البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مؤتمر باريسي حول الإعلام العالمي (الميديا بين ثقافة النجاح وخواء المعرفة)

الباحث :  حرّر الندوة: غويلان شِيفريِيِي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  11
السنة :  السنة الرابعة - ربيع 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 14 / 2018
عدد زيارات البحث :  865
تحميل  ( 426.920 KB )
تشكّل هذه الندوة التي ننشر وقائعها فيما يلي واحدة من أبرز المحطات التي يشهدها السجال حول أثر وسائل الإعلام الحديثة في الحياة الاجتماعية والسياسية في أوروبا. فقد انعقدت هذه الندوة في إطار مؤتمر علمي جرى تنظيمه في العاصمة الفرنسية باريس في 23 تشرين الثاني نوفمبر 2002. ونظّمه مرصد حركات المجتمع (Observatoire des Mouvements de la Société / OMOS) تحت عنوان: التمثيلات الذهنية ووسائل الإعلام.

نشير إلى أن هذا الملتقى العلمي الذي شارك فيه عدد من أبرز الأكاديميين شكل فرصة للحكْم على نتائج الروابط القائمة بين المواطن ووسائل الإعلام في سياق فترة ما بعد 11 أيلول، وإعداد الأذهان لحرب ثانية في الخليج. نُشِرَ هذا الكرّاس في جزأين: الأول في العدد 89 من مجلة كراسات التاريخ (Cahiers d’histoire) بتاريخ 2002، والثاني في العدد 90-91 من المجلة نفسها بتاريخ 2003.

المحرر

-----------------------------------

شكّلت العلاقات المُعقّدة التي تُقيمها الديمقراطية والسلطات والدعاية في القرن العشرين موضوع ملفّ عدد أيلول 2002 من مجلّة (Cahiers d’histoire (1).  ركّزنا في ذلك العدد على الأنماط التي تثير فضول الصحافة، لكن أيضًا البنى المفهومية والعقلية التي تمنح الجهازَ الإعلاميَّ إطارَه، مُحاولين في ذلك اتّباع التطوّرات الكبرى التي تركت أثرًا في هذا الميدان في القرن العشرين. إنّ رهان الرأي العامّ يُتيح الفرصة لِسياسةٍ للاتصال (communication)، بملامحها الدعائية. يطرح هذا الرهان السؤال حول الرابط بين الديمقراطية والتعدّدية ودور الإعلام، وبالتحديد التلفزيون الذي هو في قلب المشهد الإعلامي في فرنسا.

إنّ مثال حرب الخليج [الأولى]1991 كان من هذه الناحية معبِّرًا. لكن بمجرَّد أنْ تُفضَح الأكاذيب الإعلامية، بأنّها انعكاس تامّ للأكاذيب السياسية التي تُمجّد مشروعية الحرب، تترسّخ علاقة جديدة خِصاميّة بين المواطن والتلفزيون، وأيضًا مع السياسة والديمقراطية، علاقة تُؤكّدها تحقيقات رأي عديدة حول إزالة تصديق الإعلام المُتلفَز. رأينا، في هذا السياق، بزوغ تقارب في الاهتمامات بين كلٍّ من المؤرّخ، المُتشبّث بالتحقيق الأفضل المُمكن في الوقائع، والمواطن الذي يُواجه إعلامًا جرى التلاعبُ به، وفي قماشة الخلفية الخطر الناجم عن مُصادرة حرية الاختيار (libre-arbitre) ومصادرة فكرةٍ ما عن الحرية في النظام الديمقراطي.

يُضاف إلى ذلك أنّ موضوع هذه المبادرة وتنوّع المشاركين فيها حَمَلَ لنا فائدة كبيرة، ممّا سَمَح بالدفْع أكثر إلى الأمام لحدود هذا التقريب ونواحيه. ليس شائعًا جدًّا أن نجمع حول موضوع عَرَضاني (transversal) باحثين مثل جان-ماري فنسنت (Jean-Marie VINCENT)، الأستاذ في جامعة باريس 8، المُتخصّص في التواصل، واختصاصيّين، مثل مارسيل ترِيّا (Marcel TRILLAT)، الصحافي والمخرج الذي ركّزت آخر تقاريره على دراسة عالم العمل اليوم وصراعاته (بُثّت التقارير على محطة فرانسا 2)، «300 يوم من الغضب، عام 2002 و«الكادِحون» (Les prolos) عام 2003.، أو راوول سانغلاس (Raoul SANGLAS)، المخرج وأحد مُؤسّسي التفزيون الفرنسي، وأيضًا بيار زرقا (Pierre ZARKA)، المدير السابق لِصحيفة «الإنسانية» (l’Humanité)، ومُناضلين مثل كريستيان مارتن (Christian MARTIN)، الناشط السياسي الميداني، وأمين سرّ فدرالية «سارت»  (fédération de Sarthe) التابعة للحزب الشيوعي الفرنسي، وعلماء اجتماع، ومُهندسي اتّصالات، ومؤرّخين...

 لقد سمَحَت هذه المبادرة بالقيام بدراسة مقتضبة شاملة حقيقية للعلاقة بين وسائل الإعلام والسياسة والمجتمع، وللمشكلات المطروحة من خلال موضوع هذا اليوم، من دون إقصاء أيٍّ من المقاربات المتناقضة، كما دفعت قُدمًا بعض مسارات الأجوبة في شكل بدائل. وقد جرى تلخيص (2) المداخلات، وتمّ عرضها وفق ترتيب إلقائها، احترامًا للعبة ردود الفعل التي سبّبتها.

تمثيلات عقلية وثقافية: رهان وسائل الإعلام، رهان سياسي:

بيار زرقا (Pierre ZARKA)، منشِّطُ «مَرْصد حركات المجتمع» (OMOS)، يقدّم الموضوع مُشيرًا إلى الطريقة التي قَلَبَ بها الإعلامُ المرئيُّ والمسموعُ شروط الانفتاح على العالم الخارجي بالنسبة إلى كل شخص منا، وذلك لِجهة التغيير العميق الذي أحدثَه في وعينا وإدراكنا، والطريقة التي نكتسب بها ذيولا من المعارف. إنّ وسائلَ الإعلام هي جزءٌ من ذواتنا. إنّ «السّرعة» و»المُباشِر» دَفَعا بقوّة القدرة الفردية على اكتساب المعلومة. ثمة حالة اختناق تُقاس بحسب الإحساس المُبهَم غالبًا الذي يتركه برنامج تلفزيوني. تنبثق الأحداث كما يخرج العفريت من صندوقه، مُخفيةً علاقات العلّة بالمعلول. وبالتالي، أصبح العابر (fugace) والصدمة معاييرَ للجودة على حساب المُدّة الضرورية للتدرّج الذي يتضمّنها كلُّ استدلال. ومن جهة أخرى، في مناخ لا يُكفُّ فيه عن محاولة البرهنة على إخفاق كلّ إرادة للفكر المُتّسق والذي يسْعى إلى شرْح الكلّ، فإنّ هذه التجزئة مُثقَلَة بالنتائج: فهْم عصرنا ليس هو مجموع عمليات الفهم لكلّ مشكل مشكل.

إنّ العزلة المُلازمة لِمُشاهِد التلفزيون تضعه في وضع قريب من السلبيّة (passivité). إنّ هذه السلبيّة تجعله غيرَ حصينٍ (vulnérable) أمام الأثرين المعلَنيْن: أمام السرعة وأمام تأويلٍ يفرض نفسَه على مُشاهد التلفزيون على أنه بداهة. يكون هناك عملية إعلام (information) عندما يكون هناك، علاقة مشاركة مع إمكانية التفاعل، لا عندما يكون هناك بصبصة (تلصُّص / (voyeurisme. عندما تتجاوز القدرات التكنولوجية كيفيّات (modalités) المشاركة الفاعلة في صنع الإعلام (information) والثقافة، فإنّ الأداة نفسها التي يمكن أن تكون وسيلة اكتساب (appropriation) للمعلومات، تُصبح وسيلة للتجريد (dépossession) من المعلومات، تُقوّي أكثر صورة العجز في المجالين العام والسياسي. إنّ الإعلام المرئي والمسموع، الذي هو نمط اتصال ما يزال جديدًا تاريخيًّا، يطرح أسئلة تتعلّق بالتصوّر وبالسُّلطة. عندئذ يكون مُثيرًا للدهشة أننا نعيش في حقبة زمنية تمتاز بإقبال كبير على وسائل الإعلام فيما غالبية الرجال والنساء فقيرون بالمعلومات. لسنا بصدد أن نُحمّل وسائلَ الإعلام مسؤولية كل آلامنا، بل أن نُحدّد أنهم يجعلون نمطَ تمثيلٍ معيَّنٍ مِعيارًا للنظر إلى العالم وإلى الذات. في هذا السياق، إنّ تعزيز صورة الفرد الخاصة، ومصادرة نظرته الخاصّة إلى العالم هما ميادين كبرى للحرية. بذلك، فإنّ التمثيلات العقلية والثقافية هي رهان سياسي.

أيُّ بديل لِهيمنة «ثقافة النجاح» الإعلامية؟

جان-ماري فنسنت (Jean-Marie VINCENT)، الأستاذ في جامعة باريس 8، والمُتخصّص في الاتصال، يظهر إلى الواجهة فكرة أنّ وسائل الإعلام ليست سوى الجزء العائم من جبل الجليد، وأنها تُتوّج نظامًا فعليًّا بالغَ التعقيد لإنتاج صور المجتمع، أيْ لنوع من المُتخيَّل الاجتماعي (imaginaire social). بتعبيرٍ آخر، إذا أردنا فهْم وسائل الإعلام، لا يمكننا أن نستند في ذلك إلى دراستها وحسب. يتبنّى فنسنت الفكرة التي عبّر عنها بيار بورديو القائلة بأنّ «الرأي العامّ غير موجود». تُفيد هذه الفكرة أنْ ليس هناك مجموع مُعادِل من آراء الأفراد كما تَستخدمه وسائل الإعلام، من خلال إحالتها إلى الأفراد ما يُمكن أن يُنتجوه مُجتمِعين، بشكل تلقائيٍّ.

 في الواقع، إنّ ما تُحيله وسائلُ الإعلام، برأي صاحب المداخلة، من خلال هذا المسعى، هو حقيقة أنّ وسائل الإعلام تُشكّل طرفًا مؤثِّرًا (partie prenante) في بنية العلاقات الاجتماعية المُتعلّقة بالمعرفة والجهل في المجتمع. يَمضي فنسنت في تفكيره، فيشرح أن المجتمع الذي يُقدّم نفسَه لنا من خلال وسائل الإعلام، ليس هو المجتمع الذي نعيشه في الواقع. إنّ الفضاء العامّ هو شيء يجب أن يسْمحَ، من الناحية العملية، بالتعبير. لكن في واقع الأمر، إنّ هذا الفضاء العامّ هو ذروة الفضاءات المُتنوّعة لِلّااِتّصال (non-communication)، وللمؤسسة الاقتصادية التي تتحدّد بخطابٍ إداريٍّ (managérial) في المدرسة حيث يهيمن الإيعاز بفعل الترسيخ. إذا أردنا جمْع فضاءات اللّااِتّصال في الفضاء العامّ، سنفهم بصورة أفضل أنّ وسائل الإعلام هي بمعظمها عنفٌ رمزيٌّ.

