البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نظرية العدل عند هيوم

الباحث :  أحمد واعظي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  18
السنة :  السنة الرابعة -شتاء 2019 م / 1441 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 8 / 2020
عدد زيارات البحث :  1724
تحميل  ( 437.633 KB )
رغم أنَّ ديفيد هيوم لا يُعتبر من جملة الفلاسفة السياسيِّين بالمعنى الاصطلاحيِّ، إلَّا أنَّ بعض آرائه كان لها وقعٌ ملحوظٌ في عالم السياسة بما في ذلك نظريَّته حول فضيلة العدل. والواقع أنَّه قلَّما تطرّق في بحوثه إلى تحليل مفهوم العدل، إنَّما سلَّط الضوء بشكلٍ أساسي على مباحث خاصَّة كأوضاعنا الذاتيَّة المرتبطة بهذا الملف والظروف التي تقتضي إقراره، والقيام بسلوكيَّات عادلة، وإيجاد ارتباط بينه وبين الفضائل الأخلاقيَّة. وهو حينما يشرح ويحلِّل مفهوم العدل من جهتين متباينتين فهذا لا يعني تبنِّيه نظريَّتين مختلفتين، كما تصوَّر بعض الباحثين من أمثال برايان باري، بل إنَّ فهمه للعدل مرتكز على تصوُّرات خاصَّة بالنسبة إلى الإنسان ومكانته المعرفيَّة، وطبيعة فضائله الأخلاقيَّة، ودوافعه الباطنية التي تحفِّزه على تأسيس مجتمع تُراعَى فيه هذه المبادئ.
في هذه المقالة سعى الباحث لشرح وتحليل آراء ونظريَّات هيوم المطروحة في مجال العدل، ثمَّ أوضح مدى ارتباطها بالمبادئ الإبستيمولوجيَّة والأنثروبولوجيَّة التي يتبنَّاها في رحاب دراسة نقديَّة تمحورت بشكلٍ أساسيٍّ حول نظريَّته في الموضوع المذكور.

المحرِّر
------------------------------------------
بإمكاننا تتبُّع التأثير الذي تركه ديفيد هيوم على الفلسفة السياسيَّة ضمن نطاقين أساسيَّين، أحدهما تأكيدُه على عدم وجود ارتباط منطقيٍّ بين المبادئ الأكسيولوجيَّة والقضايا الحقيقيَّة، وهذه الرؤية المنطقيَّة، كما هو معلوم، تُعدُّ مصدرَ إلهامٍ ومُرتكَزاً أساسيَّاً لأصحاب الفلسفة الوضعيَّة المنطقيَّةlogical positivists، حيث يعتمدون عليها لتضييق نطاق الفلسفة السياسيَّة ونبذ الكثير من مواضيعها التقليديَّة.
 ضمن كتابه بحث في الطبيعة الإنسانيَّة،[1] أكَّد هيوم غاية التأكيد على أنَّ نقض أيِّ استدلال مُعتبر يجب أن لا يتقوَّم مُطلَقاً على مقدِّمات ذات ارتباط بقضايا واقعيَّة حينما يكون الهدف تحقيق نتائج أكسيولوجيَّة ومعياريَّة normative، وهذا الرأي عرف بأنَّه شوكة هيوم Hume`s fork  حيث أصبح مُنطلَقاً لدراسات وبحوث تحليليَّة واسعة النطاق تحت عنوان الوجوب والوجودIsoughtblem والمرتكَز الأساسيِّ الذي ارتكز عليه هيوم في هذا المضمار هو عدم إمكانيَّة استنتاج قضايا أكسيولوجيَّة أخلاقيَّة أو حقوقيَّة توصف بكونها ذات طابع إلزاميٍّ من قضايا مرتبطة بالواقع وفق الأُسُس والقواعد المنطقيَّة، إذ من المستحيل استخراج الوجوب - الإلزام - ought من باطن ما هو كائن وموجود؛ وعلى هذا الأساس، لا يمكن الاعتماد على القضايا الأكسيولوجيَّة والأخلاقيَّة والحقوقيَّة لإثبات قضايا إبستيمولوجيَّة ارتكازيَّة، كذلك ليس من الممكن الاعتماد على مقدِّمات واقعيَّة FactualPremises لتحصيل نتائج أكسيولوجيَّة ومعياريَّة.
ولا بدَّ من القول أنَّ تداعيات هذا الأمر على الصعيد السياسيِّ تمثَّلت في عدم إمكانيَّة الاعتماد على البحوث المرتبطة بطبيعة الإنسان وحقائق المجتمع الإنسانيِّ لتسويغ مبادئ سياسيَّة وأخلاقيَّة، وهذا يعني انقضاء عهد الفكر السياسيِّ التقليديّْ، لأنَّ أتباع هذا الفكر لم ينفكُّوا عن ربط الخير والسعادة والحقِّ مع واقع الظروف والحقوق الإنسانيَّة، فهذا هو دأبُهم في هذا المضمار وهدفهم هو صياغة أُسُس مشروع سياسيٍّ مناسب، وترويج مبادئ وقِيَم تكون لها الكلمة الفصل في مجال العلاقات السياسيَّة على ضوء فهم الحقائق الإنسانيَّة وواقع المجتمع.
في هذا السياق، أكَّد أصحاب الفكر الوضعيِّ المنطقيِّ ضمن تبنِّيهم معياراً محدود النطاق بخصوص المسائل السيمنطيقيَّة، أنّ كلَّ رأي يُطرح حول الحقائق المرتبطة بالإنسان والمجتمع يجب أن يكون منبثقاً من تجربةٍ ونهجٍ عمليٍّ تجريبيّْ، لأنَّ جميع القضايا العقليَّة البحتة التي لا تخضع للتجربة عارية من كلِّ معنى نظراً لكون الدلالة السيمنطيقيَّة تقتصر على القضايا التي يمكن إثباتها بالحسِّ والتجربة فحسب، ومن ناحيةٍ أخرى ليس من شأن كلِّ الحقائق التجريبيَّة الخاصّة بالإنسان والمجتمع أن تُتَّخذ كمرتكز للبتِّ بالقضايا الأكسيولوجيَّة والمعياريَّة على الصعيد السياسيِّ بداعي أنَّ النتائج الخاطئة المُستوحاة من الوجوب والوجود تقضي منطقيَّاً بعدم جواز الاستناد إلى الإلزامات الحقوقيَّة وفقاً للحقائق والمبادئ الإبستيمولوجيَّة.
لا ريب في أنَّ هذه الرؤية الرجعيَّة الوضعيَّة قيَّدت القضايا السياسيَّة بمصدرين فقط لا ثالث لهما، أحدهما الدراسات التجريبيَّة الخاصَّة بالسلوكيَّات السياسيَّة، والآخر التحليلات المنطقيَّة للمفاهيم التي تُطرح في عالم السياسة؛ وعلى الرغم من أنَّ الوضعيَّة المنطقيَّة لم تدُم طويلاً جرّاء عدم عقلانيَّة أطروحتها وتأكيدها الَّلامنطقيِّ على عدم صواب كلِّ قضيَّة غير تجريبيَّة، لكن إلى يومنا هذا ما زال نقد ديفيد هيوم المنطقيُّ الذي ساقَه على مسألة ارتباط الحقائق بالمبادئ الأكسيولوجيَّة مضماراً للبحث والتحليل بين علماء المنطق والفلسفة؛ لذا فالبراهين التي تُساق في مجال الفلسفة السياسيَّة والمتقوِّمة على حقائق معيَّنة مثل الفطرة الإنسانيَّة، بحاجةٍ إلى تحليل منطقيٍّ يضع حلَّاً للنقد الذي ذكره هذا الفيلسوف الغربيّ.
النطاق الآخر الخاصُّ بتأثير هيوم على الفلسفة السياسيَّة يرتبط بفهمه الخاصِّ لمسألة العدل، فلو قارنَّاه بالفكر التقليديِّ المرتبط بالعدل لوجدناه جديداً من نوعه، ومتقوِّماً على فرضيَّات ومزاعم ذات طابع معيَّن.
محور البحث في المقالة التي بين يدي القارئ الكريم هو دراسة وتحليل رؤية هذا المفكِّر الغربيِّ إزاء مفهوم العدل، لذا سوف نتطرَّق أوَّلاً إلى بيان ما دوَّنه بخصوص هذا الموضوع، ثمّ نتناول آراءه ونظريَّاته بالشرح والتحليل في إطار نقديّْ.
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ أهمَّ كتابات ديفيد هيوم حول مفهوم العدل يجدها القارئ في كتابه “بحث في الطبيعة الإنسانيَّة” الذي طُبِع في عام 1738م ويتكوَّن من ثلاثة أجزاء هي كالتالي:
ـ الجزء الأوَّل: book -1 يتمحور موضوع البحث فيه حول الفهم، ونلمس فيه المبادئ الإبستيمولوجيَّة التي يتبنَّاها هيوم، كذلك فيه تفاصيل حول السبيل الأمثل لكسب العلم، والعقبات التي تعترض هذا السبيل وتقيِّد فهم الإنسان، ومدى صواب المعارف البشريَّة.
ـ الجزء الثاني: book -2 يتمحور موضوع البحث فيه حول الرغبات of the passions، ويمكن اعتباره مرآةً لفلسفة سيكولوجيا هيوم لكونه يتضمَّن مباحث حول إرادة الإنسان وعقلانيَّة سلوكيَّاته.
ـ الجزء الثالث: book – 3 يتمحور موضوع البحث فيه حول القضايا الأخلاقيَّة of the morals ويتضمّن ثلاثة فصولٍ، الفصل الأوّل ذكرت فيه تفاصيل عامَّة حول الفضائل والرذائل، والفصل الثالث ذكرت فيه مباحث بخصوص الفضائل الطبيعيَّة Natural Virtues، في حين أنَّ الفصل الثاني من هذا الجزء تمَّ تخصيصه لمباحث حول العدل والإجحاف، لذا نلمس فيه أهمَّ آراء هيوم التي طرحها
بخصوص موضوع بحثنا في هذه المقالة، وضمن نظريَّاته التجريبيَّة التي ذكرها في هذا المضمار نأى بنفسه بشكلٍ صريحٍ عن فلاسفة من أمثال جون لوك وكلارك Clarke. فهؤلاء يعتقدون بكون العدل أمراً طبيعيَّاً مُرتكِزاً على قوانين أزليَّة لا يطاولها أيُّ تغييرٍ مطلقاً، ويعتبرون العقل مؤهَّلاً لمعرفته، لكنَّه تبنَّى رأياً آخر يختلف عمَّا تبنَّاه هؤلاء[2].
وضمن كتاب آخر طبع في عام 1777م مدوَّن بحثاً حول المبادئ الأخلاقيَّة،[3] حيث خُصِّص الفصل الثالث منه لمفهوم العدل وفي الملحق الذي أضافه إليه ذكر بعض المسائل حول هذا الموضوع؛ وبما أنَّه دوَّن هذا الكتاب بعد الكتاب الذي أشرنا إليه أوّلاً، لا نجد فيه مباحث موسَّعة بهذا الخصوص، بل اكتفى بذكر نقاطٍ معيَّنةٍ، ورأيه هنا بشكلٍ عامٍّ ذو ارتباط بما طرحه في ذلك الكتاب.
مدوَّنات هيوم بخصوص العدل تتمحور بشكلٍ أساسي حول الموضوعين التاليين:
ـ الموضوع الأوّل: السبب الأساسيُّ لحاجة البشريَّة إلى العدل، والظروف التي تكون فيها القوانين والأفكار العادلة مفيدةً للفرد والمجتمع.
ـ الموضوع الثاني: طبيعة فضيلة العدل وأوجه تشابهها واختلافها مع سائر الفضائل الأخلاقيَّة الشهيرة.
في ما يلي نواصل بيان الموضوع عبر تسليط الضوء على نظريَّته العامَّة بخصوص العدل وذلك في رحاب استعراض إجماليٍّ لوجهة نظره بالنسبة إلى هذه الفضيلة الأخلاقيَّة مقارنة بسائر وجهات النظر المطروحة في هذا المضمار:
أولاً: العدل برؤية ديفيد هيوم
الرؤية الشائعة بين المفكِّرين الذين تطرَّقوا إلى دراسة مفهوم العدل بنحوٍ ما فحواها أنَّه فضيلة ومعيارٌ مبدئيٌّ مستقلّ عن رغبة الإنسان وإرادته ومصالحه المتنوِّعة والمتغيِّرة، وهو على هذا الأساس يُعدُّ هامَّاً ومُعتَبراً بحيث يجب على الجميع مراعاته والعمل على أساسه في شتَّى جوانب الحياة الفرديَّة والاجتماعيَّة وعلى الصعد كافَّة مثل التقنين، والقضاء، والقرارات السياسيَّة، وتقسيم الثروات بمختلف أنواعها الطبيعيَّة وغير الطبيعيَّة، كذلك لا بدَّ من صياغة نهج الحياة في رحابه واتّخِاذ القرارات المصيريَّة والتدابير الَّلازمة وفق مقتضياته وأُسُسه. العدل حسب
حريٌّ القول أنَّ هذه الرؤية تضاهي المبادئ الأخلاقيَّة الثابتة والمتعارفة بين البشر، وتحتلُّ مرتبةً أسمى من الرغبات الشخصيَّة والفئويَّة بحيث تجعل الإنسان خاضعاً لمبادئه في ما لو أراد العيش في رحاب حياة عقلانيَّة لا وجود لظلم فيها.
