البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

منزلة التأويل في منهج البحث العلمي

الباحث :  عمر الأمين أحمد عبد الل
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  19
السنة :  السنة الرابعة -ربيع 2020 م / 1441 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 14 / 2020
عدد زيارات البحث :  767
تحميل  ( 404.215 KB )
يطرق هذا البحث واحداً من أبرز مشاكل الهرمنيوطيقا في التفكير الغربي، وهي مشكلة المنهج المؤسس للبحث العلمي في مجمل العلوم الإنسانية وفي حقوقها الفلسفية.
يذهب الباحث إلى تحليل وتفكيك ونقد ذهنيتي التكذيب والتصديق المستمدة من المنهج الأرسطي، ويبيِّن المغالطات المنهجية التي حكمتها، ولا سيما تلك التي حكمت المذهب العقلاني بوصفه مذهباً حاكماً على فكر الحداثة، ويرى الباحث أن هاتين الذهنيتين اللتين ترسَّختا مع الكوجيتو الديكارتي، أدّتا إلى تهافت المنهج سواء في معالجة الظواهر التاريخية، ولجهة البحث في القضايا الميتافيزيقية وعلم الوجود.

المحرر
--------------------------------------------------
من قبل أن نضع المفهوم النظري لمصطَلَحيْ التأويل ومنهج البحث على مقعد الفحص، نرانا مسوقين لفتح مساجلة منهجية مع أكاديميّي عالمنا المعاصر. في هذا المورد نشير الى أنّ هنالك متطلبين منهجيين أساسيين مُغيّبين تغييباً كاملاً، هما: التثبّت من الهوية المباحثية أولاً، ثم تعيين موقع أقدام الباحثين من الظاهرة المراد بحثها ثانياً. وعليه فإنّ الوقوف على ضمان التثبّت من هويّة الباحث وتعيين موقع أقدامه من الظاهرة البحثية هو أوجب موجبات السير على منهج يدرأ دواعي الغفلة المباحثية منذ البداية، فالخوف كلّ الخوف من غفلة بحثية درجت على الظهور بين أيدي دهاقنة البحث العلمي المعاصرين تجعل من حالة التثبّت من هويّة الباحث ومعرفة موقع أقدامه من الظاهرة البحثية شأن لا يؤبه له كثيراً إلا عند تحديد موقع الباحث ومكانته بين دوائر الاختصاص المباحثي؛ هويّة الباحث المقصود التثبّت منها هنا لا تنبع من واقع فعالوي إختصاصي، بل من كونها ضماناً لفصل الذاتي عن الموضوعي في شأن الرؤى البحثية وفي شأن مرجعية هذه الرؤى؛ لأنّ خلل الذاتي والموضوعي لا شأن له بتأهيل الباحث معرفياً بقدر ما هو ناتج عن اشتباك قائم يقع بين الباحث من ناحية وقضاياه البحثية من ناحية ثانية، ورؤيته ومعتقديّته الذاتيتين من ناحية ثالثة. بينما يظلّ ما يفترض رؤيته من الظاهرة المراد بحثها هو أن تتّضح العلاقة ما بين الباحث والظاهرة المراد بحثها بحيث يجاب على أسئلة من شاكلة: هل يملك الباحث او المبحوث أيهما للآخر؟ إذ أنّ الملكية هنا تعني سيطرة المالك على حواس المملوك بحيث تنعدم إمكانية صدور ما بإمكاننا أن نعتبره حكماً صالحاً للحالة أو عليها. أو على أقلّ تقدير تحديد العلاقة ما بين الظاهرة محلّ البحث والباحث على وضوح يجنّب الإنحياز المباحثي مع أو ضد. أما تعيين موقع أقدام الباحث فذلك يعني مكان وقوف هذا الباحث منسوباً إلى الظاهرة البحثية، أي تحديد ما إذا كانت الظاهرة المراد بحثها تحيط بالباحث أم يحيط هو بها، أي يقع داخلها أم خارجها.