إنّ وسائل الإعلام تُقدّم لنا المجتمع تحت شعار الشخصيات الصنميّة (personnalités fétichisées) التي تحتلّ قمة المجتمع، والتي هي منتفخة ومُتكبّرة إلى الحدّ الذي، كما تُبيّن مُجازفة جان-ماري مسيي (Jean-Marie MESSIER)، يمكن أن تُنَفّس (أنْ يُزال عنها الانتفاخ) بسهولة فيتمّ تعويضها مباشرة. إنّ مُقدّمي التلفزيون والمُمثّلين والفنّانين الذين يُمتدَحون باستمرار، هم جزءٌ من هذه الشخصيات الصنمية. إنّ زاوية الذروة تحلّ محلّ التحليل النقدي الصارم. ثمّة ما يُقدَّم باستمرار على أنّه الكمال، وثمّة ما يتمّ إسكاته وحجبه. إنّ صور العالم التي تُوجَّه إلينا هي صور تُضاعف الحقيقة بتجريدها من واقعيتها. مثلًا، لا تُوجد الهيمنة فيها، لكن هناك الذين ينجحون والذين لا ينجحون. إنّ الأحداث المطروحة تُعرَض بوصفها أمورًا تابعة للأفراد، لا عبر ردّها إلى مواقف وسياقات معروضة عرضًا حقيقيًّا.

إنّ وسائل الإعلام تُقدّم لنا أيضًا التقويم كقانون، الظهور (le paraître) والمتألّق اللّذيْن يُفيدان في التسليع (marchandisation). ينبغي أن نُقوِّم أنفسنا لأنّنا في عالَمٍ سلعةٍ حيث يُفترَض أنّ ما يلمع أكثر هو الذي تُكتَب له الغلبة. حسب هذا المنطق، ينبغي تقويم ذواتنا في نطاق المُنافسة، وهو أمر يستتبع الظهور، ومن أجل الظهور يجب أنْ نُقصِيَ ]المنافسين[. بذلك يردّد جان-ماري فنسنت كلام بيار زرقا الذي كان قد شدّدَ على أنه في الكثير من برامج الألعاب التلفزيونية، القاعدة الأساسية هي الإقصاء. إذا كان هناك، من جهة، أولئك الذين يُنظر إليهم نظرة التعظيم، فإن هناك الآخرين الذين قد وقع الحطّ من شأنهم. إن الثقافة التي نعيش فيها هي ثقافة إعلانية )دعائية، إشهارية) على نطاق واسع، ثقافة النجاح والفوز، هي، في جوهرها، ثقافةٌ سلعةٌ.

ما العمل في مواجهة ذلك؟ يُجيب صاحب المداخلة: من الضروريّ خلْق فضاءات مُسْتقلّة للنقاش والاتصال حيث يُمارس المرء الاشتراكية بطريقة مُختلفة. إذا كان هناك مهمّة سياسية كبيرة، فهو يراها في إنشاء هذه الفضاءات، وفي القدرة على ضمّها إلى بعضها البعض، وفي أنْ نصنع شيئا منها يؤلّف مجموعات، يكون وسيلة لتعرية وسائل الإعلام. إنهم يُنتجون لنا المجتمعَ الذي هو ليس المجتمعَ، وينتجون لنا «إلغاءَ الاشتراكية» (désocialiation)، ونحن نُنتج المجتمعَ ونُنتج إرساءَ الاشتراكية (socialisation). 

الحاجة إلى أنْ نحلم: «ستار أكاديمي» (قصّة العِلِّيّة / Lofft story) ، أو ثقافة؟

فيليب ستيرلين (Philippe STIERLIN)، المُهندس-الباحث، يُعبّر عن فكرة أنّ برنامجَيْ «لوفت ستوري» (Loft Story) و»ستار أكاديمي» (Star Academy) هما الانعكاس لِجانبٍ من مجتمعنا. هو يرى فيهما تجلّي حاجة الأفراد إلى أن يحلموا. في الآن عينه، يحتاج المجتمع اليوم، برأيه، إلى القوى الضروريّة لِتحويل الرغبات والأحلام. يُلاحظ ستيرلين أن الرأسمالية تكشف عن قوتها من خلال قدرتها على استعمال رغبات الأفراد والالتفاف عليها، والإغراء، وهو ما نراه يمارَس بوسائل عديدة من بينها الألعاب التلفزيونية. إنّها قوّة منظومة. يوجّه ستيرلين النقاش حول مسألة متناوِبي العَرْض (الممثّلين المؤَقَّتين / intermittents du spectacle) مستعيدًا فكرة جاك راليت (Jacques RALITE) الذي يرى في إلغاء وضع مُتناوبي المشهد «مسألة حضارة، كما مسألة حقّ المؤلّف».

إنّ الوضع النوعي لِعمّال العَرْض (le statut spécifique des travailleurs du spectacle) يؤثّر على مسألة أن توجَد، في المستقبل، شركات تُنتج عروضا، وكذلك مخرجون وممثلون يبرزون... بإلغاء وضع «متناوبي العرض» نُعرِّض للخطر جانبًا من الأنشطة الإنسانية وجزءًا من الرغبات: رغبة الإنتاج لدى الشركات، ورغبة الناس في رؤية عروض غير خاضِعة للِضّوابط. هنا تُعطي الثقافة عن المستقبل فكرة أخرى غير تلك التي يقدّمها بائعو الوهم.

هل لدينا التلفزيون الذي نستحقّ؟

بالنسبة إلى فنسنت برولوا (Vincent BRULOIS)، الأستاذ-الباحث في جامعة باريس 13، إنّ الفكرة القائلة بأنّ لدينا التلفزيون الذي نستحقّ هي فكرة أخطر بكثير ممّا توحي. بوجهٍ ما، هذا يعني أنّنا إنْ كنّا غير سعداء، فإنّ مرجع ذلك إلى خطئنا نحن! ستكون المشكلة في صياغة الطلب، والطلب مفروض على مُشاهد التلفزيون. إنّ ما يفرض نفسَه وراء هذه الفكرة، هو علاقة بين الطلب (مُشاهدي التلفزيون) والعرض التلفزيوني (الذي تُقدّمه المحطات التلفزيونية)، علاقة يكون للطلب، فيها، الأولويّةُ. وهكذا فإنّ صياغة العرض لن تقوم إلّا بالاستجابة للحاجات المُعبَّر عنها، فليس ثمّة منطق تجاريّ غير ذلك الذي يُلبّي مباشرةً أمنياتِ مُشاهدي التلفزيون وحاجاتهم.

إنّ هذه الطريقة في التفكير ليست سوى انحراف عمّا توصّل إليه باحثو المقاربة الوظيفية الأمركية في الخمسينات (3)، الذي يرون أنّ التلفزيون خاضعٌ لرغبات وحاجات فردية. يُعبّر التلفزيون عن نموذج مجتمع يُريد منه (من التلفزيون) أن يكون الطريقة الفضلى للاستجابة لأقصى عدد من الرغبات. بذلك فإنّه يُعبّر عن النموذج الذي يطمح إليه كل مجتمع. لكن ما جرى طمسه بظاهر اليد، كما يشرح الأستاذ-الباحث، ضمن هذه الرؤية التفاؤلية لبناء المجتمع، هي كل تاريخ عملية البناء هذه.

إن هذه الطريقة لتقديم العلاقة بين المشاهد والبرامج التلفزيونية ومُعِدِّي البرامج تَسْمح في واقع الأمر بتبرير نظام حالي لِهذا السوق للإعلام المرئي والمسموع، وربما حتى بتبرير نظام مُعيّن للمجتمع. هذا يسْمح بتبرير عمل التلفزيون الذي يرى أن البرنامج الجماهيري (audience) هي الشّكل السِّلعي لِمُنتجات التواصل في الرأسمالية المعاصرة (4). لأنه، في ما يتعلّق بالاستجابة لِطلب ترتيب حاجات مُشاهدي التلفزيون، فإنّ المحطّات التلفزيونية مُهتمّة بالبرامج الجماهيرية التي تبيعها لأصحاب الإعلانات، وهو أمر يتولّد عنه أنّ البرامج لا تصلح إلا لتجنيد مشاهدين مُحتمَلين ولتركيز انتباههم بين نَفَقَيْن إعلانيَّيْن (5). الفكرة المطروحة هنا هي أنّ التلفزيون هو «مُنتِج برامج جماهيرية تُباع لأصحاب الإعلانات».

كانت إيتيان موجوت (Etienne MOUGEOTTE) (نائبة رئيس قناة فرنسا الأولى TF1) قد أقرّت بأنّها إنْ تقترحْ برامجَ مثل (Star academy) فذلك للاستجابة لطلبات المُعلِنين المتستهدِفين للشباب: «إنّ إشكاليتي بسيطة. يجب أن تبقى TF1 محطّة قائدة تُخاطب كلَّ المشاهدين. لكن بِما أنّ لديَّ اهتمامًا رئيسيًّا ذا طابع تجاري، ولأنّنا نعتاش فقط من الإعلان، يجب عليَّ أن آخذ بعين الاعتبار طلبات الذين يستثمرون في المحطّة، أي المُعلِنين» (6). تتبدّى هنا الفائدة الكبرى من التوقّف عند الفكرة التي طُرِحت في بداية هذا التحليل: مرفق عامٌّ حقيقيٌّ [TF1]، تُرِك بلا نقد، أصبح يُساعد في تأسيس نوعٍ من القَدَريّة وفكرٍ أُحاديٍّ، يمكنهما أن يحتلَّا كلّ المجال المتروك فارغا.

الديمقراطية ووسائل الإعلام: جواب محلّي

يُؤكّد مُخرِج البرامج التلفزيونية راؤول سانغلاس (Raoul SANGLAS) على أنّه يجب أن نضع في الحسبان أنّ التلفزيون سوف يكون أداةَ الإعلام الوحيدة للعدد الأكبر. هل أُنشئ التلفزيون ليغيّر، عند الاقتضاء، وعيَ المواطنين؟ من حقّنا أن نطرحَ هذا السؤالَ على أنفسنا. يُشدّد سانغلاس على فكرة أنّ التلفزيون ينبغي أن يكون أداةً مُسخّرةً للمواطن، بما لهذه الوسيلة من قابليّة لتكون كذلك، لكنّ ذلك يبدو فعلًا غيرَ مُحْتَمَل الحصول أو، على الأقلّ، بعيدًا جدًّا. هو يرى في التلفزيون المحلّي، أيْ التلفزيون القريب ]من المواطن[، الذي يناضل من أجله منذ عشرين سنة كما قال، يراه وسيلةً لِدفع الأشياء قُدُمًا. ويشرح أنّه في نطاق عملية تملّك (appropriation)، على الأقلّ على مستوى المُقاطعة إنْ لم يتيسّر ذلك على مستوى القرية، ينبغي أن تزدهر ورشٌ للإخراج التلفزيوني. ويرى أنّ الموانع، التي وضعتها البلديات أمام من يريد الانخراط في مشاريع التلفزيون المحلّي، تنبع من حقيقة أنّ كل سلطة تمقت القوة المضادّة السلطة (contre-pouvoir)، بما في ذلك بعض البلديات الشيوعية، بالرغم من أنّها تعتبر المواطنية وتدخّل الناس في شؤون المدينة من الأولويّات. تكلم سانغلاس عن تجربة تُجرى حاليًّا في اللورين (Lorraine)، شارك فيها هو نفسُه مع مارسال تريّا (Marcel TRILLAT)، تجربة تأسيس قناة محلّية تبثّ في خمس كومونات من خلال الوصل بالكابلات.

انطلاقًا من كونه يعمل في مجال التلفزيون، أو أنه كان كذلك، يعتقد سانغلاس أنّ التلفزيون المحلّي هو الأرض الملموسة الوحيدة لِتملّك المواطنين لهذه الأداة بأنفسهم. إضافة إلى ذلك فإنّ هذه التجربة هي التي يمكنها، ربّما، أن تبدأ بجعل المواطنين يفكّرون كم يكلّفهم تكييف أوقاتهم مع برامج التلفزيون.

