البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

سطوة الميديا ا(لعالم الافتراضي وأثره في المجتمع المدني)

الباحث :  صابرين زغلول السيد
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  11
السنة :  السنة الرابعة - ربيع 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 14 / 2018
عدد زيارات البحث :  3679
تحميل  ( 346.854 KB )
إلى أي مدى استطاعت الميديا أو ما يسمى بالعالم الافتراضي أن تغيّر نمط الحياة الثقافية واتجاهات السلوك الاجتماعي في العالم ومجتمعنا العربي والإسلامي بنحو خاص.

هذه المقالة تبحث في أثر ثورة الميديا في بيئات المجتمع المدني من النواحي الأخلاقية والثقافية واتجاهات السلوك العام. وقد قاربت الباحثة المصرية صابرين زغلول السيد هذه القضية انطلاقاً من أبرز الفرضيات والنظريات التي قدمها عالم الاجتماع الفرنسي جان بوردريار في هذا الشأن.

المحرر

------------------------------------

يشهد عالمنا المعاصر على الكثير من الفوائد التي قدمتها الميديا في الميادين الإنسانية المختلفة. فقد أنتج مما عرف بالعالم الافتراضي الرغبة في التواصل والحوار وتبادل الآراء. وهو ما يؤكد سعي الأفراد نحو إثبات الذات ونشر الأفكار حيث أصبحت الهوية الافتراضية عند غالبية الأفراد انعكاساً لهوياتهم الحقيقية. فقد رأى كثيرون في مجتمعاتنا الإسلامية أنهم عن طريق الهوية الافتراضية يكونون أكثر تفاعلاً ونشاطاً ومشاركة وأحسن تصرفاً عما هي عليه الحال في الواقع الفعلي، وذلك لخصائص هذا العالم الذي يركز على التواصل الفكري ولـيس على المظهر الفيزيائي المباشر. إلا أن القدرة على إخفاء الهوية أدى وبشكل سلبي إلى عدم مصـداقية الهويات الافتراضية التي شجع بعضها على اختراق الحدود الدينية والأخلاقية والسياسية …الخ، وقد أدى ذلك إلى انقلاب  الوسائل التكنولوجية وحرفها عن مسارها الصحيح  فأصبحنا بسبب ذلك كله فريسة سهلة للحرب المعلنة على القيم. ما أدى لفقد كثير من بديهيات القيم قيمتها ومعناها الحقيقي. كما أدى إلى وضع جديد مليء بالفراغ الروحاني كان من نتيجته صعود موجات الشك المعرفي والوجودي، فلم يعد بالإمكان التمييز الدقيق بين ما هو حقيقي وما هو مصطنع. لقد بتنا أمام أسئلة لا مناص من الإجابة عنها: هل الحقيقة هي العالم المصطنع الافتراضي أو عالمنا المادي الواقعي؟، هل ندرك أننا نعيش داخل عالم مصطنع افتراضي أو أن الميديا جعلت ما هو موهوم حقيقياً؟ ثم كيف نواجه الاغتراب الذي فقدنا بسببه هويتنا وذواتنا الحقيقية داخل عالم مصطنع مفرط؟  

أسئلة كثيرة تصدى لها فلاسفة أوروبيون في مقدمهم عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار «1929-2007م» الذي كثَّف هذه الإشكالية بالتساؤل عما تبقى «من الواقع المادي ونحن نشهد في كل مكان حقناً هائلاً ومتواصلاً للواقع بالصورة والمتخيل والافتراضي»[1] ومن أجل ذلك حاول بودريار في كثير من أعماله وكتاباته التصدي لما سماه بعصر موت الواقع أو نهايته، الذي كان أبرز سماته نشأة العوالم الافتراضية، فقام بتحليل المبدأ المادي  للواقع من صراع وتناقض وجدلية ونفي وقطعية ومجاوزة وثورة والذي كان من نتاجهم جدليات هادمة نتيجة القطعية التي خلقتها العوالم الافتراضية بين  الإنسان ومجتمعه فأصبح مغترباً حتى في وطنه  وأصبح يعيش بعيون المغترب بين عالمين مختلفين لم يجتمعا على حافة التماس إلا وقد افترقا، وهما العالم الواقعي والعالم الافتراضي، ومن أجل ذلك كان لابد لنا من الوقوف على موقف بودريار من الواقع الافتراضي من خلال العديد من المفاهيم التي قدّمها في محاولة للوقوف على تلك الهوّة الكبيرة التي حدثت بين العالم الواقعي والآخر الافتراضي من أجل إعادة الذات المستلبة التي فقدت هويتها داخل هذا العالم ذلك العالم الافتراضي.

