البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ديفيد هيوم وتطبيقه للمنهج التجريبي على الفلسفة

الباحث :  شهاب الدين مهدوي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  18
السنة :  السنة الرابعة -شتاء 2019 م / 1441 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 8 / 2020
عدد زيارات البحث :  6560
تحميل  ( 326.128 KB )
يعتبر ديفيد هيوم أنَّ الضرورة الخارجيَّة أمر لا يمكن إرجاعه إلى الانطباع، ويفسِّرها في مبدأ السببيَّة بأنَّها ضرورة ذهنيَّة ناشئة من العادة وقائمة على أساس قانون التداعي.
هذا الموقف أصبح مثاراً للخلاف، فظهر اتجاهان رئيسان: الأول هو "الواقعيَّة التشكيكيَّة" ويذهب إلى أنَّه يؤمن بوجود قوى خفيَّة في الطبيعة يعجز الإنسان عن إدراك حقيقتها، بينما يذهب الاتِّجاه الثاني، وهو "الإسقاطيَّة"، إلى أنَّ السببيَّة ليست سوى مقارنة زمنيَّة بين الأشياء تدفع الذهن إلى انتزاع العلاقة الضروريَّة بينهما.
هيوم ركَّز جهوده على مبدأ السببيَّة بوصفها عنصراً محوريَّاً لحلِّ المفارقة المعرفيَّة الكامنة في نظريَّته، حتى أصبحت بمثابة قطب الرُّحى في أعماله الفلسفيَّة. وهذا المبدأ اعتمده الباحث شهاب الدين هدوي، في بحثه التالي، ليضيء على هيوم وتطبيقه المنهج التجربيَّ على الفلسفة.

المحرِّر
------------------------------
يمثِّل عصر ديفيد هيوم، بلا شكٍّ، منعطفاً تاريخيَّاً في مسار الفلسفة الغربيَّة، حيث تمكَّن من تطوير فلسفة تجريبيَّة ظهرت معالمها عند أسلافه كجون لوك وجورج بيركلي، وصياغتِها صياغةً مُمنهَجة ومتكاملة. ولا نبالغ إذا قلنا إنَّه هو الذي وضع الحجر الأساس لإنكار المفاهيم الميتافيزيقيَّة ورواج الرؤية الشُّكوكيَّة في العالم الغربيِّ إلى درجة اعتراف الفيلسوف الوجوديِّ إيمانويل كانط في كتابه «مقدِّمات نقديَّة»، بأنَّ أعمال هيوم هي التي أيقظته من سباته الدوغمائيّْ.
في الواقع، لا يمكننا تفسير مشروع هيوم إلَّا إذا أخذنا بعين الاعتبار سلسلة من أحداث تعقَّبت العصور الوسطى وكانت خلفيَّة تاريخيَّة لأعماله؛ ولقد كان لكوبرنيكوس وثورته الفلكيَّة، ومن تبعه من أمثال غاليليو ونيوتن، دور عظيم في تشييده لصرحه المعرفيِّ، فهم تمكَّنوا عبر ما طبَّقوه من نظرة ميكانيكيَّة للعالم، من أن يُقوِّضوا إرث أرسطو العظيم، ويُنجزوا تحوُّلات كبرى على ساحة العلوم الطبيعيَّة، الأمر الذي فتح آفاقاً جديدة أمام الباحثين، وشغل بال العلماء وأثار انتباههم إلى موضوع منهجيَّة العلم. وكان في طليعتة هؤلاء الفيلسوف البريطانيُّ فرانسيس بيكون الذي أعار منهجيَّة العلم اهتماماً فائقاً، ورفض بشدَّة المنهج السائد وقتئذٍ بقوله: «إنَّ الأساليب الرائجة لا تحقِّق تقدُّماً كبيراً في الآراء العلميَّة، ولا تنتج أعمالاً علميَّة ملموسة»[1]. ويقصد  بالأساليب الرائجة قواعد المنطق الأرسطيِّ بالذات، معتقداً أنَّ العلوم المألوفة لا تجدي في استكشاف الصناعات الحديثة، كما أنَّ المنطق السائد عاجزٌ عن إنتاج العلوم الحديثة.
