البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

أخلاقيات الميديا (دعاوي التنظير ومبررات التفعيل)

الباحث :  بهاء درويش
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  11
السنة :  السنة الرابعة - ربيع 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 14 / 2018
عدد زيارات البحث :  1450
تحميل  ( 348.127 KB )
غالباً ما تنهال الأسئلة الإشكالية في معرض الكلام على منظومة القيم التي تحكم الفضاءات المفتوحة لثورة الميديا. لعل أبرز هذه الأسئلة هي تلك التي تدور حول ما إذا كان هناك أخلاقيات في الإعلام وهل يجب أن يحكم الإعلام ضوابط أخلاقية معينة حاكمة أوموجهة، أو تشكل هذه الضوابط قيوداً على تحقيقه لأهدافه وإنجازه لعمله على الوجه الأكمل؟

هذا البحث محاولة للاقتراب من بعض دعاوي تنظير هذا المبحث وتأطيره الذي نزعم أنه ما زال في طور التشكل. سيلاحظ القارئ أن في دعاوي التنظير ذاتها تكمن أهمية تفعيل نواتج هذا التنظير ومسوغاته.

المحرر

---------------------------------------------

ربما علينا أن نبدأ البحث بمقدمة نبين فيها كيف بدأ مبحث الأخلاق مبحثاً فلسفياً نظرياً إلى أن نشأت أخلاقيات العلم والتكنولوجيا أو «الأخلاقيات التطبيقية» والتي يُعد مبحث «أخلاقيات الإعلام» أحد فروعها. نحاول بعد ذلك الإجابة عن السؤال: لماذا ظهرت أخلاقيات العلم والتكنولوجيا؟ ثم ننتقل بعد ذلك إلى معالجة محاولات تنظير هذا المبحث من خلال وضع مباديء ضابطة وموجهة له. ولما كانت صناعة الإعلام ذات تأثير خطير في تشكيل الرأي العام وكان العلم واكتشافاته التكنولوجية المتلاحقة ذات تأثير بعضها نافع وآخر ضار، كان للإعلاميين الذين يتحدثون عن العلم ومنتجاته دور مهم في تبصير الجمهور وتوعيته بكيفية التعامل مع هذه المنتجات. وأخيراً يناقش البحث – محاولاً دحض- دعاوي بعض الكتاب الغربيين الذين يزعمون أن مبادئ  أخلاقيات الإعلام الكونية Global media ethics-التي تصلح للانطباق في كل مكان – وهو الاتجاه الأكثر حداثة في أخلاقيات الإعلام- مباديء غربية في الأساس، إسهامات الثقافات الأخرى فيها قليل.

مقدمة

كان مبحث الأخلاق منذ الحضارات الشرقية القديمة والحضارة اليونانية القديمة مبحثاً فلسفياً نظرياً يهتم بوضع قواعد ومباديء أخلاقية عامة حول ماهية الخير والشر أو يهتم بتحديد القيم الأخلاقية الواجب اتباعها.  ولكن مع تقدم العلم والتكنولوجيا – وتحديداً بدءاً بالقرن العشرين- بدأت تظهر مشكلات أخلاقية ناجمة عن هذا التطور العلمي المستمر والمتلاحق وذلك في شتى المجالات مثل مجال الاقتصاد والبيولوجيا والهندسة والفضاء والإعلام...الخ. تمثل المشكلات الأخلاقية لكل علم مجال بحث مستقل، هناك أخلاقيات لعلم الطب، وأخلاقيات للبيولوجيا، وأخلاقيات للهندسة، وأخلاقيات الإدارة، وأخلاقيات الإعلام....الخ. هذه المباحث – التي تشكل في مجموعها ما يعرف بأخلاقيات العلم والتكنولوجيا- مباحث فلسفية بينية. توصف هذه المباحث بالأخلاقيات التطبيقية، أي تطبيق المعايير والمباديء الأخلاقية في حل المشكلات الناجمة عن تطور هذه العلوم. تُعد أخلاقيات الطب- والتي تستخدم بشكل خاطئ أحيانا مرادفاً لأخلاقيات البيولوجيا- أكثر هذه المباحث اكتمالا، لقدمها النسبي عن بقية فروع الأخلاقيات التطبيقية، بينما يقف مبحث «أخلاقيات الإعلام» ضمن المباحث الأكثر حداثة التي لم تتشكل بعد بشكل نهائي، بل وتتطور باستمرار.

لماذا أخلاقيات العلم والتكنولوجيا؟

للإنسان كرامة تميزه من بقية الكائنات الحية: كرامة المريض تتطلب أن تعامله معاملة كريمة وأن تقدم له أفضل علاج متاح ومن ثم أن تحمي حياته (أخلاقيات الطب)، وكرامة الإنسان تتطلب أن يضع المهندس- ومنتج التكنولوجيا بصفة عامة- في اعتباره حياة الإنسان ورفاهيته وهو يقدم المنتجات الهندسية أو التكنولوجية، إذ إن لكل نواتج التكنولوجيا تقريباً تأثيراتها في صحة الإنسان وحياته ورفاهيته (أخلاقيات الهندسة والتكنولوجيا). وكرامة الانسان تتطلب أن تستأذنه قبل استخدامه مادة بحث في تجربة، وتكون صريحاً معه بإعلامه بكل المنافع والمضار التي قد تنتج عن التجريب عليه (أخلاقيات البحث العلمي في مجال الطب والصيدلة). وكرامة الإنسان تتطلب ألا تضره باحتكار بعض البضائع حتى ترهقه مادياً (أخلاقيات الإدارة). وكرامة الإنسان تتطلب عدم الإضرار به والخاصة بمنتجات التقانات الدقيقة (النانوتكنولوجيا) بحيث لا تظهر في السوق سوى البضائع التي تم اختبار سلامتها وضمان عدم إضرارها بالمستهلك، سواء على المدى القصير أو الطويل (أخلاقيات النانوتكنولوجيا)، وكرامة الإنسان تقتضي ألا تقدم له صورة مزيفة للواقع تؤثر في حكمه على مجريات الأحداث التي تدور في العالم حوله (أخلاقيات الإعلام).

