البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التسامح وأبعاده الحضارية في الفلسفة الغربيّة قراءة نقديّة لإشكاليّة العلاقة بين النظريّة والممارسة

الباحث :  عبد الله محمد علي الفلاحي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  22
السنة :  شتاء 2021م / 1442هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 14 / 2021
عدد زيارات البحث :  2495
تحميل  ( 532.607 KB )
أخذت نظرية التسامح مساحة بيّنة من النقاش في الأوساط الأكاديمية والثقافية على نطاق عالمي.
غير أن هذه النظرية لم تستقرّ على أرض هادئة وتتحوّل إلى قاعدة كليّة بسبب التأويلات التي عصفت بها في المجتمعات الغربية الحديثة.
في هذه الدراسة يسعى الباحث اليمني البروفسور عبد الله محمد علي الفلاحي إلى تحليل الأبعاد النظريّة لأطروحة التسامح كما يبيّن وأعطالها على المستويين النظري والتطبيقي.

«المحرّر»

يستهدف هذا البحث الكشف عن التسامح وأبعاده الحضاريّة في الفكر الفلسفيّ والإيديولوجيّ الغربيّ موقف منظور ومنهج نقديّ للنخب الغربيّة تجاه الشعوب والحضارات والأمم الأخرى المختلفة معها،  وليس - من هدف امبرياليّ كولونياليّ، تبريريّ، استعماريّ - كما فعل قديمًا ويفعل بعض المستشرقين والمفكّرين، وإنّما بمنهج تحليليّ واقعيّ نقديّ، تبعيّ للكشف عن الفروق بين النظريّة والممارسة لثقافة التسامح. وحيثما وُجد التطابق بين النظريّة والتطبيق، بيّناه وأنصفنا ذلك المنهج وتلك الممارسة، وحالاته كثيرة لا تخفى على ذي عينين أو بصيرة، وحيثما وجدنا اتجاهًا ثقافيًّا فلسفيًّا – تشريعيًّا - سلبيًّا نحو التسامح، وضّحناه وعرضناه، أو تناقضًا نظريًّا فلسفيًّا تشريعيًّا أو قانونيًّا يؤسّس ثقافة متسامحة، مع تطبيقاتها الواقعيّة = (الحضاريّة والثقافية) الغربيّة،  مع الآخر  في الماضي أو الحاضر، أَبَنّا عنه، وكشفنا صوره ومظاهره.

- ثمّة اتّجاه يذهب إلى أنّ العالم الحديث لم يعطِ أهمّيّة كبرى لمسألة التسامح رغم أنّها كانت الشغل الشاغل للغرب منذ عصر النهضة، ولا يكتفي أصحاب هذا الاتجاه بهذه القضيّة، وإنّما يؤكّدون أنّ هذا الغياب مرتبط بحالة تاريخيّة سابقة، فالحضارة العربيّة الإسلاميّة، في زعمهم، كانت بعيدة عن مسألة التسامح، يقول أحد الدارسين: «فإنّ الواقع المدهش حقًّا هو أنّ التسامح الذي يعتبر سمة عامّة في الفكر الغربيّ منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر وفكرة معاصرة في زماننا هذا»[2]. 

ويمكن القول إنّ ظهور الفكرة نفسها في الغرب أو في الحضارة الغربيّة الحديثة العلمانيّة على الأقلّ، جاءت وليدة حاجة، ولم تكن وليدة ثقافة تتجسّد عبر الممارسات السلوكيّة لمكوّنات المجتمع الغربيّ دولًا وجماعات وأفرادًا، مثلما هو حال الحضارة العربيّة الإسلاميّة، كما أنّ التاريخ يشير إلى ظهور فكرة التسامح في الثقافات الشرقيّة القديمة، والتي تجسّدت بالتعاليم البوذيّة والكونفوشيوسيّة في حضارات  الصين والهند واليابان، وفكر وادي الرافدين، ومصر القديمة قبل اليونان، وليس أدلّ على ذلك من أنّ أصالة الفكرة في الهند القديمة واليابان تعود مرّة أخرى في العصر الحديث في تلك الشعوب ملتحمة بسلوك مكوّنات تلك الشعوب، ليس بوصفها تراثًا لها وحسب، بل وهويّة ذاتيّة تقارع بها كلّ أشكال الهويّات الوافدة مع الحضارة المعاصرة اليوم، فهذا الزعيم الهنديّ غاندي قد أسّس فلسفة التسامح اللامشروط، رافعًا شعار «العنف واللاتسامح صفقة خاسرة لأنّهما ضدّ الفطرة الإنسانيّة»؛ إذ قاد مقاومة على سياسة العنف وأسّس لفلسفة اللاعنف، ومن أقواله: أين يتواجد الحبّ واللَاعنف تتواجد الحياة»، «إن اللَاعنف والتسامح المطلق قوّة عظمى لدى الإنسان، وهي أعظم ما أبدعه الإنسان، ومن أكثر الأسلحة قدرة على التدمير»، ولكن غاندي، داعية التسامح، قُتل بسلاح هندوسيّ متعصّب لم تعجبه عظمة التسامح الغانديّ.                                                              

والحقيقة أنّ - ووفق استقرائنا المتواضع - كلّ الفلسفات والأديان والمعتقدات تلتقي حول فكرة واحدة، وهي الرغبة في بلوغ فكرة الإنسان الكونيّ، فالله هو محور الجذب المطلق في الكون، مهما تعدّدت الديانات والحضارات، فإنّ الحكمة منها ألَا تكون الحضارة ملكًا لأُمّة أو ديانة، وذلك يخلق أرقى درجات التسامح، فتلتقي الحضارة على إبداعات مع الآخر، وهي الحالة التي تبلغها أرقى الحضارات وأكثرها ازدهارًا؛ إذ تنفتح الحضارة على إبداعات أبنائها، ثم تتقبّل إبداعات الحضارة الأخرى دون الذوبان فيها؛ لأنّها تدرك أنّ منطق التطوّر هو تجاوز الحدود، فالحضارات القديمة لم تتطوّر إلا عندما أخذت من غيرها، فاليونان أخذوا عن قدماء المصريّين، وأخذ المسلمون عن اليونان فلسفتهم وطوّروها، ثم أخذ الأوروبّيّون عن المسلمين علومهم وفلسفتهم وطوّروها. وهكذا حدث التطوّر العلميّ الذي نعيش رفاهيته اليوم.

لكن التاريخ نفسه يخبرنا أنّ هذه الحضارات لم تلغِ بعضها، ولم تفرض واحدة نفسها على الأخرى؛ لهذا حدث التعايش، وكان التسامح مبدأً أخلاقيًّا مطلقًا، لكن ما نعيشه اليوم هو ثقافة إلغاء حضارة للحضارات أخرى وتهميشها بحجّة العولمة، لهذا بات من الضروريّ أن يكون التسامح مشروطًا، وأن يكون الحوار قائمًا على المساواة، وليس على التفاضل، فلا يمكن اليوم الحديث عن التسامح إلّا إذا عانينا كثيرًا من قضيّة اللاتسامح الدينيّ، والصراع الاجتماعيّ، والتكالب على السلطة، والاستغلال الاقتصاديّ، واضطهاد الأطفال والأقلّيّات والأجناس، حتى يتمّ الاعتراف بالتسامح وزرعه كثقافة وعي بين الدول، وحتى نعيشهُ في الواقع الملموس، وليس فقط كمبدأ أخلاقيٍّ ينصح به. والإسلام الذي قام على قاعدة الشورى والتسامح كمبدأ أخلاقيّ يقول: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) الأنفال:آية:60؛ لأنّ ردع العنف إذا لم ينجح معه التسامح، فسيصبح هو المبدأُ الذي ننطلق منه، ولكنّه لا يكون هو الغاية، وإنّما وسيلة، لأنّه فضيلة أخلاقيّة تقع بين رذيلتين: رذيلة اللامبالاة الفكريّة (المبالغة في التسامح) الذي يؤدّي الى الفوضى، ورذيلة ضيق الأفق، أي المبالغة في عدم التسامح[3].

انتشرت فكرة التسامح في أوروبّا منذ عصر النهضة، وتعامل معها المفكّرون؛ لذلك نجد فولتير وجون لوك وروسو ثمّ كانط وغيرهم يكتبون عنها، وقد وُلدت تلك الكتابات عقب الأحداث التي وقعت «في القرن السادس عشر والنصف الأوّل من القرن السابع عشر. كانت أوروبا قد تحوّلت إلى أرض خراب بفعل الحروب الدينيّة»؛ «ولذا كان الحلّ هو في الفصل بين الدين والدولة»، هو بصورة أخرى عقيدة العلمانيّة، فالتعصّب والدمار «علّما البشر بأقصر السبل الممكنة درس التسامح القاسي» كما يقول فولتير. يمكن بالطبع أن يكون التسامح في الغرب الحديث «قد نشأ كردّة فعل على حروب أوروبّا الدينيّة»، ويمكن أيضا أن يكون نشأ «بالتواكب مع نشوء نمط الإنتاج الرأسماليّ». ويخلص سمير الخليل إلى أنّ كلمة التسامح «ليست واحدة من تلك الكلمات التي تمّ النضال بشأنها خلال القرن التاسع عشر أو حتى في القرن العشرين، فلسبب من الأسباب تمّ تجاهل هذه الكلمة، وتمّ تجاوزها، أو بالأحرى اكتفى بمجرّد النظر إليها على أنّها من نافل القول، كما لو أنّها لا تعبّر في حقيقة أمرها عن شَيْء... فلم يكن للتسامح من يفكّر به أو ينطق باسمه»[4].

لم يكن في نظام الإسلام كنيسة، ولم توجد طوائف دينيّة كما كان الحال في أوروبّا، كانت هناك خلافات، وفرق إسلاميّة مختلفة، ووقعت بعض الحروب، ولكن ليس بتلك الصورة ولا بذلك العنف.

كان تحييد الكنيسة والفصل بين الدين والدولة، ومطالبة الدولة، حسب تعبير لوك، أن تتسامح مع الطوائف جميعًا ضمن حدود الدولة، لا يشكّل قاعدة في حالة خاصّة في التاريخ، وفي ذلك يقول الدكتور برهان غليون: «إنّ هذه العلاقة المتوتّرة والعنيفة بين الدين والدولة لم تعرفها كلّ المجتمعات البشريّة، ولم تظهر بهذه الحدّة إلّا في هذه الحقبة من تاريخ أوروبّا، وفي هذه القارّة وحدها»[5].

في الفلسفة الغربيّة الحديثة تظهر فكرة التسامح لدى مجموعة من أشهر أعلامها، مثل ( فولتير وروسو وجون لوك وكانط، وراسل، وهم يمثّلون أهمّ مراكز أوروبّا الحضاريّة الحديثة، مثل فرنسا وإنجلترا وألمانيا، وصولًا إلى أمريكا في نهاية القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر الميلاديّ كلّه، كما مثّلت الظروف التي عاشتها أوروبّا منذ عصر النهضة وحتى نهاية القرن التاسع عشر حالة واحدة، أفرزت جميعها تحوّلًا جذريًّا لأوضاع أوروبا ولكافّة المجالات الحياتيّة بفعل الحركة الفكريّة والفلسفيّة والعلميّة والثقافيّة والدينيّة، وانعكاساتها على الأحوال السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعية بصورة مغايرة لوضعها في القرون الوسطى، فقد اقترح الفيلسوف الإنجليزيّ (جون لوك 1689) في كتابيه «رسالة في التسامح» و«رسالتين في الحكم»، نظريّة أكثر تفصيلًا وتنظيمًا لفكرة التسامح؛ اشتملت على مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة، والذي شكّل حجر الأساس لمبادئ الديمقراطيّة الدستوريّة المستقبليّة، وتُعدّ إضافة جون لوك  لفكرة الإقرار ببعض القيم  بهذا الصدد من أروع ما انتجته فلسفته النظريّة في العصر الحديث، حيث  مثّلت أو أصبحت أساس الفكر التسامحيّ حينذاك، مثل الدعوة للفصل بين الدين والسياسة  والتي عُرِفَت إنجليزيًّا بالعلمانيّة، وعرفت فرنساويًّا بـ (اللائكيّة).  

- وكما أشرنا إلى تبعية السياسة والفكر السياسيّ  للفلسفة والأيديولوجيا، فقد جاء قانون التسامح البريطانيّ لعام 1689 باعتباره الحصاد السياسيّ للجهود المبذولة من قبل واضعي النظريّات حول فكرة التسامح في القرن السابع عشر كما كان هذا القانون أيضًا ضرورة سياسيّة أفسحت المجال لتطوّر تاريخ التسامح الذي ساهم بدوره في تحقيق مزيد من الاستقرار السياسيّ في الجزر البريطانيّة، هذا على الرغم من النطاق المحدود الذي كفله هذا القانون للتسامح.

كما شارك فلاسفةُ وكتّاب عصر التنوير في فرنسا وألمانيا أقرانَهم الإنجليز من أهل انجلترا في نشر فكرة التسامح في أدبهم الفلسفيّ، ويأتي على رأسهم فولتير وليسينج، اللذين أسهما في تعزيز وتطوير فكرة التسامح الدينيّ على نطاق أوسع، لكن جهودهم في هذا الصدد لم تكن كافية لوقف الأعمال الوحشيّة التي انتشرت في عهد الإرهاب، علاوة على ذلك، فقد حقّقت محاولات توماس جيفرسون وغيره من المفكّرين لإدراج نظريّات لوك الخاصّة بالتسامح في دستور الولايات المتّحدة الأمريكيّة نجاحًا مثيرًا للجدل. والحال نفسه مع ديفيد هيوم وفكرة التسامح المنطلقة من مسألة الدين الطبيعيّ، المهمّ أنّ التسامح صفة غير معروفة دَوْليًّا، ويمكن التحدّث بأكثر من لغة عن طريق الربط بالعفو والمحبّة، فقد قيل إنّ الأحمق لن يصبح ذكيًّا حتّى ولو حاول ألف مرّة، وقيل إنّ الجمل يأكل النخالة (كلأ)[6].

يتساءل فولتير في كتابه: «المعجم الفلسفيّ» عن مفهوم التسامح أو ما هو التسامح؟ ويجيب قائلًا: «هو خاصّيّة الإنسانيّة، فنحن كلّنا معجونون من ضعف وأخطاء، لنتسامح مع بعضنا عن تفاهاتنا، هذا هو القانون الأوّل للطبيعة»، ويرى أنّ استقصاء الطبيعة الإنسانيّة واكتشاف ما تحتويه من إمكانيّة الضلال والزيغ يجعل القول بالتسامح ضرورة طبيعيّة، وأن تعميمها يضمن لكل واحد الاستفادة منها؛ لأنّ لا أحد محميّ من الوقوع في الخطأ. - وفي رسالته التي وزّعها بنفسه عن التسامح الدينيّ -، يقف فولتير ضدّ اضطهاد الذين يحملون آراء مخالفة، ويشبه من يضطهد الآخرين بأنّه وحش، وقال «ما كنت لأهتمّ بالعقيدة، لو اقتصر رجال الدين على إقامة شعائرهم وتسامحوا مع الآخرين الذين يختلفون عنهم في المذهب، ولكنّ موقفهم وتعصّبهم الذي لا نجد له أثرًا في الإنجيل هو مصدر النزاع الدامي في التاريخ المسيحيّ،.. وأنّ التعصب المقرون بالخرافات والجهل كان أساس البلاء في جميع القرون، ولن يتحقّق السلام الدائم، ما لم يتسامح الناس مع بعضهم، ويتعلّم كلّ واحد كيف يتسامح مع مَن يخالفه الدين والسياسة والفلسفة».  وهكذا - بنظر فولتير- لا يمكن تجاوز التعصب الدينيّ ووحشيّة الإنسان إلّا بالتسامح، فهو العلاج الوحيد للانقسام الذي تعرفه الكنيسة منذ أمد من القرون[7].

والتسامح لا ينفصل عن مبدأ الحرّيّة، لأنّه حسب تعريف لالاند هو: «قابليّة للفكر أو لقواعد التصرّف في ترك لكلّ واحد الحرّيّة في التعبير عن آرائه عندما لا نقاسمه  إيّاها»، فلا أحد يملك الحقيقة المطلقة التي تخوّله حقّ رفض التحاور مع الآخرين. إنّ مبدأ نسبيّة الحقيقة، وتطوّر فهمنا وإدراكنا لها ينزع من ذواتنا كلّ تعصّب للحقيقة. هذا الترابط بين التسامح والحرّيّة يؤكّد على الترابط بين التسامح وبين التصوّرات الليبراليّة الكبرى، وخاصّة حرّيّة المبادلة التي تحمي الفرد من التدخّلات غير الملائمة للدولة أو للمؤسّسات المدنيّة والدينيّة في الشؤون الخاصّة، وفي آراء المواطنين، وقد تمّ الانتقال من المستوى الاقتصاديّ للمبادلة إلى المستوى الاجتماعيّ والسياسيّ من خلال تعميم تبادل الأفكار والآراء، فأصبح التسامح بهذا المعنى هو السماح بهذا التبادل لما ينتج عنه من منافع فرديّة (إمكانيّة ممارسة كلّ فرد لحرّيّته)، فقيمة الحقيقة لا تكمن في ذاتها «الحقيقة من أجل الحقيقة»، أو في إطلاقيّتها وشموليّتها، بل في منافعها وأثارها العمليّة.     