والواقع أنّ أصحاب هذه النظريَّة يطرحون تحليلاً مختلفاً بالنسبة إلى مضمون العدل وأصوله وطريق نيله، مثلاً إيمانوئيل كانط تبنَّى نهجاً عقلانيَّاً في هذا السياق، وعلى هذا الأساس أوعز منشأ العدل إلى العقل المحض وبعض المفاهيم المرتبطة بالأمر المطلق Categorical imperative، في حين أنّ جون رولز تبنَّى رأياً متبايناً بالكامل مع هذا الرأي، حيث اعتبر أُسُس العدل وأصوله العمليةكافَّة تندرج ضمن نطاق المعارف النظريَّة، كما أنَّ صحَّة وسقم إحدى القضايا لا يتمُّ تعيينهما إلَّا وفق معيار الحقيقة، وكذا فالبنية الاجتماعيَّة والنظام الحقوقي وجميع الوظائف الضروريَّة إنّمِا يتمُّ تقييمها بمعيار العدل وأصوله المعتَبرة؛ ناهيك بأنَّه لا يعتبر هذه الأصول من سنخ القضايا التي يتمُّ تحديدها وإدراكها بواسطة العقل النظريِّ، بل هي برأيه ثمرة لاتِّفاق جماعيٍّ يتحقَّق في رحاب ظروف وأوضاع خاصَّة.
نلفت هنا إلى أنَّ تصوير ديفيد هيوم للعدل لا يتناسب بتاتاً مع الرؤية الشائعة بين غالبية المفكِّرين، إذ لا يعتبره معياراً خاصَّاً أو فضيلةً مستقلَّةً عن الأُسُس الذهنيَّة والرغبات التي تكتنف البشر، لذا ليس هناك أيُّ التزام عقليٍّ أو طبيعيٍّ بشأنه، فهو بحدِّ ذاته لا يُعدُّ فضيلةً وإنَّما يحتاج الإنسان إليه في ظروف خاصَّة فقط، لأنّ تعريفه ومضمونه وقوانينه من صناعة البشر، فهي حصيلة لاتِّفاق أبناء مختلف المجتمعات؛ لذلك هو ليس من سنخ القضايا التي يمكن النزوع إليها أو إدراكها عن طريق العقل أو الفطرة الإنسانيَّة، بل يكون مفيداً لنا أن نجد أنفسنا بحاجة إليه في ظروف خاصَّة وإثر ذلك نلتزم به على ضوء قوانين واتِّفاقيَّات اجتماعيَّة، والدافع الذي يحرّكِنا لتطبيقه والالتزام به يتمثَّل بتلك القوانين التي صُغناها بأنفسنا والمصالح التي نروم تحقيقها في مختلف نشاطاتنا.
ديفيد هيوم - كما سيتَّضح لنا في المباحث الَّلاحقة - يعتقد أنَّنا حينما نفتقد القوانين والنُّظُم التي هي ثمرة لما نتَّفق عليه بصفتنا بشراً، لا يبقى بعد ذلك مجال لطرح مسألة العدل، فهو بشكلٍ عامٍّ عبارة عن قواعد وقوانين نصوغها بأنفسنا بهدف الحفاظ على مصالحنا ضمن ظروف خاصَّة؛ ومن هذا المنطلق فإنَّ هيوم نأى بنفسه عن فكرة كونه معياراً ذاتيَّاً ينزع إليه الإنسان بشكلٍ غريزيٍّ ويرغب في تطبيقه عمليَّاً على أرض الواقع. حسب هذا الرأي، لا يمكن اعتبار العدل بكونه معياراً أو فضيلةً على نحو الإطلاق بحيث يُتصوَّر أنَّه حتميٌّ في شتَّى الأحوال وغير خاضع لأيَّة ظروف خاصَّة، بل تتبلور موضوعيَّته حينما يشعر أعضاء المجتمع بأنَّهم بحاجة إلى قوانين خاصَّة تقسِّم الثروات على أساسها وتحدَّد نطاقها، وهذه القوانين بطبيعة الحال متَّفق عليها بشكلٍ جماعيّْ.
في الواقع أنَّ هيوم قلَّما تطرّق في بحوثه إلى تحليل مفهوم العدل، وسلَّط الضوء بشكلٍ أساسي على مباحث خاصَّة كأوضاعنا الذاتيَّة المرتبطة بهذا المفهوم والظروف التي تقتضي إقراره، والقيام بسلوكيَّات عادلة، وإيجاد ارتباط بينه وبين الفضائل الأخلاقيَّة؛ ويمكن القول باختصارٍ أنَّ هذا المفكِّر الغربي أجاب عن سؤالين أساسيَّين فقط في هذا السياق هما كالتالي:
- هل العدل فضيلة طبيعيَّة أو لا؟
- ما هي المرتكزات الأساسية للعدل والظروف التي تقتضي العمل به وتجعل الفرد والمجتمع بحاجة ماسَّة إليه؟
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هيوم حينما يتطرَّق إلى شرح وتحليل مفهوم العدل من جهتين متباينتين فهذا لا يعني تبنِّيه نظريَّتين مختلفتين بهذا الخصوص كما تصوَّر بعض الباحثين من أمثال برايان باري،[4]بل الحقيقة أنَّ فهمه للعدل مرتكز على تصوُّرات خاصَّة بالنسبة إلى الإنسان ومكانته المعرفيَّة، وطبيعة فضائله الأخلاقيَّة، ودوافعه الباطنية التي تحفِّزه على تأسيس مجتمع تُراعَى فيه مبادئ العدل والقانون، لذا، فهو حينما أشار إلى جذور العدل والفضيلة ضمن محورين أساسيَّين أراد بيان فرعين يتشَّعبان من نظريَّة العدل، وينطبقان بالكامل على الأُسس والرؤى الفلسفيَّة التي يتبنَّاها. إذن، فهمُ نظريَّته التي طرحها في هذا المضمار مرهون بمعرفة هذه المرتكزات الإبستيمولوجيَّة الفلسفيَّة، لذا سوف نتطرَّق إلى بيان تفاصيلها على نحو الإجمال.
بما أنّ هيوم من جملة الباحثين الذين لديهم كتابات مشتَّتة ولم تتمحور النصوص التي دوَّنها حول موضوع معيَّن، لذلك عادةً ما نلمس في مدوَّناته حول مفهوم العدل مباحث متنوِّعة، ومن هذا المنطلق سوف نسلِّط الضوء بشكلٍ أساسيٍّ على أهمِّ آرائه في هذا السياق، ونتطرَّق إلى بيان نظريَّته التي طرحها بهذا الخصوص بتفصيل وإيضاح أكثر.
ثانياً: مكانة العقل في السياسة والأخلاق
ديفيد هيوم ضمن رؤيته التي تتَّسم بطابعٍ تجريبيٍّ بحتٍ، وعلى ضوء موقفه المناهض لمتبنَّيات أرسطو، قيَّد العقل إلى حدٍّ كبيرٍ، وأكَّد على ضيق نطاقه في مجال الأخلاق والسياسة، والَّلافت أنّ أصحاب النزعة العقليَّة منذ عهد هذا الفيلسوف الإغريقيِّ وإلى يومنا هذا يعتبرون العقل مرتكزاً أساسيَّاً ومنطلَقاً ثابتاً لكلِّ القضايا الأخلاقيَّة وكلِّ ما يرتبط بمسائل الفلسفة العمليَّة مثل السياسة.
الحقيقة أنَّ هيوم استعرض متبنَّياته الإبستيمولوجيَّة ضمن الجزء الأوَّل من كتابه بحث في الطبيعة الإنسانيَّة والذي خصَّصه لمسألة الفهم، فهو ضمن تدوينه بحثاً تحليلياً حول قابليات الإنسان الذهنية والمعرفية ضيّق نطاق النشاط العقلي وقيّده بالقضايا الأخلاقية والسياسية البحتة، ومن جانبٍ آخر فتح الباب على مصراعيه للمشاعر والرغبات والعواطف البشرية؛ ناهيك عن أنّه وفقاً لرؤيته التجريبيَّة اعتبر العقل ذا دور محدود النطاق من الناحية العملية لكونه قادراً على أداء مهمتين فقط هما كالتالي:
الأولى: البتُّ بالقضايا الواقعيَّة Matters of fact.
الثانية: إدراك طبيعة الارتباط بين الأفكار.
المقصود من القضايا الواقعيَّة هنا كلُّ مسألة أخلاقيَّة يمكن بيان تفاصيلها وحلحلة ما يكتنفها من إشكالات عن طريق الحسِّ والتجربة المباشرة، لأنَّ العقل برأيه عبارة عن قابليَّة يمكن الاعتماد عليها لمعرفة الحقيقة، وتمييزها عمَّا هو غير حقيقي، وعلى هذا الأساس حينما تحدث خلافات حول أمرٍ ما ويتمُّ الاتِّفاق على قضايا معيَّنة، عادةً ما يتَّخذ العقل كمرتكزٍ لوضع حلٍّ لها باعتباره مرجعاً أساسيَّاً؛ وهذا الاختلاف يحدث أحياناً بشأن القضايا الواقعيَّة التي يمكن أن تخضع للتجربة، وفي أحيان أخرى يحدث بخصوص العلاقات بين الأفكار ideas التي يقصد هيوم منها تلك العلاقات المنطقيَّة الرابطة بين شتَّى التصوُّرات.
واضحٌ أنَّ النزعة التجريبيَّة المتطرِّفة التي تبنَّاها هيوم اضطُرَّته لأن يقيَّد الأفكار والتصوّثرات بتصوُّراتٍ منتزعةٍ بطرقٍ تختلف عن الإدراك الحسِّيِّ والتجريبيّْ، وعلى هذا الأساس فالحقيقة والخطأ والأحكام العقليَّة برأيه محدودة بالإدراكات الحسِّية أو ما ينبثق منها؛[5] ولا شكَّ في أنَّ تقييد الأداء العمليِّ للعقل بهذا النطاق لا يبقي مجالاً لمساهمته في القضايا التي لها ارتباط بأهداف الحياة وغاياتها، لذا جرَّد العقل من كلِّ دورٍ وتأثيرٍ على صعيد الحياة الأخلاقيَّة بشكلٍ عامٍّ والسياسيَّة بالأخصّ، فهو يعتقد بأنَّ الأحكام المرتبطة بالقِيَم الأخلاقيَّة والسياسيَّة تُعتبر من سنخ الإرشادات العمليَّة action guiding التي تفوق نطاق القابليَّات العقليَّة، وممَّا قاله في هذا الصدد: “نظراً لكون المبادئ الأخلاقيَّة ذات تأثير على سلوكيَّاتنا ومشاعرنا فهي لا يمكن أن تكون منبثقةً من العقل، إذ كما أثبتنا في المباحث السابقة فهو غير قادرٍ لوحده على أن يسهم بتأثيرٍ كهذا.
المبادئ الأخلاقيَّة تثير الحماس الذاتي لدى الإنسان بحيث تُمسي وازعاً للسلوك أحياناً، وفي أحيان أخرى تصبح رادعةً عنه، بينما العقل عاجز بحدِّ ذاته عن القيام بذلك، لذا لا يمكن للمبادئ الأخلاقيَّة أن تكون ثمرةً للعقل... وما دام- العقل - عديم التأثير على رغباتنا وسلوكيَّاتنا، فمن العبث بمكانٍ التظاهر بأنَّه يمتلك القابليَّة لاستكشاف المبادئ الأخلاقيَّة”[6].
إذن، بما أنَّ العقل لا دور له على صعيد الغاية والهدف فهو مقيَّد بالقضايا المادِّية بصفته وسيلةً فحسب، لذا فهو يعين الإنسان على بلوغ تلك المقاصد التي يتمُّ تعيينها من قبل مصدرٍ آخر، وعلى هذا الأساس نأى هيوم بنفسه إلى أقصى حدٍّ عن النزعة العقليَّة ذات الطابع الفلسفيِّ العمليِّ الذي يتكفَّل بإصدار الأحكام التطبيقيَّة في شتَّى المجالات مثل الأخلاق والسياسة، فهذه القضايا مدينة للعقل لكونه المرجع الأساسيَّ لاستنتاجها.
