البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ديفيد هيوم كمثال لمعضلة التنوير

الباحث :  د.بهاء درويش
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  18
السنة :  السنة الرابعة -شتاء 2019 م / 1441 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 8 / 2020
عدد زيارات البحث :  3263
تحميل  ( 379.704 KB )
يعتبر ديفيد هيوم أنَّ “علم الإنسان”هو على قمَّة العلوم الأخرى، في حين أنَّ النتائج التي توصَّل إليها التنويريُّون  هي على العكس تماماً، إذ انتهت إلى أنَّ الإنسان كائن بلا روح، بلا جوهر نفسيٍّ، لا حرِّيَّة للإرادة عنده، ولا ملكة غير طبيعيَّة للعقل لديه، وبالتالي لا تميُّز له عن غيره من الكائنات يوافق فخره بقدراته. وإذا كانت السِّمة الجوهريَّة التي يتَّصف بها الفكر التنويريُّ هي أزمته مع سلطة الاعتقاد، فإنَّ هيوم يمثِّل هذه السمة  خير تمثيل، بل يمكن القول أنَّه فيلسوف الشكِّ بالقدرة البشريَّة العقليَّة من حيث هي قدرة معرفيَّة، إذ أنَّه لم يجد  تبريراً للاعتقاد سوى قوَّة العادة.
من وجهٍ آخر، وقع هيوم في بعض التناقضات حين لم يتمكَّن من البرهان على عدم وجود حرِّية الإرادة لدى الإنسان؛ لأنه في قوله بالاطِّراد في الطبيعة، لم ينكر ولم يقبل وجود قوى مسؤولة عن هذا الاطِّراد، ورفض القول بمعرفتنا لها فحسب. في بحث الدكتور بهاء درويش تحليل لمعضلة التنوير كما نلاحظها.

المحرِّر
-----------------------------------------
يمثِّل القرن الثامن عشر، تاريخيَّاً، ما يُعرف بالتنوير الغربيِّ enlightnment، وإن كان القرنان السادس عشر والسابع عشر قد مهَّدا له باكتشافاتهما العلميَّة وأفكارهما الفلسفيَّة. ويمكن إجمال الملامح العامَّة للتنوير بأنَّها الإيمان بسلطتَيْ العقل والعلم، والإعلاء من شأنهما، ورفض سلطة الكنيسة على الفلسفة والعلم.  
هذا التنوير يفخر – من ضمن ما يفخر- بأنَّ أحد منجزاته هو التمييز بين المعرفة البشريَّة العقليَّة – نتاج العلم والفلسفة- والمعرفة الدينيَّة الدوغماطيقيَّة التي كانت تُملَى على العقل إملاءً مسببةً إلغاءه. أمَّا المعرفة المقبولة فهي تلك التي توصَّل إليها العقل البشريُّ بنفسه فحسب. فإذا كان رينيه ديكارت (1596 – 1650) يُعدُّ أحد أقطاب التنوير لهجومه على الافتراضات السكولائيَّة الأرسطيَّة التي سادت لفترة طويلة من الزمن مشكِّلة عائقاً أمام تطوُّر العلم، فإنَّ منهجه في الشكِّ ساهم بشكل فعَّال في تقدُّم العلم الحديث. كما يُعدُّ نسق باروخ سبينوزا (1632 – 1677) أحد أُسُس الفكر التنويريِّ لإنكاره – اعتماداً على البرهان الفلسفيِّ وحده – وجود مُتعالٍ، وتوحيده هذا الوجود المتعالي مع الطبيعة، رافضاً الاعتماد على أيِّ علل أخيرة أو غائيَّة في التفسير. كذلك تشكِّل ميتافيزيقا غوتفريد ليبنتز (1646 – 1716) أحد أُسُس التنوير في ألمانيا لتعبيرها انطلاقاً من مبدأ السبب الكافي عن معقوليَّة الكون والذي يمثِّل أحد قناعات الفكر التنويريّْ. ولم يعنِ وصف عصر التنوير بأنَّه “عصر العقل” في مقابل “عصر الإيمان الدينيّْ” رفض المعرفة التجريبيَّة. فالعقل الذي يتحمَّس له التنويريُّون هنا- ليس مقصوداً به “العقل كمصدر للمعرفة”، وإلَّا لتمَّ رفض الحسِّ والتجريب كمصدَرين للمعرفة، ولكن المقصود به الحماسة الاعتماد على سائر ملكات العقل الادراكيَّة. وإذا كان ديكارت يُعدُّ مؤسِّس الاتِّجاه العقليِّ للتنوير، فإنَّ فرنسيس بيكون (1561 – 1626) بكتابه “الأورغانون الجديد” يُعدُّ رائد التنوير في شقِّه التجريبيّْ. كذلك يُعتبر كتاب جون لوك “مقالات في الفهم الإنسانيّْ” من النصوص المؤسِّسة للتنوير لاشتغاله برسم حدود المعرفة البشريِّة، ممثِّلاً بذلك لابستمولوجيا تنويريَّة  حديثة.
جدير بالقول أنَّ من السِّمات الجوهريَّة التي يتَّصف بها الفكر التنويريُّ أيضاً هو أزمته مع سلطة الاعتقاد. يمثِّل هذه السمة الفيلسوف الانكليزيُّ دافيد هيوم (1711 – 1776) خير تمثيل. بل يمكن القول أنَّه فيلسوف الشكِّ في القرن الثامن عشر، شكٍ في القدرة البشريَّة العقليَّة من حيث هي قدرة معرفيَّة، ولم يجد من تبرير للاعتقاد سوى قوَّة العادة.
إلَّا أن هيوم يعبِّر عن معضلة أرى أنَّ التنويريِّين وقعوا فيها ـ وهي الفرضيَّة الرئيسيَّة لهذه الورقة: لمَّا كان “الانسان” كموضوع اهتمام وموضوع دراسة قد أصبح على قمَّة وعي التنويريِّين، وأصبح العلم أداة الدراسة لا المعرفة الدينيَّة الدوغماطيقيَّة مصدر المعرفة، كان من الطبيعيِّ أن يتَّجه العلم إلى الدراسة العلميَّة للإنسان. وهنا نشأ التوتُّر الذي يمكن التعبير عنه على النحو التالي: إذا كانت قدرات العقل الإنسانيِّ التي وصل الإنسان بها إلى الانجازات العلميَّة قد جعلته يفخر ويعتزُّ بنفسه وقدراته، ويوجِّه دراسته لنفسه هادفاً للوصول إلى “علم للإنسان” – على النحو الذي أراده هيوم- يرى أنَّ مكانه الطبيعيَّ أن يكون على قمَّة العلوم الأخرى، فإنَّ النتائج التي وصل إليها التنويريُّون عن الإنسان تقف على العكس تماماً، ولا تبرِّر فخر الإنسان بنفسه، إذ انتهت إلى أنَّه كائن بلا روح، بلا جوهر نفسيٍّ، لا حرِّيَّة للإرادة عنده، ولا ملكة غير طبيعيَّة للعقل لديه، وبالتالي لا تميُّز له عن غيره من الكائنات يوافق فخر الإنسان بقدراته.
يحاول هذا البحث تبيان أنَّ هيوم - كغيره من التنويريِّين- قد وقع - نتيجة هذا التوتُّر- في تناقض: لقد أراد  بكتابه “رسالة في الطبيعة البشريَّة A Treatise of Human Nature” 1739 تحديداً أن يدرس الإنسان مؤسِّساً لما سمَّاه “علم الانسان” جاعلاً منه أساس كلِّ العلوم أو حجر الأساس لكلِّ العلوم. ولكن إذا كان الإنسان على يديه لم يعد الكائن الذي يقع على رأس الكون، بل هو الكائن الذي لا جوهر روحيٌّ له أو حرِّيَّة إرادة أو ملكة عقليَّة غير طبيعيَّة، الكائن غير القادر على تبرير اعتقاداته، أي أنَّه كائن طبيعيٌّ كسائر مخلوقات الطبيعة، فإنَّه بذلك قد محا كلَّ تمييز بينه وبين غيره من الكائنات، فلماذا يطلب لعلم الإنسان تميُّزاً وعلوَّاً على غيره من العلوم، إذا كان هذا العلمُ علمَ كائنٍ لا تميُّز له عن غيره من الكائنات.