ذهنيَّتا التكذيب والتصديق في المناهج المعاصرة
تكشف الهوية المباحثية عن وجود ذهنيتين لا ثالث لهما ضمن الذهنيات الشائعة في عالمنا المعاصر. وهاتان الذهنيتان تتحكّمان في طريقة رؤية الباحث للظواهر، سواء أكانت ضمن ظاهرات الوجود المادي، أو ضمن ظاهرات مستترة في وجود ما يعرف بعالم ما وراء الطبيعة. الأولى هي ذهنية اقترح تسميتها بالذهنية التصديقية. أما الثانية فهي مقابلتها التي ستسمّى بالتالي بالذهنية التكذيبية.
أ- الذهنية التصديقية، هي ذهنية تحبّذ السير في طريق يفترض أصحابها أنّه طريق قصير وفعَّال، أي إنّه طريق مستقيم ومباشر. إذ تقوم هذه الذهنية على فرضيّة النزول عند حقيقة الإيمان بانتصار مطلق الخير في الوجود. ويفترض أهل هذه الذهنية أنّها تقوم على قناعة أنّ تداولها يسري بين من يفترض أن يكونوا صادقين أو صدّوقين، وهم من يفترض أنّهم يجيئون بالصدق، وبين صديّقين وهم الذين يصدّقون ما يجيئ به هؤلاء المفترض أنّهم صادقون.
ب- أما أهل الذهنية التكذيبية فهم الذين لا يحفلون بأي خبر أو معلومة، فيفترضون مسبقاً أنّها قول لا يمكن اعتباره من الحقائق ما لم يكن مصحوباً ببراهين ملموسة أو واضحة للعيان. ودأب الذهنية التكذيبية هو الشك التي تتّخذ منه هذه الذهنية طريقها إلى يقين لا يحدث إلا بالمرور عبر اختبار ذي براهين ذات ملموسية مفحمة لذهنيتهم. وهذا ما يمثّل عندهم المنهج الوحيد أو الطريق الصحيح لمعرفة الحق، والذي هوعندهم وليس غيره هو العلم بحكم أنّه مبرهن عليه ببراهين واضحة وملموسة.
لكن، من هنا تبدأ طرق أشواك المعرفة بالظهور متزامنةً مع ورود أسئلة ابتدائية من شاكلة: ما هي دواعي وجود هذه الذهنية أو تلك؟ يأتي مثل هذا السؤال نتيجةً لتخفِّي الهدف البحثي في هذه البداية المباحثية الباكرة وراء ذاتية تمظهر الظواهر والتي لا تدلّ على حقيقتها التكوينية وإنّماعلى تاريخها ومردود فعاليّتها. مع ذلك فالإجابة عليه ليست صعبة، إذ أنّ المعلومة ـ وهي بالطبع تستبطن العلم في بكورته كمعرفة ذاتية ـ ما هي إلا خبر ينبغي التعامل معه إما بالتصديق أو بالتكذيب. فالعلم بحسب طبيعة ذاتية معرفيّتنا يتشظّى إلى معلومات، ولا بد لهذه المعلومات من مستقبل في فهومنا يتمثّل حسب هاتين الذهنيتين عبر عمليتي رفض أو قبول تلك الأخبار ذات الطبيعة المعلوماتية، أي تصديقها أو تكذيبها.
ويبدو طبيعياً أن يكون لأيّ من هاتين الذهنتين طريقته وأسلوبه في التعامل. لذلك فهناك أداتان تتمايزان بحسب الذهنية التي تمثّل أياً منهما. فطريق أهل الذهنية التصديقية يبدأ بحمل النفس على يقين ينفي الشك، وذلك نتيجة لوثوق أهل هذه الذهنية في مطلق الحق والخير. ويبدو هذا المنهج واضحاً في مناهج التديُّن، فالصلاة مثلاً تمثّل ضمن منهج التصديقيين وسيلة سير منهجي إلى مصافّ اليقين بمطلق الخير الذي يفني الشكَّ ويبدِّده، وتتبع للصلاة بقية العبادات والتي يمكن اعتبارها كلّها ذات فعل يفضي إلى تهيئة (لب) السائر عليها إلى ورود معارف يؤدّي العمل بها إلى بيان ما هو غير معلوم مما هو متيقّن من كونه خيراً مدّخر.
أما عند أهل الذهنية التكذيبية فقد ارتبط أيّ تحقيق عن ماهيّة أوشكل أي وجود أو عن طبيعته بما يفحم ذهنية الشاك بالبرهان الظاهر حسيّاً، وهو ما درج البعض على تسميته بالمنهج التجريبي، وهو ما يمثّل عندهم المنهج العلمي الوحيد الذي يعترفون بنتائجه[2].
وبالطبع ففي منهجية التصديقيين منزلقات، وكذلك فلمنهج التكذيبيين منزلقات أكثر خطورة ربّما يؤدّي الوقوع في أيّ منها الى خللٍ معرفي بالغ التعقيد يصعب الخروج منه. ففي المنهج التصديقي قد يبدو للبعض أنّ عدم العناية بفهم منطق بنية الظواهر مع عدم العناية باستكشاف هذه البنية كأنّ ما في ذلك من تسليم كامل عبر إيمان نافٍ للشك دون استناد الى معرفة مسبّبات، فذلك ما يقدح في شكلانية ذلك المعتد في تهمه بأنّه يتحصّن بالجهل اكتفاءً بعلم العليم أو إفتاءً بعدم الإختصاص.
أما في منهج الذهنية التكذيبية فإنّ اختلاطاً يقع فيما بين العلم بطبيعة الأشياء وبين التجريب اللازم لمعرفة هذه الطبيعية والذي يحمل في أحشائه عناصر البرهنة اللازمة لرضوخ هذه الذهنية، والعلم بطبيعة الأشياء، كما اتفقنا أعلاه، هو علم بحقائق موضوعية عن ظواهر طبيعة هذه الأشياء ليست مربوطة بالضرورة بأيّ تجريب قد يؤتى به لأجل التعرّف عليها. لذلك، فمبحوثات الظاهر في منهج الذهنية التكذيبية تحمل حدّين متباينين: أولهما حدّ طبيعة ما تودّ هذه الذهنية معرفته، وثانيهما هو حدّ التجريب لمعرفة هذه الطبيعة أو البرهنة على وجودها. الحدّ الأول لا يخرج عن تعريفنا السابق للعلم أنّه خبر ذو كينونة موضوعية لا ترتبط بالضرورة بمعرفيّتنا. أما الثاني وهو التجريب فهو معرفة بحكم أنّه عمل مستحدث. وفي هذه النقطة تبيّن (كوكة) ما يسمّى بالمنهج المادي التجريبي. فينبع في أرجاء القضية هنا أزمة موضوع وأزمة ذات تتنافى وأيّ معرفيّة لاحقة فتمحقها محق الجهل والظلم، وأنّ العلم الذي هو تنوير بموضوعية طبيعة الظواهر، أصبح مربوطاً بالتجريب والبرهنة وهي علمنا. فاختلطت معرفتنا بطبيعة الأشياء وتداخلت مع تجريبنا العلمي، فاكتست موضوعيّة طبيعة الأشياء ظلماً وبتاناً بصفة ذاتية معرفيّتنا ذات الإشكاليات الكبيرة التي ناقشنا أمرها مسبقاً في هذا البحث. وكما سبق فقد أوضحنا كيف كان اختلاط العلم بتجريبنا قد قاد إلى انتاج نظرية واحدة لكليهما هي (نظرية المعرفة) أو ما يسمى بـ(الابستومولوجيا) والتي بها يأخذ العلم صفته في عالم الأكاديميا التي لا تعرفه إلا عبر سلوكه التراكمي... فهذا التخليط يلعب بلا شك دوراً مؤثّراً في منهج البحث، لا أرى تطرّقاً مباحثياً لمفهومه، ولا حتى عناية بطرحه لدرجة أن كان قولي باختلاط الذاتي التجريبي بالموضوعي ذي الاستقلالية هو نفسه خبر أثار في وجهي سخط الأكاديميين الأميركيين، فأشاحوا بوجوهم عنّي ولم يلتفتوا أو يسمعوا لقولي. والشاهد أنّ المعرفيّة الغربية، أي المعرفيّة الأوروبية، يركبها هذا التعامي عن مثل هذا الفحص المنهجي الهام. ويبدو لي هذا التعامي وما فيه من اعوجاج الموضوعي والذاتي في شأن العلم وشأن التجريب العلمي المعرفي لا يبدو كاعوجاج رقبة الجمل، فهو اعوجاج ثبت هنا أنّ صاحبه يمكن أن يراه، ولكنّها رؤية تحيط بها صعوبات جمة. فمثل هذا الاعوجاج يتمنّع ويتفلّت درجة احتياجه إلى شكلٍ للنفس قد لا يتأتّى الا كنتيجة لسبق عناية. وأتطرّق ثانياً في ختام هذه الجزئية لدواعي الوعي بتعيين موقع أقدام الباحث من الظاهرة البحثية فأقول: إنّ وقوع أقدام الباحث داخل الظاهرة البحثية أوخارجها فذلك ما يضعف من رؤية الثابت والمتحرّك في هذه الظاهرة. وأكثرها عند وقوع الباحث نفسه ضمن المتحرّك، فتتخفّى بالتالي حركته في ثبات ظاهري وتحرّك محجوب أو العكس بكون الباحث نفسه في حالة حركة دائمة أو ثبات دائم تبعاً لما يقع هو داخله. أوضح مثال على ذلك هو إنكار أهل مدرسة الاستنباط الأرسطي لظاهرة ثبات الشمس وتحرّك الأرض. تلك الظاهرة التي تعارض نتائج واضحة وملموسة لاستنباطات في بداهة معلومات أوّلية لأدوات الحس. لذلك فإنّه لا بد من معينات على أدوات الحس والملموسية المباشرة لمعرفة الثوابت والمتحرّكات، وتلك ترتيبات تحتاج لنظر وحسن منهجة مباحثية، لم يتيسّر رغم انقضاء قرون عديدة من التجريب الإنساني أمر تجاوز إشكالاتها الأساسية.

وهنا في مختلط الذاتي والموضوعي حيثما نعاني من صعوبة استقلال تصوّراتنا عن العلم وتفريقها عن حقيقته الظاهراتية، وفي معرض ضعف الفرز بين الثابت والمتحرّك يبدو ظاهراً هذا الخلل المنهجي الأوّلي الذي أشرنا إليه أعلاه. وتلك قضية لا مفرّ من مواجهتها ببعض من تركيز كشّافات مباحثنا للإضاءة حولها، ومن ثم توضيح ما يستتبع من إجراءات في شأنها على نحو يؤدّي إلى معرفة كيفية تحديد هويّة الباحث، وكيفية تعيين موقع أقدامه من الظاهرة المراد فحصها. وذلك شرطٌ مباحثي أوّلي بسيط لا يُعتنى به عادة في مناهج البحث العلمي المعاصرة، أدّى غيابه المتطاول إلى خللٍ أوّلي في بنية مناهج البحث العلمي وفي لاحق إجراءاته، ممّا أظنّ أنّه قد حان الأوان لتركيز الوعي به وبمتطلّباته، وهذا ما أود أن أناقشه في ختام هذا المبحث.