من المفيد القول هنا أنَّ أحد أهمِّ الأسباب التي دعت هذا الفيلسوف الغربيَّ لأن يدافع بشدَّة عن النزعة المناهضة للعقل العملي هو اعتقاده بكون استنتاج الوجوب من الوجود ليس سوى مغالطة حيث أشرنا إلى ذلك سابقاً بشكلٍ مقتضبٍ. وأمّا الموضوع الأساسيُّ الذي استقطب الأنظار نحوه في فكره فهو تصوُّره عدم ارتباط المعايير المبدئيَّة للفلسفة العمليَّة بعالم الواقع world Objective، وتأكيده على ارتباطها بالمشاعر الإنسانيَّة، لذا فهي خارجة عن نطاق العقل الذي لا دور له سوى استكشاف العلاقات بين الأشياء، والحكم بصواب أو سقم الحقائق الخارجيَّة؛ وفي هذا السياق اعتبر الشعور Sentiment   المرتكز الأوَّل للسلوكيَّات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والأخلاقيَّة، فالعقل برأيه ليس مرجعاً أو مُرتَكَزاً أخلاقياً أو سياسياً؛ ومن ثمّ أكَّد على أنَّ الشعور بحبِّ النوع - المشاركة الوجدانيَّة الإنسانيَّة -Sympathyهو البنية الأساسية للسلوكيات الاجتماعية والأخلاقية، لكن هناك غموض حول مراده من هذا الشعور، فعلى سبيل المثال الباحث جوناثان هاريسون الذي يُعدُّ أحد أشهر وأدقِّ شرَّاح آثار هيوم والذي ألَّف كتابين لتحليل إبستيمولوجيا هذا الفيلسوف وبيان تفاصيل نظريَّة العدل التي تبنّاها، ذكر بصريح العبارة أنَّه لا يعتقد بوجود شيءٍ اسمه حبُّ النوع في طبيعة الإنسان؛[7] ويؤيَّد ذلك ما قاله هيوم بنفسه: “يمكن البتُّ على نحو العموم بعدم وجود نزعة ذاتيَّة في طبيعة الإنسان باسم الحبّْ”[8].
إذن، هيوم يعتبر القوانين الأخلاقيَّة، والأهداف الاجتماعيَّة، والمبادئ والأهداف السياسيَّة متقوِّمة على مشاعر بشريَّة، وفي هذا المضمار حاول إثبات أنَّ هذه المرتكزات الشعوريَّة يشترك فيها الناس إلى حدٍّ كبير، وبالتالي فهي وازع لأن تنأى بالمبادئ الأخلاقيَّة والفلسفة العمليَّة عن الرغبات الذاتيَّة Arbitrary. فدور العقل يحين إذ يتمُّ تعيين الإطار العامِّ للسلوك الإنسانيِّ، إذ يُعتمد هنا بصفته وسيلةً لتحقيق المقاصد السلوكيَّة، والنتيجة المحتومة على هذا الأساس هي أنَّه مجرَّد عبدٍ طيِّعٍ لرغبة الإنسان ومشاعره، بل حتى الأخلاق تفي بالدور ذاته لكونها محض مصدر يخدم رغباتنا الطبيعيَّة، ولا تعلو عليها مُطلَقاً، ومن ثمَّ لا يمكن ادِّعاء أنَّها تشرف على ما نريد وإنَّما هي ثمرة لمشاعرنا ما يعني أنَّها إلى جانب العقل محكومة بتنسيق شؤونها مع هذه الرغبات.
نستشفُّ من هذا التحليل للعقل والأخلاق والقِيَم الاجتماعيَّة والمبادئ السياسيَّة أنَّ هيوم يعارض كلَّ رأي يعتبر العقل قِواماً للعدل، بل يرى أنَّه لا يُعدُّ مرتَكَزا ًمرجعيَّاً لكلِّ ما هو خارج عن نطاق المشاعر والرغبات الطبيعيَّة؛ وإلى جانب إقراره بأنَّنا نوافق أحياناً على بعض القضايا الجزئيَّة للشعور ونعترض عليها في أحيان أخرى بحيث نصدر أحكاماً كلِّيَّةً في هذا الصعيد، لكنَّه مع ذلك لا يعتبر هذه المواقف
معايير عقليَّة أو فطريَّة تضرب بجذورها في ذات الإنسان وطبيعته، بل يعتبر كلَّ المبادئ من هذا القبيل مصنوعة من قِبَل البشر ومتأثِّرة برغباتهم ومشاعرهم الذاتيَّة المشتركة.[9]
ثالثاً: أُسُس العدل والنزعة إليه:
لقد أكَّد ديفيد هيوم في دراساته على الدور الفاعل الذي يلعبه العدل باعتباره فضيلةً ارتكازيَّةً في الفكر السياسيِّ، ومن هذا المنطلق سلَّط الضوء على الموضوع في رحاب مسألتين أساسيَّتين، هما كالتالي:
المسألة الأولى: الجذور الأساسيَّة لهذه الفضيلة والسبب الذي يدعو الإنسان لأن يعتبر العدل مرتَكَزاً بنيويًّا في القرارات السياسيَّة والحياة الاجتماعيَّة.
المسألة الثانية: طبيعة فضيلة العدل وأوجُه التشابه والاختلاف بينه وبين سائر الفضائل الأخلاقيَّة.
ثمَّة ملاحظة جديرة بالاهتمام بالنسبة إلى المسألة الأولى وهي أنَّ هيوم لا يعتقد بوجود مرتَكَز عقليٍّ لمسألة العدل، وعلى أساس هذا الرأي لا يمكن اعتبار الدعوة إلى العدل ثمرة لفكر نظريٍّ واستنتاج عقليّْ، وبالتالي ليس من الصواب ادِّعاء أنَّها من جملة الضرورات والإلزامات التي يحكم بها عقل الإنسان، فالعقل العمليُّ لا يحكم بوجوب إقرار العدل والعمل على أساسه في كلِّ شؤون الحياة في منأى عن مصالح الإنسان الشخصيَّة وواقع ظروفه ومكانته الاجتماعيَّة، لذا إن أدرجنا فضيلة العدل ضمن الفضائل العقليَّة ففي هذه الحالة لا بدَّ لنا من الإذعان بأنّ النزعة إليه عبارة عن أمرٍ مُطلَقٍ ودائمٍ وغير مستثنى عن غيره نظراً لكون الأحكام العقليَّة العمليَّة على غرار الأحكام العقليَّة النظريَّة بصفتها قضايا ضروريَّة ومُطلَقة. من ناحيةٍ أخرى، أنكر هذا الفيلسوف وجود رغبة ونزعة وشعور ذاتيٍّ في كيان الإنسان.هذا الكلام يدلُّ على أنَّه لا يذعن إلى أنَّ الإنسان يستحسن العدل ذاتيًّا ويرغب في مراعاة حقوق أقرانه البشر وصيانة مصالحهم، حيث أكَّد بشكلٍ صريحٍ على عدم وجود أيِّ وازعٍ ذاتيٍّ لديه يحفِّزه على الدعوة إلى العدل وإقراره في المجتمع ما لم يكتنفه شعور بضرورة ذلك، - وسنشير إلى سبب ذلك لاحقاً - وعلى هذا الأساس فهو في الظروف الطبيعيَّة State of nature التي لا تطرح فيها المُلكيَّة، لا يلمس في حياته أيَّ معنى للعدل ولا للظلم. هذا الكلام لا يعني أنَّ هيوم يعتقد بجواز الاستحواذ على مُلكيَّة الآخرين في الأوضاع الطبيعيَّة، لأنَّ قوانين المُلكيَّة برأيه هي البنية الأساسيَّة، لذا عند زوالها لا يبقى أيُّ دور لبعض المفاهيم مثل العدل والظلم والجواز والمنع، حيث تفقد موضوعيَّتها في  أوضاع كهذه.[10]
ومن جملة الآراء الأخرى التي تبنَّاها في هذا المجال أنَّ السؤال عن السبب في وجوب إقامة العدل لا يُطرح إبَّان الظروف الطبيعيَّة، فالإنسان في أوضاع كهذه - حسب التعريف - غير خاضع للقوانين الوضعيَّة، وعند انعدام القانون لا يبقى أيُّ محرِّك باطنيٍّ يسوقُه نحو العمل وفق مبادئ العدل؛ لأنَّ السؤال عن هذا الأمر - برأيه - يعني “ما الداعي للالتزام بالقانون؟” ونظراً لانعدام القانون لا يأتي الدور للحديث عن السبب في وجوب الالتزام به.[11]
نستنتج من هذا التوضيح المقتضب أنَّ هيوم لا يعتقد بوجود جذور ذاتيَّة للعدل سواءً كانت شعوريةً أم عقليةً، ومن منطلق هذه الرؤية أكَّد على عدم وجود أيِّ إلزام عقليٍّ أو شعوريٍّ يحفِّز الإنسان على أن يلتزم جانب العدل ويشعر بالرأفة والمودَّة إزاء أقرانه البشر، لذا لا بدَّ من البحث عن منشأ العدل في تلك القضايا التي تجعله بحاجة إلى القوانين؛ وكما ذكرنا آنفاً فقد قال بصريح العبارة مِراراً إنَّ مسألة ضرورة أو عدم ضرورة إقامة العدل لا تُطرح على أرض الواقع إلَّا حينما يعيش الإنسان في كنف مجتمع تحكمه أصول وضوابط خاصَّة، لأنَّ القوانين التي يقرُّها البشر لأنفسهم تُعدُّ أفضل دليل على وجوب إقرار العدل، الأمر الذي يعني أنَّ الإنسان خلال الظروف الطبيعيَّة يتوصَّل إلى نتيجة فحواها ضرورة سنِّ قوانين وتشريعات تنظِّم حياته الفرديَّة والاجتماعيَّة لأجل انتشال نفسه ومجتمعه من منطق الغاب وانعدام القانون، لذلك يسعى إلى إقرار العدل وتطبيقه على أرض الواقع في رحاب هذه القوانين التي يجعلها ملزمةً للجميع، وهنا يتبلور المعنى الحقيقيُّ لهذا المفهوم.
إذن، منشأ العدل طبقاً لما ذكر هو الرَّغبة في إقامة القانون، والدافع على هذا الصعيد هو النزعة إلى القانون واحترامه، إذ يدرك الإنسان ضرورة سنِّ قوانين، وفي ضوء ذلك تكتنفه رغبة جامحة ونزعة شديدة لإقرار العدل وتطبيقه بشكلٍ عمليّْ.
الجدير بالذكر هنا أنَّ ربط مفهوم العدل بالقوانين البشريَّة الموضوعة وتعريفه وفقها جعل هيوم في مواجهة التعريف المشهور والمتعارف للعدل، فهو عادةً ما يعرَّف من قبل الباحثين بمعنى منح الحقِّ إلى أصحابه، في حين أنَّه أكَّد على عدم استقلال الحقِّ عن العدل أو تقدُّمه عليه معتبراً هذا الأمر خطأ جليَّاً، وعلى هذا الأساس ليس من الصواب بمكان القول بأنَّه يعني وجوب مراعاة حقوق الآخرين ومنحها لأصحابها، فالحقوق لا معنى لها بتاتاً من دون وجود قوانين وضعيَّة، كذلك فالعدل لا يصدق بتاتاً في منأى عن هذه القوانين؛ ومن ثمَّ لا بدَّ من القول بأنَّ العدل والحقَّ لا يتبلوران على أرض الواقع إلَّا بعد أن تسود في المجتمع قوانين وضعيَّة، ما يعني عدم وجود أيِّ حقٍّ مستقلٍّ عن القانون، وبالتالي لا يأتي الدور بتاتاً لادِّعاء تقدُّمه على العدل[12].