-إنّ الفصل بين «الشأن العام» و»الشأن الخاصّ» يعتبر من أهمّ مكاسب الليبراليّة، وذلك بإقامة الحدود الفاصلة بين النشاط الاقتصاديّ والنشاط السياسيّ، فالأوّل شأن خاصّ لا يحقّ للدولة التدخّل فيه، فلا بدّ أن تتركه يتحرّك وفق قوانين السوق الطبيعيّة، التي تتحدّد بواسطتها كلّ الأنشطة الاقتصاديّة، وحتى طرق التفكير والمعتقد تعتبر شأنًا خاصًّا، وكلّ من يُظهِر رأيًا مخالفًا للمعتقدات الدينيّة السائدة لا يحقّ للكنيسة معاقبته؛ لأنّ العقاب وظيفة من وظائف مؤسّسات الدولة، وبالإضافة إلى الفصل بين الشأن الخاصّ والشأن العامّ، ثمّة فصل آخر بين الدولة والكنيسة، وهذا ما دعى الفيلسوف الإنجليزيّ (جون لوك) إلى اعتبار الدين شأنًا خاصًّا، وهذا يعني ضرورة الفصل بين الدولة والكنيسة، حيث يقول: «لا بدّ لنا من اعتبار أنّ واجب التسامح يتطلّب من الذين يتمايزون عن بقيّة الجماعة اللائكيّين، كما يحبون أن يقولوا...مهما يكن مصدر سلطتهم، وبما أنّها كنسيّة، فيجب عليها أن تمارس داخل حدود الكنيسة، ولا يمكنها أن تمتدّ بأيّ طريقة كانت إلى القضايا المدنيّة»[8]. ومن الحجج التي يقدّمها لوك لتبرير هذا الانفصال، أنّ الدولة تهتمّ بما هو زمنيّ، أمّا الدين فيهتمّ بالخلاص الروحيّ لأتباعه، ولا يمكن للدولة أو لرجال القانون، مهما فعلوا أن يحقّقوا ذلك؛ لأنّ ذلك لا يتحقّق بقانون أو مرسوم، أو بالعنف الذي يمكن أن تمارسه السلطة المدنيّة على أفرادها ومواطنيها، بل التأمّل الفرديّ هو وحده القادر على ذلك، ولنفترض أنّ السلطة السياسيّة تلجأ إلى الإرغام من أجل فرض هذا المعتقد أو ذاك، فإنّ هذا يؤدّي إلى نتيجتين:-

أ-‌ إمّا أنّ الرعايا سيقتنعون بمحض إرادتهم بهذه المعتقدات، وبالتالي لن يكون اللجوء إلى الإرغام مفيدًا.
ب-‌ وإما ألَا يقتنعوا، ومن ثمَّ  فإنّ أيّ لجوء إلى القوّة لن يغيّر آراءهم؛ لأنّ أفكارهم ليست خاضعة لسلطة أحد؛ لذلك فإنّ وظيفة الحاكم السياسيّة تتمثّل في تحقيق المنافع المدنيّة

وإن تمّ ترسيخ فكرة كون المعتقد شأنًا خاصًّا، فلا مانع بعد ذلك أن يسعى الناس إلى تكوين جماعات دينيّة، لما لهذا العمل من المزايا التي لها علاقة بالإعلان، فالله جدير ويستحقّ أن نعلن حبّنا له وعدم خجلنا من ممارسة طقوس العبادة له أمام الناس أو معهم. يظهر من خلال رسالة لوك أنّ التسامح ليس مطلقًا، ولا مفتوحًا على كلّ الجماعات ذات الانتماءات الدينيّة المختلفة، بل يكون داخل الدين الواحد، وعندما يحدث وأن يقدّم الناس تصوّرات أو تأويلات مختلفة لكن متطابقة مع الإنجيل والعقل، فكلّ من يبقى داخل هذه الحدود من الواجب التسامح معه؛ لأن النصّ الدينيّ متعدّد المعاني، وثمّة مَن يتمسّك بحرفيّتها ولا يتجاوزها. وثمّة مَن يتجاوزها لصالح معانٍ أخرى أكثر عمقًا، وقد فسّر (جون لوك) ظاهرة الإلحاد: (pantheism) بأنّها الانقسام داخل الدين، بسبب محاولة البعض تقديم فهم لا يتطابق مع النصوص الحرفيّة لذلك الدين، حيث يقول: «فالتسامح يكون تجاه من يملكون آراء دينيّة مختلفة، لكن متطابقة مع الإنجيل والعقل، بحيث تظهر كجريمة من طرف الرجال الذين لا يستطيعون الرؤية في هكذا نور»، وهذا النور يتمثّل في أنّه على الرغم من الاختلاف في بعض الآراء الدينيّة، إلّا أّنها تكون متطابقة مع العقل والإنجيل، كالاختلاف بين البروتستانت والكاثوليك والأرثوذكس، فالتسامح عند (لوك) يكون تجاه تلك الانقسامات التي عرفتها المسيحيّة. ولم يكن في وسع السلطات السياسيّة أن تستمرّ في عدم تسامحها مع الأديان الأخرى داخل الدولة[9]، فالأساس الديمقراطيّ الذي قامت عليه المجتمعات الأوروبّيّة المعاصرة يعتبر الدين شأنًا خاصًّا يقع خارج حدود الإجماع أو الانتخاب، فلا يمكن بالإجماع اختيار دين المجتمع؛ لأنّه في هذه الحالة سيتمّ الأخذ برأي الأغلبيّة وإرغام الأقلّيّة على ذلك، وهذا يمثل مساسًا بالحرّيّات الفرديّة وخاصّة حرّيّة المعتقد.

إنّ التمييز بين الخاصّ والعامّ ليس دائمًا أكيدًا، وإمكانيّات التداخل بينهما واردة عندما يتقاطع الزمنيّ والدنيويّ مع اللازمنيّ والروحيّ؛ لأنّ كلاهما يسكنان كائنًا واحدًا هو الإنسان، والدين يصبح شأنًا عامًّا في مثل هذا التداخل، تقول جولي سعادة، شارحةً رأي روسو،: «فحرّيّة المعتقَد يمكنها أن تكون مضرّة للسلم المدنيّ، والنظام السياسيّ يحتاج لمعتَقَد اجتماعيّ مشترك. وبخلاف لوك فإنّ روسو لا يضع الدين في دائرة الشأن الخاصّ، فالدين شأن عامّ»[10]. وبحسب روسو نفسه في عقده الاجتماعيّ، فإنّ «كل معتقد وكلّ دين يحمل معه جملة من التصوّرات حول الحياة والموت، ويدعو إلى أسلوب في العيش، وطريقة في التعامل مع الآخرين، وإذا حدث وأن تعدّدت أو تناقضت هذه التصوّرات داخل المجتمع الواحد، هدّد ذلك وحدته وتماسكه»؛ لذلك يجب أن يكون لكلّ مجتمع دين واحد فقط سماه روسو «الدين المدنيّ»، وهو ليس الدين الخاصّ أو الفرديّ، بل الدين العامّ والاجتماعيّ، وهو يؤدّي إلى الشعور بالوطنيّة، وللدولة الحقّ في إقصاء ونفي من لا يشارك فيه، من أمثال الملحدين الذين لا يمكنهم أن يكونوا مواطنين صالحين. كما أنّ (سبينوزا) ليس من دعاة الفصل بين السياسيّ والدينيّ؛ لأنّ السماح بمأسسة سلطة روحيّة مستقلّة ومنفصلة عن الدولة، يعود في الأصل إلى إنشاء دولة داخل الدولة، وبالتالي إفلاس السيادة، لكن الواقع السياسيّ المعاصر يثبت إمكانيّة الفصل بين الدولة والدين دون أن يؤدي ذلك إلى إضعاف السيادة على الأقل في الدول المتقدّمة، وليس بالضرورة الأوروبيّة منها فقط، ولم يكن ذلك ليحصل لولا إحداث فصل جديد،  فإلى جانب الفصل المِهْنِيّ –الوظيفيّ -بين الخاصّ  والعامّ، والسياسة والدين، جاء الفصل بين التفكير والعمل، فالحرّيّة الممنوحة للمواطن في مجال المعتقدات خاصّة ترتبط -في أغلبها – بالتفكير، أمّا أفعاله فهي خاضعة للقانون والدستور، وهذا في الأصل جوهر الحرّيّة. إنّ الحرّيّة لا تتمثّل في الصدفة أو العشوائيّة، ولا في الخضوع للرغبات الفرديّة، بل في الامتثال للقوانين وسلطة الدولة تقول جولي سعادة: «لا يجب القول إنّ المواطنين أحرار في العيش تبعًا لتكوينهم الفرديّ. حرّيّة التفكير مشروطة بالتمييز بين الأفعال والأفكار، هو حرّ في التفكير من يخضع أفعاله لما يسمح القانون بفعله»[11].  إنّ نظريّة التعاقد الاجتماعيّ تعني أن يتنازل كلّ فرد عن جزء من سلطته، لصالح قوة جديدة هي الدولة، فهي وحدها قادرة على كبح الانفعالات العنيفة وتسمح للفرد بممارسة حقوقه المعنويّة والمادّيّة، بما في ذلك حقّ التفكير فيما يرغب فيه، والتعبير عما يفكر فيه في حدود ما يسمح القانون به، القانون الذي يمثّل مجموع السلطات الفرديّة التي تنازل عنها الأفراد لصالح سيادة جماعيّة، في ظلّ هذه الشروط فقط يمكن الفصل بين السياسة والدين، وتحقيق التسامح المنفتح على الأقلّيّات الدينيّة، ويمكن بالتالي جعل الدين شأنًا خاصًّا دون أن يلحق السلم المدنيّ أيّ خطر.

لقد كانت العلاقة القائمة بين الكنيسة والسياسة في العصر الوسيط مبرّرة، فدور الكنيسة يتمثّل في منح الشرعيّة للأمير بإضفاء هالة القداسة عليه، تبعًا لما كان يُعرف بنظريّة التفويض الإلهي، أمّا دور السياسيّ فكان تزويد الكنيسة بالأداة المادّيّة والقوّة اللازمة لمعاقبة الملحدين والكافرين بحبسهم أو جلدهم أو قتلهم، فالتسامح لم يكن ممكنًا مع هؤلاء المنحرفين الذين بطعنهم في سلطة الكنيسة كانوا يطعنون في سلطة الحاكم؛ لذلك فإنّ الفصل بين الدين والسياسة سمح بتجسيد فكرة التسامح والحرّيّة الدينيّة. يقول ريكور: «في حدود ما أصبحت السلطة الكنسيّة شيئًا فشيئًا لا تشترط من ضرورة منح الشرعيّة للأمير، أمكنها التخلّي عن استعمال الذراع الدنيويّ للمعاقبة بالقوّة، لما كانت تعتقد أنّه صحيح لاهوتيًّا، وفي المرّة التي لم تعطِ فيها الشرعيّة للأمير، أصبحت على الطريق الذي ستكتشف أنّ سلطتها الوحيدة هي سلطة الكلمة»، إنّ سلطة الكلمة هذه لا تعني أكثر من أنّها أصبحت تشغل وظيفتها الروحيّة، وتتموقع على ساحة الأفكار، لا على ساحة الدنيويّ والسياسيّ، وبالتالي ضرورة إنتاج خطاب جديد لما يمكن أن نسمّيه الإلحاد، ينفتح أكثر على التسامح[12]. كما أنّ سلطة الكلمة هذه تتمثّل في وسائل الإقناع غير المرفقة بالعنف، وإعادة الاعتبار لمنطق العقل، والاشتغال على الضمير لكسب مزيد من المؤمنين والمخلصين، وهذا يتماشى مع مفهوم التسامح كما عرّفه غوبلو في كتابه  «المصطلحات الفلسفيّة «، يقول بدوي: «ليس التسامح هو التخلّي عن المعتقدات الخاصّة أو الامتناع عن إظهارها والدفاع عنها ونشرها، بل الامتناع عن كلّ الوسائل العنيفة، أو المهينة، أو المؤلمة، وبالجملة فإنّ التسامح هو اقتراح الآراء دون السعي إلى فرضها على الآخرين»[13].

وثمّة ربط غريب بين التسامح وأنواع الديانات - وخاصّة الوثنيّة منها والتوحيديّة -، فالوثنيّة مرتبطة بالتسامح، والديانات التوحيديّة مرتبطة باللاتسامح، وأمّا المقاربة التي يضعها ديفيد هيوم بين طقوس الإذلال واللاتسامح في الديانات التوحيديّة، فهي ناتجة عن الممارسات الموجّهة نحو الجسد كمصدر للشرور، فالتكفير عن الخطيئة لا يكون إلّا بواسطة إهانة الجسد وإذلاله، بإزالة كلّ أثر للذّة، من أجل تطهير النفس، فالعلاقة التي يقيمها الإنسان مع جسده في مثل هذه الطقوس، تتميّز باللاتسامح والعنف، وتجعل الإنسان في تناقض مع ذاته، بالإضافة إلى العنف الموجّه نحو باقي أفراد المجتمع،  والذي يرجِعه جان جاك روسو إلى الانقسام الحاصل بين النسق اللاهوتيّ وبين النسق السياسيّ، مما كان سببًا في تهييج الشعوب المسيحيّة. ورأى أنّ الإسلام استطاع أن يوحّد بين النسقين، إلى أن اختلط العرب المسلمون بالشعوب الهمجيّة، فبدأ الانفصال بين السلطتين، ويقول: «كان لمحمّد (يقصد رسول الله صلّى الله عليه وسلم) رؤى جدّ طاهرة، لقد وحّد نسقه السياسيّ، وإلى أن تواصل شكل حكومته مع الخلفاء التابعين، فإنّ هذه الحكومة بقت بالضبط واحدة، وخيرة لذلك، لكن العرب عندما أصبحوا مزدهرين، متعلّمين، متأدّبين، ليّنين وجبناء وقعوا تحت غواية الهمج، عندها بدأ الفصل بين كلا السلطتين من جديد، وإن كان أقلّ بروزًا عند المحمديّين منه عند المسيحيّين...[14]. هذا الربط بين انفصال السلطتين، والانتقال إلى المرحلة الثقافيّة يبيّن أنّه في المرحلة الروحيّة ثمّة سيطرة تامّة على الغرائز، بخلاف المرحلة الثقافيّة التي يكون فيها العقل أقلّ تحكّمًا في الغرائز -كما رأى ذلك  المفكّر النهضويّ الإسلاميّ المغاربيّ-  (مالك بن نبي).
-الحل عند روسو هو ردّ كلّ شيء إلى الوحدة السياسيّة التي تعطي التأسيس السليم لأيّ حكومة، ومن أجل ذلك لا بدّ من نقد الأشكال الدينيّة التقليديّة الثلاث، ومنها دين الإنسان ودين المواطن، فالأوّل يتميّز بالبساطة ولا يلتزم طقوس العبادة المعقّدة، أمّا دين المواطن فهو يختلف من أمّة لأخرى من حيث الطقوس والعادات المسجّلة بواسطة القوانين، وكلّ أمّة ترى أنّ ما عدا هذه الطقوس يعتبر خيانة. إنّ دين الإنسان يركّز على ما هو جوهريّ وداخليّ. ويقدّم روسو شكلًا ثالًثا من الدين هو الدين الوثنيّ، فهذا الشكل يجعل الناس أمام واجبات متناقضة، فيمنعهم من أن يكونوا مؤمنين ومواطنين في الوقت نفسه. وينتقد روسو هذه الأشكال الثلاث، فهو ينتقد الدين المسيحيّ في كلا مظهريه: دين المواطن ودين الإنسان، فدين المواطن يجعل من الشعب دمويًّا وغير متسامح، ويظنّ أنّه يقوم بأفعال مقدّسة بقتل كلّ مَن لا يقبل معتقداته؛ أمّا دين الإنسان الذي لا يبحث إلّا عن الأهداف الروحيّة، فإنّه لا يستطيع تحقيق ذلك؛ لأنّ فكرة الكمال -وإن تحقّقت - ستفقد كلّ صلة مع الواقع، فالكمال عامل تدمير. إنّ مجتمعًا من المسيحيّين الحقيقيّين لا يمكن أن يكون مجتمع رجال، بالإضافة إلى أنّ الحياة الدنيويّة لن يكون لها في نظرهم أيّ ثمن، أمّا الديانة الوثنيّة، فإنّها تجعل الإنسان غير اجتماعيّ بالانقسامات التي تُحْدِثها داخل المجتمع. يقول روسو في نقده لهذه الأشكال الثلاث: «-بالاعتبار السياسيّ لهذه الأشكال الثلاثة من الدين-، فإنّ لكلّ واحد منها عيوبه.......عندما يفقد المجتمع وحدته الاجتماعيّة، فإنّه لا يساوي شيئًا، كلّ المؤسّسات التي تضع الإنسان في تناقض مع ذاته لا تساوي شيئًا». ولتجاوز ذلك يقترح روسو «الدين المدنيّ» في إطار الوحدة السياسيّة، بحيث يكون للحاكم حقّ تحديد قواعده، ليس كمعتقدات دينيّة، ولكن كإحساس اجتماعيّ يهدف إلى تكوين مواطنين فاضلين ورعايا طائعين، وبدون أن يُرغم أيّ شخص على التصديق بها، لكن يحقّ للدولة إقصاء ونفي من لا يؤمن بها، ليس باعتباره ملحدًا، ولكن باعتباره شخصًا غير اجتماعيّ. إذا فإنّ روسو يهدف إلى إرجاع السلطة الدينيّة إلى السلطة السياسيّة، وفي الوقت نفسه يجرّدها من طابعها الدينيّ، ويصبغها بالأهداف الاجتماعيّة المتمثّلة في حفظ أمن المجتمع، والمحافظة على وحدته، وطاعة القوانين المدنيّة أخيرًا[15].

