البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

أنثروبولوجيا الإسلام

الباحث :  جعفر نجم نصر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  26
السنة :  شتاء 2022م / 1443هـ
تاريخ إضافة البحث :  June / 4 / 2022
عدد زيارات البحث :  2889
تحميل  ( 395.085 KB )
في العقود الأربعة الأخيرة برز بقوّة وبحضور لافت للاهتمام تخصّص معرفيّ جديد داخل حقل الأنثروبولوجيا  أطلق عليه (أنثروبولوجيا الإسلام). وفي ثنايا تبلور هذا الحقل الجديد تمّت مراجعة القبليّات الفكريّة والمعرفيّة للكثير من مقولات وتصوّرات ومصطلحات عدد من الأنثروبولوجيّين الغربيّين، وتمّت عمليّة اكتشاف بقايا مرجعيّات ثقافيّة/استشراقيّة كانت هي الحاكمة والناظمة لهم، وهذا الامر جعل أنثروبولوجيا الإسلام أمام مراجعتين مهمّتين لم تطل الرواسب الاستشراقيّة فحسب، بل طالت العمل الميدانيّ/الحقليّ ومنهجيّته الأساسيّة الإثنوغرافيا، ولم يقف الأمر عند مراجعات طلال أسد ودانيل فاريسكو وإدوارد سعيد وآخرون، بل تجاوزهم عبر مراجعة (الأنثروبولوجيّون المحلّيّون) في بعض بلدان العالم الإسلاميّ. وأمام هذا كلّه أعيد للمشهد مرّة أخرى مسألة المركزيّة الغربيّة للوقوف ليس على جذوره الاستشراقيّة فحسب، بل وعلى إشكاليّات المنهج الإثنوغرافيّ المهمّين في الأنثروبولوجيا  كذلك، بعبارة أخرى أعيد طرح التساؤلات عن العلم الاجتماعيّ الغربيّ وكيف أنّه ما زال يعبّر عن تلك المركزيّة الغربيّة، ويسوقها ضمن براديغمات جاهزة هيمنت هذه المرّة على الحقل المعرفيّ الجديد، حقل (أنثروبولوجيا الإسلام).

كلمات مفتاحيّة: أنثروبولوجيا الإسلام – إثنوغرافيا الميدان – علم الاجتماع الغربيّ – الرواسب الاستشراقيّة- الإسلام المتخيّل.

تنطلق هذه المقالة من مجموعة أسئلة وتساؤلات تندرج على النحو التالي: ما هي أصول أو منابع ما اصطلح عليه بـ(أنثروبولوجيا الإسلام)؟ ومتى بدأ هذا التخصّص الجديد من داخل الدائرة والأوسع (الأنثروبولوجيا)؟ وهل استطاع إقامة دراسات ميدانيّة بعيدة عن الأيديولوجيا الكونياليّة ‘’Colonialism’’ وما بعد الكونياليّة الماثلة في البراديغمات الغربيّة المهيمنة على العلم الاجتماعيّ برمته؟ وما هو حضور الاستشراق ومواريثه في داخل هذا الحقل الجديد؟ وهل استطاع الأنثروبولوجيّين المبرّزين في هذا الحقل أمثال كليفورد غيرتز وإرنست غلنر التفلّت من قبضته؟ وإذا كان هذا الحقل الجديد (أنثروبولوجيا الإسلام) غير بعيد عن تلك المواريث الاستشراقيّة والبراديغمات الغربيّة المهيمنة، فما هي الأدوات أو الوسائل الأنجع لتشكيل هذا الحقل الجديد في العالم الإسلاميّ؟ وهل يقع الأمر على عاتق الأنثروبولوجيّين المحلّيّين في العالم الإسلاميّ لبناء رؤية موضوعيّة/ميدانيّة بعيدة عن هذه البراديغمات وحمولاتها السلبيّة؟ وهل بالإمكان بناء براديغمات من داخل الحقل الميدانيّ (المجتمعات والقرى والمدن الإسلاميّة) لتشكيل خصوصيّة معرفيّة لنماذج إرشاديّة؟.
تسعى الدراسة إلى الإجابة عن هذهِ التساؤلات ضمن محاور أربعة، وهي بمجموعها محاولة لتصوّر مدخل أوّليّ نقديّ لتفكيك المركزيّة الغربيّة بما يخصّ العلم الاجتماعيّ (الأنثروبولوجيا) على وجه التحديد، ولاسيّما الحقل المعرفيّ الجديد (أنثروبولوجيا الإسلام).

من داخل علم الأناسة (الأنثروبولوجيا) ظهر حقل معرفيّ ما زال محلّ جدل ونظر ومراجعة هو (أنثروبولوجيا الإسلام) ‘’Anthropology of Islam’’. كان هذا الحقل بديلًا عن الرؤى والبراديغمات ‘’Paradigms’’ التي قدّمتها الأنثروبولوجيا الغربيّة عن الإسلام في عصر الاستعمار من جهة، وبديلًا عن الاستشراق وسائر خطاباته المهيمنة آنذاك بحسب دعواه. هنا ظهرت الإشكاليّات ولم تنتهِ؛ إذ إنّ هذا التخصّص الجديد (أنثروبولوجيا الإسلام) لم يستطيع وإلى حدٍّ كبير من التخلّص من أدران الأنثروبولوجيا الاستعماريّة من جهة، ولا من مواريث الاستشراق من جهة أخرى والتي تسلّلت إلى الدراسات الأنثروبولوجيّة عن الإسلام، إذ كان الأمر لا يعدو تبدّل أسماء معرفيّة وحقول دراسيّة لا أكثر، وهذا ما كشفت عنه الكثير من المراجعات النقديّة التي تقدّم بها كبار الباحثين الأنثروبولوجيّين أمثال طلال أسد ‘’Talal Asad’’ ودانيل مارتن فاريسكو ‘’Daniel Martin Varisco’’وآخرون.

لقد تبيّن أنّ حقل أنثروبولوجيا الإسلام يمثّل بوابة لإعادة تقديم مجموعة من المقولات الاستشراقيّة عن الإسلام والمسلمين، وأنّ الدراسات الحقليّة ولو ادّعت الموضوعيّة عبر الاستناد إلى المنهج العلميّ (الإثنوغرافيا)، إلّا أنّها بالمآل النهائيّ، ظلّت تعكس في تحليلاتها وتفسيراتها البراديغمات الغربيّة بنحوٍ أو بآخر، بل تستصحب هذه البراديغمات إلى الميدان مع وجود الأحكام المسبقة في الوقت عينه. وهذا الأمر أفضى بطبيعة الحال إلى تقديم الكثير من الدراسات المشوّهة والمبتورة عن الإسلام والمسلمين في الوقت عينه، وهذا ما تلمّسناه في أعمال فكريّة تحظى بمكانة كبرى في العالم الغربيّ، أمثال دراسات كليفورد غيرتز
‘’Clifford Geertz’’ وإرنست غلنر ‘’Ernest Gellner’’ على سبيل المثال لا للحصر، ومن ثمّ أصبح حقل (أنثروبولوجيا الإسلام) مكانًا خصبًا لإعادة تقديم المركزيّة الغربيّة واشتراطاتها المعياريّة في النظر إلى الإسلام أنثروبولوجيا.

أوّلًا: الغرب وإنتاج أنثروبولوجيا الإسلام: جدل التأسيس:
يوجد فاصل زمنيّ واسع بين الدراسات الأنثروبولوجيّة عن الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا عمومًا، بوصفهما جغرافيا (الإسلام) الأمثل والأبرز، وبين ما اصطلح عليه لاحقًا بـ(أنثروبولوجيا الإسلام) والذي ما زال حقلًا معرفيًّا متنازعًا عليه لأسباب كثيرة سنأتي عليها لاحقًا.

ولأجل تفكيك هذهِ الإشكاليّة نحتاج إلى العودة للمنابع الأولى لصلات الغرب بالإسلام من بوابة التخصّص الاصل (الأنثروبولوجيا)، ونحن في ضوء ذلك بحاجة إلى رؤية نقديّة لمعالجة منابع ذلك وأصوله، ولكن في الوقت عينه نحتاج إلى رؤية لا تطلق الأحكام قبل التروّي الموضوعيّ وتفحّص مسارات الصلة بين الغرب والإسلام من بوابة علم الإناسة.