عصر التنوير:
على الرغم من أنَّ التنوير يرتبط بأسماء مجموعة من المفكِّرين الفرنسيِّين البارزين الذين عاشوا في القرن الثامن عشر مثل فولتير ومونتسكيو، فإنَّه لم ينغلق جغرافيَّاً وحدوديَّاً على فرنسا. إذ مثَّله في اسكتلندا كل من فرانسز هاتشسونوآدم سميث وديفيد هيوم وتوماس ريد، ومثَّله في ألمانيا كلٌّ من  كريستيان وولف ومندلسون وليسنغ وكانط. وعلى هذا النحو، امتدَّ عبر أوروبا في القرن الثامن عشر. وهنا يُطرح السؤال: ما الذي جمع هؤلاء المفكِّرين تحت مصطلح التنوير؟ والجواب أنَّ ما جمعهم هو اقتناعهم بضرورة تسليط الضوء على الكون وسُبل الحياة، فتبدو الأمور مختلفة تماماً عمَّا كانت عليه في زمانهم. ولكن، من أين لهم هذا الضوء؟ هذا الضوء أقرب إليهم مما يتصوَّرون، إنَّه العقل البشريُّ المستقل: يكفي أن تؤمن بقدراته وتُعلي من سلطاته، لترى الأمور بقدراته وليس بالآخرين، عندئذٍ ستتخلَّص من سلطة الكنيسة على الفلسفة والعلم.
لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ القرنين السادس عشر والسابع عشر قد مهَّدا  باكتشافاتهما العلميَّة وأفكارهما الفلسفيَّة لهذا التنوير، بل يمكن عدُّها نواة له. فلقد تمكَّنت الاكتشافات العلميَّة بهذا الضوء الذي سلَّطته من تغيير صورة العالم الطبيعيِّ من نموذج مُغلَق للعالم أرضيِّ المركز قدَّمه بطليموس، إلى نموذج ثوريٍّ للعالم شمسيِّ المركز قدَّمه نيقولاس كوبرنيقوس (1473 – 1543) ممثِّلة بذلك تغيُّراً في النموذج الإرشاديِّ على النحو الذي يعنيه توماس كون. كما تمكَّنت الفلسفة من التخلُّص من تبعيَّتها للَّلاهوت والتفسيرات الدينيَّة لتصبح قوَّة مستقلَّة تستطيع أن تتحدَّى الماضي وتبني ما هو جديد اعتماداً على مبادئها الخاصَّة[1]. يرتبط التنوير أكثر ما يرتبط بالفكر السياسيِّ حتى أنَّ بعض مفكِّري السياسة يجدون في أفكار الإخاء والمساواة والحرِّيَّة التي انتشرت من خلال فلاسفة السياسة في ذلك الوقت الوقود الذي أدَّى إلى اندلاع الثورات الثلاث: الثورة الانكليزية 1688، الثورة الأميركيَّة 1775 - 83 ثم الثورة الفرنسيَّة 89 – 99 [2].
وإذا كان التنوير لم يرتبط مكانيَّاً بفرنسا فحسب، فإنَّ فلاسفته لم يروا أنَّه يرتبط أيضاً بفترة زمنيَّة محدَّدة. فالفيلسوف الألماني إيمانويل كانط يعرِّفه بأنَّه التحرُّر البشريُّ من عدم النضج، أي عدم القدرة على الاعتماد الذاتيِّ في الفهم من دون معاونة الآخرين. هو يحدِّده بأنَّه قدرة المرء على التفكير لذاته بذاته والاعتماد على قدراته العقليَّة في تحديد ما يؤمن به وكيف يسلك تجاهه. القوى العقليَّة فحسب – وفقاً لفلاسفة التنوير – هي ما يمكن أن تقدِّم لنا معرفة بالعالم الطبيعيِّ، وهي ما يمثِّل السلطة المرشدة لنا في حياتنا العمليَّة فحسب[3].
لقد شهد عصر التنوير تغيُّرات واسعة في نظرة العلم الطبيعيِّ للكون، وفي انتشار العقلانيَّة. كما ظهرت نظريَّات أخلاقيَّة وسياسيَّة تميِّزه وتمثِّل خصائصه تختلف عن سابقاتها. كذلك امتدَّ التغيير إلى الفكر الجماليّْ.
عصر التنوير ـ إذاً ـ هو عصر الثقة في العقل وفي قدراته الخاصة، معرفيَّاً وعمليَّاً.
هذا يؤدِّي بنا إلى السؤال التالي: إلى أيِّ مدى يمكن للقدرات العقليَّة – تلك التي نثق في قدراتها وفقاً لمقولات عصر التنوير- أن تؤسِّس معرفتنا عن ذواتنا وعن الكون؟

الشكُّ في قدراتنا المعرفيَّة عند ديفيد هيوم:
لا بدَّ من القول أنَّ ديفيد هيوم انتهى من صياغة ما كان يريد أن يقوله وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره. فقد وضع تفاصيل نظريَّته في الجزء الأول من كتابه الأشهر الذي سمَّاه “ رسالة في الطبيعة البشريَّة A Treatise of Human Nature “ 1739. إلَّا أنَّ هذا الكتاب قُوبل بفتور وتجاهل شديدين. لقد شعر هذا الفيلسوف بإحباط شديد وهزيمة نكراء سببهما رعونته وتسرُّعه في الكتابة. من هنا قرَّر أن يعيد كتابة هذا المشروع بحيث يصيغ موضوعات كلِّ قسم من أقسامه الثلاثة في كتاب منفصل. بدأ بالجزء الأول والخاص بالإدراك العقليِّ فأخرجه في كتاب مستقلٍّ وأطلق عليه اسم «بحث في حدود الفهم الإنسانيّْ An Enquiry Concerning Human Understanding»، وهو الكتاب الذي ترجمه إلى العربيَّة د. موسى وهبة تحت عنوان «مبحث في الفاهمة البشريَّة» ونشرته دار الفارابي في بيروت عام 2008.

مصدر المعرفة:
لا يمكن - وفقاً لديفيد هيوم- أن يكون مصدر المعرفة سوى الانطباعات الحسِّيَّة والأفكار. هذه الانطباعات هي ما ينتج من تلقِّي أحد أعضاء الحسِّ لإحدى خصائص الأشياء. أو بتعريفه «هي ما ندركه حين نسمع ونرى ونلمس ونحبُّ ونكره ونرغب ونريد».[4]  ولمَّا كان بإمكاننا أن نستعيد بالذاكرة هذه الإدراكات، لا يمكننا أن نتذكَّرها بالوضوح والتوهُّج الذي كانت عليه أثناء إدراكنا لها. هذه الإدراكات الأقلُّ حيويَّة وقوة والتي تبقى بعد زوال الأثر يسمِّيها «الأفكار». وعليه، فإنَّ هذه الأفكار الأقلُّ حيويَّة والانطباعات الأكثر حياة وقوَّة هما فقط مصدر المعرفة ولا مصدر لمعرفتنا سواهما. نعم، يستطيع عقلنا أن يتصوَّر أشياء لم تخطر في بالنا من قبل، ولكنَّها في الحقيقة لن تعدو تأليفاً وتركيباً، زيادة وإنقاصاً لما تمدُّنا به الانطباعات الحسِّيَّة والأفكار. هذه هي حدود قدرة الذِّهن الخلَّاقة، وليس أكثر. يمكنك أن تتخيَّل بالطبع جبلاً من ذهب، ولكن ليست هذه الفكرة سوى فكرة مركَّبة من جبل، وذهب، وكلاهما أمران رأيناهما من قبل. يمكنك أن تتخيَّل حصاناً بجناحين، الفكرة أيضاً ليست سوى تأليف من فكرتنا عن الطائر الذي رأيناه يطير، والحصان الذي رأيناه يصول. أضف إلى هذا أنَّ فاقد إحدى الحواسِّ لا يمكن أن تكون لديه الأفكار الخاصَّة بهذه الحاسَّة. هل يستطيع الضرير أن يعطيك أفكاراً عن الألوان؟ أو يعطيك الأصمُّ فكرة عن الصوت؟
من المهم الإشارة إلى أنَّ الأفكار لا توجد في أذهاننا منعزلة أو بشكل منفصل، ولكنها تتداعى في مخيلاتنا متى كانت تتشابه، أي متى استدعت فكرة ما يشبهها من أفكار عن طريق مبدأ تناسُب العنصر مع المجموع، أو متى كانت تحكمها علاقة الجيرة المكانيَّة أو الزمانيَّة، أي أنَّ فكرة ما تستدعي ما يتجاور معها من أفكار تنتمي إلى السياق الزمانيِّ أو المكانيِّ نفسه[5]، أو الأثر، أي متى كانت الصلة بينها وبين فكرة أخرى تمثِّل علاقة العلة والمعلول.
إنَّ هذا الإصرار من قبل هيوم على القول أنَّ معرفتنا تنحصر في الانطباعات الحسِّيَّة والأفكار المركَّبة منها، دفعت به إلى تجاوز كلِّ المذاهب التجريبيَّة الانكليزيَّة التي بدأها فرنسيس بيكون ثم جون لوك ثم جورج باركلي والصعود بالتجريبيَّة إلى قمَّتها. فهو لم يتابع جون لوك في رفضه للأفكار الفطريَّة التي يولد بها الانسان فحسب، بل تابع أيضاً باركلي في رفض نظريَّة جون لوك في الأفكار المجرَّدة. ولم يتابع جون لوك في رفض الجوهر المادِّيِّ فحسب، بل أنكر أيضاً الاعتراف بوجود جوهر روحيٍّ للإنسان. وأكثر من هذا- وهو ما سنفصِّل فيه القول الآن- هو رفضه لتصوُّر العلِّيَّة وإمكانيَّة البرهان على تصوُّر اطِّراد الحوادث في الطبيعة الَّلذين يقوم عليهما الاستقراء العلميّْ.

