البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الميديا متلاعباً بالعقول (بنية الهيمنة الإعلامية في أعمال بيار بورديو)

الباحث :  أحمد عبد الحليم عطيّة
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  11
السنة :  السنة الرابعة - ربيع 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 14 / 2018
عدد زيارات البحث :  2697
تحميل  ( 359.256 KB )

يتناول هذا البحث للأكاديمي والمفكر المصري أحمد عبد الحليم عطية عالم الميديا من وجهة نظر التحليل السيولوجي. كما يرصد الأثر العميق الذي أطلقه العالم الافتراضي في حقل القيم الأخلاقية والأيديولوجية والاجتماعية والآثار السلبية التي نجمت عنه.

يقارب عطية موضوعه استناداً إلى مناقشة أفكار عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو ورؤيته الانتقادية لأفعال الميديا في فرنسا والغرب فضلاً عن آثاراها على نطاق عالمي.

المحرر

-------------------------------------

في سياق نقده عوالمَ الميديا وإجراءاتها يركز عالم الاجتماع الفرنسي بورديو (Pierre Bourdieu) بشكل رئيس على نقد الليبرالية الجديدة ونتائجها الكارثية على الإنسانية. كان العمل الكبير الذي أشرف عليه وصدر تحت عنوان “بؤس العالم” تعبيراً عن هذا التحول الراديكالي[1].  وهو أحد آخر المفكرين الكبار الذين تركوا بصماتهم الفكرية في مجال نقد الكولونيالية وأثّروا بشكل عملي في المحركات الاجتماعية والسياسية التي شهدها النصف الثاني من القرن العشرين. كما يعتبر أحد أهم المنظرين الذين تُعد أعمالهم أدوات للنضال الفكري والنظري فيما يعرف بحركة العولمة البديلة. جسّد الأفكار والمبادئ التي روج لها في أعماله الفكرية إلى ممارسات عملية من خلال مشاركته في المظاهرات والحركات الاجتماعية والسياسية مباشرة. وقد أنشأ شبكة من الجمعيات والمنظمات الاجتماعية والثقافية التي احتلت مواقع قوية على خارطة العمل السياسي / الاجتماعي والفكري في المجتمع الفرنسي[2].

يرى بورديو أن العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الحديثة، تنقسم إلى حقول؛ أي إلى فضاءات اجتماعية أساسها نشاط معيَّن (مثلا: الصحافة، الأدب، كرة القدم، إلخ.) يتنافس فيها الفاعلون لاحتلال مواقع السيطرة مثلاً، يريد الصحافي أن يشتغل في أوسع وأقوى جريدة وبعدها يحاول أن يحصل على أعلى منصب في تلك الجريدة، إلخ.. فعلى غرار التصور الماركسي، يبدو العالم الاجتماعي، عند بورديو، ذا طبيعة تنازُعيَّة، بيد أنه يؤكد أن التنازعات المكوِّنة للعالم الاجتماعي تخص مختلف الحقول وليست مجرد صراع بين طبقات معينة وثابتة.

وهكذا يتميز كل حقل فضائي باستقلالية نسبية عن المجتمع ككل. وتتميز هذه الفضاءات بالتراتبية الطبقية والاجتماعية، وباشتداد الصراع الدينامي والتنافس الشديد بين الأفراد حول الامتيازات المادية والمعنوية، والصراع حول مواقع السلطة والهيمنة، حسب طبيعة رأس المال الذي يملكه كل فرد داخل المجتمع. ويكون الصراع في كل حقل حول مصالح مشتركة أو مصالح خاصة بكل فرد على حدة. ويخضع الحقل لمجموعة من القواعد، مثل: الصراع المحتدم بين الجيل القديم والجيل الجديد. ومن ثم، يخضع الحقل لمنطق التنافس والصراع والهيمنة والعيش المشترك.[3]

المهم بالنسبة نقدية بورديو لإمبريالية الميديا لنا هو عمل بورديو الذي كرس له جهده في السنوات الأخيرة من التسعينيات، عنينا به الدور السالب الذي تلعبه وسائل الإعلام والميديا الجديدة. في هذا العمل قدم نقداً حاداً لفساد وسائل الإعلام الفرنسية وتبعية المثقفين الفرنسيين – أو كما يسميهم كلاب الحراسة الجدد- لوسائل الإعلام من صحافة وإذاعات وبشكل خاص الدور الخطير الذي يلعبه التلفاز في تكريس الأوضاع والمصالح السائدة، وفي التفريغ السياسي والتلاعب بعقول المستهلكين من المشاهدين والذي يقدم تحليلاً لبنيته وآلياته.

فلقد تنبَّه على ضرورة خلق أشكال جديدة للحركة، ونماذج فكرية، وتنظمية غير تقليدية حتى يمكن مواجهة المرحلة الجديدة التي وصلت إليها الرأسمالية العالمية في طبعتها النيوليبرالية، والتي عرفت باسم العولمة. لم تعد الأشكال القديمة للنضال الاجتماعي والسياسي قادرة وحدها على مواجهة التوحش الإعلامي والمالي الناتج من تزواج التكنولوجيا الجديدة وعالم المال.

{الموضع السابق ص12}. وبسبب النجاح الجماهيري الذي حققه كتابه التلفاز والتلاعب بالعقول الذي يحلل فيه حالة الميديا ويسعى إلى إظهار تأثيرات شاشة التلفزيون وما تنتجه من برامج وصور بعيدة عن أي موضوعية وتعكس رؤية للعالم غير محايدة سياسياً. تعرض بورديو لهجوم حاد من الحلقات الصغيرة لكهنة الميديا في الصحف وقنوات التلفزيون. ويشبّه بعضهم الدور الذي يمثله بورديو بالنسبة للحركات المناهضة للعولمة النيوليبرالية، أو حركات العولمة البديلة كما تُعرف حالياً بالدور الذي لعبه هربرت ماركوز، وشي جيفارا، بالنسبة لحركات الشباب التي هزت العالم عام 1968. {ص16}

أهمية أطروحات بورديو تكمن في عدم اكتفائها بنقد الفضاء الميديائي الغربي، وإنما شملت الميديا العربية والقنوات الفضائية في سمائنا الأمر الذي يفتح الطريق للتأمل والتفكير فيما هو أبعد من ذلك، وتحديداً في طبيعة المجتمع الذي نعيش فيه في الوقت الراهن. وكذلك الدور الذي تلعبه ولا زالت تلعبه وسائل الإعلام العالمية، وخاصة دور القنوات الفضائية العابرة للحدود الجغرافية. وهذا ينطبق على ما يتعلق بالأحداث التي تشهدها المنطقة العربية في فلسطين والعراق؛ القنوات التلفزيونية لم تعد مجرد قنوات تقدم برامج للتسلية أو للتثقيف إنما هي كما قد أصبحت أدوات الضبط والتحكم السياسي والاجتماعي في المجتمعات الراهنة أو هي وفقاً للمصطلح الذي يستخدمه بيير بورديو عبارة عن أدوات “للعنف الرمزي” الذي تمارسه الطبقات الاجتماعية التي تهيمن على وتسير هذه الأدوات.

ولا مناص من الإشارة هنا إلى مستويين يفصحان عن ضرورة الاعتناء بالنقد الذاتي الجاري حول الميديا في المجتمع الغربي أولاً مستوى الموضوع المباشر الذي يعالجه ويحلله وهو الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام الحديثة وفي القلب منها التلفاز من “تلاعب وتأثير” في عقول الناس. كيف تقوم هذه الوسائل بتشكيل الأفكار والوعي العام ؟ كيف تعمل هذه الآليات في توجيه الوعي والرأي العام وتشكيلهما ؟ من يقوم بالتحكم في هذه الآليات وبإدارتها؟ هل هم الصحفيون الذين يعملون في هذه الأجهزة أو أنه “النظام” أو “البنية” SYSTEME- STRUCTURE  التي يعملون في إطارها؟ وثمة مستوى آخر من التفكير والتأمل يمكن أن نصل إليه يتعلق بطبيعة المجتمع ككل. هذه الآله المركبة؛ أي المجتمع تخضع لأدوات ضبط وتحكم تهدف إلى توجيهها نحو استراتيجيات محددة. ودور أدوات الضبط والتحكم هذه هو إحكام السيطرة على المحاور والتروس والحركات المختلفة التي تتم داخل هذه الآلة أي المجتمع. والذي يقبع وراء ذلك كله ليسوا أفراداً معينين، لكنه “منطق النظام” ذاته، ذلك المنطق الذي شيد على أساس تفضيل مصالح فئات وشرائح اجتماعية معينة وهيمنتها ضد مصالح فئات وشرائح اجتماعية أخرى.