منهج البحث وطرق التأويل في اللغة والمصطلح والمفهوم
في اللغة، المنهج مسار؛ وهو طريق أو صراط أو جادة نسير عليها للوصول إلى منطقة ما، فإذا كان المنهج للبحث العلمي فهو مفترض أن يكون السير عليه مؤدّياً إلى غاية هي العلم. ولمّا كان العلم هو مسبور غور الظواهر الوجودية مادية كانت أم فوق مادية، فالمنهج يصير إذا ما يسار عليه من صراط أو جادة لسبر غور هذه الظواهر.ولنا هنا أن نتساءل: كيف يكون شكل السير لسبر غور هذه الظواهر؟...
غالباً ما تكون الإجابة نابعة من طبيعة الظواهر، ومن كيفية عملية السير لمّا نودّ معرفته عنها. فالظواهر هي إما ذات أشكال، ولها واقع تكويني، أو ذات مضمون أو معنى قد يبدو ظاهراً أو قد يستتر في باطن لا يتراءى بالضرورة في مرئيات أو ملموسات. وكلّما كان شكل الظاهرة ممّا يصعب حصره وقياسه يكون باطنها بالتالي ممعناً في التخفّي، فتوصف هذه الظاهرة بأنّها ذات تعقيد يعتري ظاهرها وباطنها. سبر غور الظواهر أياً كان ظهورها أوخفاؤها يقتضي حلحلة تعقيدات مكوّناتها، ومن ثم رؤية هذه المكوّنات في بسطتها الأولية، أي قبل أن تدخل في تركيبية معقّدة. لذلك فالمنهج هو طريقة لحلحلة هذه التعقيدات، والسير فيه يمرّ عبر تتبّع خيوط هذه الظاهرة عقدة عقدة، وتفكيكها أو نقض غزلها أو فلفلة عراها كي نرى مكوّناتها الأوّلية على بساطتها التكوينية الأوّلية.
فمثلاً، إنّ أسلوب التحليل الكيميائي للمركّبات يتمّ بتبسيط تركيبيّة هذه المواد بفصل مكوّناتها عن بعضها البعض للوصول إلى العناصر المادية بسيطة التكوين، وذلك ما قاد في تاريخ التجريب الكيميائي إلى تصنيف المادة إلى عناصر ومركّبات، ثم تصنيف هذه العناصر إلى أشكال ظهورها الثلاث: الصلبة والسائلة والغازية.
وممّا هو معروف أيضاً أنّ تحليل المركّبات الكيميائية عرف تاريخيّاً بأنّه أداة معملية تتّصف بأنّ أسلوبها في سبر غور ظواهر المادة هو أسلوب ملموسية نافية للشك ومتقيّدة بالبراهين المعملية الظاهرة. لكن وبدخول الباحثين حقل علمنة بعض المعارف خارج نطاق الملموسيّة المعملية، كالمجتمع مثلاً، فقد ظهرت بعض المدارس الفلسفية المادية التي تتّخذ من أداة التحليل أسلوباً لكشف تعقيد وتركيبية الظواهر المجتمعية، فكان أن جرى التصريح بكون أداة التحليل قد تمّ اعتمادها كمنهج علمي متكامل. وهذا بالطبع منحى تأويلي يُرى منه المجتمع كظاهرة ذات تعقيد ظاهري كما هي كيمياء المادة حيث يحتاج إلى تحليل، أو ربّما تفكيك لأجل رؤية مكوّناتها في بساطتها التكوينية الأوّلية من قبل أن يعتريها التعقيد.
وبملاحظة بعض العسف الذي سببه استناد منهج التحليل إلى ماديّة الظواهر معمليّة كانت أو طبيعية أو جغرافية أو تاريخية مجتمعية، فإنّ ما حمله القرن العشرين من تململ إزاء جمود أساليب ووسائل مادية التحليل قاد إلى بروز ما يمكن من سبر غور الظواهر المجتمعية ليس فقط في تاريخها المجتمعي كالسياسي أوالاقتصادي فقط، إنّما يمكن رؤيته في ظواهر مصاحبة يصعب تجميعها ضمن الملموسية المادية كمنطق تكوين اللغات، قاد هذا الاتجاه علماء اللغة الألمان مثل فيردناند دوسوسير الذي درس تطوّر اللغة ومدى محمولاتها من تراكيب تحوي رمزية تؤدّي إلى رؤية أوضاع مجتمعية بصورة مخالفة لما ألفته مدرسة التاريخ المباشرة في منهجتها وفق المنظور المادي. وقد تمّت تسمية دوسوسير وخلفاؤه بالبنيويين، ومبدئهم بالبنيوية، ومنهجهم بالمنهج (التفكيكي).

ومما هو في أهمية تقريب صورة الأداة البحثية لتصير منهجاً، فذلك قد يكون صادراً عن ضعف في تصنيف كليهما، الأداة والمنهج؛ فالتحليل هو تقنية علمية معوّل عليها أو هو أداة نستعملها ونحن نسير في طريق تبسيط الظواهر إلى أشكالها البسيطة الخالية من التعقيد. وهكذا يقودنا استعمالها مباشرة إلى السير ضمن حظيرة السائرين على دروب البحث والتقصّي. تلك العملية التي تعرف في مجملها بالسير على منهج البحث الضعيف التصنيفي الذي أشرنا سابقاً إلى أنّه يقع في تسمية المنهج باسم الأداة البحثية بدلاً من الأداة المستعملة في هذه العملية، فإذا ما كانت عملية تحقيق أو تقصِّي، مثلاً، باستعمال أدوات التحليل فلا ينبغي تسميتها بمنهج التحليل فنحل بذلك تسمية الأداة بدلاً عن قولنا إنّه منهج التحقيق.
وكما مرَّ معنا فإن حقيقة العملية التأويلية التي ننتهج مسلكها تكمن في تبسيط تعقيد الظواهر حتى نتمكّن من رؤيتها في بساطتها التكوينية. لذلك فهو مبرّر أن نذهب إلى تسميته بالمنهج التبسيطي. فتلك تسمية أكثر مواتاة، وأكثر إحاطة وأكثر إيفاء توضيحياً من استعمال الأداة المباحثية. وقد تقع تسمية التبسيطي نفسها في موقع ضعف بسبب عدم قدرتها على تمام الإحاطة بالأبعاد المصطلحية اللاَّزمة لتسمية المنهج. فالتبسيط كعملية قد تتّسم هي نفسها ببساطة تمنعها من هذه الإحاطة، وذلك بحكم أنّ البساطة التكوينية ليست بالضرورة مقابلاً موضوعياً يضاد الإزدواجية التكوينية. ذلك أنّه قد يكون مقبولاً وجود إزدواجية بسيطة التكوين، الأمر الذي يدخل تسمية منهج يبحث عن الأكثر في بساطته التكوينية في مأزق. وما هو مطلوب من صيغة منتهى البساطة أن تكون بمثابة العتبة التكوينية الأولى التي لا تحتوي غير البساطة الأوّلية الصرفة الخالية حتى من أبسط أشكال التعقيد. بناءً عليه تصير (الصيغة الأوّلية للبساطة التكوينية) هي المطلوب الوصول إليها بما يمكن من ربط العملية ربطاً اصطلاحياً محكماً في عملية البساطة الأولية والتي تعني مباشرة الرجوع إلى الأول الذي هو أبسط أشكال الوجود الظاهراتي. لذلك فإنّه ولكي نقصّر من طريق الوصول إلى صحيح تسمية تحمل الأبعاد المصطلحية اللازمة للعملية، فإنّه يستحسن تسميتها بمنهجية (تأويل الظواهر البحثية)، والتي تؤدّي مباشرة إلى معنى إرجاع الظواهر إلى أوّليتها الصرفة أو نهاية طريق بساطتها التي ربّما لا يكون الوصول إليه مضموناً في (المفكّك) أو (المحلّل) أكثر مما يكون مضموناً في حالة الأوّلية الصرفة الموجودة في المأوّل. وبلا شك فإنّ حالة الأولية البسيطة لا بد أن تكون حالة لازمة وضرورية تؤدّي إلى رؤية خيوط الظاهرة وهي خالية من التشابك في حالتها الأوّلية الصرفة. أي بحسب لغة الكيميائيين، مكوّنة من عناصر غير مركّبة التكوين، أي في أبسط أشكالها الخالية تماماً من أي شكل من أشكال التعقيد بسيطاً كان أم مزدوج التكوين.
بناءً عليه يصير منهج التأويل هو التسمية الصحيحة للمنهج العلمي الذي يفترض أن يكون طريقاً أو طريقة يمكن السير عليه من الوصول إلى حلحلة تعقيدات الظواهر البحثية باستعمال آليات تحليلية أو تفكيكية تعالج تعقيدات الوجود الظاهراتي. ويمكن بالطبع اعتماد الآليتين التحليلية والتفكيكية بعد تأويلهما، وذلك لأجل رؤية أصول فعاليّتهما. فالتفكيك عملية تتّصل بالبناء. والمبنى هو عبارة عن مركَّب وحدات بنائية في شكل لبِنات مرصوفة. وأما تركيبية البناء في واقعها فهي عملية لا تنفي بالضرورة تركيبية الوحدات البنائية الداخلة في تصفيف لبناتها. وذلك كمثال (الطوب) أو الحجر المقطّع في شكل قطع صالحة للاستعمال في البناء، فهذه كلّها ليست بالضرورة بسيطة التكوين بساطة مطلقة. فإذا ما رغبنا في معرفة الأصول التكوينية لها فلا بد أن نقوم بتحليل موادها الكيميائية للوصول إلى مركّباتها من العناصر بسيطة التكوين. ويصعب فصل الشكلي عن الجوهري في هذه الإجراءات، فما يبدو كإجراء شكلي مثل فحص تركيبية الوحدات البنائية، وهي تمثّل الآلية الفاحصة التي يُجرى عليها عملية التفكيك لا تختصر المسافة بين تفكيك التركيبية البنائية وتحليل مركّباتها بما في ذلك مركّبات وحداتها البنائية، وذلك بناءً على واقع وتاريخ تجريبية الشكلين الذي ربّما يبرّر موضوعيّة وجودهما. فقد انصرف التحليل إلى المركّبات الكيميائية لرؤية عناصرها، بينما طال التفكيك المؤسّسات كما هي مؤسّسة اللغة ذات التركيب المتكوّن من لبنات لوحدات مجتمعها البنائية. وبالطبع المؤسّسة أكثر تركيبية من المواد المرتّبة الداخلة في تكوينها. وقد تبدو هنا ضرورة وجود الآليتين ما يبدو أنّه تكامل بينهما في أداء واجب تبسيط تركيبية بنائية أو مركّبات المفحوصات. وذلك قد يوضح أهمّية كليهما ما يحتاج إلى تنظيم لجمعهما كليهما في المنهج التأويلي الذي يشمل كامل الحراك الفاحص من المعقّد ثم المزدوج إلى أوّلي التركيب.