هذه الرؤية الشخصيَّة للعدل جعلت هيوم في الجهة المقابلة للمعنى المتعارَف بين الباحثين، إذ الشائع على نطاق واسع أنَّ العدل عبارة عن معيار خارجي يجب الاعتماد عليه لتقييم مضمون السلوك لكون ما يبدر من الإنسان، إمَّا أن يندرج ضمن مبادئ العدل أو ضمن مبادئ أخرى تتعارض معه. وهذا المعيار له دور عمليٌّ على أرض الواقع ضمن اعتماده كمرتَكَز في سنِّ القوانين وتطبيقها، حيث تقسَّم  على أساسه إلى قوانين عادلة وجائرة؛ بينما الرؤية التي تبنَّاها هيوم تؤكِّد على عدم إمكانيَّة استقلال العدل عن القانون الوضعيِّ، وإثر ذلك لا يمكن اعتباره مرتَكَزاً لتقييمها، ناهيك بأنَّه يعتبر المصالح الفرديَّة بنيةً self interest أساسيةً ودافعاً ثابتاً لإقرار العدل في المجتمع على المستويين الفرديِّ والاجتماعيّْ، حيث أكَّد أنَّ المصلحة تُعدُّ المرتَكَز الأساسيَّ لإقامة العدل وتثبيت دعائمه، وهي تتواكب بنحوٍ ما مع ضربٍ من حبِّ النوع - الشعور الوجدانيِّ الإنسانيِّ - Sympathy إزاء المصالح العامَّة؛ وهذا الشعور يحفِّز الناس على اعتبار العدل أمراً أخلاقيَّاً وفضيلةً سلوكيةً.[13]مراد هيوم من هذا الكلام أنَّ المصلحة الفرديَّة البحتة ليس من شأنها مطلَقاً أن تكون مُنشِئاً للعدل، لأنّ المبادرة إلى تدوين القوانين تُعدُّ حركة جماعيَّة، لذلك ينبغي اتِّباع سبيل يضمن المصالح العامَّة وليس الفرديَّة البحتة، ومن هذا المنطلق فإنَّ لحظة إقرار العدل وسنِّ القوانين تتضمَّن مصلحة فرديَّة تتلازم مع حبِّ النوع والشعور بالمسؤوليَّة إزاء الآخرين والدعوة إلى الحفاظ على مصالحهم، وهذا التلاحم الإنسانيُّ يضفي على العدل بُعداً أكسيولوجيَّاً وأخلاقيَّاً، ولا شكَّ في أنَّ مراعاة المصالح الفرديَّة يشجِّع الناس على إقرار قوانين وقواعد خاصَّة وعامَّة.
في الظروف الطبيعيَّة حينما تفتقر المجتمعات إلى القوانين يدرك الناس أنَّ مصالحهم وأموالهم عرضةً للخطر والخسران في أيَّة لحظة، إذ لا يُستبعد أن تغتصب منهم من دون أن يتمكَّنوا من الدفاع عنها نظراً لعدم وجود رادعٍ يحول دون ذلك، لذا لا يجدون بدَّاً من سنِّ قوانين تنتشلهم من هذه الظاهرة المزرية؛ وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ ديفيد هيوم، ولأسباب غير واضحة، قيَّد العدل بمفهوم الملكيَّة وأكَّد أنَّ قوانين العدل وما يتمُّ إقراره في الأوضاع المتعارَفة على ثلاثة أصناف تتمحور كلُّها حول مسألة الملكيَّة: الصنف الأوَّل عبارة عن قوانين العدل المرتبطة بتأسيس مؤسَّسات خاصَّة بالملكيَّة وتثبيتها بصفتها مراكز معتَبرة؛ والصنف الثاني يتمثَّل في مسألة انتقال الملكيَّة، أي الأساليب القانونيَّة والمشروعة لانتقال الأملاك والأموال إلى الآخرين؛ وأمّا الصنف الثالث فهو تلك الاتِّفاقيَّات والالتزامات والعقود المبرَمة بين الناس حول الأموال والممتلكات. هذه الأصناف الثلاثة اعتبرها مرتكزات أساسيَّة وقوانين محورها العدل.[14]
ولا ريب في أنَّ السعي لتحقيق المصلحة الشخصيَّة يخلق لدى الإنسان وازعاً يحفِّزه على سنِّ القوانين التي تضمن إقرار العدل في المجتمع، وهذا الأمر يتبلور على أرض الواقع حينما يدرك الجميع أنَّ القانون يعود بالنفع على كلِّ فردٍ في المجتمع، وهنا يتحقَّق التلاحم الإنسانيَّ بين الناس ويتجلَّى حبُّ النوع كما أشرنا آنفاً؛ لكن مع ذلك، لا يمكن اعتبار المصلحة الشخصيَّة الدافع الأساسيَّ لإقامة العدل والالتزام بالقوانين، إذ غالباً ما تكون هذه المصلحة منوطةً بتجاوز الأُطُر القانونيَّة وعدم التقيُّد بكلِّ ضابطةٍ يتمُّ إقرارها في المجتمع، ومن البديهي القول أنَّ انعدام الدافع الباطني مثل محبَّة النوع واحترام الآخرين لا يُعتبر محرّكِاً وحافزاً يرغِّب الإنسان في احترام القانون والتقيُّد به، لذا لا بدَّ من وجود ضمانة تنفيذ قانونيَّة مُعتَبرة مثل تعيين عقوبات بدنيَّة وغرامات ماليَّة لمن يخالف المقرّرات ولا يعمل بما أقرَّه المجتمع، فهذه الأمور الرادعة تُضطرُّ كلَّ شخصٍ لأن يلتزم بالقانون ولا يتنصَّل عنه.
بعدما أوضحنا رأي هيوم حول جذور رغبة الإنسان في إقامة العدل والدافع الأساسيِّ الذي يحفِّزه على ذلك بشكلٍ إجماليّْ، سوف نسلِّط الضوء في ما يلي على وجهة نظره بالنسبة إلى طبيعة فضيلة العدل، حيث سنلاحظ كيف أنَّه فسَّر العدل بشكل يتناسب بالكامل مع طبيعة القوانين الوضعيَّة التي يقرُّها البشر.
رابعاً: العدل بمثابة فضيلة اجتماعيَّة:
حينما نتأمَّل بما ذكره ديفيد هيوم حول مفهوم العدل، نلمس للوهلة الأولى أنَّه أكَّد غاية التأكيد على عدم وجود أيِّ دافع ذاتيٍّ لدى الإنسان يحفِّزه على العمل وفق معايير العدل واحترام ملكيَّة الآخرين وعدم التعدِّي عليها، فهذا الأمر لا يتحقَّق برأيه إلَّا في رحاب سنِّ قوانين تضفي موضوعيةً ودلالةً على مسألتَيْ العدل والظلم بشتَّى أنماطهما - أي الالتزام بالقوانين أو التنصُّل عنها - حيث نستشفُّ من هذه الرؤية أنَّه لا يعتبر العدل فضيلةً من الأساس، ويؤيِّد ذلك أنَّنا حينما ندقِّق في كلامه ونغور في مداليله نلاحظ أنَّه لا يعتبره فضيلةً طبيعيةً Natural Virtue بل يصوِّره وكأنَّه فضيلة اعتباريَّة - مصطَنعة - Artificial لا غير؛ فهو يرى أنَّ العدل فضيلة من منطلَق اعتقاده بكون الفضائل والرذائل عبارة عن مواضيع خاضعة للأحكام الأخلاقيَّة، وبما أنَّ العدل والظلم من جملة القضايا التي تخضع للتقييم على أساس المبادئ الأخلاقيَّة، لذا يمكن القول بكون العدل فضيلة، لكنَّه ليس من سنخ الفضائل الطبيعيَّة.
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ مصطلح طبيعي natural يُستخدم أحياناً في مقابل ما كان نادراً وشحيحاً، لكنَّ هذا المعنى لم يقصده ديفيد هيوم في مباحثة التي دوَّنها حول مفهوم العدل، بل مقصوده هو الطبيعيُّ الذي يقع في مقابل الاعتباريّْ - المصطَنع – artificial، وهذا ما يريده من ادِّعائه كون العدل فضيلة غير طبيعيَّة، إذ أكَّد وجود دوافع ورغبات في باطن الإنسان تشجِّعه على القيام ببعض السلوكيَّات، لذلك يجد نفسه مكلَّفاً بالقيام بها، أي أنَّها تُضطرُّه لأن يسلك هذا النهج، ولو تضاءل هذا الدافع لديه عادةً ما يسعى لملء الفراغ الحاصل على ضوء شعوره بالتكليف وذلك لأنَّ نزعةً ذاتيَّةً كهذه لا وجود لها من الأساس، أي ليس لدى الإنسان أيُّ وازع يحفِّزه على عدم اقتناص أموال الآخرين وأملاكهم، ولا يوجد في ذاته أيُّ ضابطة ذاتيَّة تجعله مقيَّداً باحترام ملكيَّة الآخرين وعدم التعدِّي على ثرواتهم، لذا لا بدَّ من سنِّ قوانين تجبره على مراعاة حقوق الآخرين الماليَّة واحترام ملكيَّتهم؛ وبما أنَّ قوانين العدل توضع من قِبَل البشر ولا تتَّسم بأيَّة جوانب ذاتيَّة، فالعدل على هذا الأساس عبارة عن أمرٍ اعتباريٍّ - مُصطَنع - وليس ذاتيَّاً.
المسألة الهامَّة الجديرة بالذكر في هذا المضمار هي اعتقاد هيوم بأنَّ الإنسان يُقرُّ بفضيلة قوانين الملكيَّة ويحترمها ويعمل على أساسها من منطلق رغبته في تحقيق مصالحه الشخصيَّة، كما يرى أنَّ الفضائل virtues في شتَّى أنماطها سواءً الطبيعية منها أم المصطَنعة تتقوَّم من أساسها على مبدأ المصلحة Usefulness، ومن ثمَّ فالعدل وكلِّ القوانين المرتبطة به عبارة عن قضايا من صنع البشر، بينما المصلحة ليست كذلك، ما يعني أنَّ القوانين التي تعود بالنفع على الإنسان والمتَّفق عليها اجتماعيَّاً هي التي تتَّسم بالفضيلة، لذا لا يمكن ادِّعاء أنَّ فضيلة العدل تختصُّ بمكانٍ أو زمانٍ أو مجتمعٍ بالتحديد.
إنَّ قوانين العدل ومضامينها كافّةً - برأي هيوم - تختلف من مجتمع إلى آخر من حيث مصاديقها إثر اختلاف أنظمتها الحقوقيَّة ومقرَّراتها والقوانين التي تشرِّعها، لكنَّ مسألة فضيلة القانون تبقى على حالها باعتبارها مبدأ ارتكازياًَّ ولا أحد يشكِّك بذلك، لأنَّها تتواكب
 مع مبدأ المصلحة الذي يطمح إليه كلُّ إنسانٍ في المجتمعات كافَّة؛ وهذه القوانين، مهما كانت طبيعتها، تُعدُّ فضائل ناهيك بأنَّ اتِّباعها هو الآخر يعتبر فضيلةً من فضائل المصلحة؛ والمقصود من ذلك أنَّ العدل عبارة عن أمرٍ مصطَنعٍ artificial بينما الشعور بكون أحد الأمور أخلاقيَّاً وفضيلةً يُعدُّ طبيعيَّاً وليس مصطَنعاً[15].
ينبغي القول أنَّ هيوم قد أشار في مباحثه إلى الاختلافات الكائنة بين الفضيلتين الطبيعيَّة والاصطناعيَّة، وفي هذا السياق أكَّد أنّ النتائج الإيجابيَّة التي تتَّسم بالخير good والمنبثقة من الفضائل الطبيعيَّة يمكن أن تنسب إلى كلِّ ظرفٍ حتَّى وإن كان جزئيَّاً، ما يعني أنَّ كلَّ سلوك جزئيٍّ من هذه الفضائل يستتبع نتائج وآثاراً إيجابيَّةً خلافاً للعدل الذي تترتَّب عليه مصلحة عامَّة حينما يلتزم جميع الناس بالقوانين التي يتمُّ إقرارها، لذا فالتزام الإنسان بها بصفته فرداً ليس له أيُّ تأثير يذكر حتَّى وإن تواكَب مع طاعة الآخرين.
ومن جملة ما نستلهمه من آرائه التي طرحها في هذا الصعيد أنَّه شبَّه الفضائل الطبيعيَّة مثل الإحسان benevolence بالجدار المستحكم، وشبَّه الفضائل المصطَنعة مثل العدل بالطوق vault،كما اعتبر كلَّ عمل من البرِّ والإحسان على غرار قطعة الطابوق التي تساهم في رفع مستوى هذا الجدار حتَّى وإن لم يساهم الآخرون في ذلك، في حين أنَّ الطوق لا ينشأ ويستقرُّ إلَّا بعد أن تترابط جميع أجزائه  من دون نقص وتتلاحم في ما بينها، لذا فالسلوكيَّات العادلة لبعض الناس الذين يتَّبعون القوانين إذا لم تتواكب مع التزام أقرانهم بها سوف لا يترتَّب عليها أيُّ خير ولا تستتبع أيَّة نتيجة إيجابيَّة[16].