 الواقع الافتراضي Virtual reality

 في ظل التأثيرات  التكنولوجية الحالية انطلق بودريار  في تقديمه مفهوم الواقع الافتراضي من خلال تقديمه فكرة الواقع المفرط Hyper-Reality، والذي يعني  عدم قدرة الوعي على التمييز بين الواقع ومحاكاة الواقع، وخاصة في مجتمعات ما بعد الحداثية التي شهدت تقدماً تكنولوجياً هائلاً، وينظر إلى الواقعية المفرطة بوصفها حالة يمتزج فيها الحقيقي والخيالي معاً بسلاسة حتى لا يكون هناك تمييز واضح يحدد أين ينتهي أحدهما وأين يبدأ الآخر،  مما  يتيح الاختلاط بين الواقع المادي و الواقع الافتراضي والذكاء البشري والذكاء الاصطناعي و قد يجد الأفراد أنفسهم لأسباب مختلفة، أكثر إنسجاماً أو تورطاً مع عالم الواقع المفرط مقارنة بالعالم الحقيقي المادي لذلك يرى بودريار «أن الواقع  الحقيقي لم يعد ما كان عليه من قبل، حيث أثرت وسائل التكنولوجيا  في  تشكيل الوعي الاجتماعي الجديد في العصر الحاضر ومع تطور وسائل الاتصال والثورة التكنولوجية التي شهدها عصر ما بعد الحداثة أصبحت وسائل الإعلام تمارس دورًا جوهريًا في إثارة اهتمام الجمهور بالقضايا والمشكلات المطروحة»[2] حيث تعد وسائل الإعلام مصدرًا رئيساً يلجأ إليه الجمهور في استقاء معلوماته عن كافة القضايا، بسبب فاعليته الاجتماعية وانتشاره الواسع فهو – الإعلام – بقدرته على الحراك ومخاطبة القسم الأعظم من التكوين المجتمعي، يمتلك تلك الإمكانية على التأثير لا سيما الفضاءات الافتراضية، التي تقوم بتشكيل الوعي الاجتماعي بصورة غير مباشرة، وقد ذهب بودريار  إلى أن المعلومات والاتصالات، أصبحت  يستعاض عنها بما يعرف بالواقع  المفرط الذي يحاكي الواقع  الفعلي وذلك  من خلال الإثارة واختراع الأكاذيب التي تجعل من حقيقته، هي الأفضل  وقد تم ذلك عند نقطة تحول حاسمة من خلال الانتقال من الإشارات التي غطت على الأشياء، إلى علامات تخفي وجود هذه  الأشياء،  وعلى ذلك أصبح الواقع المفرط يعرف بأنه ثقافة مليئة بالنماذج الحقيقية التي لم تكن موجودة، مما ترتب عليه عواقب بفقدان «التمييز بين الحقيقي والمتخيل»[3] وأصبحنا  نخاطر بأن الحقيقي لا يحتاج لأن يكون عقلانياً، لأنه لم يعد لدينا  المقاييس  نفسها التي نحكم من خلالها على  المثال الأعلى أو السلبي. ولذلك  ساد منطق المحاكاة أو الاصطناع  الذي ليس  له أي  علاقة بمنطق الحقائق أوالترتيبات العقلانية[4] ويعتبر  مصطلح الاصطناع  أو المحاكاة من المفاهيم  المهمة  والضرورية  لفك ألغاز الواقع المفرط عند بودريار، ولذلك لا بد لنا من تسليط الضوء على هذا  المفهوم.

الاصطناع Simulation

لعب  مفهوم الاصطلاح دوراً أساسياً في تشكيل منظومة العالم المفرط في فلسفة بودريار، ولكي نفهم مفهوم الاصطناع عنده لا بد من إظهار التباين بين مصطلح الاصطناع Simulation والإخفاء dissimulation، وقد ذهب بودريار إلى أن الإخفاء يلزمه وجود الشيء أولاً ليتم إخفاؤه فهو على حد قوله يعني «التظاهر بعدم امتلاك ما نملك»[5] لذا فإن ذلك المصطلح يعني  (بما نملك) فنحن لا نخفي شيئاً ليس بحوزتنا، لأنه لا يمكن إخفاء اللاشيء أو العدم، كما أنه ليس بمقدورنا حجبه طالما أنه غير موجود، فلزم وجوب وجوده وملكه.

 أما الاصطناع فهو «التظاهر بامتلاك ما لا نملك»[6]، وهو بهذا  يعني الذي لا نملكه مدعين امتلاكه واستمرارية ذاك الامتلاك، أو بمعنى آخر ادعاء حضور الغائب، وذلك لأن موضوعاته ليست واقعية وغير حقيقية نظهرها على أنها وقائع طبيعية، لذلك كانت مكانة الغياب متباينة بين المصطلحين، ففي مصطلح الإخفاء مكانة الغياب ثانوية لأنها تأتي بعد الحضور أو الوجود والملكية، أما فيما يخص مصطلح الاصطناع فتلك المكانة – الغياب - أساسية تدخل في بنيته وصلب تكوينه لأنه يقوم عليها فهي مرجعيته الاستراتيجية، ومع ذلك فالاصطناع ليس بهذه البساطة والوضوح والتميز، لأنه أكثر تعقيداً وتركيباً وتضليلاً، ذلك «لأن الاصطناع غير التظاهر»[7]، أو التمثيل، بل بالعكس هو معارض له ذلك أن العلامة والرمز يمثلان الحقيقة  في التظاهر وهما متكافئان مع الحقيقة الواقعية، في حين أن الاصطناع يبدأ من يوتوبيا هذا التكافؤ، من خلال الارتداد بالعلامات والرموز  عن كل مرجعية وبالتالي الحكم عليها بالإعدام، كذلك نجد  التظاهر  يحاول امتصاص ماهو مصطنع ومحاكى عن طريق تفسيره على أنه تمثيل كاذب، ولذلك فالتظاهر بالشيء لا يعني اصطناعه، على سبيل المثال من يتظاهر بالمرض – كما يقول بودريار – يمكنه ببساطة أن يستلقي على سريره ليوهم الآخرين بأنه مريض، أما من يصطنع المرض فإنه يعمل على أن يعين في ذاته بعض الأعراض، ولذلك فإن الاصطناع متباين تماماً عن التظاهر والإخفاء ومؤثر في الواقع على نحو مغاير لهما، حيث أن تأثيره يخل بالتوازن في الواقع، بل أنه يشوه الواقع ويمزق مبادئه في حين تأثير التظاهر والاخفاء لا يؤثر أو يغير من  توازن الواقع، ولذلك  فالاصطناع لا يعبُر ثم يمضي ويزول، لأنه ليس استراتيجية سطحية ثانوية وإنما موجه بالضرورة ضد مبادئ الواقع ومقولاته، فالاصطناع إذاً يضع الواقع في زلزلة قوية مفادها فقدان ثنائياته وتناقضاته مما يعمل على زيادة الهشاشة لمبدأ الواقعية،  ويرمي بظلاله على أي إمكانية للتمييز بين الحقيقة والزيف والصدق والكذب، الخير والشر، بين الواقع والخيال... إلخ، وهذا بدوره يؤدي إلى زلزلة عمق المعاني من خلال عدم التمييز  بين حدودها ونظيراتها ونقيضتها، فيحدث ما يمكن أن نسميه بالدمج بين الواقع والمصطنع، لذلك فإن الاصطناع  بكونه موجه بالضرورة ضد مبادئ الواقع، فإنه يسعى إلى خلق ابستمولوجية فوضوية جرثومية أساسها التمويه والتضليل وانعدام الشفافية، مما يؤدي إلى  سقوط مبادئ الواقعية وحدودها لحدوث هذا الدمج  حيث لم يكن هناك ما يميز ذلك الحد الفاصل بين ما هو واقعي وخيالي أو حقيقي وسراب زائف لأن جميع تلك المصطلحات قد أُزيلت الحدود بينها وبين نقيضها «بحيث لم يعد هناك بُعد خيالي مستقل عن الواقع»[8] ولن يبقى إلا الزيف المنفصل عن الحقيقة، لقد اختلطت الأوراق والعناصر والأشياء، وفي هذا المستوى نلمس تشابهاً بين نظرة بودريار للعالم ونظرة ديريدا  للعالم كنص، فدريدا كذلك يقر بالطابع «المتردد واللايقيني indécidabl   للعالم.