يُطرَح سؤالٌ: كيف يمكننا استخدام وسائل الإعلام السائدة من دون الخضوع لها. هناك تجاربُ تُرشدنا إلى الأجوبة المُمكنة. إنّ المنطق الأدوي (logique instrumentale) لِوسائل الإعلام الإيديولوجية يدْفع إلى استعمال وسائل الإعلام كانعكاس للطريقة التي تعمل بها. إنّ المنطق الأدوي المحض أحدَثَ دمارًا: جورج مارشي (Georges MARCHAIS)، بمعزل عن مسائل التوجيه، عندما استخدم وسائل الإعلام طوال أعوام، قد كان زبونًا ممتازًا. ولمّا لم يعد، بالنسبة إلى وسائل الإعلام السائدة، زبونًا جيّدًا، انبَرَت وسائل الإعلام ضدّه وضدّ الصورة التي كان الحزبُ الشيوعي يُريد إخراجها عنه. السؤال الأساس هو كيف نُعطي قَروئية (lisibilité) إعلامية لحركات اجتماعية، ولفاعلين سياسيين، ولمواطنين، يظهرون أيضًا على وسائل الإعلام السائدة؟ وعلى كل حال ليس هناك أي بداهة مع استخدام وسائل الإعلام كما هي.

تلفزيون الإغواء وازدراء الشعب

يتحدّث مارسال تريّا Marcel TRILLAT)) الصحافي ومُخرج البرامج التلفزيونية، عن دكتاتورية ماكرة، دكتاتورية التجّار الذين تتمثّل أسلحتهم بالإغواء والفتنة. قال في نبرة تعجّبية: «وصلنا إلى حدّ أنّنا، أحيانًا، نتحسّر على أيّام الديوان الفرنسي للإذاعة والتلفزيون (ORTF)!». «نجد من جهة ما كان يُسمَّى البرامج التي كانت تُمثّل، بالرغم من كل عيوبها، ما كنْتُ أدعوه دارًا كبيرة للثقافة.» ذكّرنا تريّا بالبرامج التلفزيونية الهامّة مثل «خمسة أعمدة على القناة الأولى» (Cinq colonnes à la Une) ، «الكاميرا تستكشِف الزمن» (La camera explore le temps)، وكبار مُخرجي البرامج التلفزيونية في ذلك الوقت مثل راؤول سانغلاس، جان برا (Jean PRAT)، مارسيل بلُووال (Marcel BLUWAL)، ستيليو لورنزي (Stellio LORENZI)، وجان كريستوف أفيرتي (Jean-Christophe AVERTY)... كان هناك أيضًا الموظفون الكبار في الدولة، الذين كانوا مؤيِّدين ﻟـ «ديغول» في الغالب، لكنهم كانوا يملكون فكرة سامية حول ضرورة أن يُمنَح الشعب فرصة التثقّف. لقد كانوا يتشاركون هذه الفكرة مع عدد من مُخرجي البرامج التلفزيونية، من اليسار في الغالب. يُشير ترِيّا إلى أنّنا ربما ألفينا هنا تحالفات قديمة تعود إلى حقبة المقاومة الفرنسية. فقد كان هناك قطاع الإعلام التلفزيوني، وصحافيو نشرة الأخبار المُتلفَزة (Journal Télévisé / JT)، الذين كان يُسمّيهم دوغروب (DESGRAUPES) «الصدريّات المُشطّبة» (Gilets rayés) مُشيرًا إلى نسطور (Nestor) خادِم تان تان (Tintin). ولا ينسحب ذلك، بلا ريب، على بعض الشخصيات البارزة مثل فريدريك بوتشي (Frédéric POTTECHER) وغيره... لقد كان هناك لجنة رقابة. وكان رؤساء التحرير في المصالح العامّة والتلفزيون والراديو يذهبون لتلقي التعليمات، كل صباح، في أحد مكاتب قسم الربط الإعلامي بين الوزارات (SLII: Service de Liaison Interministériel pour l’information)، الذي كان قد أُنشِئَ بالقرب من مكتب وزير الإعلام آلان بَيْريفيت (Alain PEYREFITE). كان مُمثّلو الوزارات يأتون ليشرحوا بهدوء لمُدراء الإعلام ما ينبغي فعله وقوله في الصحف في ذلك اليوم.

لقد انتقلنا إلى حقبة زمنية أخرى، بالنسبة إلينا اليوم، لم تَعُدِ الضغوط والرقابة تُمارَس بتلك الطريقة، فالأمور أصبحت أدقَّ بكثير؛ يَتمّ الآن اللّجوء كثيرًا إلى الرقابة الذاتية، وما يؤثّر أكثر هو التواطؤ بين مسؤولي وسائل الإعلام والمسؤولين السياسيين؛ لذلك نجد عددًا من مسؤولي وسائل الإعلام يُغيّرون ستراتهم باستخفاف؛ لقد عرفناهم شيوعيين أو يساريين، وأصبحوا مؤيّدين متعصّبين للرئيس ميتران ثم رأيناهم في صفّ بالادور... لقد وصل بنا الأمر إلى سيادة الإغواء (règne de la séduction). إنّ العلاقة بين مُقدّمي البرامج التلفزيونية والجمهور قد تغيّرت كليًّا. فالمُقدّمون مثلًا أصبحوا، فجأةً، نجومًا؛ ولم يعودوا صحافيين يُخاطبون المواطنين، إنّها علاقة لاعقلانية ولاواعية نشأتْ بين هؤلاء النجوم المُزيَّفين، الذين يجنحون بهيئاتهم الشاحبة إلى محاكاة نجوم السينما، وبين مُشاهدي التلفزيون. في الوقت عينه، قمنا بالتخلّي عن معايير الكيفية لصالح معايير النجاح المُباشر، أي مؤشر عدد المشاهدين (Audimat).

ثم ينتقد التوجيه الذي فَرَضَه مسؤولو القنوات والبرامج التي تذهب بالأساس في اتّجاه ما يطلبه الجمهور، مما أدّى إلى ظهور «ستار أكاديمي» (Star Academy) و»لوفت ستوري» (Loft Story)... يتعلّق الموضوع بإغراء (racoler) مُشاهدي التلفزيون الذين أصبحوا زبائن ولم يعودوا مواطنين، بإغرائهم وسَوْقهم (drainer)، كقطيع الإوزّ، إلى الفاصل الإعلاني القادم.

لقد مثّلت الخصخصة (privatisation) برأيه كارثة حقيقية، لقد كانت هدية القناة الفرنسية الرائدة ]يقصد بالهدية خصخصة القناة[ من دون تعويض على صعيد تقوية الإمكانيات في القنوات العامّة الأخرى. في الوقت الذي يدخل فيه القطاعُ الخاصّ السّوق ]سوق التلفزيون[، في بريطانيا مثلًا، يُعمَل على تقوية الخدمة العامّة؛ إنّ تمويل هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) أكبر من تمويل التلفزيون العامّ في فرنسا، بمرّتين أو ثلاث مرّات. حتى لو أنّ التلفزيون العامّ جنّبنا الانحرافات من نوع البرامج التلفزيونية الهابطة (النفايات التلفزيونية / (télé-poubelle، فإنّ المشكلة تكمن في أنّ التلفزيون يعمل وفق نمط الشركة، مع وجود مدراءُ يُشرفون على القنوات يشبهون مُدراء القطاع الخاصّ، وهم غالبًا من خرِّيجي المدرسة الوطنية للإدارة (ENA). غالبًا ما يشير السجل المهني لهؤلاء إلى انتقالهم من القطاع العامّ إلى القطاع الخاصّ وبالعكس، من خلال الحذاء والملبس أو شيء آخر... يستعملون الضرورة ذاتها لاستمالة الجمهور وفق متطلّبات مؤشر عدد المشاهدين (audimat). يُحدّثوننا عن السياسة الإدارية، أكثر من حديثهم عن النوعية. لا يعيرون اهتمامًا لِمن يسمّونهم «منتجاتهم». [...] لأنهم، بلا ريب، يزدرون الجمهور، أي الشعب.

يسرد قضية دافيد بوجادا (David PUJADAS) الذي قال، بعد إخباره بِما حَدَثَ في 11 أيلول [2001] من قبل أحد مُعاونيه، قال مُتعجّبًا: «هذا مُذهل! سوف نُعِدّ نشرة أخبار جهنّميّة! هذا مُدْهش!...» وبعد ساعات نبّهه أحد الصحافيين قائلًا: «أرأيْتَ نفسك كيف تفاعلتَ منذ قليل؟» وجد صعوبة كبيرة في تبرير موقفه: «حسنًا، نعم.. نحن، الصحافيين، نُشبه قليلًا الأطبّاء، أنت تعلم أننا اعتدنا المأساة، إلخ.». لقد اعتادوا، كما يشرح مارسال تريّا، على التخبّط في الدّم، مُجازفين بأنّهم لم يعودوا يمارسون الصحافة، بل صناعة الفرجة، وبأنهم قد نسوا الأخلاق.

محطّات تلفزيونية، رقمية، محلّية: تلفزيون جديد؟

فرانسيس جاندرون (Francis JANDRON)، مسؤول أنشطة التطوير في مجال الوسائط المُتعدّدة (multimédias)، يُركّز كلامَه على مشكلة تقوية العلاقة بين «المُتلقّي» و»المُرسِل»، والفرصة التي يُقدّمها برأيه سوق المحطّات التلفزيونية الخاصّة، في ما يتّصل بالتجارب والإمكانات الجديدة. إنّ الاتّصال المذكور بين المصطلحين قد أُعِدَّ مُسْبَقًا، لكن عندما يتم إعداد الصور، فإنها تكون جاهزة وتُبثّ من دون أن يكون هناك مجال لتفاعل قويّ: إنّ بناء المُتخيَّل الذي ذُكِر في النقاش لا يمكن أن يحدث في الزمن الحقيقيّ (مُتزامِنًا)، ولا يمكن أن يحدث في التفاعل مع من تمّ تصويره، أيْ مع من له الإمكانية، بوصفه كائنًا اجتماعيًّا، أن يتفاعل مع شاشة التلفزيون. هو يرى في قرار خصخصة محطة القناة الأولى للتلفزيون الفرنسي (TF1) إمكانية نشأة تلفزيون جديد، تلفزيون سيتوقّف عن كونه تلفزيونَ الدولة الذي لم يَعُد يؤثّر، بالمعنى الفعّال للمصطلح، في نطاق علاقته بالفرد. إنّ خصخصة محطة (TF1) كان برأيه محتومًا لأنها كانت قد أصبحت عاجزة على مواصلة العمل، كمحطة تابعة للدولة، في المنافسة العالمية في ميدان التّمثيل (représentation). كما صرّح بأنّه يرى أنّه من الضروريّ الوصول إلى تسوية داخل البنية الفوقية بين التجّار والدولة والبيئات المهنية للإعلام المرئي والمسموع.