إنّ معتقدات الدين المدنيّ عند روسو لا تتجاوز الاعتراف بوجود إله قويّ، ذكيّ محسن، متنبّئ... والإيمان بالحياة الآخرة، الثواب العادل، وعقاب الأشرار، قداسة العقد الاجتماعيّ والقوانين التي يسمّيها روسو «بالاعتقادات الإيجابيّة»؛ وفي المقابل هناك «الاعتقادات السلبيّة «، ويحدّدها في واحدة فقط قائلا: «...وفيما يخصّ الاعتقادات السلبيّة، فأحدّدها في واحدة فقط هي اللاتسامح، فهي تدخل ضمن المعتقدات التي أقصيناها». إنّ المجتمع المؤسَّس على اللاتسامح الدينيّ يؤثّر على الحياة المدنية، حيث يجعل رجال الدين هم المتحكّمين الفعليّين فيها. فتصبح الكنيسة هي الدولة، ويرى روسو أنّ ثمّة إمكانيّة للتسامح الدينيّ داخل مجتمع الدين المدنيّ، إذا كانت معتقدات الديانات الأخرى تتسامح مع الآخرين ولا تتناقض مع واجبات المواطن[16].

 إنّ ما يهمّ روسو هو تحقيق الوحدة السياسيّة داخل المجتمع، وذلك بأن تكون القوانين والتشريعات نابعة من المجتمع ذاته لا من سلطة خارجيّة، وما دامت المعتقدات لا تتناقض مع القوانين الاجتماعيّة، فيمكن القبول بها داخل المجتمع، إنّها فلسفة لا تقضي على الدين بقدر ما تحاول إزالة الصراعات الاجتماعيّة الناتجة عن اللاتسامح الدينيّ. والفصل بين السياسة والدين يدخل ضمن تجريد رجال الدين من الوسائل المادّيّة التي تُستخدم لتكريس اللاتسامح والعنف. أمّا المناداة بالدين المدنيّ، فهو محاولة لتجاوز الأشكال الدينيّة التقليديّة، وإضفاء البعد الدينيّ على السياسة لا لئلا توصف بالإلحاد، بل لأنّ الدين المدنيّ يحدّد قواعد الاعتقاد العامّة والمشتركة التي لا تتناقض مع القوانين والقواعد الاجتماعيّة؛ لذلك فإنّ الدين المدنيّ له نظرة إيجابيّة إلى السياسة والفلسفة؛ لأنّ الفلاسفة هم الذين أسّسوا له نظريًّا، والسياسيّون هم الذين أعلنوه عمليًّا، سواء بسواء ( روسو – فولتير –لوك).

إنّ عمليّة الربط هذه تسري على معظم فلاسفة الأنوار، فهذا الفيلسوف اليهوديّ الألمانيّ (باروخ سبينوزا) دعا إلى فكرة التسامح مع من نختلف معه، بل الدفاع عن أفكاره حتى وإن كانت خاطئة، وذلك في كتابه رسالة اللاهوت والسياسة عام 1670م، وعلى الرغم من أنّ سبينوزا قد دعا إلى الدفاع عن الحقّ الدستوريّ لكلّ فرد في التفكير فيما يشاء وقول ما يفكّر فيه، حتى وإن كانت آراؤه تظهر لنا على أنّها خاطئة، إلّا أّنه دعا في الوقت نفسه  إلى محاربة كلّ الأفكار الخاطئة وغير العقلانيّة التي لا يمكن البرهنة عليها، أو لا يمكن أن تكون موضوعًا للتواصل، عكس الأفكار العقلانيّة التي لا تحتاج إلى أيّ سلطة خارجيّة ما عدا سلطتها الداخليّة، وذلك بما تتضمّنه من معقوليّة. يرى سبينوزا أنّ التسامح هو اعتراف بحرّيّة الآخر، ويؤكّد سبينوزا على ضرورة منح الحرّيّة المطلقة في التفكير لجميع الأفراد وذلك من خلال النقاط الآتية:   
1- يستحيل سلب الأفراد حرّيّتهم في التعبير عما يعتقدون.
2- لا يهدّد الاعتراف بهذه الحرّيّة حقّ السلطة العليا أو هيبتها، ويستطيع الفرد الاحتفاظ بحرّيّته دون تهديد لهذا الحقّ بشرط ألّا يسمح لنفسه بتغيير قوانين الدولة المعترف بها، أو بأن يفعل شيئًا ضدّ القوانين العامّة.
3-لا يجلب التمتّع بهذه الحرّيّة أيّ خطر على التقوى.

- وهنا نلحظ مدى اهتمام سبينوزا بضرورة منح الأفراد الحرّيّة في التعبير عما يريدون، ولكن ليس عمّا يفعلون، حيث يقول إنّه من الفسوق أن يفعل المرء شيئًا طبقًا لرأيه الخاصّ ضدّ مشيئة السلطة العليا التي يعدّ هو أحد رعاياها؛ إذ إنّه لو استباح الجميع لأنفسهم أن يفعلوا ذلك، لأدّى هذا إلى انهيار الدولة.
- ويقول: «لا يتمثّل التسامح في اعتبار أنّ أيّ رأي صحيحٌ، ولكنّ الاعتراف بالحرّيّة الكاملة للغير في التفكير بذاته والتعبير عن آرائه...» إذن: فالتسامح مشروط  بالسماح لكلّ  فرد في  التفكير والتعبير عن آرائه من جهة، ومن جهة أخرى، مشروط بمحاربة هذه الآراء إن كانت خاطئة، ولا تنسجم مع نظام الطبيعة، ومعيار صحّة الأفكار هذه، هو أنّ معرفة الإنسان للأشياء تجعله يتعرّف أكثر على قدراته، وعلى نظام الطبيعة وقوانينها. ويمكنُه ذلك من توجيه ذاته، وأنّه كلّما عرف نظام الطبيعة، كلّما صاغ قواعدها بسهولة[17]. 

عالج الفيلسوف الألمانيّ إيمانويل كانط (1724- 1804م) موضوع التسامح في مشروعه حول السلام العالميّ الدائم والشامل بصورة مركّزة، وذلك على هيئة مبادئ في رسالته الموسومة: (مشروع السلام الدائم) والتي نشرها عام  1795م، كما تجلّت فكرة التسامح عنده أيضًا في فلسفة الأخلاق، ومن خلال العقل العمليّ، ويسيّرها ضمير الإنسان، وإيمانه، وعبر مفهوم التضحية والواجب بوصفهما منطلقان أخلاقيّان لها، وعندما يصبح الدين مجرّد مسلّمة من مسلّمات العقل العمليّ. والرجاء قائم على نجاح هذه الأخلاق الجديدة، عن طريق جعل الإيمان داخل العقل، وهكذا يستطيع الإنسان تجاوز ضعفه، هذا الضعف ليس ناتجًا عن نقص الفهم، ولكن عن قلّة القرار والشجاعة في استعمال الفهم الخاصّ عندما نكون تحت توجيه الآخر. والدين عند كانط ليس شيئًا نخضع له، بل يجب أن ينبع من العقل (العمليّ) ذاته = الإيمان القلبيّ الوجدانيّ الغيبيّ بتعبير فلاسفة الإسلام. ووفق مفهوم كانط - يجب أن لا يسيطر الدين على الإنسان كقوّة أجنبيّة غريبة، بل لا بدّ أن يكون نابعًا من حرّيّته الداخليّة-يقصد القناعة بالدين من الداخل - وليس بالقوّة الخارجيّة، والتي هي المبادئ والتعاليم الرسميّة المقرّرة. والدولة - بنظر كانط - من أهمّ وسائل تحقيق السلام العالميّ، إذ يقول كانط: «الدولة وسيلة لخدمة الأفراد وليست غاية»، ووظيفتها بحسب كانط تحقيق حلم السلام الدائم، ويرى كانط أنّه لكي يكتمل مشروعه أيضًا، ولكي يتحقّق سلام الجنس البشريّ، فإنّ ذلك يستدعي تحقيق الكمال الأخلاقيّ الأقصى للبشريّة، حيث يقول كانط: إذا كان الله قد أعطى كلّ فرد جزءًا من السعادة، فليس بعطاء الإرادة الإلهيّة فقط نكون سعداء، بل يجب أن نجعل أنفسنا مستحقّين للسعادة بهذه الأخلاقيّة الحقّة والكمال الأخلاقيّ الأسمى، وأن نعمل من أجل السلام لكي نكون مستحقّين السلام، فهذا السلام هو الغاية النهائيّة والمصير الذي يمكن للجنس البشريّ أن يبلغه، ولكنّه أمل لا يزال بعيدًا، حيث يحتاج قرونًا كثيرة قبل أن يمكن تحقيقه[18].

وعالج الفيلسوف الإنجليزيّ (برتراند راسل ت1978م) هذه القضيّة بمنهج يقترب من منهج كانط، وبخاصّة في مشروعه حلم السلام الدائم المناظر لكانط، يقول راسل: «إنّ الأحقاد التي توارثتها الشعوب سببها أطماع الحكّام»[19].

- وجملة القول: إنّ نظريّة الدين الطبيعيّ التي أسّس لها فلاسفة الأنوار لم تتحقّق، لكن تواصل وجودها من خلال ظهور فئة من الناس يعتبرون أنفسهم مؤمنين لكن غير ممارسين لطقوس العبادة، ويعنون بذلك أنّهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، دون أن يستندوا في خطاباتهم إلى الكتاب المقدّس أو إلى أقوال المسيح. ويظهر تأثيرها كذلك في الفلسفة التي تراهن على قيمة العقل والحرّيّة لمحاربة الشر، وهذا يتجلّى في فلسفة الأخلاق عند كانط عندما يصبح الدين مجرّد مسلَّمة من مسلّمات العقل العمليّ، والرجاء قائم على نجاح هذه الأخلاق الجديدة، عن طريق جعل الإيمان داخل العقل، هكذا يستطيع الإنسان تجاوز ضعفه، هذا الضعف ليس ناتجا عن نقص الفهم، ولكن عن قلّة القرار والشجاعة في استعمال الفهم الخاصّ، عندما نكون تحت توجيه الآخر، الدين ليس شيئًا نخضع له، بل يجب أن ينبع من العقل ذاته،  يجب أن لا يسيطر الدين على الإنسان كقوّة أجنبيّة، بل لا بدّ أن يكون نابعًا من حرّيّته الداخليّة، وأمام هذا الدين الطبيعيّ ليس المسيحيّون والمسلمون إلّا ملحدين ومنحرفين. والحّجة أنّ كلّ الأديان يمكن أن تنتهي ما عدا الدين الطبيعيّ -كما يرى ديدرو-. يقول كاسيرر: «كلّ ما له بداية سيكون له نهاية، وكلّ مَن لا يكون له بداية لا ينتهي أبدًا[20]. لكنّ المسيحيّة لها بداية، واليهوديّة لها بداية، ولا يوجد أيّ دين على الأرض لا ُيعرف زمن بدايته، ما عدا الدين الطبيعيّ – بحسب هيوم وجماعته من متأخّري فلسفة الدين الطبيعيّ في أوروبّا- هو الوحيد الذي لن ينتهي أبدًا، وأنّ الآخرين سيمضون إلى السؤال؟؟ هل يمكن التفكير في منشأ الدين الطبيعيّ في حدود الأسباب العقلانيّة والأخلاقيّة؟ وهل يمكن لهذا الدين أن يخلد بدون طقوس العبادة؟

ليس الفكر والإرادة الأخلاقيّة هما اللذان كوّنا الأديان، وليسا هما اللذان قاما بتغذيتها. فالإنسان اقتيد بالأمل والخوف إلى الإيمان، وهذا هو الأساس الأنثروبولوجيّ للدين، ومن هنا وقع التناقض بين الدين الطبيعيّ ذو الأساس الفلسفيّ، وبين الديانات الأخرى ذات الأساس الإلهيّ المتعالي، وباختصار التناقض بين الفلسفة والدين. الإنسان الذي يعتقد بدين الوحي هو بنظرهم غير متسامح بالضرورة؛ لأنّه -كما يرون - يستمدّ الحقيقة من مصدر فوق إنسانيّ موثوق فيه، أمّا الدين الطبيعيّ، فهو ينتمي إلى مرحلة العقل النقديّ، أي العقل الذي يضمن ذاته بذاته، ضمن الحدود التي وضعها لنفسه، حدود ما يمكن البرهنة عليه وما لا يمكن إلّا التسليم به فقط، ومن الضروريّ أن يكون الفيلسوف متسامحًا؛ لأنّ الحقيقة بالنسبة إليه موضوع بحثٍ مستمرٍ. يقول جون لاغري: «يجب على الفيلسوف أن يكون متسامحًا مع التصوّرات الأخرى؛ لأنّه يعلم كلّ تفكير مشكوك فيه وموضوع للمراجعة، أمّا إنسان دين الوحي، فهو بالضرورة غير متسامح في موضوع الاعتقاد.....[21].

إنّ التسامح المؤسّس له -من وجهة نظر فلاسفة الأنوار- يشترط مجموعة من الانفصالات الأساسيّة، كالفصل بين الشأن العامّ والشأن الخاصّ، الفصل بين الكنيسة والسياسة عند لوك، الفصل بين الفعل والتفكير عند سبينوزا، الفصل بين الفلسفة والدين، أو بين الأخلاق  والدين عند كانط، ولكنّ هذا التسامح فرضته ضرورة تاريخيّة متمثّلة في حالة الصراع  والعنف التي عرفتها أوروبّا، والتي كادت أن تهدّد وجودها، وظهوره كان متزامنًا مع ظهور النظام الاقتصاديّ الليبراليّ، والدعوة إلى القيم الديمقراطيّة الأساسيّة، وخاصّة الحرّيّة التي امتدّت إلى المعتقدات الدينيّة. ومناقشة مفهوم التسامح، أو محاولة التأسيس له كانت تثير دائما المسألة الدينيّة، انطلاقًا من العلاقة الموجودة بين العقل والدين، الإنسان  والله، النسبيّ والطلق، النور الطبيعيّ والنور فوق الطبيعيّ، ولم يكن هدف هذه النقاشات القضاء على الدين أو إقصاؤه من الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، بل هناك تأويل للدين بما يتوافق مع متطلّبات اللحظة التاريخيّة. يقول جان فال: «إذا كانت فلسفة الأنوار تأخذ كلّ الأشكال وتتطرّق لكلّ الاختصاصات، انطلاقًا من النور الطبيعيّ، فإنّه تبقى لها أبعاد دينيّة وأخلاقيّة، حتّى في تجلّياتها الأكثر لائكيّة» (علمانية)[22]. ويرى كاسيرر أنّ ما يعارض الإيمان ليس عدم الإيمان، بل الخرافة التي تقف في وجه التقدّم العلميّ، والجهل الذي يريد أن يفرض نفسه كحقيقة، بحيث يسقط الفكر في أخطاء ذاته، ويبقى سجينًا دائمًا لها، ليس كما لو كان وهمًا لا إراديًّا بل بطريقة إراديّة، وهذا ما أدّى إلى ظهور الهرمينوطيقا التي تهدف إلى إزالة الأوهام (illusions, delete)[23].

الأبعاد الحضاريّة لمفهوم التسامح عند فلاسفة الغرب
-يظهر مفهوم التسامح الذي أسس له فلاسفة الأنوار مليئًا بالقيم الإنسانيّة الإيجابيّة، ووسيلة للحفاظ على الأمن الاجتماعيّ، وحماية الحرّيّات الفرديّة، وضمان حقوق الأقلّيّات الدينيّة، واستثمار الخطابات المتعدّدة، وفي المقابل يظهر مفهوم اللاتسامح كمصدر لكلّ الشرور والصراعات المدمّرة، وهو على رأس القيم السلبيّة التي حدّدها روسو. يقول أومبرتو إيكو: «الأصوليّة، التطرّف، التعصّب شبه العلميّ، كلّها مواقف نظريّة تتطلّب مذهبًا، أمّا بالنسبة للاتسامح، فإنّه يفحص خارج كلّ مذهب، إنّه أكثر خطورة؛ لأنّه يولد من الغرائز الأوّليّة»[24]. إنّ الصياغة النظريّة للمواقف الأكثر تطرّفًا تقلّل من تطرّفها؛ لأنّها تستلزم تدخّل العقل والتفكير اللذين يحدّان من المشاعر العدوانيّة اتجاه الغير، أمّا اللاتسامح فهو لا يستند ولا يقوم على أيّ مذهب، بل ينبع فقط من الغرائز الأوّليّة التي تجعل منه أكثر خطورة، وتجعل الحوار مع ممثليه غير ممكن؛ لأنّه لا يقدّم لنا تصوّراته على شكل أفكار منظّمة يمكن مناقشتها. ويرى (أومبرتو إيكو) أنّ اللاتسامح له جذور بيولوجيّة، فالإنسان بطبيعته عدوانيّ وعنيف، وسلوكه قائم على ردود فعل انفعاليّة تكون في غالب الأحيان على ملاحظات سطحيّة، إنّنا لا نحب الذين يكونون مختلفين عنّا؛ لأنّ لديهم لونًا آخر للبشرة، أو لأنّهم يتكلّمون لغة لا نفهمها. 

ومثلما شهدت فكرة التسامح تطوّرًا على يد راسل في أوائل القرن العشرين الميلاديّ، وفيلسوف العلم (جون ستيوارت مل) قبله، شهدت كذلك إسهامًا ملحوظًا، وتحديدًا بعد الحرب العالميّة الأولى. 