 معنى ذلك أن الموضوع الذي يعالجه بورديو يتعلق في مستواه المباشر بتحليل بنية أحد منتجات التكنولوجيا الحديثة التي تعرف بتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات وآلياته، لكن الموضوع غير المباشر هو علاقة الأيديولوجيا بهذه التكنولوجيا. فالتوظيف والمضمون الأيدلوجي لهذه التكنولوجيا يجد أوضح مثال له في الدور الذي يلعبه التلفاز؛ التأثير المباشر في المشاهدين يمتد هذا التأثير إلى مجالات الإنتاج الثقافي الأخرى وهو ما ينبه بورديو إلى خطورته بشكل خاص. {ص23}

نقد الأيديولوجية الناعمة

    إن التحول الجديد الذي طرأ خلال السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين وحتى الآن هو انفراد ما يمكن أن نسميه بالأيديولوجيا الناعمة بموقع الصدارة في وسائل الإعلام المختلفة. وتتمثل هذه “الأيديولوجيا الناعمة  “ideologie soft” في تلك الجرعات اليومية بل اللحظية التي تبثها وسائل الإعلام الحديثة، وكذلك الوسائط المتعددة Multimedia، وانتشار شبكة الأنترنت على المستوى العالمي. هذه الجرعات تتغلغل وتنساب إلى عقول المشاهدين، والقراء، والمستمعين، ومستخدمي الوسائط المتعددة والأنترنت بهدوء وبلا ضجيج على عكس ما كان يتم في السابق.

   وعند بورديو هنالك من يملكون وسائل الإنتاج وأدوات السيطرة والتحكم من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك دائماً أولئك الذين يخضعون لشروط هذه السيطرة ويسعون للتحرر منها. وإذا كنا قد دخلنا في مرحلة جديدة من مراحل تطور المجتمع؛ تلك التي يطلق عليها اسم “مجتمع المعلومات”. فإن السؤال الذي يواجهنا على الفور هو من يملك المعلومات؟ والإجابة عند بورديو واضحة وهي أن يسيطر على هذه المعلومات ووسائل نشرها في المجتمعات المعاصرة؛ هو الذي يحكم ويفرض رؤيته على الآخرين. الذين يملكون ويسيطرون على أكبر الشبكات التلفزيونية في الولايات المتحدة الأميركية هم أمثال : بوستن هيرالد، شيكاغو تريبيون، لوس أنجليس تايم، نيوريوك تايمز، يو، إس. توادي، وول ستريت جورنال، واشنطن بوست، تايم ونيوز ويك الخ) شركات صناعية ومالية عالمية مثل كابيتال سيتيز، وجنرال إليكتريك، وكوكس إنتربرايز، الخ. بالإضافة إلى أسماء كبار المالكين والمسهمين من أمثال روبرت مردوخ، وارن بوفيت، ولورانس تيتش صاحب سلسلة فنادق لويس، وتدتيرنر (شبكة سي. ان. ان)، وأسرة أوشز–سلزبرجر، وأسرة هيرست، وأسرة جراهام، { الحلوجي مقدمة الترجمة} الخ. إن شبكات التلفاز والمذياع وكبريات الصحف والمجلات التي تؤثر في الرأي العام وتشكله في البلدان الأوروبية. يملكها أمثال روبرت مردوخ المتوج بإمبراطور أو ملك الميديا؛ وراء ملكية كبريات الصحف الإنجليزية الواسعة الانتشار وكذلك شبكات التلفزيون وقنوات البث عبر الأقمار الصناعية، وربما يكون المثال الأكثر دلالة الذي يجسد مدى خطورة هذه الظاهرة هو مثال سيلفيو بيرليسكوني في إيطاليا.

   وبالمثل يمكن أن نتساءل من الذي يملك ويهيمن على أجهزة الإعلام العربية ويضع سياستها، وخاصة شبكات التلفاز التي تشكل الوعي والرأي العام في الفضاء العربي وتوجههما؟ أيّ قيم وأفكار ثقافية تروج لها هذه الأجهزة ؟ عن أي مصالح اقتصادية واجتماعية تعبّر؟ إن جميع شبكات التلفاز والإذاعة وكذلك معظم الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية كما نعلم مملوكة أو تدار من جانب الدول والحكومات. كما أن الدولة ذاتها في معظم هذه البلدان تحكمها أسر وعائلات مالكة حيث تُحكم في غالبيتها من قبل شبكات عائلية واجتماعية تلتف حول رئيس الدولة. ومن هنا نجد أن ملكية القنوات الفضائية العربية؛ أي تلك التي تبث عبر الأقمار الصناعية ويتم استقبالها في جميع البلدان. ظلت تعكس نفس التركيب الخاص بملكية وسائل الإعلام المحلية داخل الدول العربية. مثلاً قناتا ART-MBC يهيمن عليهما تحالف كل من الشيخ صالح والشيخ الوليد بن طلال والشيخ الوليد الإبراهيمي، وهناك قناة تلفزيونية أخري أنشأها ويديرها ابن شقيق رئيس سابق لإحدى الدول العربية، كما أن قناة الجزيرة التي اكتسبت شهرة واسعة، أنشأها أحد الأمراء. ومن هنا ندرك العلاقة القوية بين دور وسائل الإعلام من جانب وتوظيفها من السلطة. والمصالح المتبادلة بين المال والإعلام والهيمنة. (الموضع السابق، ص29)

ويكاد يكون من المستحيل فهم لماذا أصبحت المعلومات ووسائل الاتصال الحديثة تعبِّر عن هذه المصالح من دون الإجابة عن السؤال المركزي الخاص بملكية المعلومات ووسائل نقلها.

يكشف التلفاز من خلال الآليات المتعددة التي يحددها بورديو عن خطر كبير جداً يهدد مجالات مختلفة على مستوى الإنتاج الثقافي. كما يكشف كذلك عن خطر كبير لا يقل تهديداً للحياة السياسية وللديموقراطية. إن التلفاز ومعه جزء من الصحافة مدفوعين بمنطق اللهاث وراء مزيد من الإقبال الجماهيري، قد أتاحوا وسمحوا للمحرضين على الممارسات والأفكار العنصرية والمعادية للآخر من خلال تقديم التنازلات التي يمارسونها كل يوم.

   وعلى هذا يهدف بورديو في عمله عن التلفاز والتلاعب بالعقول إلى وضع ما هو أساسي في المحل الأول بديلاً من السائد والمهيمن على أجهزة الإعلام، أي إبراز الخطاب المختلف عن ذلك الذي يمارس يومياً في التلفاز. ويعتبر الخطاب الجيد التركيب الذي استبعد شيئاً فشيئاً من برامج التلفزيون القاعدة المستهدفة للخطاب الذي يقدم في التلفزيون، يظل في الحقيقة أحد الأشكال الأكثر إحكاماً لمقاومة التعب وللتأكيد على حرية التفكير.

إن ذلك الذي يقوم به ويهدف إليه ينخرط ضمن استكمال ومواصلة النضال المستمر لكل العاملين في مجال الصورة المرتبطين بالنضال من أجل “استقلال رمزهم الإعلامي” وعلى وجه الخصوص التأمل النقدي للدور الذي تلعبه الصور، هذا العمل بدأ بتساؤلات سياسية ( أنا أقول سوسيولوجية) عن الصور والأصوات والعلاقات بينهما”. { بورديو ص35-36}. يأمل بورديو أن تُسهم هذه التحليلات التي يقدمها في إعطاء أدوات أو أسلحة إلى أولئك الذين يتعاملون مع مادة الصورة ويسعون من أجل ألا يتحول هذا الذي يمكن أن يكون أداة رائعة للديمقراطية إلى أداة للقمع الرمزي. يرى أن علينا أن نمتنع في التعبير عن آرائنا من خلال التلفاز؟ إلا “تحت شروط معينة ويتساءل: لماذا نقبل الاشتراك في برامج التلفاز في ظل الظروف العادية؟ يضيف بورديو أنه بقبول الاشتراك في برنامج تلفزيوني من دون أن يشغل بالنا معرفة إذا كان من الممكن أن يقال بعض الشيء، فإن ذلك يعتبر بشكل واضح خيانة، بأننا لسنا هنا لنقول شيئاً ما وإنما لأسباب أخرى تماماً، وبشكل خاص حتى نُشاهد وأن نكون موضع رؤية الآخرين { الموضع السابق ص39-40}

في حالات معينة، يستطيع بعضهم ـ كما يبيِّن بورديو ـ أن يجد أن هناك واجباً عليه أن يؤديه عبر التلفاز بشرط أن يكون ذلك ممكناً في ظل شروط معقولة. يجب الأخذ في الاعتبار خصوصية الأداة التلفزيونية. لقد أصبح التلفاز، يقدم إمكانية الوصول إلى كل الناس. ويثير بورديو بعض الأسئلة: بخصوص التلفاز هل ما عندي لكي أقوله موجه لكل الناس؟ هل أنا مستعد أن أجعل من شكل خطابي نوعاً من الخطاب الذي يمكن أن يكون مسموعاً من كل الناس؟ هل يستحق هذا الخطاب أن يُسمع من كل الناس؟ وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك: هل يجب أن يسمع هذا الخطاب من جميع الناس؟ ويعترف لقد كنت مضطراً دائماً أن أحدد قبولي أو رفضي للمشاركة في التلفاز تبعاً لهذا التفحص الدقيق لهذه التساؤلات. 

