البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المعجزة في فلسفة الدين عند هيوم

الباحث :  محمد فتح علي خاني
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  18
السنة :  السنة الرابعة -شتاء 2019 م / 1441 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 8 / 2020
عدد زيارات البحث :  3003
تحميل  ( 492.586 KB )
يستخدم هيوم الاستدلال العلّيّ في ما يرتبط بموضوع المعجزة، وذلك في إطار الحكم على صحة معتقد دينيّ ما. الباحث محمد فتح علي خاني ناقش هنا أطروحات هيوم بصدد المعجزة في سياق مجادلاته مع اللاهوت المسيحي.
هذا البحث يتمحور حول الكيفية التي تناول فيها هيوم موضوع المعجزة في إطار اهتماماته بقضايا فلسفة الدين.
كما يتضمن تفكيكاً لآراء هيوم وتحليلها وبالتالي نقدها على قاعدة إثبات واقعية المعجزة تبعاً لمنهج الاستدلال العليِّ.

المحرِّر
----------------------------------
في القرنين السابع عشر والثامن عشر للميلاد شاع حقلان للدفاع عن الإيمان بالله؛ حقل يخوض في الأصول والمبادئ المشتركة بين المسيحيّين والربوبيّين (المؤمنين بالله غير الدينيّين) ويحاول إثبات وجود الله استنادًا إلى أدلّة عقليّة تمامًا. وتحدّثنا حول هذا الحقل من المعتقدات في البحوث المتعلّقة ببرهان النظام؛ أمّا الحقل الثاني من المناقشات والمنافحات فيختصّ بالمسيحيّين، ويُقصد منه إثبات حقّانيّة رسالة عيسى بن مريم، والواقع أنّ حصيلة هذه المنافحات هي معارضة الملحدين والربوبيّين بشكل متزامن. يوافق الدائيّون على وجود الله خالق العالم، لكنّهم ينكرون أيّ تدخّل له في العالم، فهم يرفضون تدخّل الله في عمليّات تدبير العالم عن طريق المشيئة والعناية الإلهيّة، وينكرون تدخّله الوحيانيّ عن طريق إرساله رسلًا يؤمن المسيحيّون بهم؛ لذلك ينكرون أيضا التدخّل في سياقات الطبيعة عن طريق المعجزة لإثبات دعوى الرسل والأنبياء.
لقد أحرز معارضو المسيحيّة في العصر الحديث في إطار نهضة مثل الربوبيّة نفوذًا وتأثيرًا ملحوظًا، وبذلك اكتسبت الاستعانة بالمعجزة في إطار الدفاع عن المسيحيّة أهمّيّة مضاعفة. وقبل هيوم وافقت بعض الشخصيّات البارزة مثل جون لوك - وهو من مؤسّسي العقلانيّة في العصر الحديث - على المعجزة كدليل. ويرى لوك أنّه يمكن إثبات وجود الله اعتمادًا على البديهيّات، ولكن لا يمكن إثبات المسيحيّة بالاستناد إليها، فالمسيحيّة تعني الإيمان بأنّ عيسى ابن الله، والاعتقاد بالابن يعني الاعتقاد بأنّه المسيح، فلا بدّ من الإيمان بمعجزاته وادّعاءاته[1]. وهكذا فإنّ معجزات عيسى من وجهة نظر لوك تمثّل شهادات تثبت رسالته السماويّة وأنّه المسيح الذي أرسله الله، يقول في هذا الصدد: "الدليل على الرسالة السماويّة لمخلّصنا، أي مجموع ما قام به أمام كلّ الناس، دليل قاطع جدًّا، حيث إنّ كلّ ما عرضه لا يمكن إلّا أن يكون وحيًا إلهيًّا وحقيقةً لا شبهة فيها"[2].
ويمكن بيان الاستدلال بالمعجزه لإثبات صحّة ادّعاء عيسى في المقدّمات الآتية:
1 ـ الله فقط يمكنه منح القدرة على الإتيان بالمعجزة لشخص ما.
2 ـ الله لا يمنح مثل هذه القدرة لشخص يتسبّب في انحراف الناس وإضلالهم.
النتيجة: كلّ من يأتي بمعجزة أو بمعاجز يكون في الواقع قد قدّم دليلًا على كونه جديرًا بالارتباط بالله، ويمكنه أن يبلِّغ الوحي الحقّ[3].
شاع مثل هذا الاستدلال في زمن هيوم، وكان معارضو هذا الاستدلال يرتابون في دلالة المعجزة على صحّة ادّعاء صاحبها، ويشكّكون كذلك في صحّة المعجزات المرويّة ويثيرون الشبهات حولها.
وكان هيوم مطّلعًا على آراء المدافعين عن المعجزة كدليل، وكان يقدّر أهمّيّة هذا الدليل ونفوذه في أذهان العامّة من الناس؛ بل حتى في أذهان المستنيرين والمثقّفين منهم أيضًا، وكان كذلك على علم بآراء المتحرّرين في العصر الحديث الذين يعارضون المعاجز معارضة جدّيّة. ومن أجل أن يستكمل نقده للمؤمنين بالله والدين، كان قد انشدّ لبحث إشكاليّة المعجزة منذ فكّر في تأليف وكتابة الأجزاء المختلفة من "رسالة في الطبيعة البشريّة" لقد حاول أن يقرّر وينقّح نقدًا حول مسألة المعجزة، ويقول هيوم إنّ هذا الإشكال قد خطر بباله أثناء حواراته مع يسوعيٍّ فرنسيٍّ، وكانت ثمرة هذه المحاولة إشكاليّة دوّنها وكان يريد في البداية إدراجها ضمن كتابه المذكور لكنّه في نهاية المطاف لم ينشرها في ذلك الكتاب بسبب اعتباراته المحافظة من جهة، ولأنّه كان يرغب في إعادة النظر فيها من جهة أخرى لكنها نُشرتْ بعد ذلك مع إضافات وتعديلات تحت عنوان الفصل العاشر من البحث الأوّل. واهتمّ كلّ من ناقش قضيّة المعجزة في أوروبا اهتمامًا خاصًّا بهذا الفصل منذ صدوره، وتحدّث عنه المعارضون والمؤيّدون وكتبوا عنه الكثير، حتى أنّ كاتب مقال "المعجزات" في "موسوعة استانفورد" يقول: "الفصل العاشر من كتاب هيوم "بحث حول الفهم البشريّ" المعنون "حول المعاجز" يعدّ نصًّا كلاسيكيًّا ومثلًا أعلى للبحوث الفلسفيّة حول المعجزات في الحقبة الحديثة والمعاصرة". ويذهب بعض الخبراء إلى أنّه كان لهذه الدراسة تأثير أساسيّ على تيّار فلسفة الدين في العصر الحديث[4].

المعجزة وحساب الاحتمالات
حاول هيوم إشراك بحوث الاحتمالات في الحكم على المعاجز، وكانت خطوته هذه محاولة للتغلّب على مشكلة لم يستطع الماضون حلّها. كان جون لوك قد سبقه بالقول إنّ ثمّة مصدرين لمعتقداتنا الظنّيّة والاحتماليّة: الأوّل الشبه بين الشيء وبين علومنا ومشاهدتنا وتجاربنا، والثاني شهادات الآخرين الذين يروون لنا مشاهداتهم وتجاربهم. وبعد أن عرض لوك شروط قبول شهادات الآخرين ورواياتهم، أكّد على أنّ المنهج العقلانيّ لقبول العقائد الاحتماليّة بشكل عامّ يكمن في مقارنتها ببعضها من حيث القوّة و الرصانة، وترجيح الاحتمال الأقوى على سائر الاحتمالات[5].
يرى لوك في مقام المقارنة بين الاحتمالات أنّ ثمّة مشكلة تبرز ندما تتعارض الشهادات مع التجارب العامّة، وعندما تتناقض الأخبار والشهادات التاريخيّة مع بعضها، ومع السياق المألوف للطبيعة. هنا لا بدّ من المثابرة والتوجّه والدقّة للخروج بحكم صحيح، وتكييف درجة ومرْتِبة تصديق أمرٍ ما مع الاحتمال الحاصل من المشاهدات المشتركة في الحالات المتشابهة [من جهة] والاحتمال الحاصل من شهادات خاصّة حول ذلك الأمر نفسه [من جهة ثانية]... الدرجات المختلفة من التصديق التي يمحنها الأفراد لكلّ واحد من الأدلّة والشواهد من الصعب إدراجها ضمن قاعدة دقيقة»[6].
المشكلة التي يطرحها لوك في العبارات المذكورة هي في الواقع الصورة الكلّيّة لمشكلةٍ تطرّق هيوم لأحد مصاديقها، وقد حاول بنحو من الأنحاء الحكم بين أخبار المعاجز والأدلّة والقوانين الطبيعيّة عن طريق حساب الاحتمالات، وترجيح أحد الجانبين على الآخر، وحاول بذلك إدراج هذا الحكم أو التقويم في إطار قاعدة، لكن لوك لم يستعن بحساب الاحتمالات في هذا المقام (ربما بسبب عدم اطّلاعه عليه)، فلم يكن بوسعه فعل شيء سوى الدعوة للدقّة والمثابرة وما إلى ذلك[7].

حول المعاجز
وردت دراسة هيوم الرئيسة حول المعجزات في فصل تحت هذا العنوان (حول المعاجز) في كتابه (بحث حول الفهم البشريّ). تعود الفكرة الأصليّة للبحوث المطروحة هنا إلى الفترة التي كان يمكث فيها هيوم في فرنسا، أي حينما كان يكتب رسالته[8]. يروم هيوم في دراسته هذه مستعينًا ببحوث حول حساب الاحتمالات الانتهاء إلى نتيجة فحواها أنّ أخبار المعاجز غير معقولة، والقول إنّ توظيف المعاجز للدفاع عن المسيحيّة عمليّة غير مجدية وغير كفوءة. ولتحقيق هذه الغاية فإنّ هيوم لا يدرس أيّ خبر خاصّ حول وقوع المعاجز، بل يدّعي أنّ بمقدوره عرض استدلال كلّيّ شامل يغنينا عن هذه الدراسة للحالات الخاصّة. حيث يتوهّم أنّ لديه استدلال ضدّ المعجزات يسقط كلّ أخبار المعاجز عن الاعتبار، حتى لو وردت عن لسان أوثق الشهود وأكثر الرواة أمانةً، وهو يرى أنّ هذا الاستدلال إبداعيّ ومتقن ورصين طبعًا، لكنّ نقّاده يرون غير ذلك.
شكّك بعض الباحثين في إبداعه هذا الدليل، ورووا نماذج له جاء بها سابقون على عليه، وأنكر فريق آخر إتقان الدليل وانسجامه، ووصفوا كلّ الدراسة (حول المعاجز) بأنّها مشوّشة وتفتقر للمتانة.[9]. وقد انطلقت مثل هذه النقود على هيوم منذ كتابته هذه الدراسة، حيث سجّل عليه معاصروه بعض الملاحظات والإشكالات. ارتاب جورج كمبل[10] المعاصر لهيوم في أصالة استدلال هيوم وإبداعه، لكنّه لم يتحدّث عن مضمونه، وقرّر بلغة ساخرة أنّ آراء هيوم في رفض روايات المعاجز تفتقر للقيمة والأهمّيّة، معتبرًا أنّ أسلوب بحثه يشكّل حيلة لإثارة دهشة القرّاء وكسب ثقتهم:
عندما يعرض كاتبٌ صاحب نبوغ وفصاحة وبلاغة أفكاره بتعابير عامّيّة، فمن السهل عليه أن يخلع على أبعد الأشياء عن العقلانيّة لبوس العقل وظاهره... . إنّه يستخدم الاستعارات بشكل خاصّ... استعارات مناسبة لكسب القارئ إلى معسكره. ما من شخص بسيط طيّب يستطيع الشكّ في حياد باحث يقيس كلّ استدلالات أطراف النزاع بمقاييس عقليّة، أو يستطيع تسجيل شبهة على دقّة باحث يطرح كلّ شيء ويوضحه بحسابات عدديّة. استدلال هيوم من زاوية سطحيّة لا يقلّ عن البرهان، ولكن إذا دُرس بدقّة، فلا يمكن أن نجد حالة يمكن استخدام ذلك الاستدلال فيها بشكل معقول[11].
يشير كمبل في حديثه عن الحسابات العدديّة إلى استعانة هيوم ببحوث الاحتمالات، بالشكل الذي يعتقد فيه أنّ هيوم قبل أن يستطيع تكوين استدلال متقن بواسطة حساب الاحتمالات، حاول بعرضه حسابات عدديّة أن يمنح استدلاله رونقًا ويبهر القارئ السطحيّ بقابليّاته الفريدة.
ليس كلّ الذين تطرّقوا لدراسة هيوم هذه في مناقشاتهم للمعجزة يفكّرون ويكتبون مثل كمبل، فقد نظر بعضهم نظرة قبول لاستدلاله ضدّ المعجزة، واعتبروه استدلالًا حاسمًا في رفض المسيحيّة.
وإذا أردنا أن نرجّح إحدى هاتين الرؤيتين المتعارضتين تمامًا، فلا بدّ أن نفهم أوّلًا ما الذي يقوله هيوم في دراسته هذه، وما هو هذا الاستدلال الحاسم الذي يتحدّث عنه؛ لذلك نعرض أوّلًا تقريرًا مختصرًا لدراسته.

بنية فصل "حول المعاجز"
يتكوّن فصل "حول المعاجز" من قسمين رئيسين؛ يحاول هيوم في القسم الأوّل إقامة استدلال عامّ، وعلى حدّ تعبير شرّاحه: إقامة استدلال قبليّ؛ حتى يمكن بالاعتماد عليه البتّ في مدى صحّة كلّ روايات المعاجز، والشطب بقلم البطلان على المعجزة كدليل على حقّانيّة المسيحيّة، وذلك دون الخوض في بحوث تفصيليّة دقيقة حول الوثائق والتوثيق وما شاكل. يرى بعض النقّاد أنّ محاولة هيوم هذه هي محاولة عبثيّة تنمّ عن نوع من الأحلام المجنّحة، ولا تجلب شيئًا سوى الفضيحة[12].
يعرّج هيوم في القسم الثاني من دراسته على الاستدلال البعديّ، فيوافق بشكل ضمنيّ على أنّه من غير المعلوم أنّ طموحه في إسقاط الاعتبار عن روايات المعجزة قد تحقّق أو لم يتحقّق. يسوق هيوم في هذا القسم أربعة أدلّة تشهد على أنّ روايات المعاجز لا تتوفّر على الشروط والخصائص اللازمة لكي تكون وثائق تاريخيّة معتبرة يمكن الوثوق بها. وبعبارة أخرى فإنّ الروايات التي تخبر عن نهوض عيسى وانبعاثه حيًّا من الأموات لا تتوفّر على شروط الاعتبار. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هيوم لا يتعرّض إلى روايات انبعاث عيسى واحدةً واحدةً، ولم يحاول دراسة مدى اعتبار كلّ واحدة منها بشكل منفصل، لكنّه على كلّ حال حاول بنظرة في الواقعيّات التاريخيّة تسجيل نواقص وثغرات على هذه الروايات.
ببيان أفضل، في القسم الأول يأخذ هيوم بعين الاعتبار - وفي أجواء انتزاعيّة تمامًا - فرضيّات مختلفة يمكن ذكرها للحكم على اعتبار رواية من الروايات في حدّ ذاتها، يقول في هذا الخصوص: على فرض أيّ درجة من الاعتبار لرواية ما، يمكن القول إنّ مضمون روايات المعاجز ومحتواها يمنعنا مسبقًا من قبولها. في هذا القسم لا يكلّف هيوم نفسه أبدًا عناء مراجعة التاريخ والوثائق التاريخيّة، لكنّه في القسم الثاني يقدّم حكمًا تاريخيًّا في الواقع، ويتطرّق في ضوء ما وقع في التاريخ، بحيث يمكن قبوله من دون أيّ شكّ لتقويم أخبار المعجزات، وخصوصًا معجزات العهد الجديد، ومنها معجزة قيام عيسى من الأموات بشكل أساس. يعتقد هيوم أنّ الأمور الواقعيّة والتاريخيّة التي لا تقبل الشكّ والتي تمنع قبول روايات المعاجز، هي من هذا القبيل:

1ـ روايات المعاجز ترجع كلّها إلى مجتمعات بدائيّة بدويّة غير مثقّفة.
2ـ كلّ البشر، وخصوصًا الشعوب القديمة، لديهم ميول مفرطة نحو الإيمان بالأمور الباعثة للحياة والخارقة للعادة، وهم يبالغون في ميولهم هذه إلى درجة أنّهم ينسجون حول كلّ خبر عن هذه الأمور زخارف وإضافات بشكل مستمرّ.
3ـ تعرض جميع الأديان على اختلافها روايات تاريخيّة دالّة على وقوع المعاجز، ويبني المتديّنون والمؤمنون بتلك الأديان إيمانهم على صحّة تلك الروايات، وبهذا يستخدمون معجزات دينهم كحِرابٍ وأسلحة ضدّ الأديان الأخرى وضدّ معجزات الأديان الأخرى، غافلين عن أنّهم معرّضون بدورهم لتهديدات معاجز الأديان الأخرى.
ونلفت نظر القارئ إلى أنّنا سنقدّم تقريرًا تحليليًّا تفصيليًّا لكلا القسمين من دراسة (حول المعاجز) في بحوث قادمة.

