البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التوسُّط موضع خلاف (تأويلات المفهوم)

الباحث :  جان دافالون
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  11
السنة :  السنة الرابعة - ربيع 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 14 / 2018
عدد زيارات البحث :  926
تحميل  ( 351.976 KB )

تكمن أهمية هذه المقالة في السياق الذي اختاره الباحث لتظهير الإشكالية المفهومية والاصطلاحية لكلمة "التوسط"، فهو يبيّن أن هذه الكلمة كانت ذات معانٍ ودلالات مختلفة عما هي عليه اليوم عندما ارتبطت بالعالم الافتراضي.

هنا معالجة تحليلية لمفردة التوسّط داخل الحقل الميديائي، حيث عمد الباحث إلى فتح خطوط تأويلية متعددة الاتجاهات لمقاربة الإشكالية.

المحرر

-------------------------------------------

لو ركّز الباحثون في علوم الإعلام والاتصال، ولو قليلاً، على كلمة «توسّط»، فسيظهر على الفور مباشرة الحضور القوي، لهذه الكلمة في مفرداتهم. هذا الحضور يأخذ تارة، شكل استخدام بسيط للكلمة في معناها الشائع، وتارة شكل استخدام مخصوص، ليدلّ على مساقٍ متميّز بحضور طرف ثالث، وطوراً أخيراً، محاولة تعريف نظري للكلمة. نقترح هنا، اعتبار هذه الاستخدامات المختلفة، علامة انبثاق طريقة جديدة للتفكٌر بالاتصال. ومن المؤكد أن هؤلاء الباحثين، رجعوا بقوة الى تعريف فلسفي للتوسّط، ولكن الإضاءة، التي يحملها التفحّص نفسه لهذه المرجعية، يدل بشكل خاص، على أنه إلى جانب التعريفات التقليدية للاتصال، كنقل للمعلومات أو كتفاعل اجتماعي، ينشئ معنى ثالث، يركِّز الاهتمام على البعد الإعلامي الخاص.

لقد عرف تصوّر «التوسّط»، خلال السنوات العشر الأخيرة، غنىً لا سابق له. فبعض استخداماته هي، بكل وضوح، بعيدة كثيراً عن أي تفكير حول الموقع العلمي للكلمة. فاذا ما تكلمنا على وسيط الجمهورية أو أيضاً على نظام التوسّط القضائي، فهل ثمة ما هو مشترك بينهما، وبين التوسّط الثقافي مثلاً؟

إن الوسائط الأولى هي: سلطات منظمة اجتماعية بين أشخاص في حالة خصومة، أو من لديهم مصالح متباينة ـ  سلطات بوضعية ثالثة ـ هي في آن حيادية، وتحظى بسلطة ويرتكز تأثيرها في إمكانية إيجاد تفاهم بين الأطراف المتنازعة، آملة أن تسمح لهم بالخروج من وضعية النزاع. لا شيء من ذلك في التوسّط الثقافي. ليس ثمة أية وضعية نزاع، ثمة فقط غياب ومسافة. أمَا بالنسبة لوجود طرف ثالث، يُدْرَكُ عموماً كأحد المعطيات المكوّنة للتوسّط، فهل في ذلك ما يكفي ليسمح بتعريفه؟

لنتوقف عند التوسّط الثقافي.إنه يمكن بالتأكيد. إن يُعرّف وظيفياً: هو يهدف إلى إصال جمهور إلى أعمال ثقافية (أو معارف). ويرتكز تأثيره في إقامة مساحة مشتركة، بين هذين العالمين الغريب واحدهما عن الآخر(عالم الجمهور وعالم الموضوع الثقافي)، هادفاً بدقة تملّك الأول للثاني. وفي المجال التطبيقي لا، يقل اشتماله على أشياء مختلفة، كالاختلاف الوظيفي للوسائط (المتحف أو التراث على سبيل المثال)، شكل تأثير ثقافي مقابل تنشيط ثقافي، إقامة علاقة بالفن، تصوّر وإنجاز منظمات وأعمال فنية، بغية عرض الفن على الجمهور، وشرحه الخ. إننا ندرك ذلك، فما أن يُعاد وضع التعريف في سياقه، حتى يتحدَد موقعه، وما إن يظهر مقتدراً على فعل مصالحة حتى ينفطر، ليدل على حقائق جدّ مختلفة. إن مثل هذا التنافر يُترك لمن لا يحلمون كثيراً: ما جعلني أعترف أنني بقيت مدة طويلة مرتاباً – كي لا أقول بصراحة حذراً – حيال فكرة تقدّمُ السهولة، في تصنيف ظاهرات وأعمال أو أشياء، ولكن تعرض عيب التهرّب، ما إن يُفهم تعريفه كمفهوم إجرائي – أي أن يسمح في الواقع، بالتصنيف من دون إعطاء إمكانية الوصف أو التعريف من أين يأتي غناه الراهن في علوم الإعلام والتواصل؟ ماذا يمكن أن تكون عليه منفعته وفائدته العلمية؟ إننا نستطيع بالتأكيد، أن نرى في ذلك، فعل تمرين، أو طريقة ذات علاقة جزئية، مع تطور استخدام الكلمة في المجتمع. ونستطيع في المقابل، أن نحاول تقييم المفهوم أو تأسيسه.

المسعى الذي سأتبعه هنا، سيكون أكثر قرباً، من الأسئلة التي تواجه الباحث، بشكل محسوس، إذا ما وُجِه بحقيقة استخدام أو عدم استخدام هذه الفكرة. ستكون نقطة انطلاقي، القرار الذي اتخذته باللجوء الى هذه الكلمة، للدلالة على العملية الرمزية، لإنشاء علاقة بين عالم الزائر، وعالم العلم، من خلال عرض العلم (دفالون Davallon 1988  مذكور من خلال 1999a: 75 ملحوظة 52) مُترافقاً في مرحلة ثانية، بقرار توسيع استخدامه حتى البعد الرمزي للعمل الإعلامي للعرض (دفالون 1999a: المقدمة: 2003)[1].

ولكن، بما أن غرضي، ليس الدفاع أبداً، ولا إيضاح هذا القرار، سأبدأ بتفحّص الاستخدامات الراهنة لهذه الفكرة، في منشورات علوم الإعلام والتواصل. والرهان هو في الحقيقة، محاولة فهم، فيما يتعدى السؤال البسيط، للإطار النظري، الذي يؤسس ملاءمته وصلاحيته، ما يبدو لي أنه انبثاق مفهوم جديد لوقائع التواصل.

الاستعانة بالتوسط

إن تفحّص مجموعة كتابات، في علوم الإعلام والتواصل، يسمح بتمييز ثلاثة نماذج من استخدامات كلمة توسّط[2]، سواء عاد إليها المؤلفون بطريقة عرضية، أو استخدموها مفهوماً إجرائياً، أو خصّصوا لها قسماً من مؤلفهم بغية إعطائها تعريفاً:

أ- الاستخدام الأول: الشائع

تؤخذ الكلمة، في هذا الاستخدام، بين المعنى الشائع والمعنى العلمي. وعلى أيّ حال، فمن المفترض، أن يكون هذا المعنى، معرّفاً في مكان آخر من قبل.

إن معنى التوسط الشائع (الذي هو أيضا المعنى الأول للكلمة)، المقدر له، أن يصالح أطرافاً متخاصمة، يفترض مسبقاً نزاعاً، ويحتوي فكرة تصالح أو إعادة تصالح، هو نسبياً، قليل الحضور في الأدب العلمي لعلوم الإعلام والتواصل، باستثناء الحالة التي يكون فيها، مسألة إجراءات توسّط(في المنظمات مثلاً)، أونشاطاً مهنياً[3].