   إن الاشتراك في برامج التلفاز يتم تحت رقابة فقدان الاستقلالية يرتبط مع أشياء أخرى بحقيقة أن الموضوع المعروض قد تم فرضه، وإن شروط الاتصال والحوار قد تم فرضها كما أن تحديد الزمن المفروض على خطاب المشاركين يفرض بشكل خاص حدوداً، هذه الرقابة تمارس على المدعوين، والصحفيين من مقدمي البرامج الذين يمارسون هذه الرقابة؛ لأنهم يتوقعون أن ما سيقال هو كلام في السياسة. من الصحيح أن هناك تدخلات سياسية / تحكماً سياسياً، لكن من الحقيقي أيضاً أنه يوجد جيش احتياطي وقدر كبير من عدم الاستقرار في وظائف العاملين بالتلفاز والإذاعة، لذا فإن الميل نحو الخضوع للأعراف السياسية السائدة هو إلى حد ما ميل كبير جداً. الأفراد يخضعون للأعراف بشكل واعٍ أو بشكل غير واعٍ.

  إنه من الحقيقي القول إن الذي يمارس الضغط على التلفاز هو المحدد الاقتصادي. هذا يعني أنه لا يمكن السعي لقول شيء عبر التلفاز غير ذلك الذي يُحدد مقدَّماً من قبل أولئك الذين يمتلكون هذه المحددات، أي من قبل المعلنين الذين يدفعون ثمن إعلاناتهم.

إشكالية التحليل السيوسيولوجي   

إن التحليل السوسيولوجي الذي يدعو له ويهدف إليه بورديو يواجه شيئاً من سوء الفهم : من هؤلاء الصحفيين الذين انخرطوا في موضوع التحليل، لديهم ميل للاعتقاد بأن العمل التوضيحي والشرح، وكشف الحجاب عن الآليات، هو عمل تشهيري موجه ضد أشخاص هو “هجوم” أو نوع من التشهيرات، إنهم يشعرون بأنهم مستهدفون وفي حالة اشتباك، بينما كلما تقدمنا في تحليل وسط ما، كلما وصلنا إلى تخليص أفراد هذا الوسط من مسؤولياتهم الفردية – ذلك لا يعني تسويغ كل ما يجري – كذلك فإننا نفهم بشكل أفضل كيف يعملون، كما نفهم كذلك أن الأفراد الذين يشتركون في ذلك يخضعون للتلاعب والتأثير بقدر ما يمارسون هم أنفسهم عملية التلاعب والتأثير، إنهم يمارسون التلاعب والتأثير في الآخرين في كثير من الأحيان بشكل أفضل. { بورديو ص45}

   إن الإعلان عن الفضائح، وعن الأحداث وعن إساءات هذا المذيع أو ذاك، أو المرتبات الخيالية المفرطة والمبالغ فيها لبعض المنتجين. لا يمكن أن تؤدي إلى تحويل الأنظار عما هو أساسي باعتبار أن فساد الأفراد هو قناع لهذا النوع من “الفساد البنيوي” الذي يمارس على مجمل اللعبة من خلال آليات مثل التنافس على كسب جزء من السوق. إن التلفاز يمارس نوعاً من “العنف الرمزي” المفسد والمؤذي بشكل خاص، العنف الرمزي هو عنف يمارس بتواطؤ ضمنى من قبل هؤلاء الذين يخضعون له وأولئك الذين يمارسونه بالقدر نفسه.

   إن جزءاً من العمل الرمزي للتلفاز على مستوى المعلومات يتمثل في جذب الانتباه نحو أحداث تتميز بأنها تهم كل الناس ومنها ما يمكن أن نقول عنها إنها بمنزلة أوتوبيس أو حافلة عامة- يستقلها كل الناس. كذلك الأحداث المتفرقة التي هي كما يقول بمنزلة السلع الغذائية الأولية بالنسبة للمعلومات المهمة جداً لأنها تهم الجميع من دون أن تؤدي إلي نتيجة ما وهي تستهل وقتاً، يمكن استخدامه لقول شيء آخر.

   وكثيراً يتم استخدام الزمن ؛ الدقائق الثمينة جداً لكي تقال أشياء تافهة فارغة جداً، إن هذه الأشياء التافهة جداً هي في الواقع مهمة جداً بالقدر الذي تخفي فيه أشياء ثمينة بالفعل. عند هذه النقطة علينا أن نعرف أن هناك نسبة مهمة من الأفراد الذين لا يقرؤون ومن هنا وهبوا أنفسهم جسداً وروحاً للتلفاز كمصدر وحيد للمعلومات. لذا يتمتع التلفزيون بامتلاك نوع من الاحتكار للحدث بدلاً من تكوين العقول. بالتركيز على الأحداث المتفرقة يتم إحلال الوقت النادر بزمن فارغ، بلا شيء أو تقريباً لا شيء بتجنب المعلومات الملائمة التي يجب أن يمتلكها المواطن كي يمارس حقوقه الديمقراطية.

يستمر تحليل بورديو الذي يظهر لنا أجزاء من مظاهر تلاعب التلفزيون والميديا بالعقول؛ ذلك أن عندما يعرض التلفزيون أشياء يتم إخفاؤها عن طريق عرضها، وبوساطة عرض شيء آخر غير ذلك الذي يجب عرضه، إذا ما تم عمل المفروض عمله، إي إعلام المشاهد؛ ويستشهد بمثالين من أعمال باتريك شامبان Patrick Champagne. في كتاب “بؤس العالم”* الذي خصص فصلاً للصورة التي تقدمها وسائل الإعلام للظاهرة المعروفة باسم ظاهرة الضواحي يبين فيه كيف أن الصحفيين مأخوذون في آن واحد بميولهم ومسؤولياتهم الوظيفية، برؤيتهم للعالم، بتكوينهم، وبمراتبهم المهنية ولكن أيضاً بالخضوع لمنطق المهنة، يختارون من هذا الواقع الخاص أي الحياة في مناطق ضواحي المدن.

إن الصحفيين انتقائيون يشبهون “نظارات” خاصة بواسطتها يرون أشياء معينة ولا يرون الأشياء الأخرى؛ كما أنهم يرون هذه الأشياء بطريقة معينة. إنهم يمارسون عملية اختيار ثم عملية إعادة تركيب لذلك الذي تم اختياره.

الفكرة التي على أساسها يتم اختيار الأعمال التي تقدم هي البحث عما هو مثير، عن ذلك الذي يجذب ويدفع للمشاهدة. يسعى التلفاز إلى دفع الأمور نحو إضفاء طابع “الدراما” وذلك بمعنى مزدوج: إنه يضع في المشهد، في الصورة واقعة أو حدثاً ثم يقوم بالمبالغة في أهميتها، في خطورتها وفي صفاتها الدرامية والتراجيدية، فإن ما سيشد الاهتمام ويثير حفيظة المشاهد هو الانتفاضات وأحداث العنف. هذه بالفعل كلمات كبيرة وهو المطلوب. يجب استخدام كلمات خارقة للعادة. يمكن للكلمات أن تسبب الدمار والخراب وعلينا نحن أن نتذكر أن كلمات تسبب فزعاً للغرب بسبب الاستخدام الإعلامي لها : إسلام، إسلامي، إسلاموي، مسلم – هل الحجاب هو حجاب إسلامي أو حجاب مسلم ؟ هل تأثيره ذلك  يكمن ببساطة في مجرد الشكل أو أكثر من ذلك.