- يعتقد الفيلسوف الفرنسيّ المعاصر (إرنست كاسيرر) أنّ التسامح الذي فيه نزعة من اللامبالاة الخالصة لا نجده إلّا عند بعض المفّكرين من الدرجة الأخيرة، وهذا النوع من التسامح يقبل كلّ الأفكار دون مراعاة نسبة الصواب والخطأ فيها، ويرى أنّ الجميع على صواب مهما كانت آراؤهم، وبالتالي لا يرى داعيًا للدفاع عنها، وهنا جانب اللامبالاة فيه. وقد لاحظ ريكور أنّ «الحوار النقديّ» يمكن أن ينعدم في حالة التسامح المفرط الذي يرى أنّ كلّ الآراء سواء، ولن يوجد بالتالي من سيدافع عن الحقيقة. تقول جولي سعادة: «إذا كان التسامح يدعونا إلى تقدير كلّ الآراء بحيث نتوقّف على إصدار كلّ حكم حولها، أو لا نقلّل من قيمتها، ألا نخاطر بإفلاس مقدمًا كلّ نقاش نقديّ؟ التسامح سيكون بالتالي موقفًا يكتفي بأن لا يثبت أيّ حقيقة، أو الدفاع فقط عن حقيقته...»[25].

أمّا الحوار النقديّ، فيحتاج كما في الحوار السقراطيّ إلى التهكّم والسخرية بغية تجاوز الأفكار المسبقة أو الجاهزة، للعلو إلى مرتبة أعلى من المعرفة، أو كما هو الحال عند السفسطائيّين الذين يشكّكون في كلّ الحقائق ويطالبون الخصوم دائمًا بتقديم الأدلّة التي تثبت صحّة أفكارهم، وبهذه الطريقة استطاعوا تنقية المجتمع من كثير من الخرافات نفس فكرة فولتير.

وأخيرًا، يميز ريكور بين التسامح والاحترام، فقد يحصل أثناء الحوار ألّا نتسامح  مع آراء الآخرين وألّا نقبلها، ونحترم أصحابها في الوقت نفسه، فهذا ليس مبرّرًا للإساءة إليهم، وما نحترمه فيهم هو كونهم أناسًا أحرارًا، فالتسامح لا يعني دائمًا قبول الرأي الآخر. وهذا ما عبّر عنه فولتير في قوله: «قد أختلف معك في الرأي، لكنني سأدافع دائمًا عن حرّيّتك»[26].

وعلى الإيقاع نفسه عزف الفيلسوف الألمانيّ المعاصر (فردريك نيتشة) -وإن ظهر في رأيه نوع من الغرابة - في حديثه عن التسامح المقبول واللاتسامح، والقائم هو وجملة ممارساتنا على إرادة القوّة والإنسان الأعلى (السوبرمان). ففي كتابه المشهور (هكذا تكلّم زرادشت) يقترح نيتشه في المقابل إرادة القوّة والإنسان الأعلى، أمّا الشفقة فهي شعور باللذّة من طرف أولئك الذين لهم أنفة أقلّ ولا يستطيعون تحقيق الفتوحات الكبيرة. إنّ السمّ الذي يموت به نوع ضعيف جدًّا يعتبر منشّطًا للقويّ، هكذا لا يأبه القويّ بأن يعتبره سمّه، بمعنى أنّ الأخطار والتحدّيات التي تؤدّي إلى هلاك نوع ضعيف يمكن أن تكون سببًا لانبعاث وتقدّم نوع قويّ، فلا يسمي هذه المخاطر مهالك، بل شروطَ وجودٍ. إنّ كثير من القيم الأخلاقيّة كانت من إنتاج الضعفاء كي يحموا أنفسهم من الأقوياء، وهي تمجّد في الأغلب التواضع، التضحية بالنفس واحتقار الذات...، فهي مجرّد ردّ فعل باستعمال الحيل وابتداع عالم ميتافيزيقيّ يتلقّى فيه المسيؤون أشدّ أنواع العقاب، في حين أنّ الأقوياء في إبداعهم للقيم ينطلقون من ذواتهم وما تتصف به من خصائص. أن نحيا معناه عند نيتشه أن نكون قساة بدون رحمة وبلا شفقة مع كلّ ما هو ضعيف وبالٍ فينا[27].

   إنّ المناداة بالتسامح بدون تأسيس قانونيٍّ لهٌ هي محاولة لإخفاء أشكال اللاتسامح والتطرّف السائدة في المجتمع، كما أنّ التسامح المفرط غير المبالي يؤدّي من جهة إلى ضياع الحقيقة، ومن جهة أخرى إلى إفلاس التسامح ذاته. يمكن إقامة علاقة مع الغير تتّسم بعدم التسامح والاحترام في الوقت نفسه. إنّ رفض آراء الآخرين ليست مبرّرًا كافيًا للإساءة إليهم أو لمنعهم من التعبير عنها؛ لذلك فإنّ التسامح لا يمكن أن يكون مرهونًا بعدم استخدام الوسائل العنيفة، خاصّة وأنّ طبيعة الخطاب واللغة تحمل في ذاتها عنفًا كما سبق أن أشار إلى ذلك ليفيناس. والحكمة نفسها تتطلّب من أصحابها التهكّم والسخرية، هي تحتاج إلى رجل محارب بدون شفقة، يدمّر القيم السائدة، قيم القطيع التي تؤسّس للوجود من موقع الضعف، فيجب والحالة هذه الدفاع عن الحقيقة من موقع القوّة والمرح والإقبال على الحياة، وتدمير القيم البالية وكلّ ما هو ضعيف في الإنسان[28]. وما يبرّر ذلك كلّه في فلسفة الأنوار هو الإنسان عند نيتشه، ولدى الفلاسفة المعاصرين هو الحقيقة كما عند ريكور، فالعنف ليس مجّانيًّا، وهو يوظّف لصالح القيم الأساسيّة لفلسفة الأنوار، وفي حدود المبادئ الديمقراطيّة الكلاسيكيّة. عنف الخطابات وصراعها ليس ظاهرة تخصّ المجتمعات العربيّة، بل هي مشتركة مع المجتمعات الغربيّة التي رغم تنظيرها للتسامح مند حركة التنوير إلى الفلسفات المعاصرة، إلا أنّها اعترفت بضرورة استمرار اللاتسامح. فإذا كانت الوسائل متاحة للجميع كي يعبّر كلّ واحد عن آرائه، فإنّ هذه الآراء لا تُترك دون محاكمة، وخاصّة أنّ النقد التدميريّ فعاليّة أساسيّة للعقل البشريّ، بفضله ينمو الحوار ويتكاثف، وإذا كان العنف في شكله البدائيّ غير رمزيّ لأنّه يمسّ بلا استثناء جميع أفراد المجتمع، فإنّه وفق النظريّة التي عرضها رونيه جيرارد يتحوّل تدريجيًّا ليصبح رمزيًّا، بحيث لا يمسّ إلّا شخًصا واحدًا يُقدّم ككبش فداء، والهدف من وراء ذلك هو التخلّص من استفحال العنف الفوضويّ وتعويضه بالعنف الموجّه والمنظّم[29].

وأمّا عند الفلاسفة الأميركان المعاصرين، فإنّ فكرة التسامح في نتاجهم الفلسفيّ لم تغب، خصوصًا أنّ هناك من الفلاسفة والسياسيّين الأمريكان إبان قيام الولايات المتّحدة من دعا إلى تطبيق وإدخال فكرة التسامح التي طرحها الفلاسفة الإنجليز (جون لوك مثلًا) في القرن السابع عشر في الدستور الأمريكيّ، فقد خصّص الفيلسوف  الأمريكيّ (جون راولز) جزءًا من كتابه المؤثّر والمثير للجدل والذي جاء تحت عنوان «نظريّة العدالة» للبحث في مشكلة ما إذا كان ينبغي للمجتمع القائم على العدل أن يتسامح مع المتعصّب أم لا، كما يعرض أيضًا لإحدى المشكلات ذات الصلة، وهي أحقّيّة الفرد المتعصّب، في أيّ مجتمع، في التقدّم بشكوى إذا لم تتمّ مسامحته من عدمها. ويخلص راولز إلى أنّ المجتمع القائم على العدل يجب أن يكون متسامحًا، وبناءً عليه يجب التسامح مع المتعصّب، وإلّا سيتحّول المجتمع في هذه الحالة إلى مجتمع متعصّب وغير عادل، ويخفّف راولز من وطأة هذا الأمر بتأكيده على أنّ المجتمع ومؤسّساته الاجتماعيّة لديهم الحقّ في انتهاج مبدأ تأمين الحماية لأنفسهم ـ الأمر الذي يعتبر بديلًا عن مبدأ التسامح، ومن ثمّ يجب التسامح مع المتعصّبين، ولكن بقدر معيّن من التحفّظ الذي لا يشكّل أيّ خطورة على المجتمع القائم على التسامح ومؤسّساته الاجتماعيّة، أي أنّه  ناقش ما يمكن أن يعدّ من نتائج التسامح، أو الانتقال من التسامح كفكرة، إلى مسالة قدرة التسامح مع غير المتسامحين وذلك بطرحه سؤالين؛  الأوّل: هل ينبغي للجماعات غير المتسامحة ألّا تتذمّر عندما لا يجري التسامح معها؟ والجواب:أنّ الرجوع إلى القاعدة الذهبيّة عامل الناس بما تحب أن تُعامل به[30]. والسؤال الثاني: هل الجماعات والحكومات متسامحة حقّ التسامح مع غير المتسامحين؟ الجواب: حين لا يتهدّد سريان العدل والدستور، فمن الأفضل التسامح ما دام الدستور آمنًا، فلا داعي لقمع حرّيّة عدم التسامح، غير أنّ التسامح هو أكثر من قبول الآخر والاعتراف بحقّه في الاختلاف، إنّه قبول الحقّ كحقٍّ من حقوق الإنسان والمواطنة، لهذا فإنّ التسامح فضيلة رائعة تدعو كلّ صاحب فكر لتبنّيها لنبذ التطرّف فالاختلاف رحمة ربّانيّة، لكن مع نهاية الحرب العالميّة الثانية وتحوّل الصراع من العسكريّ إلى الأيديولوجيّ والحضاريّ، وبأساليب اقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة جديدة بين أقطاب وقوى العالم المعاصر، وظهور فكرة العولمة مع نهاية القرن الماضي، بعد انهيار المنظومة الاشتراكيّة وتفكّك الاتّحاد السوفيتيّ وحلف وارسو، وانفراد النظام الرأسماليّ بحكم العالم، بدأت الفكرة تأخذ أبعادًا أخرى؛ إذ تقوم أطروحة التسامح في الفكر الفلسفيّ- السياسيّ  الغربيّ المعاصر على فكرة دعاة حوار الحضارات اليوم نفسها؛ إذ يرفضون فكرة مطلقيّة التسامح، كما رفض ذلك (أندريه لالاند) على سبيل المثال، فهم يعتمدون على مسلّمات منها: أنّه لا جدوى من التسامح في وضع غير متسامح، فلا بدّ أن تقدّم كلّ الأطراف المقبلة على التسامح؛ لأنّ التسامح المطلق يؤدّي إلى الفوضى المطلقة، التسامح المطلق فكرة سادت عندما سادت فكرة المطلق في كلّ شيء تمامًا، مثلما كانت السلطة المطلقة في حقّ البشر مفسدة مطلقة. ثمّة أشخاص يتّخذون من التسامح شعارًا وذريعة للقمع والتسلّط، وهذا يتناقض مع مفهوم التسامح، فلا يصحّ التسامح معهم؛ لأنّ التسامح وسيلة وليس غاية، وغايته نشر السلام والتعايش مع الآخر دون توحّد أو تنافر كما قال كانط، فإذا أدّى التسامح الى نقيضه، خرج عن معناه الحقيقيّ، وأصبح خضوعًا وتخاذلًا، وإذا كان التسامح فضيلة الشجاعة كما هو فضيلة السعادة، فلا ينبغي أن يدّعيه من لم يقم به، ولا يؤمن بحقّه، فبعض الاشخاص إذا أسيئ إليهم شغلوا من حولهم بالحديث عن تسامحهم لمن أساؤوا إليهم، وهم في الحقيقة يريدون التشهير بمن أساؤوا لهم، ولو أنّهم سامحوا حقيقة لما جهروا بالسوء، ولو انتقموا ممن ظلمهم بقدر ظلمه كان أفضل. المشكلة التي تتعلّق بقضيّة التسامح في حياتنا هي أنّ الشخص الذي يتّخذ التسامح مبدأً في حياته، يقع ضحيّة لا تسامح الآخرين وأنّه لكي يسترجع ما أضاعه، لا بدّ أن يكون غير متسامح، أو أنّ يضع قيودًا وشروطًا لتسامحه، فما جدوى التسامح في وضع غير متسامح[31].

ناقش لالاند مفهوم التسامح ولم يقبله الّا بتحفّظ، إذ يقول: «كلمة التسامح تتضمّن في لساننا فكرة اللياقة، وأحيانًا الشفقة واللامبالاة أحيانا أخرى، فهي تتضمّن أكثر معانٍ من قبيل: الازدراء، التعالي، والطغيان، ويبدو في الأمر شيء من الازدراء عندما نقول لشخص أنّنا (نتسامح) فيما يفكّر فيه، فهذا معناه «أنّ ما تفكّر فيه لا قيمة له لكنّي أوافق على إغماض عيني»[32]. وأمّا الفيلسوف الكانطيّ الجديد (إميل بوترو) فيقول: «لا أحبّ كلمة تسامح هذه، فلنتحدّث عن الاحترام والتوادّ والحبّ، أمّا التسامح فهي مهينة الإنسانيّة، فذلك يعني أنّي أمنحك الحرّيّة في الوقت الذي تعتبر فيه الحرّيّة حقًّا للأنا وللآخر لا يجب المساس بها». إذا كان التسامح قيمة أخلاقيّة فهو نسبيّ تتحكّم فيه شروط أهمّها:

1-الحوار:فوق كلّ التعصّبات أو أيّ أفكار مسبقة عن الآخر؛ لأنّ التسامح يقتضي المساومة.
2- الاستعداد لممارسة التسامح مع الآخر وقبول الآراء المضادّة بشرط التجنّب الصارم لتدهور ذلك التسامح إلى علاقات مهينة بين متسامح يعتقد أنّه أعلى وأنّه الأفضل، والآخر تفرض عليه المكانة الأدنى.
3- وجوب تطبيق العدالة الصارمة هي الحكم الذي يحتكم إليه النقاش للوصول إلى نتائج يقبل بها الجميع.
4-إنّ فعاليّة التسامح بين طرفين متنازعين إذا لم يكن عن تراضٍ وتنازل منهما، فلا يمكن الحديث عن التسامح؛ لأنّ التنازل الحادث من طرف واحد مخلّ بشروط التسامح، فلا تسامح إلّا إذا كان مطلبًا ومطمعًا من الطرفين.

من نظريّة التسامح إلى تشريعات حقوق الإنسان وتقنينها
على الرغم من كلّ التحوّلات على مستوى العلاقة بين الدين والسياسة، الشأن العام والشأن الخاصّ، إلّا أنّ التسامح يبقى مبادرة شخصيّة يمكن أن يبادر إليها الفرد، ويمكن أن يمتنع عن ذلك؛ لأنّه لا يوجد وازع قانونيّ يدفعه إلى التسامح، ما عدا وازع الضمير والقناعات الشخصيّة؛ لذلك أراد بعض المفكّرين استبدال مفهوم التسامح بمفهوم الحقّ، حيث يرى رونفية (Renouvie) في كتابه «علم الأخلاق» أنّ احترام الحرّيّة الدينيّة يسمّى بشكل غير صحيح تسامحًا؛ لأنّه عدالة جازمة وإلزام كلّيّ. ومن هنا الفرق بين التسامح كمبادرة شخصيّة، وبين التسامح المعتبر كحقّ يعاقب القانون من يعتدي عليه، أو لا يحترمه[33].

ويرى Rabaud Saint-ةtienne أنّ العجز عن منح الحقوق لأصحابها، وعدم القدرة على مصارحتهم بذلك، مجرّد حيلة يلجأ إليها السياسيّون لإخفاء رغبتهم في عدم تحويل بعض الحرّيّات إلى حقوق منصوص عليها قانونيًّا، على أساس أنّ العدالة تتكلّم عنها بلغة الحقوق والواجبات، وتحاول أن تقيم توازنًا بينهما؛ لأنّ التسامح -كشعور ومبادرة شخصيّة - يقع خارج حدود هذه اللغة. تقول جولي سعادة في شرحها لهذه الأفكار: «التسامح ليس التعبير عن العدالة، ولكنّه يناقضها، إنّه بالضبط كلمة اللامتسامحين...إنّه يؤسّس علاقة عدم المساواة عندما يفترض أنّ الآخر على خطأ، وأنّه من الممكن إدانته، من يتسامح يمكن أن لا يُتسامح»[34]. إنّ العلاقة التي نقيمها مع الغير من منظور الصواب والخطأ سواء أكان في مجال المعتقدات الدينيّة أم السياسيّة، هي علاقة عدم توازن وعدم مساواة؛ لأنّ من يعتقد أنّه على صواب يعطي نفسه حقّ محاكمة الآخرين؛ لأنّه أعلى منهم شأنًا، إلّا أنّ تأسيس احترام المعتقدات والآراء على فكرة العدالة يضمن تساوي الناس أمام القانون، فكلّهم سيتمتعون بالحقوق نفسها ويلتزمون بالواجبات نفسها. إنّ التسامح ليس قيمة يمكن الدفاع عنها لذاتها، ويجب حذفها باسم الحقّ الذي يمكن الدفاع عنه والمطالبة به، وهو منشأ حقوق الإنسان، يقول عيّاض بن عاشور: «النصوص الأولى التي ظهرت فيها عبارة «حقوق الإنسان» هي النصوص السياسيّة الثوريّة للقرن الثامن عشر، وهذه النصوص جاءت في شكل إعلانات مثل إعلان الحقوق لولاية فرجينيا Virginia في 12يونيو (حزيران) 1776م، ثم إعلان استقلال  الولايات المتّحدة (4 يوليو «تموز»1776م) ثمّ إعلان الفرنسيّ لحقوق الإنسان في 26 أغسطس (آب) 1789م»[35]. وهي نفسها النصوص التي أسّست للتسامح من منظار الحقّ والواجب، ففي الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان عام 1789م نجد في الفقرة رقم 10 النص الآتي: «لا يجب على أيّ أحد أن يقلق على آرائه حتّى الدينيّة منها، المهمّ أنّ تجلّيّاتها لا تعكّر صفو النظام العام الموضوع بواسطة القانون».  هذه الفقرة منسجمة مع ما توصل إليه روسو بضرورة السماح لحرّيّة المعتقد في حدود القانون، مع فرق أساسيّ وهو أنّ ذلك أصبح حقًّا يضمنه القانون، وحتى إعلان 1948م جاء بنفس التوجّهات، ففي الفقرة رقم 10 النص الآتي: «كلّ فرد له الحقّ في حرّيّة الآراء والتعبير، مما يضمن له حقّ عدم القلق على أفكاره، وأن يبحث ويتلقّى ويردّ عن الأفكار والأخبار، بدون اعتبار أيّ حدود، وبأيّ وسيلة للتعبير كانت»، إنّ القلق الذي يعيشه الفرد، وخشيته على حرّيّته ومعتقداته لا تزيله فكرة التسامح بقدر ما يزيله القانون والعدالة الضامنتين لهذا الحقّ. يقول منصف بن دحمان عند قراءته لحقوق الإنسان والديمقراطيّة لمحمّد سبيلا: «..فالإقرار بالحقوق وتساويها هي القاعدة القانونّية المؤسِّسة للتسامح في مدلوله الحديث. وعلى الرغم من كلّ المجهودات الحقوقيّة والقانونيّة لترسيخ مفهوم التسامح، إلا أنّه لم يتحوّل إلى سلوك يوميّ وقناعة ذهنيّة»[36]. أي أنّه حتى التأسيس القانونيّ للتسامح لم ينجح في ترسيخه، فما بالك لو بقي التسامح مجرّد أفكار نظريّة أو مبادرة فرديّة؟.