ثمّة إمكانات جديدة سوف يقدِّمها النظام الرقميُّ (le numérique). يُطلق المجلس الأعلى للإعلام المرئي والمسموع (CSA: Conseil Supérieur de l’Audiovisuel) هذه السنة دعوة للترشح لتأسيس محطّات تلفزيونية رقمية أرضية. وفق المبدأ، يوجد 331 محطة رقمية أرضية من المُحتمل أن يتمّ إطلاقها ابتداءً من سنة 2004. في دعوته تلك، يُخاطب المجلسُ الذين وافقوا على الاضطلاع بمسؤوليات داخل المجال السياسي المحلّي، وذلك لمُساءلتهم حول التزاماتهم المستقبلية في هذه المسار، من خلال سؤالهم عمّا إذا كانوا سينخرطون في عالم يُهيمِن عليه التجّار، بما يعنيه ذلك من تحمُّلٍ لمسؤولية المشاركة، بوجهٍ ما، في بناء المُتخيَّل؟ عندما يُكون البناءُ مهيمَناً عليه من قبل الاقتصاد، فإنّ الأشياء تبلغ بوجهٍ ما حدودها. لكن جاندرون يرى، في هذا القطاع حيث يُزدَرى «الجانب» (niche) الاقتصادي مِن قِبل كبار الفاعلين، وكبار الرأسماليين، يرى إمكانيّةً لِبلورة عناصر لتجديد نظرية التواصل، أيْ لتجديد علاقة المُشاهد مع تمثيله (sa representation). بذلك، في ما يمكن أن يتحرّك في النزعة المحليّة (localisme) على هذا الصعيد، ألا توجد ورشة جديدة واردة اليوم؟

كتابة التاريخ والقدرة الكلّية لِوسائل الإعلام

أمّا أنا، غيلَانْ شوفرييي (Guylain CHEVRIER)، فإنّ أُقدّم لمُداخلتي بهذا التنبيه، بأنّ «دفاتر التاريخ. مجلة التاريخ النقدي» (Cahiers d’Histoire. Revue d’histoire critique) كانت قد خصّصت عدة ملفّات للعلاقة بين «السلطات والإعلام ووسائل الإعلام»، بخاصّة عدد أيلول 2000 الذي جاء تحت عنوان «الديمقراطية والسلطات والدعاية في فرنسا في القرن العشرين» (3)

ألفِت الانتباه إلى ضرورة التقريب بين اختصاصات البحث وقطاعاته، بهدف الإشارة إلى ضرورة أن يُوضَع في الحسبان حدوث تجديد في بعض المفاهيم التي يُفكَّر انطلاقًا منها في الرهانات المُتعلّقة ﺑ «الاتصال»، تقريب يتجاوز حقل وسائل الإعلام. ومن المدهش أن نرى الخلْط الذي يسود في بعض الأحيان في استعمال مفهوم «الفرد» أو «الحرّية»، وكأنما نتكلّم كلُّنا عن الشيء نفسه عند ذكرهما. إذا كان مجتمعنا يتميّز بتطوّر ما، فإنّ يتميّز، بخاصّة، بالتطوّر الذي يتعلّق بموقع الفرد، وبوضعه وبحالة حريته. منذ عشرين عامًا، كنّا نُفكّر على الجملة بأنّ كل فتح لحريات جديدة كان يحصل من خلال أعمال جماعية. وما أصبح مهيمنًا، اليوم في مجتمعنا، هو الفكرة القائلة بأنّ كلّ فتح لحريات جديدة إنّما يحصل من خلال النجاح الشخصي، الأمر الذي يَميل إلى مُطابقة مفهوم نموّ الشخص، باستبعاد بُعْدٍ كامل من الحياة الاجتماعية.

إنّ هذا الانزلاق يُشكّل مُنعطَفًا في تاريخ الأفكار في فرنسا. فبتحريف مفهوم «الفرد» بهذه الطريقة لَغَمنا العمل الجماعي. إنّ هذا التغيّر رافَقَ تراجعًا للقوى السياسية المُنظّمة التي تُدافع عن فكرة الفتوحات الجماعية لحريات جديدة، والتي هي قوى مضادّة للسلطة (contre-pouvoirs)، بالرغم من أنها ذات أهمية أساسية للديمقراطية. يبدو أنّ هذه القوى لم تُركّز كل اهتمامها على هذا التطوّر الذي أثّر في مجتمعنا تأثيرًا عميقًا، والذي يُواصل التأثير على تطوّر السلوكيات السياسية وعلى التواصل الاجتماعي. إنّ هذا التطوّر على صلة مباشرة بالطريقة التي تُخاطب بها وسائل الإعلام الناس، ويتحدّد بها شكل الرسالة الإعلامية ومضمونها.

يبدو أنّ الرأسمالية قد ربحت، على الأقلّ مؤقتًا، معركة هامّة هنا. إنّ وسائل الإعلام تعكس ذلك كفايةً من خلال المعالجة التلفزيونية للمواضيع الكبرى في المجتمع حيث يحتل بُعد الفرد وطُرُق تلبية رغباته المقام الأول. إنّ منطق التفريد (individualisation) هذا لا يزال يُدرَك بالحواسّ عبر الجيل الجديد من برامج التسلية التلفزيونية مثل «نايس بيبل» (الشعب اللطيف / (Nice People و»بوب ستارز» (نجوم البوب / (Popstars... يكفي النظر بنظارات مناسبة إلى الطريقة التي تتراجع بها المراجع الجماعية (références collectives) لاكتشاف الأضرار المُتولّدة مثلًا من تلك الطريقة التي أدّت إلى إرجاع مفهوم «العلاقات الاجتماعية» (lien social) إلى ما وراء مفهوم «التضامن» (solidarité)، والتي لا تربطها سوى صلة ضعيفة بالصراع الاقتصادي والسياسي ضدّ حالات اللّامُساواة (inégalités)، بل على العكس من ذلك، هي تَسعى إلى تقوية حالات اللّاتوازن (déséquilibres) عبر تبريرها. لقد أصبح التضامن بمثابة الضمير المرتاح للقانون (bonne conscience) الضاري للسوق. بين شكل التضامن الكامن في المساواة في الضمان الاجتماعي (Sécurité sociale)، والشكل المُتضمَّن في الدخل الأدنى للإدماج (RMI: Revenu Minimum d’Insertion) الذي يُقوّي حالات اللّاتوازن، ثمّة عالَمٌ، هوّةٌ من القيم. إنّ وسائل الإعلام، بهذا المعنى، ليست مسؤولة عن تعطيل القوى التقدّمية وقدرتها على المشاركة في المستوى المُراد لِصراع الأفكار الذي يتحكّم في كيفية الأعمال ومعناها.

وراء مفهومَي «الفرد» و»الحرية»، ثمّةَ سيروراتٌ سياسيّة واجتماعيّة وتاريخيّة، هناك تصوّرات مُختلفة للمجتمع تتواجه، ويمكن أن تكون على النقيض من بعضها البعض. للأسف، لا نجد أنّ هذه المناقشة تظهر في الفضاء العام، على الرغم من أنه لا مناصَ منها. إنّ بعض المراجع (références) من قبيل «الأمة» أو «الجمهورية»، أو حتى «الشعب»، قد أُهمِلت في حين أنها تُمثّل الأطُر الكبرى التي تُحدّد مفهوم الجماعة، والتي تستحضر وجهة نظر المصالح المشتركة للأغلبية، التي تقف، تحديدًا، إلى جانب ما يوضَع جماعيًّا ويتعارض مع الفردانية.

إذا ما أمكن لوسائل الإعلام الكبيرة أنْ تُمْنَح سلطةً ما، فإنّ ذلك سيكون بفعل تأثير الجمهور وكذلك تأثير نشْر أفكارها ]وسائل الإعلام[. لكن سيكون من الخطأ تحميلُها مسؤولية سياسية أكثر مما هي إعلامية. لقد كان مثالُ حرب الخليج ذا دلالة كبيرة في ما يتعلّق بسلطة وسائل الإعلام، بالأخصّ التلفزيونية، والطريقة التي هي قادرة من خلالها على إحياء المعلومة بحسب مخطَّط مجرَّب وفعّال في خدمة مصالح سياسية يُمكن ملاحظتها. شكّلت هذه الحرب فرصة لنرى بوضوح دخول مُخطّط دعاية حقيقي حيّز التنفيذ، وهو استراتيجية مُعَدّة سلفًا بمشاركة بعض شركات الاتّصالات التي ابتكرت الشعارات الكبيرة للمُعجم النَّظوف للحرب (vocabulaire propret de la guerre) .

شكّلَ التحالفُ بين الحرب والتلفزيون عنصرًا حاسمًا لفرْض اختيار الأسلحة وإقناع الرأي العامّ بثمنها (4). من جهة وسائل الإعلام التلفزيونية التي تغلّبت، على نطاق واسع، على الصحافة المكتوبة، كان يوجد توّرُّط كبير في هذه النزعة إلى إنتاج أطر عقلية لتلقّي الأحداث، مهيّأة سلفًا لتقبّل قراءة معيّنة للتاريخ الذي يُصنَع، وللذاكرة التي يمكن أن تَنتج عنه. وهكذا فإنّ وسائل الإعلام تصنع التمثيلات (representations) مُباشرة، لأنّ هذه التمثيلات هي التي تقف وراء أفعالنا، وتتحكّم فيها: نتصرّف كما نُفكّر. لنا أنْ نتخيّل، إذًا، الأهمّية التي يمكن أن تُعطى للقدرة على ممارسة تأثير على ما نفكّر فيه من قِبل أولئك الذين يعملون على تطويع موافقة المواطنين لأهداف سياسية لا يستفيدون منها بالضرورة.

لقد كانت حربُ الخليج محطة زمنية لا تُنْسى من وجهة النظر تلك، بل حتّى أنّها تُمثِّل مُنعطَفًا في تاريخ وسائل الإعلام، عبر زواج استراتيجيّ بين الحرب والتلفزيون. لقد كان هذا المُنعطف من جنس مُنعطف آخر أعمّ مثّلته هذه الحرب لتاريخ العالم المُعاصر.

قام بروزُ مفهومِ «الاتصال» (communication) بدور مركزيّ في تطوّر وضع الإعلام (information)، وصولًا إلى هذا الاستعمال للمفهوم خلال حرب الخليج. لم يخرج مفهوم «الاتصال» من أيّ جهة، هو قد تأكّد لصالح طلاقٍ بين الديمقراطية والدعاية، طلاق له تاريخ. حتى لحظة اندلاع الحرب العالمية الثانية، كانت هناك عدّة مُحاولات لإنشاء وزارة للدعاية في فرنسا، كأداة رسمية للدفاع عن الدولة الجمهورية، وأخفقت كلّها. إنّ استعمال الدعاية من قبل نظام فيشي أثبَتَ، بعد هذه الإخفاقات، صورة سلبيّة جدًّا لهذا المفهوم، اُستُخدِمت، بعد الحرب العالمية الثانية، في تبرير طلاق مُلائم بين الديمقراطية والدعاية، مع استمرار استعمال الدعاية بشكل مُبَطّن. وهكذا جرى الربْط بين الدعاية والنظام الشمولي، وعلى رأسه الشيوعية، بينما جرى قرْن حرية التفكير بالديمقراطية، والديمقراطية بالرأسمالية. إن مفهوم «الاتصال» خَلَفَ مفهوم «الدعاية»، وبذلك تمّ بناء أسطورة إعلام من دون رأي قبْليّ، مع تفادي النقاش الضروري حول الإعلام وإرجاع مفهوم «الصراع الأيديولوجي» إلى الكلمات المهجورة الأقلّ قيمة.