الاستدلال القبليّ ضدّ المعاجز
يعتبر هيوم المعجزة نقضًا لقانون الطبيعة. فالمعجزات المدّعاة في الدين المسيحيّ لا تقبل أيٌّ منها المشاهدة بحواسنا؛ لذلك لا يمكن الاعتقاد بها إلّا عن طريق دراسة الروايات التي تخبر عنها، فهل يمكن الاعتماد على أخبار المعاجز لإثبات أنّ قانون الطبيعة قد نُقض؟!
يجيب هيوم عن هذا السؤال عن طريق بيان وقوع تعارض بين الأدلّة، حيث يقول إنّ اعتقادنا بقوانين الطبيعة هو ثمرة مشاهدة اقتران دائم بين ظاهرتين نعتبر واحدة منهما علّةً والثانيةً معلولًا. تجاربنا الماضية حول هذه الظاهرة رتيبة ومتكرّرة إلى درجة أنها تمنحنا أعلى درجات الثقة أن إحدى هاتين الظاهرتين إن وُجدت في المستقبل ستتحقّق الثانية أيضًا. لكنّ روايات المعاجز تدّعي أنّه ثمّة حالة واحدة توفّرت فيها إحدى هاتين الظاهرتين ولم تتحقّق الثانية. تقول لنا التجربة الرتيبة ـ على سبيل المثال ـ أنّه عندما يموت شخص فلن يعود إلى الحياة، أي أنّ الموت وعدم العودة إلى الحياة ظاهرتان متقارنتان دومًا. إذن، قانون الطبيعة هو عدم العودة للحياة بعد الموت. لكن أخبار المعاجز تقول إنّه في مكانٍ ما نُقض هذا القانون وعاد شخص إلى الحياة بعد موته، وهنا نسأل: أيّ هذين نصدّق؟ هل نصدّق مقتضى التجارب الماضية التي تقول أنكروا وقوع مثل هذه المعجزة، أم نصدّق فحوى أخبار المعاجز؟ من أجل أن نستطيع تصديق أحد هذين الخبرين يجب أن ننظر إلى مدى قوّة أرصدة كلٍّ منهما. ورصيد قانون الطبيعة تجربة رتيبة لا استثناء لها، فماذا عن رصيد أخبار المعاجز؟
عمومًا، نصدّق الأخبار ونعتقد بمحتواها؛ لأنّنا وجدنا في الماضي أنّه متى ما كان المخبرون عن الأحداث أناسًا موثوقين ولا توجد لديهم دوافع كذب، كانت أخبارهم صحيحة ومتطابقة مع الواقع. تكرار تجربة الاقتران بين الخبر وتطابقه مع الواقع يحضّنا على قبول الأخبار والروايات، ولكن هل الاقتران بين الخبر وصحّته هو اقتران دائميّ؟ لا شكّ أنّنا وجدنا في تجاربنا الماضية حالات لم تكن فيها الأخبار متطابقة مع الواقع؛ لذلك فإنّ ثقتنا بصحّة الخبر لا ترقى أبدًا لصحّة قوانين الطبيعة، وبهذا نقول إنّ المنهج العقلانيّ في الانتخاب بين قانون الطبيعة وخبر المعجزة هو ترجيح الدليل الأقوى على الدليل الأضعف. وفي هذه الحالة فإنّ الدليل المؤيِّد لقانون الطبيعة أقوى، وبالتالي يقتضي العقل أن ننكر المعجزة ونرجِّح قانون الطبيعة على صحّة خبر المعجزة.

يمكن بيان هذا الاستدلال بالشكل الآتي: (غسكين، 1988م، ص 152 و 153):
1 ـ الدليل الأضعف لا يبطل الدليل الأقوى أبدًا.
2 ـ الإنسان العاقل يلائم عقيدته مع الدليل.
3 ـ بعض الأحداث تقع دائمًا بشكل رتيب متكرّر ونستطيع تجربتها، ومثال ذلك أنّ كلّ البشر يموتون. هذه التجارب الرتيبة للأمور الواقعيّة تؤسس لمسلّمات تسمّى قانون الطبيعة، والتجارب الثابتة تعضدها وتؤيّدها.
4 ـ فئة أخرى من الأحداث لا تقع بشكل رتيب ودائميّ. ووقوع هذه الأمور يفتح الباب أمام احتمالات مختلفة في مستوى قوّتها، بعضها يمثّل احتمالات قويّة، وبعضها يمثّل احتمالات ضعيفة.
5 ـ صحّة الأخبار والروايات والشهادات الإنسانيّة حسب ما لدينا من تجارب، هي على الغالب احتمال قويّ، إلى أن تتحوّل إلى دليل كامل على وقوع ما ترويه على أرض الواقع.
6 ـ لكنّ صحّة الشهادة الإنسانيّة في بعض الأحيان قد تمثّل احتمالًا ضعيفًا، كما لو تعارضت الشهادات فيما بينها، أو إذا كان عددها قليلًا، أو إذا رُويت عن أشخاص غير موثوقين، أو إذا كان الرواة محبّين لموضوع شهادتهم منتفعين منه، أو عندما يروي الرواة خبرهم بشكّ واضطراب، أو عندما يروون خبرهم بإصرار وحدّة وشدّة غير طبيعيّة.
نستنتج من المقدّمتين 3 و 4 أنّه عندما يتعارض خبر المعجزة مع التجربة الرتيبة، فإنّ التعارض في الواقع يقع بين احتمالٍ ـ ضعيف أو قويّ ـ هو احتمال صحّة الخبر، مع يقين.[13] وبناءً على المقدّمتين  1 و 2، فإنّ من الطبيعي أن يرجّح الإنسان العاقل جانب اليقين.
في خصوص أيّ معجزة يصدق القول إنّها تقف على الضدّ من قانون طبيعيّ، وإلّا لم تكن جديرة بأنّ تسمّى معجزة. التجربة الرتيبة التي تؤيّد قانون الطبيعة تصل في الواقع إلى متانة الدليل الكامل، وبالتالي فإنّ ماهيّة أيّ واقعة إعجازيّة تقتضي أن يكون مقابلها دليلًا كاملًا حاسمًا، بحيث يكون دليلًا لا يمكن الانتصار عليه إلّا بدليل أقوى منه، والحال أنّ أيًّا من روايات المعاجز لا تتمتّع بمثل هذه القوّة التي تخوّلها التفوّق على دليل القوانين الطبيعيّة.
وبعد بيان المقصود من الاستدلال القبليّ لهيوم والذي يشكّل القسم الأوّل من دراسته، يجب أن ندرس العناصر المدرجة فيه واحدًا واحدًا، لنستطيع عبر تحليل كلّ واحد من تلك العناصر التوصل إلى تقويم بشأن قوّة هذا الاستدلال.

تعريف المعجزة
يعرّف هيوم المعجزة في دراسته بطريقتين؛ يقول في بداية الدراسة: "المعجزة نقض لقوانين الطبيعة"[14]، ثم يعرض في أحد الهوامش تعريفًا آخر فيقول: "يمكن تعريف المعجزة على نحو دقيق بالآتي: مخالفة أحد قوانين الطبيعة بواسطة إرادة إلهيّة خاصّة أو بواسطة تدخّلِ عامل غير مرئيّ"[15]. ولقانون الطبيعة في كِلا التعريفين مكانة خاصّة، ولكن أُضيفَ إلى التعريف الثاني عنصر آخر هو "تدخّل الإرادة الإلهيّة الخاصّة أو العامل اللاَّمرئيّ".
ويمكن ملاحظة كِلا العنصرين في التعاريف التي عرضها الفلاسفة والمتكلّمون الأوروبيّون والمسيحيّون قبل هيوم، فتوما الأكوينيّ يعرّف المعجزة بالآتي: "تقال المعجزة لأمور تحدث بفاعليّة إلهيّة وفوق النظام المشهود عادةً في الطبيعة"[16]. وينقل لوين أنه قد ورد في "موسوعة چمبرز" أنّ: "المعجزة في الكلام المسيحيّ تدلّ على تدخّل واضح للقدرة الإلهيّة يقضي على الأداء الاعتياديّ لتيّار الطبيعة، أو يوقفه مؤقّتًا أو يغيّره" [17].
بإلقاء نظرة إلى كِلا التعريفين الذين يطرحهما هيوم يتجلّى أنّ عنصر مخالفة قانون الطبيعة يتمتّع عنده بأهمّيّة أكبر. إذن، لإدراك تعريف هيوم للمعجزة بشكل أصحّ، يجب أن نفهم مراده من (قانون الطبيعة).

قانون الطبيعة
ثمّة آراء ونظريّات متباينة في فلسفة العلم حول ماهيّة قانون الطبيعة، والخوض فيها يخرج عن نطاق بحثنا الحاليّ. نروم هنا معرفة ما يقصده هيوم من قانون الطبيعة، حيث يرى هيوم أنّ قانون الطبيعة عبارة كلّيّة، وهو قانون ينبئ عن نظام دائميّ في الطبيعة. النظام الدائميّ نظام لا تُشاهد على الإطلاق أيّ حالة بخلافه. وبناءً عليه فإنّ كلّ قوانين الطبيعة تُعضد وتبرهن بتجارب رتيبة. بعبارة أخرى، ثمّة دائمًا دليل كامل يؤيّد قانون الطبيعة؛ لذلك تصديقنا لقانون الطبيعة لا يرقى له أيّ شكّ أو ارتياب، فإذا اعترفنا بعلاقة بين ظاهرتين على أساس أحد قوانين الطبيعة، نقوم في الواقع بالإخبار عن تداعٍ واقترانٍ في ذهننا لا يقاربه الشكّ، وبمجرّد أن يظهر فيه انطباع أو تصوّر لأحد طرفي هذه العلاقة يظهر تصوّر للطرف الآخر منها، وعندما نواجه أحد طرفي العلاقة نتوقّع وجود الطرف الآخر منها.
يعتقد هيوم أنّه لا توجد أيّ علاقة من علاقات العلّيّة بين الظواهر يمكن أن تعدّ علاقة ضروريّة أي (ضرورة منطقيّة)، ولا يمكن أن تتخلّف؛ لأنّه يمكن دومًا تصوّر خلاف تلك العلاقة. إذن يمكن منطقيًّا نفي أيّ علاقة منطقيّة، وإذا شاهدنا شيئين كنّا قد شاهدناهما في السابق مقترنين ببعضهما دائمًا، ثمّ وجدناهما منفصلين عن بعضهما، فلن يكون قد وقع بذلك أيّ محال منطقيّ. إذن، نقض الطبيعة يفترض مبدئيًّا أن يكون أمرًا ممكنًا، وبالنتيجة فالمعجزة حسب تعريف هيوم ليست أمرًا ممتنعًا؛ بل هي أمر ممكن منطقيًّا. من هنا يمكن الاستنتاج أنّ هدف هيوم من استدلاله لا يمكن أن يكون القول بامتناع وقوع المعجزات. وبالتالي إذا استطاع شخص أن يثبت في ضوء تصريحات هيوم ولوازم كلامه، بأنّه يدّعي امتناع المعاجز، فعندها يكون قد استطاع الإشارة إلى الإشكال في أفكار هيوم.
لقد صرّح بعض شرّاح فكر هيوم من منطلق قرينة آرائه حول إمكانيّة وقوع العلاقات العلّيّة وأنّها غير ضروريّة، بأنه لم يقصد إثبات استحالة المعجزة، إنّما أراد التحدّث حول روايات المعاجز ودرجة قابليّتها للتصديق فقط[18].
ربما أمكن العثور على قرينة أخرى في كلام هيوم تعضد هذا الرأي، على الرغم من أنّه قد يكون ثمّة اختلاف في وجهات النظر حول دلالة هذه القرينة. والقرينة هي أنّ هيوم - كما سبق أن قلنا - حرّر فصلَ "حول المعاجز" في قسمين، وخصّص القسم الأوّل للاستدلال القبليّ، وناقش في القسم الثاني الاستدلال البعديّ بالتفصيل، واستدلال هيوم البعديّ يفيد أنّ قوّة روايات المعاجز ليست بالدرجة التي تمكّنها من معارضة دليل قانون الطبيعة. وضعف روايات المعاجز ناتج عن طبيعة الظروف التي سادت شهود المعاجز ورواتها وزمانهم. الاستعانة بمثل هذا الاستدلال لمعارضة روايات المعاجز عمليّة مقبولة، وذلك إذا كان نقض قانون الطبيعة ممكنًا، وإلّا فإنه يمكن لأيّ شخص الجزم ببطلان أيّ رواية تخبر بشيء مستحيل دون أن يحتاج إلى التشكيك في توثيق شهود الرواية ورواتها. مجرّد خوض هيوم في البحث حول شروط الثقة برواة أخبار المعاجز يمثّل قرينة بحدّ ذاته على أنّه لا يعتبر وقوعَ المعجزةِ مستحيلًا بنفسه.
طبعًا، قد يقال إنّ قضيّة القسم الثاني من "حول المعاجز" قضيّةٌ ترِد من باب التسامح، وفيها طابع جدليّ، بمعنى أنّ هيوم يرى المعاجز مستحيلة، لكنّه يريد القول في القسم الثاني من دراسته بأنّه حتى لو لم نعتبر المعجزة مستحيلةً فالأخبار التي تروي لنا هذه المعاجز لا تتمتّع بالشروط اللازمة والاعتبار الكافي. ولكن من المستبعد أن يستمرّ النقاش الجدليّ التسامحيّ ليستغرق صفحات أكثر مما استغرقه النقاش الأصليّ أي القسم الأوّل من دراسة "حول المعاجز".
والخلاصة هي أننا إذا اعتبرنا المعجزة نقضًا لقانون الطبيعة واعتبرنا قانون الطبيعة قانونًا ضروريًا لا يقبل التخلّف، عندئذ ستكون المعجزة عبارة عن: "التخلّف عن قانون لا يقبل التخلّف"، وهذه عبارة متناقضة، وبالتالي ستكون المعجزة مستحيلة، وهكذا لن تكون ثمّة حاجة للبحث والنقاش في سبيل رفض روايات المعاجز، ناهيك عن التشكيك في صلاحيّة الشهود ووثاقتهم، أو النقاش حول الظروف الفكريّة والثقافيّة في زمن وقوع المعجزة، وما إلى ذلك. إذن، فإنّ مجرّد قد طرح مثل هذه البحوث والمسائل في القسم الثاني يعدّ بحدّ ذاته شاهدًا وقرينة على أنّ هيوم لم يفهم قانون الطبيعة كضرورة خارجيّة لا تقبل النقض.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ كون القوانين الطبيعيّة ضروريّة لا ينسجم أساسًا مع النزعة التجريبيّة. والواقع أن هناك فهمين اثنين لقوانين الطبيعة، الأوّل: فهم عقلانيّ والثاني فهم تجريبيّ؛ أما في الفهم العقلانيّ لقوانين الطبيعة فقد يضعف احتمال وقوع المعجزة إلى الصفر، وبالتالي يضعف احتمال صحّة روايات المعاجز إلى الصفر أيضًا. فوقوع المعجزة لا يعتبر غير معقول عند التجربيّين، فمنهج أصالة التجربة لا يقتضي مثل هذا الحكم بالاستحالة، لأنّ هذا المنهج لا يعصم من الشكّ والترديد حتى في ما يتعلّق بأرقى النظريّات العلميّة وأوثقها، وحدود الاطمئنان والوثوق في المناهج التجريبيّة أقلّ دومًا من اليقين المنطقيّ، وثقتنا بالعلم والنظريّات العلمية أدنى دومًا من اليقين[19].
 لو كان فهم هيوم لقانون الطبيعة كفهم العقلانيّين، لكان حاله كحال اسبينوزا؛ حيث يعتقد هذا الأخير أنّ نظام العالم نظام ضروريّ ناتج برمّته عن الإرادة الإلهيّة، ولا يقبل أيّ نظام من نظمه التخلّفَ؛ لأنّ النقض والتخلّف في هذه الأنظمة هو بمثابة التخلّف عن إرادة الله وأوامره. هذا النظام الضروريّ لا يقبل التخلّف على أرض الواقع، وتسوده علاقات علّيّة ضروريّة، وينعكس في عقل الإنسان أيضًا على شكل علاقات ضروريّة لا تقبل التخلّف، وعليه فإنّ تصوّر أيّ تخلّف عن قوانينه يعدّ تصوّرًا مخالفًا للعقل. وإذن، فالمعجزة حدث مستحيل ويجب تفسيرها في إطار معتقدات الناس ليس إلّا، أي إنّ المعجزة حدث لا يمكن تبيين علّته الطبيعيّة بواسطة الأحداث الطبيعيّة المألوفة والدراجة، أو إنّنا وشهودها غير قادرين على تبيينها بما يوافق قوانين الطبيعة.
هذا التصوّر للمعجزة يمكن تسميته التصوّر الذهنيّ للمعجزة. وهو في الواقع تبيين طبيعيّ لوجود اعتقاد بالمعجزة أو لوجود روايات تخبر عنها. أي إنّها تبيّن أنّ عدم إطلاع الناس على العلل الطبيعيّة لبعض الحوادث يمثّل علّة لنسبة تلك الحوادث إلى علل فوق طبيعيّة.
حاول هيوم بدوره تفسير روايات المعجزة والاعتقاد بالمعاجز تفسيرًا طبيعيًّا، وخصّص القسم الثاني من دراسته لهذه المهمّة، بيد أنّه لم يكن يؤمن بحتميّة قوانين الطبيعة كما يؤمن بها اسبينوزا. إذن كيف يمكنه مثل اسبينوزا تقبّل التصوّر الذهنيّ للمعجزة؟ بكلمة ثانية: إذا لم تكن المعجزة مستحيلة، فلماذا يجب أن لا نمحّص روايات المعاجز، فإذا كان رواتها موثوقين صدّقنا وقوعها؟ لماذا يجب إنكار وقوع تلك الحوادث بنحو قبليّ؟ يجيب هيوم عن هذا السؤال المهمّ عن طريق دراسة متانة دليلين متعارضين ومقارنتهما. وحاصل الجواب أنّه حتى لو لم يكن وقوع المعجزة مستحيلًا، فسيبقى دليل قانون الطبيعة أقوى دائمًا من دليل أخبار المعجزات؛ لذلك لا يستطيع دليل أخبار المعجزات أبدًا الوقوف بوجه دليل قانون الطبيعة.