من إعلان حقوق الإنسان إلى إعلان المبادئ الأمميّة للتسامح
-إذا كانت العولمة اليوم نوعًا من الاستعمار المقنّع تفرض التعامل معها بنوع من اللاتسامح؛ لأنّها رغبة في محو ثقافات وحضارات شعوب والسيطرة على ثروتها من قبل القوى الكبرى، فثمّة عنف مسلّط على الأشخاص من قِبل السلطات الحاكمة في كثير من البلدان، كلٌّ على حدة، وهو يأخذ أشكالًا سياسيّة واقتصاديّة وفكريّة لا يمكن التساهل معها؛ لأنّها سلبٌ لإنسانيّة الإنسان وحقوق الأفراد؛ لذلك بات رفع شعار التسامح مبدأً أخلاقيًّا مجرّدًا مطلقًا، لا يكفي - بدون ممارسته كواقع – ولا يقضي على الظلم والعنف القائم، وسيادة وعي أو فكر أو ثقافة إلغاء الغير.

إنّ التسامح فضيلة الشجاعة ومطمح كلّ الإنسانيّة والأديان، وأيّ تقييد له بشروط ما هو تقيد صلاحيّاته الواسعة، ولغايته النبيلة في نشر السلم والأمن والتعايش، فالإنسانيّة مزّقتها الصراعات وأنهكتها أنواع مظاهر العنف، وإذا أردنا السلام يجب ألّا نضع قيودًا للتسامح؛ لأنّ أيّ قيود مفروضة هو قتل للتسامح؛ لأنّه أداة لسعادة البشر.    
ومثلما تنبّهت الفلسفات والتشريعات السياسيّة والقانونيّة الحديثة والمعاصرة للتسامح، فقد تنبّهت إليه –كذلك - قوى العالم الكبرى، بعد أن ذاقت ويلات اللاتسامح والعنف المدمّر الذي دام مئة عام في أوروبّا، وشمل معظم جغرافية العالم، وذلك عبر هيئة الأمم المتّحدة المتمثّل في إعلانها لحقوق الإنسان، واليوم يرفعه مفكّروا العصر الحاضر شعارًا لفلسفاتهم، كما فعل الفيلسوف الفرنسيّ المعاصر (روجي غارودي)، والذي يؤكّد عليه وسيلة ومدخلًا في حوار الديانات والحضارات[37]. وقد تداعت دول العالم عبر هيئتهم الدَوْليّة –كذلك –لدراسة قيمة التسامح وأبعاده الحضاريّة والإنسانيّة، فتوصّلت إلى ما أسمي بإعلان مبادئ التسامح في عام 1995م وإعلان يوم 16 نوفمبر من كلّ عام يومًا عالميًّا للتسامح؛ لأنّه يدعم حقوق الإنسان وحرّيّاته المختلفة.

من إعلان المبادئ الأمميّة للتسامح إلى لوائح تنفيذها
-رأينا سابقًا-  كيف ظهرت فكرة التسامح عند الغرب في نهاية  القرون الوسطى أو ما يسمى بعصر النهضة والإصلاح في فترة تميّزت بسلطة مطلقة للكنيسة على الحياة والدولة والمجتمع والفرد، ثمّ  كيف تركّزت الفكرة كقيمة أخلاقيّة ذات دلالات سياسيّة ومجتمعيّة في القرن الثامن عشر، أو ما يعرف بعصر التنوير، وممن ساهم في إبراز هذه الفكرة من المفكّرين في تلك الحقبة من الزمن، ممن أشرنا إليهم، مثل: روسو، وجون لوك John Locke (ت 174م) صاحب الرسالة الشهيرة المعروفة بعنوان «رسالة عن التسامح».A Letter concerning Toleration، وفولتير Voltaire (ت 1778م) صاحب العمل الشهير: رسالة في التسامح الدينيّ “ IN THE RELIGIONAL TOLERANCE”. كما نذكر أسماءً أخرى أسهمت في هذا الجانب، فنذكر: جاكوب آكونتيوس Acontius (ت 1566م؟) وأرازموس Erasmus (ت 1536م) وجان بودان Bodin (ت 1596م) وبلتازار هوبماير Hübmaier (ت 1528م) وجون آلتسيوس Althusius (ت 1638م)، وقد شهدت فكرة التسامح عند الغرب تطوّرًا في مدلولاتها عبر السنين مواكبة لتطوّر الفكر الغربيّ نفسه عن العالم والحياة، فخرجت بذلك من طور المحلّيّة، أي التسامح بين أفراد الشعب الواحد إلى طور العالميّة، أي التسامح بين البشر كافّة، ومرّت «من مرحلة التنازل إلى مرحلة الاعتراف بالحقّ، ثمّ إلى احترام هذا الحقّ»..[38] وقد أصبحت هذه الفكرة اليوم تدلّ على قيمة ذات مضمون أخلاقيّ، وثقافيّ، وسياسيّ، ومجتمعيّ يشمل كلّ جوانب الحياة، وأضحت ركيزة من ركائز المجتمعات، وأسًّا من الأسس المنظّمة للعلاقات بين البشر بصفتهم الفرديّة أو الجمعيّة، عبر ما بات يُعرف اليوم بالجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة (1945م) والإعلانات العالميّة الصادرة عنها، ومنها الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، وما شابه ذلك، وكذا إعلانها الأخير عن اليوم العالميّ للتسامح والذي اعتمده المؤتمر العام لليونسكو في دورته الثامنة والعشرين، باريس، 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1995م [39].                                                                                                                                                                                            

الديباجة: إن الدول الأعضاء في منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلم والثقافة المجتمعة في باريس في الدورة الثامنة والعشرين للمؤتمر العام في الفترة من 25 تشرين الأول/ أكتوبر إلي 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1995، إذ تضع في اعتبارها أنّ ميثاق الأمم المتّحدة ينصّ على أنّنا «نحن شعوب الأمم المتّحدة، وقد آلينا في أنفسنا أن ننقد الأجيال المقبلة من ويلات الحرب... وأن نؤكّد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسيّة للإنسان وبكرامة الفرد وقَدْرِه... وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معًا في سلام وحسن جوار».

وتذكر أنّ الميثاق التأسيسيّ لليونسكو المعتَمَد في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1945 ينصّ في ديباجته على أنّ «من المحتّم أن يقوم السلام على أساس من التضامن الفكريّ والمعنويّ بين بني البشر».

كما تذكر أنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان يؤكّد أنّ «لكلّ شخص الحقّ في حرّيّة التفكير والضمير والدين» (المادة 18)، و»حرّيّة الرأي والتعبير» (المادة 19) «وأنّ التربية يجب أن تهدف إلى...تنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصريّة أو الدينيّة» (المادة 26). وتحيط علمًا بالوثائق التقنينيّة الدوليّة ذات الصلة، بما في ذلك:

ـ العهد الدوليّ الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسيّة.
ـ العهد الدوليّ الخاص بالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة.
ـ الاتفاقيّة الدَوْليّة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصريّ.
ـ الاتفاقيّة الخاصّة بمنع جريمة إبادة الجنس والمعاقبة عليها.
ـ اتفاقيّة حقوق الطفل.
ـ اتفاقيّة عام 1951 الخاصّة بوضع اللاجئين وبروتوكولها لعام 1967 والوثائق التقنينيّة الإقليميّة المتعلّقة بها.
ـ اتفاقيّة القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة.
ـ اتفاقيّة مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانيّة أو المهينة.
ـ الإعلان الخاصّ بالقضاء على جميع أشكال التعصّب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد.
ـ الإعلان الخاصّ بحقوق الأشخاص المنتمين إلى الأقلّيّات الوطنيّة أو الإثنيّة والدينيّة واللغويّة.
ـ إعلان وبرنامج عمل فيينا الصادران عن المؤتمر العالميّ لحقوق الإنسان.
ـ إعلان وخطة عمل كوبنهاغن اللذان اعتمدتهما القمّة العالميّة للتنمية الاجتماعيّة.
ـ إعلان اليونسكو بشأن العنصريّة والتحيّز العنصريّ.

ـ اتفاقيّة اليونسكو وتوصياتها الخاصّتان بمناهضة التمييز في مجال التربية، وتضع في اعتبارها أهداف العقد الثالث في مكافحة العنصريّة والتمييز العنصريّ، والعقد العالميّ للتثقيف في مجال حقوق الإنسان، والعقد الدَوْليّ للسكّان الأصليّين في العالم، وتضع في اعتبارها التوصيات الصادرة عن المؤتمرات الإقليميّة التي نُظّمت في إطار سنة الأمم المتّحدة للتسامح وفقًا لأحكام القرار 27 م/5.14 الصادر عن المؤتمر العامّ لليونسكو، واستنتاجات وتوصيات مؤتمرات واجتماعات أخرى نظّمتها الدول الأعضاء ضمن إطار برنامج سنة الأمم المتّحدة للتسامح، يثير جزعها تزايد مظاهر عدم التسامح، وأعمال العنف، والإرهاب، وكراهية الأجانب، والنزاعات القوميّة العدوانيّة، والعنصريّة، ومعادة الساميّة، والاستبعاد، والتهميش والتمييز ضدّ الأقلّيّات الوطنيّة والإثنيّة والدينيّة واللغويّة واللاجئين والعمّال المهاجرين والمهاجرين والفئات الضعيفة في المجتمعات، وتزايد أعمال العنف والترهيب التي تُرتكب ضدّ أشخاص يمارسون حقّهم في حرّيّة الرأي والتعبير، وهي أعمال تهدّد كلّها عمليّات توطيد دعائم السلام والديمقراطيّة على الصعيدين الوطنيّ والدَوْليّ، وتشكّل كلّها عقبات في طريق التنمية، وتشدّد على مسؤوليّات الدول الأعضاء في تنمية وتشجيع احترام حقوق الإنسان وحرّيّاته الأساسيّة بين الناس كافّة، دون أيّ تمييز قائم على العنصر أو الجنس أو اللغة، أو الأصل الوطنيّ، أو الدين، أو أيّ تمييز بسبب عجز أو عوق.

مظاهر التسامح وإشكاليّاته في الغرب الأوروبّيّ
وهو من أهمّ المؤشّرات ذات الدلالات الحضاريّة للتسامح، كما يعدّ التسامح والتساهل الفكريّ من المصطلحات التي تُستخدم في السياقات الاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة لوصف مواقف واتجاهات تتّسم بالتسامح (أو الاحترام المتواضع) أو غير المبالغ فيه لممارسات وأفعال أو أفراد نبذتهم الغالبيّة العظمى من المجتمع. ومن الناحية العمليّة، يعبّر لفظ «التسامح» عن دعم تلك الممارسات والأفعال التي تحظّر التمييز العرقيّ والدينيّ، وعلى عكس التسامح، يمكن استخدام مصطلح «التعصّبـ« للتعبير عن الممارسات والأفعال القائمة على التمييز العرقيّ والدينيّ الذي يتمّ حظره. وعلى الرغم من ابتكار مصطلحي «التسامح» و»التساهل الفكريّ» للتعبير في المقام الأوّل عن التسامح الدينيّ مع طوائف الأقلّيّات الدينيّة عقب الإصلاح البروتستانتيّ، فقد شاع استخدامهما بشكل متزايد للإشارة إلى قطاع أكبر من الممارسات والجماعات التي تمّ التسامح معها، أو الأحزاب السياسيّة، أو الأفكار التي تمّ اعتناقها على نطاق واسع. ويعتبر مفهوم التسامح واحدًا من المفاهيم المثيرة للجدل، ولعلّ من أسباب ذلك أنّه لا يعمل على الارتقاء بمستوى المبادئ أو الأخلاقيّات الفعليّة على غرار ما يحدث في المفاهيم الأخرى (المتمثّلة في الاحترام والحبّ والمعاملة بالمثل). ويرى النقّاد الليبراليّون، أنّه من غير اللائق أن يتمّ اعتبار السلوكات أو العادات التي نظهر التسامح معها شذوذًا أو انحرافًا عن المعايير السائدة، أو أن يكون لدى السلطات الحقّ في أن تفرض عقوبة على ذلك، والأفضل من وجهة نظر هؤلاء النقّاد هو التأكيد على بعض المفاهيم الأخرى، مثل التحضّر أو المدَنيّة والتعدّديّة أو الاحترام، بينما يعتبر نقّاد آخرون أنّ التسامح في مفهومه المحدود يعدّ أكثر نفعًا؛ حيث إنّه لا يحتاج إلى أيّ تعبير زائف يجيز التعصّب ضدّ جماعات أو ممارسات وأفعال رفضها المجتمع في الأساس. ومن الناحية العمليّة كانت الحكومات تحدّد أيّ الجماعات والممارسات سيكون موضع اضطهاد وأيّها ستتسامح معه. وقديمًا كانت مراسيم أشوكا التي أصدرها الإمبراطور أشوكا العظيم، حاكم إمبراطوريّة ماوريا، تدعو إلى التسامح العرقيّ والدينيّ، وفي عهد الإمبراطوريّة الرومانيّة التي توسّعت رقعتها فيما بعد، أُثيرت تساؤلات حول الأسلوب الذي ستنتهجه مع بعض الممارسات أو المعتقدات المعارضة لها، هل ستتسامح معها أم ستضطهدها بشدّة، وإلى أيّ مدى؟ وبالمثل، فإنّه في العصور الوسطى، كان حكّام أوروبّا المسيحيّة أو حكام الشرق الأوسط المسلم اليوم يقومون في بعض لأحيان بتوسيع حدود التسامح لكي تشمل طوائف الأقلّيّات الدينيّة، وفي أحيان أخرى لا يقومون بتوسيعها إذا كانت هي نفسها متعصّبة، من ناحية أخرى، عانى اليهود على وجه التحديد من وطأة الاضطهادات المعادية للساميّة التي سادت أوروبّا خلال القرون الوسطى، لكنّ بولندا شكّلت استثناءً ملحوظًا من دول أوروبّا الوسطى؛ حيث كانت الملاذ بالنسبة ليهود أوروبّا، نظرًا لروح التسامح النسبيّ التي سادت أرجاءها - ومع حلول منتصف القرن السادس عشر - كان 80 % من اليهود يعيشون فيها. وكان (باول لودكويك) من أوائل المناصرين لسياسة التسامح، وهو الذي دافع عن حقوق الأمم الوثنيّة أمام مجلس كونستانس، «أحد المجالس المسكونيّة التابعة للكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة»، وبالرغم مما سبق، إلّا أنّه لم تبدأ أيّ محاولة لوضع بنيان أو إطارٍ لنظريّة حول التسامح إلّا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وذلك في استجابة لحركة الإصلاح البروتستانتيّ وحروب الأديان والاضطهادات التي أعقبت الانتقادات التي وُجّهت إلى الكنيسة الكاثوليكيّة، والتي أثارها مارتن لوثر وأورليتش زوينجلي (Ulrich Zwingli) وغيرهم. وكردّ فعل لنظريّة الاضطهاد التي كانت تهدف إلى تبرير أسباب اندلاع حروب الأديان وإعدام الأفراد المدانين بتهم الهرطقة أو الزندقة والسحر، تشكّك عدد من الكتّاب أمثال سيباستيان كاستيلو، وميشيل دي مونتين في مسألة البُعد الأخلاقيّ للاضطهاد الدينيّ، وعرضوا مناقشات حول فكرة التسامح. 

