البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المفكّر المصريّ الأزهريّ محمّد فريد وجدي

الباحث :  عصمت نصّار
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  27
السنة :  ربيع - صيف 2022م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 12 / 2022
عدد زيارات البحث :  3257
تحميل  ( 414.467 KB )
على الرّغم من الزّخم والثّراء الفكريّ في النّصف الثّاني من القرن التاسع عشر والنّصف الأوّل من القرن العشرين، إلّا أنّنا لا نكاد نلمح من بين قادة الفكر العربيّ من هو أبرع وأبلغ وأكثر حنكةً ودرايةً والتزامًا بآداب الحوار وأخلاقيّات التّناظر النّقديّ من المفكّر الأزهريّ محمّد فريد وجدي (1875م-1954م). ولعلّ الميزة الأساسيّة في فكر وجدي هي تلك التي تقوم على نقدٍ متوازٍ لقيم الغرب وللنخب العربيّة الإسلاميّة التي حَفِلَت مواقُفها بمواقف استتباعيّة للثقافة الغربيّة، ويتراءى للباحث أنّ أكثر المواضع من مؤلّفاته – على كثرتها وتنوّعها وموسوعيّتها - التي برزت فيها وجهته الإصلاحيّة ونهجه في التجديد هي تلك التي ناقش فيها مخالفيه من المستشرقين أو أقرانه من المثقّفين العرب الذين امتلأت أعمالهم بتبجيل قِيَمِ التنوير والحداثة الغربيّة.

الكلمات المفتاحية: قيم الغرب ـ التبعية المعرفيّة ـ المغالطات المنطقية ـ المناهج العقلية ـ المنازعة والمجادلة ـ تهافت الغرب.

تمهيد:
كان الجانب الأخلاقيّ ساريًا على نحوٍ لافتٍ في محاوراته ومساجلاته مع خصومه الفكريّين، وذلك يبدو جليًّا في حرصه على العزوف عن القدح أو الشتم أو التطرّق لمثالبِ شخصيّةِ المُناظرِ خلال محاورته له، أو الرّدّ على ما جاء من أخطاءٍ في كتاباته، أو الهجوم والطّعن في أمورٍ يجهلها، أو الكذب والتّطاول في أحاديثه عن أمور يسلّم بصحّتها ويعتنقها، أو الحدّة في النّقد والشدّة في الخصومة، وغير ذلك من مثالب الحوارات والمعارك الفكريّة التي ذاعت في عصره. ويرجع ذلك كما أشرنا إلى أمرين: أوّلهما: تأثّره بالمناهج العقليّة التي كان يسلكها الفلاسفة في مناقشاتهم، وثانيهما: آداب الحوار وأخلاقيّات التثاقف التي استنّها أكابر العلماء المسلمين في نقودهم ومراجعاتهم ومناظراتهم التي كانوا يعقدونها بحثًا عن الحقيقة وأصوب الآراء في الموضوعات المثارة[2]. وكانوا يميّزون بين الاختلاف والخلاف وعلم المخالفة، فالاختلاف يُشير إلى المنازعة والمجادلة، أمّا الخلاف فيعبّر عن المغايرة وعدم الاتّفاق. أمّا علم المخالفة، فيختصّ باستنباط آراء العلماء من مناظراتهم، فيُثبت ما أيّدوه منها بالبرهان والآراء التي عدلوا عنها واستبعدوها انتصارًا لاجتهاداتهم دون دليل يقتنع به الآخر. أمّا الجدل، فهو أقرب للتناظر بين رأيين، يجتهد صاحب كلّ منهما في إقناع الآخر بصحّته. أمّا علم الجدل، فهو علمٌ يقوم على مقابلة الأدلّة لإظهار أرجح الأقوال المطروحة، وهو يختلف عن المجادلات السفسطائيّة التي كانت تعتمد على الإشكاليّات اللفظيّة والمغالطات المنطقيّة.

أمّا الخلاف الذي يفضي إلى نزاع، فيُدرج ضمن المعارك اللفظيّة أو الخصومة المذهبيّة. أمّا الاختلاف المحمود، فهو الذي ينتصر لرأيٍ بعينه دون أن يقطع بخطأ الرأي الآخر (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، ومن فوائد هذا الضّرب تمرين الذّهن على ما نطلق عليه الممكن أو المحتمل والجائز وتناكح الأفكار واحترام الرأي الآخر. أمّا الخلاف المذموم، فهو وليد الهوى والحمق ورغبة في الشهرة والظهور، أي الخلاف من أجل الخلاف، وهو نقيض الحوار الفلسفيّ؛ وذلك لأنّه يفتقر إلى دليلٍ معقولٍ وتعوزه الموضوعيّة في طلب الحقيقة[3].

وتُشير جلّ الدّراسات[4]، على ندرتها، إلى أنّ المفكّر محمّد فريد وجدي كان أبرز الكتّاب المحافظين الذين اتخذوا من النهج الحواريّ والمناقشات الهادئة سبيلًا للدفاع عن النفيس من التّراث، والأصيل من العادات والتقاليد، والجاد والطريف من مناقب علماء العرب وفلاسفتهم. الأمر الذي رغّب شبيبة عصره في مجلسه واحترام آرائه والاستمتاع بحلوِ حديثه، ودفع شيوخ الأزهر إلى تلقيبه بالشيخ، وإسناد رئاسة تحرير مجلّة الأزهر إليه بتوجيه من الشيخ مصطفى المراغي[5] (1881-1945م) الذي لقّبه بالشيخ البحّاثة، وذلك عام 1933م، خلفًا للشيخ محمّد الخضر حسين (1876-1958م). أمّا رصفاؤه من تلاميذ مدرسة الجريدة، الذين انتموا للفكر الليبراليّ المستنير، فقد أطلقوا عليه اسم الناقد المحافظ المستنير، ولا سيّما عقب ظهور كتاباته النقديّة التي ردّ فيها على كتابي: (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة) لقاسم أمين، كتاب (في الشعر الجاهليّ) لطه حسين، (لماذا أنا ملحد) لإسماعيل أدهم، (مناهل العرفان ومبحث ترجمة القرآن) لمحمّد عبد العظيم الزرقانيّ (ت: 1948م)، بحث (المذاهب الغنوصيّة في العالم الإسلاميّ) لعلي سامي النشّار (1917-1980م)، وكذا نقده لأرباب الفلسفات الماديّة المنكرين للألوهيّة والروح[6]، وغلاة المستشرقين المشكّكين في السيرة المحمديّة وسلامة القرآن من التحريف، ولا سيّما المستشرق الفرنسيّ إدوار مونتيه[7] (1817-1894م)، والمؤرّخ الفرنسيّ جوستاف لوبون (1841-1931م)، والروائيّ الإنجليزيّ هربرت ويلز (1866-1946م)، والمؤرّخ البلجيكيّ هنري بيرين (1862-1935م)، والجغرافيّ الأميركيّ آيسايا بومان (1878-1950م).

وقد اشتهر بين عوام المثقّفين بأنّه من المفكّرين وقادة صحافة الرأي، الذين مُيِّزوا في كتاباتهم بين التحاور والتساجل والتناظر والتصاول والجدل والمحاججة. بل حتى أولئك الذين كان يُحسبون من روّاد النهضة سيخوض معهم سجالات هادئة في ما يختصُّ بمواقفهم من ثقافة الغرب.

ومن أقواله في هذا السياق ما ورد في ردوده على محمّد رشيد رضا (1865-1935م)[8] -الذي أخذ عليه رقّته وسماحته مع مناظريه-: «إذا كنّا نحاول الرّفق مع خصوم الإسلام لنستدرجهم إلى سماع ما نقول، فإنّ الرفق بأصحاب الاتجاه الواحد أدعى وألزم»، وذلك عملًا بأدب القرآن: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (سورة النحل، الآية 125).

وقال ردًّا على علّة إتيانه بالنّصّ الحرفيّ لرأي خصمه قبل تفنيده: «ليست القضيّة قضيّتي ولا قضيّته، ولكنّها قضيّة القارئ البصير، وهذا القارئ سيتلو الرأي ونقيضه ثمّ يجنح إلى ما يستصوب، فالرّدّ واجب، ومحاولة تجاهله تأييد للخطأ، وهزيمة للصواب»، وذلك اعترافًا من وجدي بحقّ المتلقّي وحرّيّته في الموازنة والحكم على جدّيّة الأفكار.

وقال أيضًا ردًّا على المغالطين والمحتجّين بالعلم على غير هدى وتدبّر وأناة: «أنتم تقولون العلم يثبت، العلم ينفي، العلم يأمر، العلم ينهى، وبالتالي فأنتم تضعون على شفتي هذا العلم المسكين هذه الكلمات الضخمة، وتُدخلون إلى فؤاده هذا الكبر والعجب، لا، أيّها السادة، إنّ العلم في هذه المسائل أي ما وراء الطبيعة، لا ينكر شيئًا، ولا يثبت شيئًا، ولكنّه يبحث، وأنتم تعلمون ذلك كلّه ولا تجهلونه، فالعلم في الحقيقة ليس إلّا إدراكًا لظواهر الأشياء، وأمّا حقائقها فتفلت منّا ولا تقع تحت حواسنا»، ويعبّر في هذا النّقد عن موضوعيّة المُناظر الحريص على عدم فضح جهل خصمه ومغالطته[9].