المنهج المركَّب بوصفه حقلاً خصباً للتأويل
لا بد لنا ونحن نعمل على ربط المقود المباحثي إلى منهج التأويل، أن ننتبه لهذين المتطلّبين الذين ربّما يشكّل مقوداً آخر مهمّته تحصين المنهج من زلاّت أقدام الذهنية التكذيبية فيما تثيره من تخليط ما بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي حينما تنظر في جدل العلمي مع المعرفي. أو ما يقع عليها ممّا هو في خطورة خفاء الهوية المباحثية على كليهما، الذهنية التكذيبية وأختها التصديقية، فلا يتعرّفان على أناهما المباحثية ولا يتعرّفان كذلك على المكان الذي ينظر الباحث من موقع وقوفه عليه إلى الظاهرة البحثية. وقد سبق للشريف الحسن بن الهيثم (905م) أن عالج هذين المتطلّبين المنهجيين في كتابه الشهير (المناظير)[3] فأوضح في عبارات بالغة الرصانة العلمية، قدر ما تطيقه ذهنية القرن العاشر الميلادي من مفاهيم، المنزلقات المباحثية الجاثمة على طرائق البحث في ظل غياب تام لمنهج بحث علمي. ولم يكن للشريف الحسن بن الهيثم من ذهنية أنّ المتقدّمين من أهل النظر قد أمعنوا البحث عن كيفية إحساس البصر، وأعملوا فيه أفكارهم، وبذلوا فيه اجتهادهم، وانتهوا منه إلى الحد الذي وصل النظر إليه، ووقفوا منه على ما وقفهم البحث والتمييز عليه. ومع هذه الحال فإنّ آراؤهم في حقيقة الإبصار مختلفة، ومذاهبهم في هيئة الإحساس غير متّفقة، فالحيرة متوجّهة، واليقين متعذّر، والمطلوب غير موثوق بالوصول إليه. وما أوسع العذر مع جميع ذلك في التباس الحق وأوضح الحجة في تعذّر اليقين، فالحقائق غامضة، والغايات خفية، والشبهات كثيرة، والأفهام كدرة، والمقاييس مختلفة، والمقدّمات ملتقطة من الحواس، والحواس. التي هي العُدد، غير مأمونة الغلط، فطريق النظر مُعفَّى الأثر، والباحث المجتهد غير معصوم من الزلل، فلذلك تكثر الحيرة عند المباحث اللطيفة، وتتشتّت الآراء، وتفترق الظنون، وتختلف النتائج، ويتعذّر اليقين.
والبحث عن هذا المعنى مع غموضه وصعوبة الطريق إلى معرفة حقيقته مركّب من العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية، أما تعلّقه بالعلم الطبيعي فلأنّ الإبصار أحد الحواس، والحواس من الأمور الطبيعية. وأما تعلّقه بالعلوم التعليمية (الرياضيات) فلأنّ البصر يدرك الشكل والوضع والعظم والحركة والسكون، وله مع ذلك تخصّص بالسُّمُوت المستقيمة، والبحث عن هذه المعاني إنّما يكون بالعلوم التعليمية. فبحث صار البحث عن هذا المعنى مركّباً من العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية.
وقد بحث المتحقّقون بعلم الطبيعة عن حقيقة هذا المعنى بحسب صناعتهم، واجتهدوا فيه بقدر طاقتهم، فاستقرّت آراء المحصّلين منهم على أنّ الإبصار إنّما يكون من صورة ترد من المبصر إلى البصر، منها يدرك البصر صورة المبصر. فأما أصحاب التعاليم فإنّهم عنوا بهذا العلم أكثر من عناية غيرهم، واستقصوا البحث عنه، فاهتموا بتفصيله وتقسيم أنواعه، وميّزوا المعاني المبصرة، وعلّلوا جزئياتها، وذكروا الأسباب في كل واحد منها، مع اختلاف يتردّد بينهم على طول الزمان في أصول هذا المعنى، وتفرّق آراء طوائف من أهل هذه الصناعة. إلا أنّهم على اختلاف طبقاتهم وتباعد أزمانهم وتفرّق آرائهم متّفقون بالجملة على أنّ الإبصار إنّما يكون بشعاع يخرج من البصر إلى المبصر، وبه يدرك البصر صورة المبصر، وأنّ هذا الشعاع يمتدّ على سموت خطوط مستقيمة أطرافها مجتمعة عند مركز البصر، وأنّ كل شعاع يدرك به مبصر من المبصرات: فشكل جملته شكل مخروط، رأسه مركز البصر وبقاعدته سطح المبصر ـ وهذان المعنيان ـ أعني رأي أصحاب الطبيعة ورأي أصحاب التعليم، متضادان متباعدان إذا أخذا على ظاهرهما. ثم مع ذلك فأصحاب التعاليم مختلفون في هيئة هذا الشعاع وهيئة حدوثه. فبعضهم يرى أنّ مخروط الشعاع جسم مصمت مّتصل ملتئم. وبعضهم يرى أنّ الشعاع خطوط مستقيمة هي تطيق مثل هذا التعقيد المباحثي الذيي عتري علموية المنهج، إلا إذا ما كانت أجسام دقائق أطرافها مجتمعة عند مركز البصر، وتمتدّ متفرّقة حتى تنتهي إلى البصر، وأنّ ما وافق طراف هذه الخطوط من سطح المبصر أدركه البصر، وما حصل بين أطراف خطوط الشعاع من أجزاء المبصر لم يدركه البصر، ولذلك تخفي عن البصر الأجزاء التي هي في غاية الصغر، والمسام التي هي في غاية الدقة التي تكون في سطوح المبصرات. ثم إنّ طائفة ممّن يعتقد أنّ مخروط الشعاع مصمت ملتئم ترى أنّ الشعاع يخرج من البصر على خط واحد مستقيم إلى أن ينتهي إلى المبصر، ثم يتحرّك على سطح المبصر حركة في غاية السرعة في الطول والعرض لا يدركها الحس لسعتها، فيحدث بتلك الحركة المخروط المصمت. وطائفة ترى أنّ الأمر بخلاف ذلك وأنّ البصر إذا فتح أجفانه قبالة المبصر حدث المخروط في الحال دفعة واحدة بغير زمان محسوس. ورأى طائفة من جميع هؤلاء أنّ الشعاع الذي به يكون الإبصار هو قوة نورية تنبعث من البصر وتنتهي إلى المبصر، وبتلك القوة يكون الإحساس. ورأى طائفة أنّ الهواء إذا اتصل بالبصر قبل منه كيفية فقط، فيصير الهواء في الحال بتلك الكيفية شعاعاً يدرك به البصر المبصرات.