لم تكن النظرة النقديَّة تجاه منهجيَّة العلوم القديمة حكراً على بيكون، بل كانت موضع اهتمام لفلاسفة وعلماء آخرين نظير ديكارت وغاليليو ونيوتن أيضاً. ونتيجة لهذه المحاولات أصبح الرأي السائد لدى الفلاسفة الجدد أنَّه من المستحيل بمكان أن يدرك الإنسان ذوات الأشياء، لذا من الأفضل أن يتنازل عن المحاولات العقيمة لاكتناهها، ويصبَّ اهتمامه على ملاحظة  الأمور الجليَّة. وقد أعرب نيوتن عن هذا المنحى بقوله: (لقد وضع الكتَّاب الجدد البحث عن المُثُل والصور الذاتيَّة جانباً، وحاولوا دراسة الطبيعة وفقاً لقوانين الرياضيَّات... فمهمَّة الفلسفة الطبيعيَّة هي أن تستدلَّ بحسب الظواهر الطبيعة ومن دون الفرضيَّات المقبولة مسبقاً، وتستنتج العلل من المعاليل)[2].
حريٌّ القول هنا أنَّ الطبيعة في نظر نيوتن بدت وكأنَّها نظام تقوده القوانين الميكانيكيَّة ويعمل وفق آلية التروس المتقاطرة. فقد كان يعتقد أنَّ اكتشاف هذه القوانين بفضل الملاحظة والتجربة يُعتبر خطوة كبيرة إلى الأمام، بينما الحديث عن العلل المجهولة والأسباب الخفيَّة والغامضة -كما كانت تروِّج له الفلسفة الإغريقيَّة - كان مجرَّد كلام باطل. ومن هذا المنطلق كان يرفض  أيَّ افتراضٍ قَبْليٍّ في البحث العلميِّ، ويطلق مقولته الشهيرة: أنا لا أكوِّن الفرضيَّات، والفرضيّة هي كلُّ ما لا يمكن استنتاجه من الظواهر الملموسة؛ ولا مكانة لها في الفلسفة التجريبيَّة سواء أكانت ميتافيزيقيَّة أم فيزيائيَّة، على أساس علم الغيب أو الأصول الميكانيكيَّة[3].
ولقد اقتفى هيوم في ذلك أثر نيوتن لأنه كان شغوفاً بإنجازاته العملاقة في الفيزياء، وإذا كان الأخير يهدف إلى تطبيق المنهج التجريبيِّ على العلوم الطبيعيَّة، فإنَّ الأول كان يحاول أن يمدَّ مناهج العلم النيوتنيِّ على ساحة العلوم الإنسانيَّة آنذاك. وكما صرَّح في مدخل كتابه "رسالة في الطبيعة البشريَّة"، كان يعتقد بأنَّ كلَّ العلوم لها علاقة ما بالطبيعة البشريَّة، ويقول إنَّ ذلك أمر واضح في المنطق والأخلاق والنقد والسياسة، وأما الرياضيَّات والفلسفة الطبيعيَّة والدِّينُ الطبيعيُّ فهي تبدو في بادئ الأمر وكأنَّها تهتمُّ بموضوعات غير الإنسان، بيد أنَّ لها صلة أيضاً بهذه الطبيعة، إذ تُعرف عن طريق الإنسان، والإنسان هو الذي يحكم على ما هو صادق وما هو زائف في هذه الفروع من المعرفة. ويخلص هيوم إلى القول بأنَّ الطبيعة البشريَّة تكون مركز العلوم وأساسها، ومن الأهميَّة البالغة أن تُطوِّر علماً للإنسان، ولكن كيف يتمُّ ذلك؟ عن طريق تطبيق المنهج التجريبيِّ؛ لأنَّ هذا العلم هو الأساس الصلب والوحيد للعلوم الأخرى، لذا فإنَّ الأساس الصلب والوحيد الذي يمكن أن نعطيه إياه لا بدَّ من أن يرتكز على التجربة والملاحظة.[4] كما أنَّه في كتابه «بحث في مبادئ الأخلاق»، يُظهر شغفه بالمنهج النيوتنيِّ، ويستدلُّ على ضرورة اعتماد المنهج التجريبيِّ في دراسة الطبيعة البشريَّة بأنَّ المبادئ الميتافيزيقيَّة غير متلائمة مع هذه الطبيعة، وأنَّها مصدر للوهم والخطأ، ويدعو إلى بناء نظامٍ أخلاقيٍّ قائم على أساس الملاحظة والتجريب.[5]
لقد حاول هيوم في أعماله الفلسفيَّة أن يجتنب قدر المستطاع المفاهيم الغامضة والخفيَّة نظير الجوهر والصور النوعيَّة وما إلى ذلك، وأن يولي، في المقابل، اهتماماً أكبر للملاحظة والتجربة، فلم يكن يذعن لتفسير الأحداث عبر الأوصاف الخفيَّة والتحليلات الميتافيزيقيَّة بل كان يعتبر هذا المنهج نوعاً من الافتراضات الخياليَّة التي حالت دون وصول الأجيال القديمة إلى العلم الحقيقيّْ.[6]

