الباحث : د. حسان عبدالله حسان
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 35
السنة : صيف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث : October / 21 / 2024
عدد زيارات البحث : 336
الملخّص
انشغل هذا البحث بالتحليل المعرفي النقدي (الداخلي) لتنشئة العولمة وأدواتها المستحدثة ووسائلها الرقمية التي تمكنت من نفس الإنسان المعاصر، وذلك من خلال رؤية من الداخل لأبعاد هذه التنشئة والآثار السلبية على الإنسان، واعتبار أن ما تقوم به العولمة هو نمط من التنشئة المضادة لما تعورف عليه في البناء العقلي أو الوجداني أو الاجتماعي الإنساني في أطواره السوية، وينقسم البحث إلى أربعة أقسام رئيسة، القسم الأول: يتناول خلفية معرفية عن العولمة، والقسم الثاني: مفهوم تنشئة العولمة، والقسم الثالث: مدخلات تنشئة العولمة، والقسم الرابع: مخرجات أو نواتج تنشئة العولمة، مع تعريف بفرضية البحث ومفهوم التنشئة وخاتمة. إن الفرضية الفلسفية التي تقوم فكرة البحث مفادها أن نوعية المعرفة تساوي نوعية الحياة، أي أن مدخلات المعرفة التي يتلقاها الإنسان تؤثر في شكل وطبيعة الحياة التي يعيشها. إن النتيجة المستخصلة لما تقدم هي أنه يجب أن يقف المفكر والمربي المسلم في العالم المعاصر موقفًا تأمليًا من سياقات هذه البيئة الجديدة للتنشئة، التي لا تخص المجتمعات الغربية وحدها بل أصحبت مجتمعاتنا العربية الإسلامية في أتون تنشئة العولمة. والتأمل هنا لا يكون بغرض التحليل أو الرياضات الذهنية، ولكن بغرض البحث في تأسيس بيئة تنشئة مضادة لمخاطر العولمة وسياقاتها الثقافية ومؤثراتها الحضارية، وذلك أيضًا ليس فقط لغرض المحافظة على ثقافتنا، ولكن هذا التأسيس يكون من أجل تشييد نظام ثقافي وتربوي إسلامي قادرة على المثاقفة مع الآخر وطرح نموذج بديل ينقذ العالم الإسلامي خاصة والإنسان المعاصر عامة من براثن البيئة المستحدثة لمشروع العولمة وأدواتها التكنولوجية والاتصالية المختلفة التي ترهن الإنسان إلى مادية مفرطة، تناهض النزعة الإنسانية التي يتفرد بها بين المخلوقات.
الكلمات المفتاحية: العولمة، اللاتوطين، إدمان الانترنت، القولبة، التنميط، الفردية.
مقدمة
إن إنتاج المعرفة لا يعقبه فقط تأسيس مجموعة من النظريات العلمية أو الأطر الفكرية أو توافر المعلومات حول موضوع ما، لكنه يتجاوز ذلك إلى تشكيل طبيعة الحياة التي تُنتج هذه المعرفة، فإذا كان البشر ينتجون المعرفة فإن المعرفة تعيد صياغة الحياة التي يحياها البشر الذين ينتجون هذه المعرفة.
إن نوعية المعرفة (المنتجة أو المتبناه أو المقتحمة) تحدد نوعية الحياة للفرد والمجتمع الذي يصطبغ بتلك المعرفة سواء أكان منتجًا لها أم اختارها من بين أنماط شائعة أو متوفرة اجتماعيًا، أو كانت تلك المعرفة مقتحمة عن طريق الغزو أو الاستعمار أو الاستلاب الحضاري.
في كل هذه الصور والنماذج (إنتاج، تبني، اقتحام) لنمط معين من المعرفة، فإن المعرفة بالضرورة السننية تنعكس لتتجسد في نوعية الحياة الاجتماعية للفرد والمجتمع. ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ [الإسراء:84]. فنوعية المعرفة هي الطريقة والمذهب والاختيار الذي يمثل مدخلات الحياة سواء أكانت فردية أم اجتماعية ففي الأولى تتغلغل في الوجدان وتشكل السلوك، وفي الثانية تؤسس النظم والقوانين والمناخ الاجتماعي العام.
واختبار هذه الفرضية السننية يكون عن طريق تتبع تاريخي واستقراء حديث ومعاصر لإدراك العلاقة بين نوعية المعرفة ونوعية الحياة الاجتماعية منذ بدء الخليقة وحتى الآن. وفي ذلك يمكن أن نحدد عدة عناصر لهذا التتبع التاريخي والاستقراء المعاصر للمعرفة والحياة. هذه البنود هي: الإنسان، والطبيعة، والقيم، والمصير. إن الوعي بطبيعة “معرفة مجتمع” ما بهذه العناصر الأربعة (والتي تعرف بالرؤية الكلية) يشكل استقراءً واقعيًا لنوعية الحياة المتوقعة فيه.