تبرير الاعتقاد (علام يتأسّس الاعتقاد؟):
إنَّ النقطة الأساسيَّة الجوهريَّة لتبرير الاعتقاد تبدأ من هنا، من هذه القسمة التي يحدثها هيوم بين ما سمَّاه “علاقات الأفكار” – أي قضايا المنطق والرياضيَّات، و”الوقائع”- أي القضايا التجريبيَّة. تنقسم موضوعات العقل البشريِّ- وفقاً له- إلى قسمين: علاقات الأفكار، والوقائع. تندرج علوم الجبر والهندسة والحساب ضمن النوع الأول، وقضاياها تكون يقينيَّة بإعمال الفكر وحده من دون الخضوع في شيء لما يوجد في العالم[6]. فالقضيَّة “مربَّع الوتر يساوي مجموع المربَّعين المُنشأين على الضلعين الآخرين”، هي قضية نعتقد في صدقها صدقاً يقينيَّاً لأنها تعبير عن العلاقة بين هذه الخطوط، فإذا قمنا بتعريف الجزء والكلِّ والمثلَّث والمربَّع والعدد والمساواة فإنَّ هذه القضيَّة تصدُق لأنها تَلزم لزوماً ضروريَّاً عن هذه التعريفات، بغضِّ النظر عن الوجود الواقعيِّ للمربَّع أو المثلَّث أو غيره[7]. أما الوقائع – وهي القسم الثاني – فجميع التعليلات حولها تقوم على علاقة السبب والأثر. هذه التعليلات هي الأخرى وقائع. فإذا ما سمعنا مثلاً في الظَّلام صوتاً واضح الَّلفظ وحديثاً معقولاً، فإنَّنا نستنتج وجود إنسان. لماذا؟ لأنَّ ما سمعناه هو من آثار فعل الإنسان... وهكذا. ولكن دعونا نتساءل: كيف نصل إلى معرفة السبب والأثر؟ يجيب هيوم بأنَّ الأسباب والمسبِّبات لا تكتشف بالعقل ولكن بالخبرة[8].
حريٌّ القول أنَّ العلِّيَّة، وفق هيوم، هي تصوُّر أساسيٌّ في حياة الانسان العادي. هذا الإنسان أنَّ بين النار والاحتراق أوالدفء علاقة علِّيَّة، وبين تناول الطعام والتغذِّي، أو بين سقوط الثلج والشعور بالبرودة، وما إلى ذلك. العلِّيَّة – إذاً- مبدأ واجب التسليم به، يترتَّب على الشكِّ فيه اضطرابُ سلوك الانسان. وهي أيضاً مبدأ أساسيٌّ في فلسفات أفلاطون وأرسطو والمدرسيِّين، إذ كانوا يتساءلون عن علَّة الوجود والحركة والتغيُّر[9]. أما ديكارت فلم يجعلها فكرة فطريَّة فينا فحسب، بل اشترط أيضاً أن يكون في العلَّة القدرة على إحداث المعلول[10]. من هنا، فإنَّ العلِّيَّة وفقاً للعقليِّين هي مبدأ فطريٌّ وضروريّْ.
لم يأت هيوم ليقوِّض اعتقاد الانسان العاديِّ في العلِّيَّة، ولكن رفض القول بأنَّه مبدأ قبليٌّ أو فكرة فطريَّة، كما رفض القدرة على البرهان عليه، لأنَّ سائر معارفنا مصدرُها هو الانطباعات الحسِّيَّة والأفكار. ولمَّا كان كلُّ أثر حدث مستقلٌّ عن سببه، فلا يمكن اكتشافه في السبب على النحو الذي ارتآه ديكارت. إن تحليل معنى النار لا يتضمَّن في ذاته عنصر الدفء، وتحليل معنى الخبز لا يتضمَّن معنى التغذِّي. كلُّ ما هنالك تعاقب متَّصل من الأشياء، وحادث يتبع حادثاً. هذا هو ما نلاحظه فحسب.
لنفترض أنَّ إنساناً يتمتَّع بأقوى ملكات عقليَّة وتأمُّليَّة حُمل فجأة إلى هذا العالم، لا شكَّ في أنَّه سيلاحظ على الفور هذا التعاقب المتَّصل من الأشياء، والحوادث التي يتبع بعضها البعض. ولكنَّه سيكون عاجزاً عن اكتشاف أيِّ شيء آخر. سيكون في البداية عاجزاً عن بلوغ فكرة السبب والأثر، بأيِّ تعليل؛ لأنَّ القدرات الخاصَّة التي بها تُؤدَّى جميع الأعمال الطبيعيَّة لا تظهر بالحواسِّ، وليس من المعقول أن يُستخلص، فقط لأنَّ حادثاً سبق حادثاً في حالة واحدة، أن الواحد سبب والآخر أثر. إذ قد يكون ترافقهما عارضاً. ولكن لنفترض أنَّ هذا الإنسان اكتسب خبرة أكبر وعاش في العالم ما يكفيه لملاحظة الترافق الثابت للأشياء. لن تكون نتيجة هذه الخبرة سوى استدلاله وجود شيء من ظهور آخر، ولكنه لن يكتسب من خبرته أيَّ فكرة أو معرفة عن القدرة الخفيَّة التي بها يُحدث شيء شيئاً آخر. ولكنه مع هذا سيجد أنَّه يتعيَّن عليه أن يخرج بالمبدأ الذي يبرِّر هذه الخلاصة أو هذا التعاقب. ليس هذا المبدأ سوى العادة أو التعوُّد. هذا المبدأ مبدأ من مبادئ الطبيعة البشريَّة مُعترف به ومعروف جيداً من آثاره. إن ما يعيننا على توقُّع الواحد عند ظهور الآخر هو حكم العادة وحسب. هذا الفرض وفقاً لهيوم هو الوحيد الذي يجعلنا نتوقع في المستقبل سلسلة من الحوادث المشابهة لتلك التي ظهرت في الماضي. فالتعوُّد - إذاً- هو المرشد الأكبر للحياة البشريَّة، وهو المبدأ الوحيد الذي يجعل الخبرة نافعة لنا[11].لتأكيد عدم وجود أيِّ ارتباط بين الحوادث سوى الخبرة والتعوُّد على هذا الاقتران، ينفي هيوم فكرة وجود أيِّ ارتباط ضروريِّ بين حوادث الطبيعة، ذلك أنه بالبحث عن هذه الفكرة في كلِّ المصادر التي يمكن أن تُستمدُّ هذه الفكرة منه، لن نكتشف سوى تتالي حادثتين من دون القدرة على فهم أيِّ قوَّة أو قدرة تجعل السبب يعمل، أو أيِّ اقتران بينه وبين أثره المفترض.