ولذلك يتساءل بودريار: بما أن المصطنع يخلق أعراضاً  حقيقية فهل هو مريض أو لا ؟ ويجيب بقوله: «لا نستطيع أن نتعامل معه موضوعياً لا كمريض ولا كسليم هنا يتوقف الطب وعلم النفس أمام حقيقة مرض صارت غير معروفة»[9].

الصورة اافتراضية المصطنعة

إذن فما هي نتيجة هذا الاصطناع على الواقع ؟ النتيجة أن الواقع بعدما أصبح مصطنعاً ومفبركاً أصبح عصياً عن الفهم ما دمنا لا نستطيع تمييز مظاهره الحقيقية عن المصطنعة، لذلك يقول بودريار «لقد انخرط الجميع في اللعبة،  لعبة الإيهام، ذلك أن الاصطناع جعلنا « لم نعد نتوقف على معيار أو مقياس أو إطار أو مرجع أنطولوجي أو قاعدة ابستمولوجية أو ضوابط أخلاقية نهائية أو يقينيات دينية تصلح للتمييز بين الأشياء ورسم الحدود وتحديد المسارات وتثبيت الأسماء وضبط الآفاق وطرد الأشباح والأوهام والتناقضات[10]، والمثال الذي يشرح ويوضح به بودريار ذلك الاصطناع” هو مثال ديزني لاند Disney Land  حيث  يؤكد أن ظاهرة ديزني لاند ليست حقيقية وليست بالمزيفة كذلك، إنها آلة تعمية (حجب، إخفاء...) غرضها الأساسي إعادة توليد وهم الواقع. ومن هنا – يقول بودريار – بهزال التخيّل وسخريته وانحطاطه؛ ذلك بأن عالم ديزني لاند يريد أن يكون طفولياً  ليوهم الناس أن عالم الكبار هو في مكان آخر – أي– في العالم الواقعي»[11] وأن هذا العالم هو مجرد عالم ديزني لاند، ليخفي حقيقة أن الطفولة الفعلية هي في كل مكان، وأنه لا فرق بين ديزني لاند والعالم الواقعي»، وواقع الولايات المتحدة الأميركية بالخصوص، ديزني لاند هي طفولة الكبار بأنفسهم الذين يلعبون هنا دور الأطفال لخداع الناس وتوهيمهم وإخفاء طفولتهم الواقعية[12]، فديزني لاند نموذج مقولب Stérétype يعبر عن الواقع الأميركي من دون التعبير عنه، وأساس هذه الصورة المقلوبة هي النمنمة أو التصغير miniaturisation ولا شك في ذلك طالما أن عصر الاصطناع هو عصر النمنمة بامتياز،على حسب تعبير بودريار،  وقد ساعد على ذلك  أن  تحولت  كل  الكلمات إلى  إشارات ورموز تنتقل  بفعلها الدلالات عبر فضاءات لتصبح  كلمات ورموزاً للخطاب، لذلك  أصبح الواقع في نظر بودريار  مجرد وهم يتميز بالاختفاء كلما أردنا  الاقتراب منه،  فمثله في ذلك مثل سراب أنشأنا من خلاله واقعاً افتراضياً[13] جاء نتيجة لاصطناع  مفرط تمثل فيه  الأشياء لتحل محل الأشياء الممثلة، وأصبح  التمثيل أكثر أهمية من «الشيء الحقيقي»[14] وقد انتقد بودريار  العلاقة بين الدال والمدلول عند» فرديناند دي سوسير  1857-1913 م»[15] حيث أنكر  مثل جاك ديريدا وجود أي معنى  واضح، و قال بالدلالات العائمة أو المعنى المغيب، وبالتالي « رفض التمييز بين المظاهر والحقائق الكامنة وراء هذه المظاهر»[16] وبالنسبة له، انهارت أخيرا الفوارق بين الدال والمدلول، ولم تعد العلامات تشير إلى مدلولات بأي معنى معقول، حيث يتكون العالم الحقيقي من الدلالات العائمة. ولذلك ذهب مثل الفيلسوف الألماني نيتشه، بوجود الحقيقة مادامت ترتبط ارتباطاً وثيقا باللغة والخطأ والظن والمبالغة المجازية والبلاغة التخييلية ووسائل الإعلام، وقد ذهب  بودريار إلى أبعد مما ذهب إليه نيتشه بصياغته لمفهوم «مافوق الحقيقة، حيث يكون شيء ما حقيقياً فقط عندما يتحرك ضمن نطاق وسائل الإعلام، وتولد تكنولوجيات الاتصال في مابعد الحداثة الصور العائمة بشكل حر، حيث لايمكن لأحد أن يعيش أي تجربة إذا لم تكن بصيغة مشتقة،  وقد أخذت تجربة العالم للعبث مكان أي ثقافة مميزة، وأصبح للعبث لهجة واحدة فقط: تلك التي تمتلكها الولايات المتحدة الأميركية.