ينبغي أن نتحدّث عن منظور الأنثروبولوجيا  للعالم الإسلاميّ ليس عبر دمج المراحل أو الأطوار التأريخيّة دفعة واحدة، بل نريد أن نتحدّث عن أطوار ومراحل مفصولة إحداها عن الأخرى، صحيح أنّ الأنثروبولوجيا  كانت أداة الاستعمار وبنحو واضح في المراحل الأولى من تأسيسها، وهذا بحسب اتفاق كبار الباحثين، أو كما قال جيرار ليكلرك “Gerard Leclerc” في كتابه (الأنثروبولوجيا  والاستعمار: «... وخلال سنوات قليلة بدأ الانقلاب على ما كان يعتبر أسس الأنثروبولوجيا  الكلاسيكيّة، وفي تلك الفترة بالذات بدأ الاستعمار أيضًا. وقد لا يعني هذا التوافق الزمنيّ شيئًا في البداية، طالما أنّ إمكانيّة إيضاحه ليست سهلة، إلّا أنّ ثمّة مبادئ توحي بأنّ هذا التوافق لم يكن محض صدفة، فما لا شكّ فيه أنّ ثمّة توافقًا في تلك المرحلة بين الأيديولوجيّة الاستعماريّة وإيديولوجيّة هذهِ الأنثروبولوجيا  الجديدة»[2].
إذ ظهرت الأنثروبولوجيا في هذا العالم وتطوّرت بوصفها أكاديميّة منضبطة، في البداية أبدت قلقها من المساعدة في تصنيف الجماعات الإنسانيّة غير الأوروبيّة، ولكنّها بعدئذ توافقت مع قصّة انتصار أوروبا بوصفها تتوافق مع التقدّم، ثمّ ذهب علماء الأنثروبولوجيا  من أوروبا إلى المستعمرات من أجل مراقبة ووصف خصوصيّة غير الأوروبيّين، عبر دراسة أشكالها الثقافية التقليديّة وإخضاعها للتغير الاجتماعيّ الحديث[3].

ولكن على الرغم من ذلك، إلّا أنّ السؤال عن الهيمنة والبعد الاستعماريّ اعتمادًا على الأنثروبولوجيا  من عصر إلى عصر آخر قد اختلف، بل أنّنا شهدنا بعد الاستقلال في الكثير من بلدان العالم الإسلاميّ في أواخر خمسينات القرن الماضي وبداية الستينات منه، نهجًا إنثروبولوجيًّا جديدًا عن العالم الإسلاميّ، عبر قيام دراسات إثنوغرافيّة/ميدانيّة مباشرة، ولهذا الأمر مغزى جوهريّ في تفحّص دقيق لجدليّة العلاقة بين الغرب والإسلام من منظورات إنثروبولوجيّة.

وفي هذا السياق قال ريتشارد أنطوان “Richard Antoun” إنّ تطوّر أنثروبولوجيا الشرق الأوسط مرّ بأربع مراحل: مرحلة سيطرة المستشرقين، ومرحلة سيطرة الرحّالة والإداريّين السياسيّين في العصر الاستعماريّ، أي الأنثروبولوجيّين الهواة، ومرحلة سيطرة علماء الأنثروبولوجيا  المحترفين، وأخيرًا مرحلة سيطرة الأنثروبولوجيّين المحلّيّين [4].
وللأنثروبولوجست الأميركيّ ديل إيكلمان ‘’Dale Eickelman’’ رؤية مقاربة عن تلك المراحل كذلك في مقالته الموسومة: (الشرق الأوسط: منهج إنثروبولوجيّ)، إذ يرى أنّ أهمّ مراحل دراسة الشرق الأوسط هي مرحلة حملة بونابرت (1798-1801)، ثم مرحلة المغامرين والرحّالة والباحثين من المستشرقين، وعلى وجه الخصوص وليم روبرتسون سمث “R. Smith” الذي قدّم في نظره انعطافة مهمّة في دراسات الشرق الأوسط، ثمّ هنالك الدراسات التي وجّهتها المصالح الاستعماريّة، وأخيرًا ما أسماه بالمرحلة الوظيفيّة، وخاصّة ما تعلّق منها بدراسة القرى والمجتمعات المحلّيّة[5].
إنّ الفهم الدقيق لصلات الغرب بالإسلام عبر منظورات إنثروبولوجيّة يستدعي عزل كلّ مرحلة أو طور واستعيابه تحليلًا ونقدًا، ولكن من دون الاستغراق في التفاصيل من جهة، ومن دون إصدار الأحكام المسبّقة من جهة أخرى. لكن هنالك مسلّمات أساسيّة اتفق عليها كبار الباحثين والمفكّرين الغربيّين من أنّ الأنثروبولوجيا  في بواكيرها الأولى عندما تعرّفت على العالم الإسلاميّ عبر القوى الاستعماريّة المنطوية تحتها (إداريًّا ومعرفيًّا) كانت تدور في دائرة استغلال الفهم الأنثروبولوجيّ للإسلام والمسلمين من أجل الهيمنة وديمومة المدّ الاستعماريّ.

وعليه فالرأي الآتي في سياق ما تقدّم يعدّ بوصفه تحصيلًا للحاصل: الواقع أنّ سيل الرحّالين والبعثات من الباحثين الأنثروبولوجيّين المموّلين من الدوائر الغربيّة بقي يتدفّق إلى الصحراء وإلى المنطقة العربيّة، وهو لم يكن معزولًا عن الواقع الذي نشأت فيه الأنثروبولوجيا كمؤسّسات بحثيّة وعلميّة تطوّرت مع الاستعمار وتمأسست وتحوّلت في أحضانه، بعد أن كانت مجرّد دراسات نظريّة تستمدّ معلوماتها الإثنوغرافيّة من الرحّالة والتجّار والمغامرين والعسكريّين في ما وراء البحار؛ لذلك جاءت معلوماتهم بعيدة عن واقع الحياة اليوميّة لتلك الشعوب والمجتمعات، فضلًا عن أنّها لم تكن موضوعيّة بل مشحونة بالتعصّب والأحكام المسبقة[6].

إنّ السياقات العلميّة الراهنة تشير إلى وجود خطّين يمثلان الكتابات الأنثروبولوجيّة عن العالم الإسلاميّ:

- أوّلهما: يتمثّل في الدراسات الغربيّة الانجلوساكسونيّة، والتي أنطلقت في بدايات الستينات من القرن الماضي وما زالت مستمرّة بحسب براديغمات خاصّة بها[7].

- ثانيهما: يتمثّل في اتجاه الأنثروبولوجيّين المحلّيّين، وهم أبناء البلد الأصليّين، وهم شكّلوا ما أصطلح عليه بـ(أنثروبولوجيا الأبناء الأصليّين) “Indigenous Anthropology”، وقد شرعوا بدراساتهم عن مجتمعاتهم الإسلاميّة بعد رحيل الاستعمار[8].

وتأسيسًا على ما تقدّم لنا أن نتساءل: ما هي صورة الإسلام في الدراسات الانثروبولوجيّة في الحقبة الممتدّة منذ ستينات القرن الماضي إلى يومنا الحاضر؟ وهل ثمّة فهم موضوعيّ (إثنوغرافيّ) عن التشكيلات الثقافيّة للإسلام على المستوى الاجتماعيّ؟ وهل تمّت صياغة مصفوفة معرفيّة متكاملة عن حقيقة الإسلام بحسب هذهِ الدراسات الإثنوغرافيّة؟.

يقول دانيل مارتن فاريسكو: حول هذهِ الدراسات الموضوعة حول الإسلام: «إنّ أكثريّة ما كُتب عن الإسلام، أو ما قيل عنه يتّصف، للأسف بغلبة الطابع الأكاديميّ، والنزعة الإعلاميّة، وأيضًا شيوع جملة من أنصاف الحقائق والأباطيل التي تلتفّ حول الحقائق الأساسيّة، وتروّج لفكرةٍ تفيد أنّ ديناميّات أحد أكثر الأديان نموًّا وانتشارًا هي ديناميّات يلفّها الغموض»[9].
وبطبيعة الحال فإنّ فاريسكو قدّم مراجعة نقديّة مهمّة لأبرز الكتابات حول (أنثروبولوجيا الإسلام)، ولكن كان قلم السبق لـ: طلال أسد؛ ففي مقالة تأسيسيّة تحت عنوان (فكرة أنثروبولوجيا الإسلام) حاول فيها تقديم تأطير نظريّ - نقديّ موسّع للخطاب الأنثروبولوجيّ المعاصر حول الإسلام، هذا الخطاب الذي يدّعي قطع صلته الكلّيّة بالاستشراق وبالتوجّهات الأيديولوجيّة الاستعماريّة السابقة!!.
ولقد بدأ بطرح تساؤل جوهريّ: ما المقصود على وجه التحديد بأنثروبولوجيا الإسلام؟ وما موضوعها؟ ربما ظنّنا أنّ الإجابة على هذا السؤال واضحة، حيث يمكن أن يقال إنّ ما تعالجهُ أنثروبولوجيا الإسلام على وجه التأكيد (الإسلام)، لكن أن نجعل الإسلام مفهوميًّا موضوع دراسة أنثروبولوجيّة ليس بالأمر اليسير، كما تحاول أن تصوّره لنا بعض الكتابات [10].

ويقف طلال أسد هنا موقفًا نقديًّا صارمًا إزاء عمليّة التسطيح الأكاديميّ لفهم الإسلام من قبل الأنثروبولوجيّين الذين يدّعون تقديمه بإطار إثنوغرافيّ؛ إذ سعى للوقوف على معاني الإسلام في جملة الدراسات التي أجريت ليكتشف الفوضى التحليليّة في ذلك، إذ قال في هذا الصدد: «فهنالك على الاقل، ثلاث إجابات عامّة لسؤالي: (1) أنّه لا يوجد في التحليل النهائيّ، موضوع نظريّ مادّته هي الإسلام، (2) أنّ الإسلام عبارة عن مجرّد بطاقة تعريف أنثروبولوجيّة لمجموعة غير متجانسة من الأشياء ينعتها الإخباريّون بالإسلام (3) أنّ الإسلام شموليّة تاريخيّة متميّزة تنتظم جوانب مختلفة من جوانب الحياة الاجتماعيّة» [11].