إن مثل هذه الكلمات تخلق أشياء، تخلق التصورات والتخيلات الخادعة، تحدث الخوف، كما يقول بورديو. الخارق للعادة هو ذلك الذي يعدّ مختلفاً عما هو عادي؛ ذلك الذي يفرض متابعة “السبق المثير” حتى يكون أول من يشاهد وأول من يدعو إلى مشاهدة أشياء معينة، ثمة استعداد بدرجة كبيرة إلي فعل أي شيء، كما لو أنه يتم النسخ والنقل بشكل مشترك بالنظر إلى سبق الآخرين، أن تفعل ذلك قبل الآخرين، أن تفعله بشكل مختلف عن الآخرين، ثم ينتهي الأمر بأن يفعل الجميع الشيء نفسه، البحث عن السبق المثير، ذلك السبق الذي يؤدي في مجالات أخرى إلى التفرد وإلى إنتاج أعمال أصيلة ينتهي به الأمر هنا إلى القولبة والابتذال. {انظر بورديو ص51} .

إن هذا البحث العنيد الذي يهتم بما هو خارق للعادة وغير مألوف فيما يبين لنا بورديو يمكن أن يتضمن الكثير من التأثيرات السياسية بالإضافة إلى الإرشادات والتعليمات السياسية المباشرة أو الرقابة الذاتية المستوحاة من الإطارات المحددة لعملية الاستبعاد. من هنا تأتي المخاطر السياسية الملازمة للاستخدام العادي للتلفاز؛ من حقيقة أن للصورة تلك الخاصية التي يمكنها أن تنتج ما يسميه نقاد الأدب “تأثير الواقع”، الصورة يمكنها أن تؤدي إلى رؤية أشياء وإلى الاعتقاد فيما تراه.

علينا أن نتابع تحليل بورديو هذه المسألة وهو يحددها لنا كالآتي: الأحداث المتفرقة، الحرائق أو الحوادث اليومية؛ يمكن أن تُعبّأ وتُشْحن بتورطات ومضامين سياسية وأخلاقية قادرة على إثارة مشاعر قوية غالباً سلبية؛ مثل المشاعر العنصرية ومشاعر الزينوفوبيا (العداء للأجانب)، مركب من الخوف والعداء للآخر، والنتيجة النهائية؛ هي أن واقع التقرير أو التسجيل التقريري للواقع le record، en reporter  يستلزم دائماً بناءً اجتماعياً للواقع قادراً على ممارسة تأثيرات اجتماعية تعبوية.

والخطورة الناتجة من ذلك أن التلفاز الذي يسعى لأن يكون أداة لتسجيل الأحداث يصبح أداة لخلق الواقع. إننا نذهب أكثر فأكثر نحو عوالم حيث الحياة الاجتماعية توصف وتفسر بواسطة التلفاز؛ إذ يصبح هو الحكم للانخراط والدخول في الحياة وفي الوجود الاجتماعي والسياسي.

يعتقد بورديو أن الإنتاج الصحفي هو إنتاج غير متجانس. وأن الاختلافات والفروقات الأكثر وضوحاً والتي ترجع بشكل خاص إلي اللون السياسي للصحف، تخفي تماثلات وتشابهات عميقة وهي تعود بشكل خاص إلى الحدود المفروضة من قبل مصادر المعلومات وكذلك بسبب سلسلة كاملة من الآليات التي منها، منطق المنافسة. باسم المبدأ الليبرالي يردد دائماً أن الاحتكار يُقولب وأن المنافسة تؤدي إلي التنوع. وهو يرى أنه بالنسبة للصحفيين فإن قراءة الصحف عمل لا غنى عنه، وتعتبر نشرة الصحافة بمنزلة أداة عمل أساسية ؛ لمعرفة ذلك الذي سنقوله يجب معرفة ذلك الذي قاله الآخرون. هذه المسألة تُعد إحدى الآليات التي من خلالها يتم تجانس الموضوعات المقترحة للنشر.

والسؤال المهم الذي يثيره بورديو هو كيف يتم إمداد هؤلاء الأفراد بالمعلومات وهم الذين يوكل إليهم أن يمدونا نحن بالمعلومات، ويمكن القول بشكل عام إن إمدادهم بالمعلومات يتم بواسطة موردين آخرين للمعلومات (مصادر المعلومات).هناك وكالة الأنباء المصادر الرسمية لكن الجزء الأكثر أهمية وحسماً من المعلومات؛ أي “المعلومات عن المعلومات” تلك التي تسمح بتقرير ما هو مهم، بتقدير ذلك الذي يستحق أن ينقل عبر وسائل الإعلام، هذا الجزء يأتي من مصادر معلومات أخرى.

ولتوضيح الصورة بقول :” إن المسؤولين الذين يحققون الإقبال الكبير من قبل المشاهدين يتمتعون بشعور بالوضوح ليس من الضروري أن يشاركهم فيه الصحفيون المبتدئون، هناك المزعجون الذين يقاتلون ببأس من أجل مجرد إدخال اختلافات بسيطة داخل هذه الآلة الساحقة شديدة التجانس التي تفرضها الحلقة المفرغة للمعلومات التي تنساب بطريقة دائرية بين الأفراد خاضعين للمحددات المفروضة عليهم بسبب ضرورة تحقيق نسب إقبال عالية – ويجب عدم نسيان ذلك – إن الكوادر أنفسهم ليسوا إلا الأيادي المنفذة لتحقيق نسبة الإقبال العالية هذه”. {راجع ص60-61-62}.

الاعتراف بقوة السوق

الحقيقة السائدة اليوم هي ـ حسب بورديو ـ الاعتراف بالسوق كجهة رسمية لإضفاء الشرعية. فإن المنطق التجاري هو الذي يفرض نفسه على الإنتاج الثقافي الذي أقدره وأعتبره ذا قيمة تاريخية حقاً ليس إلا إنتاج عدد معين من الأفراد وهو الذي يعتبر بمنزلة الإنتاج الأكثر رقياً للإنسانية في الرياضيات، والشعر، والأدب، والفلسفة، كل هذه الأشياء قد أنتجت ضد معادلة الإقبال الجماهيري ضد المنطق التجاري. { السابق ص63}.

   والمثال على ذلك هي (نسبة الإقبال) التي تمارس على التلفاز تأثيراً خاصاً جداً : تترجم في الضغط المستمر لكل ما هو طارئ وعاجل. المنافسة بين الصحف، المنافسة بين الصحف والتلفاز، بين قنوات التلفاز المختلفة، كل ذلك يأخذ شكل منافسة آنية لحظية من أجل السبق والإثارة Le Scoop من أجل احتلال الترتيب الأول. هناك أشياء قد تم فرضها على مشاهدي التلفاز لأنها قد فرضت بدورها على منتجي البرامج التلفازية ولأنها قد فُرضت بسبب المنافسة مع المنتجين الآخرين {ص64}.

 معنى ذلك أنهم يفكرون من خلال “الأفكار الشائعة”، “الأفكار السائدة والشائعة” هي تلك التي يتقبلها الجميع، لأن المشكلة الكبرى للإعلام هي معرفة إذا ما كانت ظروف التلقي قد تم استيفاؤها: هذا المشاهد الذي يستمع إلى ما يقال هل يمتلك مفتاح الشفرة كي يفك رموز ما أقوله ؟ عندما ترسل “فكرة شائعة” فإن ذلك يعني أن الأمر قد حسم بالفعل؛ لقد تم حل المشكلة مقدماً. وهذا الإعلام هو إعلام آني ولحظي؛ لأنه بمعنى ما ليس بإعلام. على العكس من ذلك فإن التفكير هو من حيث التعريف مخرب: يجب البدء بتفكيك (تدمير) “الأفكار الشائعة” ثم عرضها بعد ذلك. {ص66}. يشير بورديو إلى أن التلفزيون يفضل عدداً معيناً من المفكرين – السريعين fast- thinkers  الذين يقدمون غذاءً ثقافياً على السريع fast- food culturel  وهو نوع من التغذية الثقافية التي تم إعدادها مسبقاً.

  والندوات تبدو ظاهرياً أنها ندوات حقيقية، لكنها حقيقية بطريقة زائفة. وذلك لكي يمكن أن ندرك طبيعة هذا النوع من الندوات. سنرى سلسلة من عمليات الرقابة تتم على مستويات مختلفة. المستوى الأول : الدور الذي يلعبه مقدم البرنامج. هذا الدور هو الذي يصدم مشاهدي التلفزيون دائماً. إن مقدم البرنامج يقوم بتدخلات جبرية حاسمة. هو الذي يفرض الموضوع، وهو الذي يفرض الإشكالية. مقدم البرنامج يفرض احترام قواعد اللعبة. يقوم بتوزيع الأدوار على المتحدثين، يعطي الإشارات والتعليمات المهمة.