ما هو دليل قوانين الطبيعة؟
ذكرنا سابقًا أنّ كلّ قانون طبيعيّ يعبّر عنه بعبارة كلّيّة هو حصيلة مشاهدة مكرّرة لا استثناء لها لاقتران وتعاقب ظاهرتين أو أكثر. بعبارة أخرى إذا شاهدنا مرّات عديدة أنّ حروف (أ) هي (ب)، فإذا كان عدد المشاهدات كبيرًا جدًّا، فهذا يعني احتمال أن تكون كلّ حروف (أ) هي (ب) يساوي واحدًا.
السبب في أنّ هذا الاحتمال يساوي واحدًا هو أنّه لم تشاهد حتى حالة واحدة لا يكون فيها (أ) هو نفسه (ب). يمكن التعبير عن هذه الفكرة نفسها بالقول إنّنا إذا شاهدنا في n مرّة من التجارب أنّ (أ) هو (ب) بـ m مرّة من المرّات، فإن احتمال أن تكون حروف (أ) هي (ب) يساوي m/n، وإذا كان m=n يمكن الاستنتاج بأن احتمال أن تكون كلّ حروف (أ) هي (ب) يساوي واحدًا، وتبعًا لذلك سيكون ثمّة احتمال أن نشاهد في المستقبل حرف (أ) ليس بـ (ب)، يساوي صفرًا[20].
يوصينا هيوم بأنّه إذا كان دليلكم الاستقرائي لقانون من قوانين الطبيعة دليلًا كاملًا، فلا تقبلوا نقض ذلك القانون، أي كذّبوا ولا تصدّقوا القضيّة التي تخبر بنقص ذلك القانون. يمكن الإشارة إلى سقم هذه التوصية بمثال نقضيّ.
شاهد العلماء في فيزياء الذرات ملايين البروتونات (عدد كبير بالقدر الكافي)، ولا تظهر أيّ من هذه المشاهدات تفتّت[21] البروتون، لكن علماء الفيزياء لا يقولون بنحو قاطع إنّ البروتون الآتي سوف لن يتفتّت، أي إنّهم لا يعتبرون صحّة قضيّة (كلّ البروتونات لا تصاب بالتفتّت) تساوي واحدًا؛ لذلك ينفقون وقتًا وتكاليف كبيرة ليقوموا بتجارب واختبارات لاكتشاف تفتّت البروتون.[22] إنفاق كلّ هذه الأوقات والتكاليف لا يعدّ في نظر العلماء عملًا غير معقول، لأنّ منح احتمالٍ يساوي واحدًا لقضيّة إنكار تفتّت كلّ البروتونات، عمل غير معقول، وهم لا يكذّبون نقيضها أي (إمكان تفتّت البروتون) تكذيبًا حاسمًا.
و اللافت أنّ هيوم نفسه يستعين لتأييد الاصطفاف بمثال يساعدنا إلى حدّ كبير على أن نتفهّم لاعقلانيّة منح الاحتمال (واحد) للاستدلالات الاستقرائيّة.
مثال «الأمير الهنديّ» مثال مشهور استعاره من أسلافه، ونحن نستخدم المثال نفسه باتجاه مغاير للهدف الذي يتوخاه هيوم، وفي الواقع سنستفيد منه في اتجاه يتوافق مع آراء توماس مور[23] في كتاب: (حوار حول البدع)[24] لنوضّح المخاطر التي تترتّب على منح الاحتمال واحد للاستدلالات الاستقرائيّة. يعارض توماس مور الرؤية القائلة إنّنا يجب أن نرفض أخبار المعجزات لأنّ المعجزات لا تنسجم مع الطبيعة، ويقول في المثال:
شخص هنديّ لم يخرج من بلاده أبدًا، ولم ير أبدًا رجلًا أو امرأة من البيض، وشاهد دومًا أناسًا سودًا كثرًا، ويعتقد أنّ البشرة البيضاء تخالف طبيعة الإنسان، ونظرًا إلى أنّه وجد الطبيعة بهذا الشكل، فهو يعتقد أنّه حتى لو قال العالم كلّه كلامًا بخلاف عقيدته، فإنّ العالم كلّه يكذب. فمن هو المخطئ؟ هل هذا الشخص الهنديّ الذي يتبنّى دليله على طبيعة الإنسان، أم الشخص الذي لا يوافق هذا الدليل ويؤمن بالتالي أنّ هناك بشرًا بيضًا؟[25]
السبب في حكم ذلك الرجل الهنديّ ليس سوى أنّه يفكّر مثل هيوم؛ لذلك فهو يحترم مشاهداته الماضية إلى درجة أنّه يعتبر الأمر غير المستحيل في حدّ ذاته، أمرًا مستحيلًا، وبذلك يعارض الأخبار التي تروي وقوع ذلك الأمر معارضة عنيدة.
كان جون لوك قد ساق قبل هيوم مثالًا مشابهًا، وهو كان يحاول توظيف هذا المثال أيضًا، لكن بشكل يختلف عن طريقة تفكير هيوم، حيث نرى أنّ جون لوك تعرّض في الفصل الخامس عشر من الكتاب الرابع من (بحث حول الفهم الإنسانيّ)، لقضيّة المعارف الاحتماليّة، وذلك في معرض بيان مراتب المعرفة البشريّة، ويذكر منشأين لمعارف الإنسان الاحتماليّة. أحد هذين المنشأين الشهادات والأخبار التي يدلي بها الأفراد للآخرين حول مشاهداتهم وتجاربهم. يعتقد لوك أنّه إذا كان عدد الشهود والرواة ووثاقتهم وصدقهم وقوة ضبطهم وإدراكهم بالمقدار الكافي، وكان الخبر الذي يروونه يتمتّع بالانسجام الداخليّ، ولا توجد شهادة معارضة تدحضه، وإذا لم يكن هناك سبب لكذب أحد الشهود أو الرواة أو تآمرهم، فيجب أن نوافق على خبرهم ونعتقد ونثق به، وتكون درجة ثقتنا تابعة لدرجة توفّر الشروط المذكورة. يتابع جون لوك قائلًا:
إذا شاهدت بنفسي شخصًا يمشي على الثلج، فإنّ اعتقادي بهذا الحدث أعلى من حدّ الاحتمال. أنا هنا عندي علمٌ. إذا أخبرني شخص أنّ شخصًا في فصل الشتاء وفي بريطانيا مشى على ماء متجمِّد نتيجة البرد، فلأنّ خبره هذا ينسجم مع تجاربي السابقة [وأنا أعيش في بريطانيا] سأكون راغبًا في تقبّل خبره هذا إذا لم يكن مصحوبًا بقرائن تشكيكيّة، ولكن إذا نقلوا هذا الخبر نفسه لشخص يسكن المناطق الاستوائيّة، فبما أنّه لم يشاهد أبدًا مثل هذا الحدث ولم يسمع به، ستكون درجة ثقته بهذا الخبر منوطةً بعدد الشهود والرواة وموثوقيّتهم، وبعدم وجود سبب أو دافع لكذبهم. طبعًا الشخص الذي تدلّ كلّ تجاربه الماضية على خلاف هذه الواقعة سوف لن يوافق حتى روايات أوثق الناس إلّا بصعوبة بالغة، وسوف لن يصدّق فحوى خبرهم إلّا بصعوبة. والأمر هنا يشبه قصّة سفير هولندا الذي كان يسلّي ملك سيام بقصص وحكايات من هولندا، ومن ذلك أنّه قال له إنّ الماء في شتاء هولندا يتجمّد ويتصلّب نتيجة البرد إلى درجة أنّ البشر يمشون عليه، بل إنّ ذلك الثلج يتحمّل وزن الفيل: فقال له ملك سيام: لأنّني حسبتك إنسانًا رصينًا ومنصفًا كنتُ لحدّ الآن أصدّق الأشياء العجيبة التي ترويها، لكنّني الآن واثق من أنّك تكذب[26].
يذهب هيوم إلى أنّ المنهج المعقول في مثل هذه الحالات هو فحص وثاقة اعتبار الرواية وشروطها، وليس رفضها بسبب تعارضها مع التجارب الماضية للمستمع. في هذه القصة لا يريد لوك تأييد أداء ملك سيام، إنّما يروم الإشارة إلى التأثيرات النفسيّة للمشاهدات الماضية على مستمع الخبر.
كيف ينبغي أن يكون موقف هيوم حيال مثل هذه الأمثلة؟ إذا أخذنا الميول الطبيعيّة لهيوم بعين الاعتبار، فيجب أن نتوقّع منه أن يعتبر ردّ فعل ملك سيام متّفقًا مع طبيعته؛ لذلك فإنّ إنكاره لتجمّد المياه موقف معقول. بيان ذلك أنّ هيوم يعتبر أنّ الاستدلالات العلّيّة لا تقبل التدبير ولا يوجد سبب لعقلانيّتها سوى طبيعة الإنسان. يقول إنّنا عُجنّا وصُنعنا من قبل الطبيعة، بحيث ننظم أحكامنا حول الأمور الواقعيّة عن طريق الاستدلال العلّيّ. وما من أحد يتصرّف بإرادته في انتقاله من تصوّره لشيء إلى تصوّر شيء آخر، إنّما هي طبيعتنا التي تفرض علينا مثل هذا الانتقال والتداعي. وعليه، إذا درسنا سلوك أشخاص مثل ملك سيام، ووجدنا أنّه طبقًا لطبيعته الإنسانيّة سوف ينكر بالتأكيد خبر تجمّد المياه، فيجب أن نؤيّد سلوكه هذا. لكن هيوم لا يتّخذ هذا الموقف، فمن وجهة نظره لا يمكن تأييد سلوك هذا الشخص الهنديّ، على الرغم من أنّه سلوك طبيعيّ، وما كان سلوكه ليكون معقولًا وقابلًا للتأييد إلّا إذا أنكر معجزةً، لا أن ينكر مجرّد فعلٍ خارق للعادة. يقول هيوم في هذا المضمار:
" أن الأمير الهنديّ الذي امتنع عن قبول الأخبار الأولى للتجمّد كان على حقّ في استدلاله، ومن الطبيعيّ أنّه كان لا بدّ من شهادة متقنة جدًّا ليتقبّل وقوع حوادث ناتجة عن حالة في الطبيعة لم يكن قد تعرّف عليها، وشبهها قليل جدًّا بالأحداث التي كانت له عنها تجارب ثابتة ورتيبة. تلك الأخبار لم تكن متعارضة مع تجربته، لكنّها لم تكن متطابقة معها أيضًا.[27]
ثمّة في هذه العبارات نقطتان جديرتان بالتأمّل، الأولى: أنّ هيوم يرى سلوك الأمير الهنديّ طبيعيًّا، وهذا ما سبق لنا الكلام عنه؛ النقطة الثانية قوله إنّ هذه الأخبار لا تتعارض مع تجربته لكنّها لا تتطابق معها أيضًا، فما المراد من التعارض والتطابق؟ يظهر أنّ هيوم يريد القول إنّه على الرغم من عدم تطابق تجاربه مع أخبار التجمّد، إلا أنّه لا تتعارض معها. وعلى الرغم من أنّه لم يشاهد التجمّد، لكن ما شهده في حياته لا يقول إنّ التجمّد عمليّة مستحيلة وغير ممكنة. المقصود هنا الإشارة إلى الفرق بين المعجزات والحوادث الخارقة للعادة التي لا يمكن تسميتها معجزات على الرغم من كونها غير عاديّة، يبيّن هيوم في فقرة أوردها على شكل هامش على النصّ الأصليّ هذا الفرق:
(من الواضح أنّه لا يوجد إنسان هنديّ يمكن أن تكون له تجربة عن تجمّد المياه في الجوّ البارد. يضع هذا الأمرُ الطبيعةَ في وضع غير معروف بالنسبة له بالمرّة، ومن المستحيل أن يستطيع يحكم بطريقة قبليّة ماذا سيكون تأثير الجوّ البارد. يُوجِد هذا الأمرُ تجربة جديدة نتائجها غير متعيّنة أبدًا. أحيانًا يمكن أن نحدس عن طريق التمثيل ماذا ستكون النتيجة، لكن هذا مجرّد حدس، ويجب الاعتراف أنّ الواقع في خصوص تجمّد الماء يسير بخلاف قواعد التمثيل والتشبيه، وهو غير متوقّع بالنسبة لهنديّ عاقل. تأثير البرد على الماء ليس تدريجيًّا وليس متطابقًا مع درجات البرودة، وإنّما بمجرّد أن تصل البرودة إلى درجة التجمّد تُخرِج الماءَ في آن واحد من حالة سائلة تمامًا إلى حالة جامدة تمامًا. إذن يمكن أن تسمّى مثل هذه الحادثة بأنّها خارقة للعادة، ولأجل أن يصدقها الذين يعيشون في المناطق الحارّة، فلا بدّ من شهادة جدّ متقنة، لكنّها لم تصل بعد إلى حدّ الإعجاز، ولا تتعارض مع التجربة المتكرّرة الرتيبة لسياق الطبيعة في الحالات التي تكون فيها كلّ الظروف متساوية. سكّان سوماطرة شاهدوا الماء سائلًا في مناخ بيئتهم، وينبغي اعتبار تجمّد مياه أنهارهم حالة مذهلة، لكنّهم لم يشاهدوا أبدًا المياه في شتاء موسكو؛ لذلك لا يمكنهم الوثوق على نحو معقول بالنتيجة التي سيأتي بها البرد.[28]
حاول هيوم في هذه الفقرة التي أضافها لاحقًا أن يفرّق بين الأمور الخارقة للعادة وبين المعجزات، فاعترف بخطأ سلوك الأمير الهنديّ دون أن يكون نفس هذا السلوك ـ أي الإنكار ـ خاطئًا بخصوص الحوادث العجيبة.