أوّلًا- نقض آراء الملحدين
في ردّه على الفلاسفة المادّيّين الملحدين نجده يقول إنّ الطبيعة الحقيقيّة للنواميس التي تقود المادّة الحيّة، «تتعالى عن أن تلمّ بها عقولنا»، ذاهبًا إلى أنّ «العلماء المتبصّرين لدراسة الكون والكونيّات قد ظهر لهم، عقب حدوث اكتشافاتٍ خطيرةٍ لم تخطر لهم ببال؛ إنّ حدود العلم ما تزال بعيدة عنهم، وإنّ كلّ ما حصّلوه منه لا يعدو العلاقات الموجودة بين ما يقـع تحـت حسّهـم من الموجودات، أمّا تلك الموجودات وحقيقة النواميس التي تدبّرها،  فما يزال أمرُها مجهولًا، فإنّ الإيمان لازم من لوازم الحياة الإنسانيّة وضرورة من ضرورات الحياة الأرضيّة، فمن فَقَدَهُ فَقَدْ فَقَدَ الحياة، ولو ملك الدنيا بيمينه، ومن وَجَدَه فقد وَجَدَ راحة الأبد، ولو كان بين أنياب الفاقة، ومخالب الفقر المدقع، فالإيمان بوجود الله يهب الإنسان قوّةً كبيرةً في مواجهة المصاعب والمصائب والآلام.

وفي متاخماته النّقديّة لكتابات غلاة المستشرقين التي اتّهمت الإسلام بأنّه مجافٍ للروح العلميّة ومناهضٌ للتفكير العقليّ، نراه ينقد افتراءاتهم بأسلوبٍ هادئٍ يخلو تمامًا من العنف أو العصبيّة. يقول مبيّنًا علّة ظهور مثل هاتيك الكتابات المعادية للإسلام والمنافية لحقيقته: «إنّ الأوروبيّين معذورون في تصديق التّهم الموجّهة ضدّ الإسلام والمسلمين، ولهم الحقّ في العمل ضدّه ما داموا لا يرون أمام أعينهم من مظاهر الدين إلّا البدع التي اخترعها صغار العقول ونقلها منهم العامّة، وتتعدّد كثيرًا من أشكال هذه البدع مثل الصياح في الطرقات خلف الطبول وتحت الرايات، واقتراف أشدّ المنكرات المنافية للأدب والعقل في الموالد، والاجتماع في حلقات كبيرة على مرأى ومسمع من ألوف المتفرجين، والصياح الشديد بالذكر مع التمايل يمينًا ويسارًا إلى غير ذلك». وهنا تبدو عبقريّة وجدي، فلم يبدأ باتّهام مخالفيه بالجهل أو بالتعصّب، بل ردّ أحكامهم التي لا تخلو من الغلوّ إلى أفعال بعض المسلمين أنفسهم التي تنقل صورةً مشوّهةً عن الإسلام وتضع عقيدته وتعاليم رسوله في قفص الاتهام.

ويضيف أنّه على كلّ شرقيّ متنوّر واجبان: الأوّل: بيان حقيقة الإسلام للعالم أجمع، وأنّه فضلًا عن كونه بريئًا من الأضاليل التي ينسبها إليه بعض الكتبة ومنزّهًا عمّا يفعله العامّة على مرأى من المتفرّجين، فإنّه ناموس السعادة الحقيقيّة وملاك المدنيّة الصادقة. والثاني: أن يسعى عقلاء هذه الأمّة إلى محو البدع التي غصّ بها العالم الإسلاميّ، وصارت نقطةً سوداء في جبين الشرق، وموضع استهزاء كلّ من عنده مسحة من العقل، وهذا الواجب أصبح ضرورة في صلاح الأمّة ومن الواجب الأوّل[10].

ظلّ مفكّرنا طيلة حياته يحمل لواء المحافظين ويعتلي منبر الأزهريّين ويناظر المستشرقين بمنطق العلماء، ويساجل المجترئين بحجّة الفلاسفة والعقلاء، حيث أجمع معاصروه على أنّه فريد عصره في قدرته على التأليف بين الأضداد في سياق بديع مبتكر، فقد ربط بين الأصالة والمعاصرة وفضّ النّزاع بين الدين والعلم، وكشف عن عالم الروح وأكّد أنّ للحوار أخلاقًا وفنًّا، وأنّ للتناظر والتصاول أدابًا يجب الالتزام بها ودربةً ودرايةً ينبغي عدم إهمالها.

فقد نشأ مفكّرنا في الإسكندريّة في كنف أسرةٍ مصريّةٍ ترجع أصولها إلى أكابر العائلات الكرديّة أو الشركسيّة، وشبّ في بيت جمع بين رغد العيش، وثراء الثقافة والتربية دينيّة، وبين حسّ صوفيّ وحدس روحيّ، حفظ القرآن الكريم صغيرًا ثمّ ألحقه والده بالعديد من المدارس الابتدائيّة الخاصّة ـالعربيّة والأجنبيّةـ ليجمع في صغره بين الثقافتين الشرقيّة والغربيّة، وأتقن في صباه الفرنسيّة والتركيّة والتليد والنفيس من علوم اللغة العربيّة، وانتقل من الإسكندرية إلى دمياط وبعدها إلى السويس ثمّ إلى القاهرة (1892م) ليلتحق بالمدرسة التوفيقيّة، ومنها إلى مدرسة الحقوق، ثمّ رغب عنها وفضّل العمل في الصحافة.

وأدرك أنّ ميوله أقرب إلى الثقافة الموسوعيّة والدّراسات الفلسفيّة، تلك التي كانت ثمرة قراءته في مكتبة والده الزاخرة بمئات المؤلَّفات في شتّى دروب الثقافة العربيّة والتركيّة والفرنسيّة، ذلك فضلًا عن الجلسات الحواريّة التي كان يعقدها والده في دمياط لمناقشة قضايا الفكر والدين والسياسة مع أكابر أصحاب المنابر وقادة الرأي وأرباب الأقلام من المصريّين والعرب والأجانب.

الأمر الذي جعله يرغب عن الدروس المتخصّصة في حقل معرفيّ بعينه، فشرع يكتب في الفلسفة والعلم والأدب والتاريخ والشريعة ومقارنة الأديان، وعالم الروح، والسياسة الغربيّة، والمبادئ الشرعيّة الإسلاميّة والتصوّف، واشتهر بين معاصريه بالمحاور النابغة، وشهد شيوخُ عصره بنبوغه، وتنبّأ الكثيرون برفعة مكانته في الفكر الإسلاميّ بعامّة وميدان صحافة الرأي بخاصّة.
وقد عبّر عن ذلك بصرير قلمه الذي ردّدت أصداؤه العديد من الصحف والمجلات مثل: (اللواء، والمؤيّد، والأهرام، والمقتطف، والحديث، والهلال، والبلاغ).
وفي عام (1899م) أسّس «مجلّة الحياة»، وقد عبّر عن وجهتها ومقصدها منذ العدد الأوّل؛ إذ جاء فيه: «أنّ هدفها الأساسيّ هو توضيح أنّ الإسلام هو روح العمران، وتوأم سعادة الإنسان» ويمكن تحقيق ذلك بثلاثة محاور:

- أوّلها: تعريف الأوروبيّين بحقيقة الإسلام، وتوعية المسلمين بمحاسن الحضارة الغربيّة ومساوئها.
- ثانيها: الحدّ من التقليد الجاهل لخبائث ونقائص الثقافة الغربيّة، مثل تبنّي شبيبة المسلمين للمذاهب الغربيّة الهدّامة حتى أصبح الكثيرون ممن يزعمون المدنيّة زورًا يفتخرون بالتظاهر بالإلحاد على رؤوس الأشهاد، ظنًّا منهم أنّ ذلك غاية غايات التقدّم، قائلًا: «إنّ هذا الدرب من التقليد الكاذب هو الذي هدم ركن الفضائل الشرقيّة العليا من أفئدة شبّان المشرق وانتزع روح الكمالات الإسلاميّة من قلوبهم ألّا إنّ هذا هو السّيل الاجتماعيّ الذي أخذ يسري في جسم هيئتنا الاجتماعيّة حتّى يُخشى أن يتغلّب على سائر الأعضاء ولو بعد حين، فيكون سببًا رئيسيًّا في انقراضنا وتلاشينا، وليس تلاشي الأمم الضالّة عن الفضائل بالأمر البعيد».
- ثالثها: تقديم الأدلّة العلميّة والبراهين العقليّة على أنّ الديانة الإسلاميّة هي روح العمران وقوام سعادة الإنسان، وإثبات وجود الله تعالى والروح والآخرة بالأدلّة الدامغة المعتمدة على تحقيقات العلماء العصريّين، جريًا مع سنة الزمان مع تأييد أقاويلهم بالأدلّة الفلسفيّة الحسّيّة.