ولكل طائفة من هذه الطوائف مقاييس واستدلالات وطرق أدّتهم إلى اعتقادهم وشهادات، إلا أنّ الغاية التي عليها استقرّ رأي جميع من بحث عن كيفية إحساس البصر تنقسم بالجملة إلى المذهبين المتضادين اللذين قدّمنا ذكرهما. وكل مذهبين مختلفين إما أن يكون أحدهما صادقاً والآخر كاذباً، وإما أن يكونا جميعاً كاذبين والحق غيرهما جميعاً، وإما أن يكونا جميعاً يؤدّيان إلى معنى واحد هو الحقيقة، يكون كل واحد من الفريقين القائلين بذيَّنك المذهبين قد قصّر في البحث فلم يقدر على الوصول إلى الغاية وقصر الآخر عنها، فعرض الخلاف في ظاهر المذهبين، وتكون غايتهما عند استقصاء البحث واحدة. وقد يعرض الخلاف أيضاً في المعنى المبحوث عنه من جهة اختلاف طرق المباحث. وقد يعرض الخلاف أيضاً في المعنى المبحوث عنه من جهة اختلاف طرق المباحث، وإذا حقّق البحث وأنعم النظر ظهر الاتفاق واستقر الخلاف. ولمّا كان ذلك كذلك، وكانت حقيقة هذا المعنى مع اطراد الخلاف بين أهل النظر المتحقّقين بالبحث عنه على طول الدهر ملتبسة، وكيفية الإبصار غير متيقنة، رأينا أن نصرف الاهتمام إلى هذا المعنى بغاية الإمكان، ونخلص العناية به، ونتأمّله، ونوقع الجد في البحث عن حقيقته، ونستأنف النظر في مبدئه ومقدّماته، ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفّح أحوال المبصرات، ونميّز خواص الجزئيات، ونلتقط بالاستقراء ما يخصّ البصر في حال الإبصار، وما هو مطّرد لا يتغيّر وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس. ثم نترقّى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب، مع انتقاد المقدّمات والتحفّظ في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفّح ذهنيته منوّرة بنور علموية كاشفة تفرّق ما بين أنا الباحث وذاتية معرفيّتها وما بين ما يدرأ عن الباحث هذه الغفلة المباحثية الكبيرة التي يبدو أنّ لها رباط شرطي بينها وبين الذهنية التكذيبية. فالشريف الحسن بن الهيثم لم يأت بمنهج بحث فتح به على أوروبا أبواب البحث العلمي من عنده، لكنّه كان في مكانة تمكّنه من أنّ ينفكّ من إسار ذهنية إنسانية مطلوب عقلها بعقال لا يتم الحصول عليه خبط عشواء أو بضربة حظ.

تأويل التنزيل الحكيم وصراطيّة الفهم
علينا أن نفترض أنّ أركان أطروحة البحث هذه هي نفسها موجودة وجوداً متنزِّلاً ضمن التنزيل الحكيم. فقد نزلت كاملة في سورة الكهف. أوّل أركان هذه الأطروحة هو ركن نتثبّت من خلاله على أوّل شروط صحة المنهجة، ألا وهو الخروج من إسار (أنا) الباحث المكبّلة بذهنية غريرة بأدوات حسّها، إلى حيث التشرّف بنزول العلم طازجاً ممّا لا يمكن أن تحيط بأخباره ذهنية محاطة بالتباس حسّي كبير. ثم يتمّ تنزّل عملية تأويل لا تترك شاردة ولا واردة إلا بعد أن توردها لأصولها التكوينية الأولى. وقد تبدو عملية الخروج من أنا الباحث كعملية معقّدة، غير أنّها في بساطة تحرير النظر من إسار تضليل والباس أدوات الحس، وتضليل (أنا) الباحث اتي اعتادت أن تتغذّى من متراكمات ذاتية معرفيّتها المضلّلة. لذلك يصير الخروج من أسرها هو في الواقع خروجاً مزدوجاً، أولاً من تضليل أنا الباحث، وثانياً من إسار معتقدية مضلّلة كنتيجة مباشرة للذهنية التكذيبية وذاتية معرفيّتها.
خطاب الحق. جل وعلا. في سورة  الكهف قد حوى قولاً خير ما يتمثّل في بلاغته من توضيح لهذا الخروج المزدوج، ورد هذا البلاغ على لسان سيّدنا موسى  وهو يخاطب الفتى الذي يرافقه بهذه العبارة وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف، 60] القارئ الحصيف الذي يقرأ مثل هذا التصريح المثير للتساؤلات، لا يمكنه أن يخطئ رؤية معنى موسى في التعبير(لا أبرح) مقروءاً مع التعبير (حتى أبلغ) فيتبدّى له مقصود البارحة هنا بأنّها مبارحة ليست معنية بالمكان ولا بالجغرافيا. إذ لا يمكن بلوغ مكان أو جغرافيا ما من خلال عدم المبارحة. فإذا ما انتفت صفة المبارحة المكانية بحسب ارتباط (لا أبرح) بقوله (حتى أبلغ)، أصبح لازماً رؤية هذه المبارحة بصورة أخرى غير المكانية، فلا يمكن أن نرى غير واحدة هي رؤية هذه المبارحة كمبارحة زمانية خاصة وردت معزّزة بالتعبير الذي يفصل الأمر بقوله (أو أمضي حقباً) فإذا ما كانت عدم مبارحة سيّدنا موسى  تمثّل قيمة زمانية تكون حقباً من الزمن يقضيها وراء مطلبه ألا وهو بلوغ مجمع البحرين، يصير بالتالي مجمع البحرين الذي سيتوصّل إليه عبر مكوث زماني هو نفسه مجمع بحرين لا يجريان في مكان أو في جغرافيا، إذ لا يمكن بلوغ جغرافيا ما بلوغاً يأتي نتيجة لمكوث زماني؛ لذلك فمجمع البحرين لا يمكن أن يكون موقعاً جغرافياً الا في حالة واحدة هي أن تتطابق الجغرافيا مع الموقع الزماني المقصود بعدم المبارحة الزمانية، وذلك يعني بالتحديد أن يكون وقوع الحدث الزماني في مجمع بحرين جغرافي. لذلك فالمقصود المبارحة من مجمع البحرين هو مقصود زماني، وليس هناك ما يمكّنه أن يشير إلى مجمع بحرين زماني إلا بعد أن ينفتح معناه إلى تفسير ينسجم في طبيعته مع بحرين يجريان في الزمان ويجتمعا فيه. والأقرب في معناه هنا لا بد أن يكون قصداً ومعنى بحر المعرفة وبحر العلم الّلذان يمكنان خلال تتبّع جريانهما في الزمان الكشف عن زمان التقاءهما في مجمع البحرين الزماني، والذي يمكن بمطابقة التاريخ للجغرافيا أن يكون مجمعهما هو مجمع جغرافي مصاحب.

