البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ديفيد هيوم وقانون العلية

الباحث :  مازن المطوري
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  18
السنة :  السنة الرابعة -شتاء 2019 م / 1441 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 8 / 2020
عدد زيارات البحث :  1628
تحميل  ( 334.324 KB )
تعتني هذه المقالة للباحث العراقيِّ مازن المطوري بالدِّراسة والنقد لموقف ديفيد هيوم من قانون العلِّيَّة وبيان تناقضه المنطقيّْ. في هذا السياق يتساءل الباحث عن مدى صوابيَّة الحجَّة التي حملت هيوم على إنكار الضرورة الوجوديَّة والحتميَّة للعلاقة بين العلَّة والمعلول في فهم وإدراك الموجودات التي لا يمكن الوقوف عليها من خلال التجربة الحسِّيَّة. وكأن الإدراك الحسِّيَّ هو معيار وجود الحقائق خلف الذهن البشريّْ.
في ما يلي سعي إلى تأصيل هذا الحقل في منظومة هيوم الفلسفية.

المحرِّر
--------------------------------------
البحث في قانون العلِّيَّة العامِّ من الأبحاث الفلسفيَّة المهمَّة جدّاً؛ لِما يمثِّله هذا القانون من قاعدة ارتباطٍ عامٍّ في سلسلة الموجودات، واتِّكاء البحث الطبيعيِّ والتجريبيِّ عليه، ولذلك صار البحث في هذا القانون من بين سائر أبحاث الفلسفة على رأس سلَّم الأولويَّات الذي استحوذ على الفكر البشريِّ منذ قديم الزمان، ودفعه إلى التفكير من أجل الكشف عن لغز الوجود والعالم المحيط به؛ ذلك أنَّ الإنسان يدرك في دخالة نفسه أنَ كلَّ ما يقع في هذا العالم من ظواهر وأحداث لا يمكن أن يكون صدفةً واتِّفاقاً، وإنَّما له علَّة أوجبت تحقُّقه وحصولَه، وعلى أساس ذلك يندفع باحثاً عن عِلَل الأشياء وأسبابِها إشباعاً للميل الغريزيِّ الفطريِّ في حبِّ الاستطلاع من جهة، وتلبية لحاجاته الحياتيَّة من جهة أخرى، فإن وقف على العلَّة فقد بلغ مُناه وهدفَه، وإن لم يقف عليها اكتفى بالإيمان بوجود علَّة خفيَّة عليه انسجاماً مع ذلك الإدراك البديهيّْ.
في الواقع، إنَّ ما يُقال في الحديث عن نشأة الدِّين والإيمان بوجود خالق لهذا العالم من: أنَّ الإنسان البدائيَّ وبحكم مستواه العقليِّ البسيط يومئذٍ لم يستطع تفسير حوادث الطبيعة فأرجعها إلى كائن خلف العالم وقوَّة عظمى هي السبب في حصول مختلف الظَّواهر والحوادث، وبرغم أنَّ خصوم الدِّين والإيمان بالخالق يتَّخذون ذلك ذريعة لتوصيف الإيمان بالخالق عند الإنسان الأول بالجهل، نقول إنَّ كلَّ ذلك شاهد على إدراك الذِّهن الإنسانيِّ لقانون العلِّيَّة والسببيَّة العامَّة، فهو لا يقبل أن تكون تلك الحوادث والظواهر الطبيعيَّة قد حدثت صدفةً واتِّفاقاً من دون سبب وعلَّة.
على أساس ذلك، فمن أوَّليَّات ما يدركه البشر في حياتهم اليوميَّة مبدأ العلِّيَّة والسببيَّة العامَّة، والذي يقرِّر أنَّ لكلِّ حادثةٍ سبباً، فهو مبدأ عقليٌّ ضروريٌّ يؤمن به الإنسان اضطراراً، وهو غنيٌّ عن التدليل والبرهنة، فالإنسان يجد في صميم ذاته باعثاً يبعثه إلى تعليل كلِّ ما يجده من ظواهر وحوادث في هذا العالم المحيط به، وتبرير وجوده والكشف عن أسباب حصوله. هذا الباعث موجود بصورة فطريَّة في طبيعة الإنسان، فالإنسان دائماً وأبداً يواجه سؤال: لماذا؟ عند إدراكه ومشاهدته ظواهر حياته اليوميَّة الخاصَّة والعامَّة، فيلتفت إلى جهة الصوت لأنَّه يؤمن أنَّ هذه الظاهرة لا بدَّ لها من سبب، وهكذا
على كلِّ حال، تُعنى هذه المقالة المقتضبة بدراسة رؤية الفيلسوف الاسكتلنديِّ الشكَّاك ديفيد هيوم (1711 - 1776) لقانون العلِّيَّة عرضاً ونقداً.

في الواقع، ثمَّة اتِّجاهان في تفسير هذا القانون:
الاتِّجاه الأول: اتِّجاه الفلاسفة الواقعيِّين.
ورابطة العلِّيَّة وفق هذا الاتِّجاه رابطة واقعيَّة بين واقعيَّتين، تتوقَّف إحداهما على الأخرى، ومع زوال واقع العلَّة يستحيل وجود وتحقُّق المعلول، فهناك ضرورة وجوديَّة تربط بين واقعيَّتين هي رابطة التوقُّف (العلِّيَّة والمعلوليَّة)، وإذا ما وُجِدَت الواقعة التي هي العلّة فلا بُدَّ وأن تُوجَد الواقعة التي هي المعلول بالضرورة والحتم والوجوب. وهذا الإدراك بديهيٌّ أوليٌّ غير مستنتَج من العلوم الطبيعيَّة التجريبيَّة، وإنَّما قيام العلوم التجريبيَّة وكفاءة قوانينها مرهونة بهذا القانون وما يتفرَّع عنه.