يدّعي الأنثروبولوجيّين بناء على مجموعة دراساتهم الإثنوغرافيّة أنّهم استطاعوا تقديم فهم لماهيّة الإسلام بالمعنى الثقافيّ في حياة الناس اليوميّة، لكن طلال أسد وغيره من الباحثين أبرزهم فاريسكو، بيّنوا أنّ أنثروبولوجيا الإسلام كمادّة حقليّة لم تستطع أبدًا تقديم صورة موضوعيّة عن الإسلام، مما جعلهم في النهاية يستسلمون ويعلنون عدم إمكانيّتهم الإحاطة بهِ.

وإبتغاء توضيح السبب في تردد الأنثروبولوجيّين في التعامل مع الإسلام، بين ريتشارد دانتون’’Richard Danton’’  في مسح له للدراسات الانثروبولوجيّة السابقة في منتصف سبعينات القرن العشرين، أنّ السبب يعود إلى ضيق رؤية الحقل المعرفيّ الذي ترك هذهِ المهمة إلى المستشرقين من جهة، وافتقار العاملين في هذا الحقل إلى اتقان اللغة العربيّة من جهة أخرى، تزامن ذلك مع نقد الأنثروبولوجيّ المسلم عبد الحميد الزين[12]* للنقاشات الأنثروبولوجيّة السابقة للإسلام، نقدًا شكّل حافزًا قويًّا لإجراء المزيد من الدراسات الرصينة عن رؤى الإسلام التي يمكن ملاحظتها عمليًّا [13].

ثانيًا: مواريث الاستشراق ومأزق الأنثروبولوجيا: الإسلام متخيّلًا:

لقد كان الاستشراق وما زال يمثّل منبعًا أساسيًّا لتصوّر الغربيّين عن الإسلام، لأنّهُ مارس خلال انطلاقاته في إنتاج خطاب شموليّ عن الإسلام والمسلمين من عدة زوايا أو أطر نظريّة ولكافّة شؤونهم الاعتقاديّة والطقوسيّة والممارسات الثقافيّة، ولعلّ خطورة الأمر لا تقف عند ما كُتب، بل باستدماجه مع علم الاناسة (الأنثروبولوجيا) والذي يفترض أن يكون خاضعًا لقواعد واشتراطات علميّة موضوعيّة.

لم يكن الإسلام قطّ موضوعًا على طاولة البحث الإنسانويّ العلميّ، ولم يتغيّر هذا الأمر إلّا بعد شروع المستشرقين في دراسة اللغة والتاريخ والفلسفة العربيّة، وترجمة مؤلّفات المسلمين وتحليلها،...، ورغم ذلك فقد لفّ الصمت والتجاهل هذهِ المجتمعات في الدراسات الاستشراقيّة وغابت أصوات المسلمين، لا بسبب انقراضهم وتحوّلهم إلى لقى تاريخيّة،...، بل لأنّ المستشرقين أنفسهم لم يكونوا يأخذون المسلمين على محمل الجدّ ولم يحسبوا حسابًا لوجودهم، وهذا الأمر ليس بمستغرب إذا أخذنا بنظر الاعتبار حقيقة بروز أغلبيّة الدراسات الاستشراقيّة في أثناء توسع القوى والأفكار الكولونياليّة [14].

في الحقيقة إنّ خطوط التماس المعرفيّة جمعت المستشرقين والأنثروبولوجيّين في لعبة أيديولوجيّة واحدة، خاصّةً بإنتاج الآخر المغاير؛ ولهذا لم يكن مستغربًا من أدوارد سعيد ‘’Edward Said’’ أن يقول: «فكلّ من يقوم بتدريس الشرق، أو الكتابة عنه، أو بحثه ويسري ذلك سواء أكان المرء مختصًّا بعلم الإنسان (أنثروبولوجيّ) أو بعلم الاجتماع، أو مؤرّخًا، أو فقيه لغة (فيلولوجيًّا) في جوانبه المحدّدة والعامّة على حدّ سواء، هو مستشرق، وما يقوم هو أو هي بفعله هو استشراق»[15].

ارتبط الاستشراق منذ نشأته بعوامل وظروف، ومرّ بمراحل وتطوّرات جعلتهُ يقترب من الأنثروبولوجيا  مع فارق في المنهج، فالمنهج الأنثروبولوجيّ منهج تأصيليّ يفسّر المشتركات بين البشر بالعودة إلى الأصل المفترض رمزًا أو حقيقة أو تاريخًا أو فسيولوجيا، بينما التاريخانيّة التي تعتمد الفيلولوجيّا النصّيّة، أو التطوّرات التاريخيّة، هي التي تسود في الاستشراق، كذلك فإنّ الأمر الأكثر تعقيدًا متّصل بعلاقة الاستشراق بالسلطة أو بالأحرى بالسلطات الاستعماريّة، ففي الأنثروبولوجيا كان ثمّة ازدواج: البدائيّ في مواجهة المتحضّر من جهة، والمستعِمر في مواجهة المستعمر من جهة ثانية، بينما كان الأبرز في الاستشراق بحسب إدوارد سعيد وطلال أسد ومدرسة نقد الاستعمار النقيض الثاني: مستعمِر/ مستعمَر[16].
لا شكّ أن هذهِ الثنائيّات التي انطلقت من الأنثروبولوجيا إنّما جاءت جرّاء نطاقات واشتراطات العمل الحقليّ/ الميدانيّ كما يبدو لنا، وليس بمعزل عنها، وهي أُخذت بعدئذ من قبل بعض الأنثروبولوجيّين بوصفها مسلّمات لا يمكن الخروج عنها، ونحن أثر ذلك دخلنا مع الأنثروبولوجيا بقياسات معياريّة/تقويميّة عن الآخر المغاير، وهي في الحقيقة محكومة بتصوّرات قبليّة في الأصل، تواشجت فيها مع الاستشراق، بل كان الأخير مغذّيًا معرفيًّا لها، وهنا تكمن الاشكاليّة في ثنائيّات الأنثروبولوجيا .

والأمر لا يقف عن هذهِ الثنائيّات فحسب، بل أنّه يتّصل اتصالًا وثيقًا بمسألة البراديغمات، أو النماذج الإرشاديّة النظريّة التي صيغت عن المجتمعات المسلمة وعن حضور الإسلام في حياة الناس العامّة؛ إذ إنّ الكثير من هذه البراديغمات التي اشتغل عليها الأنثروبولوجيّين إنّما جاءت عن طريق المستشرقين، وتسلّلت إلى المدوّنة الإثنوغرافيّة بنحوٍ أو بآخر، هذا الأمر هو ما صنعَ (إسلامًا متخيّلًا) عند الكثير من الأنثروبولوجيّين.

وتساوقًا مع ذلك، تساءل غلزنان “M.Gilsenan”: أين الشرق الأوسط؟ في معرض حديثه عن الدراسات الأنثروبولوجيّة حول الإسلام والمجتمعات المسلمة بوجهٍ عامّ، ويعقّب بإجابة تهكّمية ساخرة: ليس ثمّة شرق أوسط، إذ قدّم غلزنان عرضًا دقيقًا ومعمّقًا، بصفتهِ منتميًا لظاهرة ندرة الدراسات الإثنوغرافيّة المعنيّة بالشرق الأوسط والإسلام، وتحدّث في السياق نفسه عن دور الروايات الإثنوغرافيّة عن القرى وشيوخ الطريقة الصوفيّة في الشرق الأوسط في تزويد الحقل المعرفيّ الجديد بباراديغم مناسب أكثر منهُ مناقشات موضوعيّة لما كان يحتمل أن يكون عليه الحقل وما يرمي إلى تحقيقه، ولاحظ ارتفاع شأن هذهِ الروايات في ستينات القرن العشرين، وتحديدًا في مرحلة تعاظم فيها الاهتمام بالشرق الأوسط والمجتمعات المسلمة في أوساط علماء الأنثروبولوجيا. وقتذاك بدا بقاء الدراسات الأنثروبولوجيّة للمدن والنصوص وأعلام الفكر الإسلاميّ محصورة بأيدي المستشرقين أمرًا محتومًا [17].
إنّ إرث الاستشراق ما زال حاضرًا وقويًّا في كتابات ما اصطلح عليه بـ(أنثروبولوجيا الإسلام)، وهذا الأمر أكّده الباحث الأنثروبولوجيّ المعاصر دانيل مارتن فاريسكو ضمن حزمة التحيّزات العرقيّة والإثنيّة والتمركز التي قال بوجودها أدوارد سعيد لدى الباحثين الغربيّين، بأنّها ما زالت موجودة لدى الأنثروبولوجيّين كذلك، ولهذا فقد قال: «وإذا تمكّن باحث إنثروبولوجي واحد، في الأقلّ من الإفلات من قيود الخطاب الاستشراقيّ فهذا يعني أن فكرة أنثروبولوجيا الإسلام تستحقّ قطعًا البحث والدراسة»[18].