كذلك يرى وجود قضايا أخرى تابعة للقوانين الوضعيَّة في ما سوى العدل، مثل الواجبات والتكاليفobligation لذا لا معنى لكلِّ إلزام فيما لو انعدمت هذه القوانين التي هي من صناعة البشر، ويبدو أنَّ ربط هذه المفاهيم بالقوانين التي هي من صياغة البشر يُعدُّ وازعاً لطرح نظريَّة ذات معالم خاصَّة على صعيد الأخلاق، ولكن مع ذلك هل يمكن اعتبار جميع المفاهيم والقضايا الأخلاقيَّة بكونها من صناعة البشر وتابعة للقوانين والأعراف البشريَّة؟ بعض شُرّاَح نظريَّات هيوم من أمثال هاريسون يعتقدون بأنَّ الباحث حينما يتطرَّق إلى شرح وتحليل آراء هذا الفيلسوف التي طرحها في مضمار الأخلاق والفضائل، لا بدَّ له من التفكيك بين فئتين من المفاهيم والقضايا الأخلاقيَة، إحداهما توصف بأنَّها عبارة عن كلمات معياريَّة value words وتشمل مفاهيم على غرار الحُسن والقُبح والفضيلة والرذيلة؛ وأمَّا الأخرى فهي لا تتضمَّن مبادئ معياريَّة على صعيد الأخلاق، إذ تتبلور في سلوكيَّات الإنسان ومختلف مواقفه وأفعاله، مثل الصواب والخطأ والإباحة والمنع، وهذه الفئة تتمحور فقط حول ما ينبغي فعله من قبل الإنسان أو ما يمكن أن يفعله أو ما لا يجب أن يحدث.
تأكيد هيوم على ارتباط المبادئ الأخلاقيَّة بالأعراف والقوانين التي هي من صياغة البشر يندرج ضمن الفئة الثانية من المفاهيم الأخلاقيَّة، إلَّا أنَّ بعض المفاهيم مثل الرأفة بالآخرين والبرِّ والإحسان والجدِّ والاجتهاد يمكن اعتبارها فضائل أخلاقيَّة حتَّى عند انعدام
القوانين الوضعيَّة، إذ في أحوال كهذه - أي في الظروف الطبيعيَّة - تتَّسم بكونها مفيدة أو تحظى بتأييد شامل من قبل جميع الناس؛ وعلى أساس هذا التفسير يمكن اعتبار العدل وغالبيَّة المبادئ والمفاهيم الأخلاقيَّة بأنَّها مجرَّد قضايا مُصطَنعة artificial ومُتَّفق عليها - مُتعارَفة – بين الناس conventional بداعي أنَّها ذات ارتباط وطيد بالقوانين الوضعيَّة، لذا يُدرَج هذا التفسير ضمن نظريَّة مستقلَّة في مجال الأخلاق[17].
لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ ارتباط العدل بالأعراف المتَّفق عليها والقوانين المُصاغَة من قِبَل البشر لا يُراد منها كون هذا التلاحم الفكريَّ يغرس في نفس الإنسان حافزاً لإقرار العدل، وإذا انعدم هذا الاتِّفاق - برأي هيوم - لا يبقى أيُّ دافع للدعوة إلى إقرار مبادئ العدل، كما لا يمكن إيجاد دافع في هذا السياق على أساس التوافق العامِّ والقوانين الموضوعة، بل تعيِّن وجهة الدوافع الكامنة في نفس الإنسان ولا سيَّما الرغبة في تحقيق المصلحة الشخصيَّة.
يشار هنا إلى أنَّ القوانين الوضعيَّة قبل أن يصادق عليها وتبلغ درجة القطعيَّة ـ في الأوضاع الطبيعيَّة ـ فالعرف السائد في المجتمعات البشريَّة فحواه أنَّ الإنسان عادةً ما ينزع نحو السعي للاستحواذ على أموال الآخرين وممتلكاتهم وفق مبدأ المصلحة الشخصيَّة self interst لكن بعد أن يتمَّ إقرارها والمصادقة عليها تصبح أموال وممتلكات كلِّ إنسان حقَّاً شخصيَّاً وحصريَّاً له وفق أُسُس قانونيَّة ثابتة بحيث يعاقب كلُّ من يتعدَّى عليها أو يغتصبها، فالمصلحة الشخصيَّة الكامنة في ذات كلِّ إنسان تسوقُه نحو احترام قانون العدل وعدم الاستحواذ على استحقاقات أقرانه البشر؛ ولا شكَّ في أنَّ دافعه الأساسيَّ في هذه الحالة يتبلور على ضوء احترام مصالح الآخرين والعمل وفق قوانين الملكيَّة المصادق عليها قانونيَّاً في رحاب مبدأ العدل، حيث يمتزج في باطنه شعور بالخشية من العقاب والحرمان من المصالح التي يمكن أن يكتسبها جرَّاء احترام القوانين والأعراف السائدة في مجتمعه[18].
إنَّ العدل، بصفته فضيلةً أخلاقيَّةً مُصاغةً من قبل البشر، ذو ارتباط وثيق بمسألة الملكيَّة، وفي هذا المضمار أكَّد هيوم أنَّ أفضل فهم له هو اعتباره منطلَقاً للحفاظ على البنية الاجتماعيَّة والعرفيَّة الموجودة على أرض الواقع، وصيانة مقرَّرات الملكيَّة المشروعة في المجتمع، ما يعني أنَّ قوانين العدل يجب أن تُسخَّر للحفاظ على المقرَّرات والأعراف الخاصَّة بالملكيَّة وإبقائها على حالها، كذلك لا بدَّ من أن تكون مُرتَكَزاً أساسيَّاً لمقرَّرات نقل الملكيَّة والتداول الماليّْ؛ ومن هذا المنطلق استدلَّ على عدم نجاعة كلِّ تفسير آخر للعدل فيما لو أُريدَ منه تغيير هذا الواقع المتعارَف في المجتمع.
كذلك ذكر هيوم ثلاثة أنواع بخصوص تقسيم الثروات والأموال في المجتمع كما يلي:
النوع الأوَّل: تقسيم عادل على أساس مبدأ الاستحقاق.desert
النوع الثاني: تقسيم عادل على أساس مراعاة مبدأ المساواة.equality
النوع الثالث: تقسيم على أساس المقرَّرات والأعراف الحاكمة في المجتمع حسب مبدأ الملكيَّة والثروات الماليَّة.
في هذا السياق أكَّد على عدم إمكانيَّة الُّلجوء إلى مبدأ الاستحقاق أو المساواة بصفته بنيةً أساسيَّةً للعدل والقوانين الحاكمة على تقسيم الملكيَّة والثروات، لذا لا بدَّ من الإبقاء على المقرَّرات والأعراف الحاكمة في المجتمع كمُرتَكَز أساسيٍّ في إقرار العدل؛ وقد استدلَّ على رأيه هذا بأنَّ مبدأ الاستحقاق أو المساواة فيه نقاش من حيث الأُسُس الأخلاقيَّة يحول دون اتِّخاذه معياراً ثابتاً بهذا الخصوص، لذا ليس من الصواب بمكان العمل به كمُرتَكَز للقوانين العامَّة المتعلِّقة بالملكيَّة والأموال؛ وبيان ذلك كما يلي: من البديهيِّ أنَّ الناس لا يتَّفقون على آراء مشتركة بالنسبة إلى دلالة مفهومَيْ الاستحقاق والمساواة، ومن ثمَّ لا يتحقَّق أيُّ اتِّفاق بينهم بشأن التقسيم العادل أو سنِّ قوانين وضعيَّة تحدِّد معالمه الرئيسيَّة، ما يعني أنَّ الاعتماد على المساواة كمنطَلَق لتقييم الثروات والممتلكات لا يتقوَّم على أيِّ مبدأ علميٍّ جرَّاء عدم امتلاك جميع الناس قابليَّات ورؤى متكافئة، فكلُّ إنسان يمتاز بخصائص فكريَّة وقابليَّات ذهنيَّة تختلف عن أقرانه وهذا هو السبب في رغبته المتواصلة والجادَّة بعدم الالتزام بمبدأ المساواة، ومن ثمَّ لا يتسنَّى ذلك إلَّا في رحاب نظام حاكم مقتدر سياسيَّاً واجتماعيَّاً؛ وهذا الأمر طبعاً تناقض صريح لكونه يسفر عن انعدام المساواة من الناحية السياسيَّة.
النتيجة التي توصَّل إليها بعد هذا النقاش فحواها أنَّ الحفاظ على الثروات والممتلكات يتطلَّب الإبقاء على المقرَّرات والأعراف الاجتماعيَّة الكائنة في المجتمع على ضوء إقرار قوانين تصونها وتشذِّبها، إذ لا طائل ولا جدوى من كلِّ مسعى لتغيير الوضع الموجود أو لإقرار العدل في هذا المجال[19].

شروط العدل:
لا شكَّ في أنَّ العدل يدرج ضمن الفضائل الأخلاقيَّة على كلِّ حال، سواءً اعتبرناه فضيلة طبيعيَّة بحسب رأي الكثير من الفلاسفة والباحثين، أم مصطَنَعة كما ادَّعى ديفيد هيوم ومن حذا حذوَه، إلَّا أنَّ السؤال الذي يطرح نفسه على هذا الصعيد هو: هل يمكن اعتباره فضيلةً مطلَقةً أو مشروطةً ومقيَّدةً بظروف خاصَّة؟
المقصود من كونه فضيلة مطلَقة هو عدم اشتراطه من حيث القيمة والاعتبار بشروط خاصَّة، بل هو كذلك في جميع الأحوال والأوضاع ومثال ذلك الحقيقة truth فهي في عالم القضايا والعلوم والمعارف تُعدُّ معياراً وقيمةً على نحو الإطلاق، لأنَّ صدق كلِّ قضية منوط بكونها حقيقة؛ لذا يقال إنَّ اعتبار الحقيقة غير مشروط بشروط خاصَّة، بل هي معتَبرة وصادقة في جميع الأحوال وضمن شتَّى الظروف، ولكن هل يُعتَبر العدل من وجهة نظر هيوم ذا قيمة مطلَقة كما هو الحال بالنسبة إليها؟
نذكر هنا أنَّ تصوُّر هيوم بكون فضيلة العدل ذات طابع شفائيٍّ وترميميٍّ Remedial Virtue حال دون اعتقاده بكونه معتَبراً على نحو مطلق، فهو برأيه ضروريًّا وكذلك القوانين المرتبطة به تصبح ضروريَّةً حينما تتوفَّر ظروف خاصَّة يتسنَّى له ولهذه القوانين إصلاح الخلل الموجود وترميم كلِّ عيب ونقص؛ وعندما يتَّسع نطاق الاختلاف وتبلغ مستوى لا يتمكَّن الناس خلاله من وضع حلول ناجعة لمواطن الافتراق على صعيد القضايا الأخلاقيَّة والسياسيَّة، يأتي الدور إلى قوانين العدل فتصبح مُرتَكَزاً لحلحلة المشاكل وتحقيق وئامٍ عامٍّ وشاملٍ يُرضي الجميع؛ وفي ظروف كهذه يتبلور العدل بصفته فضيلة عليا مقدَّمة على سائر الفضائل الأخلاقيَّة بحيث يمكن تشبيهه بفضيلة الشجاعة التي تفوق كلَّ فضيلة أخرى في ساحة القتال، ما يعني أنَّ الشجاعة كمثالٍ على ما ذكر ليست بهذا المستوى في كلِّ آنٍ ومكانٍ، فهي ليست كذلك في غير ساحة القتال.
ولإثبات أنَّ فضيلة العدل مشترطة بظروف وحالات خاصَّة ننوِّه بأنَّ هيوم أكَّد في بعض مدوَّناتها على عدم كونه فضيلةً أحياناً كما لو سادت في المجتمع أجواء ملؤها الخير والإحسان بين الناس كافَّةً، ففي هذه الحالة لا تبقى أيَّة حاجة لتدوين قوانين تضمن إقامة العدل في المجتمع ولا ضرورة في البحث والنقاش حول طبيعة العدل وكيفيَّته، بل الخوض في هذه المباحث عبثيٌّ ولا جدوى منه، ومثال ذلك الأسرة المثاليَّة التي يعيش أبناؤها حياةً ملؤها الوئام والوفاق والمودَّة، إذ قلَّما يلجؤون إلى نقاشات لإحقاق حقوقهم وضمانها حتَّى وإن حدث تعارض في مصالحهم الشخصيَّة، وهذا الأمر لا يحدث طبعاً جرَّاء انعدام العدل أو سلب الحقوق، بل سببه الالتزام بقوانين العدل وإقرار الحقوق القانونيَّة لكلِّ فرد في المجتمع على ضوء مبادئ المودَّة والبرِّ والإحسان المتبادل، لأنَّ كلَّ شخصٍ في ظروف كهذه يحظى بنصيب من المصالح والأملاك الأسريَّة وهذه الملكيَّة لا تدعو بتاتاً إلى قلق سائر أعضاء الأسرة أو خشيتهم من تضييع مصالحهم الخاصَّة. من البديهيِّ لو تغيَّرت هذه الظروف وتفاقمت الخلافات الأسريَّة، ففي هذه الحالة تقتضي الضرورة إقرار قوانين ومقرَّرات تضمن الحقوق الشخصيَّة لكلِّ فردٍ وتجعل العدل منطلقاً أساسيَّاً في الحياة الأسريَّة، وهنا يقال إنَّ العدل فضيلة أخلاقيَّة.