السببيَّة عند ديفيد هيوم
إنطلاقاً ممَّا سبق، نلاحظ أنَّ هيوم بدأ مسيره الفلسفيَّ بدراسة الطبيعة البشريَّة، مؤكِّداً على ضرورة انتهاج المنهج الاستقرائيِّ - بدلاً من المنهج الاستنباطيِّ- الذي سار عليه العلماء الجدد في اكتشاف قوانين الطبيعة. وبما أنَّ استخدام المنهج الاستقرائيِّ في العلوم الإنسانيَّة عموماً والفلسفيَّة على وجه الخصوص، يواجه صعوبات من الناحية المعرفيَّة، ركَّز جهوده على مبدأ السببيَّة بوصفها عنصراً محوريَّاً لحلِّ المفارقة المعرفيَّة الكامنة في نظريَّته. وبناء على هذا، فقد شغلت السببيَّة حيّزاً كبيراً في فكره، وأصبحت بمثابة قطب الرُّحى في أعماله الفلسفيَّة، كما أنّها تمثّل ركيزة أساسيَّة للمنهج التجريبيِّ الذي يقترحه، إلَّا أنَّ الرؤية الخاصة التي أسَّس عليها مسعاه حول السببيَّة كانت تتجذّر في آرائه الإبستمولوجيَّة، ومن أجل ذلك لا يمكن دراسة فكره بمعزل عن نظريَّته المعرفيَّة.

نظريَّة هيوم المعرفيَّة
يُسمِّي هيوم محتويات الذِّهن بالإدراكات (Perceptions)، ويقسِّمها إلى الانطباعات (Impressions) والأفكار (Ideas). فالانطباعات هي التي ينالها الإنسان من معطيات تجريبيَّة مباشرة ومن دون وساطة، وأمّا الأفكار فهي صور باهتة ورواسب تتبقَّى في أذهاننا من الانطباعات بعد انقطاع اتِّصالها المباشر بالحواسِّ، وهي قد تكون تصوُّراً مطابقاً بالكامل للانطباعات، وقد تكون تصوُّراً جديداً مُركَّباً من صورها بعضها مع بعض كصورة الحصان المجنَّح على سبيل المثال. من هنا، فإنَّ الانطباعات تمثِّل ركناً أساسيَّاً في منظومة هيوم الإبستمولوجية، حيث تُعتبر مرجعاً لجميع الإدراكات، وكلُّ إدراك مسبوقٌ بالانطباع دائماً، فلا فكرة حينئذٍ إلَّا وتكون مُتَّخذة بشكل من الأشكال من  الانطباع.
انطلاقاً من هذا المبدأ، يعتبر هيوم كلَّ فكرة لا يسبقها الانطباع إدراكاً أجوفَ فارغاً عديماً للمعنى، ويرفضها كما رفض بالفعل فكرة الجوهر والصور النوعيَّة باعتبارهما صوراً موهومة غير مُستمدَّة من الحسِّ والتجربة. وهو يسأل عمَّا إذا كان يمكن إرجاع السببيَّة كمفهوم  إلى انطباع ‌ما أم لا؟ وللإجابة عن هذا السؤال، يبحث بين الإدراكات المختلفة ذات الصِّلة بالعلل الخاصَّة مُحاولاً إيجاد عنصر مشترك بينها يمكن اعتباره مصدرٍاً لنشوء إدراك السببيَّة لدى الإنسان، ولكن هذه المحاولة لم تُجدِ شيئاً لذا اضطر إلى عدِّ السببيَّة نسبة قائمة بين الأشياء بدل أن تكون خاصَّة كامنة في ذواتها، ومع ذلك فهو لا يتخلَّى في مسار كشف هذه النسبة المُومَى إليها عن تطبيق نزعته الحسِّيَّة، فيطرح نسبة التوالي - التي هي أمر يخضع للملاحظة والتجربة - كمقوِّمٍ أساسيٍّ للعلِّيَّة، حيث يقول:
«[العلِّيَّة عبارة عن] شيء متقدِّم على شيء آخر ومجاور له، وكل الأشياء المشابهة للشيء المتقدِّم متقدِّمة ومجاورة للأشياء المشابهة للشَّيء المتأخِّر». ثم يُردف قائلاً: «العلَّة شيء يأتي تبعاً له شيءٌ آخر»[7]. ولكنّ هيوم سرعان ما يدرك أنَّ التعريف المذكور أعلاه قد تجاهل عنصر الضرورة الذي يشكِّل مكوِّناً أساسيَّاً في العلاقة العلِّيَّة فيبادر فوراً إلى تعديل التعريف بما لا يتماشى مع رؤيته الحسِّيَّة ويقول: «[العلَّة شيء يأتي بعد شيء آخر] بحيث لو لم يكن الشيء الأول لما كان الشيء الثاني على الإطلاق»[8].