الاتِّجاه الثاني: اتِّجاه الفيلسوف الإسكتلنديِّ الشكَّاك ديفيد هيوم (1711 - 1776) وجمعٍ من الحسِّيين، وهو الاتِّجاه الذي تُعنى المقالة بدراسته.

هيوم وقانون العلِّيَّة:
ديفيد هيوم فيلسوف حسِّيٌّ تجريبيٌّ، فهو يعتقد أنَّ كلَّ محتويات (إدراكات) الذِّهن تأتي من طريق الحسِّ، ويُصنِّف الإدراكات إلى صنفين: انطباعات وخواطر، تمثِّل الانطباعات مُعطيات التجربة بشكل مباشر من دون واسطة، أمَّا الخواطر فهي الأشكالُ الباهتةُ للانطباعات. ويرى أنَّ كلَّ معارف الإنسان لها جذور في الانطباعات، فكلُّ تصوُّر مسبوق بانطباع، وبما أنَّ كلَّ معارفنا ترجع إلى التجربة والانطباع، فإنَّ تصوُّرات من قبيل الجوهر تكون فاقدة للمعنى؛ لأنَّها غير مسبوقة بأيِّ انطباع، فينبغي الشَّطب عليها واعتبارها خاليةً من كلِّ معنى. ولنستمع إليه وهو يسجِّل قائلاً:
“كلّ واحد منا سيوافق بسهولة على أنَّ ثمَّة فرقاً عظيماً بين إدراكات الذِّهن حين نحسُّ ألماً من حرارة زائدة أو لذَّة من حرارة مُلطَّفة، وحين نستعيد في ما بعد بالذاكرة ذلك الإحساس أو حين نتوقَّعه بالمخيّلة. وبإمكان الملكتين هاتين أن تُحاكياً أو تنقِلا إدراكات الحواسِّ لكن ليس بإمكانهما أن تبلغا قوَّة الإحساس الأصليِّ وحيويَّته.. بإمكاننا إذن أن نقسِّم إدراكات الذِّهن جميعاً إلى صنفين أو نوعين يتميَّزان باختلاف درجة القوَّة والحيويَّة، فالتي من نوع أقلَّ قوَّة وأقلَّ حيويَّة تُسمَّى في العادة أفكاراً، أما التي من النوع الآخر فتفتقر إلى اسم في الُّلغة الإنكليزيَّة وفي معظم الُّلغات الأخرى، وأعتقد أنَّ الأمر كذلك لأنَّ تسميتها أو ضمَّها تحت لفظ عامٍّ لا يلزم إلَّا لأغراض فلسفيَّة، فلنأخذ حرِّيَّتنا إذن ولنسمِّها انطباعات مستخدمين هذا الَّلفظ بمعنى مختلف قليلاً عن المعنى العاديِّ، وأعني بلفظ انطباع كلَّ ما هو أكثر حياة في إدراكاتنا حين نسمع ونلمس ونحبُّ ونكره ونرغب ونريد. وتتميَّز الانطباعات من الأفكار التي هي ما هو أقلُّ حياة في إدراكاتنا، وما نعيه عندما نفكِّر بأيِّ من الإحساسات أو الحركات التي ذكرت الآن”[1].

استند هيوم إلى حجَّتين لتقرير أنَّ الحسَّ هو المصدر الوحيد لكلِّ محتويات الذِّهن التصوُّريَّة:
الأولى: إذا قمنا بعمليَّة تحليل لأفكارنا التي مهما بلغ تركيبها وسموُّها، نجدها تتحلَّل وترجع إلى أفكار بسيطة نُسخت عن سابق إحساس وشعور، بل حتى الأفكار التي قد تبدو لنا في الوهلة الأولى أنَّها أبعد عن ذلك الأصل، نجد حين فحصها عن كثب أنَّها راجعة إلى إحساس وشعور، ففكرة (الله) التي تعني الموجود النهائيَّ غير المحدود، تعبِّر عن تصوُّرات حسِّيَّة طرأت عليها تطويرات ذهنيَّة عبر التوسِعة والتصرُّف.
الثانية: المطلب المعروف الذي يقرِّر أنَّ مَنْ فقد حسَّاً فقد علماً، بمعنى أنَّ من يفقد حاسَّة من الحواسِّ فسيفقد جميع التصوُّرات والأفكار المرتبطة بذلك الحسّْ، فلا يمكن لأعمى أن يعطي فكرة عن الَّلون، ولا لأصمَّ أيَّ فكرة عن الصوت[2].
من هذا الإيمان ختم هيوم كتاب (مبحث في الفاهمة البشريَّة) مقرّراً: “حين نطوف في المكتبات مزوَّدين بهذه المبادئ، ماذا علينا أن نتلف؟ - إذا أخذنا بيدنا أيَّ مجلَّد في الَّلاهوت أو في الميتافيزيقا المدرسيَّة مثلاً، وتساءلنا: هل يتضمَّن أيَّ تعليلات تجريديَّة حول الكمِّ والعدد؟ - كلَّا. هل يتضمَّن تعليلات تجريبيَّة حول وقائع ووجود؟ - كلَّا. إذن إرمِهِ في النار لأنَّه لا يمكن أن يتضمَّن سوى سفسطات وأوهام”[3].