يتسارع التقدم التكنولوجي في شتى المجالات بصورة مدهشة، تاركاً لنا مشكلات أخلاقية لا يمكن أن نقف منها موقف المتفرج. فها هو ذا الإنسان قد شارف على أن يتمكن من استنساخ إنسان آخر، وها هو ذا قد أصبح في إمكانه أن يتحكم في جنس الجنين القادم، وها هو ذا قد أصبح في إمكانه إفناء الأرض ومن عليها بضغطة زر. فالاستنساخ وتحديد جنس الجنين وإفناء الكرة الأرضية نواتج تكنولوجية. ألا تثير مشكلات أخلاقية؟ وماذا عن المجتمعات مثل عالمنا العربي – المجتمع المتدين- الذي يحيل المشكلات الأخلاقية لرجال الدين ليحكموا له عما هو مقبول أخلاقيا (شرعاً) وما هو غير مقبول؟

لا شك أن الإجابة قد أصبحت واضحة. نعم: لا علم دون أخلاقيات توجهه، وذلك إذا ما أردناه علماً يخدم البشرية، ويحقق للإنسان رفاهيته. العلم كما أصوره دائما عربة قائدها الحكيم هي الأخلاقيات، من دونه لا ضمان لوصول العربة بسلام إلى مبتغاها أي لا ضمان لتحقيق العلم لهدفه ألا وهو خدمة البشرية. 

ماهية أخلاقيات الإعلام

قلنا إن «أخلاقيات الإعلام» مبحث فلسفي شديد الحداثة بالنسبة للفروع الأخرى من الأخلاقيات التطبيقية يعني بالتساؤل حول ما الذي يشكل الممارسات الإعلامية الأخلاقية ولماذا وما الذي يجب على رجال الإعلام من الناحية الأخلاقية أن يفعلوه. الإجابة عن هذين التساؤلين تقتضي الإجابة عن مجموعة من الأسئلة الفرعية مثل: هل يجب على رجال الإعلام دائماً من الناحية الواقعية الالتزام بالصدق في نشر الأخبار؟ هل يجب على رجال الإعلام الالتزام بالموضوعية في عرض الأخبار والأحداث؟ وإذا أرادوا ذلك، فهل بمستطاعهم؟ هل  من حقهم نشر الأخبار الخاصة بالشخصيات العامة واقتحام حيواتهم الشخصية ؟ هل يمكن تسويغ اتجاه رجال الإعلام أحيانا للكذب من أجل الحصول على قصة ما ؟ هل هناك ما يسوغ اقتحامهم خصوصيات الآخرين تحت اسم المصلحة العامة ؟ هل عرض الأفلام الجنسية في التلفاز أو السينما أمر يمكن تسويغه أخلاقيا ؟ هل من حقنا أن نقلق بشأن عرض أفلام الرعب ؟ هل يمكن تقديم تسويغات عقلية للرقابة بكل صورها ؟ هذه هي بعض الإشكاليات التي يقدمها مبحث «أخلاق الإعلام».

4.1 هل هناك أخلاقيات في الإعلام ؟

     بداية فإنه يجب أن نعرف أن الأبحاث التي تدور حول أخلاقيات الإعلام تسير في اتجاهين: اتجاه يرفض القول إن هناك أساساً ما يمكن تسميته بأخلاقيات الإعلام انطلاقا من أن تصور أخلاق الإعلام هو في ذاته تصور متناقض ذاتياً، ذلك أنه كيف يمكن للصحفي أن يكشف عن بعض القصص التي يريد الناس معرفتها إذا كان يجب عليه دائما التحلي بالأخلاقيات واحترام مشاعر وخصوصيات أولئك الذين يقوم بفضحهم ؟ ثم إن نوع الأخبار التي ينشرها والطريقة التي يحصل بها عليها أحيانا ما تكون غير أخلاقية، كيف يمكن أن يكون هناك-  إذاً-  اتساق بين مهنته ومسؤوليته الأخلاقية ؟ أضف إلى ذلك أن الغالبية من الناس ينظرون إلى رجال الإعلام – أو الصحافة تحديداً- على أنهم أولئك الذين يبحثون دائما عما يروج بضاعتهم أكثر، أي عن فضائح الناس، إذ هي مصدر كل من الشهرة والمال للصحفي. كيف يمكن- إذاً- أن تكون هناك أخلاقيات للإعلام أو للصحافة ؟ وما يقوي هذه النظرة هي إصرار رجال الإعلام على ما يسمى حرية التعبير. ثم إنه إذا كانت وظيفة رجال الإعلام تتراوح من نشر الفضائح السياسية لبعض الشخصيات إلى عرض الأحداث المهمة التي تحدث في العالم، فإن هذه المهام جميعها لا صلة لها من قريب أو من بعيد بالأخلاق.

      أما الفريق الآخر فيرى على العكس أنه إذا كانت وظيفة الصحفي نشر الأخبار المهمة ذات الدلالة بما في ذلك عرض أشكال الفساد والغش والمسائل اللاأخلاقية التي تحدث في المؤسسات الحكومية وغير الحكومية ومن بعض السياسيين والحديث عن الجريمة المنظمة وفضح الثراء غير الشرعي لبعض الشخصيات، وهو ما جعل من الصحافة «السلطة الرابعة» كما يسمونها من حيث إنها من يملك مراقبة ذوي السلطة والنفوذ في المجتمع، فإذا كانت  وظيفة الصحفي باختصار هي الكشف عن الفساد  وفضحه، فإن هذا وحده يقف دليلاً على صلة الإعلام بالأخلاق، بمعنى أنه إذا كانت مهمتها الكشف عن المسائل اللاأخلاقية، فإنه يجب على رجالها أن يكونوا أبعد الناس عن هذا الذي يريدون كشفه وفضحه، فرجال الإعلام عليهم واجب أخلاقي يتمثل في الكشف بإخلاص عن  الأعمال غير الأخلاقية، من هنا فإنه لكي يكونوا متسقين مع أنفسهم فإن هدفهم يجب أن يتمثل في احترام المعايير الأخلاقية للسلوك التي يطلبون من غيرهم التمسك بها.

      والجدير بالذكر أنه إذا كان فحص الممارسات الصحفية والتحقق من فهم العامة  للدور الذي تلعبه الصحافة يندرجان أيضا ضمن اهتمام الدراسات الإعلامية وعلم النفس وعلم الاجتماع، فإن هذه الدراسات جميعها لا يمكنها الإجابة عن السؤال: ما الذي يجب – وما الذي لا يجب – على الصحفي – من الناحية الأخلاقية – أن يفعله ؟ إن البحث في الالتزامات الأخلاقية للصحافة والإعلام مبحث فلسفي خالص من حيث إنه مبحث معياري.