ولا بدّ من الإقرار هنا بأنّه ليس توفيقاً محضاً أن يقابل هذا التفسير تأكيداً وتعزيزاً ثانياً نراه واضحاً عندما اقترح فتى سيّدنا موسى  أن يأويا إلى (الصخرة) وهي عندهما معرفة بأداة التعريف (أل) ما يعني أنّه سبق لهما التعرّف عليها وبالطبع من سابق مرورهما بها. وقد كان طلب فتى سيّدنا موسى بسبب أنّه كان قد نسي أن يخبره أنّهما فقدا طعامهما. والذي هو حوت مجفّف ما يشير إلى مطابقة الجغرافيا للتاريخ. وقد ظهر لسيّدنا موسى بعد أن عاودت الحوت الحياة عند تلك الصخرة واتّخذ سبيله منسرباً إلى البحر أنّ في تلك الصخرة العلامة التي يبحث عنها لمعرفة مكان مجمع البحرين الذي يقصده؛ أي مجمع البحرين الزماني، وذلك جرياً وراء قوله (هذا ما كنا نبغ) ممّا لم يلحظاه عند سابق مرورهما عليه. فإذا كان ما وجداه عند ارتدادهما الى تلك الصخرة هو العبد الصالح الذي قال عنه الحق. جل وعلا (علمناه من لدنا علماً) فالعلم سيصير هو المكان الذي يسعى إليه سيّدنا موسى سعياً زمانياً. هنا تتعزّز عند قارئنا العزيزرؤى أقدر تفحّصاً يصبح بعدها تفسيرنا لبحرين يجريان في الزمان هما بحرا العلم والمعرفة تفسيراً منطقياً وذلك إثر ورود إشارة بالغة الوضوح لبلوغ بحر العلم. وبالطبع فالأمر لا يحتاج إلى مزيد من الحصافة في تحديد مكان وقوع بحر المعرفة الذي بارحه سيّدنا موسى، وبحر العلم الذي خرج في سبيل بلوغه. وهنا نتثبّت من منطقية رؤانا حول تفسير البحرين ومجمعهما، وكذلك نتثبّت من رؤية أولى عتبات السلوك المنهجي في هذا الخروج المزدوج، الخروج من أناة الباحث والخروج من بيئتها المضلّلة.
وقد ذكرنا أنّ منطق الصيغة المكانية منطق مقبول لا يمكن عزله بعيداً عن مقصود مجمع البحرين، وفي هذا ما يزيد من بلاغة الخطاب الإلهي بما يتجاوز فهومنا الغضة التي تحتاج كما هو احتياج سيّدنا موسى في هذه القصة إلى من يأخذ بيده، وبالتالي بيدنا في مخاض بحر العلم، فخطاب قصة سيّدنا موسى مع الخضر في مجمله وبترتيبه التنزيلي هو بيّن بليغ مدّخر لأجل بني آدميين ذوي ذهنيات صالحة لمقابلة تنزّلات العلم. في حين أنّها بيان غير واضح المعالم ومعقّد يحتاج لاعادة ترصيص حتى يصير قدر محدوديّة ذهنياتنا الغضة. هذا الترصيص المبسّط يمكنه أن يجعلنا نرى أنّ سيّدنا موسى قد تمّ اخطاره بالخروج حتى يبلغ مكاناً فيه عبد إلهي صالح أتاه الله العلم اللدني. وهذا خروج وبلوغ لمكانيين جغرافيين وخروج وبلوغ زمانيين في نفس الوقت. ويبدو أنّ الخروج والبلوغ الزمانيين هما أصل ومرجعية البلوغ العلمي؛ ذلك أنّ بلوغ سيدنا موسى مكان وجود ذلك العبد فإنّه يكون قد أوصل ما بين بحر العلم الذي يمثّله ذلك العبد الصالح وبين بحر المعرفة الذي يمثّله حينها سيّدنا موسى. فالتقاء الرجلين. عليهما السلام. للبحرين بحكم أنّهما يمثّلان قمّتيهما آنذاك، قمّة العلم وقمّة المعرفة وهو جمع زماني كبير لا دخل للمكان به.
وما يشير إلى رباط منهجي هام - وهي إشارة لضرورة ثبت هنا وجوبها- أنّ بلوغ بحر العلم لا يتأتّى الا بالصعود إلى قمّة عتبات المعرفة، ثم الخروج منها خروجاً من أسر (أنا) النفس المعرفية ومتعلّقاتها البيئية. وذلك خروج زماني ما في ذلك من شك. والإشارة التي ثبتت هنا ضرورتها تبدو في هذه القصة كمّاً محفوفاً بالخفاء، لا يتأتّى النظر إليها هكذا خبط عشواء، إذ أنّه في كلا الخروجين متطلّب منهجي ينبغي اتّباعه للوصول إلى المكاني حيث أهل العلم والزماني حيث الخروج من معرفيّة (أنا) النفس وحسيّتها إلى جمعية زمانية يصعب بلوغها إلاّ بالعبودية الصالحة اللازمة لتلقّي أخبار العلم المتنزّلة. وهو ما حدا بالعبد الصالح إلى القول: (وما فعلته عن أمري). كذلك قوله (هذا تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) في إشارة بالغة القوة إلى عدم وضوح الأمر عند سيّدنا موسى الذي يفترض فيه أن يكون قد تنوّر بنور العلم بعد فترات قضاها مع العبد الصالح وبعد أن تنوّر بنور المنهج من خلال ذلك المقود الربّاني اللطيف منذ خروجه إلى بلوغه.
وأظنّ ظناً يحتاج إلى تأكيد لُغوي، أنّ التأويل الذي جاء على لسان الخضر هو تعبير يحمل صيغة لغوية مزدوجة قد تأتي مربوطة بالفعل آل يؤوّل التي يحتمل مصدرها أن يكون تأويلاً أو أيلولة، أو تأتي في فعل أخر مجاور هو أوّل بأوّل ومصدره تأويلاً. كلتا الصيغتين معنيتين في التنزّل الحكيم كما هو في تأويل سيّدنا يوسف للرؤى المنامية والتي تختلف عن تأويل العبد الصالح الخضر الذي علّم سيّدنا موسى ما لا صلة له بالرؤى المنامية، بل بأحداث ترتبط برباط التوافق مع باكر حياة سيّدنا موسى ممّا لم يكن يراه أو يلاحظ لما هو مرموس فيه من قيمة معرفية عالية. ويبدو في توافق ما حدث مع باكر حياة سيّدنا موسى رجوعاً إلى سيرته الأولى. أو إن شئت فقل المأوّلة تأويلاً معرفياً راقياً قد يرقى إلى مقام ينفتح فيه باب العلم.