ومن هذا المنطلق الحسِّيِّ الشامل توجَّه صوب البحث عن انطباع لتصوُّر العلِّيَّة، فلو لم يكن له انطباع لكان كتصوُّر الجوهر وهميَّاً خالياً من المعنى؛ إذ لا يتعدَّى دور العقل التصرُّف في التصوُّرات الحسِّيَّة، ويعجز عن
إبداع تصوُّرات وأفكار مختلفة تماماً عمَّا يكسب بالحواسِّ كما رأى أصحاب النظريَّة العقليَّة، فالعقل عند هيوم: “محجور عليه في حدود ضيِّقة، وأنَّ كلَّ قدرة الذِّهن الخلَّاقة لا تتعدَّى ملكة التركيب والنقل والزيادة والإنقاص للموادِّ التي تزوِّدنا بها الخبرة والحواسُّ، فعندما نفكِّر في جبل من ذهب فإنَّنا نجمع بين فكرتين متلائمتين نعرفهما سلفاً: الذهب والجبل. ويمكننا أن نتصوَّر حصاناً فاضلاً؛ لأنَّ الشعور الذي لدينا عن أنفسنا يسمح لنا بتصوُّر الفضيلة، ويمكننا أن نوحِّد ما بين هذه وهيئة الحصان وشكله، وهو حيوان مألوف لدينا. باختصار، إنَّ كلَّ موادِّ التفكير مستمدَّة من الحواسِّ الخارجيَّة أو الباطنة، وما يخضع للذِّهن أو الإرادة إنَّما هو خلطها وتركيبها وحسب، أو ما أعبِّر عنه بلغة فلسفيَّة: جميع أفكارنا، أو إدراكاتنا الأضعف، هي نُسخٌ من انطباعاتنا أو إدراكاتنا الأكثر حياةً”[4].

إذن، نحتاج، وفق هيوم، إلى تفحُّص فكرة العلِّيَّة حسِّيَّاً وتجريبيَّاً.
لقد أنكر العلِّيَّة والضرورة الوجوديَّة الواقعيَّة بين الأشياء، وأرجع فكرة العلَّة والمعلول إلى تداعي المعاني والألفة الذهنيَّة. فالإنسان، جرَّاء مشاهدته التجريبيَّة، يرى وقوع حادثة عقب حادثة أخرى باستمرار، كما في رؤيته حصول الغليان والاحتراق عُقَيب النار، فينتزع من هذا التعاقب مفهوم العلِّيَّة، فالعلِّيَّة ليست سوى التعاقب، وإذا ما قلنا بأنَّ (X) علَّة لـ(B) فالمراد أنَّ (B) يعقب حصول (X) باطِّراد، ويقوم الذِّهن بعمليَّة التعميم لهذا التعاقب على أساس قانون تداعي المعاني، فاقتران التعاقب المطِّرد خارجاً والمتكرِّر بين حادثتين أو ظاهرتين يخلق في الذِّهن عادة استدعاء تصوُّر أحدهما عند مشاهدة الأخرى، أما وجود ضرورة وجوديَّة بين ما نسمِّيه علَّة ومعلولاً، وأنَّ حصول العلَّة يقتضي تحقُّق المعلول بالضرورة، فأمر لا يمكن الوقوف عليه تجريبيَّاً، وهكذا قرَّر:
“لا يمكننا البتَّة أن نكتشف بأكثر الفحوص إيغالاً سوى تتالي حادثتين، من دون أن نكون قادرين على فهم أيِّ قوَّة أو قدرة تجعل السبب يعمل، أو أيِّ اقتران بينه وبين أثره المفترض”[5].
ولكن هل يكفي هذا التحليل لرفض وجود ضرورة (ثبوتيَّة) واقعيَّة بين الأشياء الخارجيَّة برغم أنَّ حواسَّنا لا تشعر بها! وهل يكفي عدم فهمنا لتلك القوة لنكران وجودها؟ ولمَ لا تكون الضرورة الذِّهنيَّة والنفسيَّة بين تصوُّراتنا وانطباعاتنا دليلاً أو مؤشِّراً على تلك الضرورة الواقعيَّة الثبوتيَّة؟ لا سيَّما أنَّ القول بالصدفة والاتِّفاق ليس له محلٌّ بأيِّ حال من الأحوال؟
ينبغي القول أنَّه  يحقُّ لديفيد هيوم، باعتباره تجريبيَّاً مبتَذلاً أن يقرِّر قصور البشر عن إدراك تلك الضرورة في عالم الثبوت والواقع، وعدم وقوفه عليها حسِّيَّاً، ولكن لا يحقُّ له بأيِّ حال أن يُنكر وجود الضرورة العلِّيَّة الواقعيَّة بين الأشياء الخارجيَّة لعدم وقوفه عليها حسِّيَّاً وتجريبيَّاً. وسيأتي تعميق ذلك في ملاحظة ختاميَّة.

ها هو يمضي في تأكيده إنكار الضرورة الواقعيَّة، فيسجِّل لنا قائلاً:
“لكن لا يزال هناك طريقة لتجنُّب هذه الخلاصة، وهناك مصدر لم نفحصه بعد، فعندما يحضر شيء أو حادث طبيعيٌّ فإنَّ كلَّ حنكتنا وكلَّ نفاذنا يعجزان عن اكتشاف أو حتى عن تخمين أيِّ حادث سيحصل عنه من دون الخبرة، أو عن حمل تنبُّؤاتنا إلى ما وراء الشيء الماثل مباشرة للذاكرة والحواسّْ، وحتى بعد حالة واحدة أو تجربة واحدة نشاهد فيها حادثاً يتبع آخر فإننا لا نكون مؤهَّلين لصياغة قانون عام للتنبُّؤ بما سيحصل في حالات مماثلة، لأنَّ ما نحسبه بمثابة تهوُّر في الحكم لا يُغتفَر هو بالضَّبط أن نحكم على مجرى الطبيعة الكامل من تجربة مفردة وإن كانت دقيقة أو يقينيَّة.