ولكن الامر الذي أثبته وبرهن عليه فاريسكو أنّ كبار الأنثروبولوجيّين الذين كتبوا في أنثروبولوجيا الإسلام وفي مقدّمتهم كليفورد غيرتز وإرنست غلنر لم يستطيعوا التخلّص من تلك القيود التي جعلتهم يذهبون بعيدًا نحو صوغنة (إسلام متخيّل).

ثالثًا: الأنثروبولوجيّون وإثنوغرافيا الميدان: إشكاليّات المنهج:
الإثنوغرافيا بمعناها الحرفيّ تعني ممارسة الكتابة عن الشعوب، وأغلب الظن أنّ الإثنوغرافيا تجسّد طريقة فهمنا وإدراكنا لأساليب تفكير الشعوب الأخرى، وذلك انطلاقًا من أنّ الأنثروبولوجيّين يدرسون في العادة ثقافات أخرى غير ثقافاتهم، على الجانب الآخر تعدّ النظريّة، على أيّ حال وفي جانب منها، طريقة أو أسلوب فهمنا الخاصّ، الأسلوب الأنثروبولوجيّ للتفكير[19].

إنّ النظريّة هنا هي التي سبّبت الكثير من المشاكل إزاء فهم الإسلام عبر تأثيرها في تحليل وقائع الميدان؛ لأنّها قامت بتوزيع الملاحظات أو المدوّنات ضمن منطق نظريّ مهيمن (براديغمات)، وكان الأولى ترك المجال كاملًا للإثنوغرافيا لتقديم الصورة الوصفيّة الكاملة، استنادًا إلى ما أصطلح عليه بـ(أنثروبولوجيا التواصل).
ولقد تساءل الباحث إيف وينكين “Yves Winkin” تحت عنوان: الاثنوغرافيا على محكّ السؤال، كيف يمكن احتضان (موضوع) ضمن أنثروبولوجيا التواصل؟ جواب: باستثماره بطريقة إثنوغرافيّة؛ سؤال آخر: ما هي الإثنوغرافيا؟ يقول معجم روبير الصغير ببساطة: الدراسة الوصفيّة لمختلف المجموعات البشريّة (الإقلّيّات) وخصائصها الأنثروبولوجيّة، والاجتماعيّة...ألخ[20].

 وتأسيسًا على ذلك نتساءل: هل استمرت النظريّة أو البراديغم هو الذي يحكم علاقة الأنثروبولوجيّين بالحقل الميدانيّ عندما درسوا الإسلام في بقعة جغرافيّة معيّنة؟ وهل احتفظوا بشروط وبقواعد المسافة الاجتماعيّة - الموضوعيّة في حقل معايشتهم، وعند تدوين ملاحظاتهم أو توصيفاتهم حول المجتمعات الإسلاميّة المدروسة؟ أم ظلّت الأحكام المسبقة بنزعتها الاستشراقيّة المستترة أو المضمرة مستمرّة؟ أم أنّها تمازجت مع نتائج دراسات أنثروبولوجيّة سابقة عن الإسلام ذات حمولات سلبيّة ومن ثمّ أصحبت أمشاجًا معرفيّة واحدة؟.

تقول ليلى أبو لغد: «تؤثّر اللامساواة البنيويّة الجوهريّة بين عالمي الدارسين الغربيّين وموضوعاتهم في العالم الثالث على التخصّصات الأكاديميّة التي يعملون فيها بطرق معقّدة وغير مباشرة. هناك حاجة لاستكشاف أسئلة مثل: من يكتب عن من؟ من الذي تحدّد مصطلحاته الخطاب، وحتى كما يقول طلال أسد من يترجم مفاهيم من؟ لغة من تؤثّر على لغة الآخر»[21].

لقد كان المعوّل على الدراسات الحقليّة - الإثنوغرافيّة تقديم رؤية خاصّة بالإسلام ضمن مدار كلّ حقل ميدانيّ لكلّ مجتمع من المجتمعات الإسلاميّة، لأجل تجاوز هذهِ اللامساواة البنيويّة بين الملاحظ والملاحَظ، ولكن ظلّت التعميمات المفرطة والأحكام المسبقة هي المهيمنة، وقال أبو بكر باقادر في هذا السياق: «ربما كان من أبرز نقاط ضعف توجّهات الأنثروبولوجيا النظريّة في خصوص العالم العربيّ والإسلاميّ معضلة التعميم، وذلك في تقليل شأن التباين الطوبوغرافي للثقافات والبنى الاجتماعيّة في العالمين العربيّ والإسلاميّ، وإعتبارها كما لو كانتا نتاج مفهوم واحد وفكرة واحدة مسيطرة. ونجد هذا الخلل وإن بحذر حتى عند بعض علماء الأنثروبولوجيا  البارزين من أمثال كليفورد غيرتز في دراسته المقارنة بين الإسلام في المغرب وإندونيسيا[22].
إنّ هذهِ الموجّهات النظريّة انعكست في استخدام المنهج الإثنوغرافيّ لدى الكثير من الأنثروبولوجيّين أثناء تحليلهم للوقائع الميدانيّة، وهذا ما تم ملاحظته في كتابات غيرتز آنفة الذكر وفي كتابات إرنست غلنر في كتابه (مجتمع مسلم) مع آخرين من الباحثين الأنثروبولوجيّين، فهم ينطلقون من ثنائيّات قبليّة نظرية ويحاولون ان يجدوا لها دلائل أو براهين في الوقائع الميدانيّة/الإثنوغرافيّة، امثال ثنائيّات اسلام الاولياء قبالة اسلام الفقهاء، أو اسلام الريف قبالة اسلام المدينة...الخ من الثنائيّات.

ولقد بيّن طلال أسد كيف أنّ الأنثروبولوجيّين على الرغم من ذهابهم إلى الميدان والدراسة الإثنوغرافيّة المباشرة، إلّا أنّهم ومن التناقضات المستغربة ظلّوا أوفياء للثنائيّات التي قدّمها المستشرقون، إذ قال: «إنّ إحدى الطرق التي استخدمها علماء الأنثروبولوجيا لحل مشكلة التعدّد هي تبنّي تفريق المستشرقين بين الإسلام الأرثوذكسيّ وغير الأرثوذكسيّ، وذلك على اعتبارهما التقليد العظيم والتقليد الصغير، وبذلك يؤسّسون ما يظهر أنّه تفريق مقبول بين الإيمان الفلسفيّ و(البيورتانيّ) في المدن، وبين تقديس الأولياء والتديّن الطقوسيّ في الريف. وبالنسبة لعالم الأنثروبولوجيا  ليس لدي من صيغ الإسلام الحقّ في الادّعاء بأنّها تمثّل (الإسلام الحقيقيّ) [23].

ولو أخذنا ما كتبه غيرتز بوصفه أنموذجًا إثنوغرافيًّا هنا لوجدنا أنّ ثمّة الكثير من القبليّات النظريّة التي كانت في ذهنه عن الإسلام والمسلمين، وأنّها تسلّلت إلى الكثير من تحليلاته، ومثلما قال فاريسكو: «تعرّف غيرتز على رؤية فيبر للإسلام قبل وقتٍ طويل من جلوسه مع الأخباريّ المسلم، واطّلع على ما كتبه بول ريكور قبل أن يعثر على ابن خلدون، ولأنّه باحث عميق الخبرة والدراية في التاريخ الفكريّ الغربيّ، لم تكن اللوحة التي حملها معه إلى الحقل بيضاء تمامًا، لينتظر من السكّان المحلّيّين أن يملؤوها بالمعلومات، بل دخل الحقل متسلّحًا بمجموعة متميّزة ومهمّة من الأدوات التأويليّة المعرفيّة»[24].

وعلى الرغم من بلاغة غيرتز الوصفيّة، إلّا أّنه سقط كذلك في فخ القبليّات الذاتيّة والمواريث الثقافيّة الحاكمة للذهن الغربيّ عمومًا، حتى ولو بنحوٍ علميّ كذلك، ولهذا قال الأنثروبولوجست المغربيّ حسن رشيق عن كلّ ذلك عند غيرتز: «ينتقد فكرة المحلّل المحايد الذي يشرح الوقائع الخام باستخدامه لغة محايدة تخلو من مرجعيّة ذاتيّة، في نظره، إذن، لا توجد وقائع خام تنتظر الباحث كي يقوم بتفكيكها. والوقائع المدروسة مدرجة سلفًا ضمن تأويلات محلّيّة تضفي عليها معنى من المعاني. ولا يمكن للتأويل إدراك المعاني داخل نوع من العُريّ السيميائيّ، فهو تأويل لتأويلات محلّيّة، ولا يمكنه أن يكون غير ذلك»[25].
أنّ إرنست غلنر في كتابه المثير للجدل (مجتمع مسلم) لا يخرج كثيرًا عن دائرة الانتقادات الموجّهة لغيرتز، ولاسيّما من جهة إشكاليّة المنهج الإثنوغرافيّ لديه، والذي كان معطّلًا بنحوٍ كبير؛ إذ قدم غلنر فهمًا شموليًّا للحضارة الإسلاميّة على طريقة عمل المستشرقين الذين كان يسخر منهم ومن أعمالهم ومنهجهم، إذ إنّ الصورة المجملة التي قدّمها عن المجتمعات الإسلاميّة والإسلام على وجهٍ خاصّ، تصطدم كذلك باشتراطات المنهجيّة الأنثروبولوجيّة؛ إذ طغى فيها التعميم بحدٍ كبير، من دون الالتفات إلى الفوارق بين مجتمع إسلاميّ وآخر أو قرية وأخرى.