هل نجد في داخلنا فكرة عن الضرورة؟
يمكننا ملاحظة أن حركة البدن تتبع إرادة الذِّهن، لكننا نعجز عن مشاهدة الرابط الذي يوحِّد ما بين الحركة والإرادة، أو حتى عن تصوُّره أو مشاهدة القوة التي تسمح للذِّهن بإحداث هذا الأثر. وليست سلطة الإرادة على ملكاتها الخاصَّة وأفكارها أكثر قابليَّة للفهم في شيء، إلى حدِّ أنَّه لا يظهر في الطبيعة أيُّ مثال على الاقتران يمكن تصوُّره. ولمَّا كان لا يمكن أن يكون لدينا فكرة شيء لا يظهر أبداً لحواسِّنا الخارجيَّة أو لحسِّنا الباطنيِّ، فإنَّه ليس لدينا على الإطلاق أيُّ فكرة عن الاقتران أو القدرة. فهذه ألفاظ لا دلالة لها على الإطلاق في التعليلات الفلسفيَّة أو حتَّى في الحياة العاديَّة. تتولَّد فكرة الاقتران الضروريِّ بين الحوادث - إذاً- من عدد من الحالات المتشابهة يكون فيها ترافق ثابت بين هذه الأحداث، بحيث يميل الذِّهن بعد تكرار هذه الحالات، بفعل العادة عند ظهور حادث ما، إلى توقُّع الحادث الذي يصاحبه في العادة وإلى الاعتقاد بأنَّه سيوجد[12].
ليست العلِّيَّة- إذاً- تصوُّراً قبليَّاً، ولكن أساسها أساس تجريبيٌّ، هو إدراك تتابُع وتلازُم حادثتين بصورة متكرِّرة أدَّى إلى تكوُّن عادة عن هذا الارتباط. هذه العادة هي ما كوَّنت لدينا تصوُّر العلِّيَّة. هذه العلِّيَّة ليست قانوناً ولكنها اعتقاد تبريرُه هو تكرار الحدوث ونشوء تعوُّد على هذا التكرار أدَّى بنا إلى الاعتقاد فيه. وحتَّى لو كانت قانوناً، فلن يزيدها ذلك قوة، ولن يُعدَّ ذلك تبريراً لها، لأنَّ سائر القوانين تستند إلى مبدأ اطِّراد الحوادث في الطبيعة، وهو ما ينكره أيضاً هيوم، أو بمعنى أدقٍّ يُنكر إمكانيَّة تبريره:
في هذا السياق، يرى هيوم أنَّ كلَّ عمليَّات الأجسام، بل وقوانين الطبيعة، لا تُعرف إلَّا بالخبرة وحسب. ولكن إذا أردنا أن نذهب بتحليلاتنا إلى أبعد من هذا ونسأل: ما هو أساس كلِّ الخلاصات المستمدَّة من الخبرة؟ يجيب: أساسها هو الافتراض أنَّ المستقبل سيكون مطابقاً للماضي. ومحاولة التدليل على هذا الافتراض الأخير لا تعني سوى الدوران في حلقة مُفرَغة.
من المعروف أنَّ البحث عن قوانين الطبيعة يفترض أنَّ حوادثها تسير بشكل مطَّرد وإلَّا ما كانت هناك قوانين تحكم ظواهرها يمكننا الوصول إليها أو اكتشافها. هذا المبدأ المفترض والمسلَّم به يُطلق عليه مبدأ “اطِّراد الحوادث في الطبيعة”، وهو أحد مبدأي الاستقراء إلى جانب مبدأ العلِّيَّة. هنا يرى هيوم أنَّ أيَّ محاولة للبرهان على صدق هذا المبدأ لن تتمَّ من دون الوقوع في الدور، ذلك أنَّه لا يوجد ما يبرِّر هذا المبدأ سوى افتراض أنَّ المستقبل سيكون مطابقاً الماضي، وهو ما يعني أنَّ المبدأ يتمُّ تبريرُه بالمبدأ نفسه، وهو ما يعني أيضاً أنَّ الخبرة وحدها- أي توقُّع المستقبل على نحو ما- هي ما تضمن صدق القوانين.

موقف هيوم من حرِّيَّة الإرادة (إنكار حرِّيَّة الإرادة):
إنَّ الخلاف بين الناس حول الموقف من الحرِّية والضرورة – وفقاً لهيوم- هو خلاف قديم، سببُه عدم وجود تعريفات دقيقة للألفاظ التي يستخدمونها، وأنَّه لو اهتم الجميع بوضع هذه التعريفات لظهر لهم أنَّهم على اتِّفاق بشأن هذا الأمر.
هل الاطِّراد الذي رأيناه قائماً في حوادث الطبيعة قائم أيضاً في الأفعال البشريَّة؟ يجيب هيوم: إنَّ ترافق الدوافع والأفعال الإراديَّة لا يختلف عن ترافق السبب والأثر المصادف في كلِّ أجزاء الطبيعة. كما أنَّه بمثل اطِّراده[13]. وهو يدلِّل على ذلك كالتالي: نقرُّ جميعاً بأنَّ هناك كثيراً من الاطِّراد في الأفعال البشريَّة في جميع الأمم والعصور، وأنَّ الطبيعة البشريَّة واحدة في أفعالها ومبادئها. والدوافع عينها تنتج الأفعال عينها. فالطمع وحبُّ الذات والجشع والكبر والصداقة والكرم موجودة منذ بدء العالم، ولا تزال مصدر جميع الأفعال التي يقوم بها البشر. فالتاريخ لا يخبرنا بالجديد، وطباع الفرنسيِّين والإنكليز هي ذاتها طباع اليونانيَّين قديماً. من هنا كان بإمكان الخبرة المكتَسبة والمُعاشة طويلاً أن تكشف لنا عن صدق أو كذب من يروي لنا تصرُّفات معيَّنة للبشر.
ولكن هذا لا يعني أنَّ الاطِّراد في سلوكيَّات البشر يعني أنَّهم  كلهم  سيسلكون التصرُّف نفسه في الموقف نفسه، فعدم ثبات وعدم انتظام طباع الناس هو الطبع الثابت للطبيعة البشريَّة. فأقلُّ القرارات البشريَّة انتظاماً وتوقُّعاً سببه أنَّنا لا نعرف جميع الظروف الخاصَّة بالطِّباع.
ثم أنَّ جميع الناس في كلِّ المجتمعات في حاجة إلى الناس. فأبسطهم يعرف أنَّ القضاء سيكفل له حماية حقوقه، ويتوقَّع عندما يحمل بضاعته إلى السوق أن يجد مشترين.  وبقدر المال الذي لديه يتوقَّع أن يحمل الناس على أن تمدَّه بحاجاته التي يريدها. وبقدر ما يوسِّع الناس من تعاملاتهم يدرجون في مخطَّط حياتهم تنوُّعاً أكبر من الأفعال الإراديَّة التي يتوقَّعون أن تُسهم في مخطَّطهم الخاص. وهم في ذلك يستمدُّون مقاييسهم من الخبرة السابقة على نحو ما يفعلون في تعليلاتهم حول الأشياء الخارجيَّة. ويعتقدون اعتقاداً راسخاً أنَّ البشر شأنهم شأن العناصر التي ستستمر في عمليَّاته على نحو ما وجدوها عليه. فالصناعيُّ يعتمد على عمل عمَّاله، تماماً مثلما يعتمد على الأدوات التي في يده، ويندهش فيما لو خابت توقُّعاته. على هذا النحو يتَّفق الناس جميعاً في ما يتعلَّق بالضرورة ولكنهم كانوا مختلفين في تعريف الألفاظ المستخدَمة[14].