أمّا مؤلَّفاته -التي تجاوزت 21 مؤلَّفًا ومئات المقالات في مجلّة الحياة، الدستور، نور الإسلام والأزهر، المؤيّد، المعرفة، المقتطف، كلّ شيء، الهلال، الأهرام، الرسالة وغيرها من أكابر الصحف والمجلات- فقد جاءت ثمرة ناضجة لثقافة ذاتيّة واعية جمعت بين التليد والجديد والفلسفات الماديّة، والنزاعات الروحيّة، والنظريّات العلميّة، والمصنّفات الصوفيّة، والمناهج التربويّة وتواريخ الأمم، وآداب الشعوب الشرقيّة والغربيّة ودياناتها.

ومن أوائل كتابته كتاب «الفلسفة الحقّة في بدائع الأكوان (1896م)، وكتاب (المدنيّة والإسلام) عام 1898م، وكتاب «الحديقة الفكريّة في إثبات الله بالبراهين الطبيعيّة (1901م)».

وفي عام (1906م) رشّحه «مصطفى كامل (1874م-1908م)» لتمثيل مصر في مؤتمر مقارنة الأديان الذي دَعَتْ إليه الحكومة اليابانيّة بعد استقلالها عن روسيا، غير أنّه اعتذر، وذهب الشيخ «علي أحمد الجرجاوي (نحو ت1961م)» -عوضًا عنه- وذلك على نفقته الخاصّة وحضر أولى جلسات المؤتمر التي عُقدت في أوّل مارس من العام نفسه، أمّا «محمّد فريد وجدي» فقد ألَّف كتيِّبًا بالفرنسيّة بعنوان «رسالة سفير الإسلام» وأرسله إلى إدارة المؤتمر، ثمّ قام بترجمته لقرّاء العربيّة.

وفي (عام 1907م) أنشأ جريدة الدستور، وهي المدرسة الأولى التي اجتذبت شبيبة الصحفيّين، وكان ما يميّزها عن غيرها وجهتها الجامعة بين الرؤى المحافظة في الدين وبين المنهج العقليّ في نقد المعارف الوافدة، وكان مفكّرنا يحرّر معظم أبوابها.
أمّا وجهة المجلّة السياسيّة، فكانت أقرب إلى الحزب الوطنيّ، ويبدو ذلك في المعارك التي كانت تخوضها مع الأحزاب الأخرى مثل مجلّتي «الأمّة»، و»المؤيّد»، وفي عام (1909م) أغلقت المجلّة. [11]

ويحدّثنا عباس محمود العقاد عن أثر مدرسة جريدة الدستور في شبيبة المثقّفين المصريّين، مؤكِّدًا أنّ «محمّد فريد وجدي» لم يكن أستاذًا لصحافة الرأي فحسب، بل معلِّمًا أصيلًا للتفكير الناقد وأدب الاختلاف وفنّ التحاور وعقلانيّة التناظر، ولم تكن دروسه في هذا الميدان نظريّة أو خطابيّة، بل كانت ممارسة وتطبيقًا، ويشهد بذلك كلّ تلاميذه من كتّاب وخطباء وسياسيّين، ويقول: «وقد كنت يوم اشتغلت بتحرير الدستور كاتبًا ناشئًا، خامل الذكر، ليس لي بحقّ الشهرة أن يكون لي رأي مستقلّ مسموع، ولكنّي كنت أخالفه (أي وجدي) في بعض آرائه، بل في بعض مبادئه السياسيّة وبعض معتقداته عمّا وراء المادّة وتحضير الأرواح، وأشهر ما كان من ذلك حول موقف الحزب الوطنيّ من «سعد زغلول»، فلم يمنعني ذلك أن أنشر في الدستور ما يخالف هذا الموقف، وأن أحادث «سعد زغلول» حديثًا ينفي كلّ ما يعزوه إليه كُتّاب اللواء. وقد صارحته غاية الصراحة فيما كان يعتقده من تحضير الأرواح، وصارحني غاية الصراحة في أمر المتشابهات من العقائد والأحكام، فلا أذكر أنّني لمحت منه عند أشدّ المخالفة نظرة غير نظرته حيث تقترب الأفكار والآراء»[12].
أمّا عن أهداف جريدة الدستور، فيحدّثنا د/ غريب جمعة مبيّنًا أنّ رسالة مجلّة الدستور لم تكن بوقًا من أبواق الصحف الحزبيّة أو منبرًا يروّج لأيدولوجيّة بعينها، وإنّما هي صحيفة ثقافة وعلم، ولم تكن مقالات مؤسّسها تُعطي صورة السياسيّ المحترف بقدر ما تُعطي صورته الأصليّة أي: صورة الفيلسوف والمصلح الاجتماعيّ الذي يشغله بناء فكر الأمّة على نحو جديد يقوم على: العلم والدين والوطنيّة؛ لذلك كان موقف الرجل وصحيفته عجيبًا وغريبًا بين الجرائد والصحف في ذلك الوقت، وتحمل في سبيل مبادئه من الأثقال ما تنوء بحمله الجبال. وربما لم يعرف تاريخ الصحافة في مصر كاتبًا يؤْثِرُ الحقَّ على المنفعة الذاتيّة مهما كلّفه ذلك من تضحيات حتّى في أيّام العسرة التي مرّت بها الجريدة.

ومن الواقعات التي تؤكّد نزاهة المفكّر الصحفيّ والمعلّم صاحب القلم العفيف الجريء أنّ حدث ذات يوم أنّ «وجدي» كتب في جريدته مؤيّدًا لرأي السيّد/ محمّد توفيق البكريّ، نقيب الأشراف، خالف فيه الخديوي «عبّاس حلمي»، فقد عبّر الأوّل عن سروره بهذا التأييد وأرسل لوجدي وجريدته مساعدة ماليّة ضخمة، حيث كانت تعاني الجريدة آن ذاك من ضائقةٍ ماليّةٍ، فقام وجدي بردّها ولم يقبلها شاكرًا لصنيع صاحبها، وموضحًا أنّ قلمه ليس له ثمن وأنّ رأيه لا يقصد من ورائه إلّا الحقّ غير طامعٍ في مكافأة أو ساكتٍ عن أمر أو رأي يرفضه أو ينقده[13].

وخلال هذه الفترة، أرسل إليه حزب تركيا الفتاة عارضًا عليه تغيير شعار جريدته (لسان حالة الجامعة الإسلاميّة) إلى لسان حال حزب تركيا الفتاة؛ وذلك مقابل إنقاذه من الديون التي كادت تُكبّل جريدته وتعرّضها للإغلاق، فرفض مؤكّدًا أنّ شعار مجلّته يعبّر عن الرسالة التي تحملها أقلام محرّريها وأنّها ليست بطبيعة الحال خاضعة للمساومة، فكانت أزمة الأستاذ «وجدي» في مجال الصحافة أثرًا من آثار المبدأ الذي لا ينحرف الرجل عنه قيد شعرة، وهو الجهر بالرأي ولو خالف القوّة والكثرة. وخالف أحبّ الناس إليه، ولقد كان خلافه مع الحزب الوطنيّ سببًا رئيسًا في كساد صحيفته، فعجز عن النهوض بتكاليفها، ولم يقبل أن يعوّض الخسارة بمعونة مفروضة من جهات لا تتّفق مع عقيدته فأوقفها[14].

ثانيًا- منهج الوصول إلى الحقيقة واليقين
لم تكن صحافة الرأي هي الدّافع الأوّل لانتهاج «محمّد فريد وجدي» أسلوبَ التحاور والتناظر لتنبيه الأذهان وتقويم المفاهيم والدفاع عن قناعاته، وإثبات صحّة معارفه، فعلى الرغم من عشقه للعمل الصحفيّ وتفضيله مهنة تثقيف العقول على غيرها، فإنّ المحرّك الأوّل لشغفه للتحاور والتناظر هو تلك الأباليس الذهنيّة، والشياطين الفكريّة التي راحت تشكّكه وهو في سنّ الشباب في كلّ ما حصّله من معارف على يد أساتذته بالمدارس أو ما حفظه من شيوخه وأقاربه من نصائح وحكم، وذلك عقب التحاقه بالمدارس النظاميّة التي رغب عن مناهجها التلقينيّة؛ ففي الثالثة عشرة من عمره انتابته بعض الأفكار التي أدّت به إلى الشكّ في العقيدة، وقد اهتدى إلى أنّ معالجة مثل هذه الجراثيم الإدراكيّة التي تلحق بالذهن المتطلّع لإدراك اليقين يجب أن يكون ذاتيًّا عن طريق الاطلاع والتوسّع في معرفة كلّ ما يحيط بالمسألة التي تسلّل إليها شكّه وارتيابه بعين الناقد المحلّل؛ فوجد في كتب الفلسفة والتاريخ والدين والعلم والاجتماع ضالّته فتعافى من مرضه؛ فذهب إلى الإيمان وهو مسلّح بالبرهان العقليّ اليقينيّ الذي عصمه بعد ذلك من الجنوح والشطط والإلحاد والتبعيّة، ويقول في ذلك: «وقد أفادني هذا الشكّ استقلالًا في الفكر، واعتمادًا على النفس ورغبة في استيعاب ما يقع بيدي من الكتب على اختلاف أنواعها بصبر وجلد، كما أفادني في البحث، حتى أزال الشكّ عنّي، وارتاحت نفسي إلى عقيدة ثابتة».