وفي الواقع، إن الاستخدام الأكثر شيوعاً، يتوافق مع المعنى الشائع الثاني (المعنى الثانوي): معنى فعل استخدامه كوسيط أو أن يكون ما يستخدم كوسيط، مع فكرة أن هذا الفعل، لا يقيم علاقة بسيطة،  أو تفاعلاً بين كلمتين من ذات المستوى، ولكنه مولّد لشيء إضافي، مثلاً لحالة أكثر إرضاء. وسأعطي مثلاً مستلاً من «يوطوبيا التواصل لبروتون 1997: 137 – 139» يتناول «وظيفة التوسط» لوسائل الإعلام والتواصل «لقد تمّ ابتكارها لمساعدة الناس، على التواصل بشكل أفضل، فيما بينها، إنها الجواب  على وعينا العميق للانفصال المجتمعي، وعلى تباعد بعضهم عن بعضهم الآخر، مقروناً بعطش التقارب»، إنه دور التوسط الذي يسهّل التواصل، والمقدَّر له أن يساعد، على الانتقال الى حالة أفضل. فالصحافي الذي في هذا السياق، يعرض ويناقش خطاب الآخر (ما قاله أحدهم في مقابلة على سبيل المثال) هو «وسيط» يمتلك صفة التوسط، بين الشخص والجمهور، والأمر يمكنأان يتحوّل، بحسب ما يمكن أن يقوله هذا الشخص (ص 143). إننا إذاً، إزاء إحالة مضمرة إلى مفهوم تقليدي للصحافي بوصفه وسيطاً.

مثل آخر للإحالة المضمرة: المثل الذي يرد في «مجتمع التواطؤ» (La société de Connivence Beaud, 1984). حيث يكون استخدام الكلمة نادراً، باعتبار ما يبعث العنوان الفرعي على الفهم (Media, mediation et classes sociales) (وسائل الإعلام، التوسط والطبقات الاجتماعية). ولكن الكلمة تبقى معرّفة قليلاً، باستثناء الحالة، التي يكون فيها الكلام على «الوسطاء الجدد» «طبقة المثقفين الجديدة»، الذين يشاركون في عمل وسائل الإعلام (ص 313-298)[4].

الحقيقة الدامغة لهذا النمط من الاستخدام هو أنه يحيل على نص جواني، يُفترض أن يجد فيه القارئ تعريفاً للتوسط – وينبغي إضافة - أن من المفترض أنه يعرفه. وعليه سنراه في الحال، ومثل هذا النص الجواني، هو حتى هذه اللحظة محدود.

       ب- ضرورة التوسط: استخدام إجرائي.

بعض فروع الأبحاث، يستخدم فكرة التوسط، بوصفه مفهوماً إجرائياً ليدل مساقاً مخصوصاً أو يصفه أو يحلله، مما يستدعي اقتراحات للتعريف، تبدو مع ذلك، متغيِّرة كثيراً من فرع لآخر.

لنبدأ بالتحقق، من هذه الفروع المختلفة، الأول ما يمكن تسميته بـ «التوسّط الإعلامي» للدلالة على العمل، داخل وسائل الإعلام، التي على نقيض «نشر الإعلام»، تضع الصحافي في وضعية الطرف الثالث، الوسيط. هذا الأخير يستمد شرعيته، من انتمائه الى حقل مختلف، عن أولئك الذين «يذيعون» المعلومات، أو المواضيع التي يروجون لها. وظيفة الوسيط هذه، تستدعي بداهة، مجموعة من الإجراءات المخصوصة كتابة أو تمثيلاً[5]. هذا الاعتراف بوظيفة الفاعل الاجتماعي، يوجد في فروع أخرى من الأبحاث، خاصة في التوسط في علم التربية والتوسط الثقافي.

 في التوسط في علم التربية، وضعية المدرب كوسيط - وهي أيضا وضعية طرف ثالث – تستوجب بالتأكيد، عنصراً علائقياً، وتنطوي أيضاً على تنظيم التفاعلات التربوية، لتكون علاقة متعلِّم – معرفة فعّالة، وتحقق العملية التعليمية (V.g Fichey & Combes, 1996). هل ينبغي لوضعية الطرف الثالث، أن يؤمنها مدربون فقط، أو يمكن أن تتحقق أيضا بأجهزة تقنية يستخدمها المدربون؟ هذا السؤال يبدو جوهرياً، لأنه ينطوي في خلفيته، على سؤال معرفة كيف والى أي مدى، يمكن لهذا التوسط أن يكون موضوع تصنيع (Moeglin 1988)[6].

في التوسط الثقافي، تحضر بقوة، المقاربة المزدوجة للوسطاء والتوسّط. وليس بعيداً عن ذلك أنها تُحيل على حقلين مرجعيين، لا يُستوفيان إلاّ جزئياً. والكلام عن الوسطاء، هو عموماً، اتخاذ مهنيي التوسط كمرجعية (على سبيل المثال التوسط المتحفي، أو التراثي، في الحدود التي يعتبر فيها هذا القطاع المهني، أحد القطاعات الأكثر تطوراً). وبالمقابل، كما سنرى في النقطة الأخرى بتفصيل أكثر، فإن التوسط الثقافي، الجمالي كما توسط الثقافات والمعارف الخ. يغطي حقلاً أوسع بكثير، وهو غالباً مقاربة نظرية الى حدٍ بعيد، وهي تُغرق مراجعها في نظريات، كما على سبيل المثال، نظرية الفضاء الجمهور (Allard  Chamial 1988). و»الطرف الثالث المرمِّز». (Dalage pY – Debruyne Voandiedone 2002) وأيضاً نظرية «الترجمة» بحسب معنى لاتور Latour Caillet 1955b.[7]  وسنلحظ أن توسط المعارف، تشكل حقلاً شبه مخصوص، يرجع من ناحية إلى توسط المعلومات، ومن ناحية أخرى إلى الخصائص الاجتماعية أو سيميائية التواصل Thomas 1999) بحث في التواصل 13و4) [8].

سأجمع بطيب خاطر، مجموعة استخدامات أخرى، لمفردة توسط تحت فئة - هي واسعة قليلاً بالتأكيد، ولكنها محددة كفاية- في التوسط المؤسساتي. هذه الاستخدامات تُحال، إما على تصوّر سياسي[9] وإما على مقاربة سوسيولوجية. وحينما يتكلم ماتيلار Mattelart في التواصل – عالم، عن التوسطات، فإن الكلمة تتخذ مرجعية من مساق بناء الهيمنة (من التوافق)، بحسب غرامشي. وهذا المساق تتم إذ ذاك مراقبته، من خلال التقاء الثقافات أو التنوع والتعقيد الثقافيين (:V.g. 88.273 Mattelart, 1993). ويبدو أننا نكتشف هنا، توضيحاً للبعد السياسي للتوسّط، الذي سيكون لنا عودة إليه. أما المقاربة السوسيولوجية فانها توجد بالأحرى، مع التوسط الاجتماعي، الذي يشكل الميدان الرئيس للتوسطات المؤسساتية: ويكون ذلك عموماً لمناقشة «تأثير» التقانات الحديثة، إما في مكان العمل [10](Durampart, 1998) وإما من خلال شبكات التواصل الاجتماعي (Millet  – Fourrier 1998).

ثمة استخدام أخير، يتميّز من الاستخدامات الأولى فيما لو رُبط بها. وهو يخص تحليل استخدامات التقانات. وحد التوسط، يستخدمه للتهرّب من الحتمية المزدوجة، الاجتماعية والتقنية: التوسط تقني «لأن، الاداة المستخدمة، تُبنين التطبيق» واجتماعي، «لأن الدوافع، أشكال الاستخدام والمعنى المعُطى للتطبيق، يعود الى التدفق في الجسم الاجتماعي، كما يشير على سبيل المثال جوزيان جوّي Josiane Joeut. وتبدو إذاً فكرة التوسط، في هذه الحالة، تشير الى عمليات – كما إلى تأثيراتها – تقننة Techmicisation مساق التواصل (توسط تقني)، وفي آن، إلى تدخل البعد الذاتي، في تطبيقات التواصل (توسط اجتماعي).