      أخلاقيات الإعلام – إذاً – مبحث أخلاقي يعني بالبحث في تلك المعايير التي تجعل من الإعلام إعلاماً جيداً، بمعنى أن المعايير الأخلاقية هي معيار التمييز بين الإعلام الجيد والإعلام غير الجيد، وبما أنه بحث في المعايير فهو بالأساس مبحث فلسفي.

والآن ما المعايير التي تجعل من الإعلام إعلاماً جيداً ؟

 كما هي الحال في سائر المباحث الفلسفية فإن هذه المعايير مثار خلاف بين الفلاسفة كما سنرى الآن:

الصدق

دعنا نتساءل أولا ما المقصود بالصدق في نشرات الأخبار. المقصود بالصدق في نشرات الأخبار هو تقرير أمور اقعية، أي أمور لا يتدخل فيها الصحفي بالخيال، أمور حدثت بالفعل، ذلك أن الأخبار قد أصبحت بشكل متزايد مصدرنا الرئيس في معرفة ما يدور في العالم من حولنا، من دون أن يتدخل فيها بالتحريف أو الإضافة أو عرضها عرضاً جزئياً.

والحقيقة أنه ما إذا كان على الإعلامي أن يكون صادقاً في نقل الخبر أو عرضه أو المادة الإذاعية يرتبط بالضرورة بتصورنا لوظيفة الإعلامي.

     لقد اختلف الباحثون حول تصور وظيفة الإعلامي، خاصة وأن تصور الإعلام من حيث إنه السلطة الرابعة يكاد يكون أمراً متفقاً عليه. ومن هنا فإن السؤال هو ما الذي نعنيه بأن الإعلام هو السلطة الرابعة ؟

   أحد تفسيرات أن الإعلام هو السلطة الرابعة أنه ما يملك سلطة مراقبة ذوي السلطة والنفوذ لصالح الشعب. فالشعوب في الدول الديمقراطية تريد أن تعرف ما إذا كان  أصحاب السلطات الثلاث الأخرى – التشريعية والتنفيذية والقضائية – يؤدون عملهم الذي أنابهم الشعب عنهم على أكمل وجه. فإذا كان الشعب قد فوض أصحاب السلطات الثلاث في إدارة شؤونه من تشريع لتنفيذ لقضاء، فإنه يريد أن يطمئن على أن هؤلاء يعملون لصالحه، أي إن القوانين توضع ويتم تنفيذها لمصلحة الشعب لا لأغراض خاصة، وأن رجال القضاء يحكمون بالعدل. العين التي تراقب هذا بالنيابة عن الشعب هي الصحافة. من هنا كانت هي السلطة الرابعة، فهي الجهة الموجودة لتطمئن الشعب أن الأمور تسير على ما يرام أو لتنبهه على أن هناك خللاً يحدث. وأن تفعل ذلك يتطلب بالضرورة صدق نقل الأخبار. من هنا كان على الإعلامي أن يكون صادقاً في نقل الأخبار أو عرضها.

      إلا أن هناك رأياً آخر يذهب إلى أن هذا التصور لوظيفة الإعلامي يضيق من إطار هذه الوظيفة، أو أنه يحصرها في الإعلام السياسي وحسب. فالناس تهتم بالمثل بأخبار نجوم الكرة والمسرح والسينما والحوادث وغير ذلك من الأمور، من هنا فإن وظيفة الإعلامي هي نقل الأخبار التي تهم الناس من حيث إنهم كائنات بشرية، لا أن تنحصر وظيفته في الإعلام السياسي.

      هنا نجد أنه حتى مع هذا الرأي، فإن الإعلامي يجب أن يتصف بالصدق. ذلك أن الصدق هو ما يساعد الناس على الحكم على شتى أمور الحياة التي تنقلها له وسائل الإعلام حكما صحيحاً. أما تشويه الأخبار بالنقل المتعاطف أو الجزئي للمعلومات  فمن شأنه تقديم صورة مشوهة للواقع ومن ثم لا يمكن الناس من الحكم حكماً صحيحاً مما قد ينعكس على سلوكياتهم وردود أفعالهم.

     رأي ثالث يذهب إلى أن وظيفة الإعلام تسلية الناس وهو ما يعني أن ميول الناس ورغباتهم هي ما تحدد الأجندة الإذاعية، أو تحدد نوع القصص والأخبار التي يريدها الناس أو تكون مثار اهتماماتهم.

      يرى المعترضون على هذا الرأي أن جعل رغبات الناس وميولهم هي المحدد المطلق للخدمات الإخبارية التي يقدمها الإعلام سيؤدي حتما إلى إعلام سيء، لأن ذلك لن يؤثر فقط في نوع الأخبار المختارة للعرض والتي قد تهم الناس، ولكنه سيؤثر أيضا في طريقة تغطية الأخبار، إذ سيعتمد بالضرورة على إستثارة مشاعر الناس أو محاولة جذب تعاطفهم  أو عرض القصة أو الخبر من الزاوية التي تجذب المشاهد أو المستمع أو القارئ، وهو ما يعني البعد عن الحقيقة والموضوعية في عرض الخبر، فقد يكون الخبر صحيحاً ولكن الوقائع التي يتم اختيارها للتركيز عليها في النشر دون غيرها من وقائع الحدث، ونبرة المراسل الصحفي أو المحلل والألفاظ التي يختارها للتعبير بها، كل هذا قد يمثل الحدث تمثيلاً سيئاً للدرجة التي قد ينتهي بها المتلقي إلى الانطباع المعاكس تماما للانطباع الذي كان يجب أن يخرج به المتلقي إذا ما تم نقل الخبر نقلاً موضوعياً.

ولكن أليس لهذا الصدق الواجب على الصحفي أن يلتزم به حدود أو استثناءات؟

مما لا شك فيه أن الأمن القومي يعد أحد استثناءات هذا الصدق الواجب على الإعلامي أن يلتزم به. إذا ما شعر الإعلامي أن قص قصة ما من شأنه أن يوقع الضرر بمجتمعه، فلا شك أن الامتناع عن الإعلام بالخبر هو التصرف الأكثر أخلاقية في هذه الحالة، فهو أفضل من الكذب أو القص المتجزئ. ويندرج تحت مبدأ أن دفع الضرر يقدم هنا على جلب المنفعة.