وقد مارس وجدي في شبابه التفكير الناقد والتعليم الذاتيّ، ويبدو ذلك في اعتماده على نفسه لمعالجة شكوكه –كما بيّنا-، خوفًا من وقوعه في مستنقع التحزّب والتقليد والتطرّف، وكان مؤمنًا بأنّ الحقّ والصواب يجب أن يقصدهما العقل بإرادة حرّة واعية دون أدنى اعتماد على تحريض الأغيار أو نصح الموجّهين، «لا يُعرف الحقّ بالرجال ولكن يُعرف الرجال بالحقّ»؛ وكأنّه «ديكارت» يضع كفّه على فوّهة سلّته حريصًا ألّا يدخل بها إلّا السليم والناضج من التفاح، وقد مكّنه هذا النهج من التحاور مع الأغيار من أهل الدربة والدراية، فيختبر علمهم وينتفع بما يفتقر إليه منه، ويجادل كذلك المتعالمين ومدّعي الثقافة، فيتعرّف على أضاليلهم وأكاذيبهم وتلفيقاتهم، وكان لا يخجل من التصاول معهم ومواجهتهم، متّخذًا من عدّته المعرفيّة وأسلحته المنطقيّة آليّات للدفاع عن قناعاته، وذلك مع التزامه الشديد بآداب الجدل وأخلاقيّات التناظر. ويحدّثنا عن ذلك تلميذه محمّد طه الحاجري: «وإذا هو في مجلس حافل بالشيوخ من علماء هذه المدينة (أي مدينة دمياط) يتحدّثون. وتُعرض بعض مسائل الدين فيتناقشون فيها ويتناظرون، وإذا هو يسمع أشياء لا يستسيغها، وإذا بأسلوب في التفكير والتقرير ينكره عقله، ويأباه العلم الذي يمثُل له فيما قرأ من دراسات في «الكون والخلق» وانطبع بها تفكيره، وإذا هو يرى نفسه مدفوعًا إلى مناقشاتهم والإدلاء برأيه في هذه المسائل التي تتعلّق بالكون والخلق، ولكنّه لا يكاد يُهمّ بالمناقشة حتى يحسّ أبوه بالحرج فيصرفه عنها، ويأمره ألّا يخوض في المسائل الدينيّة التي لا شأن له بها، ولا قدرة له عليها. ويكبر هذا الموقف من الأب في نفس الفتى المعتزّ برأيه وتفكيره ويرى فيه «حَجْرًا على العقل بلا مُسوّغ». وتمثُل أمامه أقوال هؤلاء الشيوخ وآراؤهم في الدين، فإذا هو يردّد بينه وبين نفسه: إذا كان الدين هو ما تعرضه أقوالهم فهو باطل، وإذا لم يكن ذلك هو الدين، فما هو إذن؟. وبذلك يرى الشابّ نفسه مدفوعًا إلى التماس الدين في كتبه ومصادره، وقد تبيّن له عقم الكتب التي صدر عنها وسايرها هؤلاء الشيوخ في تمثيلهم للدين، وفي تفكيرهم العقديّ. ويدفعه ذلك إلى عدم الوقوف عندها والاكتفاء بها، وإنّما يتجاوزها إلى غيرها، فيمضي بقراءاته الدينيّة في كلّ مجال، ويلتمس الحقيقة الدينيّة في كلّ سبيل». ولم تقف رغبة «وجدي» في محاورة بني جلدته حول قضايا العقل والنقل والدين والعلم والإسلام والمدنيّة، بل امتدّ بصره إلى أبعد من ذلك. وقد وجد أنّ معظم الكتابات المغرضة الرامية إلى تيئيس شبيبة المسلمين من إحياء تراثهم التليد وتجديد مذاهبه واللحاق بركب الحضارة الأوروبيّة هو كتابات غلاة المستشرقين وتجّار الكلمة من الدوائر البحثيّة التي يُجيّشها المحتلّون للبلدان الإسلاميّة لتضليل أهلها وإحباط مساعيهم النهضويّة، وقد شرع في محاورة هؤلاء جميعًا والتساجل معهم بلغتهم بمنأى عن التهوين والتهويل من شرّ كتاباتهم، ويحدّثنا «محمّد رشيد رضا»، فيروى لنا أنّه قد التقى بمحمّد فريد وجدي أثناء زيارته لدمياط عقب مجيئه من بلاد الشام للإقامة في مصر، فروى أنّه قد التقى بمثقّف بحَّاثة واعٍ غيور على الإسلام غيرته على  وطنه مصر، وأنّه قد ألّف كتابًا يزوّد فيه عن حقائق الإسلام التي أراد المحتلّون تضليلها، وذلك في كتاب بعنوان «الفلسفة الحقّة في بدائع الأكوان»، وأنّ وجدي قد عدَّ العُدّة لمخاطبة المفكّرين الفرنسيّين لتبصيرهم بحقيقة الإسلام، وذلك بأسلوبٍ جدليّ يذهب فيه بذكر الأغاليط والأخطاء والجهالات التي ذاعت في الفكر الأوروبيّ، ثمّ يقوم بتفنيدها والردّ عليها بمنحًى عقليٍّ تحليليٍّ، وذلك عقب نقد المسائل المختلف عليها بنهجٍ ديكارتيّ يهدف لهداية الذهن إلى الحقائق، مستبعدًا كلّ غامض وكاذب ومضلّل؛ ومما جاء في رسالة وجدي إلى رشيد رضا هذا التصريح الذي يؤكّد أصالة فلسفة الحوار في مشروعه التجديديّ، فيقول: «إنّني ألَّفت قبل بضعة أشهر كتابًا باللغة الفرنساويّة، أثبتّ فيه بالبراهين العصريّة، وبالاستناد إلى أقاويل أساطين فلسفة زماننا الحاضر أنّ المدنيّة الحقّة والإسلام هما أخوان توأمان لا يفترقان، وبعثت بالكتاب ليُطبع في باريس»؛ أمّا كتابه «الفلسفة الحقّة في بدائع الأكون» –الذي أهداه لرشيد رضا وحكى لعبد القادر المغربيّ عنه- فكان دربًا آخر من دروب فلسفة الحوار، ويمثّل حوار الأنا مع الذات (الأنا المتأمّل للكون من حولها)، يتحاور مع الذات العارفة المتطلِّعة لإدراك الحقيقة، سائلًا إيّاها عن الأصل والعلّة الفاعلة والعلّة الغائيّة؛ ثمّ ينتقل إلى التهكّم على أولئك المعنيّين من علماء الدين بدراسة علاقة الله بالكون والإبداع في خلق الموجودات، وقدرة الباري التي لا حدّ لها في الفنّ والتصوير والإيجاد من عدم، شاكيًا تقاعسهم وقعودهم عن التفكير في مخلوقات الله على الرغم من أنّ هذا الأمر قد حثّ عليه الشرع وأضحى واجبًا عليهم في غير موضع من كتابه الشريف ليتدبّر المؤمنون عظمة الباري في خلقه، ويقول في ذلك: «فهؤلاء العلماء هم أكثر الناس لذّة، وأوفرهم حظًا، وأغزرهم عقلًا، وأفضلهم نبلًا. يرى الواحد منهم النملة سائرة على أديم الأرض، فيكون نظره إليها وهي دائبة لتصل إلى وكرها حاملة لغنيمتها ألذّ له من اجتلاء خطرات الغادات في الخمائل النضرات، وإن سمع زمجرة الرعد وقواصف الرياح يهتزّ لحكمتها طربًا، ولا طربة من سماع رنّات العيدان بين الكاسات والندمان. فإن خيّرتَ أحدهم بين نواله ملء الأرض ذهبًا مع صيرورته من ذوي العقول الساذجة، وبين بقائه على حالته مع الفقر المدقع، لرضي بالثاني رضًى لا يشوبه ندم ولا يصحبه سدم مع هربه من الأوّل، ولا هربه من المصاب بالتيفوس. فهو في حالة لا يعلم قدرها إلّا هو ومن على شكله وشاكلته «يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤتَ الحكمةَ فقد أوتيَ خيرًا كثيرًا، وما يذّكر إلّا أولوا الألباب»[15].

ثالثًا- نقد افتراءات المستشرقين للإسلام
لقد تحدّثنا في الصفحات السابقة عن سمات وخصائص ومقاصد التجديد في مشروع محمّد فريد وجدي ذلك الذي اتخذ من فلسفة الحوار آليّة لتقويم المفاهيم وتصحيح الأغاليط وكشف الأكاذيب التي كانت تتعمّد تضليل الأذهان والتشكيك في المعتقدات وإدّعاء الأباطيل التي تعمل على تضليل العقل الجمعيّ وتشويه الإسلام والحطّ من حضارة المسلمين، وتسفيه دورهم في تقدّم الثقافة الإنسانيّة، وتحديث العلوم والتخطيط العمرانيّ للمدنيّة، وتحديد المبادئ والقيم الأخلاقيّة والروحيّة التي تمكّن البشريّة من العيش في عالم تحكمه العدالة والحبّ والتسامح والسلام، الأمر الذي لا تجحده إلّا الأقلام الجائرة والنّفوس الحاقدة والعقول الجاهلة بحقيقة الرسالة المحمّديّة.