إن ضمَّ استخدامات التوسط في خمس فئات، يدفع الى التفكير، أن لكل قطاع من البحث، استخدامه الخاص، بل تعريفه الخاص ـ للتوسط. ومن دون شرح واقع الحال، من الصعوبة بمكان، تحديد ما سأعود اليه لاحقاً للقول إن الرجوع الى هذه الفكرة هو حاضر جداً في بعض القطاعات، وعملياً غائب كلياً، عن القطاعات الأخرى. وتفحّص هذه المدونة الاستكشافية، حتى الآن، يعطي معلومات خصوصاً، حول أهمية العنصر الثالث، الذي يتأكد حضوره، كعلامة مميزة للتوسط. وإذا تغير كثيراً شكل هذا التوسط بين مؤلفٍ وآخر، فبالمقابل، تأثير هذا العنصر يبدو ممتلكاً أربع خصائص: الأولى، هذا الفعل يمارس دائماً، الى حد ما، «تأثيراً» في مُتلقي التواصل: سيصل، يُعلم، ويمر الخ وفضلاً عن ذلك، فإن هذا الفعل مقوَّم: إنه مستفيد، محترم، ومقدرة قيمته كذات وليس كأداة؛ والثانية، الموضوع، الفاعل أو وضعية الإنطلاق تخضع لتغيير، من حقيقة أنه مندمج في سياق آخر. مثلاً، الموضوع التقني، موضوعاً، في سياق استخدام، يعمل على نحو مختلف، عن صنيع التوسط، حتى لو لم يتحول مما هو عليه. وهذه ظاهرة مشابهة للعمل الفني والمعرفة.

والخاصية الثالثة، إن مُشغِّل الفعل (العنصر الثالث كونه وسيطاً)، هو بالتأكيد تارة فعل إنساني، وتارةً أخرى فعل موضوعي بشكل جهاز، وطوراً الاثنان معاً، ولكن مهما يكن من أمر، ثمة على الدوام تقريباً، جدل حول شكله وطبيعته. والخاصية الرابعة، هي أن فعل العنصر الثالث ذو تأثير دائم على المحيط (وفي الأغلب المحيط الاجتماعي) حيث موقعه.

وعليه فإن أول معاينة نجريها، هي أن فكرة التوسط تستدعي تحوّلاً للوضعية أو للجهاز التواصلي، في كل مرة، يكون فيها حاجة لوصف فعل، وليس مجرّد تفاعل، بين عناصر، قد تشكلّت من قبل، ومن دون ذلك أيضاً، انتقال عنصر من قطب إلى قطب، وهكذا سأعرض فرضية، أن ثمة رجوعاً للتوسط، حالما يكون ثمة فشل، أو عدم تكيّف لتصورات التواصل العادية، التواصل كنقل للمعلومات، والتواصل كتفاعل، بين عنصرين من المجتمع. ومع هذا الرجوع ينتقل أصل الفعل، من الفاعل المرسِل، أو من ما بين الفاعلين الى فاعل ثالث: ثمة تواصل من خلال عملية الطرف الثالث، والمسألة الجوهرية هي إذاً طبيعية الطرف الثالث، الخلافات الملاحظة هي خلافات في الشكل أو في الطبيعة؟ يبدو أن في حقيقة ذلك تتباعد المقاربات.

ج- نحو تعريف نظري للتوسط؟

لنرَ إذاً واقع الحال، من جانب المؤلفين، الذين يقترحون تعريفاً صريحاً. أو أكثر للتوسط. إننا نلاحظ بادئ الأمر، أن إرادة تعريف التوسط، من وجهة نظر نظرية، (وحتى علمية) هي تعدٍ مخصوص على حقل علوم المعلومات والتواصل.

ثمة أربعة مؤلفين تم ذكرهم بشكل عام، ويعتبرون مراجع، اثنان منهم، لديهما على الأقل كهدف مُعلَن، نظرية في التوسط (Bernard Lamiset et Jean Caune) والاثنان الآخران بإعطائهما بنظريتهما مكانة مركزية كلياً للتوسط، ما قادهما لإنتاج تعريف، ومقاربة واضحة الى حدٍ كافٍ، ومفصّلة.(Louis Queré et Antoine Hennion).

إننا نجد في «أمكنة التواصل»، العرض الذي يسمح، بأن نفهم بمزيد من الوضوح، المكانة التي أُعطيت للتوسط، في النسق النظري، الذي اقترحه برنار لاميزيت[11](1992). المعنى الذي أعطي لهذه الفكرة، لا يُضبط خارج قراءة ومقاربة، لمجمل هذا النسق النظري. تلك هي، على سبيل المثال، حالة علاقة التوسط، مع التواصل الذي يذهب المذهب نفسه، مع سلسلة اعتراضات (أو تمايزات) بين تواصل ما بين - ذاتي وتواصل من خلال الإعلام (تؤمنه إحدى سائل التواصل)، والفضاء الرمزي أو الفضاء العام الخ... هذه السلسلة، التي ترتكز بذاتها على التمايز، بين شكلين من الكلام، الكلام الذي «يعلن في الفضاء الخاص حيث يعيش أشخاص متميزون ويتخاطبون» (LAMIZET, 1992:187). «والكلام الذي يعلن في الفضاء العام، وهذا هو التوسط. « إن تعريف التوسط «كمرافعة» يسجل إذاً في مقاربة ميتا – نظرية تتكون بين قطبي اللغة والسياسة. وهكذا فإن التوسطات (التوسطات الرمزية للغة، توسطات التواصل في الفضاء العام والتوسطات المؤسساتية للإستراتيجيات الاجتماعية) تؤمن جدلية المفرد والجمعي. وإذا ما تساءلنا في هذه الشروط، ماذا يمكن أن تكون عليه، طبيعة الطرف الثالث، فإن الجواب يقودنا في آن، إلى الانعكاسية وإلى الإنابة[12]. وما يبدو في مصدر الطرف الثالث، هو بالفعل، من ناحية تضاعف الذات في صورتها ومن ناحية أخرى تضاعف الاجتماعي في الاتفاق السياسي[13].

يتبنى Jean Caune في «من أجل أخلاق للتوسط» pour une éthique de la mediation وضعية، هي تقريباً، متعارضة في النقاط كلها، مع وضعية Bernard lamizet: لإنشاء مفهوم التوسط، يقترح تفحص المقاربات الثلاث المعتادة (أي استخدامات سوسيوبوليتيك، ومقاربات نظرية للحد، ومقاربات التطبيقات الاجتماعية التي يدل عليها هذا الحد). وهو ينطلق من أشكال التوسط، التي ميزت السياسات الثقافية الفرنسية، منذ بداية الجمهورية الخامسة «توسط بالتماس» (ستينيات  القرن الماضي)، المرتكزة على المشاركة المباشرة، مع المؤلفات «التوسط بالتعبير» “mediation par l”expression” (سبعينيات القرن الماضي)، الموسومة بالانخراط في التطبيقات الفنية “mediation par médiatistion de lart” (ثمانينيات القرن الماضي). معطية الأفضلية، لسياسات علاقات عامة، وبث تجاري. ومن خلال تفحّص نماذج التوسط المذكورة، تمّ التعريف على المستوى التقني، والتاريخي والمفهومي، بحسب منظور براغماتي وبالحضور المشترك لـ «قصدية المرء، لبناء علاقة ما بين – ذاتية». و”un support expressif et symbolique  «مستند معبّر ورمزي» و»وضعية إعلان:”situation d’enonciation”  أي «إطار حسي فيزيائي واجتماعي» (caime 1999:210).