الموضوعية

      على الصحفي – إذاً-  الالتزام بالموضوعية في نقل الخبر أو الواقعة أو الشريط الإخباري، والموضوعية مقصود بها عرض المادة الإعلامية من شتى جوانبها، لا عرضها من جانب واحد، كما تعني عدم تدخل الإعلامي بأهوائه أو ميوله في اختيار جانب معين يعرض من خلاله الموضوع. وإذا ما تم عرض المادة الإعلامية من زاوية محددة لأنه يرى أن هذه هي الزاوية الصحيحة التي من خلالها يتم عرض مادته عرضاً أميناً فعليه أن يضع دائما إمكانية أن تكون هناك زوايا أخرى من الممكن تفسير الموضوع من خلالها. كذلك تعني الموضوعية ضرورة  تحقق الإعلامي من صحة وشمولية مصادره.

       ولكن السؤال الآن : هل يمكن لمعيار الموضوعية هذا أن يتحقق ؟

       يرى رافضو معيار الموضوعية في الإعلام أن مطلب الموضوعية كشرط للإعلام الجيد أمر خيالي صعب التحقق للأسباب الآتية :

1- إنه حتى على افتراض أمانة الصحفي ورغبته الصادقة في النقل والعرض الموضوعي للخبر، فإن لكل منا بالضرورة- من حيث إننا بشر- رؤيته الخاصة وتصوره الخاص لأمور الواقع، من هنا ينشأ التساؤل: ألن يتأثر الصحفي- رغماً عنه- بهذه الرؤية الشخصية للواقع الذي يحيط به؟ ألن يتأثر بفهمه الخاص للأمور؟ هل يمكن للصحفي أن يفصل  تحليلاته الصحفية عن تراثه واعتقاداته وتصوراته التي تكونت عبر السنين لشتى أمور الحياة؟  ألن يؤثر هذا في عمله رغما عنه ؟ 

2- كيف يمكن الفصل بوضوح بين ما هو مجرد وصف، وما هو تفسير وما هو تقييم للحوادث؟ وما دامت الأفراد والمجتمعات المختلفة تفسر وتقيم العالم بصور مختلفة، أي ينظر كل منهم إلى العالم من وجهة نظر مختلفة، فإن الخبر على هذا النحو ذو طبيعة نسبية، أي إن الخبر هو كذلك بالنسبة لجماعة معينة في سياق معين. ثم إن لكل خبر عادة العديد من التفسيرات والتقييمات من قبل محللين مختلفين. انظر مثلا – وإن كان هذا مثالاً بسيطاً ولكنه مثال مُمثل – لمباراة في كرة القدم، واستمع إلى محلل من الفريق الضيف، ثم استمع لتحليل آخر – للمباراة نفسها من الفريق المضيف، تجد اختلافاً في التحليلين قد يصل إلى أن تشعر وكأنك تستمع لتعليق عن مباراة مختلفة.

3- كثيرا ما نرى صحفاً تنشر خبراً واحداً ولكن كلاً منهم ينشره من زاويته المختلفة. ثم إن الصحفيين والصحف تختار عادة الأخبار التي ترى أهمية نشرها.  يكمن في عملية الاختيار هذه والزوايا المختلفة  للحدث الواحد التي تركز كل صحيفة على إحداها أو بعضها  تبرير القول إن رجال الإعلام يقومون بتغطية الأحداث مدفوعين باهتماماتهم وقيمهم الخاصة وإن ما يسمى الموضوعية في الإعلام أمر خيالي. 

      أما دعاة الموضوعية فعلى الرغم من أنهم يسلمون بأن النشر يخضع دائما لعملية اختيار، وأن لكل محلل ميولاً وعواطف وتحيزاً لجانب معين يرى منه صحة الخبر، إلا أن هذا لا يمنع من القول بموضوعية النقل أو التحليل. تكمن الموضوعية في عرض الأمور من جوانب شتى وفي استعداد المحلل دائما أو الإعلامي أن يرى أنه أحيانا كان على خطأ، لا أن يتخذ من الحدث مثالا يدعم به تحيزه. فهذا هو ما من شأنه أن يمكن المشاهد من الخروج بحكم موضوعي وهو ما يمثل الصحافة الجيدة.

إن جوهر الصحافة الجيدة لدى أنصار الموضوعية يكمن في القدرة على وزن الأدلة بموضوعية وكتابة قصة من الممكن التحقق منها أو تكذيبها بواسطة الأدلة والوصول إلى نتيجة مبررة، لا أن يكتب من زاوية عاطفية.

هل الصدق والموضوعية يسوّغان عرض العنف في وسائل الإعلام

      قلنا إن الإعلام الجيد هو ذلك الإعلام الذي يقدم صورة صادقة وموضوعية للواقع، صورة تمكن المتلقي من الحكم على ما يدور حوله في العالم بشكل صحيح وهو ما لن يتمكن من فعله متى قدمنا له صورة غير أمينة ومشوهة للواقع. من هنا فإنه لما كان العنف والجريمة أحداثا فعلية وواقعية تحدث وتشكل جزءا من الأحداث التي نحياها، كان عرضها – سواء في صورة أخبار أو أفلام – يمثل جزءاً من واجب الصحفي المتمثل في ضرورة تقديمه لصورة صادقة وموضوعية للواقع الذي نحياه.

لذا يرى أولئك الذين لا يعارضون عرض الجريمة والعنف عن طريق وسائل الإعلام – سواء أكانت الجرائم المدنية (القتل والسرقة) أو جرائم الحرب (القتل والدمار) أو الأفلام التي تعرض لقصص الجريمة – أن أولئك الذين يقفون ضد عرض صور العنف على شاشات العرض، إنما ينطلقون من أيديولوجية معينة تكمن في محاولة تقديم صورة جيدة مثالية لواقع لا نحياه.

ومع هذا فإنه على الرغم من أن واجب الإعلامي تقديم صورة واقعية وموضوعية للواقع، فإن هناك الكثيرين ممن يقفون ضد عرض صور العنف. يمكن إجمال الأسباب التي يستندون إليها على النحو الآتي:

للإعلام تأثير قوي في المشاهد والقارىء والمستمع يصل إلى حد غرس سلوكيات معينة لديه تصل إلى حد تقليد ما يراه – بدءا بما يعرضه ممثلو الإعلانات مروراً بالمغنيين وصولا للممثلين-  وذلك في حركاتهم وأقوالهم بل وحتى في طريقة ارتدائهم ملابسهم. من هنا كان عرض الجرائم وطرق ارتكابها من شأنه أن يولد عند بعضهم بعض السلوكيات العنيفة.