وقد انتهج وجدي -كما ذكرنا- أسلوب ومنهج التثاقف والتناظر والتساجل والجدل العقليّ للردّ على غُلاة المستشرقين من جهة، والمفكّرين الجانحين المتأثّرين بالفلسفات الغربيّة من جهة أخرى، تلك التي روّج لها الباحثون العرب المسلمون، وسوف نتحدّث في السطور التالية عن بعض النماذج من محاورات وجدي لإثبات أنّه كان فريد عصره ورائدًا من روّاد زمانه في تجديد فلسفة الحوار وتأصيل منهجها وآدابها وتطبيق أخلاقيّاتها، ذلك على الرغم من انضوائه تحت لواء الاتجاه المحافظ واعتلاء منبر الأزهريّين والتحدّث بلسانهم آنذاك.

فها هو يقوم بالرّدّ على المستشرق الأميركيّ فرانك هـ .فوستر، الذي نشر في مجلّة العالم الإسلاميّ الأميركيّة ما يشكّك في مصداقيّة النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدق رسالته، وجاءت مقالة محمّد فريد وجدي في مجلّة الأزهر في المجلّد السابع بتاريخ 1355هـ ( 1936م ) ردًّا على نقوده ومزاعمه بأسلوبٍ علميٍّ، متّبعًا قواعد منهج التساجل الذي يلتزم بالموضوعيّة والأمانة العلميّة في نقل ادّعاء المساجل المخالف، ثمّ يقوم بتفنيد ونقد الادّعاءات والبرهنة على فساد الأسانيد التي يعتمد عليها الخصم، وذلك بعد التأكّد من صدق وصحّة مصدره والالتزام بحرفيّة أقواله وتوثيقها.

بيّن وجدي أنّ مستر «فرانك هـ . فوستر» قد صرّح في مقدّمة مقاله أنّه لا يعتمد على كتب السيرة لإثبات نبوّة «محمّد»(صلى الله عليه وآله وسلم)؛ وذلك لأنّه يشكّ فيها مجتمعةً، وأنّ مصدره فيما يدّعي هو القرآن فقط، وذلك لأنّه لم يصبه ما أصاب كتب السيرة والأحاديث من عبث المؤرّخين عبر العصور.
فجاء على لسان كاتب المقال: (إنّ الخبر الوحيد الذي وصلنا عن تاريخ  حياة محمّد –ونثق فيه- هو ما ورد في القرآن، وإنّ القصص والأحداث التي وهي وإن كانت غير مستوعبة لجميع ما تجب معرفته عنه فقد جمعت الكثير من حوادثه. والقرآن هو المصدر الوحيد الذي يصحّ الاعتماد عليه فيما نحن بصدده. أمّا التواريخ العديدة التي كُتبت بعده بقرون كثيرة بأقلام كُتّاب متحيّزين فليست لها قيمة في نظرنا) .

فادّعى الكاتب بعد ذلك أنّ القرآن قد أشار إلى أنّ «محمّدًا» قد زعم بأنّ الوحي يأتيه من السماء، فكذّبه قومه لعدم قناعتهم بشخصيّته التي لا تمتاز عن غيرها بشيء يرفعها إلى درجة ما يدّعيه، أمّا خبر ذلك النبيّ فلم يذكر عنه القرآن شيء من حيث نسبه وولادته وصباه، أمّا لقبه بأنّه نبيّ أُمّيّ فيخضع للشكّ؛ وذلك لأنّه كان من الواجب عليه قراءة ومراجعة ما يلقيه إلى قومه من تعاليم وأخبار وعقائد ومبادئ، ورغم ذلك لا يمكن إدراجه ضمن أدباء وعلماء عصره لأنّ أسلوب القرآن يختلف عن أساليبهم، أمّا حسبه ونسبه وعمله في التجارة وأسفاره واتصاله باليهود والنصاري فهناك إشارات تُنبّئ عنها.

أمّا وجدي، فبدأ بنقد الحُجّة الرئيسيّة التي بنى عليها خصمه ادّعاءه واستنتاجاته، ألا وهي (كذب النبيّ) واتهامه بلا دليل بأنّه قد ادّعى النبوّة.

ويقول وجدي في ذلك لا يدهشنا أن يكون في الناس من لا يزال يكذّب برسالة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن يدهشنا أن نقرأ عن رجال يُنزلون أنفسهم منازل الهداة والمرشدين أنّهم يعتدون على أبسط قواعد الدستور العلميّ في بحوث فلسفيّة على أعظم جانب من الخطورة. ذلك أنّ المستر «فرانك» يخوض في نفسيّة أعظم رجل في التاريخ بشهادة الأجانب أنفسهم، معتمدًا على أصل اعتقاديّ موروث، وهو أنّه كان نبيًّا كاذبًا، ولكن هذا الأصل الموروث لا يَصلُح أن يكون أساسًا لبحثٍ فلسفيٍّ خطير كالذي هو بصدده، فقد كان يجب عليه أوّلًا أن يُقيم الدليل القاطع على أنّ الرسول كان كاذبًا في ادّعائه النبوّة، فإن نجح في ذلك من طريق علميّ مستقلّ لا أثر للوراثة الاعتقاديّة فيه، ساغ له أن يبحث في نفسيّته من ذلك الطريق العلميّ نفسه، أمّا وهو لم يفعل، فقد ارتكب خطًأ فادحًا، وصار كلّ ما قاله بعد ذلك في عرف المعاصرين مبنيًّا على عقيدة فاسدة سابقة، وإنّي سأبيّن في هذه العجالة جميع ما وضّحت في تلك العقيدة من المضال.

وحريّ بنا ملاحظة تلك الأناة والتسامح والعقلانيّة في هذا الردّ من جهة، ومدى التزام وجدي بقواعد التساجل في العرض والنقد والجدل، فلم نجد أيّ إشارة بالحمق من قبله أو اتهام الخصم بالكفر أو التهديد والوعيد والانتقام أو الحطّ من قيمة المُناظر أو الاستخفاف برأيه، وغير ذلك من الآفات والمعايب التي ما زلنا نقرأها ونسمعها في المساجلات منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وخليقٌ بنا إدراك مدى رُقيّ أسلوب وجدي في التخاطب وإقراره بحريّة الآخرين في الاختلاف والشكّ في المعارف حتى في الكتب المقدّسة بشرط تقديم الدليل العلميّ فحسب.

يتراءى لي أنّه كان لزامًا على محمّد فريد وجدي تفعيل نهج ما نطلق عليه اليوم (بنقد النقد)، ويتمثّل ذلك في نقد حجّة الخصم التي يسلّم بصحّتها، وبنى عليها ادعاءه، ألَا وهي زعمه بأنّ القرآن وحده هو المصدر الذي يثق فيه –باعتباره نصًّا صادقًا- فإنّنا نردّ عليه إذا كان الأمر كذلك، فيجب أن نسلّم بأنّ القرآن قد أتى على يد النبيّ الخاتم، ومن ثم فاتّهام النبي بالكذب يتناقض مع الثقة في ما جاء به النبيّ نفسه من اتّهامه بالكذب، ومن ثم نضع المدّعي بين كفّي الرحى إمّا أن نثبت بأنّ حديثه لا يخلو من الاضطراب الداخليّ والتناقض الظاهريّ أو يجب عليه أن يسلّم بكذب كلّ ما ادّعاه والإقرار بصدق النبيّ، ويصبح حديثه بذلك إشكاليّة تحتاج إلي مراجعةٍ لتقويم مضمونها.

