البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الأنثروبولوجيا كعلمٍ ماكر

الباحث :  نذير بوصبع
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  26
السنة :  شتاء 2022م / 1443هـ
تاريخ إضافة البحث :  June / 4 / 2022
عدد زيارات البحث :  856
تحميل  ( 410.486 KB )
لم يهدأ العقل الغربيّ منذ الثورة الكوبرنيكيّة التي هزّت مركزيّة الإنسان، ولم يكفَّ عن البحث في أبجديّات الأشياء، بحثًا يوحي ظاهرُه بالسير في ركاب المعرفة، ولكنَّ باطنه يضمر ضروبًا من التمرّد والعبثيّة الصارخة أحيانًا...عبثيّة تتاخم اللامعقول وتترك المرتكزات العقليّة وراءها في نزعة لم تكن بمنأى عن الاحتفاء بحركة الشباب الأوروبيّ المندفع والمتمرّد على الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة بعد الحرب العالميّة الثانية، والانقياد لنزغاتها بدل السيطرة عليها وتوجيهها... وتلك هي الأجواء التي احتضنت كثيرًا من التيّارات الثقافيّة والفلسفيّة، كالأنثروبولوجيا والتفكيكيّة والبنيويّة وغيرها، خاصّة في فرنسا وأميركا. ما يلاحظ على هذه النزعات أو النزغات الجديدة أنّها خرجت من عباءة الأدب والفنّ، ثمّ احتمت بالفلسفة لتضفي على نفسها أصالة البحث العلميّ، وتمنح مواقفها سلطة «عقليّة» بل وسطوة لدى المتلقّي الشرقيّ العربيّ على وجه خاصّ.

يحاول هذا البحث استقراء الأنثروبولوجيا ومدى استقامتها على سلّم العلم، وطرح السؤال حول امتلاكها قواعدَ محكمةً وموضوعاتٍ محدّدة... وكذلك النظر إلى غاياتها والوقوف عند أوهام المعتنقين لها والمؤمنين بجدواها والساعين إلى فرضها وافتكاكها من أحضان العلوم(الأمّ) التي سطت عليها (الأنثروبولوجيا) وأخذت منها – جميعًا- بنصيب وازن. كما يسعى إلى نقد احتفاء الباحثين العرب والمسلمين بهذا الدخيل والتقاطهم لما يلقونه مُلقًى من آثاره على قارعة الطريق، شارحين ومترجمين... ثمّ يصل البحث إلى خلاصة مؤدّاها أنّ الحديث عن الأنثروبولوجيا يأبى إلّا أن يكون مقترنًا بالاستعمار الغربيّ الأوروبيّ القديم الأميركيّ الحاليّ، بأشكاله المادّيّة والفكريّة والسوسيولوجيّة.

كلمات مفتاحيّة: الاستقراء- الأنثروبولوجيا الاستعماريّة- الثورة الكوبرنيكيّة - السلطة العقليّة - التفكير العلميّ.

تمهيد
لم يهدأ العقل الغربيّ منذ الثورة الكوبرنيكيّة التي هزت مركزيّة الإنسان، ولم يكفَّ عن البحث في أبجديّات الأشياء، بحثًا يوحي ظاهرُه بالسير في ركاب المعرفة، ولكنَّ باطنه يضمر ضروبًا من التمرّد والعبثيّة الصارخة أحيانًا...عبثية تتاخم اللامعقول وتترك المرتكزات العقليّة وراءها في نزعة لم تكن بمنأى عن الاحتفاء بحركة الشباب الأوروبيّ المندفع والمتمرّد على الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة بعد الحرب العالميّة الثانية، والانقياد لنزغاتها بدل السيطرة عليها وتوجيهها... وتلك هي الأجواء التي احتضنت كثيرًا من التيّارات الثقافيّة والفلسفيّة، كالأنثروبولوجيا والتفكيكيّة والبنيويّة وغيرها، خاصّة في فرنسا وأميركا. ما يلاحظ على هذه النزعات أو النزغات الجديدة أنّها خرجت من عباءة الأدب والفنّ، ثمّ احتمت بالفلسفة لتضفي على نفسها أصالة البحث العلميّ ورصانته، وتمنح مواقفها سلطة «عقليّة»، بل وسطوة لدى المتلقّي الشرقيّ العربيّ على وجه خاصّ.

ويكاد الحال يسري ويعمَّم على كلّ ما طرأ في الغرب خلال القرن العشرين وما تلاه. ولحق التشويهُ الفعلَ الفلسفيّ، إذا اعتبرنا أنّ الفلسفة بحثٌ في الكلّيّات وعللها البعيدة -مبادئها وغاياتها- وأصبح كلّ شيء خاضعًا للتعليل وقابلًا له، وصار كلّ نشاط فكريّ صالحًا لأن يكون فلسفة، وهذه إحدى العيوب التي أصابت التفكير العلميّ. وإذا أمكن تلخيصها في كلمتين قلنا إنّ البحث وقع في الخلط بين التحليل والتعليل، واعتبار أنّ كلّ قضيّة محلّ تعليل. والحقّ أنّ كثيرًا من القضايا لا تصلح للتعليل، وبالتالي فهي ليست فلسفيّة، أو علميّة، بل أدبيّة؛ ذلك أنّ الجوانب غير العقليّة في القضايا تُحلّل ولا تعَلّل؛ لأنّ ما هو بسيط وغير مركّب لا يتوقّف على نظر أو تأمّل، فالجوانب الحيوانيّة والنباتيّة في الإنسان خارجة عن مجال الفلسفة أو التعليل، لارتباطها ارتباطًا مباشرًا بغايتها وقربها من مبدئها أو منطلقها. ثمّ إنّ التحليل انحدر إلى دركات من الإسفاف والسذاجة، وفقد علميّته التي كان عليها مع فلاسفته، مور وراسل وغيرهما.

الناحية الأخرى أنّ الفلسفة دخلت فيما يعرف بالفيلودكسيا Philodoxie التفلسف أو شبه الفلسفة، والتخلّي عن القواعد المنطقيّة في الاستدلال. وهذا فتح الباب أمام العوامّ ليصبحوا فلاسفة، وتصبح الفلسفة علمَ من لا علم له.