ولكن هل يمكن إرجاع هذا الإدراك عن العلِّيَّة إلى الانطباع وفق ما تبنَّاه هيوم من نظريَّته الإبستمولوجيَّة؟ وإذا لم يكن ذلك ممكناً فهل يمكن الالتزام فعلاً بأنَّ العلِّيَّة هي إدراك فارغ لا يتضمَّن معنىً من المعاني؟ في الواقع، لم يهمل هيوم مثل هذا السؤال الذي كان من شأنه أن يُقوِّض صرحه المعرفيَّ، فعالج الموقف بتقديم نظرة قابلة للتجربة عن فكرة الضرورة في مبدأ العلِّيَّة، وربط بين إدراكنا لها والعادة، وقال: «متى ما ظهرت علَّة فإنَّها تنقل أذهاننا عن طريق نقلة تعويديَّة إلى تصوُّر المعلول. إننا نجرِّب مثل هذا الانتقال التعويديّْ»[9]. وهذا يعني أنَّ الضرورة العلِّيَّة لديه لا تعدو كونها ضرورةً ذهنيَّةً تُفرض على أذهاننا من المشاهدة المتكرِّرة لتعاقبٍ وعلاقةٍ دائمة بين شيئين. والنتيجة الأخيرة التي ينتهي إليها في تعريفه لأصل السببيَّة هي كما يلي:
«العلَّة شيءٌ يأتي في أثره شيءٌ آخر، وظهوره ينقل الفكر دوماً إلى ذلك الشيء الآخر»[10]، ويقول في "رسالة في الطبيعة البشريَّة": «العلَّة عبارة عن شيء متقدِّم على شيء آخر ومجاور له يتَّصل به بحيث يُضطرُّ الذِّهن بتصوُّره لأحدهما أن يصنع تصوُّراً للآخر، وبانطباع أحدهما أن يصنع تصوُّراً أكثر حيويَّة للآخر»[11].

الاستنتاج العلِّيّْ
 شوكة هيوم (Hume’s fork) تعبير أطلقه الفلاسفة على تقسيمه للمعرفة إلى فئتين منفصلتين تختصُّ الأولى بالعلاقات بين الأفكار (relations of ideas)، والثانية بأمور الواقع (matters of fact). أمَّا العلاقات بين الأفكار فهي القضايا التي تبحث في ربط العلاقات الضروريَّة بينها، ويمكن تصديقها بنحوٍ شهوديٍّ أو برهانيٍّ يقينيٍّ من دون الرجوع إلى الطبيعة كعلوم الهندسة والجبر والحساب. فقضيَّة (مربَّع وتر المثلَّث القائم الزاوية يساوي مجموع مربَّعات الضلعين الآخرين) تعبِّر عن علاقة ضروريَّة بين هذه الأشكال من دون الرجوع إلى العالم الخارجيِّ للتأكُّد من صحَّتها، لكونها  قضايا قطعيَّة وبديهيَّة حتى لو لم يكن هناك مثلَّث في العالم. وأمَّا القضايا المتعلِّقة بأمور الواقع فهي ليست بالجزم الذي عهدناه في الفئة الأولى، وأدلَّتنا على صحَّتها، مهما كانت قويَّة، ليست شبيهة بماهيَّة أدلَّة العلاقات بين الأفكار؛ والدليل على ذلك أنَّ خلاف أيِّ أمر من الأمور الواقعيَّة شيء ممكن لا تناقض فيه. فقضيَّة (الشمس ستشرق غداً) تعبِّر عن قضيَّة يمكن إنكارها من دون أن يستلزم ذلك تناقضاً، وبعبارة أخرى ليست قضيَّة (الشمس لن تشرق غداً) أقلَّ عقلانيَّة من الأولى، ويمكن التسليم بصدقها من دون أن ينطوي ذلك على تناقض؛ وعليه، يستحيل إقامة البرهان على صحة أحدهما أو عدم صحته[12].