    أما بالنسبة لبولندا، التي قدّمت نموذجًا فريدًا للتسامح وتعدّد الأديان وعدم التمييز العرقيّ، فقد أكّدت رسميًّا على مكانتها “كمأوى للهراطقة” (المنشقّون عن عقيدة ما)، وذلك في حلف وارسو الذي أصدر أوّل قانون للتسامح الدينيّ في أوروبّا عام 1573، وقد صدرت مجموعة تفصيليّة ومؤثّرة من الكتابات التي دارت حول التسامح في بريطانيا خلال القرن السابع عشر وفي أثناء وعقب الحروب الأهليّة الإنجليزيّة المدمّرة. وقد أثار جون ميلتون ومجموعة من أعضاء البرلمان الراديكاليّين، أمثال جيرارد وينستانلي، جدالًا حول ضرورة حماية الديانتين المسيحيّة واليهوديّة، وحدث ذلك في تلك الفترة التي سمح فيها أوليفر كرومويل بعودة اليهود إلى إنجلترا[40].  

التسامح مع المتعصّبين عرقيًّا أو قوميًّا: أكّد الفيلسوف كارل بوبر في كتابه الذي جاء تحت عنوان «المجتمع المفتوح وأعداؤه» أنّنا نمتلك الأسباب التي تدفعنا إلى رفض التسامح مع المتعصّبين، موضحًا أنّ ثمّة حدودًا للتسامح، والسؤال الذي يطرح نفسه على وجه التحديد، هل ينبغي للمجتمع القائم على التسامح أن يجيز فكرة التعصّب؟ وماذا لو كان التسامح عن الفعل «أ» سيدمّر المجتمع؟ في هذه الحالة، ربما يؤدّي التسامح عن الفعل «أ» إلى إفراز نظام فكر جديد يؤدّي بدوره إلى التعصّب ضدّ أفكار أيّ مؤسسة حيويّة ولتكن «بـ« مثلًا. حقًّا، من الصعب تحقيق التوازن في هذا الصدد؛ فالمجتمعات لا تتفق مطلقًا على التفاصيل، كما أنّ الجماعات المختلفة في المجتمع الواحد غالبًا ما تفشل في الاتفاق على رأي واحد. علاوة على ذلك، تنظر بعض الدول إلى القمع الحاليّ للنازيّة في ألمانيا باعتباره شكلًا من أشكال التعصّب، بينما تعدّ النازيّة في ألمانيا نفسها خير مثال على التعصّب الشديد.                                                                 

 -وكما أشرنا سابقًا إلى ما خصّصه الفيلسوف الأمريكيّ (جون راولز) من حديث في كتابه «نظريّة العدالة» عن إحدى المشكلات ذات الصلة بالتسامح، وهي أحقّيّة الفرد المتعصِّب، في أيّ مجتمع، في التقدّم بشكوى إذا لم تتمّ مسامحته من عدمها، وما خلص إليه من أنّ المجتمع القائم على العدل يجب أن يكون متسامحًا وبناءً عليه يجب التسامح مع المتعصّب، وإلّا سيتحوّل المجتمع في هذه الحالة إلى مجتمع متعصّب وغير عادل. وأنّ المجتمع ومؤسّساته الاجتماعيّة لديهم الحقّ في انتهاج مبدأ تأمين الحماية لأنفسهم ـ الأمر الذي يعتبر بديلًا عن مبدأ التسامح، وأنّه يجب التسامح مع المتعصّبين، ولكن بقدر معيّن من التحفّظ الذي لا يشكّل أيّ خطورة على المجتمع القائم على التسامح ومؤسّساته الاجتماعيّة. في حين أنّ الجماعات المتعصّبة – برأيه - قد تفقد حقّها في التقدّم بشكوى في حال لم تتمّ مسامحتها،، ومن ثمّ فإنّ أفراد المجتمع يحقّ - بل وربما من واجبهم- لهم التقدّم بشكوى نيابة عن أولئك، طالما أنّ المجتمع في حدّ ذاته في مأمن من هذه الزمرة المتعصّبة.

والاتحاد الأميركيّ للحرّيّات المدنيّة خير مثال على المؤسّسات الاجتماعيّة التي تحمي حقوق المتعصّبين؛ حيث إنّه كثيرًا ما يكفل حرّيّة الكلام للمنظّمات المتعصّبة مثل منظّمة الـ«كوكلاكس كلان» Ku Klux Klan (وهي واحدة من المنظّمات العنصريّة التي كانت تقود حملة لإبادة الجنس الأسود في أميركا الشماليّة)[41].

التسامح وعقيدة التوحيد:

ثمّة نظريّة واحدة حول أصول التعصّب الدينيّ قدّمها أحد علماء النفس المعاصرين (سيجموند فرويد)، وهو يهوديّ في كتابه «موسى والتوحيد، وهي تربط بين فكرة التعصّب وبين عقيدة التوحيد. وفي الآونة الأخيرة، أثار كلٌّ من بيرنارد لويس ومارك كوهين جدالًا يزعم أنّ الفهم الحديث للتسامح ـ والذي يشمل مفاهيم الهويّة القوميّة والتساوي في حقوق المواطنة بالنسبة للأفراد الذين ينتمون إلى ديانات مختلفة ـ لم يكن ذا قيمة من وجهة نظر المسلمين أو المسيحيّين في الفترة التي سبقت العصر الحديث، وذلك نظرًا للمعاني التي تنطوي عليها عقيدة التوحيد. ويوضح المؤرّخ جيفري رودولف إلتون أنّه في الفترات التي سبقت العصر الحديث، كان الموحّدون يرون أنّ مبدأ التسامح مع المعتقدات الأخرى علامة من علامات الجحود وضعف الإيمان بالله، هذا وتمثَّلَ التعريف التقليديّ الذي وضعه ببيرنارد لويس لمصطلح التسامح في الفترة التي سبقت العصر الحديث في الآتي:

“ I am in charge. I will allow you some though not all of the rights and privileges that I enjoy, provided that you behave yourself according to rules and that I will lay down enforce..»”

من نظريّة التفوّق على الآخر إلى التناقض مع الذات
أ- يطرح الباحث الجزائريّ (بعيط الجيلالي) مشكلة التسامح في الثقافة الغربيّة عمومًا وجملة ممارساتها، مع ما يتخلّلها من تناقضات على صعيد الممارسة العمليّة اليوم، فيقول: «نظرا لما يعرفه العالم اليوم من أحداث وتحوّلات كبرى في كافّة مناحي الحياة البشريّة، حيث تنتشر وبشكل واسع ومستمرّ ظاهرة العنف واللاتسامح ومحاولة إلغاء الأخر المختلف عن الأنا بسبب النزاعات والمذهبيّة العرقيّة والطائفيّة والدينيّة، بالإضافة إلى الهيمنة العالميّة ذات القطب الواحد على بقيّة الشعوب والحضارات بحجّة العولمة والثقافة العابرة للقارّات، من هنا تأتي ضرورة المساهمة في بناء تصوّر جديد لمفهوم التسامح يأخذ توسّعًا في دلالاته الأخلاقيّة = (التحلّي بالحلم والرصانة في السلوك)، والسياسيّة = (مشاركة القوى الاجتماعيّة في صنع القرار السياسيّ وفي التشريعات والاحتكام لمبدأ حرّيّة التعبير، حقّ المعارضة، العدل والمساواة). إذ يُعرّف التسامح حسب القاموس الفرنسيّ روبار «بأنّه عدم المنع وعدم الرفض والتحرّر وحرّيّة المعتقد والقدرة على التأقلم والتكيف على الرغم من الوجود في وضعية مغايرة». إلّا أنّ الاختلاف القائم بين نزعتي التسامح يجب أن يكون مبدأً مطلقًا، والآخر القائل بضرورة وضع قيود وشروط للتسامح، فهل التسامح المقيّد المحدود يدور مع كلّ تسامح مطلق بطريقة صحيحة؟ أو يؤدّي إلى الفوضى؟ وهل أنّ التسامح مبدأ أخلاقيّ مطلق تستدعيه ضرورة التعايش السلميّ؟ أم أنّ التسامح المطلق يؤدّي إلى الفوضى لهذا يجب أن يكون مقيّدًا بشروط؟ تلك أولى تناقضات الفلسفة الغربيّة حول فكرة التسامح، وعلى الأقل من الناحية النظريّة.

أمّا من الناحية النظريّة، فكما أسهم فلاسفة عصر التنوير في توطين نظريّة التسامح في كتاباتهم، لكن بعض مَن نقدّر لهم جهودهم الفكريّة يغمض عينيه عن الحقيقة، أو يتنكّر لها رغم وجودها، فهذا الفيلسوف الفرنسيّ (فولتير) ينكر على الإسلام ونيه ثقافة التسامح نظريًّا وسلوكيًّا. وما كتبه فولتير بهذا الصدد يمثّل حالة من اللَاسويّ في الفكر الغربيّ أو ما يعدّ حالة من حالات التناقض، كما يظهر ذلك جليًّا في مسرحيّته التراجيديّة «التعصّب أو النبيّ محمّد». فعلى الرغم من أنّ فولتير كان قد استخدم في تأليف مسرحيّته هذه بعض المؤلّفات العلميّة والأدبيّة مثل: «حياة محمّد» للكونت دي بولينفيلي، و«سيرة محمّد» لجان غرينيه، وكذلك الترجمة الإنكليزيّة للقرآن الكريم التي قام بها جورج باسيل؛ فإنّه قد أهمل الأحداث والوقائع التاريخيّة الحقيقيّة في شبه الجزيرة العربيّة وفي حياة الرسول المثبتة في هذه المراجع، وبدلًا من ذلك قفز إلى الخيال ليصوّر الرسول نموذجًا للتعصّب الدينيّ والطغيان الثيوقراطيّ. وقد صرح فولتير ذاته بذلك عندما قال لبعض اصدقائه «إنّني أصوّر محمّدًا متعصّبًا، عنيفًا، محتالًا.... وعارًا على الجنس البشريّ، ذلك الذي تحوّل نبيَّا، مشرّعًا وملكًا بعد أن كان تاجرًا.. محمّد إنّه يجسد خطر التعصّب...[42]. ويستمرّ هذا النهج المعادي للإسلام في القرن التاسع عشر، وربما كان التذكير بالفيلسوف الفرنسيّ إرنست رينان شهادة كافية لاستمرار وتأكيد النظرة المعادية للإسلام في الفكر الأوروبيّ بعامّته، أمّا المعلومات والنظرة الواقعيّة للإسلام، فيمكن القول إنّه من القرن الخامس عشر وحتى نهاية القرن التاسع عشر كانت تلك المعرفة تنمو ببطء شديد في الغرب المسيحيّ.

وعلى الرغم من وجود كتّاب من فلاسفة الغرب يتّسمون بالشجاعة الأدبيّة ويعترفون بدور الإسلام وجهود المسلمين في بناء الحضارة الإنسانيّة وموقفه النظريّ والعمليّ المتسامح من الآخر، إلّا أنّ بعضًا من تلك الكتابات الموضوعية تمنع من النشر من قبل الكنيسة تعصّبًا ضدّ الإسلام، فعلى سبيل المثال: يمكن  اعتبار كتاب «الديانة المحمّديّة» الذي أصدره هادريان ريلان (1676-1748م) عام 1705م أوّل عرض موضوعيّ للإسلام من وجهة نظرة مسيحيّة، إلّا أنّ الكتاب لم يلقَ استحسانًا من الكنيسة الكاثوليكيّة آنذاك، حيث اعتبرته نزعة قريبة من الاسلام، فمنعت تداوله وانتشاره. كما يعدّ كلّ من أغناتس غولدزيهر (1857- 1920)، وكريستيان سنوك هورغرونييه (1857- 1936)، وكارل هينرش بيكر (1876-1933)، من روّاد البحث في الإسلاميّات بالمعنى العلميّ للكلمة، كما نفهم البحث في أيّامنا هذه، غير أنّ هاغمان يلاحظ أنّه «رغم تزايد الاهتمام العلميّ بالإسلام الذي طال نشأته وتطوّره وانتشاره منذ زمن مبكر لم يكن لهذا الموقف الجديد أوّل الأمر من تأثير يُذكر على اللاهوت المسيحيّ أو على الكنيسة الكاثوليكيّة، فهذا أمر لم يتحقّق إلّا في الآونة الأخيرة. هكذا تمّيز البحث التاريخيّ النقديّ في الإسلام، فلم تُسهم تلك النتائج بتوسيع معارفنا وبشكل موضوعيّ حول نشأة الإسلام أو إيضاح جوهره الداخليّ وحسب، بل إنّ هذه الأبحاث وجدت لها أيضًا طريقًا إلى جمهورنا الواسع [43].                         

- وبحسب عضو المجمع الكنسيّ العالميّ (طارق متري) فإنّه يمكن تصنيف المسيحيّين المهتمّين بالحوار بين الاسلام والمسيحيّة إلى أربع فئات:
الفئة الأولى: وينتهي أصحابها إلى الذين يتبعون المنهج السجاليّ الذي يطعن بالإسلام أكان ذلك بهدف ضمّ المسلمين إلى المسيحيّين، أم ردًّا على تجريح بعض الدعاة المسلمين.          
الفئة الثانية: وينتهي أصحابها إلى موقف «الحدّ الأدنى»، ويتميّز منطق هذه الفئة بالإحجام عن البحث في بطلان دعوى الاسلام، «وهذا الإحجام يترافق، في الغالب، مع صمت أو حيرة في التعامل مع التأكيدات الإسلاميّة التي تناقض الإيمان المسيحيّ من حيث وعيه لذاته اكتمالًا للوحي، غير أنّ وعيًا متزايدًا من المسيحيّين يتعدّى الامتناع عن إطلاق حكم عقائديّ على الإسلام إلى نوع من تعليقه (الحكم) أو إرجاعه، في نوع من الانتظار الأخرويّ حتى يوم القيامة، ويتلاقى هذا الإرجاء مع الفكرة الإسلاميّة النابعة من القول القرآنيّ: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (سورة آل عمران، الآية: 55).                            

الفئة الثالثة: ويتّخذ أصحابها «موقف الذين يعبّرون عن هاجس اللقاء بين الكنيسة والإسلام ممن يذهبون إلى أبعد مما سبق، فيؤسّسون موقفهم من الإسلام على فكرة سرّ التدبير الإلهيّ خارج حدود المسيحيّة التاريخيّة، ويقولون بتلمّس حضور الله وفعله في خبرة المسلمين الدينيّة؛ لذلك فهم يشدّدون على الأسس المشتركة في الاعتقاد بوحدانيّة الله، ويخرجون من حصريّة المسيحيّة إلى اكتشاف كلّ ما هو حقّ وخير وجمال في الإسلام.
الفئة الرابعة: وهم أصحاب ما يسمّى بـ «اللاهوت التعدّديّ»، ويدعو أصحاب هذا الموقف «المسيحيّين إلى الانتقال من المركزيّة المسيحانيّة إلى مركزيّة الله، ويرى عوض إبراز الفرادة المسيحيّة أنّ الأديان إجابات إنسانيّة مختلفة لحقيقة إلهيّة واحدة. وأيـًّا كان من أمر الصفة التمثيليّة لهذا الموقف الذي قد يتجاوب معه الإنسانيّون المتعلمنون أكثر من المتديّنين التقليديّين، فإنّه يثير أسئلة كبيرة انشغل الفكر المسيحيّ بها بجديّة واهتمام ملحوظين[44].

 يكاد يتّفق المهتمّون بالعلاقات الإسلاميّة المسيحيّة على أنّ الدعوة للحوار بين المسيحيّين والمسلمين انطلقت في منتصف القرن العشرين، ويشير جان باسيه، سكرتير العلاقات مع المسلمين في مجلس كنائس أوروبّا، إلى «أنّ عبارة «حوار» قد ظهرت لأوّل مرة عام 1949م، وارتبطت مباشرة بالحوار مع الإسلام من خلال عنوان الكتاب الذي وضعه هنري نوسلي: الحوار مع الإسلام». ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الكنائس البروتستانتيّة أنشأت «مجلس الكنائس العالميّ» عام 1947م عندما بدأ الحوار بين الأديان يفرض نفسه فكرة وممارسة على ضوء ما قامت به مراكز الدراسات والبحوث التي أنشأت برعاية بروتستانتيّة، أقْدَمُها المعهد الإسلاميّ للدراسات في جامعة حيدر آباد في الهند والذي تأسّس في الثلاثينات من القرن العشرين[45].

- أمّا الخطوة المسيحيّة الدينيّة المهمّة في هذا الصدد، فقد تمثّلت في موقف الكنيسة الكاثوليكيّة المعبَّر عنه في «المجمع الفاتيكانيّ الثاني» المنعقد بين 1962-1965م والذي جعل من فتح آفاق للحوار مع الأديان الأخرى بما فيه الدين الإسلاميّ أحد همومه الرئيسة، وفعلًا جرت مئات المؤتمرات واللقاءات بين المسيحيّين والمسلمين منذ الستينات حتى اليوم، وإذا كانت النظرة المسيحيّة للإسلام، كما يذهب الأستاذ الكبير في اللاهوت الكاثوليكيّ وكذا في الإسلاميّات عادل خوري، قد تحوّلت رويدًا رويدًا منذ مطلع القرن العشرين من موقف سلبيّ إلى موقف معتدل منفتح يحاول التركيز على المعطيات المشتركة بين المسيحيّة والإسلام، فإنّ النظرة الإسلاميّة للحوار لم تزل في عموميّتها[46]، مكبّلة بالعلاقة مع الغرب الاستعماريّ السابق وهيمنته الراهنة، ناهيك عن تكوين المسلم الثقافيّ والدينيّ والتاريخيّ الذي يحدّد نظرته لذاته وموقعه في العالم ورؤيته للآخر، ليس من خلال القرآن والسنة فقط، بل من خلال ما جاء به الفقهاء والمتكلّمون والمؤرّخون أيضًا.