إذن، الظروف التي تجعل من العدل فضيلةً عادةً ما تكون متغيِّرةً لا ثَباتَ لها، إذ من الممكن أن تتغيَّر وتصبح الأوضاع بشكلٍ لا يمكن فيه تصوير العدل بكونه فضيلةً، بل يتحوَّل إلى رذيلة وهنا يطرح ذات المثال الذي ذكرناه حول الأسرة المثاليَّة التي يعيش أبناؤها في رحاب أجواء تسودها المودَّة والوئام، فلو أصيب أحدهم بداءٍ يتطلَّب علاجه نفقات طائلة سوف يبادر الآخرون بكلِّ رغبة وسرور إلى مساعدته بشفقة وإحسان، وهنا لا موضوعيَّة لطرح مسألة الحقوق والمصالح الشخصيَّة أو السعي لتقسيم الأموال والممتلكات وفق قوانين وضعيَّة متقوِّمة على العدل، فهذا الأمر يُعدُّ زائداً ولربَّما يدعو إلى شعورهم بالأسى وعدم الارتياح.
لا ريب في أنَّ هيوم كان سيتوصَّل إلى نتيجة كهذه ويُعتبر العدل مجرَّد فضيلة أخلاقيَّة مشروطة وليست مطلَقة على ضوء تفسيره الخاصِّ له باعتباره مبدأ مصطَنعاً ومُصاغاً من قِبل البشر وإثر تقييده بمسألة حلحلة الخلافات حول الملكيَّة وتقسيم الأموال، وممَّا قاله في هذا المضمار ما يلي: “العدل إنَّما يتبلور في ما يتَّفق عليه البشر conventions... وهذا الاتِّفاق يهدف إلى علاج remedy بعض التعارضات الناشئة من التقارن الحاصل بين عدد من الخصائص الإنسانيَّة وبين طبيعة الأشياء الموجودة في عالم الخارج، فالأنانيَّة والكرم المحدود بنطاق معيَّن [على سبيل المثال] يُعتبران من الخصائص النفسيَّة للبشر، في حين أنَّ طبيعة الأشياء الموجودة في عالم الخارج تحكي عن بعض القضايا التي هي من قبيل سهولة تغييرها وندرتها مقارنةً مع رغبات الإنسان... ومع التزايد المنسجم لمستوى البِرِّ والإحسان والكرَم والجود ورواج شتَّى الفضائل الكريمة ووفرة الخيرات والنِّعم، تصبح الدعوة إلى إقامة العدل أمراً عبثيَّاً لا طائل منه”[20].
في مختلف بحوثه أشار هيوم إلى عددٍ من الشروط التي اعتبرها مُرتَكَزاً لتحقيق النفع والمصلحة في رحاب إقامة العدل، ومن ثمَّ يصبح العدل وقوانينه كافَّة فضيلةً؛ لذا إن افتقد أيُّ واحد من هذه الشروط سوف يتجرَّد عمَّا ذكر ولا يُعدُّ بعد ذلك فضيلةً جرَّاء تجرُّده عن البنية الأساسيَّة التي تضمن كونه فضيلةً، وهذه البنية هي المصلحة طبعاً.

في ما يلي بعض الشروط المُشار إليها بشكل مقتضب:
الشرط الأوَّل: هذا الشرط وصفه هيوم بالندرة المعتدلة moderate scarcity وهنا لو أنَّ شيئاً لم يكن نادراً من الأساس بحيث يتوفَّر على نطاق واسع لدرجة أنَّه يُشبع رغبات الناس ويلبّـِي كلَّ ما يطمحون إليه بالتمام والكمال، ووفرته كالهواء الموجود بكثرة في كلِّ آنٍ ومكانٍ، ففي هذه الحالة لا تبقى حاجة إلى الدعوة للتوزيع العادل ومن ثمَّ فالعدل يصبح مفهوماً عبثيَّاً لا جدوى منه ولا حاجة إليه. ومن ناحية أخرى لو أنَّ ندرة أحد الأشياء تجاوزت الحدَّ المتعارَف بحيث أصبح نادراً بشكل مبالغ فيه، فهنا أيضاً لا طائل من الدعوة إلى إقامة العدل، لذلك يصبح التوزيع العادل أمراً عبثيَّاً عديم الفائدة، إذ لا يمكن توزيع الثروات والممتلكات بشكل عادل بين الناس نظراً للندرة المفرطة؛ وعلى هذا الأساس يقال إنَّ موضوع العدل يتبلور ضمن أمور تتَّسم بندرة معتدلة.[21]
الشرط الثاني: الأنانيِّة المعتدلة moderate scarcity إذ من المؤكَّد وجود نزعة أنانيَّة في ذات كلِّ إنسان وهذا أمر طبيعيّْ، لكنَّها إن جمحت وبلغت حدَّ التطرُّف فهي عندئذٍ ليست طبيعيَّةً، بل خارجة عن الكيان الحقيقيِّ للإنسان، وهنا يأتي الدور لطرح مفهوم العدل، فالأنانيَّة المفرطة تقتضي سنَّ قوانين تضمن العدل للبشريَّة، فهذه النزعة حتَّى وإن تفاقمت لكنَّها لا ينبغي أن تصبح رادعاً عن إقامة العدل في المجتمع.
الجدير بالذكر أنَّ النزعة الأنانيَّة المتطرِّفة تجعل الإنسان يفكِّر بنفسه فقط ولا ينصف الآخرين أو يمنحهم حقوقهم الطبيعيَّة والمشروعة، لذا لا بدَّ من سنِّ قوانين ومقرَّرات عادلة تتيح المجال لتقسيم الثروات والممتلكات بشكلٍ مُنصف بحسب الاستحقاق، ومن ناحية أخرى فالبرُّ والإحسان المبالغ فيه والذي يُسفر عن انعدام الأنانيَّة من أساسها وبكلِّ جزئيَّاتها هو الآخر يحول دون إقامة العدل، إذ كما ذكرنا آنفاً لو ساد عمل الخير في المجتمع بشكل غير متعارف وخرج عن إطاره المعقول سوف تفتقد قوانين العدل نجاعتها ولا تُعدُّ ذات أدنى فائدة، لذلك يمكن اعتبار الأنانيَّة المعتدلة حدَّاً فاصلاً بين الأنانيَّة المتطرِّفة والإحسان البحت total benevolence وهي في الواقع شرط أساسيٍّ لأن يصبح العدل فضيلةً[22].
الشرط الثالث: وجود تناسب في مستوى القدرة بين مختلف أعضاء المجتمع، لذا إن استحوذ عدد من الناس على مقاليد السلطة والاقتدار في المجتمع بشكلٍ مبالَغٍ فيه سوف يتحوَّل العدل إلى أمر عبثيٍّ وعديم النفع، إذ ليس هناك رادعٌ يردع هؤلاء أو يُضطرَّهم للالتزام بالقوانين والمقرَّرات العامَّة والخاصَّة، ولا نجد ضرورة هنا لذكر مثال يثبت هذه الظاهرة، لكنَّ هيوم أشار في هذا السياق إلى واقع العلاقة بين الأوروبيِّين المتحضِّرين والسكَّان المحلِّيين في شبه القارَّة الهنديَّة، حيث استدلَّ من هذا المثال على أنَّ الأوروبيِّين المقتدرين الذين هاجروا إلى تلك الديار جعلتهم يتصرَّفون بشكلٍ استكباريٍّ من منطلَق احتقارهم لأبناء تلك الشعوب وكأنَّهم حيوانات لا تفقه شيئاً، لذلك أعرضوا عن جميع مبادئ العدل والإنسانيَّة[23].
نلفت هنا إلى أنَّ موضوع شروط العدل استقطب أنظار عدد من المفكِّرين الذين تلوا عهد هيوم، ومن جملتهم جون رولز الذي عرَّف هذه الشروط بأنَّها قضايا طبيعيَّة تفسح في المجال للتعاون بين الناس لأجل وضع الأُسُس الارتكازيَّة لمبادئ العدل، وفي الحين ذاته تجعل هذا التعاون ضروريَّاً؛ وقد اعتُبر رأيه هذا منبثقاً من نظريَّة سلفه هيوم[24].
وعلى الرغم من أنَّ جون رولز حذا حذو هيوم حينما اعتبر قوانين العدل ومبادئه من صناعة البشر لكونها أتت على غرار الأمر المتَّفق عليه وليست حقائق أزليَّة يستكشفها الإنسان بوجدانه وقابليَّاته الذهنيَّة، ومع أنَّه سلك نهجه أيضاً وأناط هذا الاتِّفاق العامِّ بشروط وظروف خاصَّة؛ لكنَّه في الواقع تبنَّى رؤيةً تختلف عمَّا ذهب إليه الأخير في هذا المضمار، فهو أكَّد أنَّ الثمرة العمليَّة التي تترتَّب على الشروط الخاصَّة بالعدل تساهم أوَّلاً في تبرير الحاجة إلى القوانين العادلة وعلى أساسها يتحقَّق النفع منها وتتبلور المصلحة على أرض الواقع في رحابها، وثانياً تمهِّد الأرضيَّة المناسبة للدوافع التي تحفِّز الإنسان على سنِّ القوانين وتنظيمها ووضع الأُسُس الارتكازيَّة للعدل، في حين أنَّ رولز اعتبر شروط العدل مؤشِّراً على تلك القضايا التي تضمن تحقُّق الإنصاف ممَّا تمَّ الاتِّفاق عليه بشكل جماعيٍّ إزاء مبدأ العدل خلال الأوضاع الأولى والأصيلة original position. وأمَّا شروط العدل من وجهة نظر هذا المفكِّر الغربيِّ فتعكس في الحقيقة واقع الأوضاع التي تكتنف
الناس في بادئ الأمر مثل تجاهل الرغبات والمصالح الشخصيَّة، وهذه الأوضاع تساعد على تحقيق اتِّفاق بينهم بشأن مبادئ العدل، إذ إنَّهم لا يقحمون مصالحهم الفرديَّة والفئويَّة ممَّا يعني اتِّصاف ما تمَّ الاتِّفاق عليه بالعدل والإنصاف، ومن ثمَّ ضمان إقرار مبادئ العدل والعمل بها.
وينبغي الإشارة إلى أنَّ شروط العدل التي ذكرها هيوم تختلف بالكامل عمَّا ذكره إيمانوئيل كانط من شروط يمكن على أساسها فهم مبادئه الحقيقيَّة، حيث صاغها من جهة على ضوء الحقائق الذاتيَّة للإنسان ولا سيَّما رغباته وغرائزه مثل سعيِه وراء مصالحه، وصاغها من جهة أخرى على أساس الحقائق الخارجيَّة والمحدوديَّات البشريَّة التي تتبلور بشكل عمليٍّ على أرض الواقع، وفي هذا السياق تبنَّى رؤية تجريبيَّة رام من ورائها تعيين هذه الشروط، لذلك أكَّد أنَّها عارية من كلِّ مبدأ أكسيولوجيٍّ وأصل أخلاقيٍّ وأُسُس ميتافيزيقيَّة وعقليَّة، فهذه الأمور برأيه لا تأثير لها في مسألة العدل، ما يعني أنَّ رؤيته ذات طابع وصفيٍّ وناظرة إلى محدوديَّات تُبرِّر ضرورة سنِّ قوانين وإقامة العدل في الحياة الاجتماعيَّة. وأمَّا كانط فقد وقف في الجانب المقابل تماماً لهذه الرؤية، حيث تبنَّى وجهة نظر مثاليَّة لا ارتباط لها بالطابع التجريبيِّ والقواعد الطبيعيَّة، لذلك قال إنَّ الإنسان ما دام قادراً على إدراك المبادئ الأخلاقيَّة وأصول العدل في الحياة بشكل يجعله يتجاهل مصالحه الشخصيَّة وأهدافه وغاياته الخاصَّة، ولا ينظر إلى الآخرين وكأنَّهم وسائل يحقِّق من خلالها هذه المصالح والاهداف والغايات، فهو في هذه الحالة يمتلك إرادة مُثلى كلُّها برٌّ وإحسان، ومن ثمَّ فالقوانين التي يصوغها في هذا المضمار لا بدَّ وأن تكون منبثقة من العقل المحض؛ ومن هذا المنطلق اعتبر مبادئ العدل والأخلاق قضايا مطلَقة وضروريَّة بحيث لا يمكن التعدِّي عليها أو استثناؤها بتاتاً.