في ضوء هذا التقسيم الثنائي، يعتقد هيوم بأنَّ استخدام الاستنتاجات العقليَّة لا يتأتّى إلَّا في ما يختصُّ بالعلاقات بين الأشياء من قضايا الرياضيَّات والمنطق، والسمة البارزة لهذه القضايا هي أنَّها لا تحقُّق لها في العالم الخارجيِّ، ولكن استخدام هذا المنهج في القضايا المتعلّقة بأمور الواقع هو استخدام خاطئ ومرفوض؛ لأنَّها ليست قضايا ضروريَّة ويمكن فرض صحة نقيضها، إنَّما هي غير قابلة للبرهان ولا يجري فيها المنهج العقلي بل يقتصر الطريق لإثباتها على المشاهدة والتجربة، فقضيَّة (الفحم أسود) مثلاً يمكن التأكُّد من صحَّتها من خلال المشاهدة المباشرة.
 تأسيساً على ما تبنَّاه من موقفٍ تجاه أمور الواقع، يرفض هيوم بصرامة إمكانيَّة إقامة البرهان على وجود الله - سبحانه وتعالى- ويعتبر كلَّ المحاولات عبثيَّة وبلا طائل، لأنَّ قضيَّة (الله موجود) ليست ضروريَّة الصدق، ويمكن أن نفرض الوجود بمعزل عن الله من دون إيجاد أيِّ تناقض، فتكون القضيَّة المذكورة من سنخ أمور الواقع التي لا سبيل للتأكُّد من صحَّتها إلَّا المشاهدة. وقد أشار في كتابه عن عدم جدوى المنهج العقليِّ في القضايا العقائديَّة حيث قال:
"لنمسك بأيدينا - مثلاً - كتاباً في علم الكلام أو كتاباً مقرِّراً في ما بعد الطبيعة لنرى إن كان فيه استدلال تجريديٌّ متعلِّق بالكمِّ أو العدد؟ فإن لم يوجد، فلنرَ هل فيه استدلال تجريبيٌّ متعلِّق بما له تحقُّق في العالم الخارجيِّ، فإن لم يوجد، فلنجعله حطباً، فإنَّه ليس فيه حينئذٍ إلَّا سفسطة ووهم"[13].
والسؤال الذي يطرح هنا هو: كيف يمكن الحكم حول القضايا الواقعيَّة التي لا يمكن تقييمها بالمشاهدة المباشرة لعوامل مختلفة؟. جواباً على هذا  يقترح هيوم منهجاً للحكم على هذه القضايا يسمِّيه المنهج التجربيَّ أو منهج الاستنتاج العلِّيّْ.

الضرورة عند ديفيد هيوم
لقد مرَّ بنا سابقاً أنَّ هيوم يعتبر الضرورة في الخارج أمراً لا يمكن إرجاعه إلى الانطباع، ويفسِّرها في مبدأ السببيَّة بأنَّها ضرورة ذهنيَّة ناشئة من العادة وقائمة على أساس قانون التداعي، وقد أصبح موقفه هذا مثاراً للخلاف بين من تأخَّر عنه، فظهر اتجاهان رئيسان في تحديد ما قصد به من إنكار الضرورة الخارجيَّة. فالاتِّجاه الأول، وهو الواقعيَّة التشكيكيَّة (skeptical realism)، يذهب إلى أنّ هيوم يؤمن بوجود قوى خفيَّة (real power) في الطبيعة إلَّا أنَّ الإنسان عاجز عن إدراك حقيقة هذه القوى[14]، بينما الاتِّجاه الثاني، وهو الإسقاطيَّة (projectivism)، يذهب إلى أنَّ السببيَّة ليست سوى مقارنة زمنيَّة بين الأشياء تدفع الذهن إلى انتزاع العلاقة الضروريَّة بينهما[15].
ومهما كان موقف هيوم من السببيَّة الخارجيَّة فهو كفيلسوف طبيعيٍّ يُرسي دعائم منهجه في ما قدَّمه من إيجاد علاقة ذهنيَّة بين العلَّة والمعلول، ويُسمِّي ذلك - كما مضى - بالاستنتاج العلِّيِّ. وفي هذا الاستنتاج ننتقل، بالاعتماد على العلاقة العلِّيَّة التي تتجلَّى لنا بعد المعاينة المتكرِّرة للاقتران والتعاقب بين شيئين أوأكثر، من وجود العلَّة إلى وجود المعلول أو صفات المعلول، وبالعكس. هذا الانتقال من أحد طرفَيْ العلاقة العلِّيَّة نحوالطرف الآخر هو انتقال طبيعيٌّ قائم على مبدأ التداعي أوالتخاطر. بداية هذا الاستدلال تتمثَّل في وجود انطباع حسِّيٍّ حاضر، أو انطباع موجود في الذاكرة، يؤدِّي عبر النقلة الذهنيَّة إلى تصوُّرشيءٍ آخر[16].