لقد جرى إظهار الاتصال بوصفه الصنيعَ المحض للتقدّم التقني، عربةً مُحايدة للإعلام ليس لها جهة اصطفاف، ونوعًا ما، أنبوبًا يستخدمه الصحافيُّ لبثّ معلومة، والذي يكون هو الضمانة لحياده، بعد أن ظهرت التقنية مُستقلّة عن الخيارات السياسية. يتلقّى الصحافي معلومة من أنبوب وينقلها إلى أنبوب آخر، ما لا يعود ذلك يستتبع أي مفهوم للمسؤولية الصحافية إزاء المعلومة التي يُذيعها، إذْ لا مسؤولية غير ما يتعلّق بالتحقّق من صفة مصدر المعلومة. أخيرًا، بِما أنّ معالجة المعلومة هي انعكاسٌ لإطارٍ أوسعَ هو إطار نظام يتحكّم على نطاق واسع في المراجع الجماعية الكبرى، فالمعلومات المُرتّبة بواسطة واقع الحال هذا والمُذاعة على المواطنين من طريق الاتصال تُتلقّى كحقائق مُسلَّمٌ بها أو كحقائق فطرية. يمكن عندئذ للصحافي أن يلوذ بالضمير المرتاح (bonne conscience) للتلفزيون الذي يتطابق مع كونه انعكاسًا لتلك المراجع الكبرى السائدة، كي يُراقب نفسه أو يُطبّق الرقابة. مع حرب الخليج، بلغنا تحت هذه المنظومة الاستدلالية الخاصة بـ»الاتصال» (argumentaire de la communication) قممًا في التلاعب والكذب. نُذكّر بأنّ مارسال تريّا قد كان واحدًا من الصحافيين النادرين الذين اجترأوا على فضْح هذا الأمر، لما كان على أرض الأحداث مراسلا لِقناة فرنسا الثانية (France 2).

يبدو لي أنّه أمر عاجل أنْ نُواجه مفهومَ «الاتصال»، سواء في الفضاء العامّ أو في المؤسّسة، بالتحقّق الضروري من الآراء القبلية التي يخفيها، وذلك لكي نؤسس نقاشا فكريًّا ونبعث الحياة في ديمقراطيتنا. إنّ رفْع الغموض الذي يُغّذيه هذا المفهوم، لا يعني أن يُترَك لوسائل الإعلام القدرة الكلية للأفكار عبر مهمة أسطورية للإعلام. من الواجب الاعتراف بأنّ معظم الأحزاب السياسية والنقابات قد قَبِل مفهوم «الاتصال»، الذي ينقل من الإعلان والتسويق إلى السياسة، من دون الاحتراس من خلال تحليل مُعمّق. ينبغي في هذا الشأن عدم قبول أي شيء كيفما كان، ينبغي أن نعرف كيف نُحلّل من أين يأتي أيّ مفهوم وإلى أين يقود، خشية أن نقبل، دون وعي منّا، أفكارًا ومفاهيمَ قد جرى ابتكارها للدفاع عن نظام يُفترَض أنّنا نحاربه، مع كلّ النتائج التي يمكن أن تنجم عن ذلك.

أخيرًا، إنّ انبثاق معلومة من نوع جديد ترتفع إلى منزلة تاريخ مَعيش في الزمن الحقيقي ]البث المباشر[، بتعزيز من الوسائل التكنولوجية الحالية لـ»الاتصال»، لا يمكنه ترْك المؤرّخ غير مُكترِث، نظرًا للتأثير المُباشر لهذا الأمر على شروط بناء الذاكرة الجماعية. ثمّة ثقافة وهْم بأكملها تستهدف المواطن؛ إنّه وهْمٌ مُضلِّلٌ يصوِّر لنا أنّنا نعيش التاريخ في لحظة حدوثه، وهم يُبرِّر هذا التاريخَ للمواطن بقدر ما أنّ هذا التاريخَ يُفلتُ منه، لكن، وفي الوقت نفسه، يُصوَّر هذا التاريخُ على أنّه في المتناول بلا فاصلٍ زمنيٍّ بشكل ديموقراطيّ ويوصَفُ، زورًا، بأنّه عامٌّ.

إذاعةُ أخبار فرنسا (فرانس إنفو (France Info / هي مثالٌ جيّدٌ على ذلك. إنّ هذه المحطة تُقدِّم نفسها، طوال اليوم، على أنّها تضع في متناولنا معلومات عن العالم مُباشرةً وبشكل متواصلٍ. ومرّةً أخرى، إنّ ما يمنح رؤية ثاقبة عن حدث ما ليس هو الرؤية البانوراميّة، بشكل خاطئ، أو المُباشرة للمعلومة الإعلامية، بل هو المفهوم الذي يُفيد في النظر إلى الحدث، وتحديده، وتحليله، وتمثّله، مقرونا بالتحقّق من صفة مصدر المعلومة. لا يوجد ديمقراطية من دون قوى مُضادّة للسلطة (contre-pouvoirs)، ولا وسائل إعلام ديمقراطية من دون أن تَفرض هذه القوى المُضادّة للسلطة موقعها على بعض الأفكار للتصدّي للخطر المُحدِق بحرياتنا في جميع المجالات، نتيجة هيمنة طريقة واحدة للتفكير.

الرأسمالية والاقتصاد الرمزي للتلفزيون

المهندس بيار موسّو Pierre MUSSO))، المُهتمّ منذ أمد بعيد بِرِهانات الاتصال، يسأل الحاضرين: إذا كانت وسائل الإعلام تبني تمثيلات (représentations) اجتماعية، فما هي تمثيلاتنا حول وسائل الإعلام؟ هو يُريد، منذ البداية، التشديد على العلاقة القائمة بين التمثيلات الاجتماعية، والمتخيَّل الجماعي، وممارسات وسائل الإعلام واستخداماتها. هو يقترح عدم تناول «وسائل إعلام» بشكل عامّ، وإنما وفق خصوصياتها. يُميّز بين ثلاثة أنواع من وسائل الإعلام: الصحافة المكتوبة، الإعلام المرئي والمسموع، أي الراديو والتلفزيون وألعاب الفيديو وحتى السينما، وأخيرًا وسائل الاتصال عن بعد (télécommunications)، أيْ المعلوماتية والانترنت.

استرعى موسّو الانتباه إلى مسألة أنّ النقاش متمحور أساسًا حول التلفزيون، وهو أمر مُمكن فهمه لأنّ الإعلام الجماهيري هو الذي يبني «العلاقات الاجتماعيّة». إنّ التلفزيون هو في قلب الممارسات والتمثيلات الاجتماعية؛ إنّه مفتاح عقد القبّة (clef de voûte) للمُتخيَّل وللأساطير وللذاكرة الجماعية المُعاصرة، أيْ لما يُسمّيه بعض علماء الاجتماع المُتخصّصين في وسائل الإعلام (إليهو كاتز / Elihu KATZY ودانيال دايان / Daniel DAYAN) «الحفلات التلفزيونية» المعاصِرة أو «العروض التلفزيونية» اليومية. يُساهم التلفزيون في إنتاج كل أنواع الأجهزة الرمزية، بما في ذلك السياسية. كما بيّنَ النقاش، لا نستطيع الحديث عن التلفزيون بدون شغف: التلفزيون هو، دائمًا، «رائع» أو «مُرعِب». إنّه يخضع، من الوهلة الأولى، لحكْم معياري، ظنّي. ذلك أنّ وسائلَ الإعلام، وبصورة أعمّ التقنية، تستحوذ على الرمز بأكمله في مجتمعاتنا.

الإله الجديد هو التلفزيون أو الإنترنت، أو التكنولوجيا الجديدة. ينبغي هنا أن نُوسّع التّسْآل عن موقع التقنية في الأجهزة الرمزية، لا فقط في التمثيلات والخطابات. رغم خطابات الإنكار والرفْض والحكْم «المُثقّف»، فإنّ التلفزيون، قبل كل شيء، أداة لإدخال السرور وإيقاظ العقول وللتربية الشعبية. لذلك يجب مُساءلة الإدراك العادي للتلفزيون بنبرة معيارية، بِما في ذلك عند بيار بورديو (5). يجب أيضًا الفحص عن الفارق بين الخطابات والتمثيلات التلفزيونية من جهة، والممارسات والاستعمالات، لأنّ كل الناس جاهزون لإدانة التلفزيون باسم الأخلاق والثقافة و»الموضوعية»، إلخ. لكن في الوقت عينه، كل الناس يشاهدون التلفزيون، الوسيلة الجماهيرية، وما فتئ يزداد الإقبال على مشاهدة التلفزيون: هناك التلفزيون «الجيّد» والتلفزيون «السيّئ»؛ يمكن للاثنين أن يتعايشا.

يجب الانطلاق من الممارسات لا من الخطابات حول التلفزيون: بِما في ذلك ممارسة قادة الأحزاب السياسية، ومنها هذا الحزب (يقصد هنا الحزب الشيوعي الفرنسي)، القادة الذين يدينون باستمرار التلفزيون لأنه مُرْتبط بالسلطة – السلطة السياسية والاقتصادية- وفي الوقت ذاته السباق الحقيقي نحو الشاشات والأماكن البرّاقة الذي يُحرّكهم ليكونوا مرئيّين/مقروئين/مسموعين. لقد أصبح أمرًا مُلحًّا التفكيرُ على نحو مُختلف  ﺑ»التلفزيون» ووسائل الإعلام بصورة عامّة. لا بدّ من حدوث قطيعة نظرية ونقدية، قطيعة «ابستمولوجية» بالمعنى الباشلاري، قطيعة يجب أنْ تأخذ في الاعتبار التأخّر النظري المُرتبط بالجهْل بالأبحاث المُتعلّقة بالاتصال، التي تحققت منذ خمسين عامًا. يُقدّم بيار موسّو في هذا المنظور عدّة ملاحظات للتأمّل.

الملاحظة الأولى، لا يمكن من وجهة نظر موسّو عزْل مسألة التلفزيون عن الأنماط الأخرى لِإنتاج التمثيلات الاجتماعية اليوم. ففي مجتمع تُسيطر فيه التقنيةُ على المجال الاجتماعي والاقتصادي بالكامل (وبخاصّة تقنيات الاتصال والإعلام) تفرض عقيدةٌ تُقدّس التقنية (dogme technolâtre) نفسَها، وهي التي يُسمّيها جورج بالانديي (Georges BALANDIER) «المسيحية التقنية» أو «المُتخيَّل التقني» (techno-imaginaire). من المعلوم أنّ من الأجهزة التقنية الأساسية هو التلفزيون، لأنّه الممارسة الاجتماعية الأولى، وكذلك الانترنت مع كل الصور والخطابات المقرونة بها.

إنّ وسائل الإعلام هي، قبل كلّ شيء، «أجهزة تقنية وصناعية» تحمل المُتخيَّل وتُبلوره وتصنعه: وهكذا، فإنّ خصوصية التلفزيون تكمن في صناعة عمليات الإخراج للرسائل أو للعلاقات الاجتماعية. إذا لم ننطلق من هذه الفرضية فإننا نعود مباشرةً إلى المُناقشات حول «آثار» التلفزيون و»تأثيره» (مَنْ يُراقب، مَنْ يُدير، ما هي «المؤامرة» الإعلامية، إلخ...) ونغوص بسرعة في «الدرجة صفر» من الفكر المتعلّق بالتلفزيون، الفكر الذي يُختصر في أطروحة التأثير المباشر والآلي للتلفزيون على المجتمع والأفراد (مثلًا التلفزيون يُسبّب العنف). لنبدأ على الأقلّ بأنْ نعكِسَ المسألة المسمّاة بـ»مسألة آثار» التلفزيون ولنهتمّ أيضًا بالمُتلقّين، وبـ»ماذا يفعلون بالتلفزيون».

الملاحظة الثانية ذات طابع اقتصادي: فهي تتعلّق بالتلفزيون الذي يُعدّ صناعة، فالتلفزيون هو «صناعة المُتخيَّل» (industrie de l’imaginaire). التلفزيون هو، من وجهة النظر هذه، قزم اقتصادي، هو اقتصاد ضعيف، كما هو الشأن بالنسبة لكلِّ إعلام مرئيٍّ ومسموع (audiovisual): في فرنسا، تُمثّل إيرادات المحطّات التلفزيونية (إذا جمعنا أرقام المبيعات) ما يقارِب 50 مليار فرنك فرنسي، أي أقلّ من 0.5 % من إجمالي الناتج الداخلي. يمكن أن يُقال عن التلفزيون أنه قزم اقتصادي وعملاق رمزي وثقافي. إنّ المجموعات الكبيرة آخذة بالتنوّع في وسائل الإعلام مثل «بووِيغ» (Bouygues) التي تنتمي إلى قطاع البناء والأشغال العامّة (BTP)، الشركة العامّة والشركة الليونية للمياه اللتين أصبحتا على التوالي «فيفندي» (Vivendi) و»السويس» (Suez)، أو لاغاردير (Lagardère) التي تُدير دار «هاشات» (Hachette)، النشر والتوزيع في المكتبات.