إذ بلغة استنتاجيّة توحي بالدقّة والطريقة العلميّة، قال عن الحضارة الإسلاميّة: «إنّ تنوّع الحضارة الإسلاميّة حقيقة مؤكّدة، وقد وثّقها العلماء الدارسون الميدانيّون ذلك، ولم يعد الأمر يتطلّب توثيقًا إضافيًّا. وفي حينه، كان ذلك دون شكّ تصحيحًا مفيدًا لوجهة النظر التبسيطيّة التي أخذت الإسلام في ظاهره وافترضت أنّه نظرًا لأنّ الحياة المسلمة هي تطبيق لكتاب واحد وتعاليمه؛ لذا فإنّ الحضارة الإسلاميّة حضارة متجانسة. وهذا الرأي لم يعد يحتاج أن ينازع فيه، ولقد جاء الوقت لإعادة تأكيد أطروحة التجانس، ليس كأطروحة، وإنّما كمشكلة، ومع كلّ التنوّع الذي لا يمكن إنكاره، فإنّ المدهش هو مدى تشابه المجتمعات المسلمة بعضها مع بعض...» [26].
ينطلق غلنر نحو فهم الإسلام ليس من أدوات حقليّة (إثنوغرافيّة)، بل هو يستصحب التجربة المسيحيّة دائمًا على مستويات عدّة، لاسيّما من جهة موضوعة القوّة والسلطة في العالم الإسلاميّ، ولعلّ الأسئلة الجوهريّة هنا: كيف لباحث أنثروبولوجي يسعى لفهم الإسلام أنثروبولوجيا عبر ميدان (الإثنوغرافيا) أن يستدعي الإرث المسيحيّ دائمًا في تحليلاته؟ أليس هذا دليلًا على وجود رغبة مضمرة لعدّ التجربة المسيحيّة الغربيّة معيارًا للنظر للإسلام؟ أليس هذا استصحابًا للإرث الاستشراقيّ بالضرورة كذلك؟.

الحضارة الإسلاميّة لديه قسّمت بين الإسلام السامي والإسلام الشعبيّ، وهو يعد الشكل المركزيّ الأرثوذكسيّ لديه، وأطلق على الأوّل اسم البروتستانتيّ. وهو يكيّف المصطلحات المسيحيّة من أجل أن يبيّن أنّ هنالك صراعًا كبيرًا بين النسختين[27].
وهو يرى أنّ الإسلام العالي هذا يعزّز من وجود الحداثة، وأنّ البنى الاجتماعيّة جعلت من الإسلام الشعبيّ مناسبًا للقبائل الريفيّة، وهو يلقي اللوم على النسخة الشعبيّة بوصفها مسؤولة عن تراجع الإسلام، جرّاء الممارسات المشبوهة[28].
يقول طلال أسد ناقدًا ذلك: «واعتراضي حول مقابلة الإسلام بالمسيحيّة، كتلك التي يرسمها غلنر هو ليس أنّ العلاقات بين الدين والقوّة السياسيّة في الدينين شيء واحد، وإنّما اعتراضي هو أنّ المفاهيم المستخدمة ذاتها مضلّلة، ونحن بحاجة إلى إيجاد مفاهيم أكثر ملائمة لوصف الفروق»[29].

بل أنّ إحدى إشكاليّات غلنر الأساسيّة هي استدعاؤه لتصوّرات ابن خلدون لأجل فهم راهنيّة العالم الإسلاميّ، ولأجل فهم وقائع حياة الفاعلين المسلمين في ضوئها على مستوى الدين والسلطة، وهذا الأمر عرّضهُ للنقد اللاذع من البحّاثة سامي زبيدة، الذي وجد في أطروحات غلنر عبر إقحام إبن خلدون قطيعة تاريخيّة وابستمولوجيّة وخطابًا تعميميًّا مفرطًا، وأنّه نموذج فكريّ لا ينسجم والخصوصيّات المتباينة لكلّ مجتمع من المجتمعات الإسلاميّة، فضلًا عن خصوصيّة تجربة ابن خلدون التاريخيّة في محيطها آنذاك[30].
ونظريّته الانقساميّة لا تخرج عن دائرة النقد الكبير الذي تعرّضت له من عدّة باحثين، تلك النظريّة التي تؤكّد على قوّة البنى القرابيّة في صناعة السلطة أو القوّة الاجتماعيّة في المركزيّة لدى القبائل في المغرب في موازاة سلطة الدولة، وأنّ ثمّة توازنًا بين هذهِ القوى المنقسمة على نفسها، ولقد وجّه الباحث عبد الله العروي سهام نقده اللاذعة إلى تلك النظريّة قائلًا: يتجلى ضعف النظريّة الانقساميّة في الوجهين التاليين: فإمّا أنّها تفرط في الشكلانيّة إلى حدّ تفقد معه القدرة على التفسير، ولا تقدّم بالتالي تعريفًا حقيقيًّا للقبيلة أو تنحصر في مجال خاص إلى حدّ التناقض مع نفسها[31]، وأهمّ سؤال يمكن طرحه بعدها هو حول مدى قدرتها على المساهمة في إبداع فهم أفضل للمجتمع المغربيّ، والإجابة السلبيّة على هذا السؤال لا شكّ فيها[32].

يدور عمل الأنثروبولوجيّين على وفق منهجهم الاثنوغرافي حول حياة الأهالي من كلّ الجوانب عبر بيان أصواتهم وممارساتهم، والمعاني التي يضفونها على حياتهم أو أفعالهم وتصوّراتهم عن أنفسهم أو عن العالم أو الآخر وسائر التفاصيل المتّصلة بشؤونهم اليوميّة، وعليه هل نجح الأنثروبولوجيّون الذين كتبوا عن أنثروبولوجيا الإسلام التعبير عن ذلك بمعزلٍ عن البراديغمات النظريّة الموجّهة لعملهم، ولاسيّما غيرتز وغلنر، أعتقد أنّ الإجابة على وفق ما تقدّم ذكره ستكون سلبيّة كذلك وإلى حدٍّ كبير.

رابعًا: العلم الاجتماعيّ وديمومة المركزيّة الغربيّة: تفكيك البراديغمات:
إنّ انتاج المعرفة الأنثروبولوجيّة هو على اتصال وثيق بالمركزيّة الغربيّة التي ما زالت تقدّم الآخر، وفي طليعته الآخر الإسلاميّ، غرائبيًّا ومفارقًا ومتأخّرًا وماضويًّا، ومن ثمّ فإنّ هذهِ المعرفة أمام تساؤلات ومراجعات شديدة الوطأة، أو مثلما يقول الأنثروبولوجست التونسيّ منذر كيلاني: «إنّ مشكل الأنثروبولوجيّين الحاليّ يصاغ كما يلي: هل يمكن لاختصاصهم أن يتمادى في زعمه تمثيل حقيقة الآخر تمثيلًا موضوعيًّا، أم عليه خلافًا لذلك أن يكتفي بإثارة (موضوع) الآخر في عملّية بناء التجربة الذاتيّة»[33].

لعلّ الأزمة الجوهريّة هنا ممثّلة في فقدان الثقة فيمن ينتج تلك المعرفة حول الاخر أيًا كان، وبعبارة دقيقة قال كيلاني: «إنّ أزمة التمثّل في الأنثروبولوجيا  تترجم من خلال فقدان الثقة في الخطاب العلميّ وإعادة النظر في جملة الأنساق المعرفيّة التي قامت عليها إلى حدّ الآن المعرفة الانثروبولوجية»[34].

إنّ هذه المعرفة لم تستطع تجاوز ومنذ نشأتها إلى اليوم خصوصيّة الذات (المبحوثة) وسياقاته الثقافيّة الحياتيّة المرتهنة إلى بيئتها، ومن ثمّ فإنّ الباحث الأنثروبولوجيّ وثقافته الصادرة عنها ليست معيارًا تقويميًّا أو تحليليّاً، ولكنّ الإشكاليّة تمثّلت في المرجعيّة الغربيّة ذاتها، ومثلما قال كيلاني كذلك: «إنّها علاقة بين (الهم) و(النحن) الذين نتحدث عن (الهم). فقط لما يسجّل المرء الاختلاف بين (هم) و(نحن) وليس هذا الاختلاف من باب الاختلاف الأنطولوجيّ، بل من باب تاريخيّ وكشاف يمكنه ان يعترف بأنّ ما هو حادث في الثقافة الغربيّة صار منبعًا للمرجعيّة الكونيّة في مجال الأنثروبولوجيا ...»[35].