التفاوت بين المعاجز والخوارق للعادة
هل ثمّة فرق بين الأمور الخارقة للعادة وبين المعجزات؟ وما هو هذا الفرق إذا كان ثمّة فرق؟ لا يعرض هيوم بيانًا واضحًا حول وجه الفرق بين هذين الأمرين، ولكن يمكن التخمين من عباراته أنّ احتمال صحّة قانون الطبيعة يعادل من وجهة نظره واحدًا، وبالتالي فكلّ ما يخالفه ـ أي المعجزة ـ له احتمال يعادل الصفر. بينما احتمال الأمور الخارقة للعادة ليس صفرًا. وبعبارة أخرى، احتمال صحّة عبارةٍ كلّيّة تُخبر عن تجارب ماضية لأمثال الملك الهنديّ حول المياه، أقلّ من واحد. في ضوء ما أسلفنا من قول، يجب أن لا يعمد هيوم بالنظر إلى مرتكزاته إلى طرح مثل هذا الادعاء بشأن التعميمات الاستقرائيّة المتعلّقة بقوانين الطبيعة، حتى لو كانت جميع المشاهدات متساوية.
يرى هيوم أنّ مثال الملك الهنديّ يرتبط بحادثة خارق للعادة، فإذا كان تجمّد الماء في فصل الشتاء حدثًا خارقًا للعادة حسب تعبير هيوم، فلن تكون التجربة المعارضة له قانونًا طبيعيًّا، ولكن بما أنّ إحياء الميّت معجزة حسب تعبيره ومصطلحاته، فالتجربة المعارضة لها قانون طبيعيّ. عبارة (الماء سائل دومًا) عبارة كلّيّة تُستنتج من التجارب الماضية التي لا استثناء فيها لسكان المناطق الحارّة. (الموتى لا يعودون إلى الحياة) عبارة كلّيّة أخرى تنتج عن تجارب كلّ الناس في كلّ الأعصار والأمصار. ثمة فارقان بين هاتين العبارتين الكلّيّتين، يوضحان - حسب ادعاء هيوم - الفرق بين قانون الطبيعة وبين العبارات الكلّيّة التي هي دون قانون الطبيعة، وبالتالي يمكنهما تبيين الفرق بين معارضات ونواقض كلّ واحد من هذين، أي المعجزات والأمور الخارقة للعادة. فما هما ذلكم الفارقان؟
يصرّح هيوم بالفارق الأوّل كما نقلنا عنه سابقًا. فقانون الطبيعة حصيلة تجارب رتيبة في ظروف مختلفة، بمعنى أنّنا إذا شاهدنا الرتابة في تجارب يزداد فيها تنوّع الظروف فعندها يمكننا اعتبار العبارة الكلّيّة الناتجة عن هذه التجارب الرتيبة في ظروف متنوعة قانونًا طبيعيًّا، ولكن إذا لم يكن ثمّة تنوّع في ظروف تجاربنا ومشاهداتنا، فلا يمكن اعتبار نتيجة هذه التجارب الرتيبة قانونًا طبيعيًّا. وبناء عليه فكل ما يتعارض مع هذه العبارة الكلّيّة ليس بمعجرة حسب مصطلحات هيوم، إنّما هو مجرّد شيء خارق للعادة. أمّا بالنسبة إلى الملك الهنديّ، فبما أنّ تجاربه الدالّة على أنّ المياه سائلة دائمًا وبشكل رتيب ومتكرّر، لم تحصل إلّا في ظروف المناخ الحارّ؛ لذا فإنّ العبارة الكلّيّة (الماء سائل دومًا) لا يمكن أن تمثّل قانونًا طبيعيًّا.
ببيان آخر، يجب أن تكون التعميمات الاستقرائيّة مختصّة بظروف تشبه ظروف مشاهداتنا فقط، مثلًا لو قال الملك الهنديّ: (كلّ المياه في الظروف المناخيّة الاستوائيّة سائلة)، لكان تعميمه هذا صحيحًا، ولكن إذا قال: (كلّ المياه سائلة)، فتعميمه هذا غير صحيح؛ لأنّ مشاهداته السابقة ومشاهدات الناس الذين يعرفهم حصلت كلّها في ظروف مناخية استوائيّة. وبالنتيجة إذا عمّم حكم سيولة الماء على ظروف مناخيّة غير استوائيّة يكون قد فعل شيئًا غير مقبول. إذن، يجب تغيير رؤية هيوم عن قانون الطبيعة بهذا الشكل: إذا فحصت n حالة من (أ) في الظروف (ج)، وكانت كلّ تلك الـ (أ) (ب)، ثم إذا كان n عددًا كبيرًا بما فيه الكفاية، فاحتمال أن تكون كلّ الـ (أ) (ب) في الظروف (ج) يساوي واحدًا.[29]
أمّا الفارق الثاني بين قانون الطبيعة وبين العبارات الكلّيّة الأدنى مستوى من القانون فنوضحه بسؤال، فحين نقول إنّ قانون الطبيعة هو حصيلة تجارب ومشاهدات رتيبة ودائميّة، فتجارب ومشاهدات مَن نقصد؟ إذا كان المِلاك هو التجارب والمشاهدات الشخصيّة، فيمكن أن تكون تجارب شخصين اثنين مختلفة إلى درجة أنّها تكوّن قانونين متعارضين في ذهنيهما، أو حتّى إذا كانت تجارب الناس في منطقة جغرافيّة معيّنة أو في فترة تاريخيّة معيّنة أساسًا لقانون الطبيعة، سيبقي ثمّة احتمال في انبثاق قوانين متعارضة من تجارب متفاوتة. إذن، الملاك في التجارب الصانعة لقانون طبيعيّ هي تجارب كلّ الناس في كلّ الأزمنة والأمكنة بلا استثناء. هنا يصرّح هيوم بأنّه يعتبر إحياء إنسان ميّت معجزةً؛ لأنها لم تشاهد في أيّ زمان أو مكان، أي لأنّ التجربة الدائميّة المتشابهة لكلّ البشر في كلّ الظروف وفي كلّ الأزمنة والأمكنة تفيد أنّ الموتى لا يعودون إلى الحياة، إذن هذه العبارة الكلّيّة قانون من قوانين الطبيعة، وإحياء ميّت يتعارض معها؛ لذا فهو معجزة.

يبدو أنّه يمكن بل يجب تغيير صياغة هيوم لقانون الطبيعة مرةً أخرى، والتعبير عنه بما يأتي:
إذا فحصت n حالة من (أ) في ظروف (ج) من قبل (د) من الأفراد، وكانت جميع الـ (أ) (ب)، فإذا كان n عددًا كبيرًا بما فيه الكفاية، و كان (د) عبارة عن أفراد ينتمون لكلّ الأزمنة والأمكنة التي تسودها الظروف (ج)، فاحتمال أن تكون كلّ الـ (أ) (ب) في الظروف (ج) يساوي واحدًا.
ينبغي التفطّن إلى أنّنا نعتبر احتمال العبارة الكلّيّة واحدًا بصرف النظر عن الإشكال الذي سبق أن ذكرناه. فبما أنّ هيوم يلتزم بأنّ العلاقات بين الأمور الواقعيّة ممكنة (غير ضروريّة)، فلا يمكنه أن يعتبر أنّ احتمال أيّ من التعميمات الاستقرائيّة يساوي واحدًا، كما لا يمكنه أن يقول إنّ نقيضه تبعًا لذلك يساوي صفرًا. إلّا أنّه في ضوء تعريفه للمعجزة وللفرق الذي يلتزم به بين المعجزة وبين الأمور الخارقة للعادة، يبدو أنّه عندما عرض استدلاله القبليّ كان يرتكز في ذهنه أنّ احتمال صحّة القانون الطبيعيّ يساوي واحدًا، أي أنّ الدليل الذي يؤيده دليلٌ تامّ.
أمّا في ما يتعلّق بالفارق الأول وضرورة تشابه ظروف القانون الطبيعيّ مع ظروف كلّ المشاهدات السابقة، فثمّة صعوبة مشتركة بين كلّ حالات الاستقراء[30]. ثمّة في كلّ حكم كلّيّ استقرائيّ احتمال بأن تكون مشاهداتنا الماضية قد حصلت في ظروف خاصّة قد لا تتوفّر في المستقبل. من المحتمل دومًا في المشاهدات الماضية للظاهرة (أ)، أن تكون (أ) مقترنة دومًا بـ (ب)؛ لأنّ مشاهداتنا حصلت في ظروف خاصّة لا تتوفّر في المستقبل أو في أماكن ومواقع أخرى؛ لذا فإنّ الحكم الكلّيّ بأن كلّ الظواهر (أ) هي (ب) تعميم للحكم على ظروف لا تشبه ظروف التجارب السابقة.
فعلى الرغم من أنّ الملك الهنديّ قد أسند حكمه الكلّيّ "كلّ المياه سائلة" على مشاهدات تقتصر على المناطق الاستوائيّة، ولم يراع تنوع الظروف في مشاهداته وتجاربه، ولكن كيف يمكن له أن يعلم بوجود ظروف أخرى غير التي عرفها؟ فعدم الاطلاع على كلّ الظروف المتنوّعة قائم في كلّ التعميمات الاستقرائيّة، وبالتالي فإنّنا عندما نقول إنّه يجب أن تكون الظروف متنوّعة بالقدر الكافي في التجارب التي يقوم عليها الحكم الكلّيّ الاستقرائيّ، فما هو الحد الكافي من التنوّع؟ هل يمكن الاكتفاء بالظروف المنظورة على نحو القطع، أم يوجد دومًا احتمال أن تكون هناك ظروف مختلفة لم نطلع عليها؟ يبدو أنّ هذا الاحتمال موجود دومًا، وقد اعترف فلاسفة العلم بوجوده.[31]
على هذا الأساس، لا يوجد من هذه الناحية فرق بين قانون الطبيعة وما يعتبره هيوم ما دون قانون الطبيعة؛ إذ في الحالتين سيتصور من يؤمن بالحكم الكلّيّ أنّ التجارب الماضية حصلت في كلّ الظروف المتنوّعة الممكنة؛ لذلك فإنّ من حقّه إذا شاهد حادثة معارضة لذلك الحكم الكلّيّ أن يعتبرها نقضًا لقانون كلّيّ طبيعيّ لا استثناء له.
أما الفارق الثاني، فهو أنّ قوانين الطبيعة حصيلة تجارب كلّ البشر في كلّ الأزمنة والأمكنة، أمّا ما دون القانون، فهو حصيلة تجارب محدودة من البشر. فمتى نستطيع اعتبار حكمٍ كلّيّ حول الطبيعة ثمرة تجارب مشتركة لكلّ الناس أو تعميمًا لمشاهدات مشتركة لكلّ البشر؟
يقول جورج كمپل الناقد المعاصر لهيوم: لقد "استخدمتْ كلمة تجربة في دراسة هيوم مرارًا، ومن العجيب أنّه لا يعرّف لنا هذا المصطلح رغم الأهمّيّة التي يحظى بها في استدلاله. وأنا أحاول أن أعوّض هذا النقص، إذ يبدو أنّ هذه المفردة مشترك لفظيّ، ويبدو أنّ الكاتب يستخدمها بمعنيين متفاوتين. المعنى الأوّل والأنسب لهذه الكلمة هو التجربة الشخصيّة. تبتني التجربة الشخصيّة على الذاكرة، وتشمل فقط تلك القواعد الكلّيّة أو الاستنتاجات التي يصنعها كلّ شخص من مقارنة أمور خاصّة موجودة في ذاكرته؛ المعنى الآخر للذاكرة والذي نسمّيه التجربة المشتقّة يبتني على الشهادة، وهو ثمرة مقارنة بين التجارب الشخصيّة للآخرين التي وصلتنا عبر الشهادات والأخبار وصنعنا منها قواعد واستنتاجات كلّيّة". من جهتنا نقول مستخدمين مصطلحات كمپل: (قانون الطبيعة من وجهة نظر هيوم حصيلة تجربة مشتقّة، والمعجزات تعارض التجارب المشتقّة). المعجزات بحدّ ذاتها تجارب مشتقة لأنّها وصلتنا عن طريق شهادات الآخرين، لكن من أين تنشأ التعميمات ما دون القانون الطبيعيّ؟ بعبارة أخرى، هل تعارض الأمورُ الخارقةُ للعادة التجاربَ الشخصيّة أم التجارب المشتقّة؟ إذا كان جواب هيوم أنّ الأمور الخارقة للعادة تعارض التجارب الشخصيّة فسيواجه إشكالًا مفاده أنّه في مثال الملك الهنديّ لم يكن تجمّد المياه في البرد متعارضًا مع التجارب الشخصيّة للملك الهنديّ فقط، بل كلّ الذين يعرفهم الملك أو الذين يتلقّى أخبارًا منهم، لهم تجارب تشبه تجربته، أي إنّهم لم يشاهدوا تجمّد المياه نتيجة انخفاض درجة الحرارة. وهكذا يتبين أنّ الأمور الخارقة للعادة، من منظار هيوم، لا تتعارض مع التجارب الشخصيّة فقط، بل تخالف التجارب المشتقّة أيضًا.
فإذا كانت المعاجز والأمور الخارقة للعادة أيضًا تعارض التجارب المشتقّة، فما الفارق بينهما؟ ربما كان الفرق في شيء من قبيل عدد الشهود وأصحاب التجربة، أو تنوّع ظروفهم. ويبدو أنّ العدد في نفسه لا يشكّل فارقًا؛ لأنّه من المستبعد أن يكون عدد الذين كوّنت تجاربُهم العبارةَ الكلّيّة (كل المياه سائلة) في ذهن الملك الهنديّ، أقلّ من عدد الذين كوّنت تجاربهم العبارة الكلّيّة (ليست كلّ المياه سائلة) في ذهن شخص أوروبيّ. على هذا الأساس، ينبغي أن يقوم الفرق على أساس تنوّع ظروف الشهود وأصحاب التجارب، وإذا كان الأمر كذلك، فسيعود الفرق الذي أردنا أن نقول به بين قانون الطبيعة والعبارات الكلّيّة ما دون قانون الطبيعة عن طريق تباين تجارب الشهود وأصحاب التجربة إلى التنوّع في ظروف التجارب، وهو الفارق الأول نفسه.
ذكرنا في مقام بيان الفرق الأوّل إنّه في كلّ التعميمات الاستقرائيّة يوجد احتمال أن نصادف في وقت لاحق ظروفًا جديدة، فلا نستطيع اعتبار أيّ عبارة كلّيّة ذات احتمال يساوي واحدًا، وبالتالي لن تكون أيّ عبارة كلّيّة «قانونًا طبيعيًّا» بالمعنى الذي ذكرناه، وبالنتيجة فإنّه لا يمكن اعتبار أيّ واقعة معجزةً مهما كانت خارقة للعادة وغير متوقّعة. وهذا يعني أنّ كلّ الحوادث المعارضة للتجارب الماضية ستكون من قبيل تجمّد المياه الذي ربما كان إنكار خبره طبيعيًا، لكنّه ليس معقولًا.
إذن، كيف يقول هيوم إنّه يجب رفض أيّ خبر معجزة وإنكاره من دون فحص وتمحيص لاعتباره وقيمته؟ لاحظنا بناءً على ما ذكرناه أنّه لو كان بوسع قانون الطبيعة ـ كما يصرّح هيوم في بعض مواقفه ـ في مستوى دليل استقرائيّ تامّ، وإذا كان بوسعنا اعتبار أيّ تعميم استقرائيّ يرتكز على دليل تامّ، ذا احتمال يساوي واحدًا، لاستطعنا تقبّل الفارق بين قانون الطبيعة والتعميمات ما دون قانون الطبيعة، وبالتالي سنفرق بين المعجزة وسائر الحوادث الخارقة للعادة. وفي حال وجود مثل هذا الفرق، ستكون التوصية القائلة: (أنكروا بنحو قبليّ الحوادث العجيبة إلى درجة المعجزة، أي الحوادث التي لا تنسجم مع القوانين الطبيعيّة) ذات معنى محصّلٍ، ولكن كما لاحظنا لا يوجد مثل هذا الفرق.

عدم قابليّة المعجزة للتكرار
إذا اعتبرنا قانون الطبيعة عبارة كلّيّة يساوي احتمال صحّتها واحدًا، فكما سبق القول، سيكون احتمال وقوع المعجزة أي الحادثة المعارضة لقانون الطبيعة يساوي صفرًا. وبالعودة إلى مثال رجوع الميّت إلى الحياة، الذي يعتبر في نظر هيوم جديرًا باسم المعجزة في حال حدوثه يقول هيوم: إحياء الميّت معجزة؛ لأنّه لم يشاهد في أيّ زمان ولا في أيّ مكان، وعليه، فالمعجزة من وجهة نظره حادثة فريدة؛ لأنّه لو ثبتت قبل ذلك حالة منها ـ عودة ميّت إلى الحياة مثلًا ـ وتكرّرت الآن مرّة أخرى، فسيكون من واجبنا التشكيك في صحّة القانون الذي كنّا نؤمن به، وبالنتيجة ينبغي علينا تبيين حالات الاستثناء، وإعادة النظر في القانون الذي نعتقد به لنضيف له ـ ربما ـ قيدًا ليتّضح أنّ الميّت لا يعود إلى الحياة إلّا في ظروف خاصّة مدرجة في القيد المذكور[32]. بهذا البيان فإنّ قانون الطبيعة قانون لا يقبل النقض، ولم يُنقض لحدّ الآن على الأقل، والمعجزة حادثة لا تقبل التكرار.
ترد بعض الإشكالات على عدم قابليّة المعجزة للتكرار، من ذلك أنّه إذا كانت معجزة نبيّ إحياء الموتى وقام بذلك مرّات متعدّدة، فهل يمكن إنكار عمله هذا؟[33]. إذا أحيا هذا النبيّ ميتًا في مكانٍ عام بحيث يعترف الجميع بإعجاز عمله هذا، ثم شكّك بعض الناس في صحّة ادعائه وطلبوا منه تكرار هذا العمل، وقام بإحياء ميّت آخر، فإنّ فعله هذا سيؤدي إلى تكريس موقفه، أو سيقال إنّ تكرار هذا الفعل يخرجه عن عنوان المعجزة.
بالإضافة إلى هذا المثال النقضيّ، يُطرح سؤال آخر يشكّك في أصل عدم قابليّة المعجزة للتكرار، فإذا كان عدم القابليّة للتكرار شرطًا في المعجزة، فإنّ وقوع أيّ حادثة بخلاف قانون الطبيعة لن يتمكّن من إقناع الشهود بوقوع معجزة؛ لأنّه سيكون من المحتمل دومًا في المستقبل أن تقع هذه الحادثة، وسينكر الشهود تكرّر تلك الحادثة باعتبار أنّها كانت معجزة في السابق، وسيقولون إنّ هذه الحادثة أمر يقبل التبيين الطبيعيّ، وقد كنّا على خطأ حين اعتبرناه في السابق معجزةً[34].