إنّ هذه المجموعات الكبيرة انتقلت من الرأسمالية الفوردية التي تُركّز على الإنتاج الصناعي والمُعتمدة على الدولة، إلى رأسمالية «ما بعد فوردية» تُركّز على الخدمات وعلى المنطق المالي. علاوة على البحث في معدّلات الربح الأكثر ارتفاعًا، تهتمّ هذه المجموعات ببناء المُتخيَّل الاجتماعي والفردي: ليس علينا سوى إدراك كيف تعمل مجموعات مثل زارا (Zara) و»بينيتون» (Benetton) و»برلسكوني» (Berlusconi) منذ السبعينات. يهدف منطقهم إلى بناء طلب المستهلك، وبالتالي العمل على مُتخيَّله وتمثيلاته. نحن لم نَعُدْ بعْدُ في نطاق الرأسمالية الفوردية حيث إرشاد الصناعة يتمّ «قبل عملية الإنتاج» (par l’amont de la production) ، فالمنطق ما بعد الفوردي لإنتاج الخدمات يعمل بعد عملية الإنتاج (par l’aval de la production)، أي بالتأثير على المستهلك، من خلال الإسهام في البناء الجماعي (co-construction) لرغباته ولآماله وبالتالي البناء الجماعي «لطلبه». هذا ما تفعله «زارا» و»بينيتون» مثلًا في مسألة الثياب: فهم يرون من خلال أنظمة إعلام مُعقّدة المُشتريات والأذواق والسلوكيات لدى المستهلكين في متاجرهم ثمّ يبعثون هذه المعلومات إلى مكاتب التصميم وأنظمة التصنيع. إنّ صاحب مصنع حواسيب (DELL)، يُصمّم لك حاسوبك وفقًا لرغباتك ويبدأ بعدها بالتصنيع (وبالتالي: المخزون صفر). إنّ هذه السيرورة ليست من مختصّات الاتصال، إنما تُشكّل ميزة للمرحلة الحالية لتطوّر الرأسمالية. لكي نفهم موقع التلفزيون في المجتمع، يجب أنْ نتموضع في هذه المرحلة بالذات من تطوّر الرأسمالية. انطلاقًا من اللحظة التي يتم فيها توجيه التصنيع بالطريقة البَعديّة (par l’aval)، أي انطلاقًا من رغبة المستهلك، يصبح من المناسب البناء والبناء الجماعي لمُتخيَّلٍ لهذا المُستخدم، من أجل تنظيم رغبته. لهذا السبب تحتاج الرأسمالية المعاصرة إلى صناعات المُتخيَّل وأن تعمل على التمثيلات الاجتماعية وعلى المُتخيَّل. إنّ الرأسمالية بحاجة إلى مَسرحتها (théàtralisation) الخاصة، وإلى عرضها (mise en spectacle)، كما سبق أنْ حلّل بعمقٍ غي ديبور (Guy Debord).

 إذا كانت مؤسّسات الاتّصال قد أصبحت مركزية، فإنّ ذلك، بكل بساطة، لم يتحقق بفضل قوتها الاقتصادية، بل لأنّها تقع في قلب التطوّر الحالي للرأسمالية. إنّ مؤسّسات الاتصال، مثل فيفندي يونيفرسال (Vivendi Universal)، وشركات هوليوود، إلخ.، إنّ هذه المجموعات الصناعية الخاصّة بالإعلام المرئي والمسموع أو بالوسائط المُتعدّدة قد استولت على القدرة على المشاركة في إعداد صور ومُتخيَّلات جماعية، أي القدرة على استرقاق (vampiriser) الحقل الثقافي. يمكن أن يصل هذا الأمر إلى حد إنتاج أفخاخ ونبوءات ذاتيّة التحقق: وعلى هذه الشاكلة الإعلانات حول «الثورات التكنولوجية» الموجِدة لحاجات جديدة ولمجتمعٍ (يُسمّى مجتمع «الإعلام»). إن الهاتف الجوّال المُتعدّد الوسائط من الجيل الجديد (UMTS)، مثلًا، شكّل فخًّا جماعيًّا كبيرًا تمّ اختراعه في أوروبا من قِبل مُصنِّعي الهواتف: هذا الأمر أفضى إلى استثمار ألفي مليار فرنك ]فرنسي[ في أوروبا، ثمّ حدثت الكارثة المالية الكبرى (لأنّ «الفقّاعة» الخيالية والمالية قد انفجرت).

إن عمل المصانع هذا في موضوع المُتخيَّل يمكن أن يُدفَعَ به إلى الدرجة القصوى إلى حدّ الاستيلاء على السلطة السياسية. إنّ «الهوليووديين» قد اكتسبوا القدرة على بناء مُتخيَّلات، هم قادرون على الوصول إلى حدّ استرقاق المجال السياسي، وبرلسكوني خير مثال على ذلك. فهو قد استولى على السلطة في إيطاليا ليس فقط بسبب أنه يملك ثلاث محطات تلفزيونية، بل لأنّه قد امتلك القدرة على استرقاق المُتخيَّل الجماعي وبالتالي استرقاق المجال السياسي من خلال عمليات العرض التلفزيونية. لذا، يجب علينا عدم الاقتصار على إنشاء رابط آلي بين السلطة ووسائل الإعلام، من نوع: المُرسِل (émetteur) يُسيطر أو يؤثّر، بل «يُدير» مُتلقّين (récepteurs) يفتَرَضُ أنّهم سلبيّون (passifs).

هذه الخطاطة التبسيطية ينبغي التخلّص منها عاجلًا. إذا لم نقمْ بهذه القطيعة، فشوف نشاهد الجديد –الذي بلغ الثلاثين عامًا- مع القديم. أعرف جيّدًا أنّ هذا يُجدّد التأكيد على الذهاب للبحث عن خطاطات ماركسويدية (marxoïdes)، خصوصًا عندما يُضاف إليها طبقات من ماك-لوهن (McLuhan) ومن «الميديولوجيا»، لكنّ ذلك لا يكفي لتوفير شبكات نظرية مُناسبة لفهْم موقع وسائل الإعلام في الرأسمالية المعاصرة. ينبغي بناء مفاهيم وأدوات نظرية جديدة للتفكير في «الاقتصاد الرمزي» المُعقّد للتلفزيون.

الملاحظة الثالثة والأخيرة حول التلفزيون. إنني أتّفق مع مارسال ترِيَّا حول ما قاله بشأن تلفزيون زمن الديوان الفرنسي للإذاعة والتلفزيون (ORTF)، أعني ما يُسمّيه أمبرتو إيكو «التلفزيون القديم» أو «باليوتلفزيون» (Paléotélévision). لأنه يجب علينا أيضًا أن نُدركَ أنّ التلفزيون مَرَّ بِأشكالٍ مُختلفة جدًّا. هناك على الأقلّ ثلاثة أنواع من التلفزيون في فرنسا (وفي عدّة بلدان أوروبية) منذ الستينات. الأول هو التلفزيون التابع للـ (ORTF) والاحتكار العامّ، الذي كان يَعهد بدورٍ مركزيٍّ للدولة لكنه كان يميّز، وهو ما أشار إليه تريّا، بين البرامج، التي يحظى المُخرجون فيها بهامش كبير من الحرية، وبين الأخبار، التي تَتَحكّم بها السلطةُ السياسية بصرامة. لكنه كان تلفزيونًا يقوم على المُرسِل والرسالة («التلفزيون القديم / الباليوتلفزيون»، وفق تعبير إيكو). إن المُرسِل كُلّي القدرة (مثال: تلفزيون الجنرال حيث كانت صورة فوتوغرافية لِوجه الجنرال، مأخوذة عن قرب، تحتلّ كامل الشاشة)، لكنه أيضًا تلفزيونٌ «نافذةٌ» يُتيح للعدد الأكبر اكتشاف العالم والأدب والمسرح والسيرك، إلخ...

في هذا التلفزيون النافذة (télévision-fenêtre)، يكون عقد المشاهدة الذي يتمّ إبرامه ضمنًا مع مشاهد التلفزيون هو عقد قائم على الحقيقة والواقع (التاريخي أو الواقع الاجتماعي)، إلخ. يجب على التلفزيون أن يقول (أو ينبغي عليه أنْ يقول) الحقيقة، وأن يصف الواقع «الصحيح». عقدُ المشاهدة، هذا، قد مُزِّق مع ظهور «التلفزيون الجديد» (néo-télévision) وذلك طوال السنوات 70-80 لا سيما مع ابتكار التلفزيون التجاري الذي تمظهر في فرنسا في خصخصة محطة TF1 وفي ازدياد إيرادات الإعلانات، وازدياد عدد المحطات (المحطة 5، المحطة TV6 التي أصبحت M6، إلخ). عقد المشاهدة المُبْرَم مع مُشاهد التلفزيون أصبح، مع هذا التلفزيون الجديد (Néo-TV)، قبل كل شيء عقدًا قائمًا على المشهد والعلاقة.

لم تعُدْ «صحّة» الرسالة هي التي تهمّ، وإنما العلاقة بين مشاهد التلفزيون وقرينه، الكامن في الجانب الآخر من الشاشة (انظر التوك-شو (Talk-show) أو اللعبة). من خلال التوك-شو (talk-show) يجتاز مشاهد التلفزيون (والجمهور) الشاشة، ويدخل مسرحَ البرنامج التلفزيوني (plateau). يُصبح مسرحُ البرنامج التلفزيوني هو العنصرَ المركزيَّ، إلى جانب المُنشِّط والمُشاهد التي تمّ دمجه في عملية العرض (mise en scène) والجمهور الوهمي الذي يُصفّق ويبتسم عندما يُطلَب منه ذلك. هناك، يحدث انشطار المشاهد، الذي أمام الشاشة والذي «خلفها»، وتنشأ علاقة تعاطف انفعالية، بين التلفزيون والجمهور. إنه، كما قال دومينيك مال (Dominique MEHL)، «تلفزيون علائقي». إنه تلفزيون المُتلقّي الحاضر في الآن عينه أمام الشاشة وعلى مسرح البرامج التلفزيونية: بذلك يصنع التلفزيون الجمهور الفئوي كما في برنامج «لِتسْقطِ الأقنعة» (Bas les Masques) للصحافية ميراي دوماس (Mireille DUMAS)؛ ومن هنا، فإنّ الفضاء العامّ والفضاء الخاصّ قد أصبحا مُنصهرين بالكامل في بعضهما البعض.

هذا التلفزيون الجديد يعمل على تعميم الحياة الخاصّة وتخصيص الفضاء العامّ: كل واحد يمكنه أنْ يذهب (وأنْ يحلم بأنْ يذهب) ليرويَ تفاصيل حياته، الحقيقةُ هي المعيش الخاصّ بكلّ شخص يظهر على الشاشة (انظر «هذا اختياري» (c’est mon choix) مثلًا)، كل واحد يعرض نفسه وبذلك يُخصِّص الفضاءَ العامَّ. ينسحب ذلك على المُمارسة اليومية في ما يتعلّق بالهاتف: فالهاتف الثابت يسمح بإدخال الفضاء العامّ في الفضاء الخاصّ والمنزلي (رنين الهاتف يُذكّر بذلك)، فيما يُتيح الهاتف الجوّال بأن يصطحب المرء في نزهة عالمَه المنزلي ﻛـ»فقاعة» في الفضاء العامّ (وأن يُعمِّم «شؤونه المنزلية الصغيرة»). إنّ التلفزيون الجديد (néo-télévision) والتلفنة الجوّالة (téléphonie mobile) يُساهمان بشكل يومي في هذا الامّحاء (اللعِبيّ؟ / ludique ?) للحدود بين الفضاءيْن العامّ والخاصّ. إنّها مُمارسات اجتماعية ينبغي تحليلها، وليست إنتاجًا مكيافيليًّا لِسلطة ما.