هذه المقاربة التي إحدى نقاط انطلاقها هي الأخذ بالاعتبار، «الطلب الاجتماعي للتوسط»، تؤدي الى اقتراح «استبدال فكرة التوسط الجمالي، بمنظور وجودي للفن» (ص 241). ومن وجهة النظر التي تشغلنا (طبيعة الطرف الثالث) من الضروري، أن ننظر لا من جهة ما هو مقترح في النهاية، ولكن بالأحرى، ما يعزّز هذا التصور للتوسط. وعليه فإننا نجد الإجابة في مؤلف سابق (Caune 1995) حيث يشرح أن الثقافة هي توسط فيما تحقق علاقةً «بين جلاء manifestation التعبير، وفرد وعالم مرجعي (مما يعطي وجهة نظر أخرى للتعريف بحسب الشروط الثلاثة المذكورة سابقاً). ولهذا، فالتعريف يرتكز على الوظيفة الرمزية، كما يعرفها كاسيرر Cassirer كتوسط بيننا وبين الواقعي. مذ ذاك «الرمز يفتح على شيء آخر، غير ذاته، من خلال التوسط الذي يحققه، أنه يفتح ممرا».(Caune 1995:70)  إن هذا التصور للرمز كطرف ثالث (ينطلق من المحسوس ليصل الى مدلول لا يُدرك) يؤسس مقاربة عمل الثقافة كتوسط، على نمط «استبدال دائري للحدود الثلاثة(الجلاء manifestation كحقيقة محسوسة، الفرد الذي يعيش، أو يحدث الجلاء: الإطار الثقافي والاجتماعي الذي يأخذ الجلاء فيه معنى[14](ص 87).

في مؤلف قديم «مرايا ملتبسة» des miroirs équivoques انتقد «لويس كيري»Louis Quéré المقاربات الوضعية للتواصل الاجتماعي، الذي يتميز باستبعاد الطبيعة الرمزية للتبادل الاجتماعي، ويقترح تصويب «العمل» الاجتماعي لوسائل الإعلام، انطلاقاً من حالة، أن «التبادل الاجتماعي، هو تفاعل بين أفراد، تنقله وسائل الإعلام، من خلال ما هو رمزي[15]” “Quéré, 1982:29. التواصل الاجتماعي كما هو مفهوم، ينطوي على استخدام التوسطات الرمزية، أي «إنتاج هوية مع تأكيده، على اختلاف بين المتحاورين» (ص 46). والمؤلف هو على وضعية وسيطة، بين وضعية Bernard Lamizet ووضعية Jean Caune، إذ ينطلق من مقاربة تاريخية وميتا – نظرية، ليحاول فهم التوسطات الرمزية الحاضرة في وسائل الإعلام، إلى جانب التوسطات التقنية. التحليل يعالج في الواقع، تغيير إرساء الموضوعية للتوسط الرمزي  المداخل في مجتمعنا[16]. هذا الإرساء للموضوعية، يتوق الى أن تُقام استراتيجيات وتقانات[17]، على وسائل وأدوات تقنية، ما يثير في الحال سؤالاً (أثاره المؤلف في الخلاصة بطريقة براغماتية) النتائج الإناسية (الانتروبولوجية)، لاستبدال هذه «التوسطات التقنية(ماكينات، طرائق، إجراءات مستنبطة وقواعد عمل استراتيجي) بوسائط رمزية في ميدان التفاعل الاجتماعي (ص 179)، وحتى إن وضعنا جانباً هذا السؤال الشائك، حول العلاقة بين التوسط الرمزي، والتوسط التقني، فإننا نجهد للاعتراف، أن التوسط مرتبط مباشرة، بالفعل الرمزي للمجتمع، وبالتحديد من خلال مفهوم الطرف الثالث المرمّز.

هكذا نرى اختلافاً واضحاً، يرتسم بين المؤلفين الثلاثة السابقين، في طريقة تفكر الطرف الثالث – وبالتالي التوسط – يعود الى  انطلاق الأول، من اللغة والفاعل، والثاني من مساق مؤسسة الثقافة، والثالث من انتروبولوجيا الفضاء العام. وفي المقابل، يمكن استخلاص  ثلاثة ثوابت: 1)استخدام العناصر نفسها، لتعريف التوسط: ما بين - ذاتي: Intersubjectivité واللغة والسياسي 2) المبدأ الذي بمقتضاه، يكون التواصل الاجتماعي، نتيجة التوسط وليس العكس. 3) وأضيف: التوسط يبنى حول نقطة تسرّب- تُسمى ما هو خارج، حيادي وسلبي. وهي بحسب – الذين يتدخلون في مساق التواصل، من دون أن يكون للذين يسهمون فيه أي سلطة عليه. وفي الحقيقة، هذا ما تعنيه بأساليب مختلفة، صورة الطرف الثالث، التي وصفها Louis Quéré كطرف ثالث مرمِّز.

لنأت، الآن الى التعريف الرابع، تعريف أنطوان هانيون Antoine Henion في مؤلفه “la passion musicale” «الشغف الموسيقي، وعنوانه الفرعي «سوسيولوجيا التوسط»، من النظرة الأولى لا يبدو فيه، أية صورة للطرف الثالث. وهذا يعود الى حقيقة أن المقصود، هو سوسيولوجيا التوسطات، أكثر منه تفحص التوسط، بالمعنى الذي يمكن أن يفهمه المؤلفون الثلاثة السابقون. ومن جرّاء ذلك، ليست العناصر المكونة، هي نفسها تماماً. المشروع ليس مقاربة السياسي، أو الثقافة، من خلال ما بين –ذاتي. وانعكاسية التبادل الاجتماعي، الذي يؤدي الى تصورات، من خلال استخدام نص دال، والتحليل يتبنين، حول عناصر أخرى: تحديداً هذه التوسطات التقنية، أو الاجتماعية (الآلة، التوزيع، تناغم الأصوات والتسجيل) التي تأتي، لتسهم في بناء علاقة، وتواصل بين الجمهور والموسيقى. ليس مع الموسيقى بشكل عام، وإنما أنماط من الموسيقى، التي تتوافق مع طريقة خاصة، لبناء العلاقة مع طرائق مخصوصة لتعريف، واستخدام ومفصلة وتنضيد التوسطات. الأولوية إذاً أُعطيت، لفهم مساقات، بناء العلاقة بين الفن والجمهور.

ولكن، هنا أيضاً، فإن لعبة التوسطات، حتى وإن حُدِّدت، في الشبكة المتنافرة لما هو بشري ولا – بشري، فإنها تنتظم، حول نقطة تسرّب، تُترجم كما يبدو لي، تحديداً بغياب تعريف التوسط، في هذا المؤلَف. وبطريقة ما، فإن الانتقال، من سوسيولوجيا التوسط، نحو سوسيولوجيا الإدمان، في «صور الهاوي» “les figures de l’amateur” يبدو لي، كاستكشاف لنقطة التسرب هذه: التفحّص من حقيقة، أن انطلاقاً من التوسطات، يمر شيء ما، يقع حدث، عبور لا يبقي شيئاً كما من قبل؛ المقصود إذاً «التعرّف إلى لحظة العمل، بما هو خاص، ولا ينعكس ورؤيته، كتحول وعمل منتج Henion 2000:178 ولنلحظ، أننا بوصولنا الى هذه النقطة، لم نعد بعيدين كثيراً، عما يمكن أن يكون، مقاربة للتوسط الجمالي[18].

طريقة أخرى لتفكّر التواصل؟

لنتوقف على المعاينة المزدوجة، التي أجريناها للتّو: معاينة الرجوع، إلى فكرة التوسط، الحاضرة أكثر فأكثر، في علوم الإعلام والتواصل، ومن جهة أخرى، على معاينة الصعوبة، التي لا يمكن نكرانها، والتي يجد نفسه في مواجهتها، كل من يباشر، في إعداد تعريف وإن قليل الدقة، لهذه الفكرة. هذا يعني: 1) عدم اعتبار هذا الرجوع، كمسعى بسيط، ملائم، ولكن بالأحرى اعتباره الدليل، لضرورة تفكّر بعض الموضوعات، وبعض الميادين (كل مرة، يصبح فيها البعد الثقافي للتواصل موضع رهان) أو استخدام بعض المقاربات، التي تقصد اعتبار اثنين، بل عدة أبعاد (اجتماعية وسيميائية، تقنية وسيميائية) ثقافة وتصنيع، كي لا نأخذ إلا الأكثر بساطة). 2) وعدم اعتبار الصعوبة لإعداد تعريف مفهومي للفكرة، بمنزلة عدم قدرة، ولكن بالأحرى كإشارة عمل نظري قيد الصيرورة.