ولكأنّما عملية تنزيل تأويل الخضر ليست هي أكثر من لفت نظر لما لم يره سيّدنا موسى في سيرته الأولى. وقد قال عنه سيدي الشيخ علي زين العابدين في كتابه (تاج الأولياء والأولياء) ما معناه أنّ الخضر قال لسيّدنا موسى ردّاً على اعتراضه الأّول واحتجاجه على خرق السفينة: وأنت عندما وضعتك أمك وأنت رضيعاً على تابوت في عرض البحر، من كان يكلؤك بعنايته من عشرات ما كان يحيط بتابوتك من التماسيح. أو يقول له عندما قتل الصبي: وكيف تحتجّ على ذلك وأنت قد جنيت من قتلك القبطي استنصار بني قومك الخير الايماني الوفير الذي جعلك أوّل المؤمنين ممّا عنيته بقولك عند البئر بأرض مدين. أو يقول له وهو يحتجّ عليه بعدم أخذ الأجر على بنائه الحائط: وأنت كم جنيت من الخير من تبرّعك بجهد السقيا لبنات سيّدنا شعيب. غير نجاتك من القوم الظالمين وزواجك الذي فتح عليك باب الخير والنبوة. ويبدو ظاهراً في كل هذه المراجعات أنّ لها متقابلات مع باكر حياة سيّدنا موسى تمثّل تأويلاً ذا مغزى في سيرته، تحتاج فقط لترجيعها لمكوّناتها وعناصرها الرئيسة، أي الى أولويات حدوثها الزماني ما لم يسعف سيّدنا موسى مغزاها الذي يجعله يكتم احتجاجاته على من يعرف أنّه عبد صالح منوّر له بنور العلم الإلهي[4].

وما يحتاج للمراجعة والتركيز في سورة الكهف حول نزول منهج التأويل وتربط علاقته مع ما سبق لنا طرحه حول تنزّل العلم لا بد أن نلاحظ الآتي:
1. ينسجم هنا كل ما سبق لنا طرحه عن مصطلح العلم وعلاقته بمصطلح المعرفة وعلاقة العلم بالمنهج العلمي ويلا ق مبحثنا عن العقل ويتطابق بصورة مدهشة.
2. يتأكّد تماماً ما سبق أن قرّرناه في شأن العلم أنّه في حقيقته ما هو سوى خبر متنزّل من علٍ.
3. تأتي كذلك إشارة واضحة إلى ما يتطلّبه تنزّل منزلة العلم من تأدّب ذهنية معرفية غريرة.
4. نلاحظ كذلك تراجع المعرفة وانسحابها متى ما ورد العلم، ويبدو كذلك هنا تبخيس للإعتراضات المعرفية الغريرة في حالة تطلّب العلم. وفي ذلك مدعاة لاحمرار وجنات منهجية الشك التكذيبية خجلاً من كثير اعتراضاتها الغريرة المتخلّفة المعرفية وضحالتها، مع اشراف ونضار وجه أصحاب المنهجية التصديقية جزاءً وفاقاً لما بذلوه من ثقة لا تتغشّاها الظنون في مطلق الحق ومطلق الخير في هذا الوجود.
ولا زالت هنالك شاردة ممّا يصعب حصره ممّا يطرحه خطاب سورة الكهف المنيفة؛ هذه الشاردة يتراوح ظهورها مع خفائها عند قراءة ما ورد من حكي إلهي تنزيلي في الحوار الذي حدث بين سيّدنا موسى وفتاه. فقد قال الأوّل فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا فردّ الفتى وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً* فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً* فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـذَا نَصَباً* قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا* قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا[5].

نقد التأويلية الديكارتية في الشك المنهجي
وبالطبع فما هو في هذا الخطاب المنيف من خفاء لا يمكن اعتباره تغطية أو تبطين يصعب تفهيمه، إنّما هو على العكس من ذلك، فهو تبطين يؤدّي إلى حسن التفهيم. ذلك أنّ الفهوم المدعوة لها البشرية جمعاء لا تأتي بالصعلكة والتمشدق والادّعاء، لكنّها فهوم تقوم على لازمة تأهيل أذهان غريرة معتدة بمعرفية حسية بالغة التضليل. وبالطبع لا يجتمع العلم مع التضليل. وغالب الظن أنّ هذا المكان هو خير المواقف لنستكشف أزمة تحديد الهوية المباحثية وتحديد مكان وقوفها. ويبدو أنّ الامر يطال ذهنية واحدة من ذهنيتي منهج البحث ألا وهي الذهنية التكذيبية. وأظنّ أنّ الأمر لا يطال اللاأدريون الأوروبيون وحججهم، بل يطال مؤمنون أوروبيون آخرون من اتباع (رينيه ديكارت) الذي عدّل العبارة إلى قوله: «أنا أفكر إذاً أنا موجود» فكلتا الطريقتين ذاتيتين لا تريان من حقيقة إلا بما يماسّ أناتهما ووجودهما وما وراء ذلك فهومشكوك في وجوده. والشاهد أنّهما كلاهما غارقان في وحل عدم تحديد هوية الباحث، ذلك الذي يتساءل عن براهين لوجود عالم يجعل فيه حتى نفسه التي بين جنبيه. ولكأنّي بالحق جل وعلا يوضح لهذا الغرير في ردود لطيفة عن سؤاله متطلّب البرهنة فيقول له: وهل يعرف المتسائل نفسه؟ وهل يملك أناته التي تعذّبه شكاً فيما حوله من عوالم؟ فإذا كان يملكها فكيف صارت له هذه الملكية؟ ومن أين له بصك هذه الملكية؟ وإذا كانت الإجابة بلا، فهل يعرف صاحب هذه الملكية؟ وهل يستعملها كاستعارة منه أم بشروط أخرى؟
وبالطبع فهذه كلّها أسئلة لا فكاك منها للباحث الشكَّاك، أما المتيقّن المتديِّن فهذه أسئلة قد فارقها والتمس لنفسه مكاناً بين الصدِّيقين حتى صارت تتكشّف له الأخبار كل حين وآن، ويتكشَّف له العلم الذي لا علم قبله أو وراءه.