ألقى بيار بورديو مُحاضرة حول التلفزيون لكنه، في الواقع، لا يقصد إلا التلفزيون التجاري الذي هو ليس سوى واحدٍ من أشكال التلفزيون، وهو أقلّيٌّ من جِهة المشاهدين؛ لا يتحدّث بورديو عن التلفزيون العامّ ويتجاهله، على بالرغم من أنّه يُمثّل 30 % من الجمهور، ولا يتحدّث عن التلفزيون بأجر (مثل «كانال بلاس» (Canal Plus) أو المحطات التلفزيونية ذات البثّ الفضائي وبالكابل التي تُمثّل 30 % من الجمهور).

بلا ريب، كلّ الناس قد فَهِموا عمل التلفزيون التجاري: إنّه منطق الوقت الضائع المُحوَّل إلى جمهور؛ لأنّ وسائل الإعلام هي تحويل الوقت إلى جمهور أو الوقت الجماعي إلى نشاط اقتصادي، فليس ذلك خسارة للوقت وإنما تحويل الوقت إلى نقود. هذا هو نموذج TF1 وM6 وبرلسكوني، وكذلك نموذج تلفزيون الشبكات في أميركا الشمالية منذ نشأته. لكنْ أيضًا، شكل خاصّ للتلفزيون في فرنسا، هو ذلك الشكل الذي سادَ في الثمانينيات ولا يزال قويًّا جدًّا من جهة الجمهور.

لكن هناك شكل ثالث للتلفزيون بَرَزَ منذ خمسة عشر عامًا ويُمثّل 35 % من الجمهور، أيْ 35% من الإيرادات، إنه التلفزيون بأجر، بالاشتراك، مثل كانال بلاس (Canal Plus) والمحطّات التي تبثّ بالكابل أو عن طريق البثّ الفضائي، الذي لا يتوقّف جمهوره عن الازدياد. إنّه شكل جديد للتلفزيون، هو تلفزيون الاشتراك والتواصل. من الآن فصاعدًا، ما يهمّ هو أنْ يكون الناس متواصلين بالشبكة ومشتركين، ومقدم الخدمة يجتهد في تأليف (fidéliser) مُشتركيه... ولكي يبيع لهم باقات من الخدمات تُسمَّى «الوسائط المُتعدّدة» (كان ذلك قلب استراتيجية فيفندي (Vivendi) في عهد مسيي (Messier)). إنّ تلفزيون التواصل والعلاقة المزيّفة هذا، لم يَعدْ فقط تلفزيون المشهد والعرض، إنه على نحو نموذجي التلفزيون الذي يعرضه تلفزيون اليوم. إنّ التلفزيون يعرض نفسَه بنفسه: إنّه هو موضوعُ نفسِه. يُصبح كذلك «فاعلا» (acteur) مُؤثّرًا في مصير مُشاهديه (Loft Story، Stars Academy، Popstars، إلخ). إنّ ما يتم عرضه الآن هو الجمهور الذي يصبح كاتب السيناريو المُشارِك (co-scénariste) كما في برنامج (Loft Story) ويصنع مصيرَ المُشاركين فيه أو نتيجةَ اللعبة بتدخّله في البرنامج. الجمهورُ كفَّ عن أن يكون «سلبيًّا» (passif)، إنّه جمهور فاعِل (acteur). يمكن إدانة هذه البرامج أو الدفاع عنها، لا يهمّ: إنّه حدث اجتماعي يُغذّي التمثيلات والخطابات والمبادلات اليومية. إنها برامج تلفزيونية تقوم على عرض التواصل والعلاقة، «إننا على اتّصال»، إننا «مُتّصلون»، «نتفاعل» من خلال التلفزيون (يمكننا أن نضمّ الهاتف أو الانترنت، كما في برنامج (Loft Story)؛ بتعبير آخر «التواصل موجود» (ça communique)، إننا هنا معًا نتّحد في الرأي، ونتشارك البرامج ذاتها والانفعالات ذاتها (كما في الحفلات التلفزيونية الكبيرة على غرار الألعاب الأولمبية أو كأس العالم لكرة القدم). فليس مهمًّا المضمون والمعنى، ما يصنع المعنى هو التواصل والاجتماع وتشارك الانفعالات: لقد أدركنا ما قاله برنار نويل (Bernard NOEL) منذ عشر سنوات، الرقابة، أي فقدان المعنى. وليس ثمة حاجة من أجل هذا الأمر رقيب أعلى (super-censeur).

إنّ التلفزيون الحالي يجمع ويُؤمِّن التشارك: من خلاله يلتئم المجتمع المُفتّت والمُتشظّي ويتشارك في الانفعالات والأحاسيس. الأمر لا يتعلّق بالواقع. إنّها، وفقا لتعريفها، برامج تلفزيونية تخلط بين الوهْم والواقع، وبين الخاصّ والعامّ، وبين الجمهور والمُشاهد أمام الشاشة وخلفها؛ يُنتِج هذا التلفزيون المعاصر عرْض العلاقة والرابط الاجتماعي. إنه مظهرٌ خدّاعٌ (simulacre) أو رِمامةٌ (prothèse) للرابط الاجتماعي. لهذا السبب شهدت برامج تلفزيونية على غرار برنامج «قصة العِلِّيّة» (Loft Story) نجاحًا شعبيًّا، لا سيما وأنّ برنامج «قصة العِلِّيّة» قد نجح في عرْض قلق المُراهقين ضمن علاقتهم بالمؤسسة الاقتصادية وبالإدماج الاجتماعي والمهني (انتقال المراهقين إلى عالم البالغين، إلى عالم المؤسسة، من خلال تنظيم الدخول والخروج، انظر وظيفة انتقال «ساس» (sas) بين العِلّيّة (Loft) والخارج). إنها برامج تلفزيونية مُعدّة بإتقان بالنظر إلى إنتاج الصور والمُتخيَّلات.

أُشدّد إذًا على هذه الأشكال المتنوعة للتلفزيون الفرنسي الذي يتطوّر كثيرًا مع المجتمع ذاته الذي يُمثّل التلفزيونُ مرآتَه وكشّافَه، بل أداةَ تحليله. ينبغي إذًا الحديث عن التلفزيون بأشكاله المُختلفة؛ تلك الأشكال الثلاثة المُنضَّدة، التي ذكرتُها، تُشكّل تلفزيون اليوم: الخدمة العامّة ]التلفزيون الحكومي[، حتى وإن أُضعِفَ، والتلفزيون التجاري والتلفزيون بأجر. عند الحديث عن «التلفزيون» يُخشى من وقوع الخلط باختزال الكل في كلمة واحدة؛ يجب التمييز بين وسائل الإعلام، وليس هذا وحسب، بل يجب التمييز بين الأنماط التلفزيونية، لا سيما وأنّ هناك أنماطَ تمويل، وأنماطَ تنظيم مخصوصة لكل نمط من أنواع التلفزيون. إنّ بعض البرامج التلفزيونية مثل برنامج «دمى الأخبار» (Guignols de l’Info) و»نشرة الأخبار الصحيحة» (Vrai Journal) اللذين يُعرَضان على «كانال بلاس» (Canal Plus) تذهب في اتّجاه احتفال ذاتي للتلفزيون، له بعده الاقتصادي. هناك تطابق بين اقتصاد الأجر (péage) وهذا النوع من البرامج التلفزيونية، لأنّ ما يهمّ هو الترابط والتواصل والشعور بالانتماء إلى نادٍ وجماعة تلفزيونية تتشارك بعض الانفعالات. ما يُقوَّم على المستوى الاقتصادي، هو الانضمام إلى «نادٍ» (يضمّ مُشتركين مؤَلَّفين (abonnées fidélisés)، وما هو مُقوَّم رمزيًّا، بشكل أساسيّ، في ما يتعلّق بالتلفزيون التجاري، هو التواصل والمشاركة والترابط.

هو يرى طريقين كبيرين مُمكنين للتأثير في التلفزيون:

الطريق الأولى: في بناء تنظيم مرئي ومسموع جديد. يجب أن نُحاول التفكير وأنْ نقترح تنظيمًا جديدًا وخدمة عامة جديدة مُدَقْرطة (démocratisé)؛ لا يمكن أن يكون ذلك عودة إلى الديوان الفرنسي للإذاعة والتلفزيون ORTF)) السابق الذي كان خدمة عامّة حكومية بالرغم من كل الجودة التي كانت قد تمّيزت بها مدرسة [أستوديوهات] «تلال شومون» ([studios[Buttes Chaumont) وبالرغم من العدد الكبير من ساعات الإبداع في الستينات والسبعينات. إنّ نقد الحركة الاجتماعية التي تشكّلت في أيار 1968 ركّزت على هذا الأمر: إنّ احتكار الـ (ORTF) قد موثِل باحتكار حكوميّ وسياسي. لأجل ذلك يبقى علينا بناء نمط جديد للخدمة العامّة [التلفزيون الحكومي] ومسؤولية عامّة واجتماعية لضمان الحقّ في الاتصال المرئي والمسموع (والإنصاف في تمثيل التيارات النقدية للأمور التي هي مواضيع للصور؟).

الطريق المرسومة الثانية، ضمن العمل النظري لتحليل هذا الغرض الاجتماعي الأساسي الذي لم يُفكَّر فيه إلا قليلًا والذي هو التلفزيون، والذي هو «طوطم» حقيقي في مجتمعاتنا، هناك الكثير يجب فعله في عمليات التعلّم، ولا سيّما في المدرسة والجامعة وحتى في المؤسسة الاقتصادية، من أجل الاستحواذ على ملكية الصورة والتلفزيون بعامّة. إنّ ليْئكة الإعلام المرئي والمسموع جارية. ما أنجِزَ للمدرسة العامة منذ قرن يمكن إنجازه للتلفزيون. إنّه رهانٌ للمجتمع وللمواطنية. نحن كلّنا لسنا مُضطرّين للبقاء عصاميًّين أمام التلفزيون. يمكن الاستيلاء على لَيْئكة التملّك الثقافي والاجتماعي للإعلام المرئي والمسموع، بما في ذلك ضمن ممارسات إنتاج تلفزيوني بديلة عبر تلفزيونات شراكة أو من خلال تدخّلات مباشرة للمواطنين في وسائل الإعلام المرئي والمسموع.

التعدّدية ووسائل الإعلام والقُوى المضادة للسلطة

يعتقد عالِم الاجتماع ميشال مولر (Michel MULLER) أنّ المسألة التي تُطرَح اليوم هي التالية: إلى أي مدى تُشكّل وسائل الإعلام عواملَ فاعلة في المناقشة التعدّدية التي يجب أن تُؤثّر في مجتمعنا؟ إذا افترضنا أنّ وسائل الإعلام ليست إلا مجموعة عوامل فاعلة لا صاحبة المسؤولية الرئيسية عن لألأة (opalization) الأذهان، يمكن أن نأمل أن بإمكانها أن تُشكّل اتّجاهات المناقشات المتناقضة التي تُغذّي حياة الأفكار. تُفيد الملاحظة أنّ وسائل الإعلام لا تؤدّي هذا الدور أو تؤدّيه بقدر قليل.