لكن عندما يكون نوع خاصٌّ من الأحداث مترافقاً مع آخر في جميع الحالات فإنَّنا لا نتردَّد طويلاً في التنبُّؤ بواحدة عند ظهور الآخر، وباستعمال هذا التعليل الذي يمكنه وحده أن يجلب لنا اليقين حول مسألة واقعيَّة أو وجود. ونسمِّي عندها أحد الشيئين سبباً والآخر أثراً، ونفترض أنَّ هناك اقتراناً بينهما، وأنَّ قدرة الواحد تحدث الآخر حتماً، وتفعل بأكبر يقين وأقوى ضرورة.
يظهر إذن، أنَّ فكرة الاقتران الضروريِّ هذه بين الأحداث تتولَّد من عدد من الحالات المتشابهة يكون فيها ترافق ثابت بين هذه الأحداث، وأنَّ هذه الفكرة لا يمكن لها البتَّة أن تستوحى من أيِّ حالة من الحالات المعايِنة كلَّ الأضواء وكلَّ المواقع الممكنة، لكن لا شيء في عددٍ من الحالات يختلف عن كلِّ حالة مفردة نفترض أنَّها مشابهة تماماً للحالات الأخرى، سوى أنَّه بعد تكرار الحالات المتشابهة يميل الذِّهن بفعل العادة عند ظهور حادث ما إلى توقُّع الحادث الذي يصاحبه في العادة، وإلى الاعتقاد بأنَّه سيوجد هذا الاقتران الذي نشعر به في ذهننا، وهذا الانتقال المعتاد للمخيّلة من شيء إلى الشيء الذي يصاحبه في العادة هو إذن الشعور أو الانطباع الذي فيه نشكِّل فكرة القدرة أو الاقتران الضروريِّ، وليس هناك أيُّ شيء أكثر من ذلك.
حريٌّ القول أنَّ هذا هو الفرق الوحيد القائم بين حالة مفردة لا نتلقَّى منها أيُّ فكرة عن الاقتران، وعدد من الحالات المتشابهة بوحي هذه الفكرة. فأول مرَّة رأى فيها إنسان الحركة تتواصل بالدَّفع مثل الاصطدام بين كُرَتَيْ بليارد لم يكن بإمكانه أن يزعم أنَّ إحدى الحادثتين كانت مقترنة بالأخرى، كأن يقول فحسب إنَّ إحداهما ترافق الأخرى، لكن ما أن لاحظ حالات كثيرة من هذا النوع حتى أكَّد أنَّ الوقائع مقترنة، فما هو التبدُّل الذي حصل وولَّد فكرة الاقتران الجديدة هذه؟ لا شيء سوى أنَّ هذا الإنسان يحسُّ الآن أنَّ هذه الحوادث مقترنة في مخيّلته، وأنَّ بإمكانه أن يتنبَّأ بسهولة بوجود الواحد مع ظهور الآخر، فعندما نقول إذن إنَّ شيئاً ما مقترن مع آخر فنحن نريد القول فحسب إنَّ هذين الشيئين قد اكتسبا اقتراناً في فكرنا، هو أنَّهما يولِّدان ذلك الاستدلال الذي يجعل من كلِّ واحد منهما الدليل على وجود الآخر”[6].
خلاصة هذا الاتِّجاه، أنَّ ما هو في عالم الواقع لا يتعدَّى التعاقب بين الحادثتين المشهودتين حسَّاً، وحكمنا الكلِّيُّ بأنَّ (B) تعقب (X) باستمرار ناشئ من الاقتران الذهنيِّ بين تصوُّر الحادثتين جرَّاء التعاقب باطِّراد، أمَّا فكرة الضرورة الوجوديَّة واللًّابُدِّيَّة والحتميَّة في وجود (B) عند وجود (X) فغير متحقِّقة، إذ لا يوجد شيءٌ اسمه الضرورة العلِّيَّة.
من هنا، فإنَّ النتيجة التي توصَّل إليها هيوم في دراسته لقانون العلِّيَّة تقرّر: أنَّ علاقة العلِّيَّة ليست ضروريَّة ومن ثمَّ غير قبليَّة، وإنما تصوُّر بُعديٌّ مكتسب من الخبرة التجريبيَّة نتيجة العادة الذهنيَّة التي تؤدِّي إلى الاعتقاد بأنَّ هذا التصوُّر ضروريٌّ، وإذا كان قانون العلِّيَّة مكتسباً من الخبرة وفق العادة الذِّهنيَّة وليس مبدأ قبليَّاً، فلا يمكننا والحال هذه توقُّع حوادث المستقبل. وبما أنَّ العلوم الطبيعيَّة تنطلق من الوقائع الملاحَظَة إلى ما لم يُلاحَظ (استقرائيَّاً)، أي من حالات وقضايا جزئيَّة إلى نتائج وقوانين عامَّة تشمل ما لم تتمُّ ملاحظته خبرويَّاً، فإنَّ هذه القوانين ستفقد المبرِّر المنطقيَّ، وتكون النتيجة الحتميَّة هي الشكَّ، ولذلك قرَّر برتراند راسل (1872 - 1970) في حديثه عن أهميَّة هيوم قائلاً: “وصل بفلسفة لوك وباركلي التجريبيَّة إلى نتيجتها المنطقيَّة، وإذ جعلها متِّسقة مع ذاتها جعلها غير قابلة للتَّصديق. وهو يمثّل بمعنى معيَّن نهاية ميتة، ففي اتِّجاهه من المستحيل المضيُّ إلى أبعد ممَّا وصل إليه”[7].