ويرجع ذلك إلى ما أدخلته المدارس الفلسفيّة المعاصرة على الفلسفة مفهومًا وموضوعًا، وعلى العلم بصورة عامّة؛ وحين نتابع معاني الفلاسفة عند بعض الفلاسفة نرى تبدّلًا واسعًا قد دخل عليها؛ فالفلسفة عند شليك Schlick (أحد مؤسّسي دائرة فيينا) ليست علمًا، بل هي نشاطٌ يعمل في كلّ علم باستمرار؛ لأنّه قبل أن يستطيع العلم اكتشاف صحّة قضيّة أو بطلانها، فلا بدّ من معرفتها. فليس للفلسفة موضوع تبحث فيه، ولا تصلح أن تكون نظريّة، بل هي منهج لتحليل القضايا العلميّة أو اليوميّة. وقد استلهم شليك تعريفه أو نظرته للفلسفة من فيتنغشتين الذي يقول فيه: «إنّ موضوع الفلسفة هو التوضيح المنطقيّ للأفكار، فالفلسفة ليست نظريّة من النظريّات، بل هي فاعليّة؛ ولذا يتكوّن العمل الفلسفيّ أساسًا من توضيحات، ولا تكون نتيجة الفلسفة عددًا من القضايا الفلسفيّة، إنّما توضيح للقضايا. فالفلسفة يجب أن تعمل على توضيح الأفكار، وإلّا ظلّت تلك الأفكار معتمة مبهمة»[2].

من هذا المدخل جاءت الأنثروبولوجيا إلى العالم المعرفيّ، وتسلّلت إلى الفلسفة؛ أمّا غاياتها الوظيفيّة، فلا تتمتّع بشيء من البراءة[3]؛ إذ تلقّفتها اليد الليبراليّة المولعة بالتوسّع الاستعماريّ والماليّ واستخدمتها للهيمنة، متخفّية بغطاء حالم وجذّاب من المعرفة؛ يشهد لذلك ظروف نشأتها وارتباطها بالشعوب المتخلّفة أو العالم الثالث المستعمَر، من خلال دراستها ثقافيًّا ولغويًّا واجتماعيًّا والوصول إلى الإنسان وأعماقه ومعرفة ميوله وقوّته وضعفه. والمقاصد الاستعماريّة لم تبرأ منها العلوم الإنسانيّة في هذا العصر، فقد كانت جامعات فرنسا تستقبل الطلبة من البلدان الإفريقيّة لتوظّفهم من أجل أغراض استغلاليّة واستعماريّة؛ وباريس سوقٌ للسلع العالميّة الفكريّة كما يقول (جوته)؛ وتمنح الترجمات والقراءات النقديّة والإطراءات والتعليقات قيمة معرفيّة لنصوصٍ لا تستحقّ أن توصف بأنّها (أدب)[4]، وهذا أحد ضروب الدعاية التي نالتها كثير من (السلع الفكريّة) وشارك فيها أصحاب الأقلام من الكتّاب العرب.

.... وكونها (الأنثروبولوجيا) بعيدة عن (العلميّة) جعلها سهلة الاقتناص من قبل الدوائر الماليّة التي توظّف المراكزَ البحثيّة لأغراض غير علميّة. كذلك الاستغلال الكبير لهذا (العلم) من جانب أميركا لأجل الهيمنة على البلدان التي دمّرتها كالعراق وأفغانستان، أو عبثت بنمطها الحياتيّ...

-التحرّر من وثنيّة اللوغوس(Logy...).
صار من المعلوم أنّ كلمة أنثروبولوجيا ابتنت طريقتها على اللوغوس logos ومعناها علم أو معرفة، وأنثروبوس anthropos وتعني الإنسان. وكان أرسطو قد استخدم anthropologos -خطاب ودراسة الإنسان-[5] وأصبحت هذه اللاحقة logy/logie سلطة معبّرة عن محتوى مقدّس، يوحي بالانضباط المعرفيّ والموضوعيّة والحياد، ما يمنحها حصانة ضدّ التشكيك فيها.

هذا البناء على الأساس العلميّ ليس له مقابل في واقع الأمر؛ إذ يلاحظ التشتّت الكبير سواء في المفهوم أو في الموضوع، وتكاد التعريفات تنطق بالفشل في لملمة العناصر التي تمكّنها من تقديم حدّ علميّ للأنثروبولوجيا.
فمعجم لاروس الكبير Grand Larousse يعرّفها بـ «دراسة الإنسان باعتبارها جزءًا من السلسة الحيوانيّة»، أمّا موضوعاتها، فيخلص المعجم إلى تعريف الأنثروبولوجيا بأنّها أو أنّه علم-وهو ذو برنامج واسع جدًّا- يعالج كلّ القضايا التي تعود إلى حاضر الإنسانيّة وماضيها.[6].

أمّا معجم ليتري Littré، وهو عالم لغويّ وفيلسوف وضعيّ، فيرى أنّها التاريخ الطبيعيّ للإنسان، ملخّصًا نظرة كانط والفلاسفة الألمان التي تصبّ في كون الأنثروبولوجيا اسمًا لكلّ العلوم التي تبدي أيّ وجهة نظر متعلّقة بالطبيعة الإنسانيّة، روحًا أو جسدًا، فردًا أو نوعًا، وبالأحداث التاريخيّة وبالظواهر الإدراكيّة والقواعد العامّة للأخلاق..[7].

ويسوق لالاندLalande  تعريفات عديدة للأنثروبولوجيا متتبّعًا تدرّجها التاريخيّ، بداية من المعنى اللاهوتيّ القائم على التفريق بين ما هو إلهيّ وما هو بشريّ، عبر تناول الأمور الإلهيّة تناولًا بشريًّا، ثمّ المرور إلى الاتجاه المدرسيّ الجديد الذي يعرّف الأنثروبولوجيا بأنّها دراسة الإنسان باعتباره كلًّا دون تمييز بين ما هو روحيّ وما هو جسديّ...، والمعنى الثالث هو المعنى الكانطيّ الذي ينظر إلى القضيّة من ثلاث زوايا: الزاوية الأولى هي الأنثروبولوجيا النظريّة أو السيكولوجيّة التجريبيّة، وهي معرفة الإنسان وقدراته بوجه عامّ؛ والأنثروبولوجيا البراغماتيّة وتقوم على فهم الإنسان عبر توجّهه إلى ما يضمن مهاراته وينمّيها؛ والأنثروبولوجيا الأخلاقيّة وتقوم على معرفة الإنسان الهادف إلى ما يوصله إلى الحكمة والتمييز في الحياة وفقًا لميتافيزيقيا الأخلاق.[8]

لكن مفهومها تطوّر بداية من منتصف القرن التاسع عشر (1870)، وصارت أحد أهمّ فروع العلوم الطبيعيّة التي تشكّل ما يمكن تسميته بـ(الجانب الحيوانيّ في النوع الإنسانيّ)، وحسب تعريف (بروكا Broca) هي دراسة المجموعة البشريّة في جملتها وتفصيلها وفي علاقتها ببقيّة العناصر الطبيعيّة، شاملة بهذا المعنى تشريح الإنسان، وما قبل التاريخ، والحفريّات، والظواهر من العادات والأعراف للشعوب البدائيّة (ethnographie)، والإلمام الموسوعيّ بهذه الشعوب، وكذا علم الاجتماع والفولكلور واللسانيّات. أمّا المعنى الضيّق والأحدث فهو العلم الذي يعنى بتصنيف الأجناس البشريّة وتواريخها وحفريّاتها[9].