إن التعريض المتكرر للمشاهد لصور العنف قد يحوله إلى كائن لامبالٍ لا يتعاطف مع ضحايا العنف، ولا يقدر بصورة صحيحة حجم المعاناة التي يعانيها ضحايا العنف في صورتيه المدنية والعسكرية.

إن فضح مرتكبي الجرائم قد يحولهم إلى أشخاص مستهجنة اجتماعياً هم وعوائلهم، ونكون بذلك قد عاقبناهم مرتين، مرة عقاباً قانونياً محدد المدة (كالسجن مثلا) ومرة عقاباً اجتماعياً يظل يطاردهم إلى الأبد.

يزداد القلق من عرض العنف متى أخذنا في الاعتبار تزايد سهولة إمكانية رؤية الأطفال لمثل هذه الأنواع من الأفلام، ذلك أن الأطفال – خلاف الكبار – ليس لديهم خبرة سابقة بنوعية هذه الأحداث والمشاعر التي يتم عرضها مما قد يجعلهم يعتقدون أن هذه الصورة المشوهة للحب والجنس والعنف والمقدمة عن طريق الفيلم مثلاً هي الصورة الطبيعية لهم وأن هذه هي السلوكيات الطبيعية التي يجب أن يسلكها الإنسان العادي. ويزداد الأمر سوءاً مع الطفل الذي يعاني إهمالاً عاطفياً فيعتقد هو الآخر أن هذه هي العواطف والمشاعر الطبيعية التي يسلكها الناس الطبيعيون، فالطفل يتعلم بالخبرة والتقليد، ومن ثم فإذا كانت هذه هي فقط أمثلة المشاعر والسلوكيات التي رآها نتيجة إهماله وعدم رؤيته لمشاعر أو سلوكيات مختلفة، فقد يعتقد أن هذه هي المشاعر والعواطف والسلوكيات الطبيعية. وأخيرا فإن الإفراط في عرض أفلام العنف قد يعكس صورة لمجتمع يتبنى ضمن ما يتبنى ثقافة العنف.

الأمانة

أن يرى الجمهور في الصحافة السلطة الرابعة يعني ضمن ما يعني ثقة من جانب الشعب في الصحافة. هذه الثقة ثقة في أمانة الأخبار والتحليلات والمصادر التي تأتي بها الصحافة، كما أنها ثقة في أمانة رجال الإعلام وصدقهم.

من هنا يثار السؤال: هل هناك ما يسوّغ للصحافة ورجال الإعلام أحيانا الكذب والغش والالتواء والمناورة وسيلةً يكشف بها رجال الإعلام عن فساد ما وذلك لمصلحة الشعب؟ هل «الغاية تبرر الوسيلة» مبدأ يمكن للصحفيين أحياناً اتخاذه من أجل الكشف عن أوجه فساد بعض ذوي السلطة أو النفوذ وذلك من أجل إعلام الشعب بالحقيقة؟

   هناك رأيان متعارضان:

يرى كانط أن الكذب والغش وعدم الوفاء بالوعد أساليب لاأخلاقية لا يوجد على الإطلاق ما يسوّغها، وبالتالي يجب على المرء – صحفياً كان أو أياً ما كانت مهنته – ألا يتبعها.

يرى الرأي الآخر أن الصحفيين إذا ما اتبعوا الصدق والأمانة دائما فلن يحصلوا على أخبار تمكنهم من فضح المفسدين، ومن ثم فإنه كما أننا نقبل أحيانا في أوقات الحرب والأزمات سرية بعض الأخبار والكذب على الشعب من أجل الحفاظ على السرية أو لعدم إثارة الفزع بين الناس، فإن هناك بالمثل ما يسوّغ للصحافة المناورة في الحوار مع رجال السلطة وعدم الفصح عن النيّات  وراء الأسئلة الموجهة لهم وذلك من أجل التأكد من سلامة سلوكياتهم وأنها موجهة لصالح الشعب وكذلك هناك ما يسوّغ مراقبة أفعالهم سراً وذلك للتحقق من عدم استغلالهم سلطاتهم استغلالا سيئاً، كأن نتحقق من عدم تعرضهم لأخذ رشاوى أو من عدم إساءة استغلال مواقعهم لمصالحهم الخاصة.

حق الخصوصية

 هنا نجد بالمثل رأيين متعارضين :

      هناك من يميل عادة لافتراض أن اقتحام الخصوصية يعد شكلاً من أشكال الاعتداء عليها إذا ما تم من دون موافقة صاحبها سواء تم هذا الغزو بواسطة الصحفي أو البرامج الإعلامية ومن ثم فهو مرفوض أخلاقياً. إذ إن أدنى ما يعنيه هذا هو عدم احترام أحد حقوقنا بوصفنا أفراداً. ولهذا السبب فإن القوانين تكفل للفرد صيانة حرمة المنزل والأوراق الخاصة. ليس لأحد الحق في معرفة خصوصياتنا. إن جزءاً مما تعنيه الصداقة هو حقنا في الكشف للأصدقاء فقط عن بعض خصوصياتنا. من هنا تكمن قيمة الخصوصية في أنها تمنع الآخرين من ممارسة أي حقوق تضر بنا. من هنا كان غزو الخصوصية لا يعني فقط الحصول من دون إذن على  معلومات خاصة بنا ولكن تعني معرفة الآخرين بالعلاقات والنشاطات والاهتمامات التي نراها لا تهم أحداً سوانا.

ثم إن الخصوصية تمكننا من تنمية هويتنا وشخصيتنا بوصفنا أفراداً وإقامة علاقات وصداقات خاصة، بحيث إنه إذا ما قلنا لكل الناس كل شيء يخصنا أو سلكنا المسلك نفسه مع الأصدقاء والغرباء والزملاء، فإن دلالة الكثير من الأفعال الخاصة والأقوال التي نخص بها  بعضهم دون بعضهم الآخر ستتلاشى. نحن عادة نختار أن نكشف فقط لبعضهم عن جوانب خاصة من جوانبنا وهو ما يساعدنا على إقامة علاقات تثري حياتنا.