إعادة النظر في القوانين العلميّة والتقدّم العلميّ
هل تقدّمُ العلمِ مفهوم ممكن التصوّر؟ ألا يشهد تاريخ العلم بحقيقة اسمها تقدّم العلم؟ إذا كان تقدّم العلم ينطوي على زيادة الاطلاع على الطبيعة وإصلاح أخطاء الإنسان، وهذه التنمية والإصلاح حقيقة لا تقبل الإنكار، فكيف يمكن تسويغ التقدّم العلميّ إلى جانب القول بلامعقوليّة نقض قوانين الطبيعة؟ يؤمن العلماء في فترة من فترات العلم بقانون حول الطبيعة، وشيئًا فشيئًا ونتيجة مشاهداتهم لحالات ناقضة لذلك القانون، يبدأون بالتشكيك في صحّة القانون الذي آمنوا به، وهذا الشكّ يدفعهم إلى إعادة النظر في ذلك القانون، وأن يعرضوا قانونًا يمكن الاستفادة منه في إيضاح الحالات الناقضة أيضًا. فإذا فرضنا أنّ العلماء يفكّرون مثل هيوم، ويرون أنّ قوانين الطبيعة لا تقبل النقض إلى درجة أنّهم عند مشاهدة أيّ حالة ناقضة، فسينكرون هذه الحالة الناقضة بدل التشكيك في القانون، عندئذ لن تحصل أيّ إعادة نظر في أيٍّ من قوانين الطبيعة، ولن نشهد أيّ تقدّم في تاريخ العلم.
قد يقال إنّ هيوم لا يعارض قبول نقض قانون الطبيعة في حال مشاهدة حالة ناقضة له بشكل مباشر؛ لذلك إذا شاهد عالم بنفسه حالة ناقضة لقانون طبيعيّ، فمن واجبه أن يأخذ هذه الحالة مأخذ الجدّ ويدرسها ويحاول عرض قانون جديد قادر على إيضاح الحالات الاستثنائيّة.
يعتقد بعض شرّاح هيوم أنّ استدلال هيوم يتعلّق بشهادة الشهود والمؤرّخين، وأنّه لا علاقة له بالأشياء التي يشاهدها الفرد نفسه أو يدرسها في المختبر أو يستنبطها من آثار الحوادث الماضية وبقاياها.[35]
ولكن هل التفطّن التنبُّه إلى وجود نواقض لقوانين الطبيعة المقبولة في مختلف فترات العلم، هي حصيلة المشاهدات المباشرة للعلماء فقط؟ يبدو أنّ الأمر ليس كذلك، بمعنى أنّ كثيرًا من التشكيكات التي وردت على قوانين الطبيعة كانت نتيجة تقارير طرحها آخرون حول نواقض أحد قوانين الطبيعة، ثمّ اطمأنّ عالمٌ أو عدّة علماء لتلك التقارير؛ لذلك انبروا لدراستها وفحصها، وبعد دراستها حصلت لديهم هم أيضًا معرفة مباشرة بوجود الناقض أو النواقض الواردة في التقرير، وبذلك عمدوا إلى إعادة النظر في القانون الطبيعيّ المزعوم.
إذا أخذنا استدلالات هيوم مأخذ الجدّ، فسوف نواجه مشكلة في خصوص الحالات التي لا يتصوّر فيها أحد أنّ معجزة قد حصلت. وكثير من العبارات عُدّت قوانين طبيعيّة؛ لأنّ ثمّة تجارب رتيبة أيّدتها، ولكن بعد مشاهدة حالات الاستثناء لم تعد تلك العبارات مقبولة كقوانين طبيعيّة. والاستثناء الأوّل للشخص الذي لم يشهدها بنفسه يشبه قصص المعاجز؛ لذلك فإنّ أوّل من يتلقّون تقارير هذا الاستثناء يجب [حسب رأي هيوم] أن ينكروه ويبقوا أوفياء للقانون المزعوم، ونظرًا إلى أنّ رأيهم حول ذلك القانون المزعوم لا يتغيّر، ففي مقابل التقرير الثاني للاستثناء، سيبقى الوضع على حاله، أي إنّ التقرير الثاني أيضًا لن يُحدث تغييرًا في ذلك القانون الطبيعيّ المزعوم. وبناءً على ذلك، فحين نرى أن (أ) و (ب) يتلو أحدهما الآخر دائمًا، فيجب أن لا نقبل أيّ تقرير يفيد افتراقهما، وفي النتيجة لن يكون ثمّة ما يحفّزنا على دراسة هذه التقارير والأخبار إذا لم تُحدث التقارير تغييرًا في رأينا حول القانون المزعوم، فلن يبقى مجال للتفكير بأنّ هذه التقارير تحتاج إلى دراسة أخرى، فلو كان العلماء قد تصرّفوا على هذا النحو لما اكتشفت بعض القوانين البالغة الأهمّيّة؛ لأنّ الذين شاهدوا استثناءات القوانين المزعومة نادرًا لم يوضحوها بأنفسهم، فلو كان هيوم محقًّا في قوله [يجب عدم قبول التقارير حول نواقض قوانين الطبيعة واستثناءاتها]، فإنّ الذين يرون الاستثناءات لن يستطيعوا تبيينها وإيضاحها، والذين يستطيعون تبيينها لا يستطيعون الاقتناع بوقوع هذه الاستثناءات.[36]
محصّل الكلام أنّ هيوم يرى أنّ تقارير نقض قوانين الطبيعة غير معقولة، والحال أنّنا إذا لم نوافق هذه التقارير لما علمنا أبدًا بكثير من الأمور التي نعلمها حول الطبيعة. وتكمن المشكلة في تصوّر هيوم للسلوك المعقول، ونظرًا إلى أنّ تصوّر العلماء يختلف عن تصوّر هيوم لحسن الحظ، فقد توصّل العلم البشريّ اليوم إلى اكتشافات كبيرة، ولو كان العلماء يفكّرون بطريقة هيوم لكنّا محرومين من كلّ هذه الاكتشافات.
فعندما تحصل معجزة [نقضٌ لقانون الطبيعة] تقوم ثورة في العلم. والمجتمع العلمي يسمح دومًا بدحض نظريّة متينة جدًّا عن طريق مشاهدة حوادث كان التصوّر السائد لها أنّها مستحيلة. وعندما شاهد وليام هارفي[37] أنّ القلب يضخّ الدم الذي ينتقل من الشرايين إلى الأوردة، فقد كان ما شاهد يمثّل معجزة؛ لأنّ العلم في زمانه كان يعتبر هذا الضخّ والدوران مستحيلًا، وقد رفض كثير من زملاء هارفي شهادته، وتمرّدوا على قبولها؛ لأنّها لم تكن منسجمة مع الرؤية الكونيّة العلميّة في زمانهم، بيد أنّ آخرين نظروا إلى شهادته على أنّها معتبرة وذات قيمة إلى درجة رفضوا معها قيمة العلم في زمانهم[38].

هل نقض القانون الطبيعيّ من شروط المعجزة؟
يعتقد بعض فلاسفة الدين أنّ الحادثة التي لا تنقض أيّ قانون من قوانين الطبيعة، ويمكن تبيينها وإيضاح كلّ أجزائها بواسطة القوانين الطبيعيّة، يمكن أن تكون مدهشة وباعثة على ردّ فعل دينيّ خالص أصيل إلى درجة يتسنّى معها اعتبارها معجزة. فإذا كانت مثل هذه الحادثة جدّ مبهرة ومحيّرة ومقترنة بدعوة واضحة لأمر دينيّ تمامًا، فإنّها ستعتبر معجزة[39]، على الرغم من أنّها لا تنقض قانونًا من قوانين الطبيعة.
يمكن طرح مثال نقضيّ تأييدًا لهذه الفكرة، وهو مثال يدلّ على أنّ نقض قانون الطبيعة ليس شرطًا لازمًا لكي تكون الحادثة معجزة. نطرح هذا المثال النقضيّ مستلهمين أحد نقّاد هيوم وبقدر من التصرّف[40].
تصوّروا أن تجتمع غيوم في وقت واحد في سماء مناطق متعدّدة من الكرة الأرضيّة، وتُظهر هذه الغيوم كلمات ذات معنى، وتدعو كلّ هذه الكلمات لشيء واحد وتتضمّن كلّها رسالة واحدة تدعوا الناس لاتباع شخص معيّن، ولنفترض أنّ هذه العبارة تظهر في غيوم كلّ منطقة بلغة سكّان تلك المنطقة. وافترضوا كذلك أن العلماء يقدرون على تبيين هذه الظواهر المتزامنة عن طريق قوانين الطبيعة، وأنهم قادرون على تحديد العوامل الجويّة التي أدّت إلى اجتماع الغيوم بهذه الشكل المعيّن، وأنّ قوانين الضوء سمحت بمشاهدة تلك الغيوم من قبل سكان الأرض بهذا الشكل ذي المعنى والرسالة المحدّدة، فهل سيتردّد شخص في إطلاق عنوان المعجزة على هذه الحادثة؟ وهل سيشكّ أحد في حقّانيّة الشخص الذي تدعو هذه الغيوم لاتّباعة؟ هذا في حال كانت هذه الظاهرة المفترضة لا تنقض أيّ قانون طبيعيّ.

تدخّل الله أو العامل اللاَّمرئيّ
من عناصر التعريف الثاني الذي يعرضه هيوم للمعجزة تدخّل الله أو العامل اللاَّمرئيّ في حادثة المعجزة. (يمكن على نحو الدقّة تعريف المعجزة بما يأتي: التخلّف عن أحد قوانين الطبيعة بواسطة إرادة إلهيّة خاصّة أو بواسطة تدخّل عاملٍ لامرئيّ)[41].
يقول بعض الباحثين إنّ المعجزة مفهوم متناقض؛ لأنها تنقض القانون الطبيعيّ، والحال أنّه لو نُقض الشيء فلن يكون قانونًا، وقد أجيب على هذا الإشكال بجواب جدير بالتأمّل، ومفاده أنّ القوانين المدنيّة تنظّم سلوك الشعب في البلد، ولكن قد تكون هناك استثناءات أحيانًا، مثل العفو الذي يطلقة رئيس الجمهوريّة، ويمكن مقارنة المعجزة بهذه الاستثناءات، ومصدر العفو في هذه الاستثناءات خارج السياق الدارج للقانون، وهو شيء لا يمكن التنبّؤ به. الإتيان بالمعاجز لا يندرج ضمن إطار نشاطات العلماء أيضًا. وعفو رئاسة الجمهوريّة لا يعدّ نقضًا للقانون، ولا يعتبر ممارسة غير قانونيّة، بل هو خارج النظام القانونيّ، والمعجزة كذلك ليست نقضًا لنظام قوانين الطبيعة، بل خارج سياقها.[42]
في هذا الردّ الذي عُرض بلغة استعاريّة وغير فنّيّة، ثمّة نقطتان تلفتان النظر:
الأولى: تناقض مفهوم المعجزة إذا عرّفناها بأنّها نقض لقانون الطبيعة. وقد ذكرنا سابقًا أنّه إذا كان لدينا تصوّر عقلانيّ لقوانين الطبيعة، فإنّ التخلّف عن قانون الطبيعة سيكون بمعنى التخلّف عن قانون لا يقبل التخلّف، وهذا تعبير متناقض.
الثانية: إذا كان عامل التخلّف عن القانون خارج نطاق الطبيعة، فإنّ الاستثناء من القانون لن يعود تخلّفًا، ولن يحصل أيّ تناقض. أمّا عندنا ننكر إمكانيّة العلل فوق الطبيعيّة أو نتجاهلها، فستكون استثناءات القوانين الطبيعيّة تخلّفًا عن القانون الطبيعيّ.[43]
هنا، نروم التحدث قليلًا عن عامل إلهي أو لامرئي خارج نطاق الطبيعة.
يرى هيوم أنّنا إذا قبلنا شهادة شاهد يخبر عن وقوع حدث تنكِر علومُنا وقوعَه، فلا شكّ أنّنا نكون قد قبلنا أن تكون علومنا خاطئة. فما الذي ينبغي فعله في هذه الحالة؟ السلوك العاديّ هو أن نعيد النظر في علومنا ونبحث عن علل يمكنها تبيين تلك الحادثة، وتشخيص قوانين تؤيّد مشاهداتنا الماضية وتعضد في الوقت ذاته المشاهدات الجديدة المتعارضة مع القوانين السابقة[44].
هذا في حال كان للحادثة الجديدة علّة طبيعيّة، أمّا إذا كانت علّة هذه الحادثة خارج نطاق الطبيعة، فلا تعارض بين تلك الحادثة وبين العلم والقوانين الطبيعيّة، بحيث يمكن التحرّر من هذا التعارض عن طريق إعادة النظر في العلم؛ باعتبار أنّ التعارض وقع مع الطبيعة نفسها. الواقع أنّه لا يوجد أيّ قانون طبيعيّ يمكن اكتشافه لاحقًا يستطيع إدراج تلك الحادثة داخل نطاق علم الطبيعة.[45]
كيف يدّعي هيوم أنّه قادر على الحكم بشأن المعجزات عن طريق الاستدلال العلّيّ ؟ قد يقال إنّ هيوم لم يدّع مثل هذا الادعاء أبدًا، وهو يحكم بشأن أخبار المعجزة فقط وليس بشأن المعجزة، ولكن إذا لم يستطع أحد الحكم بشأن وقوع المعجزة أو عدم وقوعها، فهل يصحّ توقّع أن يحكم بشأن صحّة أخبار المعاجز أو سقمها.
يعتقد هيوم ـ كما سبقت الإشارة ـ أنّ المنهج الصحيح الوحيد للحكم بشأن الأمور الواقعيّة، هو منهج الاستنتاج العلّيّ، وبناء عليه، فإذا أردنا الحكم حول المعجزات وأخبارها أيضًا، فيجب أن نقوم بذلك عن طريق الاستدلال العلّيّ. يستخدم هيوم في الحكم حول أخبار المعاجز منهج الاستدلال العلّيّ. ويمكن طرح السؤال بشكلين في مقام الحكم حول أخبار المعاجز؛ فنسأل أوّلًا أنّه هل خبر المعجزة الفلانيّ خبر صادق؟ وسؤالنا في هذه الحالة سؤال عن المعجزة نفسها، بمعنى أنّنا نسأل هل المعجزة المدّعاة وقعت فعلًا؟ الشكل الثاني لطرح السؤال هو أنّه هل تصديق خبر وقوع المعجزة الفلانيّة أو العلانيّة عمليّة معقولة؟ في هذه الحالة لا يبدو أنّ لسؤالنا علاقة بوقوع المعجزة أو عدم وقوعها؛ بل نسأل أنّه بغض النظر عن وقوع مثل هذه المعجزة أو عدم وقوعها، فهل من المعقول إزاء خبر وقوعها أن نصدّق هذا الخبر؟ وإذا قلنا إنّه لا يوجد أحد يستطيع الاعتراف بوقوع معجزة في أيّ ظروف، أي حتّى لو شهد وقوع المعجزة فلا يستطيع تصديقها، وبناءً على هذا الافتراض فإنّ من الطبيعيّ تعذّر قبول أيّ خبر من أخبار المعاجز؛ لأنّه لا يوجد أيّ خبر أقوى من المشاهدة المباشرة. وإذا لم يتسنّ موافقة خبر يفيد وقوع معجزة ما، فلا يبقى محلّ للسؤال عن معقوليّة قبول ذلك الخبر. فهل يمكن الاعتراف – والحال هذه -بوقوع معجزة على أساس الاستدلال العلّيّ؟
يرى هيوم أنّ العلّيّة علاقة بين شيئين نستنبطها عبر مشاهدة هذين الشيئين، وهذا يعني أنّنا لا نرى أبدًا العلاقة العلّيّة نفسها، إنّما نشاهد شيئين نسمّيهما بعد ذلك علّة ومعلولًا، ومن مشاهدة الآصرة الدائميّة بينهما نستنتج علاقة باسم العلّيّة، أي أنّنا عندما نرى ذلكم الشيئين يتعاقبان بشكل مستمر، بحيث يتداعى إلى أذهاننا تصوّر عن أحدهما بمجرّد حضور انطباع أو تصوّر عن الآخر، وبدون أيّ تأمّل أو تفكير، عندئذ نستنتج أنّ ثمّة بين هذين الشيئين علاقة علّيّة.
استنباط علاقة علّيّة بين هذين الشيئين إلى جانب الاعتقاد بتشابه المستقبل مع الماضي يمكّننا من اللجوء إلى الاستنتاجات العلّيّة، وأن نحكم على المستقبل من منطلق مشاهداتنا الماضية، بحيث نجعل مشاهداتنا سندًا للحكم حول شيء ليس مشهودًا بالنسبة لنا في الوقت الحاضر. ولكي يكون مثل هذا الاستدلال ممكنًا، فلا بدّ أن يكون ثمّة تشابه كافٍ بين الأمر المشهود بالنسبة لنا الآن وبين أحد الشيئين اللذين توجد بينهما علاقة علّيّة، بحيث يتداعى في أذهاننا بمشاهدة هذا الأمر - وبشكل طبيعيّ - أمرٌ آخر يشبه الطرف الآخر من العلاقة العلّيّة.
على سبيل المثال، إذا حكمنا أنّ بين (أ) و (ب) علاقة علّيّة، واعتبرنا (أ) علّةً لـ (ب)، فمتى ما شاهدنا شيئًا شبيهًا بـ (ب) يمكننا استنتاج شيئًا شبيهًا بـ (أ) كعلّة للشيء الشبيه بـ (ب). فإذا عرّفنا المعجزة بأنّها شيء علّته الله، فيجب أن يكون ثمّة تشابه بين الله غير المشهود وبين علّة أحداث مثل المعاجز المدّعاة، بمعنى أن نكون قد شاهدنا سابقًا حوادث تنقض قانون الطبيعة، وتزامنًا مع مشاهدة تلك الحوادث نكون قد شاهدنا عللها أيضًا، لنستطيع بمشاهدة ناقض آخر لقانون الطبيعة أن نحكم بوجود علّته التي هي حقيقة لا تقبل المشاهدة حسب الافتراض.
ولكن هل شاهدنا في السابق أيّ معجزة؟ وإذا كنّا قد شاهدناها فهل نكون قد شاهدنا علّتها؟ ولا شكّ أن هذا غير صحيح؛ لأنّ علّة المعجزات حسب التعريف لا تقبل المشاهدة، من هنا فإنّنا  لا يمكن أن نكون قد شاهدنا في السابق ولمرّات عديدة معجزات مع عللها، بحيث نحكم بأنّ علّته هي الله أو موجود آخر لا يقبل المشاهدة بمشاهدة ناقض آخر لأحد قوانين الطبيعة. وإذا لم نستطع صياغة مثل هذا الاستدلال، فلن نستطيع التأكّد من إعجاز أيّ حادثة. فنقول باختصار:
1 ـ الحكم حول أيّ أمر من الأمور الواقعيّة يجب أن يكون بمنهج الاستنتاج العلّيّ.
2 ـ المعجزة أمر من الأمور الواقعيّة.
3 ـ الاستنتاج العلّيّ بشأن أيّ شيء مسبوقٌ بمشاهدة مكرّرة لعلل أو معلولات شبيهة بذلك الشيء.
4 ـ المعجزة حادثة بخلاف قانون الطبيعة تتمّ بواسطة فاعل إلهيّ أو ماورائيّ.
5 ـ لا يمكن مشاهدة الله والحقائق فوق الطبيعيّة.
6 ـ نستنتج من 1 و 2 أنّ الحكم على المعجزة يجب أن يتمّ بمنهج الاستنتاج العلّيّ.
7 ـ نستنتج من 3 و 4 أنّ الاستنتاج العلّيّ بشأن المعجزة متفرّع على المشاهدة السابقة لعلّتها، أي الفاعل الإلهيّ أو الماورائيّ.
8 ـ نستنج من 6 و 7 أنّ الحكم على المعجزة فرعٌ مشاهدة سابقة لعلّتها.
9 ـ نستنج من 5 و 8 أنّ الحكم على المعجزة غير ممكن.
إذا كان الحكم على المعجزة غير ممكن، فلن يستطيع أيّ شخص الحكم على أيّ حادثة بأنّها معجزة حتى لو شاهدها، وبناءً عليه فإنّه لا يمكن لأيّ شخص أن يشهد معجزةً باعتبارها معجزة، وبالنتيجة لا يستطيع أيّ شخص الإخبار عن وقوع معجزة؛ ولهذا كان فحص احتمال صدق أخبار المعجزة عمليّة عبثيّة فارغة.
قد نفكّر بحذف عنصر تدخل الفاعل الإلهيّ الطبيعيّ اللامرئيّ أو العامل ما فوق الطبيعيّ اللامرئيّ من تعريف المعجزة، ونحلّل استدلال هيوم ضدّ المعجزة على أساس تعريفه الأوّل، بمعنى أن نعتبر المعجزة نقضًا لقانون الطبيعة، ولكن إذا عرّفنا المعجزة بهذا الشكل، فسوف تختلّ دلالة المعجزة. فالمعجزة تُستخدم أحيانًا كبرهان على وجود الله، وفي هذه الحالة ستدلّ على وجود الله في رأي أنصار هذا البرهان.
كما أنّ المعجزة تستخدم كدليل على حقّانيّة رسالة إلهيّة، وفي هذه الحالة أيضًا تدلّ المعجزة على حقّانيّة الرسالة لأنّها تدلّ على تدخّل قوّة فوق طبيعيّة أو على تدخّل الله. إذن، في كلا الحالتين يمتاز عنصر التدخّل الإلهيّ بطابع رمزيّ حتى لو لم يرد بصراحة في تعريف المعجزة. على كلّ حال، فإنّ المعجزة حدث خارق للعادة وناقض لقانون الطبيعة بواسطة تدخّل فوق طبيعيّ.
أمّا نقد برهان المعجزة على وجود الله، فهو أنّنا إذا أردنا اعتبار المعجزة دليلًا على وجود الله أو على وجود فاعل فوق طبيعيّ عن طريق الاستدلال العلّيّ، فمن اللازم أن نكون قد جرّبنا سابقًا معجزات مع عللها، وهذا يعني أنّنا قبل الاستدلال العلّي على وجود الله أو على العوامل فوق الطبيعيّة، فلا بدّ أن نكون قد شاهدنا وجرّبنا الله أو العوامل الطبيعيّة، وبذلك نستنتج أنّنا لا نستطيع إثبات وجود الله عن طريق المعاجز بواسطة الاستدلال العلّيّ[46].
و قد ورد إشكال آخر على التعريف الثاني للمعجزة هو أننا إذا سلّمنا أنّ الله هو علّة المعجزات، فلن نستطيع القول بوجود بسياق ثابت ورتيب للطبيعة؛ إذ بتدخّل الله ـ الذي لا يمكن تخمينه بالنسبة لنا ـ سيكون تغيير سياق الطبيعة ممكنًا في أيّ لحظة. من جهة أخرى، فإنّ الاستدلال العلّيّ الذي هو المنهج الوحيد للحكم على الأمور يكون ممكن التطبيق عندما نؤمن برتابة تيّار الطبيعة وثباته فقط. وعليه فإنّه بمجرّد قبول تدخّل الله في تحقيق المعجزات، فإن إمكانيّة الاستدلال العلّي على كلّ الأشياء بما في ذلك المعجزات ستنهار. وبانتفاء إمكانيّة الاستدلال العلّيّ على المعجزات، فلن يبقى أساس للثقة بالحكم القائل إنّ الله هو علّة حادثة خارقة للعادة مشهودة من قبلنا[47].
إذا قلنا إنّ الاستدلال العلّي ممكن فقط في العلاقات بين الأعيان والظواهر المادية، واعتقدنا أنّ كلّ الأحكام المختصّة بالأمور الواقعيّة يجب أن تتمّ ع ان طريلاستدلال العلّيّ، فنكون قد التزمنا مسبقًا بتعذّر الحكم على أمر واقعيّ خارج عالم المادّة.
إذن، لقد أجهدنا أنفسنا دون طائل في فحص أمر واقعيّ هو خارج نطاق دراستنا وفحصنا العلّيّ حسب التعريف؛ ولهذا لم يجعل هيوم غايته في دراسة (حول المعاجز) دراسة المعجزة، بل جعل موضوعه الإخبار بالمعجزة وأنّه هل تتوفر روايات وقوع المعاجز على شروط التصديق والقبول أم لا تتوفر. يظن هيوم بأنّ الإخبار عن المعجزة يحصل داخل العالم المادّيّ لذلك يمكن دراسته عن طريق الاستدلال العلّيّ، ولكن كما تمّ الإيضاح فإنّ تعذّر الاستدلال العلّيّ بشأن المعجزة يؤدّي بالنتيجة إلى تعذّر الحكم على الإخبار بالمعجزة أيضًا. طبعًا، لأنّ الاستنتاج العلّيّ ليس بالتأكيد منهجًا صحيحًا للحكم حول المعجزات.