في هذه الحالة، تقدم فكرة التوسط (وليس فقط استخدامها بالإنابة، كنوع من «الجوكر» النظري) فرصة حقيقية لعلوم الإعلام والتواصل، لأنها تقود لتقديم سؤالين: سؤال معرفة إذا كان بالإمكان، أن تصبح مفهوماً علمياً، وسؤال حول تأثيرها في طريقة تفكّر التواصل. هذا هو التساؤل المفتوح على هذا النحو، الذي يسوّغ برأيي، الفائدة التي نستطيع أن نسديها له.

أ-التوسط هل يمكن أن يفعل شيئاً سوى الإحالة على الفلسفة؟

الشيء الأول الذي يمكن أن يُدهش، لدى قراءة مختلف المحاولات، الرامية إلى تعريف التوسط، هو المرجعية شبه الثابتة إلى الفلسفة، وحتى إلى اللاهوت المسيحي. هذا يعود بوضوح، إلى أن المعنى الثاني للتوسط، الذي يخدم كوسيط (I.e.ce qui sert d’intermediaire) يتفق مع ديالكتيك هيغل واللاهوت المسيحي: هما بالذات، نسقا التفكير اللذان يستخدمان، بشكل صريح ومتطور، هذه الفكرة. على أن ليس كثيراً على ديالكتيك هيغل، أن يكون عادة مرجعاً، في كتابات علوم الإعلام والتواصل، بالمقارنة مع فلاسفة مثل أرنست كاسيرر Ernest Cassirer، بول ريكير، تيودور أدورنو، والتر بنيامين أوجورجن هابرماس، الذين باستثناء بول ريكير، لم يناقشوا مباشرة، التوسط على ذلك النحو[19]. أما بالنسبة إلى اللاهوت، فمن المؤكد أن تصوره للتوسط، يعمل كأداة تفكّر العمل الرمزي في مجتمعنا، ولكن ذلك يحدث أمامنا، فيكون هنا، على نحو لا جدال فيه، بحث للمباشرة.

إن ما قلته سابقاً عن أسباب العودة الى الفكرة، والى ما ينتج من تفحص التعريفات المقترحة، يحثني على تطوير الفرضية المذكورة أعلاه، والتي بموجبها، تأتي هذه المراجع، لتعطي أدوات للسيطرة، على نقطة التسرّب التي أدخلها، استخدام فكرة التوسط، في مقاربة التواصل. إن قراءة مؤلف فرانكو كريسبي (Médiation symboliqye et Société) هي حول هذه النقطة ذات الفائدة الأكبر، إذ يعرض، بطريقة واضحة، العلاقة التي تقيمها، مختلف الفلسفات. مع التوسط الرمزي. سبب هذا الوضوح يعود الى منطوق المصطلح الانتربولوجي الذي يؤسس عليه تعريفه: «الثقافة كبعد انتربولوجي، يمكن أن تعتبر في نظام الحياة مثل النتيجة المطوّرة للتعقيد المتنامي، لأنماط العلاقة والتواصل ما بين – ذاتي وما بين – دنيوي» (crespi, 1983: 11). تكون نتيجة ذلك استعاضة جزئية عن حتمية غريزية من توسط رمزي، جدير بإحداث التوافق، وتوجيه الأفراد «بهدف إنشاء نظام اجتماعي، وسلوك متناسق في نسق محدد من العلاقات»[20] (ص 14) كريسبي يسمي «الاختلاف»، تذبذب العلاقات المحددة – غير المحددة، ويقترح، وهذا محور مقاربته – أن الرمزي هو توسط، ليس لانه يهدف الى حل تناقضات الاختلاف، بمقتضى نموذج هيغلي، ولكن لأنه يبقى في تذبذب الاختلاف: الثقافة تميل هكذا لمحو الاختلاف، لانتاج المحدّد، ولكن في الوقت عينه، فإن الفارق الذي يشكل الوعي، لا يعود أبداً الى التشكل كلياً، في النظام الرمزي. ولمقاربة مسألة الاختلاف بطريقة صحيحة، ينبغي قبول، كما يقول «في آن المحدد أي ضرورة نظام رمزي، وغير المحدّد أي حدود التوسط» (ص 22).

فائدة تصوّر التوسّط هذه، هي الإسهام في إعطاء نموذج، يسمح بتفكّر الطبيعة  الدينامية لهذا التوسط، ميزتة الثلاثية، عمله المفارق ووظيفته الرمزية. ليس لأن مثل هذه المقاربة، تقدم لنا في النهاية، تعريفاً حقيقياً للتوسط، ولكن على نحو أكثر بساطة، لأنها تعط توليفة تمسك هذه الدينامية، هذه المزية، هذا العمل، وهذه الوظيفة بحسب منظور انتربولوجي، أي إنه يثير مسألة العمل الأنتربولوجي، التي تتعهد فكرة التوسط بتعيينه.

وما إن تسجل هذه المسألة، يبقى بداهة العمل العلمي. الأولى تسجيل تعهّد بواجب التفكّر بموقع التوسط الأنتربولوجي، في إطار فلسفي، يعطي هدفاً للبناء النظري، للمواضيع المدروسة، أي مشروع التفكّر علمياً سؤالاً تثيره الفلسفة، من هذه الزاوية، فحقيقة أن مختلف اقتراحات تعريف التوسط، يرجع غالباً لمقاربات، تعرض عمله الرمزي، بحسب مقولات أنتربولوجية (Louis dymont, Victor Turrer, Marcel Gaucher, Michel de certeau, claue Lefort, Louis Morin الخ) تبدو لي علامة استخدام فعلي لهذا المشروع. إنها توظف, فعلاً، لتفكّر المساقات الثلاثة التي تميّز هذا العمل الرمزي، لمحاولة إنشاء إجابات، للأسئلة الثلاثة، التي تحضر عند اللجوء، إلى فكرة التوسط: كيف ينتج بناء اجتماعي، انطلاقاً من عناصر منفصلة (سؤال الدين والسياسة أي سؤال إنتاج ما يربط)؟ كيف تُنتج اللغة، انطلاقا من إعطاء المادة، شكلاً تقنياً (سؤال الترميز)؟ كيف تُنتج المؤسسة، انطلاقاً من العلاقة والفعل (سؤال المأسسة، أي تبلور التطبيقات في أجهزة).

إننا من جهة، نلامس إذاً أسئلة ذات عمومية قصوى، عكفت عليها إلى حد ما، كل الفلسفات. ونجد من جهة أخرى، بحثاً نظرياً، تحليلات للواقع الاجتماعي، وإنشاء أهداف. يمكن إذاً القول، إن فكرة التوسط، كما استخدمتها علوم الإعلام، والتواصل تُحال حقاً على الفلسفة، ولكنها تُحال عليها، كما على حدودها (حدود عدم إمكانية تفكّر، وأقل من ذلك مناقشة أصل الرمزي)، وكما على اسئلة، تتعلق بمسعى انعكاسي، وبالمقابل وبشكل ملموس، بوصفي باحثاً، إذا أردت استخدام حد التوسط كمفهوم، يجب علي بادئ الأمر، وقبل كل شيء 1) ملاحظة حقيقة أن هذه الأسئلة تصدر عن الفلسفة 2) وتصدر عن بحث تماسك فكرة التوسط منطقياً، وصلاحيتها في أبحاث علوم الإعلام والتواصل.

انطلاقاً من وجهة النظر هذه، نستطيع التساؤل، إذا ما كانت استراتيجيات عدم التعريف، لفكرة التوسط تحمل فائدة للحذر العلمي: المقصود العودة لتحليل موضوعات تواصلية، هي في آن أجهزة تقنية، اجتماعية ودوال، وليس استهداف تفكير، حول التوسط والرمزي: هنا يكمن الاختلاف، بين المسعى العلمي، والمقاربة الفلسفية.