كيف يمكن تبرير الاستنتاج العلِّيّْ؟
من المفيد الإشارة إلى أنَّ العلاقة السببيَّة لدى هيوم تحكي عن ضرورة ذهنيَّة بين العلَّة والمعلول ولا تعكس ضرورة خارجيَّة، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن نحكم على الواقع من خلال الاستنتاج العلِّيِّ الذي يقترحه؟
لا يمكن ردم هذه الهوَّة بإلحاق مقدِّمة معيَّنة، وتلك المقدِّمة هي فكرة أنَّ (المستقبل سيكون وفق ما عليه الماضي)، أو (الطبيعة واحدة دائماً)، لنقول بأنَّنا شاهدنا في الماضي دائماً الشيء (أ) والشيء (ب) مقترنين أو متعاقبين، ولأنَّ المستقبل سيكون وفق ما عليه الماضي، أو لأنَّ الطبيعة واحدة دائماً، ففي المستقبل أيضاً متى ما شاهدنا الشيء (أ) يمكننا استنتاج أنَّ الشيء (ب) موجود برفقته، أو إذا شاهدنا الشيء (ب) كان بوسعنا استنتاج أنَّ الشيء (أ) موجود أيضاً. إنَّ هاتين المقدِّمتين نفسيهما من أمور الواقع بحيث لا ينطوي فرض نقيضهما على تناقض، فيمكن أن نفترض أنَّ (المستقبل لا يكون وفق ما عليه الماضي)، أو (أنَّ الطبيعة ليست واحدة دائماً)، من دون أن نرتكب تناقضاً؛ وعلى ذلك فلا يسعنا إثباتهما إلَّا باستخدام الاستنتاج العلِّيِّ، ولكن تبرير هذا الاستنتاج يتوقَّف على صدقهما، وهذا يعني أنَّ ردم الهوَّة القائمة في الاستنتاج العلّي بواسطتهما ينطوي على الدور[17].
بناءً على ما سلف، فإنَّ السؤال الأساسي هو: إذا لم يكن بوسعنا إقامة دليل على مبدأ رتابة الطبيعة بأيِّ شكل من الأشكال، فما هو مسوِّغنا في أحكامنا على الأمور غير المشاهَدَة استناداً إلى الأمور المشاهَدَة؟ وكيف يبني هيوم استدلاله العلِّيِّ على منهج يستبطن مفارقة منطقيَّة؟
 الإجابة عن هذا السؤال نجدها في النزعة الطبيعيَّة لهيوم، فرغم أنَّه فيلسوف شكَّاك من الوجهة المعرفيَّة إلَّا أنّه لا يسمح بمخالفة قانون الطبيعة من الناحية الوجوديَّة، وهو يعتقد أنَّ الطبيعة حكيمة، وسلوكها حكيم، ولا يستطيع البشر اجتناب ما تفرضه علينا. لقد سلَّحتنا مسبقاً بمبدأ العلِّيَّة، ولا يجوز لنا - ككائنات طبيعيَّة - أن نعارض ما تفرض علينا"، وهكذا لا يبدو تبريره  لمبدأ العلِّيَّة والاستدلال العلِّيِّ تبريراً منطقيَّاً معرفيَّاً، بل هو تسويغٌ طبيعيّْ[18].