ويضيف وجدي أنّ خصمه قد توقّف عند واقعة أنّ قوم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد كذّبوه ولم يبرّر تكاثر المؤمنين به بعد ذلك، رغم إجماع شيوخ عصر الرسول بأنّه كان لا يهذي ولا يكذب. وإنّ خصمه لم يتطرّق أيضًا الى حُجّيّة إنكار أمّيّة النبي وقدّر تأثّره بكتب اليهود والنصارى التي ادّعي بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد اطّلع عليها، ويقول وجدي في ذلك: (هذا طراز طريف في بحث النبوّات ولكنّها طرافه لا يُغبط عليها المستر فرانك بأنّ القرآن قُدّم إلى الناس باعتبار أنّه كتاب جامع لتعاليم الإسلام، لا باعتبار أنّه كتاب تاريخ لحياة محمّد، حتى يسوّغ للمستر فرانك أن يحصي عليه إغفالات ليست من موضوعه، وإذا كان القرآن لم يذكر تفصيل حياة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهل ذكر موسى(عليه السلام) تفصيل تاريخه في توراته غير ما كتبه خلفاؤه بعد وفاته؟ وهل ذكر عيسى(عليه السلام) مثل ذلك في كلّ ما قاله لبني إسرائيل من تعاليمه؟ وهل يستطيع المستر فرانك أن يأتينا بكتاب دينيّ واحد يذكر حياة الرسول الذي جاء به بتفصيل يوفي بشروطه؟ وإذا كان هذا لا وجود له، فكيف يطالب به القرآن الكريم ويسجّل عليه خلوَّه منه؟

يمضي «وجدي» فى دفاعه مثبتًا تهافت ادّعاءات خصمه مبيّنًا أنّ المنطق العقليّ يقضي بأنّ القول بصدق الكلّ يقتضي صدق جميع الأجزاء المدرجة تحت هذا الكلّ، فإذا سلّمنا جدلًا بأنّ نبوّة «محمّد» كاذبة، فهذا يقتضي بالضرورة أنّ الكتاب الذي أتى به كاذب، ولمّا كان القرآن – أي الكتاب الذي أتى به «محمّد» – هو مصدّق ولا يمكن الشكّ في صدقه عند المناظر، وصفة الأمّيّة وردت في هذا القرآن، فكان لازمًا على مستر «فرانك فوستر» أن يصدّقها أيضًا مع اعترافه باضطراب الزعم أو الادّعاء. أضف إلى ذلك أنّ أمّيّة «محمّد» التى وردت فيه لا سبيل للشكّ فيها؛ لأنّها كانت موضع تحدٍّ وحجّة على قومه الذين شهدوا جميعًا بإعجاز القرآن مع تأكّدهم من عدم دراية محمّد لما أورده – مسبقًا- من آيات وأحكام وأخبار ونبوءات، ويكشف ذلك عن ضعف حجّة مستر «فرانك». كما أنّ الوقائع والأحداث المواكبة لنزول القرآن تؤكّد أمّيّة النبيّ وعدم درايته قبل البعثة بما حوى القرآن. 

ويقول وجدي في ذلك: أمّا التشكيك في أمّيّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فمحاولة محكوم عليها بالفشل من أوّل صدمة، لأنّ هذه الأمّيّة كانت إحدى الآيات التي تحدّى الله بها الشاكّين في صدق نبوّته، فلو كان غير أمّيّ في الواقع؛ لأصبح تأثيرها معكوسًا كما هو الحال في كلّ معلوم يتحدّى الناس بضدّه، هب أنّ «محمّدًا» كان قارئًا وكاتبًا، أفكان بهذه الميزة وحدها يرتفع عن مستوى معاصريه فيأتي بكتاب يعتبرونه معجزة، ويصلح أن يكون دستورًا لمُلك لا تغرب عن ولاياته الشمس قرونًا كثيرة، وأساسًا لتطوّرات اجتماعيّة ومدنيّة للشعوب الآخذه به توصلهم إلى زعامة العالم كلّه فى العلم والفلسفة والفنون والصنائع والسياسة فى سنين قليلة؟ هذه أعمال لا أقول إنّها تشرّف متخرّجًا في أكبر جامعة علميّة، ولكنّني أقول إنّها أعجزت جميع عباقرة العالم مجتمعين، ولكن المستر فرانك يتجاهل كلّ هذه الحوادث التي لا يوجد في تاريخ البشر ما يماثلها.

ويضيف وجدي أنّ سيرة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت معروفةً لجميع معاصريه، ولا سيما عشيرته التي سابقت في تصديقه، فلو كان مدّعيًا ما آمن به أحدهم، وأنّ خصومه لم يتّهموه بأنّ القرآن من تأليفه أو أنّه قد نقله من مصدر أخر مثل الكهنة أو الأحبار؛ لأنّ منهم من آمن ببعثته وبصدق نبوّته وبإعجاز رسالته، كما أنّ خصوم النبيَّيْنِ «موسى وعيسى» لم يُنكرا نبوّتهما لأنّهما يقرآن ويكتبان، كما أنّ سعة اطّلاع «محمّد» ودرايته بأخبار الأوائل والأمم الغابرة، فهو مجرد ادّعاء لم يأتِ على لسان «محمّد» الذي أكّد في غير موضع من القرآن أنّ ما يأتي به هو من عند الله، في حين أنّ معاصريه من العلماء والحكماء كانوا يتباهون بعبقريّتهم وعِظَمَ معارفهم ليعلوا شأنهم بين الناس.

 أضف إلى ذلك كلّه أنّ الحكمة الربّانيّة التي أتى بها القرآن لم يفلح أحد من الفلاسفة الأقدمين والمحدثين منهم في محاكاتها أو الدنوّ منها أو إثبات خطئها، وبالتالي فعلى مستر فرانك فوستر أن يسلّم بأحد الأمرين: أوّلهما أنّ «محمدًا» أعظم فلاسفة البشريّة على الإطلاق، وأنّ حكمته تفوق كلّ العقول، أو التسليم بأنّ محمدًا لم يكن سوى رسول حامل لكلام الله وشريعته. وعليه تنتفي تهمة الكذب التي رُمي بها، فالافتراض الأوّل غير معقول ويستحيل البرهنة عليه؛ وذلك لأنّ «محمدًا» نفسه لم يدّع بأنّه حكيمٌ أو عالمٌ ولم ينقل خصومه قبل مؤيّديه ذلك عنه، أمّا الافتراض الثاني فيهدم ادّعاء مستر «فرانك» برمته؛ لأنّه يثبت صدق النبيّ لا العكس.

ويشهد المستشرقون الغربيّون الذين درسوا القرآن في ضوء الفلسفة الحديثة، أنّ آياته لم تغادر صغيرة ولا كبيرة، مما يقوّم عوج النفوس ويعدل أود العقول، ويوقظ أشرف غرائز الشخصيّة الإنسانيّة ويدفعها في طريق السمو الروحانيّ إلّا أحصاها على أكمل الوجوه ورسم لها أقوم الطرق متحيّزًا لها أقرب الوسائل، وقد اتّضح أنّ كلّ ما جاء به كبار العباقرة من المبادئ النبيلة وما قرّره المصلحون من الأسس الركينة، والقواعد المكينة للاجتماع والسياسة والشريعة، قد سبقهم القرآن إليها في بيان لا يدع محلًّا للتردّد ولا موضوعًا للتشكّك، وقد حفيت أقلامنا في سرد هذه الآيات الكبرى وتطبيقها على الحوادث ولم نفرغ بعد منها ولم نبلغ مرامها، وقد شهد بهذا كلّه رجال ليسوا من أهل هذه الملّة لا يُحصَون كثرة من أمثال «جوتة» الألمانيّ، و»لامارتين» الفرنسيّ، و»برنارد شو» الإنجليزيّ، وليس في هؤلاء عبقريّ ملأت الأرض شهرته وعمّت الأقطار فلسفته، إلّا وشهد بعظمة النبيّ الخاتم.

كما ذهب «وجدي» إلى أنّ الموضوعات التي عالجها القرآن ووقف منها موقف المقوّم والمصحّح لا تختصّ بموضع بعينه أو مجال واحد، ومن ثَمّ لا يجوز أن تُنسب تلك الحكمة لعقليّة واحدة مهما بلغت من عبقريّة.

كما أنّ التعاليم القرآنيّة في ميدان التربية والأخلاق قد ثبتت صحّتها ونفعها وصلاحيّتها في ميدان التطبيق رغم تباعد الأزمنة وتباين الثقافات، وليس أدلّ على ذلك من قدرة هذه التعاليم من استحالة القبائل العربيّة المتناحرة والأمم المغلوبة على أمرها، والنفوس اليائسة والعقول الخاملة إلى مجتمع راقٍ تحكمه مكارم الأخلاق، وحضارة رائعة تحترم العلم والعلماء تؤمن بحرّيّة الاعتقاد والتفكير وتدعو للسلم والتعاون بين البشر، في زمن كانت تعاني أوروبا فيه من القهر والظلم والجهل والعنف. ويمكننا أن نقف مما أوردناه من ردود فريد وجدى على أمور عدّة، أهمّها: عزوفه عن الاستشهاد والاحتجاج بآيات قرآنيّة أو بأحاديث تراثيّة تكون محلّ نزاع مع خصمه، أي أنّه لم يحتجّ بالمنقول على صدق ردوده، بل كان يحتجّ بالاستنباط المنطقيّ والاستدلال العقليّ والاستقراء الموضوعيّ كما أنّ استشهاداته جاءت على لسان غير المسلمين من أقوال الفلاسفة الذين اطلعوا على القرآن ونقدوه نقدًا علميًّا لا ينبئ عن التعصّب أو التبعيّة في الحكم، ذلك فضلًا عن خلوّ حديثه من أيّ مظهر من مظاهر التهوين أو الاستخفاف برأي خصمه.
ويستكمل وجدي ردوده فيكشف عن افتعال مستر «فرانك» القضايا وإثارة المشكلات وذلك بحديثه عن تصريحات الآيات القرآنيّة بأنّ «محمدًا» كان يشكو من جحود قومه وعدائهم له واستنكار أقربائه لأقواله وأفعاله، فذهب وجدي إلى أنّ ازدراء الأنبياء من قبل أقوامهم من المظاهر العامّة والواقعات التي سجّلتها إصحاحات التوراة والأناجيل.