مراجعات في حضرة منهجية الشك ذهنيتها التكذيبية:
وفي سبيل المزيد من البحث والتقصّي العلمي لا بدّ من مراجعة ما ثبت خلال فحص من إشكاليات الذهنية التكذيبية ما يحتاج منّا للمراجعة والتصحيح، ومن ذلك:
1. ينبغي أن نعيد وفق ما تمّ تنزيله من مفهوم للمنهج العلمي ما يفيد النظر في أنّ ذهنيتنا التكذيبية وما يستتبعها من منهجية الشك التي ما يزال الكثيرون يعتقدون بكونها محرّك علمي هام إلى درجة أن قال أحدهم: (أنا أشك إذاً أنا موجود). فمثل هذا النوع من التفكير يضعه تعديل مفاهيمنا العلمية في مكانة يفاعة وطفولة معرفية لا دخل ولا شأن للعلم بها.
كذلك يمكننا أن نرى ضعف منهج هذه الذهنية التأويلية في اعتمادها على الحس عبر الرؤيا المباشرة أو اللمس أو الذوق... الخ من بقية الحواس التي لا يمكن إنكار مردودها المعرفي مع التحفّظ على علموية مردودها. وذلك اعتراف بضعف تحرّ إعلانه كان يفترض ظهوره بعدما قام العلم بدحض مقولة ثبات الأرض ودوران الشمس حولها مما كنّا نراه عياناً بياناً بالعين المجرّدة. فذلك كان من المفترض أن يقودنا إلى اعتراف أنّ أدوات الحس لا تقودنا في كثير من حالاتها إلى رؤى حقيقة الوجود الظاهراتي، بل تقودنا إلى رؤى ملتبسة بمعرفية مزيّفة وغير حقيقية على الإطلاق.
2. ومن نقطة تجاور منهجية الشك، ينبغي ألاّ ننسى هنا أنّ ذهنية منهج الاستنباط الأرسطي في شدّة تمسّكها بتفاسيرها الاستنباطية، فقد قادتنا إلى أن نأتي بحادث مفجع ما زالت ذكراه تهري أفئدة العلماء، ألا وهو حادث إحراق العالم الإيطالي الجليل جوردانو برونو. فقد حاكمناه بواسطة سيئة الذكر محاكم التفتيش فوصفناه بالمهرطق، ثم حرقناه وذررنا برماده في البحر، فأوروبا وكل كهنتها وبابواتها وأباطرتها مضاف إليهم منهجية الاستنباط الأرسطي، كل هؤلاء يتحمّلون وزر اتباع ملموسية التحقيق الحسّي التي قرّروا بناءً على رؤيتها أنّ الأرض هي مركز الكون وأنّ الشمس وبقية الكون يدور حولها كما قرّره المعلّمان الأثينيان بطليموس وأرسطو، أدّى تمسّكهم بذلك المنهج إلى إزهاق روح هذا العالم الجليل حرقاً، ما لم نسمع ولا مرّة واحدة بهم وهم يتوجّعون لفقده، أو يعتذرون عن الظلم الكبير الذي حاق به جرّاء ثباته على الحق. ذلك الذي جاء إثبات صحته العلمية بعدها، ما كان ينبغي أن يؤدّي إلى تكذيب معرفية الحس عبر إثبات ثبات الشمس ودوران الأرض حولها، ومن ثم تضعيف منهجية الشك التي تعتمدها الذهنية التكذيبية.
وقد كان لذلك التصحيح مقتضى منهجي يفترض أن يثور في وجه ذهنيّة التكذيبيين وما يتطلبّونه من برهنة ملموسية مادية تتوارى خجلاً لأسباب تخصّها لوحدها. عند موقف يفترض فيه أن يقرّ علانية بأخطائه العلمية الكبيرة وظلم ما تمّ تقريره حول هذا العالم الجليل من هرطقة ومن ثم رد الاعتبار له، وهو ما لم يحدث إلى يومنا هذا من قبل الكنيسة الكاثوليكية التي أتت بهذا الفعل غير المقبول.
3. مما كان يفترض أن يكون فيه المزيد من الإفحام لذهنية الشك التكذيبية مما كان يتوجّب أن يقودها إلى الكشف عن حالة جهل وتنطّع معرفي كبير، أنّ الكشف العلمي المعاصر للظاهرة الكهربائية قد قاد الى ما يمكن تسميته بظواهر فوق أو تحت الظواهر المادية المحسوسة، المثال على ذلك يبدو في الظاهرة الطيفية ذات اللطافة التي يمكن اعتبارها فوق أو تحت مادية. لا أدري أيّهما. وهذه بالطبع معرفة تقحم حقل الطاقة وسريانها الطيفي في عملية  تكسيرية لحصون الذهنية التكذيبية بأسئلة ما زالت تثير في (عواصتها) شكوكاً كبيرة حول الحدود المادية التي تحتاجها تلك الذهنية لترسم داخلها حدود منهجها للبرهنة على مشكوكاتها الكبرى. وذلك بالطبع يحدّ من سطوة المنهج التكذيبي ذي الشكوك المعرفية التي يقال بمشروعيّتها بوصفها مطيّة العلم. حتى نكتشف أنّ المنهج المادي مواجه بإشكالية أخرىمعتبرة تتّصل بتصنيف ما هو مادي وما هو غير مادي. فهل يمكن اعتبار الطاقة ووجودها الطيفي هو وجود حصري ضمن الوجود المادي الملموس والمرئي؟ الواقع الملموس حسياً يقول لا فالطيف في معظمه لا مرئي ولا مسموع ولا محسوس لمساً. إذاً فما هي دواعي حصره ضمن المحصورات المادية بمفهومها المرتبط بنهجها التجريبي الحسي؟
والطيف كما سبرت أغواره معرفيّتنا اللاحقة، أصبح معروفاً أنّه يندرج ما بين ما وصفته معرفّيتنا البصرية اللاحقة بما فوق البنفسجي الذي يمثّل اشعاعات غير مرئية، وما دون الحمراء، والتي هي نفسها أشعة غير مرئية، فنرى بعيننا المجرّدة فقط ما هو محدود بسريان طول موجاته الكهروميغناطيسية لألوان الطيف المرئي (قوس قزح) التي يبلغ عدادها- بحسب قياس أجهزتنا- سبعة ألوان تندرج ما بين البنفسجي والأحمر. ثم نرى بواسطة أجهزة تمّ إعدادها إعداداً خاصاً بقية الأطياف غير المرئية، أي ما فوق البنفسجي وما دون الحمراء، بل ويمكننا عمل تركيبات إشعاعية كما هي أشعة الليزر من تلك التي تقع في خانة غير المرئيات، هذه المعلومات التي أصبحت ضمن حصيلتنا المعرفية لا تخرج عن كونها أخباراً صارت معلومة للعامة، كانت لعهد قريب أخباراً مجهولة. وقد خلط ظهورها أوراقاً كثيرة كانت تعتمدها معرفيّتنا الحسية ضمن ملعوباتها كما هو السؤال عن مادية أو لا مادية الطيف غير المرئي.
4. إعادة النظر ليس فقط، بما يؤكد تمييز ذاتية معرفيّتنا للظواهر عن موضوعيةعلمويّتها وحسب، بل ويتمدّد هذا النظر وهذه المراجعة حتى تشمل الباحث نفسه من حيث ذاتية أوموضوعية ظاهراتية هويّته المباحثية. وذلك بالطبع يسهّل من مهمة عزل أو فرز (أنا) الباحث وتصوّراتها حتى تصير هي نفسها موضوع ضمن المناولات البحثية التي لا تغيب أو تتخفّى عن هوية الباحث. ولكم أتمنى أن يعود أكاديميو الجامعات الأوروبية إلى الحق، ذلك الذي أشاحوا بوجودهم عنه طويلاً، حتى يمكّننونا من أن نقوم بإعادة ترتيب وسبك معرفيّتنا على أسس علمية صحيحة، ولكم أتمنى أن يأتي اليوم الذي تقوم فيه المجمّعات المسماة مجمّعات علمية على نطاق العالم من ردّ للإعتبار لشهيد العلم الكبير جوردانو برونو، والكشف عن خفاء المعلومات عن أساتذته الكرام الذين نهل هذا العالم الجليل من معينهم العلمي الصافي.

----------------------------------
[1]*ـ مفكّر وباحث في الدراسات الإسلامية- جمهورية السودان.
[2]-  أنظر في هذا الصدد أعمال الفلاسفة التجريبين في أوروبا القرنين السابع عشر والثامن عشر نذكر من هؤلاء: أوغوست كونت – وديفيد هيوم وخلاصة رأي هؤلاء أن كل شيء يبقى مجهولاً وغير قابل للمعرفة ما لم يدخل في حقل التجربة، ولذا فإنّهم لا يؤمنون.
[3]-  ابن الهيثم، الشريف الحسن- كتاب المناظير- باللاَّتينية DE ASPECTIBUS وفي هذا الكتاب يقدم ابن الهيثم نظريته حول الرؤية التي شكت انجازاً متفرداً في البصريات خلال الفترة التاريخية الفاصلة بين كلاديوس بطليموس اليوناني وجوهانس كابلر الأوروبي. من المفيد الإشارة الى أن ابن الهيثم أضاف لكتاب المناظير رسالة في الضوء تبحث في المزيد من طبيعة السطوع وانتشاره الشعاعي في أوساط شفافة ونصف شفافة. حيث سيكون لهذا الابتكار المبدع دوراً تأسيسياً في علم البصريات المعاصرة.
[4]- للمزيد من التفصيل لقصة سيدنا موسى وسيدنا الخضر بعد قراءتها في سورة الكهف الآيات 60 الى 82. يمكن كذلك مراجعة تفسير الجلالين للقرآن الكريم. ومراجعة كتاب «تاج الأولياء والأولياء» للشيخ علي زين العابدين ـ طيب الله ثراه ـ الإمام السابق لمسجده بمدينة شمبات بالسودان بالخرطوم بحري.
[5]- سورة الكهف: الآيتان 62-65.