ب- هل يقترح التوسط طريقة جديدة لتصور التواصل؟

ما إن يتم الاعتراف، بدور الوجه المشترك، لفكرة التوسط، بين أسئلة أنتربولوجية و»لجوء» إجرائي، فإن هذا الدور، لا يكون من دون إثارة صعوبات خطيرة، لأن هذه القسمة بين الوجه الفلسفي والوجه العلمي لهذه الحدود، يعود إلى تفويض الفلسفة العناية لإرساء منظور أنتربولوجي، يستخدم كخطة خلفية، في تعريف التوسط. أليست المواضيع التي يدرسها الباحثون، مذ ذاك، هي محض ظاهرات، ذات أصل بشري واصطناعي artefacts في الحدود، التي تأتي، بما هي عليه، لتندرج في بناء نظري، لا شيء فيه علمي، ويخضع لمبادئ التفكير، والبحث بل واتخاذ موقف إيديولوجي؟ إن في ذلك تخوّفاً، يثير تحفظي إزاء فكرة التوسط: إنها تملك خصائص التوفيق بين عالم البحث وعالم الدراسة الفلسفية. والتقاسم الرضائي بين وجهين، لا يبدو لي مقبولاً، كما أن توزيعاً دقيقاً لا يمكن الدفاع عنه. وعليه نجد أن استخدام حد التوسط، خلال السنوات الأخيرة، يظهر بوضوح، الحاجة إلى تعريف التوسط الذي هو شيء آخر، غير وجه مشترك، يتمركز في علوم الإعلام والتواصل، وغير منظور أنتربولوجي من طبيعة فلسفية. ومن جهة أخرى،فإن الأعمال التي واجهت مباشرة، فكرة التوسط، بغية أن تجعل منها، مفهوما لعلوم الإعلام، والتواصل تبرهن في آن، إمكانية فائدة، وضرورة مثل هذا التعريف. كل ذلك يرافع ليُقارب التقاسم، بطريقة أكثر دينامية، منها ميدانية، وبكلام آخر، بكلمات فيها أكثر، في مجال البرمجة والمقاربة والمشروع، منها في مجال التقطيع والحدود والفصل.

إحدى الطرق، في معالجة هذه الأعمال هكذا، تكون بتغيير وجهة النظر، التي بمقتضاها، نتفحص ملياً المنظور الأنتربولوجي. ليكن بحثنا عن السبب الأخير، لاستخدام علوم الإعلام والتواصل، لفكرة التوسط وتعريفها أقل من أخذنا العلم، بأن ذلك، يشير الى أن الأبحاث، ما زالت في طور اكتشافها وبنائها، كمجال للمعرفة العلمية. ولنكون واضحين: لنفرض أن علوم الإعلام والتواصل، هي في طور مؤازرة اكتشاف العمل الرمزي لمجتمعنا؛ وذلك، ليس عن طريق ميتا – نظرية لهذا العمل، وإنما بانتاج معارف حول شكل هذا العمل وأنماطه[21]. تقدم هذه الوضعية مزية تحديد ملاءمة مفهوم التوسط وصلاحيته داخل حقل الأبحاث في علوم الإعلام والتواصل.

وفي الحقيقة، بإعادة الأعمال إلى سياقها، تلك التي تلحظ فكرة التوسط، وإدراجها في مجموع الأعمال، التي تبحث فعلياً أشكال العمل الرمزي وأنماطه، من وجهة نظر تواصلية، نحصل على نتيجة مزدوجة: من جهة: 1) إعادة تعريف دقيقة للتوسط، ومن جهة أخرى. 2) إعادة تصنيف نظريات الإعلام والتواصل، التي سأدوّن هنا، جوانبها الأكثر وضوحاً، والأكثر عمومية. مستعيداً عناصر عمل قيد البحث.

1) تعريفان للتواصل، يستخدمان حالياً كمرجعية، الأول الأكثر شهرة، والأكثر تعرضاً للنقد، يتصور التواصل كنقل للمعلومات، بين  قطبٍ مرسل وقطبٍ متلقّ، في حين أن التعريف الثاني، يستدعى أن البحث في  التواصل الاجتماعي، لا التقني، ويتصوره كتفاعل بين ذوات، اجتماعية، كعلاقة بين ذوات تصبح أكثر أهمية من المعلومات التي تدور بينهم. وعليه، وعلى نقيض فكرة مسبقة فإن تنضيد تصوريّ التواصل هذين (نموذج المعلومات ونموذج التفاعل) لا يسمح بالإمساك بالتقني، والاجتماعي معاً[22].لأن ثمة أيضاً فقداناً للبعد الإعلامي الخالص. أما نموذج التوسط، فهو على العكس، يستطيع ذلك في الحدود، التي يظهر فيه التواصل كاستخدام لطرف ثالث، يتيح إمكانية التواصل الاجتماعي، في حين أن عوالم الإنتاج والاستقبال، هي، مسبقاً، منفصلة بطبيعتها[23].

وإذا نظرنا إليه عن كثب، فإن شجرة النسب لهذا النموذج، تبيّن أن باحثين باشروا في استكشاف تصور التواصل هذا. وهكذا نستطيع تمييز ثلاث سلالات، ركّزت على اللغة، على التقانات وعلى الثقافة كعامل بناء (وإذا أردنا تأسيساً) لشروط إمكانية التبادل هذه، وبتعبير بسيط، سأقول إن الأول، بين هذه السلالات، وُضّح من خلال البنيوية الدلالية والانتربولوجية بل والسوسيولوجا[24]. والثاني من خلال أبحاث، عن الدور الرمزي للتقنية لـ Innis و Mcluhan أو Debray، وبالمقابل من خلال الدراسات الامبريقية، لسوسيولوجيا الاستخدمات، او التوسطات[25]، والثالث من خلال أعمال مدرسة فرانكفورت، أو منظرين في الفضاء العام، دمغ مركزهم الحاسم كثيراً من الأعمال، والتقى حوله بشكل ما، عدد كبير من البحّاثة الذين اشتغلوا على «تواصل الجمهور» و»الصناعات الثقافية» ووظيفتها في المجتمع.

2) والاعتراف بتعريف ثالث للتواصل بعيداً عن أن يصبح الآخران باطلين، يقود لاعتبار هذه التعريفات، ليست متنافسة إبستمولوجيا، وإنما كأعمال تاريخية، أتت لتجيب  عن اهتمامات، لهذا البعد أو ذاك من التواصل. ومن وجهة النظر هذه، ينبغي تتبّع شجرة نسبها واستخلاص السلالات، التي تشكّلها والتي شكّلت غناها[26].

يكفي، حتى الآن، ملاحظة أن النموذج الأول بين هذه النماذج يغطي الميادين الثلاثة للتقني، والإعلامي وألسنية التواصل، وينحو ليتركنا نعتقد، أنه قد أمّن ما يقترحه نموذج التواصل. أما الثاني، باعتباره التواصل حصيلة التفاعل بين اثنين أو عدة ذوات اجتماعية، يتعهد فكرة أن الثقافي، يعود إلى تطبيق أنساق دالّة فيما بين ـ ذاتي (حتى وإن فُهمت كتفاعل بين ذوات اجتماعية)[27].

وعلى العكس، ما يظهره نموذج التوسط من العناصر، (الإعلام، الندوات الاجتماعية، العلاقة الخ)، أقل مما يظهره من تمفصل هذه العناصر، في جهاز خاص، (النص، الإعلام (الميديا) والثقافة. وفي الحقيقة إن هذا التمفصل هو الذي يظهر كطرف ثالث

[1] - أُدرج القرار الأول في إطار نظري، هدف مقاربة المساق الرمزي الحاضر، في أية وسيلة إعلامية (أنظر مثلاً دفالون 1993، 1999b) ضد مقولة نزع رمزية مجتمعنا. والثاني في مشروع دراسة عمل البعد الرمزي نفسه للإعلام واللعب بين داخل وخارج الجهاز الإعلامي (الذي أسميته في مقدمة L’exposition à L’oeuvre، براغماتية الجهاز) هذا الاستخدام لمفهوم التوسط، يندرج هكذا (بعد المفهوم الرمزي في مقابل إنتاج أنساق الإشاده Sémiotisation، والتواصل أو الاستراتجية (V.g Davallon 1993, 1999b.