ملاحظات نقديَّة على رؤية هيوم:
 ينبغي القول أنَّ رؤية هيوم بأنَّ كلَّ فكرة لا بدَّ من أن تكون مسبوقة بالانطباع هي رؤية لا غبار عليها في حدِّ ذاتها، ونحن نعتقد أيضاً بأنَّ جميع أفكار الإنسان ترجع في نهاية المطاف إلى إدراكاته الحسِّيَّة، وهذا ما أشار إليه صدرالمتألِّهين حيث قال: «فاعلم أنَّ النفس إنَّما تعرف الحقائق الكلِّية من إعداد الجزئيَّات بوسيلة إدراك الحواسِّ؛ لأنَّ النفس في أول نشأتها في درجة الحواسِّ، ثمّ ترتفع إلى درجة التخيُّل، ثمَّ التعقُّل، ولهذا قيل: من فَقَدَ حسَّاً  فَقَدَ علماً»[19]. بيد أنّ ما نؤاخذ عليه هيوم هو أنَّ الحسَّ لا يقتصر على الظاهر بل يشمل الباطن أيضاً، وبعبارة أخرى إنَّ المراد من الإدراك الحسِّيِّ - الذي بنى عليه هيوم برهانه - هو الإدراك الجزئيُّ الذي لا ينحصر حصوله بالحواسِّ الظاهرة، فكما أنَّ بعض الأفكار تنتج من الإدراك الحسِّيِّ المباشر للواقع الخارجيِّ، كذلك ثمة أفكار تنتج من خلال الحسِّ الباطن أو ما نسمِّيه بالعلم الحضوريِّ، ورغم أنَّه لا ينكر العلم الحضوريِّ، بل قد يرجع بعض الانطباعات والأفكار إليه، فهو أخطأ أحياناً عندما أغفل إمكانيَّة إرجاع بعض الأفكار- ومنها العلِّيَّة - إلى هذا العلم. والصحيح هو ما قاله الشهيد المطهَّري (ره) من أن الذِّهن يعثر ابتداء على نموذج  العلَّة والمعلول في داخل النفس فينسج تصوُّراً عنه، ثمَّ يقوم بتعميم هذا التصوُّر وبسطه، ويبني بهذا البيان تصوُّر العلِّيَّة على أساس العلم الحضوريّْ[20].
 يقسِّم هيوم الإدراكات البشريَّة إلى الانطباعات والأفكار، ويحكم بأنَّ جميع الإدراكات لا بدَّ من أن ترجع بشكل من الإشكال إلى انطباعٍ‌ ما، وإلا فهي مفاهيم فارغة وعديمة المعنى. وهنا نستوقفه ونسأله عمَّا إذا كان يمكن إرجاع مفهومَيْ «الانطباع» الفكرة» بوصفهما مفهومين ذَوَيْ معنى إلى الانطباع - بحسب منظومته المعرفيَّة - أم لا؟! وإذا أرجعهما فنسأله عن مصدر ذاك الانطباع أيضاً، وهكذا يتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية؛ وهذا يعني أنَّ نظريته تنطوي على مفارقة ذاتيَّة.
ليس هناك مُلازَمة بين عجز الإنسان من إيجاد، أو عدم إيجاد، انطباع يمكن إرجاع الفكرة إليه، فامتناع الكشف عن الانطباع المرجوع إليه لا يدلُّ على أنَّه غير موجود، وهذا الأمر ينمُّ عن وجود هوَّة إبستمولوجيَّة في نظريَّة هيوم.
لقد كان هذا الفيلسوف يعتقد بأنَّ العلاقة السببيَّة لا تندرج تحت قسم «العلاقات بين الأفكار» الذي هو قضايا يقينيَّة ولا تقبل الخلاف، بل إنَّها من سنخ أمور الواقع التي لا ينطوي فرض عدم صحَّتها على تناقض. هذا الرأي ناقشه الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه "الأُسُس المنطقيَّة للاستقراء"، مناقشة جادَّة، واعتبره خطأ ناشئاً من عدم التمييز بين مبدأ العلِّيَّة وعلاقاتها القائمة بين الأشياء، وأراد بمبدأ العلِّيَّة المبدأ القائل: (إنَّ لكلِّ حادثة سبباً)، وأراد بعلاقات العلِّيَّة، العلاقات القائمة بين الحرارة والنار، أو بين الغليان والتبخُّر، أو بين أكل الخبز والشبع. ويضيف مردفاً: «إنَّ الاتجاه العقلي على الصعيد الفلسفي الذي يُسبغ على العلِّيَّة طابعاً عقليَّاً قبْليَّاً، يريد بذلك أنَّ مبدأ العلِّيَّة من القضايا التي يدركها العقل بصورة قبْليَّة مستقلَّة عن التجربة؛ ولا يدَّعي أنَّ تلك العلاقات الخاصَّة  بين الحرارة والتمدُّد، أو بين الغليان والتبخُّر، يدركها العقل بصورة قبْليَّة »[21].
على هذا الأساس، فإنَّ ما أدلى به هيوم من براهين بإنكار مبدأ السببيَّة، إنما تنكر عقليَّة علاقات السببيَّة من دون أن يعارض موقف الفلسفة العقليَّة من مبدأ العلِّيَّة.