الأخلاق في فلسفة ديفيد هيوم:
حتى نفهم فلسفة الأخلاق عند ديفيد هيوم، علينا أن نعود إلى مسرح أحداث الفكرالأخلاقيِّ في إنكلترا الذي عاصره. كانت تسود هذا المسرح الاتِّجاهات الآتية: نظريَّات الاهتمام بالذات self-interest theories، يمثِّلها خير تمثيل توماس هوبز(1588 – 1679)، وبرنارد ماندفيل (Mandeville (1670 – 1733، ثم العقلانيَّة الأخلاقيَّة ويمثِّلها (صمويل كلارك Samuel Clarke 1675 – 1729)، وجون لوك، (وويليم ولستون Wollaston 1660 – 1724). ولقد دخل هيوم في حوار فلسفيٍّ مع هذين الاتجاهين وهو الحوار الذي بدأ في منتصف القرن السابع عشر وظلَّ حتى نهاية القرن الثامن عشر، انتهى منه بأن أصبح أبرز دعاة النزعة العاطفيَّة sentimentalism مُتابعاً في ذلك (لفرانسيز هاتشسون Hutcheson 1694 – 1746) وإن اختلفا في بعض التفاصيل كما سنرى.
والواقع أنَّه خصَّص كتابه الأول “رسالة في الطبيعة البشريَّة” للردِّ على العقليِّين مُتجاهلاً نظريَّة هوبز ومُعتبراً أنَّها انتهت، بينما عاد في كتابه “بحث في مبادئ الأخلاق” ليخصِّصه للردِّ على نظريَّات الأنانيَّة مُعتبراً إياها هدفه الأول[15].
كان هيوم يعتبر صمويل كلارك خصمه الأساسيَّ من بين العقليِّين. ملخّص رأي الأخير أنَّ العقل هو ما يمكن أن يفسِّر كلَّ جوانب الأخلاق. به يمكننا أن نكتشف بصورة قبليَّة علاقات الملاءمة وعدم الملاءمة الأخلاقيَّة. فالامتنان هو الاستجابة الملائمة للطيبة، بينما الجحود هو الاستجابة غير الملائمة. والحدس العقليُّ الذي يرى أنَّ الفعل ملائم هو ما يحرِّكنا وما يلزمنا. فالفعل الأخلاقيُّ ليس سوى فعلٍ عقلانيّْ[16].

العقل ليس مصدر التمييز بين الفضيلة والرذيلة:
يخصِّص هيوم كتابه الثالث من “رسالة في الطبيعة البشريَّة” لعرض نظريَّته في الأخلاق. يبدأ الجزء الأول بالحديث عن المعنى العام للفضيلة والرذيلة، ويطرح التساؤل التالي: إذا كان مصدر المعرفة هو الانطباعات الحسِّيَّة والأفكار، فهل نميِّز بين الرذيلة والفضيلة اعتماداً عليهما؟ تعلِّمنا الخبرة أنَّ التصوُّرات الأخلاقيَّة morals تؤثِّر في عواطفنا وأفعالنا، فواجباتنا الأخلاقيَّة تحكم أفعالنا، والتزاماتنا تفرض علينا التزاماً تجاه الآخرين. فبما أنَّ للأخلاق تأثيراً على عواطفنا وأفعالنا، فلا يمكن أن تكون هذه التصوُّرات مشتقَّة من العقل. إنها تثير المشاعر وتؤدِّي إلى فعل ما أو تمنعنا عنه. من هنا لم تكن قواعدها نتاج العقل[17]. لماذا؟ لأنَّ عمل العقل أن يكشف عن الصدق والكذب، والصدق والكذب هما الاتفاق أو عدم الاتفاق مع العلاقات الواقعيَّة بين الأفكار، أو مع الوقائع. ما لا يكون موضوعاً لهذا الاتفاق أو عدم الاتفاق، لا يمكن وصفه بصدق أو كذب، ولا يمكن أن يكون موضوعاً للعقل. ولا ينطبق هذا الاتفاق أو عدمه على الأفعال ولا العواطف، وبالتالي لا يمكن وصفها بالصدق أو الكذب أو اتِّفاقها أو عدم اتِّفاقها مع العقل. يمكن وصف الأفعال بالاستحسان أو الاستهجان، ولكن لا يمكن وصفها بالاتِّفاق أو عدمه مع العقل. وبالتالي لا يمكن أن تكون موضوعاً للعقل. 