إلا أن هناك من يرى أنه قد لا يكون لدينا حق في خصوصية بعض المعلومات أو النشاطات التي نمارسها متى كان يجب أن يتم عرض هذه المعلومات والنشاطات في إطار عام. متى كان ما يتم ممارسته بصورة خاصة يندرج تحت المصلحة العامة، هنا يزول حق الفرد في الخصوصية. فحق السياسي في الخصوصية لا نقول إنه تم غزوه أو الاعتداء عليه متى قام أحد الصحفيين بالتحري والبحث في أحد شؤونه السياسية الخاصة تحققاً من واقعة فساد مثلا. فلو اعتبرنا حق السياسي في الخصوصية حقاً مطلقاً، فإن هذا سيعطي الفساد الفرصة للازدهار والتفشي. من هنا لا يُعد بحث الصحفي في الأوراق الخاصة لرجل السياسة اعتداء على خصوصيته خاصة إذا كانت هذه الأوراق هي التي ستكشف عن بعض تفاصيل واقعة فساد معينة، بل هو فعل مبرر من أجل المصلحة العامة، إذ لا يمكن إدراج الفساد السياسي مثلا ضمن الشؤون أو الأفعال الخاصة لأي شخص والتي لا يجب لأحد الاقتراب منها.

من هنا كان هناك ما يسوّغ البحث في الشؤون الخاصة لذوي السلطة متى كان لدى الصحفيين مسوّغ قوي للاعتقاد في تورطهم في إحدى وقائع فساد، كأن يكون هناك اعتقاد أن أحد رجال السلطة هؤلاء قد تلقى مثلا أموالاً لاستخدام سلطته السياسية، وما يسوغ لرجال الإعلام هذا البحث والتدخل في خصوصية ذوي السلطة أن جمهور العامة قد أنابهم لمعرفة ما إذا كان ممثلو الشعب يمثلون مصالح الشعب تمثيلاً صحيحاً أو لا. فواجب رجال الإعلام هنا واجب أخلاقي تجاه الشعب وهو أن يكشفوا للشعب عن أشكال الفساد. وبالمثل متى لم يكن رجال الإعلام والأطباء والمعلمون يعملون من أجل مصلحة من هم من المفترض أن يعملوا لصالحهم، ولكن يستغلون وظائفهم لمصالحهم الشخصية، فإن أفعالهم لا تندرج تحت الخصوصية التي يجب عدم الاقتراب منها. فمن حق الناس أن يطمئنوا إلى أن استثماراتهم تتم بالشكل الصحيح وأن الأطباء يلتزمون بالقواعد الأخلاقية  لمهنتهم، وأن المعلمين يوجهون أبناءهم التوجيه الصحيح.

4.2 إعلام العلم وأهميته

هناك جانب على قدر كبير من الأهمية بدأ الإعلاميون والمشتغلون بالعلم معاً الانتباه إلى أهميته في الآونة الأخيرة ألا وهو مسؤولية الإعلاميين في نقل أخبار العلم والعلماء.

لما كان نقل المعلومات العلمية للعامة – من خلال وسائل الإعلام- بصورة غير دقيقة وإعطاء العامة صورة غير صحيحة عن العلم والمنتجات التكنولوجية من شأنه أن يفقد العامة الثقة في العلم والعلماء، كان للإعلاميين دور مهم في الحديث عن العلم. قناعة بهذه الأهمية بدأت تظهر في أماكن كثيرة من العالم – وخاصة في الولايات المتحدة- مؤسسات أو جمعيات للكتاب في مجال العلم. تُعد المؤسسة القومية لكُتاب العلم the National Association of Science Writers إحدى هذه المؤسسات التي تأسست عام 1955 في الولايات المتحدة. وضعت هذه المؤسسة مدونة أخلاقية تم تحديثها عام 2014 حددت فيها الواجبات الأخلاقية التي يجب على الإعلاميين في مجال العلم اتباعها، نوجزها فيما يأتي:

على الإعلاميين في مجال العلم أن يتحروا دقة المعلومات العلمية ومصادرها ودقة صياغتها ونشرها.

على الإعلامي تجنب كل أشكال التمييز القائم على الجنس أو العرق أو الدين أو أي شكل من أشكال التمييز غير المسوّغ.

يجب أن يكون عمل الإعلامي في مجال العلم هو عمله الخاص وليس منقولاً من غيره. الانتحال غير مقبول تحت أي ظرف.

على كتاب العلم، مع هذا، تشجيع تبادل الآراء في مجال العلم، وتجنب أي تضارب في المصالح والإبلاغ الفوري عن أي تضارب مصالح لا يمكن تجنبه.

على الكتاب في مجال العلم أن يقبلوا الإعلان الفوري والعلني عن أية أخطاء وتصحيحها فوراً.

هذه الثقافة – ثقافة الكتابة الإعلامية عن العلم ومنتجاته- مع الأسف مازالت غائبة عن محيط ثقافتنا العربية لعدة أسباب أهمها أن العالم العربي متأخر إلى حد كبير في إنتاج العلم، لا يشارك في إنتاجه، فهناك فجوة علمية وتكنولوجية عميقة بيننا وبين الغرب، فالعالم العربي بالأحرى مستهلك لمنتجات العلم أكثر منه منتج لها وبالتالي فمسألة القلق من التصوير غير الدقيق لمنتجات العلم لا تقلق المتمعات العربية مثل المجتمعات الأجنبية. السبب الثاني: غياب تطبيق مبدأ المحاسبية في معظم البلاد العربية أو ضعفه. من ذا الذي يمكن أن يحاسب إعلامياً عربياً أعطى معلومة خاطئة عن منتج تكنولوجي معين؟ أضف إلى هذا أن معظم الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية لا تفرد مساحات كافية تبرز بها أهمية العلم والتكنولوجيا، فالنسبة العالية للأمية والبطالة تجعل نسبة قراءة الصحف والمجلات نسبة ضعيفة وتأتي القراءة في العلم في ذيل اهتمامات القاريء العادي. تفسر هذه الأسباب عدم إدراج أي قواعد أخلاقية ضابطة للإعلاميين في مجال العلم ضمن مدونات أخلاقيات الإعلام.