ثم يعود ميشال مولر إلى المفهوم القديم للتعدّدية الذي كان سائدًا في العصر «المجيد» للصحافة المكتوبة. كانت التعدّدية تتمفصل حول قطبين: قطب الصحافة المسمّاة البورجوازية، وقطب الصحافة الشيوعية. إن هذا المفهوم التاريخي لم يوجد له بَديل. إنّ فكرة إنشاء مجموعة هوما (groupe Huma) مع مجموع الصحافة الشيوعية اصطدم بعدّة عمليات مقاومة وأخفق، بينما في كل مكان تعاقبت التّكتّلات.

الميزة الثانية التي لا تسمح لنا بالإجابة هكذا البتّة، هي تفجّر تكنولوجيات الاتصال الجديدة، ممّا سَمَحَ بتخيّل فضاءات مُحتملة بهدف خلْق أماكن للمناقشات، وإمكانية حصول مناقشات متعارضة، حيث يكون بناء ثقافة خاصّة بالحركة الشعبية أمرًا محتملًا. على العكس، رافَقَ ظهورَ تكنولوجيات الاتصال الجديدة تركيزٌ هائل لم يُشهَد له مثيلٌ مِنْ قبلُ. إنّ مجموعة مثل «جنوب-غرب» (Sud-Ouest)، وهي صحافة إقليمية، لا تَدين للصحيفة-العنوان «جنوب-غرب» إلّا بنسبة 40 % من رقم معاملاتها. أعني أن 60 % من نشاطها يرتبط بالتلفزيونات المحلّية، والصحافة المجانية وبمُنتَجات أخرى، حتى نستخدم مصطلحًا مُلائمًا. يمكننا أيضًا مُلاحظة أنّ أشكال الاتصال الجديدة التي تتعاقب لا تحلّ محلّ الأشكال السابقة بل تنضاف إلى بعضها البعض. وهكذا، فإنّ الصحافة المكتوبة لا تزال تُشكّل اتّجاهًا أساسيًّا للإعلام رغم هذه التطوّرات، مع تسعة ملايين قارئ لها باليوم. لتوضيح هذا التركيز الخارق لوسائل الإعلام، نشير إلى أنّ 67 جريدة يومية في فرنسا هي ملك لـ 25 شركة نشر فقط. وحدها مجموعة سوبريس-فرانس-أنتي (Sopresse-France-Antilles)، أيْ مجموعة [عائلة] «إرسان» (Hersant)، تملك 17 صحيفة.

نجد أنفسنا اليوم مع مجموعتين حاكمتين: مجموعة داسّو (Dassault)، ومعها سوبريس-فرانس-أنتي (Sopresse-France-Antilles)، بِما أنها أصبحت المُساهم الأول في مقابل عائلة «إرسان» (Hersant) التي لم تعد المُساهم الرئيسي، ومن جهة أخرى مجموعة «أشيت-لاغاردير (Hachette-Lagardère). تملك المجموعات الصناعية الأولى في مجال صناعة الطائرات والتسليح (داسّو ولاغاردير) وفي قطاع البناء والأشغال العامّة(BTP)  (القناة الأولى (TF1) وقناة الأخبار(LCI)  تنتميان إلى مجموعة «بُويغ» (Bouygues))، تملك هذه المجموعات، في الوقت عينه، وسائل الإعلام الرئيسية. ما الذي يمكن بناؤه إلى جانب ذلك؟ ما يهمّ اليوم هو كيف نخلق فضاءات بعيدة عن المنطق التجاري وخاصّة بالمواطنين؟ يذهب ميشيل مولر أبعد من ذلك: ألم يحنْ الوقت لنجعل من ذلك هدفًا شعبيًّا.

إنّ الصراعات القائمة اليوم في الإعلام المرئي والمسموع العامّ، والصراعات التي نخوضها في الصحافة تبقى محصورة في دائرة بعض المهنيين المُتّهمين ﺑ «الحِرَفيّة» (corporatisme). حول مسألة الصحافة المجانية، أعتقد أنّنا لم نُفهَم لأننا عندما منعنا توزيعها عُدَّ ذلك أحيانًا صراعًا ضدّ حرية التعبير. على الرغم من أنّ مقاومتنا لها لم يكن هدفُه إلّا أن نفرض أن تعجز هذه الصحافة، التي تعيش على حساب التعدّدية والكيفية، أن تعجزَ عن احتقار المُقتضيات ذاتها التي للصحافة بعامّة. توجد صراعات، لكن ما إنْ تُطرَح المشكلة، فإنها تتركّز على الصحافيين: ولكن هل الصحافيون هم الذين دومًا يُصدِرون الصحف التي تتألّف بنسبة 50 – 60 % من برقيات عاجلة، ليس هذا فحسب، وإنما تضمّ أيضًا عددًا من المراسلين والصحافيين بالصفحة الذين، لكونهم يتقاضون بالسطر وفي وضعية وقتية جدّ هشّة، يُخشى أنّهم قد لا يكتبون غير ما تتوقّعه منهم الإدارة؟ كل واحد في المهنة يُصارع في زاويته: ينبغي خلق تطابق قوي كفايةً لتمثيل بدائل. عندئذ، في نطاق مُعيّن، أوافق على فكرة أنّ «لدينا وسائل الإعلام التي نستحقّها»، لا التي طالبنا بها، إنما وسائل الإعلام التي تفرض نفسها اجتماعيًّا. كل تحقيقات الرأي تُبيّن أنّ ثمة طاقة حقيقية في الشعب لاستخراج رأيٍ نقديٍّ جدًّا حول ما تُنتجه وسائل الإعلام وما تُصبح عليه.

إنّ اقتراح إنشاء فدرالية للاتصال داخل الكنفدرالية العامة للشغل(CGT)  لتجمع البنى القائمة قد طُبّقَ، لكنها بقيت جامدة. تهدف هذه الفكرة إلى جمْع قوى تقدّمية في هذا المجال، لتكون «قوى مضادة للسلطة» حقيقية، لمواجهة واقع تركيز السلطة الإعلامية بين أيادٍ يتناقص عددها مع الأيام، هي أيادٍ مترسّخة في السلطة التجارية. أخيرًا، في غياب مشروع سياسي مُتّسق حول وسائل الإعلام، أي أخلاقي، لكن أيضًا اقتصادي واجتماعي، أعتقد أننا سنعاني في تحريك القوى الاجتماعية للمطالبة بتلفزيون مُختلف.

تفكير جماعي مفيد للعمل ولتعريف موقع المؤرّخ

في ضوء التنوّع والجودة للمقاربات التي اقترحها هذا الموضوع على المُتحاورين، فإنه من العسير الاستنتاج. إنّ هذه المبادرة وَفَت بوعدها بأن سمحت بفتح تفكير عامّ، بوجهات نظر مختلفة. وساهمت أيضًا في إبراز مسارات عمل مع الحكْم على نتائج التجارب التي تجري سجالًا. إنّ معضلة إنتاج التمثيلات هي، دائمًا، في قلب المناقشات حول التلفزيون. وبلا ريب فإنّ إنتاج التمثيلات ليس هو ذاك النوع من الصناعة الشيطانية التي تتوفّر على كل سلطة نرغب بوصفها، لأن قوته، أيْ القدرة على الإضرار التي تُنسَب إليه، تنشأ عمّا تعكسه، أيْ عن مجموعة تنتمي إليها وتُسيطِر عليها. هذا هو السبب الكامن وراء عدم الحاجة إلى وزارة إعلام تُراقب بدقّة الصحافيين، فهؤلاء غارقون في علاقة الهيمنة التي تِبعًا لها صِيغَت طريقتهم في صُنع الأخبار.

إذا أردنا تغيير التلفزيون ودوره، فذلك بلا شكّ، وكما اقترح عدد من المُشاركين، يكون من خلال إسهام أكبر للمواطنين في العلاقات بين المجتمع ووسائل الإعلام؛ هنا بواسطة عمل تلفزيون محلي قريب من المواطن، وهناك بواسطة العمل الجماعي الذي يفرض علاقة قوة مادّية تُشكّل أيضًا علاقة قوة للأفكار، وفي مكان آخر بخلق الحدث من أجل إدراجه ضمن الأحداث الجارية ومباغتة وسائل الإعلام. نرى أنّ المسألة تتعلّق بإنشاء قوى مضادة للسلطة ونشْر الديمقراطية أكثر من كونها مسألة هجوم على التلفزيون ووسائل الإعلام على نحو منظَّم، وإنْ تكن اليقظة على الأغلب تتعلّق بهم، لأنّ فضْح إفراطهم هو رهان ضمن الرهان السياسي الأعمّ الذي يمكن أن يُساعدَ في بعض أعمال نشر الوعي. إذا كان من صلة بين التمثيلات العقلية والسلطة التي تُمارسها وسائل الإعلام على مجرى الأفكار، فإنّ تلك التمثيلات هي الأثر لتاريخ يُشارك الإنسان فيه كعامِل واعٍ لتشكيل فكره الخاصّ.

إضافة إلى الإضاءات التي يُمكن أنْ تُعطيَها التجاربُ الماضيةُ، فإنّ ما يمكن أن تُبيّنه مثل هذه الندوة للمؤرّخ، هو الفائدة المتأتية من غنى التحليلات التي تقوم بها قطاعات أخرى أو أطراف اجتماعية مُعاصرة للعمل على موضوع ما. يمكن أن يكون هناك مجال لخيار ضمن التفكير المُشترك حول الطريقة التي يمضي بها المجتمع قدمًا في مجال كهذا، وفق قراءة الحاضر والماضي المطروح للنقاش. هناك مسؤولية تقع على عاتق المؤرّخ، مسؤولية عدم السماح لتاريخ رسمي بأن يرتهن الذاكرة الجماعية ومن ثمّة التاريخ الذي سيأتي على مجتمعنا. إنّ العلاقات التجارية الحاكمة تقترح حدودًا لِمستقبل سيُبنى على أسسِ قراءةٍ انتقائية ومُؤيِّدة أحيانًا للماضي. هنا لا يعود المؤرّخ باحثًا فحسب، بل تتواطأ وظيفتُه النقدية مع المصلحة العامّة، التي تربطها صلة بكيفية مناقشة الأفكار التي تُغذّي التعدّدية والتوجّه السياسي.



الهوامش

1 -   إنّ هذه المؤسّسة التي شُكّلت في آذار 2000 تضمّ باحثين من قطاعات مُختلفة ولهم اهتمامات مُتشعّبة، إضافةً إلى مناضلين من مُنظّمات سياسية مُنخرطة في الحركة الاجتماعية، ومُناضلين نقابيين واختصاصيي تواصل، يمزجون بين تجاربهم ومهاراتهم، وذلك بغية تحليل تطوّر السلوكيات الاجتماعية والسياسية الأكثر تنظيمًا.

2 -   انعقد هذا المؤتمر يوم السبت 23 تشرين الثاني 2002 في باريس، في ساحة كولونيل-فابيان Colonel-Fabien. يضمّ هذا العرْض المُداخلات التي شهِدَها المؤتمر، والتي خَرَجَت إلى النور بعد بضعة أشهر من انعقاد المؤتمر، وقد أُرفِقَت بالمُلاحظات التي سُجّلَت خلال المؤتمر.

3 -   Les Cahiers d’Histoire. Revue d’histoire critique, n 86. Dossier: Démocratie, pouvoirs et propagande en France au XX e siècle. De la paix de Versailles à la guerre du Golfe, coordination: Guylain Chevrier. Septembre 2002.

4 -   Idem note n 1, Chevrier Guylain, Guerre du Golfe et télévision: un mariage stratégique, p. 63 – 84

5 -   Bourdieu Pierre, Sur la télévision, Paris, Raisons d’agir Editions, 1996