    ليس هناك أحد إلا إذا كان يمثل دوراً ما أو يتحدث بلغة مراوغة مخادعة (فارغة من المعني)، يمكن أن يتحكم في كل شيء. إن مقدم البرنامج ذاته يتدخل في الحوار مستخدماً لغة لا واعية، طريقته في إثارة الأسئلة، نبرات صوته في أثناء الحديث. ويشير بورديو إلى استراتيجية أخرى لمقدم البرنامج التلفزيوني: هي أنه يتلاعب بالوضع الطارئ والعاجل؛ يستخدم الزمن، تحت ضغط الإلحاح، وذلك لكي يقطع الحديث، يضغط على المتحدث، بل ليقاطعه ويوقفه عن الحديث. يلجأ مقدم البرنامج إلى وسيلة أخرى، يجعل من نفسه متحدثاً باسم جمهور المشاهدين. من وجهة نظر الديمقراطية ؛ إن ما يمثل إشكالية في مثل هذه البرامج خاصة السبب الذي يثير مشكلة على جانب كبير من الأهمية هو: أن كل المشاركين ليسوا في الوضع نفسه من المساواة على المسرح من حيث الفرص المتساوية في الحديث والحوار.

يرى بورديو أن عليك أن تكون في خدمة أحد الأفراد ممن لديهم حديث مهم وتريده أن يتحدث لكي تعرف ما الذي لديه ليعبر عنه، ما الذي يفكر فيه، وأن تقوم بمساعدته على إظهار هذه الأفكار. إلا أن هذا ما لا يقوم به مقدمو البرامج التلفزيونية. إنهم لا يقومون بمساعدة أولئك الذين لا يمتلكون إمكانات كبيرة للتعبير. بل دائماً ما يتم إعطاؤهم الكلمة في اللحظة التي لا ينتظرونها على الإطلاق، المستوي الثاني: من تفكيك العمل هو تركيب البلاتوه. إنه يلعب دوراً حاسماً.

   ثمة مثال على هذا النوع من التلاعب: ففي أثناء حركة الاضرابات، كان هناك حلقتان متتاليتان من برنامج “حلقة منتصف الليل”. Cercle de Minuit، وكان موضوع الحلقة هو “المثقفون وحركة الإضرابات” في الحلقة الأولى يظهر المثقفون المعارضون لحركة الإضرابات على اليمين. في الحلقة الثانية (وهي استكمال للحلقة الأولى)، تم تغيير تركيب البلاتوه، بإضافة أفراد أكثر إلى اليمين واختفاء الأفراد المؤيدين للإضرابات. في هذه الحالة، فإن تغيير تركيب البرنامج يؤدي إلى تغيير في مضمون الرسالة التي يمررها البرنامج. إن تركيب البلاتوه يتسم بالأهمية لأنه يعطي صورة عن التوازن الديموقراطي.

هناك أيضاً خاصية أخرى في هذا الفضاء الإعلامي تتمثل في منطق لعبة اللغة المستخدمة ذاتها. هناك الافتراض الضمني الأول للعبة اللغة هذه هو: الحوار الديموقراطي كما يتم التفكير فيه وفقاً لنموذج (المصارعة الحرة)؛ يجب أن تكون هناك مواجهات وتحرشات، الجيد (الأفضل / الفائز) هو الأكثر وحشية وشراسة.. وفي الوقت نفسه، فإن كل الضربات غير مسموح بها. يجب أن توجه الضربات ضمن منطق اللغة الشكلية المتفق عليها، اللغة العاقلة. الصفة الأخرى التي يذكرها ؛ هي التواطؤ بين العاملين المحترفين في التلفزيون الذين يطلق عليهم اسم المفكرين على السريع Fast-thinkers، هم متخصصو ذلك النوع من التفكير الذي يستخدم لمرة واحدة ثم يلقي به بعد ذلك، يطلق عليهم لقب “الزبائن الطيبين”.

   وكثيراً ما أكون مضطراً ببدء كل إجاباتي بوضع السؤال المقدَّم محل تساؤل. يثير الصحفيون من خلال رؤيتهم، أسئلة ليست لها أية صله بأي شيء. وقبل الإجابة عن أسئلتهم، يجب القول بطريقة مهذبة إن سؤالك من دون شك سؤال مهم، ولكن يبدو لي أن هناك حول هذا الموضوع سؤالاً أكثر أهمية.

إن التلفاز؛ هو أداة للإعلام ذات استقلالية ضعيفة جداً يقع على كاهله سلسلة كاملة من القيود التي تعود إلى العلاقات الاجتماعية بين “علاقات تنافس” ضاربة وقاسية بالإضافة إلى تورطات موضوعية ترتكز على المصالح المشتركة التي يترتب عليها أن جهاز التلفاز، هو جهاز مطيع ومفيد.

هيمنة التلفزة الفضائية

والظاهرة الأكثر أهمية هي الامتداد الهائل لهيمنة التلفاز على مجمل أنشطة الإنتاج الثقافي بما فيها أنشطة الإنتاج العلمي أو الفني. لقد دفع التلفاز اليوم إلى أقصى حد، تناقضاً مسّ كل مجالات الإنتاج الثقافي. خاصة التناقض بين الشروط الاجتماعية والاقتصادية التي يجب أن توضع فيها حتى يمكن إنتاج أنواع معينة من الأعمال ذات استقلالية بالنسبة للضرورات التجارية، الخ. ومن ناحية أخرى، الظروف الاجتماعية لنشر الإنتاج الذي تم الحصول عليه في مثل هذه الظروف وتوزيعه.

  ويرى بورديو أن التوترات على درجة كبيرة بين الذين يريدون حماية قيم الاستقلالية، والحرية في مواجهة منطق التجارة وطلب السوق وضغوط المسؤولين الخ. وبين أولئك الذين يخضعون ويستسلمون للضرورة، الذين يقبضون مقابل ذلك. هذه التوترات لا يمكنها أن تعبّر عن نفسها على الأقل علي شاشات التلفاز. يقول: “ إن مهنة الصحافة هي من المهن التي نجد فيها بشكل كبير أفراداً يعانون القلقَ، غير راضين، متذمرين أو مستسلمين في سخرية، في هذا الوسط يتم التعبير جماعياً بشكل كبير عن الغضب والاشمئزاز أو الإحباط أمام واقع عمل يستمرون في ممارسته أو يعلنون أنه عمل “ليس مثل الأعمال الأخرى”. لكننا بعيدون عن وضع يمكن فيه لهؤلاء المستبعدين أو الخاضعين أن يأخذوا فيه شكل المقاومة الحقيقية، المقاومة الفردية وعلى وجه الخصوص المقاومة الجماعية. (ص81)

ولفهم كل ذلك يرى الفيلسوف والسوسيولوجي الفرنسي، أنه يجب الانتقال إلى مستوى الآليات الكلية، إلى مستوى البنية والتركيب. إن التلفاز عالم يجسد لدينا الانطباع بأن كل الشركاء الاجتماعيين بكل ما يتمتعون به من مظهر الأهمية والاحترام، والاستقلالية وحتى أحياناً هالات رائعة خارقة للعادة، هم دمى لضرورة من الواجب شرحها، دمى لبنية يجب التحلل منها، وكشفها وإخراجها إلى النور. {التلفاز والتلاعب بالعقول ص82 }. ويعطينا مثالاً للمنافسة وحصص السوق

يرى بورديو أنه لكي نفهم الذي يحدث في القناة التلفزيونية الفرنسية الأولى TFI على سبيل المثال علينا أن نأخذ في الاعتبار المطلوب أن تفعله هذه القناة، وأن نأخذ في الحسبان حقيقة أنها داخل عالم يتميز بوجود شبكة من العلاقات الموضوعية التي تربط بين القنوات التلفزيونية المتنافسة المختلفة، إلا أن هذا التنافس يتحدد في شكله، بطريقة غير مرئية بواسطة علاقات قويّة غير واضحة وغير مدركة يمكن أن تُحدد من خلال مؤشرات ودلائل، مثل المؤشرات الخاصة بنسبة حصة هذه القناة من السوق أي بعدد المشاهدين وبوزنها تجاه المعلنين. وهناك أيضاً علاقات قويّة خفية غير مرئية تماماً تجعل من الضروري أن نأخذ في الاعتبار مجمل علاقات القوي الموضوعية التي توجه المجال. هي المنافسة الاقتصادية بين قنوات التلفاز أو بين الصحف من أجل كسب المشاهدين أو القراء أو كما يقال كسب حصة من السوق، هذه المنافسة تكتمل على هيئة منافسة بين الصحفيين، منافسة تتميز بالرهانات الخاصة بها، مثل: ”الإثارة الصحفية”، المعلومات المتفردة، السمعة والشهرة. كل هذا لا يحدث ولا ينظر إليه بوصفه صراعاً اقتصادياً بحتاً أو صراعاً من أجل الكسب المالي فقط، لأنه بجانب كل ذلك يكون في الوقت نفسه خاضعاً للقيود والمحددات التي تعود إلى وضع المؤسسة الصحفية داخل شبكة علاقات القوي الرمزية والاقتصادية للمجال. { راجع بورديو صفحات ص85،86}.