وهكذا لم يسترح مفهوم الأنثروبولوجيا ولم يستقرّ على نقطة، ولم يستفد من الزمن، ولم يمنح للباحثين الوقت ليرسّخوا معناه في أذهانهم، فضلًا عن الدارسين والمتعلّمين؛ كما أنّ موضوعه -وهذا هو الأخطر- لم يتحرّر؛ ومعلوم لدى المشتغلين بالبحث العلميّ أن تحديد الموضوع أهمّ شيء في المعرفة، وما لم يتحدّد الموضوع يتعذّر على العقل نسج قواعده، وسكّ مصطلحاته، يظهر ذلك في خصوصيّة فهم الأنثروبولوجيا ومفهومها من بلد إلى آخر، فهي عند الأميركيّين تعني عند الإطلاق دراسة التطوّر البيولوجيّ للكائنات البشريّة وترقّيها الثقافيّ في أزمنة ما قبل التاريخ، وهي عند الفرنسيّين دراسة الكائنات البشريّة في جميع مظاهرها[10].

فتحديد الموضوع في الدراسات الأنثروبولوجيّة يثير إشكالات، وبأيّ اعتبار وقع البحث فالإشكال لا يُرفع؛ لأنّ الموضوع المدّعى إنسانيٌّ واجتماعيّ، وتنميطه وفق قوانين الأشياء الميكانيكيّة كما يرى الباحثون في علم الاجتماع لا يقدم حلًّا علميًّا؛ لأنّ السلوك الإنسانيّ ناتج عن عوامل معقّدة ومركّبة من استجابات عقليّة وانفعاليّة، منها ما هو خفيّ، كالانفعالات التي تثيرها ذكريات تعود إلى ماض بعيد، وهي تختلف من فرد إلى آخر، بل ومن لحظة وحالة إلى أخرى، فإخضاعها لقانون واحد لا يفضي إلى نتائج يعوّل عليها علميًّا، مما يجعلها سردًا يُكتب ليُنسى.

الملفت في الأنثروبولوجيا هو هذا التكاثر المتزايد في ميادين البحث، فأصبحنا نسمع بشيء اسمه أنثروبولوجيا الطفولة، والتربية، والحرب، والفن، والمرض...؛ أسماء صار من المتعذّر الإحاطة بها أو معرفة المراد منها، ولكنّها حظيت بمكان في النطاق البحثيّ والجامعيّ. ولعلّ من المبرّرات الفلسفيّة لقدرة الغرب وسرعته على اجتراح العلوم أمران: أوّلهما تخلّصه من نظريّة الصدفة، والآخر ضبطه لقانون الاحتمال، حين استعان بالتقنية في السيطرة على العوامل الخارجيّة وتسخيرها لما يريد.

إنّ هذا القلق لا يُفسَّر إلّا بوضع الأنثروبولوجيا في سياقها الإيديولوجيّ الذي صار أداة ضاغطة تعمل في اللاوعي الجمعيّ، وتقود الاهتمام العامّ، بالاعتماد على قوى خفيّة occulte وظاهرة معًا، مع إتاحة وسائل التحكّم (المعرفيّ) للعامّة والدهماء حتى يكونوا قوّة مؤثرة، وجندًا مسخّرين بالمجّان، في عالم يحكمه الكمّ والعدد، والإحصاء والنسب المئويّة، وليس الحقّ والمنطق والبرهان.

البحث عن أصل الإنسان
غموض المفاهيم مردّه إلى التركيب الحاصل فيها، وتعدّد العناصر. وتتضاعف الصعوبة في التعامل مع المفهوم عند الترجمة، فقد يلمح المترجم عنصرًا واحدًا من الكلمة فتأتي الترجمة خداجًا، لأنّه أهمل عناصر أخرى، وإذا أراد استيعابها جميعًا تعذّر عليه أو أتى بترجمة مضحكة، فيكون الاقتراض أو التبديل هو الحل ّالصحيح، كما فعل الأوائل مع أناليطيقا والكاتيغوري وأضرابهما.

لم تقدم سنوات البحث حلًّا مريحا للأنثروبولوجيا من جهة المفهوم، بل ظلّت مكتنفة بالغموض؛ لتوزّعها بين علوم شتى يمكن أن تبتلعها وتلغيها من دائرة البحث المستقلّ، فإذا كانت الأنثروبولوجيا من الناحية الجذريّة -الإيتيمولوجيّة- هي معرفة الإنسان، فلا شكّ في أنّها فضفاضة ومبهمة ومخادعة، من الناحيتين اللفظيّة والمعنويّة. فالإنسان موضوع لعلم النفس ولعلم الاجتماع، وحتى المنطق آخذ بحظّه في دراسته من جهة الصناعة العقليّة، وكذلك الفلسفة الكلاسيكيّة في علم الأخلاق -الأكسيولوجيا- وفي نظريّة المعرفة.

يعترف الباحث الفرنسيّ أندري كونت سبونفيل André compte Sponville بهذه الصعوبات، فهل تنتمي الأنثروبولوجيا إلى الفلسفة أم إلى العلم أم إليهما معًا؟ فإذا كانت معرفة بالإنسان فإنّنا نستقي هذه المعرفة من علوم أخرى كالفيزياء والبيولوجيا وعلم المتحجّرات Paléontologie...، وهي علوم لا يمثّل الإنسان موضوعها الخاصّ، كما أنّ العلوم الإنسانيّة تأبى أن تنصهر في علم واحد يمكن تسميته بالأنثروبولوجيا، وهذا دليل على فشلها في أن تصبح علمًا مستقلًّا.[11] بهذه المثابة تعالج الأنثروبولوجيا الإنسان كما تعالج أيّ حيوان آخر؛ لاعتقاد الباحثين أنّه ليس سوى مجرّد حصيلة أخرى للتطوّر الفقاريّ لا تختلف اختلافاً كبيرًا جدًّا عن حصيلة تطوّر الفقاريّات عامّة.[12] ولاعتقاد الرواد في هذا الخط بمقولة أساسيّة، هي: لا يزال أصل الإنسان مجهولًا[13]، فجعلوها فرضيّة تحقّقت صحّتها على يد التطوّريّة، وترسّخت في أوساط البحث العلميّ، وبنيت عليها صروح من المؤلّفات وأهرامات من الأفكار.  ويبنون اعتقادهم هذا على مسلَّمة التشابه بين الإنسان بيولوجيًّا وبين الحيوانات اللبونة الأخرى، أمّا الروح، فلا يتردّدون في إيعازها إلى العناية الإلهيّة القادرة على منحها الإنسان في أيّ مرحلة من مراحل التطوّر، فلا تناقض بين التطوّريّ ووجود الروح.[14].