خامساً: نظريَّة هيوم في بوتقة النقد والتحليل:
في ما يلي نسلِّط الضوء على نظريَّة العدل التي طرحها ديفيد هيوم ضمن إطار تحليل نقديٍّ، فإذا تأمَّلنا بجملة ما ذكر من تفاصيل حول آرائه بالنسبة إلى مسألة العدل نجده متأثِّراً بآراء هوبز التي طرحها في كتابه الشهير «لويثان»، حيث استلهم منه نظريَّة الوضع الطبيعيِّ ليصوِّر العدل بأنَّه ذو دور علاجيٍّ وإصلاحيٍّ للخلافات والنقاشات التي تحدث في الظروف الطبيعيَّة التي يفتقد فيها القانون وينعدم النَّظم، وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار العدل  وصفًا لنظام وسلسلة من القوانين ولا سيَّما القوانين التي توضع لتنظيم القضايا المرتبطة بالملكيَّة والأموال والمصالح المادِّيَّة.
لقد اعتبر ديفيد هيوم المصلحة العامَّة والنفع الشخصيَّ بنيةً أساسيَّةً تجعل من العدل فضيلةً أخلاقيَّةً، وأكَّد أنَّ الالتزام بقوانين العدل يضمن تحقُّق أنانيَّة معتدلة تشبع رغباتهم، وتلبِّي مصالحهم، وتغرس لديهم الشعور بضرورة الخروج من الأوضاع الطبيعيَّة والإذعان لقوانين الملكيَّة التي يتمُّ وضعها من قبل البشر، ولذلك يمكن القول أنَّ نظريَّة العدل التي طرحها تدرج ضمن النظريَّات النفعيَّة Utilitarianism التي طُرحت من قِبَل سائر الفلاسفة والمفكِّرين.
وعلى الرغم من أنَّ بعض التعابير والمصطلحات التي نجدها في مدوَّنات هيوم من قبيل النفع العامِّ Public Utility والمصلحة العامَّة Public interest، وتأكيده على أنَّ هذه المصالح تتحقَّق عبر مراعاة قوانين العدل وترسيخها في المجتمع، هي أمور جعلته في جبهة المدافعين عن مبدأ النفعية بنحوٍ ما، ورغم أنّها جعلت نظرية العدل التي طرحها تنتسب إلى مبدأ النفعية utilitarianism بدلاً عن  مبدأَيْ تبادل المنفعة mutual advantage والحدسيَّة intuitionism ؛ لكن حينما نفسِّر مبدأ النفعيَّة الذي دعا إليه ينبغي ألَّا نقع في خطأ تأريخيٍّ anachronism بحيث ننسب إليه رؤية جُرمَيْ بنثام وجيمس مل في تفسير هذا المبدأ لكونهما متأخِّرين عنه زمانيَّاً.[25]
حريٌّ القول هنا أنَّ المذهب النفعيَّ الشهير والمتعارَف في الأوساط الفكريَّة قائمٌ في أساسه على نظريَّات بنثام ومل، وفحواه أنَّ المصلحة الجماعيَّة utility maximizing هي فقط الغاية القصوى والمرتَكَز البنيويُّ للفضيلة، لذا فهي بصفتها أصلاً أكسيولوجيَّاً يجب أن تُتَّخذ كمنطلق وأساس لكلِّ الكيانات والمؤسَّسات الاجتماعيَّة والقرارات السياسيَّة والاقتصاديَّة.
إذا اعتبرنا النفعيَّة واحدة من نظريَّات العدل، فهي من الناحية النظريَّة تؤكِّد على أنَّ العدل الاجتماعيَّ لا يتحقَّق إلَّا في رحاب تحقُّق النفع والمصلحة، وفي هذا السياق لا يُستبعَد أن يُدنَّس الكثير من المبادئ الأخلاقيَّة التي يتقوَّم عليها العدل بحسب وجهات النظر الأولى والعامَّة بحيث لا تتكافأ حقوق شخصين متساويين من النواحي كافَّة؛ لأنَّ النزعة النفعيَّة تعني امتزاج مصالح الجميع بعضها ببعض، ومن ثمَّ فالخير الجماعيُّ يتحقَّق في رحاب الخير الفرديّْ، أي أنَّ المعيار هو مصلحة الشخص بصفته فرداً؛ ومن هذا المنطلق فإنَّ تحقيق المصالح الاجتماعيَّة يعني في نهاية المطاف النهوض بمصلحة كلِّ فرد على حِدَة، وبالتالي ينبغي اتِّخاذ المصلحة العامَّة مُرتَكَزاً لتحقيق أهداف المجتمع على صعيد سنِّ القوانين وتطبيقها وشتَّى القرارات الشاملة.
ولا يختلف اثنان في أنَّ ديفيد هيوم لا يعتقد بهذا الكلام مطلَقاً، أي أنَّه لا يعتبر المصلحة العامَّة مُنطلَقاً لنظريَّته في العدل، إذ لم يعتبر أنَّ هذه المصلحة تعني تحقيق الحدِّ الأقصى من المنافع الشخصيَّة واعتبارها مُرتَكَزاً لتدوين قوانين عادلة، كذلك لم يؤكِّد على ضرورة أن تُدوَّن قوانين العدل على هذا الأساس، بل أكَّد على أنَّ المنفعة الفرديَّة تتحقَّق في الظروف الطبيعيَّة على ضوء تغيير هذه الظروف والإقبال على قوانين عادلة تضمن مصالحهم الشخصيَّة، لذا إن رُوعِيت هذه القوانين فسوف تسود المصلحة العامَّة وينتفع الجميع من دون استثناء، وهذا الاهتمام بالمصلحة العامَّة وقوانين العدل يُعدُّ مُرتَكَزاً أخلاقيَّاً وأكسيولوجيَّاً ويُضفي على السلوك المنبثق منه فضيلةً، لأنَّ نظريَّة هيوم الأخلاقيَّة تؤكّد أنَّ كلَّ ما يضمن النفع والمصلحة يُعدُّ فضيلةً أخلاقيَّة.
من ناحيةٍ أخرى، تُعتبر نظريَّة العدل التي تبنَّاها هذا الفيلسوف من سنخ النزعات التقليديَّة Conventionalism لأنَّه يرى العدل مرتبطاً بسلسلة من القوانين الوضعيَّة، ويصوِّر السلوك العادل على أنَّه احترام للقوانين والأعراف المتَّفق عليها والتزام بها، وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ النزعات التقليديَّة لها أنماط متنوِّعة، ومن جملة أمثلتها التعريف المشهور للعدل بكونه منح الحقَّ لصاحبه، وهذا الأمر يمكن اعتباره نوعاً منها إذا أدركنا أنَّ شتَّى الكيانات والمؤسَّسات والاتفاقيَّات القانونيَّة وشتَّى المقرَّرات الوضعيَّة هي التي تعيِّن حقوق كلِّ فرد في المجتمع؛ لكن إذا قلنا إنَّ الحقوق الفرديَّة لا تتقوَّم على هذه القوانين والمقرَّرات لكونها منبثقة من نظام الطبيعة والأحكام الشرعيَّة الدينيَّة بحيث لا توجد للإنسان حقوق طبيعيَّة لا يساهم البشر في وضعها أو نبذها، ففي هذه الحالة لا يمكن اعتبار التعريف المشهور حاكياً عن توافق جماعيّْ.
خلاصة الكلام أنَّ هيوم، على ضوء ربطه الحقوق والعدل بالاتِّفاقيَّات الجماعيَّة والقوانين الوضعيَّة، دافع بشكلٍ علنيٍّ عن النزعة التقليديَّة.

نقد نظريَّة العدل
نستهلُّ نقد نظرية العدل التي طرحها هيوم في رحاب نقد فهمه لواقع الإنسان. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ هذه النظريَّة تتقوَّم على توجُّهات فكريَّة تجريبيَّة بحتة بالنسبة إلى الإنسان، وضمن هذه الرؤية الضيِّقة الأفق والمحدودة الأُطُر لا يبقى أيُّ دور للعقل والمفاهيم الأخلاقيَّة، والمفكِّر ريموند بلانت أصاب حينما عزا السبب في عدم طرح هيوم تصويراً للإنسان وكأنَّه ذو شخصيَّة غنيَّة ومتكاملة إلى عدم التزامه بالنزعة التجريبيَّة الصريحة والمطلَقة، وهذه الرؤية التجريبيَّة المتشدِّدة تحول بطبيعة الحال دون طرح أيَّة نظريَّة إبستيمولوجيَّة غنيَّة ومتكاملة حول الإنسان سواءً من قِبَل هيوم أم من قِبَل كلِّ فيلسوف آخر يتبنَّاها.
وفقاً لمعايير النزعة التجريبيَّة والأُسس الإبستيمولوجيَّة التي تبنَّاها هيوم، لا يوجد شيء ثابت ومستقرٌّ باسم الذات الإنسانيَّة self، ومن ثمَّ لا يحين الدور لأن يصبح موضوعاً للبحث والتحليل التجريبيّْ. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّه على ضوء استناده إلى مدركاته الحسِّيَّة لم يذعن إلَّا لتلك الأمور التي لها تأثير على قابليَّاتنا الحسِّيَّة والتجريبيَّة، لذا ليس هناك أمر ثابت ومستقرٌّ يمكن أن يعرف باسم الشخصيَّة الإنسانيَّة person، أو الذات الإنسانية self.
ليست هناك أيَّة تجربة أو إدراك حسِّيٍّ يمكن على أساسه طرح مفهوم أو صورة ثابتة للإنسان، لذا نحن لا نمتلك شيئاً بالنسبة إلى معرفة الإنسان سوى إدراكات مشتَّتة ومتباينة بحيث لا يوجد لدينا أيُّ اطِّلاع حسِّيٍّ ثابتٍ ومستقرٍّ نستشفُّ من خلاله واقع المعرفة الإنسانيَّة؛ فنحن نستشعر الخوف والمحبَّة والحرارة والبرودة والجوع والعطش في كياننا، لكنَّنا لا نشعر بوجود أيِّ أمرٍ مستقلٍّ عن ذلك باسم نفسي  myself، أي أنَّ النفس ليست مستقلَّةً عن إدراكاتنا الحسِّيَّة والتجريبيَّة التي هي في حقيقتها مشتَّتة وعُرضة للتغيير في كلِّ حينٍ، إذ ليس لدينا أيُّ إدراك حسِّيٍّ نتطرَّق إلى التنظير له ولمتبنيَّاته، ومن هذا المنطلق عندما نتحدَّث عن الإنسان بصفته فرداً عادةً ما نشير إلى هذه التصوُّرات والإدراكات التجريبيَّة والحسِّيَّة بدل أن نشير إلى التصوُّر الصريح للشخصيَّة الإنسانيَّة والذات الكائنة فيها؛ وهذه الرؤية المعرفيَّة توجب علينا الإذعان بحقيقة تجريبيَّة وثابتة اسمها إنسان، وهو بالطبع حقيقة ثابتة ومستقرَّة في هذا الكون ومن ثمَّ لا بدَّ  من أن يكون مُرتَكَزاً للدراسات الأنثروبولوجيَّة؛ ومن المؤكَّد أنَّها رؤية منكرة من أساسها لأنَّ التجربة والإدراك الحسِّي ليس من شأنهما إثبات هذه الحقيقة المشتركة والثابتة في الذات البشريَّة[26].
من جملة المباحث الهامَّة والأساسيَّة على الصعيد الإبستيمولوجيِّ، تفنيد النزعة التجريبيَّة المتطرِّفة وبيان الواقع المعرفي للعقل البشريِّ، ولا شكَّ في أنَّ شرح وتحليل هذا الموضوع يتطلَّب تدوين بحث مسهب ومفصَّل، لكنَّ ذلك لا يسعنا في هذه الدراسة الموجزة؛ كما أنَّ الأُسُس الأخلاقيَّة التي تبنَّاها هيوم وإنكار المعارف الأخلاقيَّة الضروريَّة، وربط الفضائل والقِيَم بمبدأ النفعيَّة، وكذلك طرح تفسير تجريبيٍّ للنفعيَّة العامَّة، هي من المباحث الهامَّة للغاية والتي تقتضي شرحاً واسعاً حيث تُدرج ضمن مواضيع فلسفة الأخلاق. مُرادنا من هذه المقدِّمة هو القول أنَّ الأصول الفلسفيَّة لنظريَّة العدل التي طرحها هيوم ترتبط في العديد من جوانبها بقضايا علميَّة متنوِّعة مثل الأنثروبولوجيا والإبستيمولوجيا وفلسفة الأخلاق، لذا فهي في هذا السياق تواجه تحدِّيات ونقداً جادَّاً، ومن ثمَّ إن أُريد لها أن تكون معتبَرةً فلا بدَّ من أن تجتاز هذه التحدِّيات بسلامةٍ ومن دون المساس بمبادئها.