ولكن لما كانت الإرادة السياسية في الآونة الأخيرة في الكثير من الدول العربية قد أظهرت اهتماماً بالعلم والتكنولوجيا حين  قطع قادة العرب- الذين اجتمعوا في سرت – ليبيا 2010  في الدورة 22 لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة- وعداً على أنفسهم بـ «زيادة الإنفاق على البحث العلمي والتقني وتوطين التقنية الحديثة وتشجيع ورعاية الباحثين والعلماء، وتطوير القدرات العربية العلمية والتكنولوجية والنهوض بمؤسسات البحث العلمي»  وصدرت بالفعل استجابة لهذا الاجتماع من خلال « الاستراتيجية العربية للبحث العلمي والتقني والابتكار» الصادرة في 2014، فمن الضروري أن يواكب الاهتمامَ بالعلم والتكنولوجيا اهتمامٌ بأخلاقياته، وهو ما يعني في مجال حديثنا هنا ضرورة رفع درجة الثقافة العلمية للإعلاميين الذين يتحدثون في العلم وأن تتضمن مدونات السلوك الإعلامي ضوابط لسلوكيات هذه الفئة من الإعلاميين.   

4.3 هل يمكن أن تكون هناك أخلاقيات كونية للإعلام؟ Global Media Ethics

مع بداية سبعينيات القرن الماضي نشأ اتجاه ينادي بما عرف بأنه أخلاقيات كونية للإعلام. نشأ هذا الاتجاه في بدايته كمحاولة لإصلاح نظام الإعلام الكوني أو تطويره وذلك بعد أن سيطرت قلة من البلدان الغربية على الإعلام لاستحواذها على أدوات تكنولوجيا الإعلام والاتصال الحديثة وهو ما عُد شكلاً من أشكال عدم المساواة. إذ أصبح الإعلام الإخباري يستخدم تكنولوجيا الاتصال لجمع النصوص والأفلام والفيديوهات حول العالم بسرعة غير مسبوقة وتوزيعها على الجمهور في مختلف أنحاء العالم بسرعة أيضاً. من هنا جاءت المطالبة بأخلاقيات كونية للإعلام والتي عنت وضع مجموعة من المبادئ والمعايير العامة لممارسة الصحافة والإعلام في عصر العولمة تنطبق على كل مكان وزمان.

وخشية أن تهدد القيم الغربية التي يحملها الإعلام الغربي القيم الأخلاقية للبلدان الأخرى غير الغربية وبصفة خاصة البلدان النامية، نشأ تجمع أطلق عليه « النظام العالمي الجديد للمعلومات والاتصالات New World Information and Communication Order» تكون هذا التجمع من دول عدم الانحياز واليونسكو وأعضاء لجنة ماكبرايد MacBride . وخرج التقرير باسم «عالم واحد وأصوات متعددة One World Many Voices» ولم ترض الولايات المتحدة ولا بريطانيا عن هذا التقرير.

ولم يمت حلم الوصول إلى مجموعة واحدة من المبادئ والسياسات التي تنظم النشر المسؤول والعادل للأخبار على مستوى العالم. فلقد عقدت الأمم المتحدة عام 2003 اجتماعاً في جنيف تحت عنوان «القمة العالمية لمجتمع المعرفة» انتهى بتبني 175 دولة إعلان لمباديء موحدة. تلا هذا الاجتماع اجتماع آخر في تونس عام 2005 للنظر في كيفية تطبيق مباديء جنيف. كان أهم ما شغل هاتين القمتين هو النمو المتزايد للإعلام عبر الإنترنت online media.

يمكن أن نجد على الأقل سببين لنشأة اتجاه محاولة إيجاد أخلاقيات كونية للإعلام. السبب الأول أن الأخلاقيات المحلية الإقليمية لم يعد بمقدورها مناقشة المشكلات الجديدة التي تواجه الصحافة العالمية. الثاني: لقد فرضت مسؤوليات عالمية جديدة نفسها وأصبح لها تأثير كوني عالمي. فالتقارير الإخبارية من خلال الانترنت أو الأقمار الصناعية تصل إلى كل مكان في العالم وقد تؤثر في الحكومات وجيوش البلاد المختلفة. من هنا أصبح هناك حاجة لأخلاقيات كونية تناسب عالماً تصل فيه الأخبار لجماعات ذات ثقافات وأديان وتقاليد مختلفة. كما أن مبدأ الموضوعية التقليدي الذي يجب أن يتصف به الصحفي التقليدي أصبح معناه الآن أن يكون الصحفي موضوعياً في تقاريره بإزاء عالم متعدد الرؤى والتقاليد والثقافات وليس فقط بإزاء مجتمعه الذي كان يخاطبه الصحفي في الماضي.   

يضيف بعضهم مسوّغاً آخر للحاجة لأخلاقيات كونية للإعلام، ألا وهو أننا نحيا الآن في عالم هو بالأحرى قرية كونية يحكمها مجموعة أنساق من الإعلام الحكومي، يحتكر كل منها بناء صورة للآخر تغذي روح الانقسام والفرقة هي في أغلب الأحيان صورة ليست صحيحة. نحن في حاجة إلى إعلام مختلف يؤسس لصحافة سلمية peace journalism تهدف للوصول إلى فهم للتعددية الثقافية والكونية التي نحياها. إذا كانت أخلاقيات الإعلام قد ركزت حتى وقت قريب على أخلاقيات الإعلامي الفرد، فإننا في حاجة لأخلاقيات للإعلام تناسب العالم الكوني الذي نعيش فيه، تتأسس على اتفاقيات دولية ترى في التواصل حقاً من حقوق البشر.

4.4 ماهية هذه الأخلاقيات الكونية.

يرى بعض أدعياء هذا الاتجاه أنهم في محاولتهم تأسيس هذا النسق الكوني من ثقافات مختلفة، لم تكن التصورات الأخلاقية لهذه الثقافات غير الأوربية والأميركية – مثل ضرورة احترام الكرامة الإنسانية وقول الصدق وعدم اتباع العنف- سوى تصورات غربية اقتبسها أصحاب هذه الثقافات اللاأورو-أمريكية وضمنوها أنساقهم الفكرية بحيث تناسب ثقافتهم. وبالتالي تبقى الأطر الممثلة للأخلاقيات الكونية للإعلام في النهاية أطراً غربية.