 والنظرة الأنثروبولوجيّة لتاريخ الإنسان تُختزل في التعامل معه على أنّه كائن حيوانيّ، كما يرى الباحث الفرنسيّ كاترفاج Quatrefages[15]. وقد ظلّت التطوّريّة مسيطرة على نظرة الأنثروبولوجيّين للإنسان، فالإنسان يخضع تمامًا للقوانين البيولوجيّة التي تخضع لها الحيوانات اللبونة الأخرى.[16] والصورة الحاليّة للإنسان وإن انفصلت عن القرد، إلّا أنّها قبل ملايين السنين كانت متّصلة به سلاليًّا، (مع الإقرار الآن أنّ القرد لا يمكن أن ينسل إنسانًا) ومع ذلك يعترف رالف لنتون أنّ المعركة انتهت بفوز الأنثروبولوجيّين التطوّريّين، وأنّ خصومهم لم يكونوا يقاتلون إلّا مقاتلة صوريّة، وإذا استثنينا بعض المناطق النائية -كما يقول-، فليس هناك من يشكّ في أنّنا من نسل نوع من أنواع الحيوان.[17]

وتقرّ التطوريّة أنّ فهم العقل الإنسانيّ غير ممكن إلّا بربطه بالعقل التاريخيّ[18]، وهو حصيلة من تراكمات متشابكة للماجريّات التي هي نتاج فعل الإنسان وانفعاله في ذات الوقت. وهذا يفسح المجال أمام عقول متعدّدة؛ لأنّ البحث يتعامل مع العقل العمليّ فقط، وهو ارتداد وانعكاس للمحيط الخارجيّ، واستجابة للرغبات الداخليّة للفرد، وامتثال -بدافع الإحساس بالواجب- للرغبة الجماعيّة أو المجتمعيّة. والنتيجة أنّ ما ينتظره الباحثون من ثمرات لا يقف على صعيد من الطمأنينة الدنيا للمعرفة، ناهيك عن اليقين العلميّ الذي هو أبعد شيء عن الأنثروبولوجيا.

وأدّى تداخل المفاهيم إلى محاولة التمييز بينهما باستحداث مصطلح موازٍ للأنثروبولوجيا هو الإثنولوجيا (علم الأعراق)، وهو تمييز خاصّ بالفرنسيّين الذين لمسوا الإجمال في كلمة الأنثروبولوجيا المستعملة في الثقافة الأنجلوسكسونيّة، ويرون أنّ هذا التفريق يمنح الأنثروبولوجيا معناها الدقيق الصارم: الدراسة البيولوجيّة للإنسان في تنوّعه العرقيّ الفعليّ أو حفريّاته. أمّا شقيقتها إثنولوجيا، فتتناول العلوم ذات الصلة بالمظاهر الثقافيّة، والعقليّة، ويدخل فيها: الإثنوجرافيا وما قبل التاريخ واللسانيّات،[19] وكان دافعهم إلى ذلك صعوبة التعرف إلى المنهج المناسب للبحث في حال الإجمال. كما اتّجه الفرنسيون إلى الجوانب التطبيقيّة في الأنثروبولوجيا، حين عملوا على استثمارها، انطلاقًا من الظواهر الفيزيولوجيّة في العمالة، وتحسين النسل، والتحكّم في حركة السكّان، وإنشاء مدن جديدة اعتمادًا على الصفات البيولوجيّة.
وعرفت الأنثروبولوجيا انعطافة نحو البنيويّة مع كلود ليفي استراوس (Claude Lévi Strauss)، الذي يرى أنّ معرفة الإنسان تلتمس في الخطابات الثقافيّة؛ لأنّ في الثقافة منطقًا داخليًّا، يتبعه الإنسان دون وعي، ليتناغم مع أفعاله ومع المؤسّسات التي يعترف بها. واتّخذ من اللسانيّات البنيويّة مدخلًا إلى الثقافة، ورأى في رمزيّتها بديلًا عن الجانب البيولوجيّ.

والأنثروبولوجيا منظورًا إليها مثل الإثنولوجيا تبحث عن المنطق الرمزيّ للثقافات؛ كما أنّ لقانون التحريم أو المنع عند ستراوس، على مستوى المنطق الرمزيّ اللاشعوريّ، وظيفة اقتصاديّة، يمثّل تبادل النساء شكلها الأوّل في المعاملات. [20]
يقرّ رالف لننتون في خاتمة كتابه (دراسة الإنسان) أنّه لم يقدّم إجابة شافية للقرّاء، متعلّلًا بحداثة هذا العلم «...هذا ولم ينجح علم الأنثروبولوجيا حتى الآن في ترتيب المواد التي يتعامل بها وفق نظام منسّق ولا في تطوير أساليب فعّالة حقّا لدراسته. فمعظم المحاولات الأولى لتطبيق طرق المعالجة التي طوّرت في العلوم الطبيعيّة على الثقافة والمجتمع ثبت الآن عقمها..»[21]

ولم تسلم الأنثروبولوجيا الثقافيّة من البعد البيولوجيّ والعرقيّ؛ إذ تعني الدراسة المقارنة للعرقيّات وأعرافها وعلم الأجناس، في اختزال للنشاط الإنسانيّ في نطاق حيوانيّ ونباتيّ.[22]

النزعة العنصريّة في الأنثروبولوجيا
يعالج الباحث الفرنسيّ ليفي ستراوس العقل البدائيّ على أنّه نوع خاصّ على حدة من العقول، وليس مرحلة من مراحل التطوّر التي يقطعها العقل. وبناء على هذه الرؤية العنصريّة الغربيّة الغريبة لا أمل لهذه الشعوب في أن تعرف نهضة أو تدخل في نطاق التحضّر المنشود، والنتيجة أنّ مصيرها واقع تحت رحمة الرجل الأبيض الممتاز، الذي لا يعامل تلك الشعوب إلّا بمنطق العبوديّة والاستغلال.