المعضلة الأخرى التي تعاني منها نظريَّة هيوم المذكورة أشرنا إليها في المباحث الآنفة، وهي رأيه القائل بعدم إمكانيَّة استنتاج الوجوب من الوجود، حيث وقع في مغالطة الوجوب والوجود، فهو من جهةٍ أكَّد على أنَّ العدل منوط بمراعاة القوانين الموجودة بخصوص الملكيَّة لذلك قال لو لم تتمّ مراعاة هذه القوانين لسادت الفوضى في المجتمع، وهذه الفوضى ناشئة بطبيعة الحال من انعدام قانون العدل؛ وعلى هذا الأساس استنتج المعيار الأساسيَّ للعدل وقوانينه واستدلَّ على كونه فضيلةً - واجباً - من منطلق كونه يضمن تحقيق مبدأ النفعيَّة في المجتمع. ومن جهةٍ أخرى عزا فائدة القوانين إلى كونها وازعاً للحؤول دون وقوع فوضى في المجتمع، أي أنَّ الوجوب والمعيار المبدئيِّ يُستنتجان من حقيقة الوجود التي تتمثَّل بالنفعيَّة. والطريف أنَّ هذا الاستدلال هو الأمر ذاته الذي حذَّر منه سائر الفلاسفة والمفكِّرين من أن يخدعوا به!
وفي هذا السياق اعتبر العدل وصفاً لقوانين الملكيَّة، وأكَّد أنَّ المجتمع حينما يفتقد القانون ففي هذه الحالة لا يطرح أيَّ موضوع للبحث حول العدل أو الظلم، إذ من خلال تبلور القانون على أرض الواقع يتّضح المعنى والمدلول الواقعي للحقوق والعدل، ومن هذا المنطلق يمكن وصف السلوك العادل بأنَّه مراعاة هذه القوانين والالتزام بها.
يبدو أنَّ هيوم غفل عن موضوع في غاية الأهميَّة وهو أنَّ السؤال عن العدل مقدَّم على القانون الذي هو في الحقيقة موضوع له وللظلم، كما لم يلتفت إلى أنَّ السلوك الخارجيَّ من شأنه أن يتَّخذ كمصداق للسلوك العادل أو الجائر، والقانون بدوره قد يكون عادلاً أو جائراً؛ لذا يطرح السؤال التالي حول كلِّ اتِّفاق ووحدة في وجهات النظير على الصعيد القانوني: هل يمكن اعتبار هذا القانون مناسباً أو هو ليس كذلك؟ أي هل يُعتبر عادلاً أو جائراً؟ إذا اعتبرنا العدل وصفاً للقانون ودالَّاً على مراعاته وليس معياراً متعالياً تُقيَّم القوانين على أساسه، ففي هذه الحالة يمكن اعتبار كلِّ قانون متَّصفاً بالعدل على نحو اللزوم والضرورة مهما كان نوعه ومضمونه، لكنَّ هذا التصوُّر على خلاف مبادئ العقل السليم. القوانين التي من صياغة البشر والمتحصِّلة من اتِّفاق عدد من الناس أو من غالبيتهم لا يمكنها بحدِّ ذاتها ضمان العدل في كلِّ وضع أو ظرف يمكن تصوُّره.
المأخذ الآخر الذي يرِد على نظريَّة العدل التي طرحها هي أنّها تُقيِّد قوانين العدل بمفهوم الملكيَّة والمواضيع الثلاثة المرتبطة به، لذا نلاحظ أنَّ بعض الناقدين وشرَّاح آثاره اعتبروا تأكيده المبالغ فيه على الربط بين العدل والملكيَّة مجرَّد تشويه للحقائق، أو على أقلِّ تقدير اعتبروا الدواعي السيكولوجيَّة والتأريخيَّة تشير إلى هذه الوجهة الفكريَّة الغامضة؛ فالإنسان لديه متطلِّبات كثيرة أحدها الحاجة إلى المال والملكيَّة المادِّيَّة، كذلك من الناحية المنطقيَّة لا صواب للاعتقاد بأنَّ كلَّ الخلافات والنزاعات التي تحدث بين البشر تضرب بجذورها في ملكيَّة الأمور الشحيحة والنادرة.[27]
الجدير بالذكر هنا أنَّ النظام والقانون لا يقتصران على نَظْم شؤون الملكيَّة واحتواء الخلافات الماليَّة، بل لهما ارتباط وطيد بالحياة الاجتماعيَّة، وأبعادهما متنوِّعة بحيث يعمَّان كلَّ العلاقات بين أعضاء المجتمع. أمَّا نظريَّة هيوم فقد التزمت جانب الصمت إزاء مسألة التوزيع العادل للثروات مثل المصادر الطبيعيَّة، والمناصب السياسيَّة والاجتماعيَّة، ومختلف الوظائف والتكاليف في معترك الحياة، والسبب في هذا التجاهل للحقائق الاجتماعيَّة يعود إلى اعتقاده بأنَّ كلَّ نظام حقوقيٍّ والقوانين بأسرها - مهما كان مضمونها - تتَّسم بالعدل قهراً، لذا ليست هناك أيَّة موضوعيَّة لاختيار معايير أو أنظمة حقوقيَّة خاصَّة باعتبارها مرتكزات أساسيَّة ومثاليَّة لتقسيم الثروات؛ والحقيقة أنَّ فهم هيوم لمبدأ العدل يسفر عن قطع الطريق على المثُـل المقترحة بخصوص البنية الاجتماعيَّة المثاليَّة والعادلة.
المسألة الأخرى الجديرة بالذكر في هذا المضمار هي أنَّ نظريَّة هيوم هذه لا تعطي أيَّة إجابة عن السؤال المطروح حول الداعي لضرورة التزامنا بقوانين العدل، ونذكر هنا أنَّ هذا الفيلسوف أنكر وجود أيَّة رغبة أو وازع طبيعيٍّ لدى الإنسان يحفِّزانه على القيام بسلوكيَّات تندرج
ضمن مبدأ العدل، كما عزا مسألة كون العدل فضيلةً إلى مبدأ النفعية، حيث اعتبر الدافع الأساسيَّ لتبنِّي سلوكيَّات عادلة مرهونًا بسنِّ قوانين تضمن إقرار العدل في المجتمع باعتبار أنَّ هذه القوانين تنصبُّ في مصلحة الإنسان وتخدم نزعته النفعيَّة. ربَّما يعمُّ هذا الرأي تلك الموارد التي تنصبُّ القوانين في رحابها بمصلحة فرديَّة والتي يعني الالتزام بها احترام القوانين العادلة بغضِّ النَّظر عن مغالطة الوجوب والوجود؛ لكن هناك الكثير من الحالات التي تتبلور المصلحة الفرديَّة فيها على ضوء تجاوز القوانين وعدم الاكتراث بها، وفي هذه الحالة حتى وإن كان المرتكز الاستدلاليُّ هو ضرورة الاهتمام بشخصيَّة الإنسان بصفته فرداً والتزامه عمليَّاً بالقوانين التي تضمن إقرار العدل، فليس هناك أيُّ مجال لتطبيق نظريَّة هيوم ومختلف آرائه التي طرحها بخصوص العدل والأخلاق والأنثروبولوجيا.

مصادر البحث:
1. Hume David, Treatise on Human nature, edited by L.A. selby - Bigge The clarendon press, oxford, 1888.
2. Hume David, An Enquiry concerning the principles of morals, edited by la salle, Illinois, 1966.
3. Barry Brian, Theories of Justice, Harvester-Wheat sheaf, 1989.
4. Hume David, An Inquiry concerning human Understanding and the principles of Morals, edited by L.A. selby -Bigge, revised by P.Nidditch, The clarendon Press, 1975.
5. Harrison Jonathan, Hume`s theory of Justice, clarendon press, oxford, 1981.
6. Plant Raymond, Modern Political thought, Blackwell, 1991.

-------------------------------
[1].Hume David, Treatise on Human nature, edited by L.A. selby - Bigge The clarendon press, oxford, 1888, p. 469.
[2]. ثمَّة طبعتان منقَّحتان لهذا الكتاب إحداهما أصدرت في عام 1888م، والثانية في عام 1978م من قبل جامعة أوكسفورد، بينما النسخة غير المنقّحة طبعت في عام 1739م.
الجدير بالذكر هنا أنَّنا في هذه المقالة ارتكزنا بشكل أساسيٍّ على النسخة المنقَّحة الأولى، وأحياناً استندنا إلى النسخة المنقَّحة الثانية.
[3]. Hume David, An Enquiry concerning the pinciples of morals, edited by la salle, Illinois, 1966.
[4]. Barry Brian, Theories of Justice, Harvester - Wheat sheaf, 1989, p. 148.
[5]. Hume David, An Inquiry concerning human Understanding and the principles of Morals, edited by L. A. selby -  Bigge, revised by P. Nidditch, The clarendon Press, 1975.
يمكن الاطِّلاع على خلاصة نظريَّة ديفيد هيوم في الملحق الأوَّل appendix - 1 من كتابه “موجز الرسالة في الطبيعة البشريَّة».
[6]. Hume David, Treatise on Human nature, edited by L. A. selby - Bigge The clarendon press, oxford, 1888, p. 458 .
[7]. Harrison Jonathan, Hume`s theory of Justice, clarendon press, oxford, 1981, p. 18 - 20
[8]. Hume David, Treatise on Human nature, edited by L. A. selby - Bigge The clarendon press, oxford, 1888, p. 481.
[9]. Ibid, p. 273
[10]. Ibid, p. 501.
[11]. Harrison Jonathan, Hume`s theory of Justice, clarendon press, oxford, 1981, p. 69.
[12]. Hume David, Treatise on Human nature, edited by L. A. selby - Bigge The clarendon press, oxford, 1888, p. 526.
[13]. Ibid, p. 499 - 500.
[14]. Harrison Jonathan, Hume`s theory of Justice, clarendon press, oxford, 1981, p. 29.
[15]. Hume David, Treatise on Human nature, edited by L. A. selby - Bigge The clarendon press, oxford, 1888, p. 619.
[16]. Hume David, An Inquiry concerning human Understanding and the principles of Morals, edited by L. A. selby -  Bigge, revised by P. Nidditch, The clarendon Press, 1975, p. 305 - 306 .
[17]. Harrison Jonathan, Hume`s theory of Justice, clarendon press, oxford, 1981, p. 56 - 57.
[18]. Hume David, Treatise on Human nature, edited by L. A. selby - Bigge The clarendon press, oxford, 1888, p. 492.
[19]. Plant Raymond, Modern Political thought, Blackwell, 1991, p. 52.
[20]. Hume David, Treatise on Human nature, edited by L. A. selby - Bigge The clarendon press, oxford, 1888, p. 494 - 495.
[21]. Hume David, An Inquiry concerning human Understanding and the principles of Morals, edited by L. A. selby -  Bigge, revised by P. Nidditch, The clarendon Press, 1975, p. 184.
[22]. Hume David, Treatise on Human nature, edited by L. A. selby - Bigge The clarendon press, oxford, 1888, p. 492 - 497.
[23]. Hume David, An Inquiry concerning human Understanding and the principles of Morals, edited by L. A. selby -  Bigge, revised by P. Nidditch, The clarendon Press, 1975, p. 197
[24]. John Rawls , p. 109.
[25]. Barry Brian, Theories of Justice, Harvester - Wheat sheaf, 1989, p. 168.
[26]. Plant Raymond, Modern Political thought, Blackwell, 1991, P. 53.
الجدير بالذكر هنا أنَّ إبستيمولوجيا هيوم تتقوَّم على نزعة تجريبيَّة بحتة، وعلى هذا الأساس تترتَّب عليها نتائج عديدة غير متعارفة، وهي في هذا المضمار تشكِّك بالكثير من المفاهيم والقضايا الفلسفيَّة والعقليَّة؛ ومثال ذلك أنّها تنكر مبدأ الارتباط بين العلَّة والمعلول فعلى أساس مرتكزاته المعرفيَّة حينما نلاحظ ارتطام الكرة باليد لا ندرك بعد هذا الارتطام سوى تعاقُب وتوالي حركة هذه الكرة، في حين أنَّ قابليَّاتنا الحسِّية بخصوص العلَّة والعلاقات العلِّية لا يمكن تصويرها مطلقاً؛ لذا فإنَّ قانون العلّية برأيه لا يقتضي الإذعان بوجود علَّة لكون الحسَّ والتجربة لا يؤيِّدان ذلك.
[27]. Harrison Jonathan, Hume`s theory of Justice, clarendon press, oxford, 1981, p. 42.