وهذا ما قاد العديد للشك في أن بودريار نفسه بمفهومه مافوق الحقيقة، لم يعد يسكن جسداً دنيويا[17]، حيث تحولت كتاباته  إلى  إستراتيجيات فادحة حين أصبحت العلامات والرموز  بلا معنى بسبب تكرارها واختلافها، وعلى الرغم من هذا التكرار والاختلاف البين لكل من العلامة والرمز إلا أنهما شكلا الجوهر الجذري الذي صاغ به بودريار اتجاهاته الأيدولوجية والإستراتيجية الفادحة  ويتضح ذلك من عبارته  الشهيرة والأكثر  إثارة للجدل  «أن حرب الخليج عام 1991م لم تكن حقيقية، بل كانت حدثاً إعلامياً» إنها غير حقيقية، إنها حرب دون أعراض الحرب»[18] فهي في نظره عبارة عن وهم، لأنها  لم تعد موجودة بقدر ما، إن الذي أصبح موجوداً هو فقط الوهم الذي فيه تم التعويض بالعلامات والرموز الحربية،  فنحن  لم نكن أمام حرب حقيقية بقدر ما أننا كنا أمام علامات ورموز حربية وهمية ومضللة وهي الحرب نفسها التي مارسها الأمريكان على الرأي العام العالمي من خلال وسائل الإعلام خاصة أنها حرب لا معنى لها؛ لذلك فما أشارت إليه وسائل الإعلام يمكن أن ينتمي إلى الواقع بقدر ما أنه يمكن أن ينتمي إلى الزيف، فنصبح بذلك أمام الشك أي عدم اليقين والارتياب، ولذلك يرى بودريار  أن القول إن الحرب لها وجود واقعي هو قول من قبيل الوهم؛ فالقول بالحرب هو تمثيلية، نجاحها ارتبط بالقدرة التي تمت ممارستها على ما يسمى «بالرأي العام» بفعل قوة تغطية وسائل الإعلام التي عملت على نشر وهم مساندة الجميع للحرب وكذا المبررات التي تم تقديمها للرأي العام على أنها مسوّغات صحيحة؛ وبذلك حلت عملية الحدث الإعلامي عن الحرب محل الحرب ذاتها؛ وبمعنى آخر، يرى بودريار، أننا لم نعد أمام اختلاف بين حرب هي حرب الكلمات أو الوهم الذي أسست له وسائل الإعلام بتوجيه من اليمين المحافظ خاصة الأمريكي منه لترويض الرأي العام، وبين الحرب التي هي الحدث ذاته الذي لن يحدث إلا في مخيلة هذا الأخير بفعل قوة الإعلام التلفزيوني خاصة مرحلة حشد القوات العسكرية قبل مدة وجيزة عن انطلاق الحرب؛ ويتابع بودريار قوله  «بأن مرجعية مجمل المسؤولين من رؤساء دول وسياسيين وعدد من الجنرالات والخبراء تتجسد في الإعلام التلفزي الذي هو آلية تمدهم بكثافة من الصور المزيفة والأخبار المعدة قبلا في الموضوع»[19] لذا لم يعد بمقدور الرأي العام المحلي والإقليمي والعالمي التمييز بين الحرب الحقيقية والحرب الوهمية، لقد أصبحنا أمام تمثيلية مسرحية محبوكة موقعها شاشات التلفاز، تمثيلية لم يعد بإمكان الرأي العام التمييز فيها بين ما هو حقيقي وما هو وهمي، ولاشك أن تصور بودريار هذا هو تصور يندرج  تحت استراتيجية منحطة لخطابات التحرر السياسي نظرا لعبثيتها المتمثلة في كون أن الأحداث السياسية وغيرها هي أحداث لا معنى لها، وما على الرأي العام إلا أن يقتنع بذلك مادام هو الدائرة الوحيدة التي يتحرك من داخلها من دون  رفضها، وبطبيعة الحال،  فهذا القول هو تعبير أيديولوجي عن أزمة النظام الرأسمالي الذي أصبح - لكي يتجاوز أزماته-، مضطراً  إلى أن يصور الواقع كما يريد، وكما تقتضيه مصلحته الاقتصادية؛ وهذا يتطلب تعبئة المستوى السياسي الذي أفرغ سلوكيات الرأسمالية من المضمون السياسي المتوحش وأعطاه المضمون الغامض والشديد المرونة لاتقاء احتجاجات الشعوب وثوراتها وتظاهراتها وهو نفس التنظير والتوجه الأبسيتمولوجي والأيديولوجي،  لذلك أصبح  التحقق من حرب الخليج غير ممكن إلا من خلال شاشات التلفاز، فالصورة التلفزية هي نفي  لأية إحالة واقعية  أو حدثية أو لنقل إنها الصورة الافتراضية التي تتميز بالتوالد والتكاثر لكن بعيداً عن أي إحالة على الواقع؛ ولذلك عندما تصبح الصورة رمزاً لغوياً يتحدد مدلوله في نفي الواقع، أو لنقل عندما يتم تحويل الإعلام، وأهمه التلفاز، إلى فضاء افتراضي للحدث، فهنا نصبح أمام خلق شروط مشروعية الاستعمار والغزو وبالتالي الحصول على مشروعية إبادة الواقع وإحلال واقع افتراضي تقوم وسائل الإعلام بالدعاية لمشروعية وجوده ليصبح المشاهد شخصاً مسجوناً أمام الشاشة لذلك يرى بودريار أنه لم يعد للواقع مرجعاً أو أي سلطة وبالتالي لم يعد معقولاً «لقد غدا واقعاً إستراتيجياً على وجه التحديد»[20]  لقد  أصبح الإستوديو والشاشة  كما يذهب إلى ذلك بودريار هما  مركز  القيادة  في ميدان الحدث وبالتالي تغييب الميدان الحقيقي لصالح الميدان الافتراضي للحدث، وهذا يؤكد -كما يذهب بودريار- قصد تزكية المصداقية على غزو العراق وغيره من دول الشرق الأوسط بل وغيره من باقي دول العالم - مثال رومانيا وقصد محاكمة وإعدام تشاوسسكو 1918 – 1989 م[21] وعلى ذلك يرى بودريار أن الخبر والصورة لم يعودا في قبضة مبدأ الحقيقة والواقع»[22] بل أصبحا في قبضة المحاكاة أو الاصطناع الحاكم على كل أفعالنا من خلال انخراطنا في العوالم الإفتراضية، ووفقاً لما ذكره بودريار  انعكس هذا على الفرد و المجتمع، حيث فقد الفرد هويته في ما يسمى بالشتات الذهني للشبكات»[23] ولم تعد الأفكار الفردية ذات صله بالموضوع واستعيض عنها بالأصوات والأفعال التي تتردد أصداؤها في الشبكات بتضخيمها وتشويهها، وهو ما أدى إلى نتائج عشوائية  غير متوقعة ولا يمكن لأحد أن يتحكم فيها  حيث استعيض عن  الهوية الفردية بالهوية المفرطة (للشبكة أو المجموعة)، ويتساءل بودريار: أليس هذا غريباً  على عكس ما  نشكو  منه، من أنانية مفرطة، وهوس  بالذات و النرجسية الفردية؟ فهل  يكون شيئاً جيداً أن يوجه الناس  أنفسهم  أكثر نحو المجتمعات الافتراضية ؟