يظهر هذا الانحراف في ثنائيّاتها المعرفيّة: نحن وهم، متقدّم وبدائيّ، غرب وشرق، وهي قضايا شكّلت معرفة قبليّة للأنثروبولوجيا، وكانت محلّ نقدٍ من قبل الباحثين كإدوارد سعيد؛ كما أنّ مسألة الثقافة وتوظيفها الأداتيّ عكس التوجّه اللاعلميّ للأنثروبولوجيا.[23] إضافة إلى اقتصار الأنثروبولوجيا الثقافيّة الأنجلوسكسونيّة على معرفة الثقافة لدى الأعراق التي ليس لها تاريخ مكتوب[24]، وهي نزعة تستبطن نظرة دونيّة، وتستصحب ماضي الكشوفات الجغرافيّة الرامية إلى استعباد أهل الأقاليم المكتشفة واستغلال ثرواتها، وهذه النظرة لم تختف في عصر التحضّر والتمدّن، بل تمادت القوى الكبرى في ترجمتها، ولكن بدهاء ومكر، حين وظّفت (المعارف) وجعلتها برامج توجيهيّة لتنال من الاستقلال الفكريّ عند الشعوب، تاركة لها استقلالًا بيولوجًّيا لا يرفعها عن مستوى الحيوانيّة في واقع الأمر. لقد انتقد الفيلسوف الألمانيّ أسوالد اشبينجلر هذه النزعة عند الغرب: «إنّنا اليوم نفكر بقارّات، وفلاسفتنا ومؤرّخونا وحدهم هم الذين لم يتحقّقوا من هذا الأمر. إذن فأيّة أهمّيّة للمفاهيم ومجالات الإدراك التي يضعها هؤلاء أمامنا بوصفها ذات صحّة كونيّة بالنسبة إلينا، وذلك عندما نرى أنّ أبعد آفاقهم لا يمتدّ ليتجاوز الدائرة الذهنيّة للإنسان الغربيّ؟»[25]

الأنثروبولوجيا الفلسفيّة في عصور الحداثة
دخلت الأنثروبولوجيا مجال الفلسفة في العصر الحديث، وإن استعملت الكلمة قديمًا، لكن بمقاصد أخرى غير التي تتردّد في هذا العصر. لقد استعمل (كانط) مصطلح الأنثروبولوجيا الفلسفيّة، بناء على النظرة التي تحلّ الإنسان المكان الأرفع في سلم الموجودات، وتجعله الغاية القصوى للوجود. فهو ملتقى الاهتمام والمركز anthropocentrisme أو النزعة التي تريد أن تجعل الإنسان مبدأً للعالم، وتعتبر راحته هي العلّة الغائيّة للكون.[26]

يعرِّف كانط الأنثروبولوجيا بأنّها «مذهب في معرفة الإنسان مؤلَّف بشكل تنظيميّ..، يمكن النظر إليها من الناحية الفسيولوجيّة، ومن الناحية العلميّة. فمعرفة الإنسان من الناحية الفسيولوجيّة تتناول البحث فيما صنعته الطبيعة بالإنسان، ومن الناحية العمليّة (البراغماتيّة) تتناول البحث فيما صنعه الإنسان في نفسه بنفسه بوصفه كائنا حرًّا أو ما يقدر أن يفعل أو ما ينبغي أن يفعله في نفسه.»[27]

ولم تسلم الأنثروبولوجيا الفلسفيّة من اعتراضات الفلاسفة، حيث نالها النقد من كلّ جانب، فهيغل الألمانيّ وميشليه الفرنسيّ يدرجانها في فلسفة التاريخ؛ وأمّا دلتاي فهو يرفض نظرة مواطِنِه هيغل، وكذلك نظرة ميشليه، ليرى أنّ على الأنثروبولوجيا البحث في أنماط الطبيعة الإنسانيّة، الأمر الذي حدا بهيغل إلى القول: «إنّ الفلسفة حين تصير أنثروبولوجيا تنهار».[28]
وكان ماكس شيلر Max Sheller أيضًا من الفلاسفة الذين أعطوا الأنثروبولوجيا بعدًا فلسفيًّا، مع غيره من الفلاسفة الألمان، وُلد في ميونخ بألمانيا عام 1874 وتأثّر بأستاذه أيكن، كما تأثّر بفكر القديس أوغسطينوس في مسألة الحبّ، لكنّه عرف مراحل متعدّدة من تفكيره، انتهى به إلى إنكار عقيدته المسيحيّة التي بدأ بها، وإنكار وجود الألوهيّة، وإحلال الإنسان محلّ ذلك، فهو المكان الوحيد الذي يتكوّن فيه الإله، وأنّ الفرد هو الذات الأصيلة الحقيقيّة الحافلة بالمعاني[29]. وإنّ ربط الحب بالله فإنّما هو حبّ في الله وليس لله[30]، مؤكّدًا لمركزيّة الإنسان، ومزيحًا لله في أن يكون مبدأً فاعلًا في السلوك البشريّ.

يرى أنّ الفلسفة هي المعرفة الميتافيزيقيّة، أو معرفة الخلاص أو النجاة، التي تنتج عن الربط بين نتائج العلوم الوضعيّة والفلسفة التي تدرس الماهيّات. وموضوعها هو المشكلات التي تقع على حدود العلم، ولكن العلم لا يستطيع تناولها، كمسالة الحياة، لكن هذه الميتافيزيقا لا تبدأ من دراسة الوجود الموضوع، بل من الدراسة الفلسفيّة للإنسان (الأنثروبولوجيا الفلسفيّة)، وهي الأنثروبولوجيا التي تتناول سؤال: من الإنسان؟ ويرى أنّ الميتافيزيقا الحديثة ينبغي أن تكون دراسة فلسفيّة لأسس الأنثروبولوجيا أو كما يسمّيها ميتا-أنثروبولوجيا. [31]

إنّ هذه الإشارة إلى مساعي الفلاسفة الكبار تعكس مدى حرصهم على ردّ الاعتبار إلى الإنسان، بعد أن أزاحه الكشف العلميّ عن صدارة الكائنات، وأجلسه على هوامش ثانويّة في اعتقادهم، لكنّها نظرة في الوقت ذاته تبطن إصرارًا ممزوجًا بالمكابرة في إعادة الإنسان إلى الواجهة، لكن من بوّابة الفعل لا الانفعال، وتكشف عن وقوف المفكّرين عند أعتاب العجز على وضع تصميم علميّ لتصوّراتهم، ما جعل أفكارهم محلًّا للنقد المتبادل.

الأنثروبولوجيا الأميركيّة ومَأْسَسة الحرب
أصبحت المعرفة في هذا العصر أمضى من السلاح، لخفاء أساليبها وخفّتها وسرعة حركتها، واعتمادها على أدوات تنفيذيّة يديرها -مختارين- المستهدَفون بها. فلم تعد الهيمنة باهظة التكلفة ولا مرتبطة بساعة، أو مكان، ولا ظاهرة، بل صارت افتراضيّة، مستغرقة كلّ الأوقات؛ ولم تعد الحرب عارضًا يحدث إذا تعذّر الحلّ السلميّ، أو تتوقّف عند المفهوم الذي رسمه المفكر العسكريّ الألمانيّ كلاوزفيتش، وهو أنّ الحرب امتداد للسياسة أو جزء من العلاقات السياسيّة[32]، بل أصبحت في الزمن الأميركيّ مؤسّسة قائمة بذاتها، ووظيفة من وظائف الحياة والبقاء، تقوم مقام الكلمة، ليفرض بعدها تفاوض على الأنقاض. ويأخذ البحث الأنثروبولوجيّ في أميركا الجانب الثقافيّ بمكوّناته العديدة، لما له من قدرة على سبر عقليّات الأجناس ورصد ميولهم، ومعرفة أطوار نشأته للتمكّن من التنبّؤ بمآلاته، من جهة، والتحكّم في مسيرته التطوّريّة، وهي مدرسة ضاربة بجذورها في المدرسة السلوكيّة عند واطسون ووليم جيمس...، والمدرسة البراغماتيّة الفلسفيّة، وقد تبلور هذا التوجّه بكتاب (كيف تصنع القيم التطوّر الإنسانيّ=How values Shape Human Progress) الذي حرّره لورنس هاريسون وفرانسيس فوكو ياما، الصادر سنة 2000.