يحاول هيوم من خلال تقديم تفسيره عن العلِّيَّة إنكار العلاقة الضروريَّة الخارجيَّة، بينما ترتكز نظريَّته على قبول مبدأ العلِّيَّة في الخارج، حيث يصرِّح بأنَّ فكرة العلَّة تنتج من العادة التي هي أيضاً معلول للمقارنة الدائمة بين الأشياء. وإلى ذلك أشار برتراند راسل بقوله إنَّ هيوم يتوسَّل باستدلال مبرَّر ومقبول إلى حدٍّ ما، ويُوحي بأنَّه ينتقد مبدأ العلِّيَّة، بينما يفعل ذلك اعتماداً على هذا المبدأ، فمحصِّل كلامه هو أنَّ لفكرة العلِّيَّة في أذهاننا سبباً وهو الاعتياد، الذي هو الآخر معلول لتعاقب الأشياء بشكل متكرِّر[22].
كذلك يوجِّه عالم الرياضيَّات الشهير ألفريد نورث وايتهيد، الإشكال نفسه إلى هيوم، قائلاً إنَّ خطأه يكمن في أنَّه ينظر إلى العلِّيَّة عبر الحوادث الخارجيَّة، ومن الواضح أنَّنا عندما ننظر إلى كُرات البليارد لا نرى إلَّا التوالي من دون أن نجد أيَّ تأثير أو ضرورة في ذلك، بيد أنَّنا لو رجعنا إلى أنفسنا، لشعرنا - على العكس ممَّا يقول هيوم - بوجود نوع من التأثير والتسبيب في أنفسنا، والدليل على ذلك أنَّ هيوم نفسه يعتبر فكرة العلِّيَّة مُسبَّبة من العادة وليست العادة إلَّا واقعاً نفسيَّاً يستتبعه عدد من المعلولات[23].

------------------------------------
[1]- أحوال و آثار و آراء فرانسيس بيكون، جهانگىرى محسن، طهران، شركت انتشارات علمى و فرهنگى، ص127، نقلاً عن الأروجانون الجديد.
[2]- جرىان‌هاى بزرگ در تاريخ انديشه غربي، بومر، فرانكلين لوفان، ترجمة: حسين بشيريَّة، طهران، مركز بازشناسى إسلام وإيران،1978، ص410.
[3]- Isaac Newton,The Principia: Mathematical Principles of Natural Philosophy,Translated by I. BernardCohen &Anne Whitman, University of California Press (1999), Page 943.
[4]- فردريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، ترجمة: محمود سيد أحمد، ج5، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى، 2003، ص334.
[5]- David Hume, Enquiries Concerning the Human Understanding and Concerning the Principles of Morals, 1989, Page 175.
[6]- Hume, David, A Treatise of Human Nature, 1978, Oxford, Claredon press, Introduction (Page.5).
[7]- David Hume, Enquiries Concerning the Human Understanding and Concerning the Principles of Morals,Page 76.
[8]- Ibid, Page 76.
[9]- Ibid, Page 77.
[10]- Ibid, Page 77.
[11]- Hume, David, A Treatise of Human Nature, Page 170.
[12]- David Hume, Enquiries Concerning the Human Understanding and Concerning the Principles of Morals,Page 25- 26.
[13]- David Hume, Enquiries Concerning the Human Understanding and Concerning the Principles of Morals, Page.165.
[14]- طرح الفيلسوف الإسكتلندي كيمب سميث (Kemp Smith) هذا التفسير للمرة الأولى في كتابه (The Philosophy of David Hume).
[15]- طرح الفيلسوف البريطاني سيمون بلكبيرن (Simon Blackburn) هذا التفسير لأول مرة في كتابه (Hume and Thick Connexions).
[16]- محمد فتحعلي خاني، فلسفه دىن دىوىد هىوم، قم، پژوهشگاه حوزه و دانشگاه، الطبعة الأولى، 2011، ص119.
[17]- David Hume, Enquiries Concerning the Human Understanding and Concerning the Principles of Morals, Page 35 -36.
[18]- Ibid , Page 37- 38.
[19]- ملا صدرا، الشواهد الربوبيَّة، مشهد، جامعة مشهد، الطبعة الثانية، 1981، ص302.
[20]- السيد محمد حسين الطباطبائي، أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، تعليق: مرتضى مطهَّري، ترجمة:عمار أبورغيف، المؤسَّسة العراقيَّة للنشر والتوزيع، ص387.
[21]- محمد باقر الصدر، الأُسُس المنطقيَّة للاستقراء، بيروت، العارف للمطبوعات، 2008،  ص96.
[22]- جين وال،بحث در مابعد الطبيعة، ترجمه (إلى الفارسيَّة): كريم مجتهدي،  طهران، خوارزمي،1991، ص314.
[23]- المصدر السابق، ص325.