ومن الناحية العمليّة أيضًا وكما يقول الداعية الإسلاميّ (علي بن عمر با دحدح) إنّ الصحف الغربيّة تعجّ  بالعناوين والمقالات الخاصّة بتذكير العالم بالتسامح، ومنها الحديث عمّا يسمى (باليوم العالميّ للتسامح)، وهو اليوم الذي خرج من مؤسّسة التربية والعلوم التابعة للأمم المتّحدة ليكون تذكيرًا بهذا المعنى كما يقولون، وفي هذه النصوص التي ترد في المواثيق الدوليّة كلامٌ جميلٌ زاهرٌ ومشرقٌ، غير أنّ الواقع قد لا يتّفق معه؛ ففي هذا الميثاق كما مرّ معنا نصّ يقول: «نحن شعوب الأمم المتّحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب، نؤكد من جديدٍ إيماننا بالحقوق الأساسيّة للفرد وكرامته، وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معًا في سلام وجوار»، وفي فقرة أخرى ينصّ الميثاق على أنّ التربية يجب أن تهدف إلى تنمية التفاهم والتسامح والصداقة.

 وإذا نظرنا اليوم إلى واقع ما يجري على هذه الأرض، ولسنا نريد أن نخصّص وإن كنّا نبدأ بالجرائم القريبة الحديثة التي ما تزال رائحة الدم تفوح منها في بيت حانون، من أرض الإسراء في فلسطين العزيزة، وإن صعدنا قليلًا وجدنا إحصاءاتٍ تقول إنّ نحوًا من ستمئةٍ وخمسين ألفًا هم الذين قُتلوا في العراق خلال عامين ونصف من احتلاله، وإذا نظرنا أكثر لوجدنا أيضًا أنّ ثمّة مئات من الألوف تترى هنا وهناك، وليس في البوسنة والهرسك فحسب، وليس في البلاد الأفريقيّة فحسب وجدنا صورةً من سعارٍ محمومٍ، وحرب مستعرة، وقتلٍ وتدميرٍ تضاعف أضعافًا كثيرةً عمّا كان في أوقات مضت، ينطبق عليهم المثل «أسمع خبرك أصدّق أرى أفعالك أتعجبـ«[47].  

ومن المفارقات أو إن شئت سمّها متناقضات نظريّة وعمليّة بين موقف المسلمين والغرب القديم الوسيط أم الحديث من التسامح تجاه الآخر، فبينما في الإسلام والحضارة الإسلاميّة، كان «الآخر الدينيّ» مثّل جزءًا من «الذات» الوطنيّة والقوميّة والحضاريّة، مع بقاء التنوّع الدينيّ حقًّا مقدّسًا من حقوق الضمير، لا سلطان عليه إِلّا لله؛ لأنَّ الدين لله وحده، ولا يمكن أن يتأتى تديّن حقّ مع أيّ لون من ألوان الإكراه، وعندما فتح الإسلام الأبواب أمام هذا «الآخر الدينيّ» للإسهام في بناء الحضارة الإسلاميّة الجديدة، ترك هذا «الآخر» ليدير مؤسّسات «الدولة» الوطنيّة ودواوينها، حتى وجدنا مستشرقًا ألمانيًّا حجّة، وهو «آدم متز» (1869-917) يشهد هذه الشهادة التي تقول: «لقد كان النصارى هم الذين يحكمون بلاد الإسلام»، ووجدنا المستشرق الإنجليزيّ «سير توماس أرنولد» (1864-1930م) يعلن عن سماحة الإسلام عندما قال – وهو شديد التمسّك بالنصرانيّة -:«إِنَّهُ من الْـحَقّ أَن نقول: إنّ غير المسلمين قد نعموا بوجه الإجمال في ظلِّ الحكم الإسلاميّ بدرجة من التسامح لا نجد لها معادلًا في أوروبّا قبل الأزمنة الحديثة، وإنّ دوام الطوائف المسيحيّة في وسط إسلاميّ يَدُلُّ على أنّ الاضطهادات التي قاست منها بين الحين والآخر على أيدي المتزمّتين والمتعصّبين كانت من صنع الظروف المحلّيّة، أكثر مِـمَّا كانت عاقبة مبادئ التعصّب وعدم التسامح»[48]. ولقد صدّق على هذه الشهادة، وفصّل مجملها الكاتب والمؤرّخ اللبنانيّ «جورج قرم» عندما حصر أسباب التوتّر الطائفيّ، التي عرضت لفترات قليلة وعابرة في تاريخ المجتمعات الإسلاميّة في ثلاثة أسباب، فكتب يقول: «إنّ فترات التوتّر والاضطهاد لغير المسلمين في الحضارة الإسلاميّة كانت قصيرة، وكان يحكمها ثلاثة عوامل:

العامل الأول: هو مزاج الخلفاء الشخصيّ، فأخطر اضطهادين تعرّض لهما الذمّيّون وقعا في عهد المتوكّل (206-247هـ/ 821–861م) الخليفة الميّال بطبعه إلى التعصّب والقسوة، وفي عهد الخليفة الحاكم بأمر الله (275-411هـ/ 985-1021م) الذي غالى في التصرّف معهم بشدّة.
العامل الثاني: هو تردّي الأوضاع الاقتصاديّة الاجتماعيّة لسواد المسلمين، والظلم الذي يمارسه بعض الذمّيّين المعتَلِين لمناصب إداريّة عالية، فلا يعسر أن ندرك صلتهما المباشرة بالاضطهادات التي وقعت في عدد من الأمصار.
العامل الثالث: يرتبط بفترات التدخّل الأجنبيّ في البلدان الإسلاميّة، وقيام الحكّام الأجانب بإغراء الأقلّيّات الدينيّة غير المسلمة واستدراجهم إلى التعاون معهم ضدّ الأغلبيّة المسلمة..

-أسباب القطيعة بين نظريّة التسامح الغربيّة وممارستها
إنّ الذي يعنينا أكثر من جدليّة  تعداد مظاهر التناقض بين نظريّة التسامح عند الغرب وسلوكه هو السبب في ذلك، فما المظاهر التي ذكرناها أو التي لم نذكرها إلاّ نتائج حتميّة وطبيعيّة لسبب ما. والسبب الذي ولّد حالة الانفصام بين الفكر الغربيّ وممارساته، وأنشأ القطيعة بين نظريّته وسلوكه، هو عدم إيمانه بالفكرة ذاتها؛ ذلك أنّ الإنسان إذا آمن بفكرة ما طبّقها، حتى وإن لم يجنِ منها نفعًا، أو عادت عليه بضرر أو غير ذلك من السلبيّات الممكن تصوّرها عقلاً، وبما أنّ الغرب لا يطبّق الفكرة التي نظّر لها ودعا العالم أجمع إلى تبنّيها والعمل بها، فإنّ ذلك يعني عدم إيمانه الراسخ بها، وعدم القناعة بأسسها، وعدم اعتباره للقيمة المبتغاة من تطبيقها.

وقد يقول قائل: إنّ المظاهر التي يستمدّ منها عدم تطبيق فكرة التسامح، تتعلّق كلّها بالمسلمين، وهذا يعني أنّ الغرب متسامح مع غيرهم وغير متسامح معهم لسلوكاتهم التي تدخل في إطار ما يسمّى بـ (صفر تسامح) Zero-Tolerance، أو ما لا يمكن التسامح فيه، أو لعقيدتهم التي تمثّل مادة النزاع والصراع الوحيد للمبدأ الرأسماليّ.
والجواب على هذا هو أنّ فكرة التسامح كلٌّ لا يتجزّأ، فإذا ما تمّ الإيمان بها لزم تطبيقها بأكملها، وإذا لم تطبّق بأكملها، فمعناه أنّ أهلها لا يؤمنون بها ككلّ، إنّما يؤمنون ببعضها ضمن حدود وقيود، مما يعني أنّ الغرب يؤمن بالتسامح مع بني جلدته، ومع المعتنقين لحضارته وثقافته، ولا يؤمن به مع الآخر المخالف له في مبدئه.

ومن ناحية أخرى، فإنّ التسامح في حقيقته لا يكون إلا مع الآخر المخالف، وبعبارة أخرى فإنّ قيمة التسامح تكمن في تطبيقه مع الخصم والعدوّ، أو كما قيل: «إنّ التسامح يكون مع الشرّ والخطأ ولا يكون مع الخير والحقيقة»[49]، وهو ما أشار إليه فولتير بقوله: «حتى ولو كنت أخالفك الرأي، فإنّني مستعدّ للنضال معك حتى الأخير لكي تقول ما تريد»، فأين تطبيق فكرة فولتير الرائعة اليوم في أوروبا وأميركا دعاة الحرّيّة والتسامح ووارثي هذه الفلسفة الرائعة في التسامح؟! لذلك، فإّن الإسلام باعتباره المخالف الوحيد للمبدأ الرأسماليّ، هو معيار نجاح فكرة التسامح الغربيّة أو فشلها، فإذا ما تسامح الغرب مع المسلمين، وفق ما تقتضيه نظريّته التي نظّر لها، فإنّ ذلك يدلّ على إيمانه بنظريّته ومثاليّته؛ وأمّا إذا لم يتسامح الغرب مع المسلمين، ولم يعتبر ما نظر له وجعله أساس فخر ورقي، فإنّ ذلك يدلّ على عدم إيمانه بالفكرة المسبّبة للفشل في التطبيق، والله أعلم بشؤون خلقه....

الخاتمة
حاول البحث – على وفق المنهج الذي رُسم له، أن يستقرئ قيمة التسامح، من حيث هي مسألة نظريّة تتخلّل التراث الإنسانيّ برمّته والتراث الفلسفيّ الغربيّ القديم والحديث على حدّ سواء، لقد ركّز على الأسس والمبادئ التي تشكّل الإطار النظريّ لقيمة التسامح بالفكر الإنسانيّ، عامّة من حيث مفهومه، وتاريخيّته كما في المبحث الأوّل. وعلى وفق منهج التحليل النقديّ والمقارنة عالج البحث موضوعي المبحث الثاني والثالث المخصّص للتسامح وأبعاده الحضاريّة في الفلسفة الغربيّة، بدءًا بالمنطلقات، ونهاية بالإشكاليّات، وقد أبان البحث عن بعض الاستخلاصات والنتائج، ومنها:

1- أنّ قيمة التسامح –بوصفها فكرة نظريّة مجرّدة اتصلت بنظريّة الأخلاق، سواء أكانت مستندة إلى مرجعيّة نظريّة دينيّة، أم مرجعيّة نظريّة فلسفيّة، قد عبّرت عن أعلى درجات سموّ ورقي التفكير الإنسانيّ، وارتبطت بأرقى ما وصلت إليه الحضارات الإنسانيّة، مجسّدة بشواهد تاريخيّة عظيمة، مثل الحضارة الهنديّة، واليابانيّة، واليونانيّة، وأكبر شاهد تجسّدت فيه هذه القيمة هو الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وهو الواقع الذي ازدهرت به ولو لمدّة قصيرة، ونعني واقع الحضارة الغربيّة المعاصرة، وإن تراجع شأنها في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وعلى المستوى العالميّ كلّه.
2- أن مبادئ التسامح، سواء تلك صاغها ( بوبر) والتي تمّ استعراضها في المبحث الأول، هي نفسها المبادئ التي سبق وعبّر عنها فلاسفتنا المسلمون مثلما هو الحال عند الكندي، وابن رشد، والعامريّ، وفلاسفتنا الأخلاقيّون ( مسكويه، والماورديّ، فضلًا عن القرآن الكريم والسنّة المطهّرة، وهي التي ظهرت عند فلاسفة الغرب، وبخاصة فلاسفة عصر التنوير، وعبّرت عن نفسها بصور مختلفة، الإعلان الأمميّ لمبادئ التسامح الصادر في عام 1995، ليمثّل الترجمة الأخيرة لكلّ المبادئ التي توصّلت إليها الفلسفات، أو جاءت بها الديانات، وخاصّة الإسلام، كما رأينا ذلك في المبحث الثاني من هذا البحث.
3- إنّ ما توصّل إليه البحث، وفي المبحثين الأول والثاني، يؤكّد أنّ ظهور الفكرة نفسها (أي قيمة التسامح) في الغرب أو الحضارة الغربيّة الحديثة العلمانيّة على الأقل، جاءت وليدة حاجة، ولم تكن وليدة ثقافة تتجسّد عبر الممارسات السلوكيّة لمكوّنات المجتمع الغربيّ دولًا وجماعات وأفرادًا، كما  هو حال الحضارة العربيّة الإسلاميّة، كما أنّ التاريخ يشير إلى ظهور فكرة التسامح في الثقافات الشرقيّة القديمة تجسّدت بالتعاليم البوذيّة والكونفوشيوسيّة في حضارات  الصين والهند واليابان، وفكر وادي الرافدين، ومصر القديمة قبل اليونان، وليس أدلّ على ذلك، من أنّ أصالة الفكرة في الهند القديمة واليابان تعود مرّة أخرى في العصر الحديث في تلك الشعوب ملتحمة بسلوك مكوّنات تلك الشعوب ليس بوصفها تراثًا لها وحسب، بل وهويّة ذاتيّة تقارع بها كلّ أشكال الهويّات الوافدة مع الحضارة المعاصرة اليوم. ومثلما فعل سقراط بالأمس في الحضارة اليونانيّة، فعلها الزعيم الهنديّ غاندي اليوم، وذلك حينما أسّس فلسفة التسامح اللامشروط، رافعًا شعار «العنف واللاتسامح صفقة خاسرة لأنّهما ضدّ لفطرة الإنسانيّة»؛ إذ قاد مقاومة على سياسة العنف وأسّس لفلسفة اللاعنف، ومن أقواله: أين يتواجد الحبّ واللّاعنف تتواجد الحياة»، «إنّ اللّاعنف والتسامح المطلق قوّة عظمى لدى الإنسان، وهي أعظم ما أبدعه الإنسان، ومن أكثر الأسلحة قدرة على التدمير».
4- إنّ واقع الحال اليوم الذي يظهر فيه مفهوم التسامح في الإسلام ( نظريًّا، وعمليًّأ) من وجهة النظر النقديّة، والتي توصّل إليه بحثنا بهذا الخصوص حصرًا، وهي أنّ مشكلة غياب التسامح أو تراجع ثقافته بين البشر على اختلاف مللهم ونحلهم اليوم أي في الوقت الحاضر، يرجع إلى تحوّل الفكر أو النظريّة الدينيّة أو الفلسفيّة من عقيدة ومعرفة وقيمة خالصة، جاءت بها الكتب السماوية، أو توصّلت إليها النظريّات والأفكار الفلسفيّة البشريّة، إلى أيديولوجيا محرّفة، وموجّهة برغبة الناس، وأهوائهم بصفة عامّة، وعند أهل القوّة والسلطة والنخب المثقّفة والجماهيريّة بصفة خاصّة، تتّجه باتجاه مصالحهم وأهدافهم، فتنحرف أطرها النظريّة، بانحراف مقاصدها وأهواء أصحابها الشخصيّة، وهذا ينطبق على الفكر الفلسفيّ الغربيّ، قديمه ووسيطهُ وحديثهُ وحاضرهُ.
5- إنّ العولمة اليوم هي نوع من الاستعمار المقنّع، تُفرَض على الغير وتتعامل معه بنوع من اللاتسامح، لأنّها رغبة في محو ثقافات وحضارات شعوب، والسيطرة على ثروتها. رفع شعار التسامح كمبدأ أخلاقيّ مطلق، لا يقضي على الظلم والعنف وثقافة إلغاء الغير، ما لم يُمارس كواقع على الأرض مجسّدًا عبر مبادئ وقوانين وقوّة تحميه، وهو ما لم تعد القوى الغربيّة تقوم به، بل وعبر سلطاتها السياسيّة عادت إلى ثقافة اللاتسامح وممارسة الامبرياليّة فكرًا وممارسة على كلّ المخالفين لها داخل شعوبها وخارجها.
6- نعتقد أنّ التسامح فضيلة كبرى للشجاعة، وهو في الوقت ذاتهُ مطمح كلّ الفلسفات الإنسانيّة والأديان، وتقييدهُ بشروطٍ ليس خارجًا عن أسسه النظريّة في الأديان والفلسفات، وحتى عن المبادئ الأمميّة، إنّما هو تقيدٌ لصلاحيّاته الواسعة ولغايته النبيلة في نشر السلم والأمن والتعايش بين البشر. فالإنسانيّة اليوم مزّقتها الصراعات وأنهكتها حالات العنف وأنواعه، وإذا أردنا السلام يجب أن لا نضع قيدًا للتسامح، لأنّ أيّ قيدٍ له، إنّما هو قتل للتسامح؛ لأنّه أداة لسعادة البشر، وما يمارس الآن من قِبَل الغرب من تعصّب واستعلاء على الآخرين واحتقار ثقافاتهم ودياناتهم وازدرائها، إنّما هو بمثابة انقلاب على تلك الفلسفات والمبادئ الأمميّة التي تبنّت ثقافة التسامح اللامشروط، وادّعت حمايتها بعد تبنّيها قبل قرن من الزمن وأكثر، في عودة إلى ثقافة الاستعمار عبر الاستشراق القديم من جانب، وعبر الأعمال العدوانيّة والتآمريّة على كلّ من يخالفها أو يريد أن يتحرّر من عبوديّتها.
7- أخيرًا: تبيّن من خلال البحث في ثقافة  التسامح والأبعاد الحضاريّة المتصلة بها، عند الغرب على وجه الخصوص، أنّها ثقافة غائبة كلّ الغياب في الغرب الأوروبّيّ المعاصر، ولا نُخرج أنفسنا من هذه التهمة سواء أكان مع أنفسنا، أم مع غيرنا ممن تربطنا بهم روابط الدم، والقرابة، واللغة، والتاريخ، بل وحتّى روابط العيش المشترك، وروابط الإنسانيّة، وكم نحن بحاجة إلى نشر هذه الثقافة، من الناحية النظريّة (كتابة – تأليفًا – تدريسًا – وعظًا وإرشادًا)، ثم اتّخاذ الأساليب المناسبة لتوجيه الناس وتدريبهم على ممارستها، ولكنّ هذا لا يتحّقق إلّا بإرادة خيّرة، مدفوعة بقوّة العقيدة والإيمان بها، وإرادة قويّة مدفوعة بقوّة القانون والسلطة الملزمة للأفراد، والجماعات مرحليًّا، حتى تتحوّل في وجداننا وعقولنا إلى جزء من هويّتنا الذاتيّة، بل وعقيدتنا التي ندين بها لله وحده.