فإذا ما أردت أن أعرف ما الذي سيقوله أو سيكتبه صحفي ما وفقاً لرؤيته، يجب أن أعرف الموقع الذي يحتله داخل هذا الفضاء أي القوة الخاصة التي تتمتع بها المؤسسة التي يعمل فيها والتي تقاس من بين محددات وعوامل أخرى بوزنها الاقتصادي، بنصيبها من السوق لكن أيضاً، فيما يؤكد بورديو بوزنها الرمزي الذي يصعب إلى حد كبير تحديده كمياً ويؤكد أنه حتى نكون كاملين، من الواجب الأخذ في الاعتبار موقع المجال الإعلامي القومي داخل المجال العالمي، الهيمنة الاقتصادية / التكنولوجية، وخصوصاً الهيمنة الرمزية للتلفزيون الأميركي والذي هو نموذج ومصدر للأفكار، وللأشكال، وللممارسات بالنسبة لكثير من الصحفيين.

   إننا لكي نفهم بشكل أفضل الصورة الحالية لهذه البنية، فمن الأفضل إعادة إنتاج تاريخ العمليات التي أدت إلى وجودها. ويعطينا بورديو مثلاً أنه خلال سنوات الخمسينيات [من القرن العشرين] كان التلفاز موجوداً بالكاد داخل المجال الصحفي؛ كان العاملون فيه خاضعين لهيمنة مزدوجة  في كونهم خاضعين للسلطات السياسية بشكل خاص، ذلك أنهم كانوا خاضعين من وجهة النظر الثقافية، الرمزية، بالإضافة إلى أنهم كانوا خاضعين اقتصادياً أيضاً وذلك بالقدر الذي كانوا يعتمدون فيه على الدعوم المقدمة من الدولة، وبالتالي فإن النتيجة هي أنهم كانوا أقل فعالية وقوة من الصحفيين الآخرين بقدر كبير. ومع مرور السنين، انقلبت العلاقة تماماً وسعى التلفاز إلى أن يكون مهيمناً اقتصادياً ورمزياً. {الموضع السابق، ص87-88}.

   إن التلفاز بسبب قدرته على الانتشار يُلقي بمشكلة على عالم الصحافة المكتوبة وعلى عالم الثقافة بشكل عام. ذلك إن الصحف الجماهيرية الواسعة الانتشار تبدو بجانبه شيئاً ضئيلاً. يحتاج إلى التجانس والتماثل والتسطيح، إلى “الامتثالية” وإلى “عدم التسييس”. يصبح عملاً مناسباً تماماً، على الرغم من أن أحداً لا يرغب فيه. هذا ما نلاحظه كثيراً في الحياة الاجتماعية : وقوع أشياء لا يريدها أحد ويمكن أن تبدو كما لو أنها كانت مرغوبة. هنا يصبح النقد المبسط خطراً.

يوضح بورديو دور التلفاز وتأثيره في وسائل الإعلام الأخرى ويرى أنه إذا ما حاولت أداة قوية مثل التلفاز، أن تتمحور قليلاً باتجاه ثورة رمزية فإنه سيتم التعجيل بإيقافها... إن التلفاز يوجد في وضع لا يحتاج فيه أن يطلب منه أحد أن يقوم بما يقوم به، إن ذلك يتم فقط بسبب الخضوع لمنطق المنافسة. لقد أصبح مقدمو نشرات الأخبار التلفزيونية، ومقدمو برامج الندوات، والمعلقون الرياضيون، أصبحوا جميعاً بمنزلة مديرين صغار للوعي الذي يصنعونه، أصبحوا أيضاً متحدثين رسميين باسم أخلاق برجوازية صغيرة تماماً. وعلى الرغم من أن هؤلاء الصحفيين يحتلون مواقع متدنية تمت الهيمنة عليها في مجال الإنتاج الثقافي، إلا أنهم يمارسون نوعاً نادراً تماماً من الهيمنة: إن لديهم سلطة التحكم في أدوات التعبير العام، وهم يستطيعون أن يوجهوا جزءاً من هذه السلطة المكرسة لهم باتجاه مصلحتهم الشخصية. { بورديو ص94}.

هنالك ملاحظة مهمة نجدها أيضاً في التلفزيونات العربية هي أن تلفاز الخمسينيات كان يرغب في أن يكون تلفازاً ثقافياً ويرغب بشكل ما وبسبب من احتكاره في أن يفرض على كل الإنتاج الصبغة الثقافية، وفي أن يشكل أذواق الجمهور الواسع بينما تلفاز سنوات التسعينيات يهدف إلى استغلال هذه الأذواق حتى يحقق الإقبال الأكثر انتشاراً.

وعلى هذا يرى من الضروري أن نذهب بعيداً إلى ما وراء المظاهر، إلى ما هو أبعد مما نشاهده على مسرح التلفاز بل إلى ما وراء أشكال المنافسة التي تحدث داخل المجال الصحفي وذلك حتى نستطيع الوصول إلى فهم حقيقي لطبيعة علاقة القوي القائمة بين الهيئات والمؤسسات المختلفة وإلى إدراك المدى الذي تتحكم فيه هذه العلاقة حتى في الشكل الذي تأخذه التفاعلات بين هذه الهيئات والمؤسسات. {بورديو، ص97}.

وتحليلات بورديو السوسيولوجية لتأثير الميديا يشرحها على النحو الآتي: تخصص افتتاحيات النشرات للأخبار الأكثر ثانوية والأكثر طقوسية للحياة السياسية من أخبار عن الكوارث الطبيعية وعن الحوادث وعن الحرائق، وباختصار عن كل هذا الذي يمكن أن يخلق اهتماماً بحب استطلاع بسيط. ذلك أن الأحداث المتفرقة، تملأ الفراغ السياسي، وأن تقوم بعملية عدم تسييس تختزل حياة العالم إلى حكاية أو طرفة ثانوية صغيرة غالباً ما يُستدعى فلاسفة التلفاز للنجدة، لكي يعيدوا إعطاء معنى لذلك الذي لا معنى له، ولما هو عارض؛ الذي يتم تقديمه بشكل مصطنع ودفعه إلى صدارة العرض ليصبح حدثاً، كارتداء الحجاب في المدرسة، والاعتداء على المدرسين أو كل أحداث المجتمع الأخرى التي تم صنعها جيداً حتى تُحدث سخطاً مثيراً للعواطف. إن البحث عن الإثارة وبالتالي عن النجاح التجاري يؤدي عند بورديو إلى اختيار الأحداث المتفرقة التي تخضع لمنطق البناء الدوجمائي البدائي، إلى خلق اهتمام بالغ بمداهنة الغرائز والشهوات الأكثر بدائية. {ص102}.

السوسيولوجي الفرنسي وهيمنة الإعلام.

ولا تقتصر الهيمنة على التلفاز، بل يتناول بورديو الصحافة، ذلك أن عالم الصحافة عبارة عن مجال له خصوصيته في حد ذاته ولكنه يخضع لمحددات المجال الاقتصادي وشروطه من خلال (نسبة الإقبال). هذا المجال هو نفسه تأثيراً وضغطاً على جميع المجالات الأخرى انطلاقاً من كونه بنية هذا التأثير البنيوي الموضوعي، المجهول، غير المرئي، لا علاقة له البتة مع ذلك الذي نشاهده ونراه مباشرة، مع ذلك الذي نعلن عنه عادة، أي مع ما يتم من تدخل لهذا الفرد أو ذاك. {ص105}.