فقد قلب العقل الأميركيّ الأوضاع، حين جعل النتيجة مقدّمة، وراح يبحث لها عن مسوّغات، حاشدًا لها تركيبة معقّدة وماكرة من الاستدلالات، جاعلًا الرغبة سابقة للمنطق، والإيديولوجيا قبل الفلسفة. يكشف جيرار ديلودال Gérard Deledalle الصلة بين الفلسفة والإيديولوجيا: «ما نريد البرهنة عليه هو أنّه قد تولّدت في أميركا فلسفة تتوافق نقطةً نقطةً مع الإيديولوجيا. إنّ الأهمّيّة الخاصّة لهذا التوافق بين الفلسفة والإيديولوجيا التي لا ينكرها أحد مضاعفةٌ، ففيما يتعلّق بالفلسفة الأميركيّة، تكمن القضيّةُ في معرفة من يسبق الآخر، الفلسفة أم الإيديولوجيا؟»[33]  ويضيف: «من خلال الطريقة التي وجدت فيها الولايات المتّحدة، والتي توجد فيها نفسها كلّ يوم، ومن خلال ما نعرفه عن تاريخ الأفكار والفلسفة من جهة، فإنّ الايديولوجيّات قد سبقت الفلسفة، وهذا لا يعني أنّ الفلاسفة قد قرّروا إعطاء الإيديولوجيا التي يتقاسمونها مع مجمل الأميركيّين شكلًا أو نسقًا. إنّ ما حصل هو أنّ الفلاسفة الأميركيّين، بمحاولتهم الإجابة على الأسئلة الفلسفيّة التقليديّة كما كانت تطرح نفسها في السياق الاجتماعيّ- التاريخيّ في أميركا، توصّلوا لاقتراح حلول جديدة تستطيع اعتبار المبادئ فيها التعبير الفلسفيّ عن الإيديولوجيا الأميركيّة.»[34]

ويعرف العالم كيف عمل التخطيط الإستراتيجيّ في إحداث واقع وتاريخ جديدين، وأدخل الأمم المغلوبة في مناخات واهتمامات لم تكن تعرفها من قبل.
وليس للتاريخ في الثقافة الأميركيّة ولا في الوجدان تلك الرومنسيّة الحارقة، فالزّمن في هذه الثقافة أحاديّ البعد: إنّه المستقبل الممتدّ من الحاضر، فما أسرع ما يموت الحدث إذا ما انفصل عن الآن. والأحداث التاريخيّة في النظر الأميركيّ ظواهرُ عابرةٌ، وليست خصائص نهائيّة تصلح أن تكون قوانين للسياسة والاجتماع والاقتصاد؛ لذا مالت الأنثروبولوجيا افي إطار هذه النظرة إلى رصد الواقعيّ المتحرّك من الثقافات، وإن لم تجده خلقته وافتعلته، بآليّات التركيز والتكرار.

وخلال العهد الجديد لأميركا، الذي بدأ مع نهاية القرن التاسع عشر، حكمت السياسة الخارجيّة الأميركيّة أربعة تقاليد هي:
*الامبرياليّة التقدّميّة، وتعني أنّ الأميركيّين مختارون لتحضير البشريّة ونقل التقدّم إلى الشعوب الأخرى!
*مبدأ ويلسون أو الليبراليّة العالميّة، وهو التقليد الذي اتبعه الرئيس وودرو ويلسون من أجل أن يكون العالم أكثر سلمًا وديمقراطيّة بعد الحرب العالميّة الأولى، وتمثَّل في النقاط الأربعَ عشرةَ الشهيرة لويلسون.[35]
*الاحتواء، وهو التقليد الذي تبلور بعد الحرب العالميّة الثانية لمواجهة التهديد الشيوعيّ دون قيام حرب عالميّة.
*جعْلُ العالم أفضل، بالتعبير عن الرسالة الأميركيّة إلى العالم سياسيًّا واقتصاديًّا. وقد تجسّد في مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا..[36]
لا تتوقّف الولايات المتّحدة عن تعزيز معجم المفاهيم الاجتماعيّة وإثرائه، مدفوعة بترجمة ميولها وطباعها أوّلًا، ثمّ تحقيق أهدافها ثانيًا. الحرب هي المنطق المعاصر الذي تتوصّل به أميركا  إلى إقناع خصومها ومجادليها، وهو منطق ضارب في أمسها –وهو كلّ ماض- عندما كانت في سنوات الاستكشاف ومطاردة السباع، والتوجُّس من كلّ شيء يشخّص أمام ناظرها، الخائف على حدوده، الذي وجد نفسه في قارّة غير مأهولة، غنيّة، خصبة. هذا الواقع ولّد في نفسه اندفاعةً نفعيّة، يختلط فيها الرغبة في شيء ما مع الخوف من ضياعه أو وقوعه تحت طائلة العدوان، فالروّاد المستكشفون تحرّكوا من الساحل الشرقيّ لاجتياح الغرب الأوسط ثمّ الغرب الأقصى، حتى انتهوا من فتح القارة بنهاية القرن التاسع عشر.
وكانت شخصيّة الفرونتيير (الحدوديّ) الذي اندفع صوْبَ الغرب هي التي شكّلت الشخصيّة الأميركيّة. فالفرونتييرز الذي تحرّك من ساحل المحيط الأطلنطيّ إلى ساحل المحيط الهادي، أضفى طابعه على سيكولوجيّة الولايات المتّحدة وأفكارها ومؤسّساتها.[37]
لقد أضفت الإدارة الأميركيّة في مناسبات كثيرة صفة القداسة على حروبها الخارجيّة في العراق وأفغانستان حين علّقْتها على الواجب الدينيّ والاستجابة لنداء الربّ، وهو سلوك لا يفسّره إلّا الأبعاد المؤسّسيّة للحرب.