ولقد صنف الإنسان أنماط المعرفة تاريخيًا إلى أربعة أنماط مرت بها البشرية هي: المعرفة البدائية، والمعرفة الدينية، والمعرفة الصناعية، والمعرفة التكنولوجية. مع التحفظ على تصنيف المعرفة الدينية كإحدى مراحل تطور التفكير البشري، وذلك لأن المعرفة الدينية كما أظهرها القرآن الكريم معرفة متقدمة علميًا ولا تناقض الصناعة أو التكنولوجيا – المستوى الأعلى في معرفة الإنسان المعاصر – بل تدفع إليهما وكانت تجربة الحضارة الإسلامية دليل وبرهان على ذلك. ونضيف في هذا البحث نمط خامس للمعرفة يمكن أن نطلق عليه “معرفة العولمة”، وهو مدار عمل البحث والفكرة الرئيسة مستمدة من أبعاده وآثاره على الحياة الاجتماعية.
من ناحية أخرى فإن أي ثقافة تفترض تجانسًا بين المعيش والمعرفة. إن معرفة سنوات الثمانينات داخلة بعمق في حياة وتجربة الأشخاص الذين عاشوها كما هي حاليًا، إن المرحلة التي نعيشها من مدخلات المعرفة الرقمية تطبع آثارها على ذواتنا، وتضع بصمات واضحة، وتترك علامات لا يمكن لأحد أن ينكرها أو يحددها على طريقة فهمنا للأشياء، وإعادة النظر إلى ذواتنا والآخرين، بصورة تكاد تبتعد عما عهده الإنسان في العصور السابقة، ولا في أي ثقافة قائمة قبل الدخول في مرحلة “رقمنة الذات” والمحيط.
أولًا: العولمة، خلفية معرفية:
العولمة أحد أبرز تجليات ما عرف بالنظام العالمي الجديد في بداية التسعينات، والتي تعبر بوضوح عن المتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية التي جاءت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وظهور ما عرف بالأحادية القطبية؛ وظهر مع هذا المفهوم مجموعة من الارتباطات المفاهيمية الأخرى مثل: العولمة السياسية، والعولمة الاقتصادية، والعولمة الثقافية. ومن ناحية المفهوم، فإن العولمة تعني من الناحية الوظيفية “وصف كل العمليات التي بها تكتسب العلاقات الاجتماعية نوعًا من عدم الفصل بين الحدود أو بعد المسافة، حيث تجرى الحياة في العالم كمكان واحد.. لذا فالعولمة هي الاتجاه المتنامي الذى يصبح به العالم – نسبيًا – كرة اجتماعية بلا حدود وهي -أيضًا- تكثيف العلاقات الاجتماعية عبر العالم، حيث ترتبط الأحداث المحلية المتباعدة بطريقة كما لو كانت تتم في مجتمع واحد”[2].
كانت “العولمة” أحد الرموز المهمة لما أطلق عليه “النظام الدولي الجديد” عقب سقوط الاتحاد السوفيتي ومحاولة تفرد الغرب الأمريكي على وجه الخصوص على الهيمنة على العالم، استخدمت دول المركز الرأسمالي هذا المصطلح للترويج لأهداف هذا النظام بطريقة يسهل نفسيًا تقبلها عند الأفراد، بهدف تشييع عالمية “النظام الدولي الجديد” أو الأحادية القطبية، في صورة “حضارة عالمية جديدة تتصل فيها الشعوب وتشترك بإنتاجها الحضاري، فالنظام العالمي الجديد عولمة، والعولمة حضارة عالمية، والحضارة العالمية هي بشكل عام في التبشير بهذا النظام هي التقارب الثقافي الإنساني، والقبول المتزايد بقيم وتوجهات وممارسات ومؤسسات مشتركة، من قبل شعوب العالم”[3].
وفي الجانب القيمي للعولمة- من ناحية منظورنا الحضاري- يرى جلال أمين (1953-2018) أن العولمة هي اكتساح القيم الغربية مثل قيم الاستهلاك وقيم السوق (أي تحويل كل شيء إلي سلعة ) والمعلومات للعالم بأسره، ويساعد على تحقيق أهداف العولمة التغيرات التي حدثت في السنوات الأخيرة، ومنها[4]:
- انتهاء العزلة التي كانت تفرضها بعض الأمم والمجتمعات مثل أوروبا الشرقية والصين.