دراسة تحليليّة للاستدلال القبليّ ضدّ المعجزة
ذكرنا في ما سبق الشكل الكلّيّ لاستدلال هيوم القبليّ، وأوضحنا العناصر المساهمة في هذا الاستدلال. أشرنا إلى أنّ الاستدلال المذكور يعبّر عن تعارض استدلالين علّيّين يعتقد هيوم أنّ أحدهما أقوى دائمًا من الثاني. الدليل أو الاستدلال العلّيّ الأقوى دليل يؤيّد قانونًا من قوانين الطبيعة، والدليل أو الاستدلال العلّي الأضعف دليل يؤيّد تطابق الخبر مع الواقع. يتجسّد دليل تطابق الخبر مع الواقع في تجاربنا الماضية، حيث شاهدنا غالبًا أنّ روايات الرواة، على افتراض عدم وجود قرائن خاصّة، تتطابق مع الواقع، بيد أنّ هذه التجربة ليست دائميّة؛ لأنّنا جرّبنا حالات من عدم صحّة الأخبار والروايات.
وفي المقابل فإنّ الدليل على قانون طبيعيّ هو تجربة دائميّة ومتقنة إلى درجة أنّ احتمال صحّة العبارة التي تعبّر عن ذلك القانون يساوي واحدًا أو أنّه احتمال قوي جدًّا، وهكذا فمقتضى العقل أن نرجِّح دائمًا قانون الطبيعة وننكر روايات المعاجز عند التعارض بين هذه وتلك.
وقد ذكرنا في ما سبق تقرير البرهان القبليّ بأشكال متعدّدة، أوردنا هنا تقريرًا تمسّك به كثير من الأنصار منذ زمن هيوم إلى يومنا هذا. والوجه المشترك لهذه التقارير هو أنّ قبول روايات المعاجز ترجيحٌ للدليل الضعيف على الدليل الأقوى.[48]
يسرد پرايس، وهو معاصر لهيوم، دليل اعتبار الخبر ودليل قبول قوانين الطبيعة، ثم يقول: (من منظار هيوم، قبول أخبار المعجزات بحجّة شهادة البشر ليس سوى ترجيح للدليل الضعيف على الدليل الأقوى. إنّه تنكّر لمرشدٍ لم يخدعنا أبدًا، وإقبال على مرشدٍ غالبًا ما خدعنا. إنّه قبول بأمر معارض للتجربة الرتيبة المتكرّرة توكّؤًا على تجربة ضعيفة متغيرة).[49]
ويقصد پرايس بالمرشد الذي لم يخدعنا أبدًا التجربةَ الثابتة التي تؤيّد قانون الطبيعة، وأمّا المرشد الذي خدعنا فهو في الغالب الأخبار والروايات التي تنبئ عن أمور خارقة للعادة.

و يقرر جورج كمپل، معاصر آخر لهيوم، رأي هيوم بقوله:
(التجربة هي مرشدنا الوحيد في الاستدلالات المتعلّقة بالأمور الواقعيّة. التجربة في بعض الأمور ثابتة ورتيبة، وفي بعض الأمور متغيّرة وغير رتيبة. التجارب غير الرتيبة تنتج محتملة ليس إلّا، أمّا التجارب الثابتة فهي دليل كامل على نتائجها [بمعنى أنّها تنتج نتائج لا يحتمل خلافها]. ثمّة في الاحتمال دومًا مشاهدات متخالفة، حيث نجد أنّ فئة من المشاهدات تتغلّب على فئة أخرى، ويتوفر دليل تكون قوّته متناسبة مع درجة تفوّقه على الطرف المغلوب. في مثل هذه الحالات يجب المقارنة بين التجارب والمشاهدات المتخالفة، وبين تمييز التجارب القليلة العدد عن التجارب الكثيرة العدد، حتى نحصل على الدرجة الدقيقة لقوّة الدليل الغالب.[50]
و يتابع كمپل فيقول إنّ دليل قبول الشهادات والأخبار هو في رأي هيوم من قبيل الأدلّة الاحتماليّة، أمّا دليل القوانين الطبيعيّة فيمثّل تجربة قاطعة ثابتة، فهو دليل أكمل وأقوى من دليل قبول الأخبار. فلو أنبأت أخبارٌ بوقوع نقضٍ لقانون الطبيعة، فسيشكّل ذلك دليلًا احتماليًّا مقابل دليل قاطع. وإذا أنقصنا درجة قوّة الدليل الضعيف واحتماليّته من درجة قوّة الدليل الأقوى واحتماليّته، سيكون الباقي لصالح دليل قانون الطبيعة، ولا تبقى أيّ قوّة لدليل المعجزة، (وعليه، مهما كان عدد الشهود الذين يشهدون لمعجزة من المعاجز، فلن يمكن التصديق بتلك المعجزة حتى بأدنى الدرجات).[51]

ننقل الشكل التفصيليّ لهذا التقرير عن لسان أحد الشرّاح المعاصرين لهيوم ويدعى سي دي برود[52].
1 ـ ما نعتقده حول كثير من الأشياء قائم على أساس شهادات الآخرين وإخباراتهم؛ لأنّ الآخرين يقولون إنّهم شهدوا الحادثة الفلانية، فإنّنا نؤمن بوقوعها.
2 ـ إنّنا نثق بشهادة الآخرين؛ لأنّ التجارب الممتدّة تعلّمنا أنّ الناس الذين ليس لديهم دوافع للكذب، ولا يوجد سبب لخداعهم أو انخداعهم، حين يقولون إنهم شهدوا وقوع حادثة ما، فهم قد شهدوها حقًا. حقّقنا مرارًا في أخبار الآخرين، ووجدنا أنّها صحيحة في حالات كثيرة؛ لذلك إذا لم يكن لدينا دليل خاصّ على كذب رواة قصة معينة أو خطئهم سنعتبر تلك القصّة أو الخبر خبرًا معتبرًا.
يريد هيوم أن يقول إنّ عقيدتنا بشهادات الآخرين وأخبارهم هي بالضبط من نوع عقيدتنا بالقوانين العلّيّة. في القوانين العلّيّة أعتقد أنّ (ب) يأتي دائمًا بعد (أ)؛ لأنّني شاهدت (ب) يأتي دائمًا بعد (أ). ومن هنا فإنّه يمكن الاستناد إلى إخبار إنسان عاقلٍ موثوقٍ يخبر بشيء شهده؛ لأنّه ثمّة حالات كثيرة توفّرت لنا فيها فرصة دراسة صدق المخبر واختباره، ووجدنا أنّ الرواة يروون لنا الواقع. وعليه يمكن اعتبار الاعتقاد بضرورة قبول الأخبار من قبيل الاعتقاد بأن («ب) يأتي دومًا وراء (أ).
3 ـ ينبغي أن نزيد أو نقلّل من اعتقادنا بأيّ شيء بما يتناسب مع الأدلّة الموافقة والمعارضة لذلك الشيء، فإذا جاء (ب) تبعًا لـ (أ) في 99 حالة من مئة حالة شهدناها، ولم يأت وراءه في حالة واحدة، فسيكون توقّعنا كبيرًا في الحالة القادمة أن يأتي (ب) تبعًا لـ (أ)؛ أمّا إذا كان هذا التتابع قد حصل في نصف الحالات المشاهدة، فلن يكون التوقّع كبيرًا لجهة حصول التتابع المذكور في الحالة المقبلة. ويمكن تطبيق هذه القاعدة نفسها بشأن اعتبار الأخبار.
4 ـ إذا كانت الأخبار المتعلّقة بحادثة ما متعارضة، وكانت ظروف كلا الخبرين متساوية، كأنْ يكون الشهود متساوين من حيث الوثاقة، فمن الطبيعي أن لا نستطيع منح اعتبار كبير لأيّ من الطرفين؛ لأنّ دليلنا على وقوع الحادثة يساوي دليلنا على عدم وقوعها.
ولكن إذا لم يكن هناك تعارض في الأخبار، أي إنّ جميع الشهود رووا وقوع الحادثة بالإجماع، فإنّ عقيدتنا ستتعزّز بسبب إجماع الشهود؛ لأنّنا نعلم أنّه عندما يكون الشهود الصادقون الشرفاء مجمعين على رواية حادثة معينة، فإنّ تلك الحادثة تكون قد وقعت.
5 ـ تتعزّز عقيدتنا أو تضعف بما يتناسب مع وقوع الحادثة المرويّة من حيث احتمالها أو عدم احتمالها. إذا علمتُ أنّ حوادث من النوع الذي رواه الشهود قد وقعت في الغالب، فلن يكون هناك سبب لكي أشكّ في أخبارهم، ولكن إذا كانت الحادثة التي يروونها بخلاف الأشياء التي تقع غالبًا، أي إذا كانت خارقة للعادة، فلا يجب أن اعتقد بصحّة أخبارهم على نحو حاسم؛ لأنّه بما أنّ حالات صحّة الأخبار التي تروى من قِبل أفراد صادقين أكثر من حالات سقمها، سأميل إلى تصديق خبر وقوع الحادثة المذكورة المرويّة بالإجماع من قبل شهود صادقين، ولكن حيث إنّ خبرهم مخالف للمعتاد، فسأميل إلى رفضه. يتعارضان هذان الميلان القائمان على تجاربي السابقة، والتالي فإنّ الحكم النهائيّ سيكون حدًّا وسطًا بين هاتين الحالتين.
6 ـ لنفترض أنّ الحادثة الخارقة للعادة التي تروى هي معجزة، أي نقض [فريد] لقانون من قوانين الطبيعة، أي الأنظمة التي لم يشاهد أيّ نقض لها، في هذه الحالة وبالنظر للحادثة نفسها نمتلك أقوى دليل ممكن على إنكار ذلك الخبر؛ لأنّنا نمتك أقوى دليل ممكن على الاعتقاد بخلافه، أي إنّنا نمتلك دليلًا ـ وهو تجربة كاملة رتيبة ـ على قانون الطبيعة.

وبذلك، سيكون الاستدلال القبليّ لهيوم ضدّ المعجزة باختصار:
بناءً على تعريف المعجزة، فإنّ أيّ معجزة تدّعى تتعارض تمامًا مع تجربة رتيبة، ولكي نعتقد بتلك المعجزة فلا نمتلك سوى تجربة جواز الثقة بالأخبار والشهادات، والحال أنّ هذه التجربة حتى على افتراض صدق الشهود وصلاحيّتهم التامّة، إلّا أنّها ليست تجربة رتيبة ودائميّة؛ لذلك لا يحقّ لنا أبدًا أن نعتقد بأيّ معجزة حتى لو شهد بها أقوى الشهود.
نروم فيما يلي تقويم بعض أجزاء هذا الاستدلال التفصيليّ في ضوء ما بيّناه.