هذه التوجّهات العمليّة في الثقافة الأميركيّة ركّزت غائيّة «المعرفة» في المصلحة، وفاقًا للبراغماتيّة وفروعها اللغويّة والفنيّة...، ووجدت في الأنثروبولوجيا حلًّا ناجعًا، ومفتاحًا لبوّابة الرغبات، وما أكثرها في قارة فتيّة يحرّكها النَّهَم المصبوغ بحمرة الدم.

إنّ أميركا بسلوكها الحربيّ قد أدخلت في الوجدان الجمعيّ العالميّ قناعة جديدة لم تكن موجودة، حين جعلت الحرب أولى الوسائل استخدامًا، وقد درج العالم منذ آلاف السنين على النظر إلى الحرب على أنّها آخر الوسائل استخدامًا. الحرب في السلوك الأميركيّ هي أوّل الكلام، أمّا التلاقي للحوار فهو آخر ما تفكّر فيه...، إنّها العقليّة الأميركيّة الساخرة من منطق الأشياء...

لقد أضحت الحرب عنصرًا دائم الحضور في السياسة الأميركيّة وأحد انشغالات الرأي العام الداخليّ والخارجيّ، وأصبح العالم مترقّبًا لسلوك الإدارة الأميركيّة متسائلًا إن كانت ستشنُّ حربًا على هذا البلد أو ذاك، أو ترجئ ذلك إلى وقت لاحق. وانتقلت الأنثروبولوجيا إلى يد السياسيّين، وصاروا «يستعملونها كما يستعمل السكران مصباح الضوء... المصباح بالنسبة إليه ليس نورًا، بل أداة»[38]، ولم يعد ممكنًا فصلُ المعرفة عن التوظيف السياسيّ، هذه السياسة التي أصبحت صفة لاحقة suffixe تقرن بكثير من العلوم، علم الاجتماع السياسيّ، علم الاقتصاد السياسيّ...وسمة السياسة الصيرورة الدائمة، والتغيّر المبنيّ على الأنا الراغب في شيء ما.

خاتمة نقديّة
لم تهنأ الأنثروبولوجيا طويلًا في ساحات البحث العلميّ، ولحقها ما لحق الموجات الأخرى من بوار؛ لأنّها ثمرة من ثمار الافتعال المؤدلج، الذي يزول بزوال أسبابه. ولن يكون ما تقدّمه الجامعات الغربيّة والعربيّة من باحثين وشهادات شافعًا ولا نافعًا لهذه النِّحلة المعرفيّة، لأنّ للعلم -بما هو علم- سلطانَهُ الحاسمَ في ترسيم المعرفة الحقّة أو إبعادها من دوائر التفكير. وللمعرفة كما هو مقرّر ثمرات، وهي مبرّراتٌ يفرضها العقل والعقلاء، وإلّا كان السلوك الإنسانيّ آليًّا واعتباطيًّا، وهنا نسأل: أيّ نتائج خلّفتها الأنثروبولوجيا ودراستها في الواقع العربيّ، وإن على المستوى النظريّ؟ هذا سؤالٌ وليس اتهامًا. للغرب أن يحدّثنا عن مباهج الأنثروبولوجيا، وهو على حقّ، لأنّها أداة تناسب قوّته، أمّا العرب فهم أضعف من حملها، وإذا أكرهنا النفس على التسليم بالمكوّنات المعرفيّة المتعدّدة للأنثروبولوجيا، فهل للعرب مشاركة فاعلة في هذه المعارف كي يكون لهم المقدرة على صهرها في علم واحد؟ وفي أيّ ساحة أو مجال يمكنهم تجريبها؛ لأنّ الأنثروبولوجيا في الغرب مرتبطة بالفعل action وليست مجرّد نظريّات ومحاضرات تُلقى في المحافل والجامعات. ثمّ إنّ الأنثروبولوجيا اقترنت بتجريبها على الآخر الأجنبيّ الواقع خارج الحدود، والعرب منكفئون على أنفسهم، ما يعني أن مجالات تجريبها أو مخابرها مفقودة، فلا يبقى إذن من الأنثروبولوجيا إلّا الأماني...

من البيِّن أنّ العمليّة النقديّة التي مورست في أوروبا لم تتوسّع نحو أفق نقديّ يطاول البنية التأسيسيّة لعلم الأنثروبولوجيا الغربيّ. فقد ذهب النقّاد إلى متاخمة التطبيقات الفرعيّة للأنثروبولوجيا في المجتمع الفرنسيّ بخاصّة والمجتمعات الأوروبيّة الحديثة بوجه عامّ. أمّا ما يتصل بكون الأنثروبولوجيا علمًا استعماريًّا، فلم يعطه المساحة المطلوبة من حفريّاته المعرفيّة. وربما هذا ما يؤخذ على فوكو بأنّه فعل كأقرانه من الفلاسفة وعلماء الاجتماع الذين  نقدوا السلطة الحاكمة في أوروبا من دون أن يكشفوا عن حقيقة جوهريّة لازمت العقل الغربيّ، وهي أنّ العلوم الإنسانيّة التي ظهرت في أزمنة الحداثة منذ عصر النهضة إلى يومنا الحاضر شكّلت روافع للهيمنة على الآخر غير الغربيّ. ويمكن القول إنّ الأنثروبولوجيا كمنهج في دراسة الإنسان شكّلت مسارًا ثقافيًّا شديد التأثير على الشعوب المستعمرة لجهة إعادة تشكيل وعيها ومعارفها وفقًا لنظام الهيمنة الذي مارسته السلطة الاستعماريّة في بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.

لائحة المصادر والمراجع
المصادر العربية
أسوالد اشبينجلر: تدهور الحضارة الغربيّة، ترجمة أحمد الشيبانيّ، ص منشورات دار مكتبة الحياة (د. ت.)، بيروت.
الجنرال كارل فون كلاوزفيتز: الوجيز في الحرب، ترجمة: أكرم ديري، الهيثم الأيّوبيّ، ط 2، 1988، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت.
الفلسفة الأميركيّة، ترجمة جورج كتّورة، وإلهام الشعرانيّ، ط1-2009، توزيع مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت.
الكلمات المفاتيح، ريموند وليامز، ترجمة محمد بريري، تقديم طلال أسد، ط 1، 2005، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
باسكال كازانوفا: الجمهوريّة العالميّة للآداب، ترجمة أمل الصبان، تقديم محمّد أبو العطا، ط1، 2002، المشروع القوميّ للترجمة، القاهرة.
بوشنسكي: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، ترجمة عزت قرني، ط 1413هـ-1992م، سلسلة عالم المعرفة، الكويت.
جيرار لكرك: الأنثروبولوجيا والاستعمار، ترجمة جورج كتّورة، ط 2، 1411هـ-1990م، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت.
رالف لنتون: دراسة الإنسان، ترجمة عبد الملك الناشف، المكتبة العصريّة، بيروت، بالاشتراك مع مؤسّسة فرانكلين للطباعة والنشر، بيروت، نيويورك، 1964.
رالف لنتون: شجرة الحضارة، ترجمة أحمد فخري، تقديم أحمد زكريا الشلق، ط 2010، المركز القوميّ للترجمة، القاهرة.
فتغنشتين: رسالة منطقيّة فلسفيّة، ترجمة عزمي إسلام، مراجعة وتقديم زكي نجيب محمود، ط1، 1968، مكتبة الأنجلو المصريّة، القاهرة.
موسوعة الفلسفة: عبد الرحمان بدوي، ط1، 1984، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت.
ماكدوجال: أرض الميعاد والدولة الصليبيّة، ترجمة رضا هلال، ط2، 1421هـ-2001م، دار الشروق، القاهرة.