- الزيادة الكبيرة في درجة تنوع السلع والخدمات، وتنوع مجالات الاستثمار التي تتجه إليها رؤوس الأموال من بلد إلى آخر.
- ارتفاع نسبة السكان في داخل كل مجتمع أو أمة التي تتفاعل مع العالم الخارجي وتتأثر به.
- زيادة تبادل المعلومات والأفكار بين الدول والمجتمعات المختلفة.
- الدور الرئيسي للشركات متعدية الجنسية، والتي أخذت تنتشر بصورة كبيرة في كل الدول.
من ناحية أخرى فإن العولمة اتحدت في نشوء شبكات اتصال عالمية فعلًا، تربط جميع الاقتصاديات والبلدان والمجتمعات، وتخضعها لحركة واحدة من خلال اندماج منظومات ثلاث رئيسية في حياتنا الاجتماعية والدولية الراهنة:
المنظومة الأولى: هي المنظومة الإعلامية والثانية: المنظومة الاتصالية، والثالثة: المنظومة المعلوماتية، والتي تجسدها بشكل واضع شبكة معلومات الإنترنت.
وإذا كان صامويل هنتنجتون يرى أن الصراع الجديد تمثل فيه الثقافة العنصر الرئيس، فإن النظام الرأسمالي المتصاعد بدأ في هذا الصراع باعتباره الأقوى داخل السوق الثقافية الجديدة، فيقوم بمحاولات جادة وقسرية لإحلال ثقافته – التي يصفها بأنها عالمية – بديلًا عن الثقافات المحلية والوطنية، “فالرأسمالية العالمية تتطلب تكوينًا ثقافيًا معينًا، فإن انتقالها من المراكز الرئيسية إلي العمل على صعيد كوكبي يترتب عليه تلقائيًا إزاحة الثقافات (ما قبل الرأسمالية) وإحلال ثقافة رأسمالية -أو القيم الغربية الحديثة- محلها”[5]، كما أن النظام العالمي الجديد والذي يهدف إلي عولمة الثقافات يرى أن “..بنية الثقافة الشعبية التي تربط عناصر الوجود بعضها ببعض وتشكل الوعي العام بما هو كائن، وبما هو مهم، وما هو حق، وما هو مرتبط بأي شيء آخر، هذه البنية أصبحت منتجًا يتم تصنيعه”[6].
فالثقافة – إذن – تمثل عنصرًا أساسيًا في العناصر العالمية التي تم عولمتها فيما سمي بالنظام العالمي الجديد، حيث إنها المنفذ الرئيس لمشروع العولمة مع باقي العناصر المشكلة لجوانب ذلك النظام الذي يمارس الهيمنة على كافة مجالات العالم الإنساني والفيزيائي – أيضًا-.
ويهدف المركز الثقافي الرئيسي للعولمة – المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية – فيما يتعلق بالأهداف الثقافية إلى تحقيق ما يلي:
1- بناء نمط متميز لحياة النخب وتفكيرها يسمح بفصلها عن الكتلة الرئيسية من السكان، ودمجها مباشرة في دائرة الثقافة والاستهلاك الخاص بها، وخلق رأس مال ثقافي ورمزي مستقل، وثقافة نوعية للنخبة العالمية الجديدة. فنزع النخب من ثقافتها الوطنية لا يعني إعدادها للاندماج في ثقافة النخبة العالمية الحاملة للعولمة فحسب، ولكن يعني أكثر من ذلك وهو تخفيض الثقافات الوطنية إلي مستوى الثقافات الشعبية أي التواصلية[7].
2- أمركة نمط الحياة العالمية: فالمركز الثقافي الرئيسي في النظام العالمي – باعتباره أمريكيًا – فهو يهدف في إحدى جوانبه إلى تعميم النموذج الأمريكي للحياة. فالحياة الثقافية العالمية تتجه نحو تنميط متزايد من السلوك البشري في اتجاه ثقافة معممة أو ثقافة لأمركة، خاصة في ظل تزايد سرعة النقل والمواصلات واتساع الأسواق، وإزالة الحواجز أمام انتقال المعلومات والأفكار.
3- التحكم في مسار تطور البني التقليدية بالقدر الذي يسمح فقط بتصريف منتجات (المركز الرأسمالي المعولم)، ويكون ذلك عن طريق تعميم آليات ثقافة الاستهلاك والتي تلعب دوراً مؤثراً في ذلك، حيث يمكن رصد مظاهر التطلعات الاستهلاكية لدى الفئات والشرائح المختلفة في المجتمعات المحيطة.