عن هذه المرجعية الغربيّة يحدثنا المفكر الاجتماعيّ الفرنسي إيمانويل فالرشاين ‘’Immanuel Wallerstein’’  قائلًا: «كانت العلوم الاجتماعيّة مركزيّة أوروبيّة ‘’Eurocentric’’ طيلة تاريخها المؤسّسيّ، أي منذ تأسيس أقسام خاصّة في المعاهد الجامعيّة لتدريس العلوم الاجتماعيّة، ولا عجب في ذلك على الإطلاق، فالعلوم الاجتماعيّة ما هي إلّا نتاج النسق العالميّ الحديث، والنزعة المركزيّة الأوروبيّة هي من العناصر المكوّنة (لجيو ـ ثقافة) العالم الحديث. يضاف إلى ذلك أنّ العلم الاجتماعيّ كبُنية مؤسّسيّة، نشأ أساسًا في أوروبا، وسنستخدم كلمة (أوروبا) هنا كتعبير ثقافيّ لا كمصطلح جغرافيّ بحت [36].
بعبارة أخرى، تتجلى المركزيّة الأوروبية على شكل النهج والتفسير، فالمركزيّة الأوروبيّة بغض النظر عن الزمان أو المكان أو الاشخاص ترى أنّ القيم والمؤسّسات الأوروبيّة متفوّقة على غيرها من النظراء غير الأوروبيّين...، إنّها تحافظ على نفسها بتشويه نظريّات اجتماعيّة من خلال تسليط الضوء على الأساطير المسيحيّة واليونانيّة المؤسّسة وتجاهل العناصر الحضاريّة الأخرى، فنظريّة التاريخ عندها هو النهج الأوروبيّ المركزيّ نفسه [37].
لو استمدجنا هذهِ الرؤية آنفة الذكر مع موضوعة الأنثروبولوجيا وأنثروبولوجيا الإسلام لاحقًا، لوجدنا أنّنا إزاء براديغمات معرفيّة دائمة ومستمرّة تصدر عن الغرب في  رؤيتها أو معالجتها لموضوعات تمسّ الآخر المغاير أو الآخر الإسلاميّ، وهذا الأمر يعني بطبيعة الحال ديمومة تلك المركزيّة الغربيّة التي ظلّت أيديولوجيّتها (شئنا أم أبينا) ضمن دائرة الموجّهات النظريّة الأنثروبولوجيّة (البراديغمات الأساسيّة) وضمن المفاهيم والمناهج العلميّة، فضلًا عن القضايا المعرفيّة التي تطرحها وسائر الإشكاليّات التي تركّز عليها دائمًا!!.

إنّ الأمر لا يتّصل بتلك البراديغمات التي نسعى إلى تفكيكها فحسب، بل ويتّصل اتصالًا وثيقًا بالخطاب الأنثروبولوجيّ على مدى أكثر من قرن، الذي أنتج مفاهيمه الخاصّة أو ثنائيّاته وموجهّاته النظريّة التفسيريّة، وهو يؤمّ النظر شطر الآخر المفارق الذي مرَّ بهذهِ الأطوار كافّة: المُكتشف، المُستعمر، التابع.

وتلك البراديغمات حسبما نعتقد ممكن أن تقسم إلى صنفين: براديغمات عالميّة؛ وبراديغمات محلّيّة أو (إقليميّة)، فالبراديغمات العالميّ التي طبقت في الدراسات الأنثروبولوجيّة حول العالم والتي عكست أيديولوجيا المركزيّة الغربيّة ضمّت الاتجاهات النظريّة الآتية: التطوّريّة، الوظيفيّة، الانتشاريّة، النسبيّة الثقافيّة، الاتجاهات المعرفيّة التأويليّة.... الخ[38] مع الالتفات إلى أنّ بعضها صعد بصعود القوى الاستعماريّة، وبعضها لمرحلة ما بعد الكونيالية، وهي تعيد إنتاج الثقافات حسبما تريد.
إذ أصبحت المركزيّة الأوروبيّة تمثّل الأساس الأيديولوجيّ للعلوم الاجتماعيّة الحديثة، إلى جانب وضعها النظريّة المتكاملة لتاريخ العالم، ومن ثمّ فإنّ هذا المنظور يعني الهيمنة على سياسة العالم، ....، بل ويتسبّب أيضًا في تشوّه واختلال الذاكرة التأريخيّة للمجتمعات غير الغربيّة[39].

أمّا البراديغمات المحلّيّة أو الاقليميّة التي وضعت لدراسة العالم الإسلاميّ وسائر مجتمعاته، وهي ما زالت مهيمنة وحاضرة لدى الكثير من الأنثروبولوجيّين الذين يدرسون المجتمعات الإسلاميّة والسياقات الثقافيّة الحياتيّة الإسلاميّة، وهي ممثّلة بالنظريّات الآتية: النظريّة الانقساميّة (التي مرّ ذكرها)، النظريّة البطريركيّة أو الأبوانيّة، النظريّة الفسيفسائيّة (تعدّد الثقافات والمجتمعات)، نظريّات أسلوب الإنتاج الآسيويّ، نظريّة البازار أو السوق [40].

إنّ أولى شروط تفكيك هذهِ البراديغمات العاكسة للمركزيّة الغربيّة داخل العلوم الاجتماعيّة، لاسيما الأنثروبولوجيا، هو تفكيك جدليّة العلاقة بين المعرفة العلميّة في الأنثروبولوجيا والمعرفة المحلّيّة، إذ إنّ المعرفة الأولى تدعوا إلى الوصاية واستمرار الهيمنة في إنتاج رؤيتها عن الإسلام، والمعرفة المحلّيّة ما هي إلّا صدى مباشر وموضوعيّ لماهيّة الإسلام بالمعنى الإناسيّ.
ولقد كان منذر كيلاني من أوائل من دعوا إلى تلك التفرقة بين تلك المعرفتين لأجل تفكيك الخطاب الأنثروبولوجيّ الغربيّ[41]؛ وذلك لأنّ الغاية من المعرفة المحلّيّة هنا عنده: هي التأثير محلّيًّا في الوضعيّات، قصد إنشائها أو إعطائها دلالة أو تحويلها. إنّ المعرفة المحلّيّة تقوم على الوحدة الزمنيّة للمعرفة والفعل [42]، أي أنّها مباشرة وآنيّة وليست تخيليّة أو محكومة ببراديغم موجّه كما في المعرفة الأنثروبولوجيّة التابعة للمركزيّة الغربيّة.

وبمراجعة راهنيّة تساءل بعض الباحثين الغربيّين وبصراحة: هل يمكن وجود علم إنسان(الأنثروبولوجيا) قادر على تفادي نمذجة وتشيّؤ (الثقافات) المنظور إليها على أنّها (أخرى) إثر مقارنتها بنمط التفاعل في المجتمع الذي ينحدر منه المحلّل (الأنثروبولوجيّ)؟ إلى أيّ مدى يمكن التعبير بمصطلحات (حياديّة) و(غير متحيّزة) عن بعض الهفوات الحاصلة مثل مأزق الإشارة إلى المجتمعات الأخرى بالاعتماد على الغرائبيّة ‘’Exoticism’’ والتجوهر ‘’Essentialization’’، أنّ شروط ذلك برأيهما: أوّلًا: من خلال توضيح العلاقة بين المحلّل/ وموضوع (الدراسة) وثانيًا: من خلال - إلى أكبر حدّ ممكن - مراعاة كون الانطباعات الناجمة هي حصيلة إنتاج مشترك للمعرفة؛ لأنّ الباحث يؤثّر على تلك المعرفة [43].
فضلًا عن ذلك لا بدّ من تخليص الدراسات الأنثروبولوجيّة من منظور تسوير جغرافيّات معيّنة بخصائص وسمات ثقافيّة مؤبّدة، وهذا ما أسهمت به دراسات على مدى نصف قرن من الآن، ومن ثمّ يجب أنّ ينظر إليها بوصفها بيانات غير ثابتة أبدًا، وهذا ما عبّر عنه الباحث أبادوراي: الواقعة المركزيّة هنا هي أنّ البيانات [ مادة البحث] التي يجدها الأنثروبولوجيّون في هذا المكان أو ذاك ليست بيانات مستقلّة (أو محايدة) تستعمل لبناء نظريّة أو التحقّق منها، فهي في الواقع كتلة معقّدة للغاية من الوقائع المحلّيّة ومصادفات (تطوّرات) النظريّة في العواصم الكبرى» [44].

إنّ المعرفة المحلّيّة أو الإثنوغرافيّة المحلّيّة المستندة على النموذج المحلّيّ من داخل الثقافة “Emic”[45]* وليس النموذج الخارجيّ (من خارج الثقافة المحلّيّة ‘’Etic’’ هو المعوّل عليه، لأجل استعادة المكان (الجغرافيا الإسلاميّة) بالمعنى الأنثروبولوجيّ عبر تأسيس براديغم جديد يواجه المركزيّة الغربيّة وخطابها الأنثروبولوجيّ المهيمن حول العالم الإسلاميّ أو بعبارة أدقّ حول (أنثروبولوجيا الإسلام).

خلاصة نقديّة:
إنّ إنتاج حقل معرفيّ جديد (أنثروبولوجيا الإسلام) كان محفوفًا بإرث معرفيّ ثقيل لتاريخ الأنثروبولوجيا  نفسها التي كانت في مرحلة زمنيّة طويلة إحدى أدوات الاستعمار؛ إذ صاغت في ظلّه مجموعة كبيرة من البراديغمات والمفاهيم والمناهج التي استطاعت أن تُدرس من خلالها الآخر المغاير عنها.