[2] - تتألف مجموعة الأفراد الاولى، التي تم تفحصها من تواصلاتهم في المؤتمرات الأربعة الأخيرة لـ SESIC. أما المؤلفات الأخرى، التي أُحتُفِظ بها (قرارات، مجلات، مؤلفات فردية ومؤلفات مشتركة) فقد كانت دون أي معيار تصنيفي أو بالحري بحسب القراءات التي تمت لضرورات البحث والتعليم. وهذا يعني أن ثمة بحثاً استكشافياً كلياً. مع ذلك، ينبغي توضيح أن إحصاء المعاني المختلفة، أظهر إشباعاً محدوداً نسبياً في المدوّنة. (لأنه ظهر منها القليل، إذا ما عدنا من القرارات الأخيرة، الى الأكثر قِدماً) وكما سنرى، أن ثمة تركيزاً في استخدام الكلمة، في المؤلفات التي تستخدم بطريقة صريحة هذه الفكرة. وتجدر الإشارة أيضاً، إلى أن الأمثلة المذكورة، في هذا النص، لا تأخذ في الحسبان مجموعة التوافقات، إنما لها فقط قيمة إدراجها.

[3] - ثمة حالة مهمة لهذا الاستخدام، هي الرجوع الى هذا المعنى، لتعريف توسطات الكتاب (1999Lecture9,). ويحدد المؤلف أنه لا يوجد نزاع في هذه الحالة. ويمكن مع ذلك أن نلاحظ في هذا الصدد أن فكرة الانقطاع والتفاوت تظلّ دائما حاضرة في خلفية كل تعريفات التوسط.

[4] - على القارئ أن يحدد الفرضية (ولكن لا شيء يدعوه لذلك مباشرة) أن بمقدار ما تكون وسائل الإعلام، مقاربة كتقنيات رمزية (ص sq 289) تسهم بمساقات التوسط. ونستطيع إذاً (ربما) الذهاب حتى تفسير الكلمات الأخيرة للخلاصة كمعلنة مفهوماً للتوسط المجتمعي، صنعته وسائل الإعلام: «وسائل الإعلام هي اليوم، كما البارحة المدرسة، أحد الأمكنة الأساسية، حيث  السلطة الاجتماعية محسوسة بالكلام، وبالرمز، وتعريفها الخاص للإجتماعي الذي تصرح به: بدورها كوسيط والمعارف التي يعطيها المجتمع من تلقاء ذاته، تعود إليه كما التصورات تعود إليهما وتصبح جزءاً من الحقيقة، وتسهم في تغييرها(ص 333).

[5] - انظر مثلاً Christine Croquet عن نقد السينما (1998) أو Soulez عن التقديم التلفزيوني كوساطة (1998). مقال الاولى مرجعيته Neveu et Rieffel(1991) من أجل مقاربة الصحافي كوسيط، ومن جهة أخرى، من المحتمل أن يكون Breton اتخذ مرجعية هذه المقاربة (1997) ويمكن أيضاً أن نعتبر أن، هذه الوساطة تقترح هكذا لقاء بين عالمين وتسهم بهذا العمل بتحضير مشترك للتقديمات (Gellereau 1998:99). ولكن هي بالحري أقرب الى تصور التوسط الثقافي. ينبغي التنويه هنا بنظرية السرد الإعلامي، الذي يستخدم كلمة وساطة ولكن بالمعنى الذي أعطاه إياه (V.g.dubeid 2001) Ricoeur

[6] - التعارض بين التوسط من خلال الصحافي، ونشر الإعلام، لا يكون دون ذكر التعارض بين التوسط في علم التربية الإنساني، والتوسط التقني للمعارف، الذي يميز تصنيع هذين الأخيرين. ونشير الى أنه يوجد أدب مهم، حول البعد التربوي الخالص، للتوسط في علوم التربية لم يؤخذ بالحسبان هنا.

[7] - نجد في الواقع، لدى هذا المؤلف التفسيرين: في مقاربة المتحف، التوسّط الثقافي (Caillet 1995a) يشدِّد على البعد العملي وعلى الوسيط، حيث التوسط، هو ما يقوم به الوسيط (ويتمّ تصوّه حينئذٍ «كمعبر» بين عالمين، «مرافقة» للزائر بغية إيصاله للأعمال الفنية، أو إلى المعرفة المعروضة في المتحق، ومراكز الفن أو المواقع التراثية). ففي المقالة (195b)، ليس المقصود وضع الزائر والعمل الفني على علاقة، ولعب دور الوسيط بين قطبين، وإنما العبور من مستوى إلى مستوى أعلى، مفترضين في آن، انتقالاً وخلقاً لشيء جديد، ينطوي على إنتاج حالة جديدة (مواقف المؤلفين، والموضوعات والخطابات الخ).

[8] - لنشر للتذكر أن المعنى الذي يعطيه علماء الاقتصاد لحد التوسط الثقافي «هو إنشاء الشهرة التي تنطبق مع النتيجة الأصلية لموضوع الإبداع وتحويله إلى سلعة تجارية». (Rouget & Sagot Duvauroux 1996: 13)

[9] - ويمكن أيضاً، أن نضع في هذه الفئة استخدام تعبير مثل «وساطة مدينية “mediation Ciloyene” (Natali & Rasse 1998) الذي يعني في الواقع، بعداً للتوسط الثقافي.

[10] - يدخل المؤلف، على سبيل المثال، تمييزاً بين التوسط التقاني والتوسط التقني ليقارب البعد المؤسساتي. وقد ناقش برنارر فلوري Bernard Floris فكرة التوسط الاجتماعي، في مقال سأعود إليه لاحقاً(Floris 1995). وهو مثل آخر يناقش إدارة النزاعات: Deliège(2000).

[11] - يمكن أيضاً، استيضاح مقال «التوسط»، للاميزيت وسيلم (1997) الذي يقترح توليفة، حول الفكرة، تبدأ على النحو الآتي: «مرافعة توفر في التواصل والحياة الاجتماعية تمفصل الفرد وخصوصيته والبعد الجماعي للألفة الاجتماعية والرابط الاجتماعي».

[12] - الطرف الثالث هو ما يجب أن ينوب في التواصل ما بين – ذاتي. هذه الإنابة في شكلها الأكثر بساطة هي الضمائر الشخصية في فضاء التواصل ما بين – ذاتي، يمكن أيضاً أن تسمح في شكلها المؤسساتي باتفاق يلتزم به الأفراد كما يشرح المؤلف. مذ ذاك «التواصل الاجتماعي، يقدم نفسه، كموضوع تفكر الجدلية، بين النسق الاجتماعي والأفراد الذين يلتزمون بتوسط استخدام الرمزي في العلاقات الاجتماعية (ص 212).

[13] - ولكن في نهاية المطاف، إذا عدنا أدراجنا، من تضاعف الذات (مع مرجعية مرحلة مرآة لاكان Lacan) الى اتفاق (Le foedus) الذي هو في آن عقد، التزام وتأسيس(، فإذ اللغة تبدو مستخدمة كقالب -  إنها «حيادي التواصل» (ص 9) محيلة كل أشكال النزعة الاجتماعية socialite الى إلفة اجتماعية sociabilité(الرابط هو سياسي لأنه توافقي) ونمطه هو ما بين – ذاتية، يجد أساسه في تصورات الفرد. والنتيجة هي برأيي مغامرة الانمحاء – كي لا نقول سقوط الحق لتقادمه، لنبقى في مجاز التحليل النفسي – والاجتماعي ومادية وسائل الإعلام في كل ما يمكن، أن تمتلكه من منشئ لبنيتها. وهذه نتيجة ترجع الى تصالب مصطلح المثولية الموروث، من الألسنية ومن انبثاق الوعي، من البحث عن التعريف spécularité.