الحقيقة أن هذا الزعم يجافيه الصدق والموضوعية، إذ إن هذه القيم – وسأقصر حديثي هنا على الثقافة العربية الإسلامية- ليست في أساسها قيماً غربية. لقد كتب صاحب هذه الأسطر مقالاً بعنوان Arab Perspectives نُشر عام 2014 شرح فيه المنظور العربي الإسلامي للخمسة عشر مبدأ من مباديء أخلاقيات البيولوجيا التي أقرتها سائر الدول الأعضاء في اليونسكو عام 2005 في وثيقة الإعلان العالمي لأخلاقيات البيولوجيا وحقوق الإنسان Universal Declaration of Bioethics and Human Rights. هذه المباديء هي احترام الكرامة الإنسانية،  المنفعة والضرر، الاستقلالية والمسؤولية الفردية، الموافقة المستنيرة، ناقصي وفاقدي الأهلية، احترام الضعف البشري والسلامة الشخصية، الخصوصية والسرية، العدالة والمساواة والإنصاف، عدم التمييز وعدم الوصم، احترام التعددية والتنوع الثقافي، التضامن والتعاون، المسؤولية الاجتماعية والصحة، التوزيع العادل للمنافع، حماية الأجيال المستقبلة، حماية البيئة والتنوع البيئي والمحيط الحيوي. لم يعن كاتب هذه الأسطر بشرح المنظور العربي الإسلامي لهذه المبادئ من حيث إنها في أصلها مبادئ غربية تم الاستعانة بها في ثقافتنا العربية الإسلامية ولكنه أراد أن يبين كيف أنها جزء لا يتجزأ من الثقافة الإسلامية منذ نشأة الإسلام. حيث دلل كاتب هذه الأسطر على ذلك باستشهادات من القرآن والسنة. كان ملخص رأي كاتب هذه الأسطر أن سائر المبادئ يمكن أن نجد أساسها في المبدأ الأول ألا وهو احترام كرامة الإنسان. للإنسان كرامة في المفهوم الإسلامي لأن الله اختاره خليفة له على الأرض. لحفظ هذه الكرامة يجب الامتناع عن الإضرار بها ونسعى إلى نفعها، واحترام كرامة الإنسان تعني احترام خصوصيته واستقلاليته في اتخاذ القرارات، وهي الاستقلالية المحكومة بالمسؤولية. تظهر استقلالية الإنسان في حقه في تقديم الموافقة. يجب حماية ناقصي الأهلية وفاقديها كجزء من احترام كرامتهم، وكذلك يجب احترام ضعفهم. ولأن البشر خلفاء الله على الأرض، فلا تمييز بين شخص وآخر وهو ما يعني ضرورة تحقيق العدالة والمساواة والإنصاف، وعدم التمييز وعدم الوصم. لا ينطبق هذا على الأجيال الحالية فقط ولكن ينسحب على الأجيال المستقبلية أيضا. ولأن البيئة بكل مكوناتها من خلق الله، فلها قيمة في ذاتها، وهو ما يعني ضرورة حمايتها لذاتها وليس فقط من أجل الأجيال القادمة.     

 نعم يتفق كاتب هذه الأسطر على أن حظ العرب حتى الآن من التنظير قليل، للدرجة التي يزعم بها أنه لا وجود لنظرية أخلاقية عربية إسلامية تتأسس على مباديء أخلاقية نابعة من البيئة الإسلامية يمكن الاستعانة بها بشكل كلي في حل المشكلات الأخلاقية لأي ميدان من ميادين الأخلاقيات التطبيقية. إلا أن هذا لا يعني أن هذه المباديء غير موجودة وأنها ليست جزءاً من ثقافتهم. هناك فارق بين عدم تنظيري للمباديء التي تحكم – أو يجب أن تحكم- سلوكي وبين عدم وجودها. قد يقول قائل إن هذه المبادئ التي شرحها كاتب هذه السطور في المقال الأجنبي سالف الذكر مبادئ خاصة بميدان بحث آخر وهو أخلاقيات البيولوجيا ولكننا نقول إن الكثير من هذه المبادئ ينطبق على مجال الإعلام مثل حماية كرامة الإنسان، وعدم الإضرار والمنفعة وعدم التمييز والعدالة واحترام التعددية والتنوع الثقافي والخصوصية والسرية والمسؤولية الاجتماعية، وأن معنى المبادئ الأخلاقية ثابت لا يتغير. يختلف الأمر فقط في طريقة تطبيق المباديء واستخدامها من مجال لآخر. فمعناها لا يختلف سواء طُبقت على مجال البيولوجيا أو الإعلام أو الإدارة أو أي مجال من مجالات الأخلاقيات التطبيقية.

    المراجع المستخدمة

أولا: المراجع العربية

الكسو «الاستراتيجية العربية للبحث العلمي والتقني والابتكار». جامعة الدول العربية. 2014

http://www.alecso.org/en/2016-04-06-07-56-24.html  تم الدخول بتاريخ 20 – 06 – 2017

ثانياً: المراجع الأجنبية

Darwish، B. (2014). ‘Arab Perspectives’ (2014) in H.A.M.J. ten Have، B. Gordijn (eds.)، Handbook of Global Bioethics، Springer Reference، pp. 269- 291

Kieran، Matthew (1999). Media Ethics.  Praeger، Westport، Connecticut London.

National Association for Science Writers (2014). Code of Ethics for Science Writers. In https://www.nasw.org/code-ethics-science-writers. تم الدخول بتاريخ 18 – 12 - 2017 .

Shakuntala Rao and Herman Wasserman (2007). Global Media Ethics Revisited. A postcolonial critique. in Global Media and Communication [1742-7665(2007)3:1] Volume 3 (1): 29 -50. In http://journals.sagepub.com/doi/pdf/10.1177/ 1742766507074358 تم الدخول بتاريخ 17 – 12 - 2017

Tehranian، M. (April 1، 2002) Peace Journalism: Negotiating Global Media Ethics. In The International Journal of Press/Politics. In Journals.Sagepub.com/doi/abs/10.1177/1081180x0200700205. تم الدخول بتاريخ 17 – 12 – 2017

Ward، S. Global Media Ethics. Center for Journalism Ethics. School for Journalism and Mass Communication. University of Wisconsin-Madison. In https://ethics.journalism.wisc.edu/resources/global-media-ethics/ تم الدخول بتاريخ 17 – 12- 2017.