المصادر والمراجع العربية
1. (دي متري، فولتير، القاموس الفلسفيّ، ورسالة في التسامح الدينيّ، ترجمة وعرض: وول ديورانت في: (قصّة الفلسفة) ترجمة: محمد فتح الله المشعشع، ط2، مكتبة المعارف، بيروت، 1985م.
2. أندريه لالاند، القاموس الفلسفيّ، ترجمة: خليل أحمد خليل، ط2، دار عويدات، بيروت-باريس، 2002م، مج3.
3.  أندريه لالاند، فيلسوف ومؤرخ فرنسي(1867-1963م)- الموسوعة الفلسفيّة،ويكبيديا، ج3،
4.  باروخ سبينوزا، رسالة في اللاهوت والساسة، ترجمة وتعليق: د. حسن حنفي، عرض: منتدى شباب سوريا، في: souriaa.net. وقارن: ول ديورانت، قصّة الفلسفة، ترجمة: فتح الله محمد المشعشع، ط5، مكتبة المعارف، بيروت، 1985م، وقارن: كذلك: إيكو أومبرتو -أين تقف حدود التسامح؟- مجلّة: أبواب – العدد5، 1995.
5. برهان غليون: الدين والدولة، ط1، المؤسّسة العربيّة للدارسات والنشر، بيروت،1991م.
6. بن عشور عياض- حقوق الإنسان: أيّ حقّ؟ وأيّ إنسان؟- مجلّة: الفكر العربيّ المعاصر-العدد 82/83.  ديسمبر 1990.
7. جان جاك روسو، في العقد الاجتماعيّ، ترجمة: ذوقان قرقوط، ط1، مكتبة النهضة، بغداد، 1983.
8. جان فال، طريق الفيلسوف، ترجمة: أحمد حمدي محمود، ط1، مطابع سجل العرب، القاهرة،1967م.
9. جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمها من الفرنسيّة: حيرش بغداد محمد، مجلّة اللسانيات، العدد: 36، شتاء 2008، في: www.google.com والعنوان الإنجليزيّ ترجمة الباحث.
10. روجيه جارودي، في سبيل حوار الحضارات، ترجمة: د. عادل العوّا، ط4، عويدات للنشر والطباعة، بيروت، 1999.
11. عمانوئيل كانط، مشروع السلام الدائم، (كتيّب)، ترجمة وعرض د. عبد الغفار مكاوي، في بحثه الأزمة أم الإبداع، مجلّة فصول عدد (؟؟) لسنة 1994.
12. فردريك نيتشة، هكذا تكلّم  زرادشت، ترجمة: فليكس فارس، ط1، المكتبة الثقافيّة، بيروت، ب.ت.
13. كانط، نقد العقل العمليّ، ترجمة: أحمد الشيبانيّ،ط1، دار اليقظة العربيّة، بيروت، 1966م.
14. منصف بن دحمان، حقوق الإنسان والديمقراطية لمحمد سبيلا، مجلّة: فكر ونقد، السنة الأولى، العدد4، ديسمبر 1997.
15. هوفمايستر بيتر- فريديريك نيتشة» مغامرة التفكير» –مجلّة فكر وفن-العدد73، السنة 38. 2001.
16. يوحنّا النقيوس [تاريخ نصر ليوحينا النقيوس] ترجمة ودراسة وتعليق: د. عمر صابر عبد الجليل. طبعة القاهرة، سنة 2000م.
17. يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، ط1، دار القلم، بيروت، ب.ت؛ وقارن: د. عبد الرحمن بدوي، ملحق موسوعة الفلسفة-م.ع.د.ن-ط1، 1996.

المصادر والمراجع الأجنبية
Lagrée Jaqueline-La religion Naturelle-P.U.F-1ere édition, Mai1991
16. Cassirer Ernest-La philosophie des Lumières-Traduit de L’Allemand et présenté par : Pierre Quillet. Fayard (Paris), 1966, p 183
 Eco Umberto -Définition de L’intolérance- Magazine littéraire (Paris)-n° 363, Mars 1998.
Definitions Alain, les Arts et les Adieux, p.152  وقارن: Dizionarioi the Political,1169.. TEA 199, Milano
from:wapedia of  Jewish ,last reference. john, Lewis (2006), pp.25 -36 

---------------------------------
[1]ـ   مفكّر وأستاذ الفلسفة في جامعة إب - اليمن
[2] - كارل بوبر: بحثه: (التسامح والمسؤوليّة الفكريّة) (ضمن كتاب): التسامح بين الشرق والغرب. لمجموعة مؤلّفين، ترجمة: إبراهيم العريس، ص75-101، وقد نقل الدكتورمحمد أحمد عواد بعضًا من شذرات هذا البحث، وأفدنا منها في هذا الهامش قبل العثور على الكتاب نفسه، في عرضه لموضوع منطلقات التسامح عند المسلمين فقرة (مبادئ التسامح) على موقع مجلّة التسامح الإسلاميّة، كما أفدنا منه في أماكن أخرى من هذه الدراسة.
-وفي هذا المعنى يعدّ (كارل بوبر (1902 - 1994) واحدًا من كبار فلاسفة التسامح والحرّيّة والانفتاح الاجتماعيّ في القرن العشرين. وكان من أبرز كتبه، إضافة إلى «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، سيرته الذاتيّة بعنوان «المسعى غير المكتمل» و«منطق الاكتشاف العلميّ»، إضافة الى كتاب مهمّ بعنوان «المستقبل مفتوح» نشره عام 1990 شراكة مع كونراد لورنز

[3]- أيضًا: المرجع السابق، ص76؛ وقارن: للمترجم د. إبراهيم العريس، حين نتعلّم من أخطائنا، (ضمن تعليقه على كتاب): التسامح والمسؤوليّة الفكريّة لكارل بوبر بموقع صحيفة دار الحياة:
 http://www.daralhayat.com/portalarticlendah/152524، بتاريخ 15يونيو 2010م: حيث ينقل “إبراهيم العريس” عن بوبر أيضًا قوله:”إنّ خشيتنا المبالغ فيها، من أنّنا معشر المؤمنين بالتسامح قد نصبح نحن أنفسنا لا متسامحين، هي التي أدّت بنا إلى الموقف الخطأ والخطير الذي بات يوجب علينا أن نتسامح مع كلّ شيء، وربما مع أعمال العنف (...) مفيدًا بأنّ هذا الموقف مفهوم، بل مثير للإعجاب بطريقة من الطرق، ذلك أنّه ينبع من تلك النظرة التي تقف في أساس التسامح كلّه: النظرة التي تقول إنّنا كلّنا قابلون لأن نخطئ، ولأن ننادي بارتكاب الخطأ، النظرة التي تقول إنّني قد أكون على خطأ وقد تكون أنت على صواب، وأنّه ينبغي عليّ أن أعلّم نفسي كيف لا أنخدع بذلك الشعور الغريزيّ الخطير، أو تلك القناعة التي تملي عليّ الشعور بـ «أنا من هو على صواب دائمًا». فإنّ عليّ أن أحذر هذا الشعور مهما كانت قوّته. ذلك أنّه كلّما كان أكثر قوة، كان الخطر الكامن في إمكان أن أخيّب ظن نفسي بنفسي أكبر... ومعه خطر أن أصبح أنا نفسي متعصّبًا غير متسامح».
[4]- انظر: عبد الملك منصور، مرجع سابق، في: http://mansourdialogue.org/Arabic/fikr2.html
[5] - برهان غليون: الدين والدولة، ط1، المؤسّسة العربيّة للدارسات والنشر، بيروت،1991م، ص: 111.
[6] - (دي متري، فولتير، القاموس الفلسفيّ، ورسالة في التسامح الدينيّ، ترجمة وعرض: ول ديورانت في: (قصّة الفلسفة) ترجمة: محمد فتح الله المشعشع، ط2، مكتبة المعارف، بيروت، 1985م، ص، 296 ـ 297، وص:287-293.).
[7] - أندريه لالاند، القاموس الفلسفيّ، ترجمة: خليل أحمد خليل، ط2، دار عويدات،بيروت-باريس، 2002م، مج3، ص: 1460-1462.
[8] - انظر: يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، ط1، دار القلم، بيروت، ب.ت، ص: 151،152؛ وقارن: د. عبد الرحمن بدوي، ملحق موسوعة الفلسفة-م.ع.د.ن-ط1، 1996. ص59.
[9] - Locke, John, A Letter concerning Toleration-P.U.F-1ed: 1995,p,9,31.  جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمها من الفرنسيّة: حيرش بغداد محمد، مجلّة اللسانيات، العدد: 36، شتاء 2008، في: www.google.com والعنوان الإنجليزيّ ترجمة الباحث.
[10] - انظر: Gendran-Julie Saada-La tolérance”Textes choisis”- Flammarion  (Paris) 1999. p137 جولي سعادة، نصوص مختارة عن التسامح، ترجمة حيرش بغداد محمد، والترجمة من الإنجليزيّة بتصرّف من الباحث.
[11] - جان جاك روسو، في العقد الاجتماعيّ، ترجمة: ذوقان قرقوط، ط1، مكتبة النهضة، بغداد، 1983، ص: 201-203. وكذلك: جولي سعادة المرجع السابق: Ibid –p,151 والترجمة عن الفرنسيّة إلى الإنجليزيّة للباحث الجزائريّ، حيرش بغداد.
[12] - Ricoeur Paul-Lectures 1-édition du Seuil-11-1991.p307. ترجمة: حيرش بغداد، المرجع السابق.
[13] - انظر: د.عبد الرحمن بدوي، ملحق الموسوعة، مرجع السابق، ص 59، 60.
[14] - جان جاك روسو، في العقد الاجتماعيّ، مرجع سابق، ص: 204-207. وانظر: ديفيد هيوم، محاورات في الدين الطبيعيّ، ترجمة: د.فيصل عباس، ط1، دار الحداثة، بيروت، 1980م، ص 214-216.
[15] - روسو المرجع السابق، ص، 159، 206-212.
[16] - أيضًا، والصفحات نفسها.
[17] - باروخ سبينوزا، رسالة في اللاهوت والساسة، ترجمة وتعليق: د. حسن حنفي، عرض: منتدى شباب سوريا، في: souriaa.net. وقارن: ول ديورانت، قصّة الفلسفة، ترجمة: فتح الله محمد المشعشع، ط5، مكتبة المعارف، بيروت، 1985م، ص: 236، وص: 240-243)؛ وقارن: كذلك: إيكو أومبرتو -أين تقف حدود التسامح؟- مجلّة: أبواب – العدد5، 1995.ص101.
[18] - عمانوئيل كانط، مشروع السلام الدائم، (كتيّب)، ترجمة وعرض د. عبد الغفار مكاوي، في بحثه الأزمة أم الإبداع، مجلّة فصول عدد (؟؟) لسنة 1994، وعرضه كذلك: موقع:
http://www.4shared.com/file/37486978/da13c869/؛ وقارن كذلك: ول ديورانت، قصة الفلسفة، مرجع سابق، ص، 365،366. وص.ص،591-594.
[19] - كانط، نقد العقل العمليّ،ترجمة: أحمد الشيبانيّ،ط1، دار اليقظة العربيّة، بيروت، 1966م، ص،240-246.
[20]  - Lagrée Jaqueline-La religion Naturelle-P.U.F-1ere édition, Mai1991
في الدين الطبيعيّ، من ترجمة: حريش بغداد، مجلّة اللسانيّات، مرجع سابق، عن GOOGLE.COM:
[21] - جان فال، طريق الفيلسوق، ترجمة: أحمد حمدي محمود، ط1، مطابع سجل العرب، القاهرة،1967م، ص.ص،15-17.و ص، 492.
[22] - Cassirer Ernest-La philosophie des Lumières-Traduit de L’Allemand et présenté par : Pierre Quillet. Fayard (Paris), 1966, p 183
إرنست، كاسيرر، فلسفة الأنوار، عن: محمد حريش بغداد، المترجم، مجلّة اللسانيّات، مرجع سابق، عن www. Google.com:
[23] - Eco Umberto -Définition de L’intolérance- Magazine littéraire (Paris)-n° 363, Mars 1998.p,18.
من ترجمة: محمد حريش بغداد، لنصوص من مقال إيكو أومبيترو، تعريف التسامح، في مجلّة الأدب الباريسيّة، ص: 18.
[24] - جولي سعادة، نصوص مختارة في التسامح، مرجع سابق، ص، 13.
[25] - فولتير، أديموند، رسالة في التسامح الدينيّ، من عرض: ول ديورانت، قصة الفلسفة، مرجع سابق، ص 272-277.
[26] - فردريك نيتشة، هكذا تكلّم  زرادشت، ترجمة: فليكس فارس، ط1، المكتبة الثقافيّة، بيروت، ب.ت، ص.ص،166 – 189.
[27] - فردريك نيتشة، المرجع سابق، ص.ص،204، وص313-323. وله كذلك:  العلم المرح- ترجمة حسان بورقيبة، محمد الناجي-إفريقيا الشرق-ب ط، 2000. ص55
[28] - هوفمايستر بيتر- فريديريك نيتشة» مغامرة التفكير» –مجلّة فكر وفن-العدد73، السنة 38. 2001. ص،57.
[29] - انظر:   subject:toleration:in: http/www. wapedia of ,jewish ,at   http/www.google.com.،
وقارن:بعيط الجيلالي، جدلية  العنف والتسامح ،في: منتدى النخبة الجزائرين  عن (شبكة معن التطويرية). مرجع سابق.
[30] - أندريه لالاند، الموسوعة الفلسفيّة، مرجع سابق، ج3، ص: 1461.
[31] - ينظر: ندوة حول: “التسامح بين المفاهيم والواقع”، المجلّة العربيّة لحقوق الإنسان، العدد 2 سنة 1995م. ص 49- 62، وقارن: أبو علي التونسيّ، فكرة التسامح الغربيّ، بين الممارسة والنظرية، مقال على شبكة الإنترنت، في: 2-2-2006 في http/www.google.com..
[32] - جولي سعادة، في التسامح، نصوص مختارة، مرجع سابق، ص، 161.
[33] - بن عشور عياض- حقوق الإنسان: أيّ حقّ؟  وأيّ إنسان؟- مجلّة: الفكر العربيّ المعاصر-العدد 82/83.  ديسمبر 1990. ص: 62.
[34]  - منصف بن دحمان، حقوق الإنسان والديمقراطية لمحمد سبيلا، مجلّة: فكر ونقد، السنة الأولى، العدد4، ديسمبر 1997. ص: 156.
[35] - روجيه جارودي، في سبيل حوار الحضارات، ترجمة: د. عادل العوّا، ط4، عويدات للنشر والطباعة، بيروت، 1999م، ص: 216 ـ 228
[36] - أبو علي التونسيّ، فكرة التسامح الغربيّ، مقال: على الشبكة العنكبوتيّة، مرجع سابق.
[37] - وثيقة إعلان مبادئ بشأن التسامح، إصدار المؤتمر العام لليونسكو، في تشرين الثاني نوفمبر 1995، إصدار مكتبة حقوق الإنسان، جامعة منيسوتا، ومكتب اليونسكو الإقليميّ في عمان الأردن، نشرة عام 2010. في شبكة النت على موقع:
(www.umn,humanrights/arabic.com (.
[38] - نقلًا عن مجلّة JEUNE AFRIQUE; LINTELLIGENT العدد رقم 214، ص: 13 من مقال باسكال فارجكا. في الموقع الإلكترونيّ: (www.alasr.ws/index.cfm  (  وقد وضع هذا النصّ حرفيًّا في البند الأوّل من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بتاريخ 1 ديسمبر 1948 م.
[39] - وثيقة إعلان مبادئ التسامح الصادرة عن مؤتمر اليونسكو، في 16نوفمبر 1995م، مرجع سابق، وقارن: ندوة “التسامح بين المفاهيم والواقع”، في المجلة العربيّة لحقوق الإنسان، ص 49- 62. وزكي بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعيّة، د زكي بدوي، ص462، مرجعان سابقان.
[40]- from:wapedia of  Jewish ,last reference. john, Lewis (2006), pp.25 -36 
[41] - Ibid , the last page.and ,last wep.  
[42] - المرجع السابق، ص152.    
[43] - أيضًا، المرجع السابق، ص 53،54.
[44] - الاجتهاد، العدد 30، ص،31، 41.
[45] - المرجع السابق.ص 32،59،62.
[46] - أيضًا،الاجتهاد، العدد 31/32، ص75 ـ 77.
[47] - علي بن عمر بادحدح، أسس التسامح في الإسلام، (محاضرة أو خطبة) منشورة في موقع مجلّة التسامح الإسلاميّة على شبكة النت www.google.com  مادة: التسامح في الإسلام.
[48] - يوحنّا النقيوس [تاريخ نصر ليوحينا النقيوس] ترجمة ودراسة وتعليق: د. عمر صابر عبد الجليل. طبعة القاهرة، سنة 2000م. ص90-95.
[49] - Definitions Alain, les Arts et les Adieux, p.152  وقارن: Dizionarioi the Political,1169.. TEA 199, Milano
,p, نقلًا عن: أبو علي التونسي، المرجع السابق.