هنا يذهب بودريار إلى أنه إذا   لم يكن هناك واقع  مشترك خارجي  يختبر فيه  الناس أفكارهم، فلن  يوجد بذلك أساس لالتقاء  الأفكار، وبالتالي تتلاشى الهوية شيئاً فشيئاً وقد ساعد على ذلك وجود  أشياء في الواقع الافتراضي من شأنها  أن تساعد على  الاغتراب النفسي والاجتماعي للفرد، فلم يعد المرء  في الواقع الافتراضي يتفاعل مع أشخاص آخرين (مؤلف، فنان) فأصبح التفكير ينشط من خلال أدوات  جاهزة تعرض، وأصبح الفرد من خلال العالم الافتراضي يبني عالماً هو أشبه بالمعبودات التي يفضلها،  كذلك أصبحت  الشبكات الاجتماعية، مثل الفيسبوك عالماً منغلقاً على نفسه حيث  يتم اختيار الآخرين وفقاً للتشابه االذي  يتجمع  حوله الناس فيغلقون  تفكيرهم  على أنفسهم في شبكات أو مجموعات، ونتيجة لذلك فإنه نادراً ما يستطيع المرء مساعدة نفسه  على التحرر من الاندماج، و بدلاً من ذلك يحدث  النقيض حيث يدمر المرء  قيم التسامح والتعاطف والفهم للآخرين الحقيقيين، من خلال انغلاق العقول  التي تنحصر في المرسل والمتلقي فتصبح  مماثلة  من دون أي إبداع، ووفقاً لما  يسميه بودريار يحدث نوعاً من الالتواء يؤدي إلى  فقدان المعلومات والتنوع  في الحياة، ولذلك  تؤدي  الزيادة  في  المعلومات إلى نتيجة عكسية حيث  ينتج منها ضآلة القيمة المعلوماتية ولذلك يؤكد بودريار من خلال  عبارته المشهورة  «بأن  ما يزدهر بنفس الطريقة سيهلك بنفس الطريقة»[24] وقد ساعد على ذلك  سببان:

أولاً: مع تكنولوجيا الاتصالات يحدث  انفجار من الرسائل والصور التي  نلتقي حولها والتي  كثير  منها  ينشأ نتيجة التكرار، والازدواجية، والتضخيم من خلال  صدى شبكة  الإنترنت نظراً لسهولة انخفاض تكلفه الاتصالات و ذلك يسمح  ببذل جهد أقل مما ينتج منه تفكك المعلومات  في نهاية الأمر.

ثانياً: إن ما يرسله الناس ويختارونه، عبارة عن ثرثرة ينتج منها انخفاض  للقيمة المعرفية، التي تؤدي لفقدان القيمة المعرفية في بعض الفئات الاجتماعية، وبالتالي فقدان التفرقة بين الآراء والأفكار، وهذا الأمر يتعارض مع طبيعة  الحياة ذاتها، ويشكل شكلاًمن أشكال الانحلال و الموت، نتيجة لتعصب تلك العقول المغلقة، التي تساعد على  قتل الحياة الثقافية، ولذلك ومن أجل بقاء الحياة  من خلال  الاتصالات، فإن ذلك يحتاج إلى فتح هذه المجتمعات المغلقة، من أجل استيعاب الحياة والعيش فيها، ومن أجل ذلك طالب بودريار  بضرورة استيعاب أن عالمنا هو عالم الواقعية المفرطة أو الواقع الفائق، الذي هدم حدود الواقع لينفتح على أضداده لتصبح هذه الأضداد مندمجة فيه، كذلك لابد من فهم أن استراتيجية الاصطناع تعني الاختلاف بين الحقيقي والمزيف فمن منا سيقول مثلا إن الصور المنقولة على شاشة القنوات الإخبارية بالخصوص غير واقعية أيضا؟ صحيح أنها نسخ عن الواقع، لكنها استطاعت أن تحل محله من حيث القيمة وأصبحت أكثر واقعية منه، لذلك ينبغي ألا ننظر إلى الافتراضي والاصطناعي من جهة أخرى «كشيئين متعارضين أو كقطبين متناقضين»[25]، ذلك أن الافتراضي والاصطناعي هما بالفعل أكثر واقعية من الواقعي  ذاته، ونتساءل الآن كيف أثر الواقع المفرط  الافتراضي في منظومة المجتمع المدني ؟ يقدّم بودريار ذلك التأثير من خلال مفهوم المجتمع الاستهلاكي الذي سنعرض له بإيجاز في السطور الآتية.

المجتمع الاستهلاكي

كان من مظاهر التكنولوجيا المعاصرة مايعرف بظاهرة المجتمع الاستهلاكي،الذي  بدأ في الدول المتقدمة  الغنية  كتطور طبيعي، ونتيجة لارتفاع مستوى الدخل، بعد أن أشبع معظم الناس حاجاتهم الأساسية،  وقد ساعد على ذلك ضغط الحكومات والمؤسسات الكبرى لفتح أبواب الاقتصاد، قبل أن يشبعوا  الحاجات الضرورية لمعظم الناس، وقد نظر بودريار لظاهرة  المجتمع الاستهلاكي على أنها نهج سوسيولوجي لمجتمع الرأسماليه الاستهلاكية، جاء مع ذُرْوة المفاهيم المعاصرة  بين ما ذهب  إليه إميل دور كايم (1858 - 1917 م)   لتقسيم العمل وتغيير  التصنيع للمجتمعات من البساطة والاتساق إلى التخصص والاختلاف، وبين  ماذهب إليه ماكس فيبر (1864 - 1920 م)  في التفرقة بين  الأخلاق البروتستانتية و أخلاقيات الرأسمالية، وبالنسبة  لبودريار، كان  الاستهلاك هو السمة الرئيسة للمجتمعات الغربية،  من حيث أنه «الاستجابة العالمية التي ترتكز عليها المنظومة الثقافية بأكملها[26] ويطرح  بودريار مفهوم الاستهلاك  على أنه أصبح وسيله للتفرقة، وليس للترضية، وهو نتيجة  طبيعيه لتولي الهيئات والأفراد  هذه المسألة حيث تلاشى العالم الحقيقي الواقعي  واستعاض عنه بعلامات وهمية من  العالم الحقيقي.

