتعرفوا إلى أنفسهم فيها حين يكونون قادرين على تصورها.
إن هذا النموذج حتى، ولواقتصر على نوع من الحدود الأعظمية التي يطرحها النموذج البيولوجي – الاجتماعي، لا يبقى صالحا إلا في غياب شرخ آخر أكثر دقة، في استنباط «الشرح الأفضل». في هذا النموذج، كما رأينا، نرضى حين نثبت أن الفروق بين نوعين من التمازج التي يصل أحدها إلى الحدود الأعظمية حين يعاد انتاج نشر الرصيد الجيني، مقارنة مع النموذج الآخر، يمكن إقامة علاقة ترابطية بينها وبين قاعدتين من قواعد التصرف الاجتماعي. ولكن لا تتوافر لدينا أية آلية نستطيع أن نشرح كيف يمكن أن تبنى هذه القاعدة السلوكية، ولا إلى أية درجة يؤثر تطبيقها الفعلي (الذي قد يبتعد كثيراً عن القاعدة) في التكاثر في الظروف التاريخية والبيئية التي حدثت فعلاً، ننتقل من الارتباط إلى الشرح فقط حين نرى أن التكاثر الجيني هو بالذات آلية تخضع لقوانين إحصائية ولكن من دون أن نعلم حقاً ما إذا كانت التصرفات المختلفة التي هي موضع هذا الارتبط يمكن أن تُشرح بالجينات. ونعلم أننا حين ننتقل من الجينية إلى النمط الظاهري السلوكي، تبقى أشياء وأشياء علينا اكتشافها. إذن تقدم البيولوجيا الاجتماعية أحد النماذج الإطارية الممكنة للربط بين الجينات والسلوك الاجتماعيين، ولكن يبقى علينا أن نجري مجمل عملية إثبات الصدق.

7 - معنى الهويّة
تُعرفُ الهويّة في اللّغة بأنّها مُصطلحٌ مُشتقٌّ من الضّمير هو؛ ومعناها صفات الإنسان وحقيقته، وأيضاً تُستخدمُ للإشارةِ إلى المَعالم والخصائص التي تتميّزُ بها الشخصيّة الفرديّة، أمّا اصطلاحاً فتُعرفُ الهويّةُ بأنّها مجموعةٌ من المُميّزات التي يمتلّكها الأفراد، وتُسهمُ في جعلهم يُحقّقون صفة التفرّد عن غيرهم، وقد تكون هذه المُميّزات مُشتركة بين جماعةٍ من النّاس سواء ضمن المجتمع، أوالدّولة. ومن التّعريفات الأُخرى لمصطلحِ الهويّة أنّها كلُ شيءٍ مُشترك بين أفراد مَجموعةٍ مُحدّدة، أوشريحة اجتماعيّة تُسهمُ في بناءِ مُحيطٍ عامٍ لدولةٍ ما، ويتمُّ التّعاملُ مع أولئك الأفراد وفقاً للهويّة الخاصّة بهم.
تُقسمُ الهويّة إلى مجموعةٍ من الأنواع، ويُسهمُ كلُّ نوعٍ منها في الإشارةِ إلى مُصطلحٍ، أوفكرةٍ مُعيّنة حول شيءٍ ما، ومن أهمّ أنواع الهويّة.
الهويّة الوطنيّة: هي الهويّةُ التي تُستخدَمُ للإشارةِ إلى وطن الفرد، والتي يتمُّ التّعريفُ بها من خلال البطاقة الشخصيّة التي تحتوي على مجموعةٍ من المعلومات والبيانات التي يتميّزُ فيها الفرد الذي ينتمي إلى دولةٍ ما.
الهويّة الثقافيّة: هي الهويّةُ التي ترتبطُ بمفهومِ الثّقافة التي يتميّزُ فيها مُجتمعٌ ما، وتعتمدُ بشكلٍ مُباشرٍ على اللّغة؛ إذ تتميّزُ الهويّة الثقافيّة بنقلها لطبيعة اللّغة بوصفها من العوامل الرئيسة في بناءِ ثقافة الأفراد في المجتمع.