أمّا حديث فرانك عن عدم ذكر القرآن نَسَبَ «محمّد» ولا عدد زوجاته وأسمائهنّ، فيردّ «وجدي» على ذلك بأنّ القرآن ليس كتابًا شخصيًّا أو قصّة لسيرة ذاتيّة ليقضي بمثل هذه الأمور، ويقول إنّ هذا الإغفال إنْ اعتُبِرَ عيبًا، فهو كذلك بالنسبة لكتاب وضعه صاحبه لبيان تاريخه الشخصيّ، ولكنّها لا تعيب كتبًا وُضعت للناس كافة كما قدّمنا، أفلا تعجب من إلحاح مستر «فرانك» عليها، حتى جعلها موضوع فصله الأوّل كلّه!

ذلك كان نموذجًا من تحاور وجدي مع أحد غلاة المستشرقين، ولعلّ ما أوردناه لا يكشف عن قدرة «وجدي» على تطبيق آليّات فلسفة الحوار ومناهجها النقديّة فحسب، بل يشير أيضًا إلى قدرته على استنباط الحجج، والإتيان بالبراهين العقليّة، والدفع بالأسانيد الاستقرائيّة القادرة بذاتها على تقييد مزاعم المستشرق «فرانك»، الذي دفعه تعصّبه إلى حشد تلك الأباطيل التي طالما أوردها الكثير من المستشرقين الناقدين على الإسلام وحضارته بعامّة، وشخصّية «محمّد» على وجه الخصوص.

وحسبنا أن نشير إلى أن «وجدي» قد توسّع واستفاض بالردّ على معظم الطاعنين في الرسالة المحمّديّة من الغلاة والمتعصّبين قدماء ومحدَثين وذلك في كتابه « السيرة المحمّديّة « الذي نشره منجّمًا في صورة مقالات على صفحات «مجلّة الأزهر» في سبع سنوات بداية من عام (1938م) حتى المجلّد السابع عشر (1945م)، وقد برّر اهتمامه بالردّ على الطاعنين في السيرة النبويّة من غلاة المستشرقين الغربيّين وبعض الملحدين الشرقيّين بأنّهم قد عجزوا عن استقصاء الحقائق من بين الكتابات الموروثة.

وأنّه يعتقد أنّ إهمال الردّ على مزاعم المستشرقين ومن نحا نحوهم يؤثّر على إيمان الشبيبة المسلمة بصدق نبوّة خاتم المرسلين.

ويقول «وجدي» إنّ مثقّفي اليوم لم يعودوا يقنعون بسرد الأحداث التاريخيّة دون تعليل، ولا يكتفون بالتسليم بحدوث النبوّة دون أن يبحثوا الأحداث التاريخيّة المصاحبة لظهورها، ولا يكتفون بالتسليم بصدق النبوّة دون أن يبحثوا ماهيّتها أهي حاجة من حاجات الروح الإنسانيّة؟ أم هي مجرّد ظواهر اجتماعيّة تولِّدها ضرورة الاجتماع مثل ظواهر الارتقاء في الحياة الإنسانيّة والوحي الذي تعتمد عليه النبوّة؟ كيف يؤمن به المعاصرون دون دليل معاصر يقدّمه الكاتب محسوسًا ملموسًا لا تمتري فيه العقول؟ فالزمن زمن التنقيب الفاحص ولا بدّ للسيرة أن تُعرَض في لون فكريٍّ يرضي كلّ متعطّش للمعرفة، ويقنع من يمتري في الحقّ لشكوك تكون في نفسه، فكلّ قول لا يؤيّده العلم الحقيقيّ هو خيالات لدى مفكّري اليوم، فوجب أن تُدرس السيرة تحت ضوء العلم[16].

ويتّضح ممّا تقدّم حرص «وجدي» على حقوق الخصم في رفض الفكر السائد والحجج التي يؤمن بها العوام، باعتبارها براهين موروثة لا يجوز الارتياب في قداستها. فالواضح أنّ مفكّرنا كان منتصرًا إلى رؤية المعاصرين ومطالبتهم بحجج عقليّة يقبلها العقل ولا تتناقض مع التجارب العلميّة، ولعلّ ذلك النهي الذي تميّز به وجدي لا نجد له نظيرًا إلّا في تلاميذ «محمّد عبده» الذين اعتمدوا في جلّ محاوراتهم وردودهم ومثاقفتهم على الحجج المنطقيّة العقليّة والنظريّات العلميّة التي ثبتت صحّتها، أمّا أقرانهم من معظم مشايخ الأزهر، مثل الشيخ «عيسى منون» ومَنْ سار على دربه من المحافظين فزادوا عن أفكارهم ضدّ خصومهم -المنكرين للموروث من الأفكار، بل والنصوص المقدّسة - أيضًا- بالاحتكام بالنصّ والمأثور من كلام الأقدمين والشروح والحواشي والتفسيرات والآراء الفقهيّة وغير ذلك من بضاعتهم التراثيّة وخطبهم الحماسيّة المفعمة بالعبارات البلاغيّة واللعن والسخط على مخالفيهم. ومن المؤسف أن نجدَ في زمننا هذا عصبة غير قليلة من المتثاقفين تقود المشهد وتُجري الحوارات الزائفة الشاغرة من العلم والخالية من القدرة على المحاججة والعاجزة عن بناء الأنساق النقديّة.

فعلى سبيل المثال، نجد من يمثّلون الآراء الحرّة والفكر الناقد ودعاة التجديد يقتفون أثر غلاة المستشرقين، وما ساقه الملحدون من طعون وشكوك وانتقادات، والغريب أنّهم يتحدّثون بعصبيّة وحماسة مفتعلة دفاعًا عن هذه الآراء وتلك المزاعم وكأنهم أربابها، في حين قام روّاد القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين من المجدّدين الحقيقيّين بالرّد عليها في كتابات مطوّلة. والمثير للدهشة أيضًا أن تجد بعضهم أعني شبيبة النقّاد المعاصرين يجهلون تمامًا تلك المناظرات التي سجّلتها الصحف والكتب ذات الصلة، ولا يفرّقون بين التحديث والتجديد، والتقليد في المذهب وانتهاج المنهج. ويخدعون الرأي العام بأنّهم أصحاب خطاباتٍ معاصرةٍ وإبداعات ثائرة. وعلى الجانب الآخر نجد من يجلس على رأس المآدب العلميّة ويقف على سلّم المنابر التوجيهيّة ساخطًا ومستهزئًا بالنقود التي تجري على ألسنة الشباب لكتاباتهم ومناهجهم الدراسيّة وفتاويهم المسيّسة ومنتدياتهم التي لا تخلو من التعصّب والتطرّف والعنف، دون ردود مقنعة سوى عبارات القدح والذمّ والشتم والحطّ من قدر الخصم وغير ذلك من مثالب تؤكّد جهلهم بحقيقة ما يدافعون عنه، وعجزهم عن التحاور والجدل، إضافة إلى ذلك كلّه ترديد المتناظرين لمصطلح قطعيّ فاشيّ إطاحيّ هو (قول واحد).

لذلك كلّه، قد تعمّدت الإكثار من النّصوص الحرفيّة التي تصوّر وقائع التحاور بين المتناظرين، وغايتي من ذلك أن يشاركنا القارئ في تلك القراءة الحرّة لكتابات وجدي والحكم عليها، راجيًا أن يعلّم ذلك المتنفَّس الصحّيّ الذي دارت فيه تلك المجادلات والمناظرات جيلنا الحالي فنّ التناظر وأدبه وأخلاقيّاته وكيفيّة صياغة النقود ومهارة المحاججة وتضمينها في الردود.

رابعًا- أهمّ حوارات وجدي مع الكتّاب الغربيّين
حريّ بنا أن نُشير في عجالةٍ لأهمّ المثقاقفات التي أجراها وجدي مع الكتّاب الغربيّين الذين اجترأوا على الحضارة الإسلاميّة وطعنوا في الدين الإسلاميّ، واتّهموا المسلمين والعقليّة العربيّة بوجه عامّ بما ليس فيها. أضف إلى ذلك محاججته للفلاسفة الماديّين والمتفلسفة الملحدين والكتّاب المتعصّبين للأفكار الجانحة التي حاول الغربيّون الترويج لها في ثقافتنا العربيّة الإسلاميّة، مثل إنكار الألوهيّة، والنبوّات، والوحي، وعالم الروح، والفلسفات المثاليّة والأخلاق التي نادت بها الأديان السماويّة، ذلك بالإضافة إلى مراجعاته ومناقشاته للكتابات الغربيّة التي تناولت حضارة الإسلام وشريعته والقيم التي حثّ عليها والواقعات التاريخيّة التي شكّكوا فيها أو قاموا بتزييفها أو جهلوها. ولا سيما تلك التي تعلّقت بسيرة النبيّ وأصحابه، وما أشاعوه عن معاداة الدين الإسلاميّ للعلم والنظر العقليّ والفلسفة والفنون والآداب والسياسة المدنيّة.