المصادر الأجنبية
-Dictionnaire de la langue française, Littré, édité par Encyclopaedia Britannica, Chicago, 1991.
-Dictionnaire de philosophie, Noëlla Baraquin et autres, 3e édition, Armand Colin, Paris.
Dictionnaire d’éthique et de philosophie, sous la direction de Monique Canto-Sperber, 1e édition, 2014, PUF, Paris.
-Dictionnaire philosophique, André Sponville, 4e édition, 2014 ; Presse Universitaire de France, Paris.
-Grand Larousse encyclopédique, tome premier, terme (anthropologie) édition prestige, édition Larousse, 1970, Paris.
-La philosophie, sous la direction de André Akoun, édition Retz, C.E. P. I. Paris, 1977.
-L’Anthropologie, Marc Augé et Jean-Paul Colleyn; 2e édition, 2009, PUF, Paris.
-Vocabulaire technique et critique de la philosophie, André Lalande, 3e édition, 2016, PUF, Paris.


---------------------------------------
[1]*- أستاذ الأنثروبولوجيا في كلّيّة الآداب، جامعة الجزائر 2-الجزائر.
[2]- فتغنشتين: رسالة منطقيّة فلسفيّة، ص 91، ترجمة عزمي إسلام، مراجعة وتقديم زكي نديب محمود، ط1، 1968، مكتبة الأنجلو المصريّة، القاهرة.
[3]- جيرار لكرك: الأنثروبولوجيا والاستعمار، ص 11، ترجمة جورج كتورة، ط 2، 1411هـ-1990م، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت.
[4]- باسكال كازانوفا: الجمهوريّة العالميّة للآداب، ص 154، ترجمة أمل الصبان، تقديم محمد أبو العطا، ط1، 2002، المشروع القوميّ للترجمة، القاهرة.
[5]- الكلمات المفاتيح، ريموند وليامز، ص 57، ترجمة محمد بريري، تقديم طلال أسد، ط 1، 2005، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
[6]- Grand Larousse encyclopédique, tome premier, terme (anthropologie) page non citée, édition prestige, édition Larousse, 1970, Paris.
[7]- Dictionnaire de la langue française, Littré, tome 1e, p 230, édité par Encyclopaedia Britannica, Chicago, 1991.
[8]- Vocabulaire technique et critique de la philosophie, André Lalande, p 62, 3e édition, 2016, PUF, Paris.
[9]- Ibid.
[10]- L’Anthropologie, Marc Augé et Jean-Paul Colleyn, p 11, 12 ; 2e édition, 2009, PUF, Paris.
[11]- André Sponville: Dictionnaire philosophique, p 73, 4e édition, 2014 ; Presse Universitaire de France, Paris.
[12]- رالف لنتون: دراسة الإنسان، ص 87، ترجمة عبد الملك الناشف، المكتبة العصريّة، بيروت، بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، بيروت، نيويورك، 1964.
[13]- رالف لنتون: دراسة الإنسان، ص 17.
[14]- نفسه، ص 17.
[15]- Grand Larousse encyclopédique, tome premier, terme (anthropologie) page non citée, édition Larousse, 1970, Paris
[16]- نفسه، ص 39.
[17]- رالف لنتون: شجرة الحضارة، ج1، ص 27، ترجمة أحمد فخري، تقديم أحمد زكريا الشلق، ط 2010، المركز القوميّ للترجمة، القاهرة.
[18]- جيرار لكلرك: الأنثروبولوجيا والاستعمار، ص 27، ترجمة جورج كتورة، ط 2،1411هـ- 1990، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت.
[19]- Grand Larousse encyclopédique, tome premier, terme (anthropologie) page non citée, édition Larousse, 1970, Paris.
[20]- La philosophie, sous la direction de André Akoun, p25, édition Retz, C.E. P. I. Paris, 1877.
[21]- رالف لنتون: دراسة الإنسان، ص 637، ترجمة عبد الملك الناشف، المكتبة العصريّة، بيروت، بالاشتراك مع مؤسّسة فرانكلين للطباعة والنشر، بيروت، نيويورك، 1964.
[22]- L’Anthropologie, Marc Augé et Jean-Paul Colleyn, p 11, 2e édition, 2009, PUF, Paris.
[23]- L’Anthropologie, Marc Augé et Jean-Paul Colleyn, p 113, 2e édition, 2009, PUF, Paris.
[24]- Dictionnaire de philosophique, Noëlla Baraquin et autres, p 22, 3e édition, Armand Colin, Paris.
[25]- أسوالد اشبينجلر: تدهور الحضارة الغربيّة، ص 70، ترجمة أحمد الشيبانيّ، ص منشورات دار مكتبة الحياة (د. ت.)، بيروت.
[26]- Grand dictionnaire de la philosophie, Larousse, p 40, édition 2003, Larousse, Paris.
[27]-  موسوعة الفلسفة: عبد الرحمان بدوي، ج 1، 230، ط1، 1984، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت.
[28]- نفسه، ج1، ص 231.
[29]- نفسه، ج2، ص 40.
[30]- نفسه.
[31]- بوشنسكي: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، ص 242، ترجمة عزّت قرني، ط 1413هـ-1992م، سلسلة عالم المعرفة، الكويت.
[32]- الجنرال كارل فون كلاوزفيتز: الوجيز في الحرب، ص 475، ترجمة أكرم ديري، الهيثم الأيوبيّ، ط 2، 1988، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت.
[33]- الفلسفة الأميركيّة، ص 32، ترجمة جورج كتورة، وإلهام الشعرانيّ، ط1-2009، توزيع مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت.
[34]- نفسه.
[35]- ماكدوجال: أرض الميعاد والدولة الصليبية، ص204-205. ترجمة رضا هلال، ط2، 1421هـ-20001م، دار الشروق، القاهرة.
[36]- نفسه، ص247، وما بعدها.
[37]- نفسه، ص6(من مقدّمة المترجم).
[38]- Dictionnaire d’éthique et de philosophie, sous la direction de Monique Canto-Sperber, tome 1, p 81, 1e édition, 2014, PUF, Paris.