الهويّة العُمْريّة: هي الهويّةُ التي تُسهمُ في تصنيفِ الأفراد وفقاً لمرحلتهم العُمْريّة، وتُقسَمُ إلى الطّفولة، والشّباب، والرّجولة، والكهولة، وتُستخدَمُ عادةً في الإشارةِ إلى الأشخاص في مَواقفَ مُعيّنة، مثل تلقيّ العلاجات الطبيّة.
ثمة مجموعةٌ مِنَ الحالات التي قام عالم النّفس أريكسون بصياغتها حول المفهوم العام للهويّة، وتُقسَمُ إلى أربعِ حالاتٍ؛ وهي:
تحقيق الهويّة: هي إدراك الأفراد الهويّة الفرديّة الخاصّة بهم، والتي تهدفُ إلى تقدير الذّات، واحترام الصّفات الشخصيّة، وزيادة الإنتاجيّة العامّة في المجتمع.
تعليق الهويّة: هي مُعاناة بعض الأفراد أزمةً في هويتهم الفرديّة؛ إذ يفقدون أيّة قدرة في التعرّفِ إلى الهويّة الخاصّة بهم بسبب تعرّضهم لاضطراباتٍ نفسيّة.
انغلاق الهويّة: هي حالةٌ تُصيبُ الأفراد حين يتمُّ فرضُ بعض الأشياء عليهم، مثل: نوع الملابس، أوالتخصّص الدراسيّ، أوموعد النّوم، ممّا يُؤدّي إلى انعدام شعورهم بالهويّة الخاصّة بهم.
تفكّك الهويّة: هي حالةٌ تنتجُ من ضعفٍ في فهمِ الهويّة؛ وتنتجُ من تعرّضِ الأفراد للاضطهادِ والظّلم النّاتج من سوء المُعاملة، خصوصاً في مَرحلةِ الطّفولة، ممّا يُؤدّي إلى تفكّك الهويّة.
الى ذلك توجدُ مجموعةٌ من العوامل التي تُؤثّرُ في بناءِ الهويّة عند الأفراد؛ ومن أهمها:
المجتمع: هوأولُ العوامل المُؤثّرة في بناءِ الهويّة؛ إذ يُسهمُ المجتمع في بناء هويّة الأفراد وتشكيلها بناءً على طبيعةِ البيئة المُحيطة بهم، ويتأثّرُ الأفراد بسلوكيّات الأجيال السّابقة لهم سواءً في العائلة، أوالحيّ، أوالمجتمع عموماً، وتُسهمُ في بناءِ الهويّة الفرديّة الخاصّة بهم، ومُساعدتهم على فهمها بطريقةٍ أوضح.
الانتماء: هوالارتباطُ بالمكان الذي يعتمدُ على دورِ الهويّة في تعزيز مفهومه؛ إذ ينتمي الفردُ للدّولة التي يعيشُ فيها، ويعدُّ مواطناً من مواطنيها، ولهُ حقوقٌ وعليه واجبٌ تنظّمها أحكامُ الدّستور، وعليه، فإنّ الهويّة عبارةٌ عن وسيلةً للتّعزيزِ من هذا الانتماء عند الأفراد، والجماعات.

مفهوم الاختلاف
يحصر أبوهلال العسكري أنواع «الاختلاف»، والفرق بينها كما يلي. يقول: «الفرق بين الاختلاف والتفاوت أن التفاوت […] هوالاختلاف الواقع على غير سنن (=على غير نظام)، وهودال على جهل فاعله»، بينما الاختلاف يكون «على سنن واحد». ومرجعيته في ذلك قوله تعالى: «ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت» من جهة، وقوله: «وله اختلاف الليل والنهار»  من جهة أخرى.
كما يميز الاعوجاج من الاختلاف: فـ «الاعوجاج من الاختلاف ما كان يميل إلى جهة ثم يميل إلى أخرى، وما كان في الأرض والدين والطريقة فهوعِوج مكسور الأول (= بكسر العين)، تقول في الأرض عِوج وفي الدين عِوج مثله. والعَوج بالفتح ما كان في العود والحائط وكل شئ منصوب». والاختلاف قد يكون في المذاهب وقد يكون في الأجناس: فـ «الاختلاف في المذاهب هوذهاب أحد الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، والاختلاف في الأجناس امتناع أحد الشيئين من أن يسد مسد الآخر. ويجوز أن يقع الاختلاف بين فريقين وكلاهما مبطل كاختلاف اليهود والنصارى في المسيح»، فهم جميعا على خطأ بالنسبة لما يقرره القرآن.