وقد دعم ذلك موجات الدعاية والإعلان لسلع تافهة وغير ضرورية، مع تصويرها بأن الحياة لا يمكن أن تستمر من دونها، حيث أصبحت السلع نتيجة للتواصل الإعلامي والإعلاني عبارة عن منتجات من  الممارسات البشرية، مثل ‹ الشالات الهندي، والمسدسات الامريكيه، والخزف الصيني والتوابل من المناطق المدارية…إلى آخره[27].  وقد نتج من ذلك  توترات شديدة، تفوق بكثير ما أنتجته ظاهرة المجتمع الاستهلاكي من توترات في البلاد التي أبدعتها، وقد نظر بودريار إلى مجتمع الاستهلاك من خلال كيفية التحول من الليبرالية باعتبارها الصورة التي يرى عليها الغرب الرأسمالي نفسه إلى مجتمع الاستهلاك الذي هو الواقع الحالي والنهاية الأخيرة التي وصل إليها هذا الغرب، وقد عبرت دراسات بودريار عن مدى تحول القيم والمثل البورجوازية والأيديولوجيا الليبرالية إلى قيم ومعايير استهلاكية تتحكم بها المؤسسات الكبرى ووسائل الإعلام من خلال نسق من الرموز والعلامات التي لها منطقها الخاص وحياتها الخاصة التي تلغي الحياة الواقعية للبشر، كما عبرت دراساته أيضاً عن  الكيفية التي  يصنع  بها الإعلام والاتصال عالماً صناعيا يمثل واقعاً أكثر واقعية من الواقع نفسه[28] حيث يتحول المجتمع الاستهلاكي المعاصر بهذه الوسائل الإعلامية  إلى أسطورة، ولهذا فهو ليس بحاجة إلى إنتاج الأساطير حسب ما يؤكده بودريار بقوله  «يمكن القول إن عصر الاستهلاك بوصفه المآل التاريخي لكل المسارات الإنتاجية المتصاعدة تحت برج الرأسمالية، وهو أيضاً عصر الارتهان الجذري، فقد شاع منطق السلطة وعمَّ، إذ إنه يسيّر اليوم سيرورات العمل والمنتجات المادية، مثلما يسيّر الثقافة بأسرها والحياة الجنسية والعلاقات الإنسانية، وصولاً إلى النزوات الفردية، وهذا المنطق استرجع كل شيء، لا بمعنى أن كل الوظائف وكل الحاجات قد تموضعت واستعملت لأغراض الربح وحسب، بل أيضاً بالمعنى الأعمق، حيث تمسرح كل شيء، أي تبرمج في خيلات، في علامات، في نماذج قابلة للاستهلاك[29]. 

ويرى بودريار أن ثقافة المجتمع الاستهلاكي في المجتمعات المعاصرة قد وصلت إلى النقطة التي اختفى  فيها الحقيقي واستعيض عنها بنماذج «مصطنعة هي جوهر الواقعية المفرطة، ولذلك يتمحور  قلق بودريارد حول مشكلة السلعة ودورها في المجتمع والثقافة،  وقد أسس ذلك من خلال الرجوع لفلسفة  ماركس العامة في «رأس المال» حيث  جادل ماركس بأن المنطق الأساسي للمجتمعات الرأسماليه هو تراكم الثروة من خلال «الجمع الهائل للسلع الأساسية الذي تظهر في شكلها الأول  كسلع  فردية[30] وقد حاول بودريار تحرير هذا المفهوم الذي ساد  في  القرن 19 من خلال فلسفة ماركس وبخاصة أن حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية كان فيها التقدم في مجال العلم والتكنولوجيا ممهداً للأشكال الجديدة لتحليل السلع الأساسية، و هذا الأمر ينطوي على إشكاليه خاصة في مجال الاتصالات، ولذلك كان تحليل بودريارد متتبعاً المشكلة الأساسية للسلع الأساسيه بوصفها «المشكلة الهيكلية لجميع المجتمعات»[31]، وكان بودريار  يتوقع أهمية دور الاتصال في تحليل السلعة، وبالتالي كان ينظر في  تحليله نموذج السلع الأساسية  من خلال عدسة «شبه اللغويات» حيث  توقع أهمية الاتصال في تحليل الظاهرة الاجتماعية التي لم يتمكن ماركس من القيام بها، ولذلك وجد  بودريار أن ماركس لم يكن قادراً على فهم شكل أبسط مفهوم للسلع الأساسية، ولذلك رأى أن   تحرير التكنولوجيا  في الثورة الصناعية لم يكن تحريراً لقوة محضة، لكنه كان تطوراً تحت سيطرة الجماعات السياسية والعسكرية الحاكمة السابقة، كأداه للهيمنة والتمييز.

وما عزز هذه الفكرة أن مجتمعنا الحالي في واقعه عبارة عن مجموعة معاني من الرموز والعلامات، وأن التجربة البشرية هي محاكاة للواقع، حيث  المفاهيم الحالية للدخل ورأس المال وما إلى ذلك لم تعد تشير إلى الأشياء الحقيقية وأن الاحداث لم تعد وفقاً لمنطق التمثيل الشفاف أو اقتصاد المعلومات[32] وقد جادل بودريارد في أن الزيادة في العلامات والرموز في أواخر القرن العشرين للمجتمع العالمي قد تسببت في كثير من المفارقات المتناقضة.

 وفي الواقع سقطت الثقة في الليبرالية والماركسية،وأصبحنا  نعيش  في حالة من الجدل نظراً لأن العالم الدولي  يعمل على  مستوى  تبادل العلامات والسلع الأساسية، فقد أصبح أعمى  أكثر من أي وقت مضى  للأفعال الرمزية مثل الإرهاب، و تفلت القوة من سيطرة الشركات، و تدخل في الأساطير الاجتماعية بوصفها المورد المفتوح للجميع، وبريئاً، ومتميزاً عن العملية السياسية،  ولذلك  أصبحت التكنولوجيا ليست مجرد أداة للهيمنة على الطبيعة بل هي أداة للإتقان الاجتماعي. وقد ساعد على ذلك ما يعرف بالفكر الجذري ذلك المصطلح الذي نحته بودريار، فماذا يقصد بهذا الفكر ؟