فضلاً عن ذلك، إنَّ أيَّ إنكار لعقليَّة وقبليَّة مبدأ العلِّيَّة كما يؤمن أنصار المذهب العقليِّ في المعرفة، لا يمكن من ناحية أخرى، وفق هيوم، الاستدلال عليه بمبدأ استحالة التناقض؛ إذ لا تناقض في تصوُّر بداية لشيءٍ من دون استناده إلى علَّة سبَّبت تلك البداية، فـ”الضدُّ من أيِّ واقعة يظلُّ ممكناً لأنَّه لا ينطوي على أيِّ تناقض، والذِّهن يتصوَّره بمثل السهولة والتميُّز الذي سيتصوَّره به لو كان مطابقاً تماماً للحقيقة. والقضيَّة (الشمس لن تشرق غداً) ليست أقلَّ معقوليَّة، ولا تنطوي على تناقض أكثر مما تنطوي عليه القضيَّة (ستشرق)، فباطلاً إذن ما نجرِّب البرهنة على خطأها، إذ حين تكون برهانيَّاً خاطئة ستنطوي على تناقض ولن يمكن للذِّهن قطُّ أن يتصوَّرها بتميّز”[8].
في هذه النقطة بالتحديد، أي رفض استنباط مبدأ العلِّيَّة من قانون استحالة التناقض، يتَّفق الفيلسوف المسلم السيِّد محمد باقر الصدر (1935 - 1980) مع هيوم، برغم إيمان الصدر أنَّ قانون العلِّيَّة من مبادئ العقل الأوَّليَّة، إذ لا تناقض بين أن يكون للشيء بداية وبين أن لا يكون له علَّة، فتصوُّر الحادثة لا يوجب على نحو الضرورة الانتقال إلى أنَّ لها مُحدِثاً أوجدها، حتى يلزم التناقض حين نرفض فكرة العلِّيَّة ونقول بوجودها من دون علَّة. وقد سجَّل في هذا الصدد قائلاً:
“إنَّنا مع هيوم في تأكيده على أنَّ مبدأ العلِّيَّة لا يمكن استنباطه من مبدأ عدم التناقض، إذ لا يوجد أيُّ تناقض منطقيٍّ في افتراض حادثة من دون سبب، لأنَّ مفهوم الحادثة لا يستبطن ذاتيَّاً فكرة السبب، وعلى هذا الأساس يتوجَّب على الاتِّجاه العقليِّ في الفلسفة الذي يؤمن بمبدأ العقليَّة وقبليَّته، أن يوضح طريقة تفسيره عقليَّاً لمبدأ العلِّيَّة من دون أن يتورَّط في محاولة استنباطه من مبدأ عدم التناقض مباشرة”[9].
وفق هذا النص، لا يكون مبدأ العلِّيَّة قضيَّة تكراريَّة يستنبط محمولها من موضوعها، فتصوُّرنا للحادثة لا يستبطن أن يكون لها علَّة حتى إذا تصوَّرناها من دون علَّة كان من التناقض بين التصوُّرين، خلافاً للقضايا التكراريَّة، فتصوُّر قضيَّة الأعزب لا زوج له، والتي هي من القضايا التكراريَّة، يكون تصوُّر المحمول (لا زوج له) مستبطناً في الموضوع (الأعزب)، ولا يمكن تصوُّر أحدهما من دون تصوُّر الآخر للزوم التناقض.
ينتج من هذا التحليل أنَّ قانون العلِّيَّة هو مبدأ عقليٌّ مستقل عن مبدأ استحالة التناقض، ولا يُعتمَد عليه في الاستدلال، وإنَّما الإيمان بهما على حدٍّ سواء بشكل مستقلّْ.
لكنَّ الصدر، وبرغم اتفاقه مع هيوم في هذه النقطة، ورفضه كذلك استدلالات رجال المدرسة العقليَّة على مبدأ العلِّيَّة، يقرِّر من ناحية أخرى اختلافه مع هيوم في نقطتين هما: الإقرار بمبدأ العلِّيَّة بوصفه قضيَّة عقليَّة قبليَّة، والاعتقاد بإمكان الاستدلال عليه بالتجربة[10].

هيوم والغزالي
إذا كانت ثمَّة أهميَّة لديفيد هيوم في طرحه لأفكار تنال من قانون العلِّيَّة بوصفه قانوناً عقليَّاً قبليَّاً، فهناك أولويَّة للمتكلِّم المسلم أبي حامد الغزالي (1058 - 1111م) في هذا المجال، فقد كانت روح الأفكار التي طرحها الأول حاضرةً في مناقشات الثاني لقانون العلِّيَّة.
رأى الغزالي أنَّ ما نشاهده من اقتران بين النار والإحراق هو مجرَّد اقتران ليس فيه علاقة ضرورة بين وجود أحدهما ووجود الآخر، وإنَّما يحصل اعتقادنا بسببيَّة النار للإحراق بفعل العادة، ومن المستحسن نقل نصِّ كلامه حيث قال:
“الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سبباً وبين ما يُعتقد مُسبِّباً ليس ضروريَّاً عندنا، بل كلُّ شيئين، ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمِّناً لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمِّناً لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الريِّ والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجزِّ الرَّقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهِّل، وهلمَّ جرَّا، إلى كلِّ المشاهدات من المقترنات في الطبِّ والنجوم والصناعات والحرف”[11].