تعارض الأدلّة
يقوم استدلال هيوم على أساس التعارض بين دليلين. وهو يعتقد أنّه يمكن التوصّل إلى نتيجة هذا التعارض عن طريق حسابات كمّيّة. والمقصود من الحسابات الكمّيّة حساب قوّة كلّ واحد من الدليلين المتعارضين ثمّ مقارنتهما ببعضهما. هذه المقارنة ممكنة في حال إمكانيّة قياس اعتبار الرواية وقابليّة مضمون الرواية للتصديق بمعيار مشترك. فكما أنّ قابليّة تصديق مضمون الخبر أو عدم تصديقه، وهو حدث من الأحداث، تحصل عن طريق مستوى الثقة أو الاحتمالات الأنفسيّة، فإنّ اعتبار الرواية أيضًا يجب أن يكون ممكن القياس والفحص بهذا المعيار نفسه.[53]
يرفض بعض النقّاد إمكانيّة تطبيق مثل هذه المقارنة، فهم يعتقدون أنّ مثل هذه المقارنة ممكنة عندما تكون الأدلّة المتعارضة متجانسة، أمّا في حال عدم التجانس، فلن تقع المقارنة على أساس ومعيار واحد. يقول ريتشارد پرايس في نقده لهيوم: "استخدام الأخبار والشهادات لإثبات المعجزة لا يستلزم عمليّة غير معقولة. هذه العمليّة ليست من قبيل استخدام تجربة ضعيفة للتغلّب على تجربة أقوى من النوع نفسه؛ بل هي استخدام استدلال لإثبات حادثة لها دليل مباشر وموجِب، ويمكن أن يؤدي إلى التغلّب على أقوى المعتقدات التي يمكن أن تبتني على أصول مختلفة. وتلك العقيدة الأخرى المغلوبة ليست أكثر من وجود ظنٍ عالٍ ضدّ وقوع تلك الحادثة قبل إقامة الدليل الجديد عليها (أي خبر وقوع المعجزة)".
ويقول پرايس إنّه "لا يمكن اعتبار المعجزة حدثًا متعارضًا مع التجربة، والأنسب أن نسمّيها حدثًا مختلفًا عن التجربة وليس متعارضًا معها. إذا شاهدنا طوفانًا يهدأ فورًا بأمرٍ من إنسان، فإنّ كلّ تجاربي السابقة تبقى على حالها، وإذا قلتُ إنّني شاهدتُ شيئًا متعارضًا مع تجاربي الماضية فقصدي هو أنّني شاهدتُ شيئًا لم تكن لي عنه أيّ تجربة. إذا اطمأننتُ بواسطة شهود عيان إلى أنّ حادثةً مختلفةً عن سياق الطبيعة الدراج قد وقعت في ظرف خاصّ، أكون قد وجدتُ بواسطة أخبار الآخرين وشهاداتهم دليلًا صريحًا وقاطعًا على وقوع هذه الحادثة". لا شيء يعارض هذا الدليل القاطع الصريح، أي إنّه لا يدحضه.
التجربة تقول لي فقط ما الذي حدث في الظروف الأخرى. التجربة لا تقيم دليلًا على عدم وقوع الحادثة المذكورة، لأنّ أحدًا لا يستطيع تجربة الرتابة الدائميّة لسياق الطبيعة. إذن، ليس من الصحيح أن ندّعي كالسيّد هيوم أنّ كلّ المعجزات التي تؤيّدها شهادات الآخرين فيها نزاع بين تجربتين متعارضتين، والتجربة الأقوى منهما هي التي ترسم حكمنا[54].
يذهب پرايس إلى عدم وجود نزاع بين دليلين بمعنى نفي أحدهما للآخر، حتى يلزم أن نحكم بين ذلكم الدليلين بمعيار قوّة الاحتمال، ونرجّح أحدهما على الآخر. بعبارة أخرى، يرى پرايس أنّ موضوع كلا الدليلين ليس شيئًا واحدًا حتى ينفيه أحدهما ويثبته الآخر. وموضوع أحد الدليلين يختلف عن موضوع الدليل الثاني. تخبّر التجربة عن حوادث في الماضي، وشهادات المعجزة وأخبارها تخبر عن حادثة مختلفة في زمان ومكان خاصّين ومختلفين، ولا يوجد بين هذين الخبرين أيّ نوع من التكاذب حتى تكون هناك حاجة لعرض منهجٍ لدراسة حالات التعادل والتراجيح بينهما. وهكذا فإنّ مراد پرايس من عدم تجانس الدليلين المتخالفين، هو عدم وحدة موضوعيهما.

التجربة والشهادة، اختزال إحداهما إلى الأخرى
تمّ التركيز في استدلال هيوم على تجانس الدليلين المتعارضين. وحاول هيوم أن يجعلهما من سنخ واحد عن طريق تحويل الدليل النقليّ إلى دليل تجريبيّ، ويوفّر بذلك الأرضيّة لإمكانيّة مقارنة الاحتمالات والموازنة بينهما. وكما شاهدنا في متن الدليل في البند الثاني من تقرير برود التحليليّ التفصيليّ، فإنّ أساس اعتمادنا على أخبار الآخرين وشهاداتهم هو تجاربنا الماضية، وبالتالي فإنّ منشأ اعتبار الدليل النقليّ أيضًا هو التجربة كما في الأدلة التجريبيّة. وهكذا يكتسب كلا الدليلين ـ قانون الطبيعة وخبر المعجزة ـ اعتبارهما من التجربة؛ ولهذا يمكن مقارنة احتمال صحّة كلّ واحد منهما بالآخر. سبق أن نقلنا عن جورج كمپل، ناقد هيوم المعاصر له، أنّه يقسّم التجربة إلى تجربة شخصيّة وأخرى مشتقّة، وبهذا التقسيم يجنح كمپل في الواقع إلى القول إنّ التجارب غير الشخصيّة والمشتقّة لها جذورها في شهادات الآخرين وأخبارهم، وذلك بخلاف هيوم الذي يرى أنّ التجربة هي أساس اعتبار الأخبار. ومن الواضح أنّه ما من تجربة شخصيّة يمكن أن تقوم بشكل مستقلّ عن شهادات أفراد مختلفين؛ لذلك فإنّ كلّ التجارب الصانعة لقوانين الطبيعة لا تكون معتبرة، إلّا إذا كانت الأخبار والشهادات الصانعة لتلك القوانين معتبرة. يقول برود:
(يبدو أن هيوم لم يكن متفطّنًا إلى أنّ اعتقادنا بكثير من القوانين يعتمد على الشهادات في الغالب. كثير من قوانين الطبيعة التي نؤمن بها جميعًا ليست حصيلة مشاهدة مباشرة لمصاديقها من قبلنا. إنّنا لا نشاهد سوى حالات ومصاديق قليلة منها، فاعتقادنا بأنّنا سنموت يعتمد غالبًا على شهادة الآخرين، ومعظمنا لم يشاهد سوى حالات قليلة من الموت. إذن الدليل ضدّ وقوع المعجزة، أي قانون الطبيعة، والدليل على وقوع المعجزة، أي شهادة الآخرين، كلاهما من سنخ الشهادة والروايات. ما من أحد لديه تجربة شخصيّة عن الموت ليستطيع بنحو معقول بالاعتماد على نظامه المجرَّب أن يعتقد أنّ الإنسان الميّت لا يعود إلى الحياة. عقيدتنا القاطعة بهذه الحقيقة منوطة بشكل كامل تقريبًا بشهادات الآخرين المتشابهة أو الواحدة، فإذا كان ثمّة شهادات معدودة تقول بعودة بعض الموتى إلى الحياة، فسيكون أمامنا فئتان من الروايات: الفئة الأولى شهادات كثيرة على أنّ الميّت لا يعود للحياة، والفئة الثانية شهادات قليلة على أنّ عددًا من الموتى عادوا إلى الحياة.[55]
كان هيوم يقيم تعارضًا بين دليلين مستمدّين من التجربة، ويوصي بأن نهيّئ المجال لترجيح أحدهما على الآخر عن طريق مقارنة قوّة هذين الدليلين من خلال حساب احتمال صحّة نتيجة كلّ واحد منهما. وفي المقابل يرسم برود التعارض بين دليلين مستمدّين من الشهادات أو من شهادتين متعارضتين. سندرس هنا قضيّتين؛ الأولى: هل استدلال هيوم استدلال دوريّ؟ والثانية: ما هو تأثير تحويل الدليل التجريبيّ إلى شهادة على النتيجة؟
القضيّة الأولى: يقول هيوم إنّه في أخبار المعاجز تقف تجربةٌ رتيبة دائمًا مقابل خبر أو شهادة أو رواية. وكما قال كمپل وأوضح برود، فإنّ هذه التجربة الرتيبة تقوم هي نفسها على شهادات الآخرين. وكان قد قال أيضًا إنّ قيمة الأخبار والشهادات تعتمد على التجربة. أفلا يقع دور لجهة كون التجربة مستندة على الشهادة والشهادة مستندة على التجربة؟ يعتقد بعض شرّاح هيوم أنّه هو نفسه قد أجاب عن هذا الإشكال، حيث بعث أحد أصدقاء هيوم، واسمه هيو بلير[56] نسخة خطّيّة لـ (رسالة المعجزات) من تأليف كمپل إلى هيوم، وقد تعرّف هيوم على إشكاليّة الدور عن هذا الطريق. يجيب هيوم في رسالة بعثها إلى بلير بما يأتي:
(ما من أحد يتوفّر على تجربة سوى تجربته الشخصيّة. تجارب الآخرين لا تتحوّل إلى تجربته هو، إلّا عن طريق القيمة التي يراها لشهادات الآخرين ورواياتهم. هذه القيمة التي تمنح لشهادات الآخرين نابعة من تجربته الشخصيّة عن الطبيعة).[57]
يمكن إعادة صياغة كلام هيوم هذا باستخدام مصطلحات كمپل على النحو الآتي: التجربة المشتقّة تتوكّأ على اعتبار شهادات الآخرين، واعتبار شهادات الآخرين يعتمد على التجارب الشخصيّة، وهكذا يزول الدور؛ لأنّ اعتبار الشهادات لا يعتمد على التجربة المشتقّة، حتى يكون اعتماد التجربة المشتقّة على الشهادات نوعًا من أنواع الدور.
إذا أقمنا اعتبار الأخبار على التجارب الشخصيّة، فما الذي ينبغي أنّ يفعله الشخص إذا كانت تجربته الشخصيّة حول الأخبار والشهادات مختلفة عن تجربتنا الشخصيّة؟ فهو بخلافنا لا يرى صحّة الخبر هي الأصل، بل يرى عدم الصحّة هو الأصل، ثم يبادر إلى تمحيص الخبر حتى يستطيع في ضوء الشواهد والقرائن أن يتخذ قراره في قبول الخبر أو رفضه. بالنسبة لمثل هذا الشخص فإنّ خبر المعجزة لا يختلف عن خبر الظاهرة العاديّة؛ لأنّه سيعمد لدراسة الشواهد والقرائن في كلا الحالتين. طبعًا يمكن أن تكون غرابة المعجزة وبعدها عن المألوف بالنسبة له قرينة تدعوه إلى رفض خبرها، بيد أنّ هذه الغرابة في رأية ليست إلّا من باب تعارضها مع تجاربه الشخصيّة. نفس هذا الشخص يكون على وضع مماثل تمامًا حيال الأحداث الخارقة للعادة التي هي حسب اصطلاحات هيوم ليست بمعاجز، أي أنّ من حقّه رفض أخبار الحوادث الخارقة للعادة لمجرّد تعارضها مع تجاربه الشخصيّة، ولا يكون في رفضه هذا قد قام بأيّ فعل غير معقول، والحال أنّ فعله هذا من وجهة نظر هيوم غير معقول، بمعنى أنّ هيوم يميّز بين المعجزات والأحداث الخارقة للعادة، والحال أنّه على افتراض ابتناء اعتبار الأخبار على التجارب الشخصيّة، وبالنتيجة ابتناء اعتبار قوانين الطبيعة على التجارب الشخصيّة عند فرد تختلف تجاربه الشخصيّة عن تجاربنا الشخصيّة، فلن يكون ثمّة أيّ فرق بين المعجزات والخوارق. إذا كان ابتناء اعتبار الشهادات والأخبار على التجربة الشخصيّة للتحرّر من مشكلة الدور يستلزم أن يبقى هناك فرق بين المعاجز والخوارق، فيكون هيوم قد ردّ على إشكاليّة الدور بالإضرار بجانب من نظرته.
وهناك لازمٌ غير صائب آخر يترتّب على هذه الطريقة في الإجابة عن إشكاليّة الدور، فلنفترض أنّ التجارب الشخصيّة لفرد ما حول فرد آخر أو أفراد آخرين تفيد أنّهم لا يكذبون أبدًا. وعند سماع هذا الفرد لخبر وقوع معجزة يرويه هؤلاء الصادقون بالمطلق، فينبغي عليه أن يصدّق خبرهم بحكم تجربته الشخصيّة من جهة، ويجب عليه برأي هيوم أن لا يقبل وقوع المعجزة من جهة ثانية، وذلك بحكم تجربة مشتقّة ـ وهي هنا قانون طبيعيّ يتعارض مع المعجزة المحدّدة. فأيّ هاتين التجربتين أقوى: التجربة الشخصيّة أم التجربة المشتقّة؟ التجربة الشخصيّة تجربة مباشرة لا شكّ فيها، بينما التجارب المشتقّة تجارب غير مباشرة تُنقل عن طريق وسائط. وبالتالي فإنّ التجربة الشخصيّة هي الراجحة ويجب العمل بمقتضاها، أي ينبغي تصديق خبر المعجزة الذي يرويه أشخاص موثوقون. إذن، يستلزم ابتناء اعتبار الأخبار على التجارب الشخصيّة أن يمكن، في حالات خاصّة على الأقل، تصديق أخبار المعاجز، والحال أنّ هيوم يعتقد أنّ خبر المعجزة لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يتمتّع بالقوّة التي تؤهّله للصمود حيال قوانين الطبيعة.
يتبين على أساس الافتراضين المصطنعين المذكورين أنّ حلّ هيوم للتخلّص من إشكاليّة الدور، لها لوازم لا تنسجم مع آرائه.
القضيّة الثانية: إذا جارينا برود في اعتبار التعارض بين الدليلين تعارضًا بين شهادتين، ورفضنا رأي هيوم بتعارض التجربتين، فماذا سيكون الفرق في النتيجة؟ يبدو في ضوء ما سلف أنّه يجب اللجوء إلى الشهود ورواة الأخبار ودرجة اعتبارهم ووثاقتهم أيضًا. ونظرًا إلى أنّ عدد شهادات قانون الطبيعة أكبر بكثير وفي مصاف التواتر، فسيناط كلّ شيء بدرجة وثاقة شهود المعجزة، بحيث لو كان ثمّة شهود معتبرون قد رووا الحادثة المعجزة، ولم تكن ثمّة أيّ قرينة على سقم الخبر من حيث سوء فهمهم أو انخداعهم، فيجب قبول الخبر حتى لو كان بخلاف الشهادات المؤيّدة لقانون الطبيعة. بعد أن سلّمنا أصل وقوع الحادثة المعجزة اعتمادًا على وثاقة الشهود، يجب أن نحقّق في مصدرها ومنشئها، لكن المهم هو أنّ تصديق وقوع تلك الحادثة فعلٌ معقول.
والخلاصة هي أنّه إذا كان الدليل على اعتبار قوانين الطبيعة هو اعتبار الشهادات، فهذا يعني أنّه عند مخالفة خبرٍ لقانونٍ طبيعيّ يكون أمام خبران متعارضان هما - كما قلنا في إيضاح كلام پرايس - غير متكاذبين على الإطلاق، ويمكن أن يكونا صادقين في آن واحد. وإذا اكتشفنا فيهما تكاذبًا أو تعارضًا وشعرنا بالحاجة لترجيح أحدهما على الآخر، فسيناط كلّ شيء بدرجة وثاقة وصدق رواة خبر المعجزة، بحيث لو كانت درجة وثاقتهم كافية وافقنا على وقوع حادثة مخالفة لقانون الطبيعة، ويبقى فهمنا وتفسيرنا لتلك الحادثة.