الفكر الجذري

الفكر الجذري عند بودريار  ليس فكراً نقدياً أو جدلياً، بقدر ما يكون فكراً  تأرجحياً يقوم على التسليم بفكرة العلاقة المتوافرة بين الفكر والواقع بمعنى عدم  إحلال الواحد محل الآخر أو النيابة عنه؛ وهذا راجع في نظره إلى عجز الفكر عن امتلاك الواقع الفعلي لصالح الواقع الوهمي أو المتخيل أو بمعنى آخر الافتراضي، وبلغة أخرى «فالفكر الجذري» حسب بودريار هو موت الواقع، إنه الفكر الذي يتبنى ويحتضن المعنى واللامعنى أو الحقيقة والزيف في الوقت نفسه، نظراً لاستحالة تجاوز حالة التوتر الذي صنعه الواقع المفرط،  ويثير بودريار تساؤلات متكررة حول ما سمته ما بعد الحداثة بميتافيزيقا الواقع، نظراً لنتائج التطور التكنولوجي والمعلوماتي التي عملت على تغييب الواقع والدعوة لنقيضه من خلال  الواقع الافتراضي الذي يتميز بإيقاع زمني سريع يفوق قدرة الإنسان على متابعته ومسايرته؛ لذلك تمكن من الإحلال محل وعينا وقدراتنا الإدراكية وأصبح ينوب عنه في ممارسة مهامه وهو في  واقع الحال أصبح يعنى تخلي الإنسان نفسه وبشكل طوعي عن أدوات إدراكه؛ فعلى سبيل المثال لم يعد يثق في حواسه الطبيعية التي منها العين بما تراه وتبصر، لأن شاشات التلفزة وتقنيات المعلوميات أصبحت تمده بما لا تستطيع عينه رؤيته،  وفد أنتج ذلك لنا وضعاً على مستوى آخر هو تجاوز المكان لصالح الزمن؛ لذلك اختفت أهمية المكان بفعل سرعة إيقاع السرعة، فلم يعد مفيداً التمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل،  ولم يعد مفيداً التمييز بين هنا وهناك لأن ذلك أصبح عبارة عن وهم بصري.

 ومن هنا تم تدمير الأزمنة الثلاثة السابقة الذكر، لصالح زمنين اثنين هما : الزمن الحقيقي وهو بالذات زمن البث المباشر، والزمن المؤجل وهو بالذات زمن البث اللاحق ويقصد بودريار بذلك أن قيمة الفكر لم تعد تستمد من تطابقها مع الحقيقة بقدر ما أنها أصبحت تستمد من اختلافه الجذري عنها بمعنى أن موقعه ووجود وعينا قد أصبحا خارج الزمن الواقعي أو لنقل إن وجوده أصبح  دوماً وجوداً مؤجلاً ؛ وفي هذا يقول بودريار إننا لا نوجد واقعياً إلا فيما سماه «باللاوعي والنوم والموت»[33] فالوعي أصبح هو الإيمان بالوجود الوهمي للعالم الذي اعتبره أساس الوجود لا الإيمان بالواقع، وفي هذا يقول بودريار: «إن الغريزة الأهم بالنسبة للإنسان هي غريزة الصراع ضد الحقيقة وبالتالي ضد الواقع،  فالإيمان بالواقع هو بمنزلة الحلقة الأكثر ضعفاً في فهم الواقع أو العالم الذي لا يعدو كونه قد أصبح، حسب تعبير بودريار» المأوى الأخير لحراس العقيدة[34] ويرى  بودريار أن العلاقة التي تربط الفكر بالواقع لم تكن ولا يمكن أن تكون علاقة تطابق بقدر ما هي علاقة توتر مستمر وأبدي؛ ومن هنا فأهمية الفكر الجذري ووظيفته تكمنان في إبراز الهوة القائمة بينهما؛ وهذا ليس بتيئيس بقدر ما هو كذلك بالنسبة للنقد السياسي الذي يتجاهل أهمية الكتابة التي هي المعنى واللغة أو لنقل إنه نقد يتجاهل الخطاب الذي هو عبارة عن تحويل لمواضيع العالم إلى وهم يسمى «بالمعنى» الذي هو في هذه الحالة معنى شقي ؛ ولكن لغة هذه الكتابة تبقى دوماً سعيدة، في نظر بودريار، على الرغم من إحالتها على عالم بلا أمل؛ وهذا بالضبط هو تعريفه مفهوم الفكر الجذري: «معرفة سعيدة وفهم بلا أمل[35] إنه مفهوم يشير إلى وصف المعنى وهمه في الوقت نفسه، وعموماً، فبودريار يحدد موضوع الفكر الجذري في فكرة الوهم؛ وخلفيته في ذلك  هي إبراز أن المفهوم يكون غير قابل للفهم، والظاهرة غير قابلة للقراءة؛ أما التقديم المزيف للواقع فيكون أكثر وضوحاً؛ لذلك يقول: «على الفكر أن يكون ممارسة سرية، تماماً كبيع مادة ممنوعة. أما القاعدة المطلقة فهي جعل العالم غير قابل للقراءة، بل وأكثر من ذلك جعله غير مقروء»[36].

خاتمة

من خلال هذه المفاهيم السابقة التي عرضها بودريار  نلاحظ أنها مفاهيم تساعد على   اختلاط  الهوية باللاهوية الافتراضية اللتين أصبحتا نتاجاً لانتفاضة الذات على نفسها ودخولها في حالة من الاغتراب، لذلك  يصبح الانسحاب والتبديل وجهين  يتجانسين بوفرة في تلك الذات المغتربة،  حيث تنسحب الذات من العالم الواقعي لتتبدل جزئياً أو كلياً،اجتماعياً أوعقائدياً أو سياسياً أو ثقافياً أو جميعهم، فتُنشئ هويتها الخاصة في أرض افتراضية جديدة حيث اللا قانون يحكم، وفوضى الحرية  التي تعد النظام الأساسي فيه، فتصبح تلك التربة هي الأرض الخصبة لإنبات تلك الهويات المستحدثة للذات بديلاً من هويتها الواقعية. مما ينعكس أثره في العالم الواقعي في شتى اتجاهاته  الاجتماعية والدينية والأخلاقية…إلخ، ولعل هذا الانسحاب المتسارع من العالم الواقعي للعالم الافتراضي دليل على عظم الهوّة  بينهما، وحجم التباين بين العالمين حيث عالمنا المعاصر يميل إلى أحدهما ويدعمه بدعائم التطور التكنولوجي والسرعة، فالعالم الافتراضي على سبيل المثال هو عالم يعتمد على التكنولوجيا المتطورة والتي بدورها لا تحتاج إلى تعقيدات أو روتين في إبداء  الرأي أو إثبات الحجة أو أذونات عدة لتقديم هذا الرأي لأحدهم أو لجماعة ما،  بل يمكنك بكبسة زر واحدة أن ترسل رأيك ومضمون فكرك لمئات أو ألوف أو يزيد، معلناً به على الملأ  أن العالم الواقعي  لن  يستطيع مجاراة تلك السرعة أو التطور التكنولوجي اللذين توغلا إلى صميم حياتنا فأصبحا ناقوس خطر يدق باستمرار ليخبرنا أننا نعيش في وجود افتراضي بعيد كل البعد عن العالم الحقيقي، ليتكون هذا الواقع المفرط بعد دمج الواقعين الحقيقي والافتراضي، والذي لا نتيجة له إلا موت الواقع الحقيقي، حيث الاصطناع هو الذي يقول الكلمة التي تسمعها الآذان وتعيها العقول، وحيث كلمته هي الكلمة الأخيرة.