وقرَّر الغزالي أنَّنا آمنَّا بسببيَّة هذه الظواهر، واعتقدنا بكونها فاعلة التأثير بفعل المشاهدة، مع أنَّ المشاهدة وحدها لا تدلُّ على أكثر من الاقتران،  فما الدليل على أنَّها [النار] الفاعل وليس لهم دليل إلَّا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدلُّ على الحصول عندها ولا تدلُّ على الحصول بها، وأنَّه لا علَّة سواها”[12].
وفق هذه النصوص تكون العلِّيَّة بنظر الغزالي علاقة منشأها الأفعال التي جرت العادة أن تحصل من دون أن تصل إلى حدِّ الضرورة، وأثَّرت العادة في أذهاننا تلك العلاقة بشكل لا ينفكّْ. وبرغم رسوخ هذه العلاقة في الذِّهن بفعل العادة إلَّا أنَّها لا تشكِّل قانوناً عامَّاً يمكن أن يضمن سير الحوادث مستقبلاً بشكل ضروريٍّ، وإنَّما يمكن الانفكاك والزوال فيها.
نعم يفترق الغزالي عن هيوم في عدم إنكاره للعلِّيَّة مطلقاً وقصره لهذه العلاقة في مصداق واحد هو الله تعالى خالق العالَم، خلافاً للأخير الذي لم يجد مصداقاً واحداً يمثّل علاقة العلِّيَّة. وفضلاً عن ذلك، فقد كانت منطلقاته كلاميَّة صرفة، حيث دعاه إيمانه بفاعليَّة الله التامَّة المطلَقة إلى رفض العلِّيَّة المطلَقة، بينما كان إنكار هيوم لها سبباً في رفض فاعلية الله في المعاجز والرعاية الإلهيَّة. والمقارنة بينهما تفصيلاً تحتاج إلى دراسة مستأنفة.

ملاحظات ختاميَّة:
حيث أنَّنا لا نؤمن في (نظريَّة المعرفة) بأنَّ التجربة والخبرة الحسِّيَّة هي المصدر الوحيد والفريد لمعارف الإنسان وتصوُّراته، فإنَّ كلَّ هذا البناء الذي طرحه هيوم في مناقشته لقانون العلِّيَّة، يبقى رؤية نظريَّة مبنيَّة على فكرة خلافيَّة لا تمتلك قيمةً وأساساً مُحكَماً، كما أنَّ حصر التصوُّرات في تلك التي يأخذها الإنسان من الخارج بشكل مباشر عبر الحواسِّ (المفاهيم الماهويَّة) هو الآخر غير تامٍّ كما تقرَّر في محلِّه من نظريَّة المعرفة.
وما سوى هذا الخلاف المبنائيِّ الأساسيِّ، ثمَّة مجموعة من الملاحظات التي يمكن تسجيلها على اتِّجاه هيوم في تفسير قانون العلِّيَّة:
1 - أنَّ تصوُّر الإنسان عن العلِّيَّة يختلف عن تصوُّره مفهوم التعاقب، وهذا التصوُّر ليس مأخوذاً من الخارج بشكل مباشر حتى نستشكل بعدم وجوده خارجاً، وإنما هو معقول ثانٍ فلسفيٌّ لا يتوفَّر عليه كتوفُّره على مفاهيم التعاقب والحرارة والإنسان والضوء وسائر المفاهيم الماهويَّة (معقولات أوَّليَّة) بشكلٍ مباشر من الخارج عبر الارتباط الحسِّيِّ، وإنما يتوفَّر عليه وفق عمليَّات ذهنيَّة معيَّنة وينتزع من منشأه، فلا يمكن القول هو غير موجود في الخارج، وفي الوقت ذاته ليس له ما بإزاء في الخارج، وإنَّما من المفاهيم التي يقال بشأنها: “عروضها ذهنيٌّ واتِّصافها خارجيّْ”، في مقابل المفاهيم الماهويَّة التي يكون عروضها واتِّصافها خارجيَّين، ومفاهيم المنطق التي يكون عروضها واتِّصافها ذهنيَّين.
2 - أنَّ العلَّة والمعلول قد يكونان مقترنين تماماً بالزمان ومع ذلك ندرك علِّيَّة أحدهما للآخر من قبيل حركة اليد وحركة القلم حال الكتابة، فالحركتان توجدان دائماً في وقت واحد، ومن ثَمَّ إذا افترضنا أنَّ العلِّيَّة والضرورة يرجعان إلى استتباع إحدى الظاهرتين للأخرى وفق قانون تداعي المعاني، لما أمكن في هذا الافتراض أن تحتلَّ حركة اليد مركز العلّة من دون حركة القلم، لأنَّ العقل أدرك الحركتين في وقت واحد، والسؤال حينئذٍ: لمَ وضع العقل حركة اليد موضع العلَّة وحركة القلم موضع المعلول؟ هذا معناه أنَّ العلِّيَّة تختلف عن التعاقب والتداعي[13].
3 - أنَّ التداعي كثيراً ما يحصل بين شيئين من دون الاعتقاد بعلِّيَّة أحدهما للآخر، فلو صحَّ لديفيد هيوم أن يفسِّر العلَّة والمعلول بأنَّهما حادثتان ندرك تعاقبهما كثيراً حتى تحصل بينهما رابطة تداعي المعاني في الذِّهن، لكان الليل والنهار من هذا القبيل، فكما أنَّ الحرارة والغليان حادثتان تعاقبتا حتى نشأت بينهما رابطة تداعي المعاني في الذِّهن، فالحال نفسه في الليل والنهار إذ أنَّهما يتعاقبان دائماً ويحصل تداعٍ عند تصوُّر أحدهما لتصوُّر الآخر، مع أنَّ عنصر الضرورة والعلِّيَّة التي ندركها بين الحرارة والغليان ليس موجوداً بين الليل والنهار، فليس الليل علّة النهار ولا العكس، ولا يمكن تفسير هذا العنصر بمجرَّد التعاقب المتكرِّر والمؤدِّي إلى تداعي المعاني كما افترضه هيوم[14].