ونقصد من ذلك كلّه –كما قلنا- دعوة القارئ إلى مراجعة نهج محمّد فريد وجدي في النقد والتناظر والجدل والتصاول مع الأغيار، وحثّ شبيبة الباحثين على درسها وتناول تلك المحاورات بالنقد والتحليل استنادًا على النصوص الأصليّة لأطراف الحوار «أي وجدي» ومناظروه، وذلك بنهج علميّ بمنأى عن التعصّب أو الحميّة القوميّة أو العاطفة الدينيّة، راجين أن يتثبّت هذا الجيل من أنّ قادة الرأي المحدثين في ثقافتنا الإسلاميّة كانوا أقرب إلى الموضوعيّة في معاركهم الفكريّة التي نفتقر إليها الآن في حياتنا الثقافيّة المعاصرة. وليعلم أهل الدربة والدراية أنّ الكتابات الغربيّة لا تخلو من المغالطات والأغاليط التي تُردّ إلى أمرين: إمّا للتعصّب الملّيّ، أو نقص المعارف والمعلومات المشوّشة. ومن ثمّ يجب علينا غربلة الوافد إلينا من الأغيار، وتقويم الوافد أيضًا من تراث بني جلدتنا لتنقيته من مواطن الضّعف والسرد الملفّق والواقعات المنحولة.

فقد قام «محمّد فريد وجدي» بالرد على كلٍّ من:
- الفيسلوف والطبيب الألمانيّ لودفيج بخنر 1824-1899م.
- عالم الأحياء الفرنسي جان باتيست لامارك 1744-1829م.
- عالم التاريخ الطبيعيّ البريطانيّ تشالرز روبرت دارون 1809-1882م.
- الفيلسوف البريطانيّ هربرت سبنسر 1820-1903م.
- الفيلسوف الأمريكيّ وليم جيمس 1842-1910م.
- عالم الفيزياء الفرنسيّ جون هنري بوانكاريه 1854-1912م.
- السياسيّ البريطانيّ لورد كرومر إيفلين 1841-1917م.
- الفيلسوف والعالم البيولوجيّ لو دانتك فليكس 1869-1917م.

وقد أثار «وجدي» هذه القضايا في غير موضع من كتاباته، نذكر منها:
على أطلال المذهب المادّيّ، الإسلام في عصر العلم، في الردّ على المادّيّين، مهمّة الدين الإسلامي في العالم، الإسلام وتحرير الفكر الإنسانيّ بحوث ودراسات، حوار الإيمان والإلحاد، هل يؤدّي العلم إلى الإلحاد، هل فات زمان الأديان، نظرة في عالم النباتات، مذهب النشوء والإرتقاء في الميزان، المادّيّة ومذهب العلماء الراسخين، الروح، الحياة الدينيّة والحياة المدنيّة، تأييد العلم الصحيح للاعتقاد في الله، إثبات الروح بالمباحث النفسيّة، المدنيّة والإسلام، من معالم الإسلام، الإسلام دين الهداية والإصلاح، فصل الخطاب في المرأة والحجاب، تربية المرأة الحجاب، دائرة معارف القرن العشرين، المصحف المفسَّر.
وجميعها ظهر في صورة مقالات في الفترة الممتدّة من أخريات القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين وقد طُبع معظم هذه الدراسات طبعات عدّة في صورة كتب في حياته وبعد وفاته.
تلك كانت رحلة قلم وهب حياته للدفاع عمّا يؤمن به من مشخّصات حضاريّة وقيم روحيّة ومبادئ أخلاقيّة، لقد جاهد فيلسوفنا منافحًا عنها ليُعلّم شبيبة جيله الدرسَ الذي لا غنى عنه، ألا وهو «إذا أردت أن تكون ناقدًا ومحاورًا فعليك بالإجابة عن هذا السؤال الجدليّ (لماذا نقرأ، وكيف نكتب وذلك في مرحلة التلقّي والاستيعاب ثمّ نتسائل من جديد لماذا نكتب، وكيف نقرأ وذلك في طور الإبداع والتوجيه).

غاب قلم «وجدي» عن حياتنا الثقافيّة، وما برحنا نتلمّس أخباره إلّا في كتابات قليلةٍ خطّها بِعض الأوفياء من تلاميذه ومحبيه الذين ودّعوه في السادس من شهر فبراير سنة 1954م. وخليق بنا التنبيه على ندرة الدّراسات الأكاديميّة التي تتناول فلسفته ونهجه في الإصلاح، وأسلوبه في النقد ومنهجه في التحاور والتناظر، ومشروعه في التجديد وتوجيه الشبيبة إلى ضروب التثقيف والتنوير، وإحياء الهويّة الإسلاميّة في حياتنا اليوميّة قبل برامجنا التعليميّة ومؤسّساتنا السياسيّة. 

لائحة المصادر والمراجع
أنور الجنديّ: الإسلام والثقافة العربيّة في مواجهة تحدّيات الاستعمار وشبهات التغريب، مطبعة الرسالة، القاهرة، د.ت.
أنور الجنديّ: محمّد فريد وجدي رائد التوفيق بين العلم والدين، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، 1978.
طه الحاجريّ: محمّد فريد وجدي حياته وآثاره، معهد البحوث والدراسات العربيّة، القاهرة، 1970.
عبّاس محمود العقاد: رجال عرفتهم، نهضة مصر، القاهرة، 1992.
عصمت نصّار: شيخ بلا عمامة وفيلسوف بلا قبّعة، مقال في البوابة نيوز، 8/8/2020م.
عصمت نصّار: مجدّدون في معيّة المحافظين، مقال في البوابة نيوز،1/8/2020.
غريب جمعة: مقدّمة كتاب نقد كتاب الشعر الجاهليّ لمحمّد فريد وجدي، مكتبة الآداب، القاهرة، ط3، 2008.
محمّد طه الحاجري: محمّد فريد وجدي حياته وآثاره، القاهرة.
محمّد عبدالمنعم خفاجي وعبدالعزيز شرف: الوجديّات، دار الكتاب المصريّ اللبنانيّ، القاهرة، 1982.
محمّد فريد وجدي: السيرة المحمّديّة تحت ضوء العلم والفلسفة، الدار المصريّة اللبنانيّة، القاهرة.
محمّد فريد وجدي: من فريد إلى رشيد، مقال في مجلّة المنار، م33-ج7،1933 .
محمّد فريد وجدي: مناقشات وردود.
محمّد فريد وجدي: مناقشات وردود، الدار المصريّة اللبنانيّة، القاهرة، 1994.
ناصر المهدي:الفكر الدينيّ والسياسيّ عند محمّد رشيد رضا ومحمّد فريد وجدي، بحث غير منشور، رسالة ماجستير، آداب سوهاج، 1997.                                                   


-------------------------------------------
[1]*- أستاذ الفلسفة الإسلاميّة - كلّيّة الآداب – جامعة القاهرة- فرع الخرطوم- جمهوريّة مصر العربيّة.
[2]- ناصر المهدي:الفكر الدينيّ والسياسيّ عند محمد رشيد رضا ومحمّد فريد وجدي، بحث غير منشور، رسالة ماجستير، آداب سوهاج، 1997، ص2-11
[3]- عصمت نصّار: مجدّدون في معيّة المحافظين، مقال في البوّابة نيوز،1/8/2020.
[4]- أنور الجندي: محمّد فريد وجدي رائد التوفيق بين العلم والدين، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، 1978، ص8-25.
[5]- أنور الجندي: الإسلام والثقافة العربيّة في مواجهة تحدّيات الاستعمار وشبهات التغريب، مطبعة الرسالة، القاهرة، د.ت.ص12 وما بعدها.
[6]- طه الحاجريّ: محمّد فريد وجدي حياته وآثاره، معهد البحوث والدراسات العربيّة، القاهرة، 1970، ص17 وما بعدها.
[7]- محمّد فريد وجدي: السيرة المحمّديّة تحت ضوء العلم والفلسفة، الدار المصريّة اللبنانيّة، القاهرة، ص45 وما بعدها.
[8]- محمد فريد وجدي: من فريد إلى رشيد، مقال في مجلة المنار، م33-ج7،1933.
[9]-عصمت نصار: شيخ بلا عمامة وفيلسوف بلا قبعة، مقال في البوابة نيوز، 8/8/2020م.
[10]- محمد فريد وجدي: مناقشات وردود، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 1994، ص13-193.
[11]- محمّد طه الحاجري: محمّد فريد وجدي، ص35 وما بعدها.
[12]- عبّاس محمود العقاد: رجال عرفتهم، نهضة مصر، القاهرة، 1992، ص115.
[13]- غريب جمعة: مقدّمة كتاب نقد كتاب الشعر الجاهليّ لمحمّد فريد وجدي، مكتبة الآداب، القاهرة، ط3، 2008، ص9-15.
[14]- محمّد طه الحاجريّ: محمّد فريد وجدي حياته وآثاره، القاهرة، ص80.
[15]- محمّد عبد المنعم خفاجي وعبدالعزيز شرف: الوجديّات، دار الكتاب المصريّ اللبنانيّ، القاهرة، 1982،ص22 وما بعدها.
[16]- محمد فريد وجدي: مناقشات وردود، ص67-83.