المراجع

المصادر الأجنبية



1- Baudrillard, Jean , The Mirror of Production, trans. Mark Poster, St Louis: Telos., 1975 ,p,

2-  Baudrillard, for a Critique of the Political Economy of the Sign, trans. Charles Levin, St Louis:Telos, 1981

3 -Baudrillard, Jean.Simulacra and simulation (S. F. Glaser, Trans.). Ann Arbor, MI: University of Michigan. (Original work published 1994

4- Baudrillard , The Illusion of the End, trans. Chris Turner, Cambridge: Polity, 1994 ,

5- Baudrillard , Gulf War will  did not take  place , Translated and with introduction Paul  Patton,Bloomington and Indianapolis, Indian university press , 1995

6- Baudrillard, Jean , Symbolic  Exchange and Death, trans. Iain Hamilton Grant,

London, Sage. , 1998,

7- Baudrillard , America, trans. ChrisTurner, London & NewYork:Verso. ,1988,

المصادر العربية

1- جان بودريار :  الفكر الجذري، أطروحة موت الواقع  ترجمة منير الحجوجي وأحمد القصوار  دار توبقال للنشر العام 2006.

2 - جان بودريار «المجتمع الاستهلاكي ـ دراسة في أساطير النظام الاستهلاكي وتراكيبه» تعريب خليل أحمد خليل ـ دار الفكر اللبناني/ بيروت، ط/1995.

المراجع العربية

 - ديفيد كارتر :ترجمة باسل المسالمة، دمشق،  التكوين للطباعة والنشر والتوزيع، 2010 

مواقع الانترنت

1 - أشرف منصور : من الليبرالية إلى مجتمع الاستهلاك موقع الحوار المتمدن http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=85418&r=0

2 - http://mohammed-boujnal.blogspot.com.eg/2011/09/blog-post_3742.html

[1]- Baudrillard, Jean.Simulacra and simulation (S. F. Glaser, Trans.). Ann Arbor, MI: University of Michigan. (Original work published 1994, p, 1

[2]-Ibid ,p, 22.

[3]-Ibid, p, 44.

[4]-Ibid, p, 45.

[5]- Ibid , p, 48.

[6]- Ibid ,p 55.

[7]-Ibid ,p 55.

[8]-Ibid, p, 66.

[9]-Ibid, p, 66.

[10]-Ibid,p, 67.

[11]-Ibid, 88.

[12]-Ibid, 89.

[13]-Ibid,89.

[14]-14-  Baudrillard, for a Critique of the Political Economy of the Sign, trans. Charles Levin, St Louis:Telos,, 1981 , p, 45.

[15] - فرديناند دي سوسير ولد في 26 نوفمبر 1857 وتوفي في 22 فبراير 1913، عالم لغوي سويسري شهير. يعتبر بمنزلة الأب للمدرسة البنيوية في علم اللسانيات. فيما عدّه كثير من الباحثين مؤسس علم اللغة الحديث. عُني بدراسة اللغة الهندية، الأوروبية.

[16]-16 - Baudrillard, for a Critique of the Political Economy of the Sign, p76,

[17] - ديفيد كارتر :ترجمة باسل المسالمة، دمشق،  التكوين للطباعة والنشر والتوزيع، 2010،ص133

[18]-18- Baudrillard , Gulf War will  did not take  place , Translated and with introduction Paul  Patton,Bloomington and Indianapolis, Indian university press , 1995, p 87.

[19]-Ibid , p, 90.

[20] - جان بودريار :  الفكر الجذري، أطروحة موت الواقع  ترجمة منير الحجوجي واحمد القصوار  دار توبقال للنشر العام 2006 ص13

[21]-  نيكولاي تشاوتشيسكو هو سياسي روماني راحل، وكان الأمين العام للحزب الشيوعي الروماني في الفترة من 1965 إلى 1989، وكان هو الزعيم الشيوعي الثاني والأخير في البلاد.

[22]- Baudrillard, Jean , Symbolic  Exchange and Death, trans. Iain Hamilton Grant, London, Sage., 1998, p, 122

[23]- جان بودريار : الفكر الجذري، أطروحة موت الواقع ، ص 13.

[24]- Baudrillard, Jean,] The Mirror of Production, trans. Mark Poster, St Louis: Telos., 1975 ,p, 120.

[25]- Ibid ,p, 120.

[26]-Baudrillard , America, trans. ChrisTurner, London & NewYork:Verso. ,1988,p,122.

[27]-Ibid, p, 136-

[28]- أشرف منصور: من الليبرالية إلى مجتمع الاستهلاك موقع الحوار المتمدن http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=85418&r=0

[29] - جان بودريار « المجتمع الاستهلاكي ـ دراسة في أساطير النظام الاستهلاكي وتراكيبه» تعريب خليل أحمد خليل ـ دار الفكر اللبناني/ بيروت، ط/1995. ص257.

[30]- المرجع السابق: ص 257

[31] 30- المرجع السابق : ص257.

- المرجع السابق : ص،258

[32] - المرجع السابق :ص 258

[33]-Baudrillard , The Illusion of the End, trans. Chris Turner, Cambridge: Polity, 1994,p,22   Ibid ,p, 33-

[34]- Ibid , p, 33.

[35]-Ibid , p, 33-

[36]-http://mohammed-boujnal.blogspot.com.eg/2011/09/blog-post_3742.html-