الفضيلة والرذيلة لا تُشتقان من أيِّ حسٍّ خلقيّْ:
لمَّا لم يكن العقل هو ما يميِّز بين الفضيلة والرذيلة، فإنَّنا نميِّز بينهما متى أحدثا عاطفة ما sentiment تمكِّننا من التمييز بينهما. قراراتنا حول الصحة أو المخالفة الأخلاقيَّة هي مدرَكات، هذه المدرَكات انطباعات نشعر بها ولا نحكم عليها، فالشعور أو الإحساس هو من الخفَّة بحيث نعتقد أنَّه فكرة أو نخلط بينه وبين الفكرة. إذاً، هي انطباعات، ولكن ما هي طبيعتها؟ ومتى تعمل؟ الإجابة أنَّ الانطباع الذي يأتينا من الرذيلة يُنتج شعوراً بعدم الراحة، والانطباع الذي يأتينا من الفضيلة هو انطباع مرحب به. إن صحبة من نحبُّ ونصادق تُنتج رضاً، كما أنَّ أشدَّ العقوبات هي أن نجبر على أن نحيا مع من نكره. قد تمنحنا قراءة إحدى الروايات لحظات سعادة، ولكن انطباع السعادة هذا جاءنا من الفضيلة، مثلما يأتي انطباع الألم من الرذيلة.
الانطباعات- إذاً- التي من خلالها نعرف الخير من الشر- هي مشاعر السعادة والألم. لماذا نقول عن فعل أو عاطفة sentiment أنَّه فاضل أو شرير؟ لأنَّ مظهره سبَّب لنا سعادة أو ألماً من نوع ما. لا تبرير يمكننا تقديمه لهذا الألم أو هذه السعادة التي أحسسنا بها سوى بشرح الرذيلة أو الفضيلة. فلا معنى للفضيلة سوى الإحساس بالرضا. لسنا في حاجة للبحث عن علَّة الرضا. لا نقوم بأيِّ استدلال بأنَّ فعلاً ما فاضل لأنه أدخل علينا السرور، ولكن يكمن في إحساسنا أنَّ ما يسرُّنا فعلاً هو الشعور بأنَّه فعل فاضل. الأمر نفسه ينطبق على كلِّ أحكامنا الخاصَّة بأشكال الجمال والتذوُّق المختلفة. المشاعر أو العواطف sentiments– إذاً- هي ما تنشأ منها تصوُّراتنا الأخلاقيَّة.
غنيٌّ عن القول أنَّ هيوم لم يكن أوَّل من يذهب إلى أنَّ تصوُّراتنا الأخلاقيَّة تنشأ من المشاعر أو العواطف، فلقد سبقه إلى ذلك هاتشسون. لكنَّ الأخير رأى أنَّ مصدر هذه المشاعر أو العواطف هو حسٌّ أخلاقيٌّ خُلقنا به يسمِّيه  “خاصِّيَّة أساسيَّة”. نعم يتَّفق كلٌّ منهما على أنَّ أفكارنا أو تصوُّراتنا الأخلاقيَّة تنبع من العواطف، ولكنَّ هيوم يرفض ما ذهب إليه هاتشسون من أنَّ لدينا حسَّاً أخلاقيَّاً خلقه الله فينا - بالإضافة إلى حواسِّنا الخارجيَّة- هو ما يجعلنا نستجيب بمشاعر القبول[18].
لا يمكن لفعل نحكم عليه بأنَّه فعل فاضل ما لم يكن هناك دافع فاضل أدَّى بنا إلى إحداث الفعل. قيمة الأفعال الفاضلة تُشتقُّ من دوافع فاضلة، وتُعدُّ هذه الأفعال علامات على هذه الدوافع. فالدافع - أو السبب- الفاضل هو ما يجعل الفعل فعلاً فاضلاً، بصورة مستقلَّة عن المعنى الأخلاقيِّ الذي له. لا يمكن لفعل أخلاقيِّ أن يحدث من دون دافع أو عاطفة حرَّكته وأنتجته.
لنأخذ العدل مثالاً: لماذا أُعيد إلى شخص ما مالاً اقترضتُه منه؟ حبَّاً في العدالة والأمانة؟ ولكن من أين جاء فهمي لهذه العدالة والأمانة؟ لا تكمن في الفعل بالطبع، ولكن في الدافع الذي أنتج الفعل.
لا يمكننا التحجُّج بالقول أنَّ الدافع الفاضل مطلب سابق للفعل الفاضل، وأنَّ الدافع للفعل هي الأمانة. يجب على الدافع أن يسبق مراعاة الفضيلة، فلا يمكن له ولمراعاة الفضيلة أن يكونا أمراً واحداً.
يجب إذاً أن نجد دافعاً لفعل الأمانة والعدل مستقلاً عن مراعاتنا للأمانة. لو قلنا إن الدافع هو اهتمامنا بأمورنا الشخصية فهي الدافع العامُّ لكلِّ أفعال الأمانة، فإنَّ هذا يعني أنَّه متى لم يعد هناك اهتمام شخصيٌّ ستختفي الأمانة. إنَّ حبَّ الذات يؤدِّي إلى عدم العدل والعنف. ولو قلنا إنَّ المصلحة العامَّة هي الدافع للعدل، سنرى أنَّ الارتباط بينهما  ليس ارتباطاً طبيعيَّاً وضعته الطبيعة فينا ولكن سيتم ربطهما بالمواضعة والتعليم أي بعد أن يتكوَّن المجتمع ويصل إلى درجة من الحضارة يعرف قيمة هذا الارتباط.
لم تقسُ الطبيعة على كائن مثل قسوتها على الإنسان، يتَّضح هذا بشكل جليٍّ في كمِّ احتياجاته الضروريَّة التي عليه أن يأخذها منها، من مأكل وملبس ومسكن يقيه قسوة الطقس.. إلخ. من هنا، فقد تعلَّم الإنسان مع الوقت أنَّ تكوين المجتمع سيساعده على توفير احتياجاته، بل وسينمِّي قدراته. ولكن الناس في مرحلتهم البدائيَّة لم يتمكَّنوا من التوصُّل إلى معرفة قيمة التجمُّع وتكوين مجتمع في توفير احتياجاتهم. لقد عرفوا بداية الجنس، ثم الاهتمام بالنسل حبَّاً ورعاية، وخبر الأطفال أيضاً أهمِّية هذا التجمُّع. ولكن الناس مع إدراكهم لأهمِّية التجمُّع والمجتمع، برزت لديهم عاطفة حبِّ الذات والاهتمام بمصالحهم الشخصيَّة. من المستحيل أن تكون فضيلة العدالة قد نشأت بين الناس في مرحلتهم الأولى، أو أدركوا أنَّ الظلم وحبَّ الذات رذيلة في هذه المرحلة. ولكن نشأ مفهوم العدالة عندما أدرك الناس أنَّ المميِّزات غير المحدودة من الوجود في مجتمع والمشكلات التي تسبِّبها كثرة ما يمكن الحصول عليه من المجتمع في حاجة إلى تنظيم يَّتفق عليه أعضاء المجتمع يحقِّق لكلِّ أعضائه عدلاً في طريقة الحصول على هذه المميِّزات.على هذا النحو، يعرف كلُّ عضو من أعضاء المجتمع ما الذي يمكنه الحصول عليه بأمان، وما الذي يجب عليه أن يمتنع عن تناوله لأنه من ممتلكات أو خصوصيَّات غيره.
هنا فحسب، بعد أن يعرف كلُّ عضو ما يمكن أخذه وما يجب أن يمتنع عنه، تنشأ أفكار العدل والظلم والحقِّ والملكيَّة والالتزام. مفهوم العدالة سابق على كلِّ المفاهيم الأخرى. ولا يمكن استخدام مفاهيم الملكيَّة أو الحقِّ من دون فهم معنى العدالة.
نصل إلى مفهوم العدالة – إذاً- بالملاحظة والخبرة. فالعدالة تنشأ من ملاحظتنا لبعض أهل الكرم وبعض محبِّي الذات. هذا المفهوم لم يأتِ من العقل أو من علاقات بين أفكار أبديَّة ومُلزِمة لكلِّ البشر من حيث أنهم بشر، لقد أسَّس البشر قواعد العدالة تحقيقاً لمصالحهم والمصلحة العامَّة. فالعدالة مفهوم تأسَّس على انطباعاتنا وعواطفنا وليس على أيِّ علاقة بين أفكار. هذه الانطباعات من خلق الانسان وليست انطباعات طبيعية من عقل الانسان[19].

نظريَّة التعاطف:
ترتدُّ الخصائص الأخلاقيَّة -إذاً- لخاصِّيتَيْ الفضيلة والرذيلة، بمعنى أنَّ أيِّ خاصِّية عقليَّة تمنحنا رضا أو حب فهي خاصِّية فاضلة، وكلُّ خاصِّية تمنحنا قلقاً أو كراهية فهي رذيلة. فالأفعال الخيِّرة أو الرذيلة علامة على خاصِّية عقليّة فاضلة أو رذيلة، الأفعال تعكس خصائص الشخصيَّة، إن فاضلة أو رذيلة.
ولكن ما منشأ هذه العواطف أو المشاعر؟ يسير هيوم بهذه العواطف أو المشاعر إلى أن يصل إلى ما يسمِّيه «التعاطف sympathy”.  وهو ما يفسِّر منشأ العواطف أو المشاعر، ليس التعاطف شعوراً ولكنه الآليَّة التي تفسِّر لنا كيف نشعر بما يشعر به الآخرون. ويحدث التعاطف في أربع خطوات: نعي أننا جميعاً- أبناء البشر- نشترك في أن لدينا مشاعر وعمليات عقليَّة (تشابه). فمتى لاحظت تأثير عاطفة أو شعور ما في صوت وحركات وجه شخص ما(ملاحظة شعور)، فإنَّ ذهني يقفز سريعاً إلى سبب أو أسباب هذا الصوت وحركات الوجه وتتكوَّن لديَّ فكرة عمَّا يشعر به هذا الشخص. وبالعكس، متى أدركت أسباب شعور ما، يقفز ذهني إلى تأثيرات هذا الشعور وتتكوَّن لديَّ فكرة عن هذا الشعور. فالعاطفة التي يشعر بها الآخرون لا تأتي مباشرة إلى ذهني إلَّا متى ظهر أمامي أسبابها وتأثيراتها(العلاقة العلية). ومن ثم يحدث تعاطفنا مع الآخر. هذا التعاطف يختلف شدة وقوة وفقاً لقرب أو بعد صاحب العاطفة مني- صديقاً أو من عائلتي، أو جاراً لي- (علاقة الجوار).
إنَّ الميزة التي يتَّصف بها تفسير هيوم للمشاعر- بردِّها إلى التعاطف- عن تفسير هاتشسون بأنَّ لدينا حسَّاً أخلاقيَّاً خلقه الله فينا هو أنَّ هذا التفسير مكِّنه من تقديم نظريَّة موحَّدة في العقل. فالمشاعر والعواطف الأخلاقيَّة يفسِّرها التعاطف والذي بدوره يفسره استناداً إلى مبادئ الترابط associative (الخطوات الأربع السالفة الذكر) التي فسَّر بها الاعتقادات العلِّيَّة. فلولا التعاطف ومبادئ الترابط التي تفسِّره، لكنَّا مخلوقات غير ما نحن عليه، أي مخلوقات لا أفكار علِّيَّة أو خلقيَّة لديها[20].