[14] - ما يأتي، فيما يتعدى حوار موقع الرمزي، قد يستدعي تشبيها محدداً مع مقولة Bernard Lamizet: «لا يمكن أن تفهم الظاهرة الثقافية إلا من خلال حركة دائرية يقترن فيها جلاء محسوس يقدّر كتعبير، ومجتمع يتخرجن تحت شكل رمزي وفرد مُعبَّر عنه. وفي الواقع ينشئ الفرد هويته في الحقل الثقافي من خلال الظاهرة المعبرة. والجلاء لا يأخذ معنى إلا من خلال عدد من الظروف التي تشكل السياق الثقافي التي يتفتح داخلها. وبالجلاء الذي يعيشه الفرد، يعبر المجتمع عن نفسه رمزياً. سنتكلم على العمل الثلاثي للثقافة تحديداً، لأن العلاقة بين اثنين من الحدود الثلاثة (جلاء، فرد، مجتمع) لا يمكن فهمها دون حضور الحد الثالث». (Caume 1995:87-88) 

[15] - ملحوظة دقيقة ذلك أن حد «تفاعل» فُهم بمعنى G.H.Mead وله أربع مزايا للتوسط الاجتماعي، تسمح بالقبض على فرادتها.1) هذا التواصل الاجتماعي يرتكز على الانعكاسية reflexivité ( الملازمة للتبادل الاجتماعي 2) يترجم الشكل الاجتماعي لهذه الانعكاسية بحقيقة أن التعارف المتبادل يؤدي الى وفاق. فحالما يتوصل الأفراد إلى فهم متبادل، يحققون اتفاقا يحدث جماعة تحقق موضوعيتها في خارج ما بين – ذاتي 3) يفترض التبادل مساقاً لبيان بشكل طرف ثالث مرمّز، أي «القطب الخارجي الحيادي لا هو مع (للأول) ولا مع (الثاني). ويحتل موقع المرجع الممكن الأول والثاني، «الأقران في اختلافها» (ص 33). هذا الطرف الثالث يتشكل من أنماط ثقافية (قواعد تبليغ، ألعاب أدوار، ضوابط أفعال، ترسيمة إدراك وتصنيف، ونصوص إرساء الموضوعية وكفلاء ميتا – اجتماعية في خارج حيث يلتقي: نصوص تذكر بمعلومات وتجارب، خطابات معيارية وتفسيرية للاجتماعي)، رابعا. هذا الإرساء للموضوعية يتم بواسطة نصوص توسط محددة تاريخياً – حيث الإعلام، يؤمن في المجتمع الحديث، إدارة الطرف الثالث مرمّزاً (خاصاً لمجتمع «تاريخي» (ص 42-43).

[16] - إذ نقول إرساء موضوعية التوسط الرمزي، يجب أن نفهم من ذلك «انعكاس غيرته»، «إنشاء مكان آخر، يلحظ ما هو خارج الاجتماعي، بما هو عليه» أي فضاء عام (وبكلام آخر أيضاً جهاز توسط رمزي). «الهوية والرابط الاجتماعي، هما هكذا، مضافات Corrélitifs، قضية تباعد المجتمع عن ذاته، ومن خلالها يصبح المجتمع مرئياً لأفراده» (ص 84-85).

[17] - قضية إرساء موضوعية التوسط الرمزي، لم يعد يتحقق على طريقة الرأي العام، وإنما على طريقة النزعة العلمية Scientificité «وهو يرتكز بعد ذلك على ثلاثة مرتكزات: وسائل وأدوات تقنية (سمعية بصرية مثلاً)، وعلى استراتيجيات يتطلب نجاحها، السيطرة على قواعد الخيار العقلاني، ومعرفة تحليلية تسمح بتوقعات مشروطة، وعلى تقانات، أي صيغ تُعرِّف طرق التصرُّف، في إطار عمل عقلاني، بالنسبة لغاية محددة، في أي مجال كان».(ص 108).

[18] - الموسيقى «هي صف من الأشياء، ولكنها ليست أي واحد منها: ليست إلا الآلات، التوزيعات، حركات جسم، مشاهد وإعلام- كلها ضرورية، ولكن كل منها غير كاف، لتنبثق وسطها. أحياناً يمكن أن يحصل شيء من هذه المجموعة. المؤدي يعرف، أفضل من أي كان ما إن، يضع توزيعاً على لوحته، لُبس الموضوع في الموسيقى – إنه يعزف الموسيقى بالتأكيد، ولكن مع ذلك، حقيقة العزف نفسها هي الموسيقى. الموسيقىى ليست «مفعولاً به لفعل خارجها آلي. المسألة الحقيقية التي يطرحها التوسط هي هنا: على العكس من سبب أو نتيجة، إنه لا ينفصل عن موضوعه. التوسطات في الفن لها موقع براغماتي. إنها الفن الذي تظهره. إنها لا تتميز عن الذوق الذي توقظه: أي بهذه الصفة يمكن، أن تستخدم كمستند لتحليل وضعي وليس لانهدامها الذي لا يكل».

(Hennion, Maisonneuve & Gomartm 2000: 178-9) الطريقة الأخرى، لفهم علاقة سوسيولوجيا التوسط من مقاربة التوسط هو بدنوِّها إلى ما قاله برينو لاتور 1990 في «عندما الملائكة تصبح حقاً رسلاً سيئة». “Quand les anges deviemment de bien mauvais messagers”

[19] - وأيضاً هل من المناسب التوضيح، أن التوسط يمتلك لدى ريكير، معنى محدداً: التوسط بين زمن وسرد، الذي يستند الى توسط، يُجترح من خلال وضع عقدة ويتدخل هو نفسه في التوسط الرمزي بمعنى كاسيرر (Ricoeur, 1983: 105-130)

[20] - مع أن كريسبي crespi يتخذ مرجعية ليس من ترنرTurner وإنما من فاتيمو Vattimo ، فإن الطريقة التي يصف بها التوسط الرمزي، اتخذها من هذا التذبذب لعلاقة محدد – غير محدد. وهي لا تكون من دون استدعاء التجاور – التناوب بين بنية وطائفة  Communitas لدى ترنر.

[21] - نفهم ذلك، أصالة هذه المشاركة مع أنتربولوجيا ثقافية للمجتمع المعاصر، تبدو لي ترتكز، على الأخذ بالاعتبار، البعد المادي، التقني، الاقتصادي والرمزي (باختصار البعد الإعلامي) للموضوعات التواصلية (دفالون). وبكلام آخر على ما كان Louis Quéré قد تركه جانباً من مقاربته: «الأشكال والجهاز الأمبريقي لإرساء موضوعية التوسط الرمزي» (Quéré, 1982: 178). هذه المقاربة الجديدة الأنتربولوجية للتواصل، يدعيها بوضوح مؤلفون آخرون (انظر مثلاً (lardellier 2003, Coman 2003). وبرأيي إن في هذا الاتجاه، يمكن أن تُبنى منهجية ستجيب لنحو علمي لا بحثي ولا فلسفي.

[22] - مثلاً سوسيولوجيا الاستعمال، الاستعلامات تواجه مباشرة الصعوبات التي يثيرها مثل هذا التصور.

[23] - هذا النموذج أظهر كل الأوهام أنه يكفي «إقامة علاقة» بين المنتجين والمتلقين من خلال موضوعات دالة حتى يحدث تواصل.

[24] - من وجهة النظر هذه قد يكون من المحتمل ضرورة العودة الى اعمال بارت او بودريار في علم الدلالة(من دون نسيان البعد النقدي لأعمالهما) أو أيضاً الى بنيوية لفيستروس، وذلك من زاوية مختلفة على شيء من الحصر والتعزيم، والتي تتفوق حالياً مع ما نسميه «ما بعد الحداثة».

[25]- ينبغي أن نضيف إليها مقاربات قليلة الشهرة في فرنسا كمقاربة (Jesus Martin-Barbero dans des medias aux médiation 1997.

[26]- مثلاً، نموذج رياضي ونظرية أنساق من أجل نموذج الإعلام وأيضاً، الفعالية الاجتماعية لوسائل الإعلام (الميديا) والبعد التواصلي للغة من أجل نموذج الإعلام، وبراغماتية التواصل، وسوسيولوجيا التفاعل للثاني الذي أعطى هذه المجموعة التي اقترحYves Winkin جمعها تحت التسمية العامة «أنتربولوجيا التواصل».

[27]- ولنلحظ بالمناسبة، أنه، على سبيل المثال، من هذا النموذج تحرر Goffman  حالما اقترح مقاربة انطلاقاً من الطقوس ومن مخطط نظري.