«والفرق بين المختلف والمتضاد أن المختلفين [هما] اللذان لا يسد أحدهما مسد الآخر في الصفة التي يقتضيها جنسه مع الوجود كالسواد والحموضة، والمتضادان هما اللذان ينتفي أحدهما عند وجود صاحبه إذا كان وجود هذا على الوجه الذي يوجد عليه ذلك، كالسواد والبياض. فكل متضاد مختلف وليس كل مختلف متضاداً، كما أن كل مختلف ممتنع اجتماعه وليس كل ممتنع اجتماعه متضاداً، وكل مختلف متغاير وليس كل متغاير مختلفاً، والتضاد والاختلاف قد يكونان في مجاز اللغة سواء، يقال: زيد ضد عمروإذا كان مخالفاً له.
والفرق بين التنافي والتضاد أن التنافي لا يكون إلا بين شيئين يجوز فيهما البقاء، والتضاد يكون بين ما يبقى وبين ما لا يبقى.
والفرق بين الضد والترك أن كل ترك ضد وليس كل ضد تركاً، لأن فعل غيري قد يضاد فعلي ولا يكون تركاً له».
التغاير، التفاوت، الاختلاف، الاعوجاج، امتناع الاجتماع، التضاد، التنافي… تلك هي درجات «الغيرية» في الحقل البياني العربي كما يحددها أبوهلال العسكري، وذلك في مقابل درجات «المثلية» التي يجعلها تمتد من مطلق «الشبه» إلى الشبيه والمثل والند والمُشاكِل والنظير والمتفق والعديل والمساوي والمماثل.
فيما يلي نعرض لخمسة محاور للاختلافات في المجتمعات الإنسانية:
أولاً: الاختلافات المتصلة بالموقع الجغرافي: وهي مجموع فوارق لغوية مقرونة بمناطق أو بلدان معينة.
ثانياً: الاختلافات المتصلة بالانتماء الاجتماعيّ: كثيراً ما نتمكن من تحديد «الوسط الاجتماعي» الذي ترعرع فيه شخص ما أوعاش فيه استناداً إلى الطريقة التي يعبر فيها عن نفسه.
ثالثاً: اختلافات متصلة بالتعاقب الزمنيّ: يمكن دراسة اللغة من منظور تعاقبي لرسم صورة عن تطورها مع الزمن. يظهر هذا التطور أيضاً في سياق دراسة تزامنية حين يتعين علينا أن نأخذ في الحسبان طريقة تعبير الأفراد الذين ينتمون الى أجيال مختلفة.
رابعاً: الاختلافات المتصلة بمجال استعمال اللغة: تشكل الدراسة الاصطلاحية، أي دراسة المصطلحات، مجالاً علمياً قائماً في ذاته، ذلك لأن المعاجم الاصطلاحية تشكل كليات معجمية تقيم علاقات معقدة مع المعجم العام. كما أن أي دراسة اصطلاحية لا يمكن فصلها عادة عن الدراسة المعمّقة لمجال النشاط المعنيّ بها (كالمعلوماتية، والكيمياء، والجراحة، والصيدلة، والهندسة المدنية...الخ).
خامساً: الاختلافات المتصلة بنمط الاتصال: وبالأخص هنا التمييز بين الشفهي والكتابي. ومن الممكن أيضاً دراسة حالات استعمال أنماط الاتصال الخاصة على غرار المحادثات الهاتفية وتبادل الرسائل الإلكترونية..الخ.
إن هذه الجولة البانورامية على المفاهيم التي مرَّ ذكرها، لا تعني إقفال الباب أمام مفاهيم إضافية تتعلق بقضايا الذاتية والغيرية. ففي عصرنا الحالي اجتهادات وتأويلات شتى حول هذه القضايا حفلت بها العلوم الإنسانية في مجال علم الاجتماع والسياسة وعلم النفس وعلوم التواصل ناهيك عما ينتجه الفكر الفلسفي في أزمنة العولمة المعاصرة.