إضافة إلى ما تقدَّم، فإنَّ تصوُّر هيوم عن العلِّيَّة قد هُوجِم من لدُن علماء تجريبيِّين يشتركون معه في الفضاء المعرفيِّ، فقد أكَّد مان دي بيران (1766 - 1824) في كتابه عن تحليل الفكر على وجود حالة ممتازة ندرك فيها العلِّيَّة، وهي المجهود العضليُّ، فهذا المجهود يدلُّ على انتقال القوَّة من العلَّة إلى المعلول، ونصَّ قائلاً: “وعبثاً نحاول استبعاد هذا المجهود، أعني العلَّة أو القوَّة التي تبقى دائماً في أعماق الفكر تحت أيِّ اسم اصطلاحيٍّ نستعمله، أو حتى إذا لم نُسمِّه. وعلى الرغم من كلِّ محاولات المنطق، فإنَّ هذه الفكرة الحقيقيَّة، فكرة العلِّيَّة، لا يمكن أبداً خلطُها بأيَّة فكرة عن التوالي التجريبيِّ للظَّواهر أو الارتباط بينها”[15].
يضيف بيران: أنَّ المجهود يحمل معه بالضرورة إدراك علاقة بين الكائن الذي يُحرِّك أو يريد أن يُحرِّك، وبين عقبة ما تقاوم حركته، ومن دون الذات أو الإرادة التي تعيِّن حركته، ومن دون الحدِّ الذي يقاوم لا يوجد مجهود، ومن دون المجهود فلا معرفة ولا إدراك من أيِّ نوع، ففي المجهود إذن ندرك الأنا على أنَّها العلَّة الضروريَّة للحركة الملاحَظة، أي أنَّنا لا ندرك مجرَّد توالٍ، بل ندرك علاقة علِّيَّة.
في هذا السياق، قرَّر علماء نفس الشَّكل أنَّه من وجهة النظر الظاهراتيَّة البحتة، فإنَّ التجربة المباشرة تعطينا أكثر من مجرَّد توالٍ بسيط لمضمون الشعور، بل يتولَّد عندنا انطباع بأنَّ الحالة الثانية تتولَّد وتصدر وتنتج من الأولى، واتِّصالها الضروريُّ مُعطى لنا في الوقت نفسه الذي ندرك فيه مضمونها، ولا فصل بينهما إلَّا بطريقة مصطَنعة!
أمَّا عالم النفس التجريبيُّ ألبرت ميشوت (1881 - 1965)، فقد أجرى تجارب أشرك فيها مئات من الأشخاص لتفنيد اتِّجاه هيوم في تفسير العلِّيَّة، وخلص في كتابه الرائد في هذا المجال إدراك السببيَّة إلى التأكيد على: أنَّ إدراك العلِّيَّة هو أمر موضوعيٌّ مثل سائر الإدراكات، وقد ساق شواهد عدَّة على ذلك: منها مثال المطرقة التي تدفع مسماراً في قطعة الخشب، ومثال السكِّين الذي يقطع قطعة من الخبز، فحين نشهد هذه العمليَّات هل نجد أنَّ الإدراك يقتصر على انطباع حركتين متناسقتين زمانيَّاً ومكانيَّاً وهما تقدُّم السكِّين مثلاً وتقدُّم الشَّقِّ في الخبز أو العكس؟ وإنما ندرك مباشرة الفعل نفسه بما هو كذلك، أي قطع السكِّين للخبز بالضرورة[16].

في المقابل، رأى راسل الفيلسوف التجريبيُّ المعروف في نظريَّة هيوم جزئين أحدهما موضوعيٌّ والآخر ذاتيّْ:
 الجزء الموضوعيُّ مفادُه: حين نحكم بأنَّ (أ) تسبِّب (ب) فقد لا حظنا مراراً وتكراراً اقترانهما، بمعنى أنَّ (أ) أعقبتها فوراً أو بغاية السرعة (ب). وفي هذا الجزء ليس لدينا حقٌّ  في أن نقول: إنَّ (أ) يجب أن تعقبها (ب) في المناسبات المقبلة، ولكن هل لدينا أيُّ سند في أن نفترض، رغم كثرة المرَّات التي كانت فيها (أ) تعقبها (ب)، وجود علاقة تتخطّى هذا التعاقب؟ وهنا يرى هيوم أنَّ العلِّيَّة يمكن تعريفها في حدود التعاقب وهي ليست تصوَّراً مستقلَّاً.
أمَّا الجزء الذاتيُّ من النظريَّة فمفادُه: أنَّ اقتران (أ) بـ(ب) الملاحظ مراراً وتكراراً يجعل انطباع (أ) يسبِّب فكرة (ب)، ولكن إذا كان علينا أن نعرِّف العلَّة - كما اقترنت في الجزء الموضوعيِّ من النظريَّة - فيجب أن نكرِّر الكلمات السابقة، وإذا استبدلنا تعريف العلَّة يصبح ما سبق: “لقد لوحظ مراراً وتكراراً أنَّ الاقتران الملحوظ بين الموضعين (أ) و(ب) مراراً وتكراراً يعقبه أمثلة تعقب فيها فكرة (أ) انطباع (ب)”.