يسعى بورديو مزوداً ببعض الآمال من أجل تحقيق الإتقان فيما يتعلق بالعلاقة بين التلفاز والهيمنة.  مثلاً إعلاء الوعي بالآليات، أن يسهم في إعطاء بعض الحرية للأفراد الذين تحركهم هذه الآليات ويخضعون لها. وإذا كان جزء من التأثيرات السيئة ينتج من العوامل البنيوية التي توجّه المنافسة، التي تسبب استمرار حالة الإثارة. فإنه علينا العمل على أن نجعل هذه الآليات واعية وواضحة وجلية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى توافق في تحييد المنافسة. {انظر بورديو ص107-108}.

ويعطينا أمثلة لما تقوم به أجهزة الإعلام؛ أولاً: إن وسائل الإعلام لا تكف عن التدخل لكي تعلن عن تحديد أكبر عشرة مفكرين ممن يعتد بهم؛ لأن هذه أدوات ووسائل تسمح بالعمل على بورصة القيم الفكرية ومن بينها قيم المثقفين. (وهم غالباً من صغار حاملي الأسهم لكنهم أقوياء في عالم الصحافة أو في مجال النشر).. وهذا يفيد في الحفاظ على استمرار ارتفاع قيمة أسهمهم. وهناك أيضاً أولئك الذين كانوا ولا يزالون أدوات للسلطة، وتمثل مهمتهم الأساسية إحدى الاستراتيجيات الأكثر شيوعاً في احتواء الأفراد الذين يمكن أو يجب أن يستبعدوا، أو في استبعاد الأفراد الذين يمكن أو يجب احتواؤهم.

ثانيا: القوى والتلاعبات الصحفية تعمل بطريقة أكثر حذقاً وبراعة بإدخال إنتاج يتميز بالتبعية والعمالة في المجالات المستقلة، مثل المنتجين التابعين الذين يتلقون التكريم تحت تأثير القوى الخارجية، تكريم لا يمكن لهم أن يحصلوا عليه من خلال قيمتهم الفعلية داخل مجالهم. هؤلاء الكتاب اللا كتاب حقاً، الفلاسفة اللا فلاسفة، يحصلون على قيمة تلفزيونية، على أوزان صحفية من دون قياس مماثل ولا معيار لأوزانهم المحددة داخل عوالمهم المحددة.

وهناك أمثلة أخرى من تدخل القوى الإعلامية، مثل الاقتصاديات ذات الشهرة من جانب الميديا. حتى تستطيع سلطة الميديا فرض هيمنتها على مجالات مثل المجال العلمي، يجب عليها أن تجد تواطؤاً داخل هذا المجال، إن الأكاديميين يتدفقون على وسائل الإعلام، ملتمسين باستمرار عرض كشف حساب، يستجدون دعوة، يحتجون ضد حالة الإهمال والنسيان التي يجدون أنفسهم فيها، وبسماع شهاداتهم الكثيرة جداً، نصل إلى الشك في مدى الاستقلالية الذاتية للكتاب، للفنانين وللعلماء. يجب علينا أخذ موقف من هذه التبعية. وأن نحاول فهم الأسباب أو الدوافع التي تكمن وراءها. يجب أن نفهم من الذي يتعاون، ومن العميل.

إن بورديو لا يدين كل شكل من أشكال التعاون مع الصحف، أو مع الإذاعة والتلفزيون. لكن من وجهة نظر العوامل التي تدفع إلى التعاون والتي تفهم كأنها خضوع بلا شروط لمحددات قوية. إذا كانت المجالات العلمية، والأدبية، والسياسية مهددة بهيمنة الميديا؛ فإن هذا يحدث لأن هناك داخل هذه المجالات أفراداً تابعين وخاضعين لا يعنيهم الأمر كثيراً من وجهة نظر القيم الخاصة بالمجال. {بورديو ص118-119}.

إن التلفاز كما يلاحظ بورديو ينتج تأثيرين. فهو من ناحية يقلل من حق الدخول في عدد معين من المجالات، فلسفية، قانونية، الخ. ويمكنه أن يخلع صفة عالم اجتماع، أو كاتب أو فيلسوف الخ.. على أفراد لم يدفعوا المقابل الضروري للدخول في هذه المجالات وذلك وفقاً للتعريف الداخلي للمهنة المعنية. من ناحية أخرى، فإن التلفزيون في وضع يمكّنه من الوصول إلى أكبر عدد من الجمهور.

 تمارس وسائل الإعلام دورها كأداة للمعلومات المعبئة، شكل منحرف من الديمقراطية المباشرة يمكن أن يخلق ذلك الذي يؤدي إلى تلاشي المسافة بالنظر إلى إلحاح الحدث؛ بالنظر إلى ضغط العواطف الجماعية الجياشة، التي ليست بالضرورة ديمقراطية، تلك التي تؤمن بطبيعة الحال عبر المنطق المستقل نسبياً للمجال السياسي.

  ويرى بورديو باسم الديمقراطية، أنه يجب النضال ضد اللهاث والجري وراء نسبة الإقبال. ومن الضروري أن يترك للأفراد حرية الحكم، وأن يختاروا الأوديمات [نسبة الإقبال] هو شرط وإجبار السوق، الاقتصاد، أي لشرعية خارجية وتجارية تماماً، وإن الخضوع لشروط وإجبار هذه الأداة الخاصة بالسوق هي المعادل التام في المادة الثقافية لما هو ديماغوجي وموجه من قبل استطلاعات الرأي في الحياة السياسية. يدار التلفاز بوساطة قياس نسبة الإقبال التي تسهم في إلقاء العبء على المستهلكين المفترض أنهم أحرار، وبوضع ضرورات السوق التي ليس لها صلة مع التعبير الديمقراطي لرأي جماعي. {ص124}

من الواضح تماما أن الموضوع الذي يعالجه بورديو؛ هو هيمنة الآليات الخاصة بمجال صحفي يخضع أكثر فأكثر لشروط وضروريات السوق التي تمارس تأثيرها على الصحافيين. ومن خلال هؤلاء وفي مختلف مجالات الإنتاج الثقافي، المجال القانوني، المجال الأدبي، المجال الفني، المجال العلمي تتم الهيمنة. كما أن المحددات أو الشروط البنيوية التي تشكل وزن هذا المجال والتي هي ذاتها خاضعة لمحددات وشروط السوق، تعدل بشكل أو آخر علاقات القوى داخل مختلف المجالات، مؤثرة بذلك على الذي يتم عمله فيها وعلى ما يتم إنتاجه منها، ممارسة بذلك تأثيرات متشابهة تماماً في هذه العوالم التي تبدو شديدة الاختلاف ظاهرياً.

ويوضح بورديو هيراركية نسبة الإقبال على النحو الآتي : يُلقي المجال الصحفي على مختلف مجالات الإنتاج الثقافي بمجموعة من التأثيرات المرتبطة في شكلها وكفاءتها بتركيبه الخاص، تقاس درجة استقلالية مؤسسة ما للتوزيع بقياس نسبة دخلها الذي يأتي من الإعلانات ومن دعم الدولة، وأيضاً بدرجة تركيز المعلنين. بالنسبة لدرجة استقلالية صحافي معين، فإنها تعتمد بداية على درجة تركيز الصحيفة؛ ثم على مكانة الصحيفة داخل الفضاء الصحفي. ثم على مكانة الصحافي نفسه داخل الصحيفة أو المؤسسة الصحفية التي يعمل بها. {ص126}. ويذكر لنا العوامل التي تحدد الضمانات المختلفة المتعلقة بالمكانة الوظيفية التي يحتلها هذا الصحافي. والتي تعتمد على درجة استقلالية الصحافي وعلى كفاءته في الإنتاج المستقل للمعلومات، وتمارس السلطات المختلفة وخاصة الهيئات الحكومية ضغطها ليس فقط من خلال الشروط والعوامل الاقتصادية التي تتمتع بها ولكن أيضاً من خلال كل أنواع الضغط التي يوفرها احتكار المعلومات الرسمية – المصادر الرسمية تحديداً - هذا الاحتكار يُعطى بداية للسلطات الحكومية ولأجهزة الإدارة. يمارس داخله تأثيرات قوية جداً، يتبع ذلك أن هيمنة المجال الصحفي تقوّي من نزعات الوكلاء المنخرطين في المجال السياسي. ذلك يجعل من الهيمنة التي لا تكف عن التزايد للمجال الصحفي الذي يخضع بدوره إلى هيمنة متزايدة للمنطق التجاري تتزايد وتقوى على المجال السياسي المحصور دائماً في نزعة الديماغوجيا.