تلك البراديغمات وتوابعها الأخرى تسلّلت إلى الحقل الجديد (أنثروبولوجيا الإسلام)، وتمّت الزيادة عليها ببراديغمات جديدة تتلاءم وعصر ما بعد الكونياليّة، ومن ثمّ أصبح لدينا براديغمات عالميّة تطبّق على العالم برمته وبراديغمات محلّيّة أو إقليميّة طبّقت على جغرافيّات محدّدة في مقدّمتها جغرافيا العالم الإسلاميّ.

إنّ هذا الحقل الجديد حاول الاستعانة بالدراسة الحقليّة (الإثنوغرافيّة) ومنذُ بداية ظهوره في ستينات القرن الماضي، وذلك لأجل تقديم دراسات موضوعيّة غير محكومة أو مسيّرة على فوق تلك البراديغمات، ولكن الذي جرى خلاف ذلك، إذ إنّ قوّة المركزيّة الغربيّة وهيمنتها على (العلم الاجتماعيّ) برمّته وفي طليعته الأنثروبولوجيا  لم يستطع التفلّت من قبضة تلك البراديغمات العالميّة والمُستحدثة، بل وزاد على ذلك الاستعانة بمواريث الاستشراق بالكثير من مقولاته ومنظوراته التفسيريّة الخاصّة بالإسلام.
ولقد برزت الكثير من الدراسات التي عالجت ذلك الأمر، وبرهنت بحسب رؤيتها النقديّة على ديمومة المركزيّة الغربيّة عبر أذرعتها المعرفيّة المتعدّدة من براديغمات قام بها باحثون كبار في الأنثروبولوجيا  كان يعتقد للوهلة الأولى أنّهم سيقدّمون دراسات موضوعيّة متكاملة في أنثروبولوجيا الإسلام، كان في طليعتهم كليفورد غيرتز وإرنست غلنر.
ولكن بعد الكشف والتمحيص الدقيقين تبيّن أنّ الأحكام المسبقة والبراديغمات الاستعماريّة وبعض التفسيرات والتصوّرات الاستشراقيّة كانت هي الحاكمة والناظمة للكثير من اشتغالاتهم في الحقل المعرفيّ الجديد (أنثروبولوجيا الإسلام).

إن ّإنتقادات عبد الحميد الزين وطلال أسد ودانيل فاريسكو على سبيل المثال لا الحصر بيّنت أنّ حقل أنثروبولوجيا الإسلام لا يمكن له أن يصمد أمام الانتقادات المعرفيّة الكثيرة؛ ولهذا شكَّك طلال أسد في النهاية بوجود هكذا حقل معرفيّ عبر الجدل المحتدم حول دلالاته ومعانيه عند الكثير من علماء الأنثروبولوجيا، بل إّن فاريسكو قال بنحو لا لبس فيه إنّ أمكن الخروج من المقولات الاستشراقيّة لمجموعة الباحثين في أنثروبولوجيا الإسلام يمكن حينئذ الحديث عن وجود هكذا حقل فعليّ.
لقد حاولنا في مقالتنا هذهِ وعبر المحاور الأربعة الوقوف بنحو مجمل على أطوار هذا الحقل المعرفيّ الجديد (أنثروبولوجيا الإسلام) عبر متابعة جدل التأسيس والحضور الطاغي لمقولات الاستشراق التي تخيّلت الإسلام على وفق الأحكام المسبقة وإيديولوجيا المركزيّة الغربيّة (المعياريّة) والتي لم تستطع الدراسات الحقليّة (الإثنوغرافيّة) التخلّص منها، بل أساءت كثيرًا إلى المنهج المستخدم.
ولكي لا تكون رؤيتنا نقديّة صرفة لمعالم الحقل الجديد فحسب، حاولنا تقديم تصوّر لما يمكن أن يكون بمثابة خطوات علميّة أولى تواجه المركزيّة الغربيّة، وذلك عبر تفكيك خطابها واستبدالها بخطاب معرفيّ جديد حول (الإسلام) يعتمد بنحوٍ كبير على المعرفة الأنثروبولوجيّة المحلّيّة القائمة على المنهج الإثنوغرافيّ للتعرّف على صوت (الأهالي المسلمين) وأفعالهم أو ممارساتهم الثقافيّة بمعزلٍ تامّ عن سائر البراديغمات الغربيّة وتوجّهاتها الأيديولوجيّة المصلحيّة.

لائحة المصادر والمراجع
المصادر العربية
أبو بكر أحمد باقادر، الإسلام والأنثروبولوجيا، دار الهادي، بيروت، ط1، 2004.
أبو بكر أحمد باقادر، الرؤية المتبادلة بين الإسلام والغرب من زاوية إناسيّة، مجلّة شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجيّة، لبنان، ع(108)، خريف 2002.
إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة، السلطة، الانشاء، ت: كمال أبو ديب، مؤسّسة الأبحاث العربيّة، بيروت، ط2، 1984.
أدوارد كونت وروجرر هيكوك، عوائق بناء المنهج: مقاربات زمكانيّة ونهاية البداية، مقالة في كتاب (البحث النقديّ في العلوم الاجتماعيّة): مداخلات شرقيّة - غربيّة عابرة للاختصاصات، تحرير: روجر هيكوك وآخرون، ت: اليز أغوريان، معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدوليّة، جامعة بيرزيت، فلسطين، ط1، 2011.
إرنست غلنر، مجتمع مسلم، ت: د: أبو بكر أحمد باقادر، مراجعة: د. رضوان السيّد، دار المدار الإسلاميّ، بيروت، ط1، 2005.
آلان برنارد، التاريخ والنظريّة في الأنثروبولوجيا، ت: سيد فارس، المنظّمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2017.
إيف وينكين، أنثروبولوجيا التواصل: من النظريّة إلى ميدان البحث، ت: خالد عمراني، هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة، ط1، 2018.
إيمانويل فالرشتاين، نهاية العالم كما نعرفه: نحو علم اجتماعيّ للقرن الحادي والعشرين، ت: د. فايز الصياغ، هيئة البحريّة للثقافة والآثار، المنامة، ط، 2017.
جيرارد ليكلرك، الأنثروبولوجيا  والاستعمار، ت: د. جورج كتورة، معهد الإنماء العربيّ، بيروت، ط1، 1982.
حسن رشيق، القريب والبعيد: قرن من الأنثروبولوجيا  بالمغرب: تعريب وتقديم: حسن الطالب، المركز الثقافيّ للكتاب للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 2018.
حسين فهيم، قصة الأنثروبولوجيا: فصول في علم الإناسة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ع(98)، فبراير/شباط، 1986.
دانيل مارتن فاريسكو، حجب رؤية الإسلام: بلاغة التمثل الأنثروبولوجيّ، ت: د. هناء خليف غني، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، ط1، 2021.
رضوان السيّد، الصراع على الإسلام، دار الكتاب العربيّ، بيروت، ط1، 2005.
سامي زبيدة، أنثروبولوجيات الإسلام: مناقشة ونقد لأفكار إرنست غلنر، دار الساقي، بيروت، ط1، 1997.
طلال أسد، فكرة أنثروبولوجيا الإسلام، مقالة في كتاب (أنثروبولوجيا الإسلام)، تحرير: د. أبو بكر احمد باقادر، دار الهادي، بيروت، ط1، 2005.
عبد الغني عماد، في جينالوجيا الآخر: المسلم وتمثّلاته في الاستشراق والأنثروبولوجيا  والسوسيولوجيا، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، ط1، 2020.
عبد الغني منديب، الدين والمجتمع: دراسة سوسيولوجيّة للتديّن بالمغرب، أفريقيا الشرق، المغرب، 2006.
عبد الله العروي، نقد الاطروحة الانقساميّة، مقالة في كتاب (الأنثروبولوجيا  والتاريخ: حالة المغرب العربيّ)، ت: عبد الاحد السبتي وعبد اللطيف الفلق، دار توبقال للنشر، المغرب، ط1، 1988.
غابرييل مارانسي، أنثروبولوجيا الإسلام: ت: د. هناء خليف غني، دار ومكتبة عدنان، بغداد، ط1، 2016.
ليلى أبو لغد، نطاقات النظريّة في أنثروبولوجيا العالم العربيّ، مقالة في كتاب: (كيف نقرأ العالم العربيّ اليوم؟ رؤى بديلة في العلوم الاجتماعيّة)، تحرير: إيمان حمدي وآخرون، ت: شريف يونس، دار العين، القاهرة، ط1، 2013.
منذر كيلاني، اختلاق الآخر: في طبيعة الخطاب الأنثروبولوجيّ، ت: نور الدين العلوي، مراجعة: محمود الهميسي، دار سيناترا، تونس، ط1، 2015.
منذر كيلاني، الاستشراق والاستغراب: اختراع الآخر في الخطاب الأنثروبولوجيّ، مقالة في كتاب (صورة الآخر: العربيّ ناظرًا ومنظورًا إليه)، تحرير الطاهر لبيب، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، ط1، 1999.

المصادر الأجنبية
Michal Lessnoff, Islam, modernity and Science, Article in: Ernest Gellner and contemporary social thought, Edited by: Sinsia Malesevic and Mark Haugard, Cambridge university Press, 2007.
Mustafa Demirci, Historical View of Islam in the wake of Eurocentric History, Article in: Eurocentrism at the Margins, Encounters, Critics and Going Beyond, Edited by: Lufti Sunar, Rutledge: new york, first published, 2016.
Talal Asad, From the history of Colonial Anthropology to the Anthropology of western Hegemony. Article in: Colonial situations, Edited by: George W.stokcing, Jr. The university of Wisconsin Press, Copyright, 1991.