ولكن راسل يقرِّر أنَّنا حتى لو سلَّمنا بأنَّ هذه القضيَّة صحيحة ولكنها لا تبلغ المدى الذي يعزوه هيوم إلى الجزء الذاتيِّ من نظريَّته، وهو يؤكِّد المرَّة تلو المرَّة أنَّ الارتباط المتكرِّر بين (أ) و(ب) لا يشكِّل أيَّ سبب لتوقُّعهما مرتبطين في المستقبل وإنَّما هو علَّة هذا التوقُّع فحسب، ومعنى ذلك أنَّ تجربة الاقتراب المتكرِّر تقترن في معظم الأحيان بعادة تداعٍ.
ولو سلّمنا - بحسب راسل- بالجزء الموضوعيِّ من نظريَّة هيوم، فإنَّ الواقع القائل بأنَّ التَّداعيات في الماضي كثيراً ما كانت تتشكَّل في ملابسات من هذا القبيل، ليست سبباً في افتراض أنَّها ستستمر، أو أنَّ تداعيات جديدة ستتشكَّل في ملابسات مماثلة. والحقيقة وفق راسل حيث كان الأمر متَّصلاً بعلم النفس فإنَّ هيوم يبيح لنفسه أن يعتقد في العلِّيَّة بمعنى يدينه هو بوجه عام، ويسوق راسل شاهداً على ذلك بالقول: أنا أرى تفَّاحة وأتوقَّع أنَّني إذا أكلتها سأجرِّب نوعاً معيَّناً من الطعم، فوفقهيوم ليس هناك سبب لكوني أجرِّب هذا النوع من الطعم! إنَّ قانون العادة يفسِّر وجود توقُّعي أنا، ولكنه لا يبرِّره، بيد أنَّ قانون العادة هو نفسه قانون علِّيٍّ، ومن ثمَّ كما رأى راسل لو أخذنا هيوم مأخذ الجدِّ للزم أن نقول: على الرغم من أنَّ منظر التفَّاحة في الماضي كان مقترناً بتوقُّع نوع معيَّن من الطعم فليس سبباً ينبغي معه أن يستمرَّ اقتران هذا المنظر بذاك التوقُّع، فربما حين أرى في المرَّة القادمة تفَّاحة سأتوقَّع أن يكون لها طعم مشابه لطعم لحم البقر المشويِّ، وفي وسعك في هذه الَّلحظة أن تظنَّ الأمر على غير هذا الوجه بعد خمس دقائق، فلو كانت نظريَّة هيوم الموضوعيَّة صحيحة فليس لدينا سبب أفضل للتوقُّعات في علم النفس منه للتوقُّعات في العالم الماديِّ، وفي الوسع كما قرَّر راسل، رسم نظريَّة هيوم رسماً كرويَّاً على النحو التالي: “القضيَّة (أ هي علَّة ب) تعني (انطباع أ هو علَّة فكرة ب)”، وهذا كتعريف جهد غير موفَّق.
ثم يمضي راسل في فحص نظريَّة هيوم الموضوعيَّة فحصاً دقيقاً[17].
ختاماً، ينبغي القول أنَّه من الغريب جداً أن يتَّجه هيوم إلى إنكار الضرورة الوجوديَّة واللَّابُدِّيَّة والحتميَّة بين الظاهرتين (العلّة والمعلول)، لعدم الوقوف عليها حسِّيَّاً، وكأنَّ الإدراك الحسِّيِّ هو ميزان وجود الحقائق خلف الذِّهن! على أنَّ هذه النزعة الحسِّيَّة المبتذَلة عند هيوم تعني القضاء التامَّ على حقائق علميَّة كثيرة أثبتتها العلوم التجريبيَّة من دون الوقوف عليها بشكل حسِّيٍّ مباشر، فقانون الجاذبيَّة الذي أضحى حقيقة علميَّة مسلَّمة لم يُتوَصَّل إليه عبر الإحساس المباشر، وإنما تمَّ التوصُّل إلى هذا القانون واستكشافه بمعونة ظواهر أخرى محسوسة، وتدخّلِ العقل في الاستنتاج.

--------------------------------------
[1]-مبحث في الفاهمة البشريَّة: 37 - 38، 39، بتصرُّف، ترجمة: د. موسى وهبة، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 2008 م.
[2]-المصدر نفسه: ص40 - 41.
[3]-المصدر نفسه: ص221.
[4]-مبحث في الفاهمة البشريَّة: ص39 - 40.
[5]-المصدر نفسه: ص107.
[6]-مبحث في الفاهمة البشريَّة: ص 108 - 110.
[7]-تاريخ الفلسفة الغربيَّة، برتراند رسل، ص 3: 219، ترجمة: د. محمد فتحي الشنيطي، الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب، 2012 م.
[8]-مبحث في الفاهمة البشريَّة: 50.
[9]-الأُسُس المنطقيَّة للاستقراء، محمد باقر الصدر: ص134، مركز الأبحاث والدراسات التخصُّصيَّة للشهيد الصدر، قم، الطبعة الثانية، 1426هـ.
[10]-المصدر نفسه: ص137.
[11]-تهافت الفلاسفة، الغزالي: ص239، تحقيق: سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، الطبعة الرابعة.
[12]-المصدر نفسه: ص 240.
[13]-فلسفتنا، محمد باقر الصدر: ص96، مركز الأبحاث والدراسات التخصُّصيَّة للشهيد الصدر، قم، الطبعة الأولى، 1424 هـ.
[14]-المصدر نفسه: ص97.
[15]-مدخل جديد إلى الفلسفة، د. عبد الرحمن بدوي: ص 110 - 111، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الأولى، 1975 م.
[16]-المصدر نفسه: ص111 - 112.
[17]-تاريخ الفلسفة الغربيَّة 3: ص227 - 228.