موقف هيوم من نظريَّات الاهتمام بالذات:
قلنا إن هيوم بعدما حدَّد موقفه من العقليِّين في “رسالة في الطبيعة البشريَّة” 1740 في إطار وضع تصوُّره الأخلاقيِّ، عاد بعدها يحدِّد موقفه من نظريَّات الاهتمام بالذات وخصوصاً توماس هوبز، وذلك في كتابه “بحث في مبادئ الأخلاق” الصادر لأول مرة في 1751. 
يناقش هيوم في الجزء الثاني من الكتاب سبب قبولنا الصفات الأخلاقيَّة “الاحسان” benevolence، والانسانيَّة والروح العامَّة public spiritedness. يرى أننا نقبلها لأنها تفيد الآخرين والمجتمع، وليس لأنها تحقِّق سعادة خاصة لنا. الانسان “المحسن” يضفي حباً وسعادة على كل من حوله، يشعر والداه بمدى رعايته الاستثنائية لهما، وأبناءه بميزة كونه أباً لهم، وهو يطعم الجائع ويكسو العريان ويمنح الجاهل علماً. فهو كالشمس تضفي دفئاً على كلِّ ما تسطع عليه[21]. في الجزء الثالث يؤكِّد على ما كان قد ذهب إليه في “الرسالة” أننا نقبل العدالة لفائدتها للمجتمع. كذلك الأمر بالنسبة إلى الولاء السياسيِّ، فهي صفة أخلاقيَّة مقبولة لأنها مفيدة للمجتمع، إذ تساعد على حفظ النظام والسلام بين أفراد المجتمع[22].
يعترف هيوم بأنَّ حب الذات مبدأ موجود في الطبيعة البشريَّة وأنَّ المصلحة الشخصيَّة ترتبط بمصلحة المجتمع، لذا كان من الممكن أن يعذر هؤلاء الفلاسفة الذين تخيَّلوا أنّ اهتمامنا بمصلحة المجتمع مردُّه أنه يحقِّق سعادتنا الخاصة، لولا أن هناك أمثلة قويَّة تبرهن على العكس، تضطرُّنا لرفض إرجاع العواطف الأخلاقيَّة لحبِّ الذات. ألسنا نحزن لموت شخص ما حتى لو لم يؤثِّر موته علينا؟ ألَّا يضحِّي الآباء كثيراً بمصلحتهم من أجل مصلحة أبنائهم؟ ألا تهتمُّ الحيوانات وتعتني بالحيوانات المشتركة معها في النوع نفسه؟ هذه الأمثلة وغيرها كثير على حدِّ قوله دليل على أن تعاطفنا مبدأ موجود في الطبيعة البشرية[23]، وأننا لا يمكن أن نتجاهل مصلحة المجتمع.
يرى هيوم أنَّ صوت الطبيعة والخبرة هما ما يبرهنان على خطأ رأي هوبز. إذا جعلنا مبرِّر قبولنا أو عدم قبولنا للصفات الأخلاقيَّة التي يتمتَّع بها الآخرون أنَّها ذات نفع أو ضرر لنا فلن نتمكَّن من الحكم على الصفات الأخلاقيَّة لأولئك الذين يحيون بعيداً عنَّا لأنَّهم لن يؤثِّروا فينا سلباً أو إيجاباً. قبولنا للصفات الأخلاقيَّة التي يتحلَّى بها الآخرون سببها ليس فائدتها لنا ولكن لأننا نتعاطف مع المنافع التي يقدِّمونها لغيرهم وللمجتمع. الأمر نفسه يتعلَّق بالصفات مثل “ النشاط”، وهي الصفة التي تجعله مفيداً لنفسه، و”البهجة” أي يكون شخصية مبهجة وليس كئيباً، وهو ما يجعله مقبولاً لنفسه، ثم “الأدب” وهو ما يجعله مقبولاً للآخرين. يرى هيوم أننا نقبل سائر هذه الصفات للأمر نفسه وهو أننا نتعاطف مع المنافع التي تحقِّقها للآخرين.

الخاتمة:
ما زالت فلسفة هيوم مَعين دراسة كثير من المعاصرين إمَّا للاهتداء بها أو تطويرها أو تعديلها، وإن من يُعدُّ نفسه للثورة على هذه الفلسفة  في كلِّها وتفاصيلها يشعر أنَّه أمام عدوٍّ ضخم ويحتاج إلى النصر عليه إلى سلاح نادر[24].
إلَّا أنَّ هذا لم يمنعه من الوقوع في بعض التناقضات. فعلى سبيل المثال نرى أنَّه لم يتمكَّن من البرهان على عدم وجود حرِّية الإرادة لدى الإنسان، ذلك أنه إذا كان يجد تماثُلاً بين الترابط بين دوافع وأفعال الناس والترابط الذي يفسر اطِّراد الطبيعة، فإن هذا لا يكفي لأن يستدلَّ منه على إنكار حرِّية الإرادة، لأنه في قوله بالاطِّراد في الطبيعة، لم ينكر ولم يقبل وجود قوى مسؤولة عن هذا الارتباط، ولكنه رفض القول بمعرفتنا لها فحسب. وإنَّ ارتباط الدوافع بالأفعال الإراديَّة بالمثل لا يعني إنكاراً أو إثباتاً لوجود ارتباط، وبالتالي فهو على هذا النحو لم يبرهن على عدم وجود الإرادة.
أمر آخر: هل أسَّس هوبز بالفعل أخلاقه على حب الذات أو المصلحة الشخصيَّة؟ هذه النقطة في حاجة إلى توضيح.
بداية، من الصعب أن نفصل فلسفة هوبز الأخلاقيَّة عن فلسفته السياسيَّة. يتحدَّد واجبنا - وفقاً لهوبز- بالحالة التي نكون عليها. متى كنا في حالة الطبيعة، فمن حقِّنا أن نحمي أنفسنا بأيِّ وسيلة نراها. ومتى كانت هناك سلطة سياسيَّة، فمن واجبنا طاعتها. ولكن من الممكن مع هذا أن نفصل الأخلاق عن السياسة، إذ تختصُّ الأخلاق عند هوبز بطبيعة الإنسان، وتختصُّ السياسة بما يحدث متى تفاعل الناس مع بعضهم البعض.
ولكن ما هي طبيعة الإنسان هذه والتي تختصُّ بها الأخلاق؟ يرى هوبز أنَّ الطبيعة البشريَّة أنَّ الانسان محتاج وضعيف، وغالباً ما تكون أحكامه العقليَّة خاطئة، فقدراته في الأحاجيج بقدر ضعفه في المقدرة على المعرفة. أفعاله  تغلب عليها الأنانيَّة، أو ناتجة من جهل مردُّه إلى تبريرات عقليَّة خاطئة أو فهم دينيِّ فاسد، أو اختيارات عاطفيَّة نتيجة عبارات حماسيَّة[25].
هذا الإنسان ليس أمامه سوى أن يعيش ما سمَّاه هوبز «الحالة الطبيعيَّة للبشريَّة»، أو أن يحيا تحت سلطة سياسيَّة لا يحاسبها أبناء المجتمع لضعفهم الذي أسلفنا شرحه. الحالة الأولى وفقاً لهوبز حالة لا يتمنَّاها أحد. لماذا؟ لأنَّ الطبيعة أعطت الإنسان ليس الحقَّ في أن يفعل كل ما يستطيع لحفظ نفسه فحسب، ولكن أعطته أيضاً الحقَّ أن يحكم على ما يحفظ له حياته، أي يختار الوسيلة والفعل الذي يرتأي أنَّه يحفظ له حقه. وبالتالي فقد أحكم في ظلِّ ضعف قدراتي على الحكم الصواب أن ما يحفظ حياتي هو قتلك، وقد تجد بالمثل في ظلِّ ضعف قدراتك على الحكم أن ما يحفظ حياتك هو قتلي، لا أحد يملك معيار الصواب والخطأ، بل لا مكان في هذه الحالة التي هي حرب الجميع ضدَّ الجميع لما هو صواب وخطأ، عدل أو ظلم. للكلِّ الحقُّ في الحكم على الكيفيَّة التي يحمي بها حياته. هذه الحالة الطبيعية «يجب» تجنُّبها.
ولكن السؤال هنا، ما الذي عناه هوبز بـ (يجب)؟ هذه الـ «يجب» قد تعني أحد معنَيين: الأول «قاعدة عامَّة» مفادها أن نتجنَّب حالة الطبيعة هذه إذا أردنا أن نتجنَّب الموت العنيف. ولكن هذه النصيحة لن تنطبق علينا إلَّا إذا كان هناك اتِّفاق بيننا أن تجنُّب الموت العنيف هو أقصى ما يمكن أن نخافه ولهذا يجب تجنُّبه، وإلَّا إذا اتفقنا على أن البديل هو سلطة لا نحاسبها ولكن نخضع لها تقف بيننا وبين هذه الحالة من الطبيعة.
وقد يكون المعنى الثاني الذي أراده هوبز أنَّ علينا إلتزاماً أخلاقيَّاً بألَّا نجعل هذا الموقف ينشأ أو أن ننهيه متى وجد.  ولكن السؤال الذي ينشأ من هذا التفسير الثاني هو: لماذا هذه الالتزامات؟ وما الذي جعلها التزامات إجباريَّة أو إلزاميَّة؟ ما جعلها إجباريَّة وفقاً لهوبز هو أنها صادرة عما أسماه القانون الطبيعي: القوانين الطبيعية قوانين يكتشفها العقل وتوجه سلوكنا. هذه القوانين ليست قواعد أخلاقيَّة دينيَّة[26]. يعدِّد هوبز تسعة عشر قانوناً، يهمنا منها القانون الأول الذي نصُّه: ينبغي على كلِّ إنسان أن يسعى جاهداً لتحقيق السلام بمقدار ما يأمل في بلوغه، وعندما لا يتمكَّن من بلوغه فمن حقِّه أن يستخدم كل ما تقدِّمه له الحرب من مزايا»[27]
ما يحاول هوبز بيانه هنا هو تفسير الانتقال من حالة الطبيعة هذه إلى المجتمع المدنيِّ ولكنَّه، وفقاً لبعض التفسيرات، لم يتمكَّن، وجاء عرضه غير واضح وأدَّى إلى صعوبات. على سبيل المثال: إذا كانت حالة الطبيعة سيئة على النحو الذي عرضه هوبز، فكيف يمكن لأعضاء هذا المجتمع الذي صوَّرهم في هذه الحالة البدائيَّة أن تجلس وتتَّفق على هذا الشكل الحضاريِّ للخضوع لسلطة سياسيَّة، أو أن تنفِّذ هذا الشكل من السلطة السياسيَّة؟وهل كان من الممكن لهذه السلطة السياسيَّة كما تصوَّرها هوبز أن تعمل متى كان دافع الناس هو فقط حبَّ الذات؟ وهو ما كان واضحاً أنه على وعي به.
لقد خلص هوبز إلى أنَّ السلام هو المقصد والمُراد، كما خلص إلى أنَّ النظام المدنيَّ civil order هو في مصلحتنا الشخصيَّة كمتحضِّرين، وهو في الوقت نفسه قيمة أخلاقيَّة. متى أدركنا هذا الجانب من المصلحة الشخصيَّة لكلِّ شخص، سندرك القيمة الأخلاقيَّة لدعم السلطة التي نخضع لها. هذه القيمة تتجاوز أيَّ تهديد لمصلحتنا الشخصيَّة باستثناء الموت[28]. على هذا النحو يمكننا القول أنَّ تفسير أخلاق هوبز بردِّها تماماً إلى حبِّ الذات لا يخلو من تبسيط مخلّْ.
فإذا ما وصلنا إلى الفرض الأساسيِّ الذي بنينا عليه ورقتنا هذه، فعلى الرغم من أنَّه يصدق القول أن ديفيد هيوم كان خير معبِّر عن التوتُّر الذي أصاب الفكر التنويريِّ: التوتُّر الناجم عن الفخر بقدرات وملكات الإنسان التي حقَّق بها الانجازات العلميَّة التي حققها. هذا من ناحية، والاحباط الذي أظهرته النتائج الفلسفيَّة والعلميَّة بأنَّ الإنسان ليس سوى كيان طبيعيِّ كغيره من الكيانات، ولا يوجد ما يبرِّر القول أنه يقع على قمة الكون من ناحية أخرى. إلَّا أن هيوم عبر عن تناقض واضح حين هدف إلى بناء علم للانسان يكون على رأس العلوم الأخرى من حيث أنها نتاج للإنسان وتعبير عن قدراته وملكاته العقليَّة، ومن الطبيعيِّ أن يأتي هذا العلم  ليضع الإنسان في المكانة العليا التي يستحقُّها، ثم انتهى بالشكِّ في العقل كمصدر للمعرفة، وردِّ الاعتقاد إلى قوة العادة وإنكار حرِّية الإرادة إلى صورة للإنسان لا تجعل منه الكائن الذي تمنَّاه – على قمَّة نظام العالم- ولكنه لا يختلف عن أيِّ كيان طبيعيٍّ آخر، وبالتالي لا يوجد ما يبرِّر من جعل العلم الذي يدرس الإنسان رأس العلوم الأخرى.