-----------------------------------
[1]*- باحث في الفلسفة وأستاذ أنثروبولوجيا الدين/ الجامعة المستنصرية/ العراق.
[2]- جيرارد ليكلرك، الأنثروبولوجيا والاستعمار، ت: د. جورج كتورة، معهد الانماء العربيّ، بيروت، ط1، 1982، ص22.
[3]- Talal Asad, From the history of Colonial Anthropology to the Anthropology of western Hegemony. Article in: Colonial situations, Edited by: George W.stokcing, Jr. The university of wisconsin Press, Copyright, 1991, P.314.
[4]- رضوان السيّد، الصراع على الإسلام، دار الكتاب العربيّ، بيروت، ط1، 2005، ص106.
[5]- أبو بكر أحمد باقادر، الإسلام والانثروبولوجيا، دار الهادي، بيروت، ط1، 2004، ص91-92.
[6]- عبد الغني عماد، في جينالوجيا الآخر: المسلم وتمثّلاته في الاستشراق والانثروبولوجيا والسوسيولوجيا، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، ط1، 2020، ص74.
[7]- ينظر تفاصيل أكثر: عبد الغني منديب، الدين والمجتمع: دراسة سوسيولوجيّة التديّن بالمغرب، أفريقيا الشرق، المغرب، 2006، ص52.
[8]- ينظر تفاصيل أكثر: حسين فهيم، قصة الانثروبولوجيا: فصول في علم الأناسة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ع(98)، فبراير/شباط، 1986، ص252-253.
[9]- دانيل مارتن فاريسكو، حجب رؤية الإسلام: بلاغة التمثّل الأنثروبولوجيّ، ت: د. هناء خليف غني، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، ط1، 2021، ص12.
[10]- طلال أسد، فكرة أنثروبولوجيا الإسلام، مقالة في كتاب (أنثروبولوجيا الإسلام)، تحرير: د. أبو بكر احمد باقادر، دار الهادي، بيروت، ط1، 2005، ص51-52.
[11]- المصدر السابق نفسه، ص52.
[12]- لتفاصيل أكثر ينظر عن رؤيته النقديّة: عبد الحميد الزين، ما بعد الإيديولوجيّة واللاهوت: البحث عن انثروبولوجيا الإسلام، مقالة في كتاب (أنثروبولوجيا الإسلام)، مصدر سابق، ص11-48.
[13]- دانيل مارتن فاريسكو، المصدر نفسه، ص32.
[14]- غابرييل مارانسي، أنثروبولوجيا الإسلام: ت: د. هناء خليف غني، دار ومكتبة عدنان، بغداد، ط1، 2016، ص69.
[15]- إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة، السلطة، الانشاء، ت: كمال أبو ديب، مؤسّسة الأبحاث العربيّة، بيروت، ط2، 1984، ص38.
[16]- عبد الغني عماد، المصدر السابق نفسه، ص75.
[17]- غابرييل مارانسي، المصدر السابق نفسه، ص70.
[18]- دانيل مارتن فاريسكو، المصدر السابق نفسه، ص43.
[19]- آلان برنارد، التاريخ والنظريّة في الانثروبولوجيا، ت: سيد فارس، المنظّمة العربيّة للترجمة، بيروت، ط1، 2017، ص19.
[20]- إيف وينكين، أنثروبولوجيا التواصل: من النظريّة إلى ميدان البحث، ت: خالد عمراني، هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة، ط1، 2018، ص147.
[21]- ليلى أبو لغد، نطاقات النظريّة في أنثروبولوجيا العالم العربيّ، مقالة في كتاب: (كيف نقرأ العالم العربيّ اليوم؟ رؤى بديلة في العلوم الاجتماعيّة)، تحرير: إيمان حمدي وآخرون، ت: شريف يونس، دار العين، القاهرة، ط1، 2013، ص43.
[22]- أبو بكر باقادر، الرؤية المتبادلة بين الإسلام والغرب من زاوية إناسيّة، مجلّة شؤون الاوسط، مركز الدراسات الاستراتيجيّة، لبنان، ع(108)، خريف 2002، ص36.
[23]- طلال أسد، فكرة أنثروبولوجيا الإسلام، مصدر سابق، ص60.
[24]- دانيل مارتن فاريسكو، المصدر السابق نفسه، ص49.
[25]- حسن رشيق، القريب والبعيد: قرن من الأنثروبولوجيا بالمغرب: تعريب وتقديم: حسن الطالب، المركز الثقافيّ للكتاب للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 2018، ص2890-290.
[26]- إرنست غلنر، مجتمع مسلم، ت: د: أبو بكر أحمد باقادر، مراجعة: د. رضوان السيّد، دار المدار الإسلاميّ، بيروت، ط1، 2005، ص197-198.
[27]- Michal Lessnoff, Islam, modernity and Science, Article in: Ernest Gellner and contemporary social thought, Edited by: Sinsia Malesevic and Mark Haugard, Cambridge university Press, 2007, P.189.
[28]- Ibid,  P.190.
[29]- طلال اسد، المصدر السابق نفسه، ص59.
[30]- ينظر تفاصيل أكثر: سامي زبيدة، أنثروبولوجيات الإسلام: مناقشة ونقد لأفكار إرنست غلنر، دار الساقي، بيروت، ط1، 19978، ص10-14.
[31]- عبد الله العروي، نقد الاطروحة الانقساميّة، مقالة في كتاب (الانثروبولوجيا والتاريخ: حالة المغرب العربيّ)، ت: عبد الاحد السبتي وعبد اللطيف الفلق، دار توبقال للنشر، المغرب، ط1، 1988، ص128.
[32]- المصدر نفسه، ص130.
[33]- منذر كيلاني، اختلاق الآخر: في طبيعة الخطاب الانثروبولوجيّ، ت: نور الدين العلوي، مراجعة: محمود الهميسي، دار سيناترا، تونس، ط1، 2015، ص37.
[34]- منذر كيلاني، اختلاق الآخر: في طبيعة الخطاب الانثروبولوجيّ، ت: نور الدين العلوي، مراجعة: محمود الهميسي، دار سيناترا، تونس، ط1، 2015، ص38.
[35]- منذر كيلاني، الاستشراق والاستغراب: اختراع الآخر في الخطاب الأنثروبولوجيّ، مقالة في كتاب (صورة الآخر: العربيّ ناظرًا ومنظورًا إليه)، تحرير الطاهر لبيب، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، ط1، 1999، ص79.
[36]- إيمانويل فالرشتاين، نهاية العالم كما نعرفه: نحو علم اجتماعيّ للقرن الحادي والعشرين، ت: د. فايز الصياغ، هيئة البحريّة للثقافة والآثار، المنامة، ط، 2017، ص315.
[37]- Mustafa Demirci, Historical View of Islam in the wake of Eurocentric History, Article in: Eurocentrism at the Margins, Encounters, Critics and Going Beyond, Edited by: Lufti Sunar, Rutledge: new york, first published, 2016, P.41.
[38]- ينظر تفاصيل أكثر: آلان برنارد، التاريخ والنظريّة في الانثروبولوجيا، مصدر سابق، ص27-29.
[39]- Mustafa Demirci, Ibid, P.42.
[40]- ينظر تفاصيل أكثر: أبو بكر احمد باقادر، الرؤية المتبادلة بين الإسلام والغرب من زاوية إناسيّة، مصدر سابق، ص36-42.
[41]- ينظر: منذر كيلاني، اختلاق الآخر: في طبيعة الخطاب الانثروبولوجيّ، مصدر سابق، ص50.
[42]- المصدر السابق نفسه، ص50.
[43]- ينظر: أدوارد كونت وروجرر هيكوك، عوائق بناء المنهج: مقاربات زمكانيّة ونهاية البداية، مقالة في كتاب (البحث النقدي في العلوم الاجتماعيّة): مداخلات شرقيّة - غربيّة عابرة للاختصاصات، تحرير: روجر هيكوك وآخرون، ت: اليز اغوريان، معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدوليّة، جامعة بيرزيت، فلسطين، ط1، 2011، ص17.
[44]- آرجون أبادوراي، النظريّة في الأنثروبولوجيا: المركز والمحيط، مقالة في كتاب: كيف نقرأ العالم العربيّ اليوم، مصدر سابق، ص35-36.
[45]- إنّ النموذج المحلّيّ (من داخل الثقافة) Emic يفسّر الأطباع التي تصوّر الأيديولوجيا السائدة بين أعضاء ثقافة معيّنة بإيعازها إلى الثقافة المحلّيّة، أمّا النموذج الخارجيّ (من خارج الثقافة) Etic، فينظر إلى محدّدات من خارج الثقافة المعيّنة، ويتمّ طرح النماذج المحلّيّة باعتبارها تحمل خصوصيّات الثقافة المحلّيّة، والنماذج الخارجيّة باعتبارها كونيّة، ينظر: إدوارد كونت وروجر هيكوك، المصدر السابق نفسه، هامش ص18