وفي نهاية تحليلنا لموقف بورديو من تأثير الإعلام والهيمنة الإعلامية على المتابعين لها وارتباط هذه الهيمنة بالآليات الاقتصادية والسياسية التي تواجه الإعلام وتحدد له دوره، ووظيفته، وتواجهنا مما يجعلنا نواجه بنية متكاملة من آليات السيطرة والخصوصية. يعرض لنا بورديو ويقدم في نهاية عمله الملاحق لتأكيد تحليله السابق، المثال الأول حول العلاقة بين الميديا الأولمبية، والثاني عن الصحافة والسياسة. وسوف نشير إليها إشارتين سريعتين لتأكيد تحليله بشكل تطبيقي. 

أولا: الميديا والألعاب الأوليمبية.

يرى بورديو أن شروط البث التلفزيوني وقيوده تؤثر وبشكل متزايد أكثر فأكثر في اختيار الألعاب الأوليمبية، الأماكن والتوقيت الذي تجري فيه المباريات بل وطريقة سريان المباريات ذاتها وكذلك مراسم الاحتفال. ولهذا السبب نجد أنه في دورة الألعاب الأوليمبية في “سيول” فإن توقيت المباريات النهائية الأساسية في ألعاب القوى قد تم تحديده (وفقا لبنود من الاتفاقات التي انتهت إلى شروط مالية هائلة ) بطريقة تسمح بإجراء هذه المباريات في أوقات ذروة الإقبال التلفزيوني في بداية السهرة في الولايات المتحدة الأميركية. {ص148}.

    ويبين لنا كيف تحولت اللجنة الأوليمبية الدولية تدريجياً إلى مؤسسة تجارية كبرى تبلغ ميزانيتها السنوية عشرين مليون دولار، يهيمن عليها من قبل بطانة من المديرين الرياضيين وممثلي الشركات الصناعية الكبري الذين يتحكمون في بيع حقوق إذاعة المباريات. وكذلك حقوق كفالة واحتكار الإعلانات بالإضافة إلى اختيار المدن الأوليمبية ؛ شركات التلفزيون الكبرى المتنافسة من أجل حقوق البث التلفزيوني: الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات. وفي النهاية يهيمن عليها من قبل منتجي الصور أولئك الذين ارتبطوا في علاقات تنافسية متوائمة لتوجيه عملهم الفردي والجماعي لإنجاز تقديم عرض الألعاب، اختيار تأطيراً، ومونتاجاً للصور، وعمل التعليقات. في النهاية من الواجب تحليل التأثيرات المختلفة لتكثيف المنافسة بين الأمم؛ تلك التي يصنعها التلفاز من خلال عولمة العرض الأوليمبي، مثل ظهور سياسة رياضية للدول موجهة نحو تحقيق النجاحات الدولية، الاستقلال الاقتصادي والرمزي للانتصارات وتحويل الإنتاج الرياضي إلى صناعة {ص149-150}.

ثانيا: الصحافة والسياسة.

يؤكد بورديو أن المجال الصحفي ينتج ويفرض رؤية خاصة تماماً عن المجال السياسي الذي يجد أساسه في بنية المجال الصحفي وفي المصالح الخاصة للصحفيين الذين يعملون فيه.

ففي عالم خاضع لضرورة مثيرة للضجر، وبالميل إلى أن تتعري بأي ثمن، فُرض على السياسة أن تظهر موضوعاً صعباً نستبعده بقدر الإمكان من ساعات الإقبال الكبير في التلفاز، إنها{ أي السياسة} بمنزلة عرض قليل الإثارة إن لم يكن يثير الإحباط وصعباً على المعالجة. ولذلك يجب جعلها مثيرة للاهتمام. من هنا هذا الميل الذي يلاحظ المواجهات الكلامية المفرغة من المعنى talk shows بين متداخلين مفوضين قابلين للتبادل. ولفهم ذلك الذي يقال حقاً أو على الأقل ذلك الذي لا يمكن أن يقال في مثل هذه التبادلات المختلفة ذاتها. أن تكون مستعداً لكل شيء ولكل التنازلات. عليك أن تمارس كل المساومات والتنازلات حتى تظل موجوداً وحتى تؤمّن الأرباح المباشرة وغير المباشرة: الشهرة “الإعلامية” مكانة خاصة لدى المؤسسات الصحفية.

يبين بورديو أن الصحفيين الذين يتذرعون بأن ذلك هو ما يطلبه الجمهور حتى يسوّغوا سياسة التبسيط الديماغوجية هذه (المعارضة كما يؤكد بورديو للاهتمام الديموقراطي للإعلام)؛ لا يفعلون إلا إسقاط نزعاتهم الخاصة على رؤيتهم للعالم، وبخاصة عندما يدفعهم الخوف من الملل إلى إعطاء الأولوية للعراك بدلاً من النقاش؛ للخلاف والهجوم بدلاً من الجدل، أي لوضع كل شيء موضع التنفيذ لتفضيل المواجهة والصدام بين الأفراد.

ويوضح ذلك على النحو الآتي؛ إن ما هو أساسي في مهاراتهم وكفاءاتهم مؤسس على حميمة الاتصالات وعلى السرية أكثر من استناده إلى الموضوعية، والملاحظة، والتقرير والبحث، إنهم يميلون لجلب كل شيء إلى أرضِهم على علم وخبرة به، باهتمامهم باللغة وباللاعبين أكثر من اهتمامهم بمضمون الموضوعات المطروحة سياسياً، وأكثر من اهتمامهم بمادة الحوارات وبالتأثير السياسي للخطابات.

الصحفيون بسبب من موقفهم الغامض في عالم السياسة؛ ولأنهم نشطاء ومؤثرون جداً وحيث يمكنهم أن يقدموا لرجال السياسة خدمات رمزية لا غنى عنها.. فهم ميالون بشكل تلقائي إلى فلسفة الشك التي تدفعهم إلى البحث عن أسباب اتخاذ المواقف الأقل أهمية والمعتقدات الأكثر إخلاصاً للمصالح التي ترافق المواقف في المجال السياسي.

بكلمات يمكن القول، إن أطروحات بودريار النقدية حيال الميديا وعالمها المعقد والمثير تدخل في سياق التحليل الجذري لمأزق الخطاب الثقافي الغربي المعاصر.

فقد عكست ثورة الميديا صورة هذا المأزق المعرفي على النحو الذي يستحيل أن تعكسه أية وسيلة أخرى. وهذا هو الشيء الذي يمنح الميديا الجديدة صفات مركبة ومعقدة. حيث لا يستطيع حتى صانعها ومنتجها التحكم بآثارها ونتائجها.

[1]*ـ مفكر وأستاذ فلسفة في جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية.

- ولد بورديو عام 1930 بمنطقة دانجان جنوب فرنسا، درس الفلسفة والآداب الأتنوجرافيا والأنتروبولوجيا.

وانتخب عضواً في الكوليج دي فرانس 1981. وكان لصدور العمل الذي أشرف عليه “بؤس العالم” (Le misère du monde) صدى هائل بين النقاد وفي مختلف وسائل الإعلام.

 أعماله المترجمة إلى العربية، درس في الدرس (عبد السلام بنعبد العالي)،1986،حرفة عالم الاجتماع (نظير جاهل)، 1993.

العنف الرمزي. بحث في أصول علم الاجتماع التربوي (نظير جاهل)،1994. أسئلة علم الاجتماع (إبراهيم فتحي)، 1995. أسئلة علم الاجتماع. في علم الاجتماع الانعكاسي عبد الجليل الكور،1997. قواعد الفن (إبراهيم فتحي)، 1998. التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول (درويش الحلوجي)، 1999. أسباب عملية، إعادة النظر بالفلسفة، (أنور مغيث)، 1998؛ ثم بعنوان:العقلانية العملية. حول الأسباب العملية ونظريتها (عادل العوا)، 2000. السيطرة الذكورية (أحمد حسان)،2001 ؛ ثم الهيمنة الذكورية (سلمان قعفراني)، 2009.

بؤس العالم (محمد صبح)، 2001. إعادة الإنتاج، (ماهر تريميش)، 2008. راجع دراسة «بؤس العالم» عن  كاظم جهاد في موقع مجلة الكرمل . www.alkarmel.org

[2]- درويش الحلوجي: مقدمة كتاب بيير بورديو التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول، دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، 2004.

[3]- جمال حمداوي: المفاهيم السوسيولوجية عند بيير بورديو، موقع الألوكة http://www.alukah.net/