المراجع:
أولاً: المراجع العربيَّة:
- ديفيد هيوم، مبحث في الفاهمة البشريَّة»، ترجمة: د. موسى وهبة، دار الفارابي، الطبعة الأولى، 2008.
- زهير الخويلدي، نقد فكرة السببيَّة عند ديفيد هيوم. مجلَّة إتِّحاد كتَّاب الانترنت المغاربة.
- محمد مهران «تطوُّر الفكر الأخلاقيِّ في الفلسفة الغربيَّة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع. 1998.
- محمود فهمي زيدان، الاستقراء والمنهج العلميِّ، دار الجامعات المصريَّة، 1977.
ثانياً: المراجع الأجنبيَّة:
-Bristow, W. “Enlightenment”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.).
-Hume, D.    A Treatise of Human Nature. The Project Gutenberg Ebook.   
-Hume, D.     An Inquiry Concerning the  Principles of Morals, A 1912 Reprint of the Edition of 1777.
-Morris, William Edward and Brown, Charlotte R., “David Hume”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2019 Edition), Edward N. Zalta (ed.).
-Skirry, J. Rene Descartes, in Internet Encyclopedia of Philosophy.
-Williams, G. Thomas Hobbes: Moral and Political Philosophy. Internet Encyclopedia of Philosophy. in.

-------------------------------------
[1]-Bristow, W. “Enlightenment”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.),
[2]-ibid.
[3]-ibid.
[4]- ديفيد هيوم، مبحث في الفاهمة البشريَّة”، ترجمة: د. موسى وهبة، دار الفارابي، الطبعة الأولى، 2008، ص 38.
[5]- زهير الخويلدي، نقد فكرة السببية عند دافيد هيوم. مجلة إتحاد كتَّاب الإنترنت المغاربة.  
[6]-المرجع السابق، ص 49.
[7]-محمود فهمي زيدان، الاستقراء والمنهج العلميُّ، دار الجامعات المصريَّة، 1977، ص 111.
[8]- ديفيد هيوم، مرجع سابق، ص 52.
[9]- محمود فهمي زيدان، مرجع سابق، ص 104.
[10]-Skirry, J. Rene Descartes, in Internet Encyclopedia of Philosophy.
[11]-هيوم، مرجع سابق، ص 32  إلى 73.
[12]-المرجع السابق، ص ص 91 - 109.
[13]- المرجع السابق، ص 125.
[14]-المرجع السابق، ص ص 115 - 126
[15]- Morris, William Edward and Brown, Charlotte R., “David Hume”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2019 Edition), Edward N. Zalta (ed.),  URL = )https://plato.stanford.edu/archives/sum2019/entries/hume.
[16]-ibid.
[17]-Hume, D.    A Treatise of Human Nature. The Project Gutenberg Ebook.   
[18]-Morris, William Edward and Brown, Charlotte R., “David Hume”, op.cit.
[19]-Hume, D.    A Treatise of Human Nature, op.cit.
[20]-Morris, William Edward and Brown, Charlotte R., “David Hume”, op.cit
[21]-Hume, D.     An Inquiry Concerning the  Principles of Morals, A 1912 Reprint of the Edition of 1777.
[22]-Ibid.
[23]-Ibid.
[24]- محمود فهمي زيدان، الاستقراء والمنهج العلمي، ص 101.
[25]- Williams, G. Thomas Hobbes: Moral and Political Philosophy. Internet Encyclopedia of Philosophy. in 
[26]-Ibid.
[27]- محمد مهران “ تطور الفكر الأخلاقيِّ في الفلسفة الغربيَّة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع. 1998، ص 145.
[28]- Williams, G. Thomas Hobbes: Moral and Political Philosophy. Internet Encyclopedia of Philosophy. in  -