تفسيران للحوادث المتعارضة مع قوانين الطبيعة
إذا صدّقنا وقوع الحادثة المعجزة، فسيكون هناك احتمالان لتفسيرنا لمصدر تلك الحادثة والغاية منها؛ الاحتمال الأوّل أن نعتقد أنّ قانون عدم عودة الموتى للحياة ليس قانونًا كلّيًّا مطلقًا، بمعنى أن نعتبر أنّ وقوع هذه الحادثة يدلّ على سقم القانون الذي كنّا نتصوّر أنّه قانون طبيعيّ. أمّا الاحتمال الثاني فأن نؤمن بذلك القانون، لكنّنا سنقتنع أنّه قد يُنقض أحيانًا بواسطة المعجزة. فكيف يمكن اختيار أحد هذين التفسيرين؟
يقول سوينبرن إنّه (إذا كان لدينا دليل كافٍ على وقوع حادثة تخالف قانون الطبيعة، وكان لدينا أيضًا دليل كافٍ على وقوع حوادث تشبه تلك الحادثة في الظروف المماثلة، فسيتوفّر لدينا الدليل الكافي للاستنتاج بأنّ ما كنّا نعتبره في السابق قانونًا طبيعيًّا لم يكن في الواقع قانونًا طبيعيًّا)[58].
رؤية سوينبرن هذه في الحقيقة ترجع إلى التفسير الأول نفسه. يقول سي دي بورد: (إذا فحصنا كلّ الحالات المشابهة للحادثة المعجزة، ووجدنا أنّ لها جميعًا خصوصيّات مشتركة، عندئذ ينبغي إعادة النظر في القانون الكلّيّ لنقول مثلًا إنّ كلّ الذين يموتون لا يعودون إلى الحياة باستثناء الذين يتوفّرون على الخصوصيّة. وهكذا سيكون لدينا قانون جديد بمقدوره تبيين عودة الموتى المتوفّرين على الخصوصيّة إلى الحياة، ويوضِّح طبعًا عدم عودة غيرهم من الموتى إلى الحياة).[59]
لا فرق بين رأي سوينبرن وبين رأي برود، لأنّ سوينبرن يقول أيضًا: (إذا توفّر لنا دليل كافٍ على وقوع حوادث شبيهة في ظروف شبيهةفيجب إعادة النظر في القانون السابق).
و يمكن أن يكون مراده من الظروف الشبيهة هي تلك الخصوصيّات المشتركة بين الاستثناءات.
و لكن السؤال المطروح هو أنّه ما هي الحالات التي يجب أن لا نعتبر وقوع الحدث فيها مبرِّرًا لإعادة النظر في قانون الطبيعة وذلك عندما نواجه حدثًا ينقض قانونًا من قوانين الطبيعة؟ وبذلك نمهّد الأرضية لفهمه على أنّه معجزة حقيقيّة. يقول سوينبرن: (متى ما كان لدينا دليل كاف على وقوع حادثة معجزة، ودليلٌ كاف على الاعتقاد بأنّ حادثة شبيهة بها لن تقع حتى في ظروف شبيهة بظروف تلك المعجزة، حينئذ لن نمتلك دليلًا كافيًا على أنّ القانون الذي نقضته هذه المعجزة ليس قانونًا طبيعيًّا حقيقيًّا.[60] فإذا أردنا الجمع بين عقيدتي وقوع الحدث المعجز وصحّة القانون الذي خرقه هذا الحدث المعجز، فيجب أن نعتقد بعدم قابليّة ذلك الحدث المعجز للتكرار، وينبغي أن ننظر في طبيعة الدليل الذي بوسعه إثبات هذا الاعتقاد.
يقول سوينبرن: (إذا لم نستطع تقديم قانون أو معادلة جديدة تستطيع أن تبيّن الحادثة الإعجازيّة، فضلًا عن تبيين الحالات الممكنة التبيين بالقانون السابق، بحيث يبقى القانون السابق قادرًا على تبيين كلّ المشاهدات المستقبليّة، فسيتوفر لدينا الدليل الكافي على عدم قابليّة الحادثة المذكورة للتكرار. وفي هذه الحالة يتسنّى اعتبار تلك الحادثة معجزةً، أي بعد وقوع تلك الحادثة لن نعتبرها شاهدًا على سقم القانون السابق الذي خرقته ونقضته، بل نعتبرها ذات مصدر فوق طبيعيّ وماورائيّ، أي إنّها معجزة[61].
تلعب عدم قابليّة الحادثة المعجزة للتكرار دورًا أساسيًّا في المنهج الذي يختاره سوينبرن لفتح الباب أمام الاعتقاد بأنّ حدثًا متعارضًا مع قانون الطبيعة هو معجزة. ولبرود بيان آخر لا يستند بالضرورة على عدم القابليّة للتكرار، حيث يقول: (إذا لم نستطع بفحص حالات نقض قانون الطبيعة العثور على خصوصية مشتركة تبيّن سبب تخلّفها عن قانون الطبيعة، فمن سبل الحلّ أن نقول إنّه في مقام الثبوت لا توجد أيّ خصوصيّة مشتركة بينها أيضًا، ونعتقد بالنتيجة أنّ استثنائيّتها ثمرة تدخّل عامل ماورائيّ يمكن أن يكون تابعًا لقانون خاصّ لا علاقة له بالمسائل الطبيعيّة. في هذه الحالة سنكون قد اعتقدنا بأنّ المعجزة بمعناها المصطلح قد وقعت. طبعًا يمكن على افتراض عدم تشخيص خصوصيّة مشتركة أن نعتقد بأنّ مثل هذه الخصوصيّة المشتركة موجودة في متن الواقع، لكنّنا لم نستطع معرفتها.[62] في هذه الحالة، فإنّنا طالما لم نجد قانونًا جديدًا لتبيين الحالات الاستثنائيّة سنبقى عاجزين عن تبيين الحادثة المعجزة، بينما إذا نسبناها إلى عوامل ماورائيّة فسنكون قد توفّرنا على تبرير لتلك الاستثناءات.

نقد تقرير پرايس ـ برود للاستدلال القبليّ ضدّ المعجزة
يقول برود في الجزء الأخير من تقريره المفصل لاستدلال هيوم: (لا يحقّ لنا أبدًا أن نعتقد بأيّ معجزة حتّى لو شهد بها أقوى الشهود". ويعتقد برود أنّ هذه الجملة هي حصيلة استدلال هيوم القبليّ، وسببها هو أنّ أحد الدليلين المتعارضين قويّ في أكمل درجات القوّة، وهو دليل القوانين الطبيعيّة، والدليل الثاني، أي دليل اعتبار الأخبار والشهادات، لا يرقى أبدًا إلى درجة الدليل الكامل، والتجارب الرتيبة المتكرّرة التي لا استثناء فيها تدعم قوانين الطبيعة؛ أمّا بالنسبة لاعتبار الأخبار والشهادات، فلا توجد مثل هذه التجربة الرتيبة، فقد كانت الأخبار والروايات التي سمعناها بخلاف الواقع مرّات عديدة، لذلك لن يكون احتمال صحّة أيّ خبر، وخصوصًا أخبار المعاجز، في قوّة احتمال صحّة قوانين الطبيعة.
إذا صحّ هذا البيان، أي أنّ احتمال صدق أيّ خبر من أخبار المعاجز لا يرقى لاحتمال صحّة قانون الطبيعة، فكما سبق أن قلنا سيكون القسم الثاني من دراسة هيوم عبثيًّا لا ضرورة له، والحال أنّه لا يبدو كذلك. من ناحية أخرى، يطرح هيوم في ختام القسم الأول من دراسته قاعدة أو شعارًا يقول فيه (ما من شهادة تكفي لإثبات المعجزة إلّا إذا كان خطؤها أكثر إعجازًا من الحادثة التي تريد إثباتها).[63] يمكن طرح هذا الشعار إذا كان احتمال صحّة خبر المعجزة أكبر من احتمال صحّة القانون المضادّ لها. بعبارة ثانية، يمكن رفع هذا الشعار إذا كان احتمال صحّة خبر المعجزة أكبر من احتمال صحة قانون الطبيعة. ومثل هذا الشيء مرفوض في تقرير پرايس ـ برود، أي طبقًا لتقريرهما لا يمكن إطلاقًا أن يكون احتمال صحّة خبر معجزة أكثر قوّة من إحتمال صحّة قانون من قوانين الطبيعة؛ لذا لا يمكن طرح الشعار المذكور.
نعم، من لوازم شعار هيوم أن يكون تفوّق احتمال صحّة المعجزة على احتمال صحّة قانون الطبيعة، ممكنًا. وقد صرّح هيوم نفسه بهذا الإمكان قبل طرح الشعار المشار إليه، حيث قال:
(بمقتضى طبيعة الواقعة الإعجازيّة ثمّة دليل قاطع كامل ضدّ وقوع المعجزة، دليل لا يمحى ولا يأفل، والمعجزة المذكورة لا تكون معتبرة إلّا بدليل مخالف [لدليل التجربة] وأقوى منه).[64]
على الرغم من وجود مثل هذا اللازم لشعار هيوم ومثل هذا التصريح بإمكانيّة تفوّق دليل المعجزة، إلّا أنّه يمكن العثور في عبارات أخرى على تصريحات تفيد تعذّر هذا التفوّ، حيث يقول هيوم: (ما من شهادة تؤيّد أيّ نوع من المعاجز يمكن أن ترتقي حتى إلى مرتبة الاحتمال، ناهيك عن أن تصل إلى مرتبة الدليل الكامل).[65]. ويقول في فقرة أخرى: (ما من شهادة إنسانيّة يمكنها أن تكون قويّة إلى درجة تثبِت معها معجزةً).[66]
العبارتان الأخيرتان تأييدات مناسبة لقراءة پرايس ـ برود، ولكن ثمّة شواهد تؤيّد رفض هذه القراءة أيضًا. من ذلك أنّ هيوم أضاف قيدًا للجملة الأخيرة، ثم صرّح في طبعات وتنقيحات لاحقة بأهمّيّة ذلك القيد فقال: (ما من شهادة إنسانيّة يمكنها أن تكون قويّة إلى درجة تثبِت معها معجزةً، وتجعلها أساسًا مناسبًا للأنظمة الدينيّة). القيد الذي يضيفه هيوم معناه أنّه قد يمكن إثبات أصل وقوع حوادث إعجازيّة عن طريق الأخبار والشهادات، لكنّ هذه المعاجز لا يمكنها أن تمثّل دليلًا على حقّانيّة نظام دينيّ ما. ربما بسبب تعذّر أن نحرز عن طريق الأخبار أنّ عاملًا ماورائيًّا هو الذي قام بهذه المعجزة. يقول هيوم بعد أن يوافق على إمكانيّة إثبات وقوع حوادث اعجازيّة عن طريق الأخبار: (ربما كان مستحيلًا العثور على مثل هذا الدليل بين كلّ الوثائق التاريخيّة). المراد من هذه العبارة أنّه على الرغم من إمكانيّة العثور على دليل تاريخيّ على وقوع حادثة معجزة، فإنّ مثل هذا الدليل لم يعثر عليه فعليًّا. ويقوم هيوم بإجراء تغيير في صياغة الجملة الأولى. كانت الجملة الأولى في النسخة الأولى كما يأي: (ما من شهادة... يمكنها على الإطلاق أن تبلغ حتى مرتبة الاحتمال...). [67]
يُشعِر هذا التغييرُ أيضًا بأنّ هيوم يرى إمكانيّة تفوّق احتمال صحّة خبر المعجزة على احتمال صحّة قانون الطبيعة، مع أنّه لم يصل على أرض الواقع خبرٌ بهذا الاحتمال. إذا نظرنا بعين الجدّ لهذا التغيير في موقف هيوم، واعتبرناه ثمرة تفطّن هيوم لنواقص استدلاله، فيجب أن نقوم بتعديل في تقرير پرايس ـ برود، فلا نعتبر نتيجة استدلال هيوم أنّه لا يستطيع خبرُ أيّ معجزة على الإطلاق التفوّق على قانون من قوانين الطبيعة. بل نتقبّل إمكانيّة أن يكون خبر المعجزة قويًّا إلى درجة أنّ احتمال سقمه أو احتمال كذب رواته والشهود ليس أكبر من احتمال سقم قانون الطبيعة.
يستشف أنّه توجد في كلام هيوم وكتاباته شواهد لصالح كلا القراءتين، وقد تعرّفنا على بعض منها. إذا أردنا مقارنة هذه الشواهد ببعضها، نشعر كأنّما يوجد في أذهاننا افتراض مسبق يقول إنّ دراسة هيوم تتمتّع بالانسجام الداخليّ، والحال أنّه يبدو أنّ الفكرة القائلة بأنّ دراسته تتحمّل كلا القراءتين ناجمة عن حالات التباس وغموض في ذهن هيوم نفسه، حيث تبدّت له مشكلات استدلاله ضدّ المعجزة بشكل تدريجيّ.

وجه آخر لطرفي التعارض
يقول بعض شرّاح هيوم إنّ الدليلين المتعارضين الذين وردا في استدلال هيوم هما: (دليل تجريبيّ عامّ يُعرف بدليل العلّيّة العامّ، ويفيد أنّ لكلّ حادثة علّة طبيعيّة تبيّن تلك الحادثة، ومن ناحية ثانية لدينا حادثة تعتبر معجزة فهي تقول في الواقع: بعض الحوادث ليس لها علّة طبيعيّة)[68].
يلوح أنّ هذه الصورة للدليلين المتعارضين في استدلال هيوم، ليس لها ما يؤيّدها في دراسة (حول المعاجز) على الإطلاق، بل إنّ كتابات هيوم وآرائه تخالف هذه الصورة، لأنّه يحاول بصراحة رسم دليل اعتبار الخبر في قالب الاستدلال العلّيّ، والتأكيد على أنّ منشأه هو تجاربنا الماضية التي تفيد تطابق الخبر مع الواقع، وهذا ما يضع الاستدلال العلّيّ مقابل قانون خاصّ من قوانين الطبيعة. على هذا الأساس، الدليل المعارض لقانون الطبيعة هو هذا الاستدلال العلّيّ في الدفاع عن اعتبار الأخبار والشهادات، كما أنّ هيوم لم يقصد من قانون الطبيعة قانون العلّيّة العامّ، فمراده من قانون الطبيعة في مثال قيام المسيح من الأموات أو إحيائه للموتى، عبارة من قبيل: (الموتى لا يعودون إلى الحياة).

----------------------------------
[1]- ويلسون، 1997م، ص 276.
[2]- ويلسون،  1997م، ص 276.
[3]-  (غسكين، 1988م، ص 153 و 154)
[4]- أُولين، 2002م، ص 416.
[5]- لوك، 1998م، 4، 15، ص 385 ـ 387.
[6] - (لوك، 4، 16، 9، ص 390 ؛ ايرمن، 2000م، ص 103) نسخة ايرمن أكمل من النسخة التي حقّقها پتيسون.
[7]-  إيرمن، 2000م، ص 15.
[8]- إيرمن 2000م، ص 6.
[9]- إيرمن، 2000م، ص 3.
[10] - George Campbel .
[11]- كمبل، 2000م، ص 178.
[12]- (إيرمن، 2000م، ص 3).
[13] - ليس المراد هنا اليقين المنطقيّ، بل القطع النفسيّ الناتج عن التجربة المتكرّرة غير المنقوضة. كما مرّ بنا، يسمّي هيوم الدليل التجريبيّ المفضي لمثل هذا القطع بالدليل الكامل (proof).
[14]- هيوم، 1989م، 90، ص 114.
[15]- هيوم، 1989م، 90، ص 115.
[16]-  لوين، 2005م، ص 1 من 29.
[17]- لوين، 2005م، ص 1 من 29.
[18]-  غسكين، 1988م، ص 153.
[19]- روت، 2002م، ص 431 و 432.
[20]- إيرمن، 2000م، ص 39.
[21] - decay .
[22]-  إيرمن، 2000م، ص 31.
[23]  - Thomas More .
[24] - Dialogue Concernig Heresies .
[25]- إيرمن، 2000م، ص 33.
[26]-  لوك، 1998م، 4، 15، ص 387.
[27]-  هيوم، 1989م، 89، ص 113 و 114.
[28]- هيوم، 1989م، 89، ص 114.
[29]- إيرمن، 2000م، ص 36.
[30]- إيرمن، 2000م، ص 36 ـ 37.
[31]-  چالمرز، 1374م، ص 26 و 27.
[32]- سوينبرن، 1996م، ص 606.
[33]- برود، 2002م، ص 450.
[34]- برود، 2002م، ص 450 ؛ سوينبرن، 1996م، ص 606 و 607.
[35]- غسكين، 1988م، ص 154.
[36]-  برود، 2002م، ص 450 و 451.
[37] - William Harvey (1578 - 1657).
[38]- روت، 2002م، ص 433.
[39]- شلزينجر، 1999م، ص 360 و 361.
[40]- إيرمن، 2000م، ص 11.
[41]- هيوم، 1989م، 90، ص 115.
[42]-  شلزينجز، 1999م، ص 360.
[43]-  لوين، 2005م، ص 1 ـ 29.
[44]  روت، 2002م، ص 434 و 435.
[45]  روت، 2002م، ص 434 و 435.
[46]- روت، 2002م، ص 437 و 438.
[47]- روت، 2002م، ص 437 و 438.
[48]- إيرمن، 2000م، ص 21.
[49]- پرايس، 2000م، ص 158.
[50]- كمپل، 2000م، ص 177.
[51]-  كمپل، 2000م، ص 177.
[52]- برود، 2002م، ص444 ـ 446.
[53]-  روت، 2002م، ص 429.
[54]- پرايس، 2000م، ص 162.
[55]-  برود، 2002م، ص 452.
[56] - Hugh Blair
[57]-  ويلسون، 1997م، ص 284 و 285.
[58]-  سوينبرن، 1996م، ص 606.
[59]-  برود، 2002م، ص 452.
[60]- سوينبرن، 1996م، ص 606.
[61]-  سوينبرن، 1996م، ص 606.
[62]-  برود، 2002م، ص453.
[63]- هيوم، 1989م، 91، ص 115 و 116.
[64]- هيوم، 1989م، 90، ص 115.
[65]- هيوم، 1989م، 98، ص 127.
[66]- هيوم، 1989م، 98، ص 127.
[67]- هيوم، 1989م، 98، ص 157.
[68]-  ويلسون، 1997م، ص 288 ـ 291.