4- تغريب الثقافات الوطنية من خلال آليات أكثر قوة مثل وسائل الإعلام والتقنية الحديثة، واحتكارها على مستوى المعرفة وعلى مستوى التشغيل. وكان لصناعة الثقافة دور مهم في هذا الإطار، حيث تم توجيه نمط الثقافة من منطلق ما بعد الحداثة نحو إعادة إنتاج وتقوية منطقة الاستهلاك لدى الشعوب[8].
هذا باختصار خلفية معرفية عن العولمة لاسيما في بعدها الثقافي الذي يمارس تأثيرًا قهريًا في التشكيل التربوي للنفس المعاصرة وهو ما سوف نحاول إدراك أبعاده (مدخلات ومخرجات) وتشكلاته في الواقع الإنساني المعاصر فيما يلي.
ثانيًا: تنشئة العولمة:
التعريف الاصطلاحي للتنشئة يقصد به عدة معاني منها: التعلم الاجتماعي، والاندماج الاجتماعي، والتطبيع الاجتماعي، واستيعاب العناصر الثقافية، والتكيف الاجتماعي. وهي بالتالي- أي عملية التنشئة- عملية مكتسبة من المحيط (البيئة) وعناصرها المتعددة: الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والإعلامية وحديثًا التكنولوجية والرقمية، وغير ذلك مما تفيض به حركة الحياة الاجتماعية ومستجداتها، إلا أننا نقف في مؤثرات الحياة الاجتماعية في التنشئة على عاملين: الوارثة والبيئة، وفيهما أيضًا نقف على ما هو أساس وما هو فرعي، لذلك يرتب سلم أولويات المجتمع حسب تفضيلاته والمرجعيات المؤثرة فيه، أي أن عملية التنشئة في المفهوم التقليدي تشمل حدودًا لعوامل أكثر تحديدًا ووضوحًا وقدرة على التوقع والتنبؤ، بمعنى أكثر اختزالًا فإن عملية التنشئة في المعرفة التربوية هي عملية توطين لشخصية الفرد على أطر المجتمع القائمة والواضحة والتاريخية والجغرافية.
إن الفكرة الرئيسة في عملية التنشئة- في المعرفة التربوية التقليدية- هي فكرة التوطين للشخصية الفردية، التوطين اجتماعيًا بكل ما يحمله مفهوم التوطين من: الاستنبات، والاستزراع، والحدود، والقيود وما إلى ذلك من عناصر تشبث الشخصية الفردية بواقعها: الجغرافي والتاريخي ويترجم في الواقع الثقافي الذي يقبع بينهما –التاريخ والجغرافيا- ويستمد معالمه وتفاصيله منهما.
لكن في ظل العولمة أصبح مفهوم/شعار اللاتوطين هو القائم في مجال القيم والعادات والمؤثرات الاجتماعية على عملية التنشئة والجماعية، ويقصد باللاتوطين “فقدان العلاقة الطبيعية بين الثقافة والأقاليم الجغرافية والاجتماعية. أو التحرر من تقييدات التفاعلات المباشرة (وجهًا لوجه) في العلاقات الاجتماعية التي كانت موجودة في النواحي المحلية لمجتمعات ما قبل الحداثة”[9].
من ثم حدثت عدة تحولات لمفهوم التنشئة (التقليدي) أهمها: تحول التنشئة الاجتماعية الموطنة إلى تنشئة لا وطنية، أو تنشئة عابرة للحدود والتاريخ والقيم، أو من التوطين إلى التعولم “ لقد كانت التنشئة دائما تميل إلى الثبات في المكان والتماسك والتقليد المحلي -المحيط بالمكان أو البيئة المباشرة- باعتبار أن المجتمع الذي يقوم بدوره هذه العملية محدود المكان ومحدد الهوية والعادات والتقاليد (التي يستهدف تطبيعها في عملية التنشئة). لكن في ظل العولمة تحول مفهوم التنشئة إلى مفهوم متحرك متغير دائمًا، ينتقل بصورة سريعة وربما مفاجئة، لم يعد المجتمع قادر على الإمساك به. إننا بحق يجب أن نقوم بإعادة تشكيل التجربة الثقافية والتربوية للمجتمعات المعاصرة، وإعادة تحليل وتقييم – أيضًا- في ظل قمع العولمة وما أنتجته “العصر العالمي” عصر الرقمنة والتكنولوجيا.
في ظل العولمة تصير عملية التنشئة الاجتماعية للفرد بكل عناصرها إلى تنشئة الكترونية بكل مفرداتها وتقنياتها وتطوراتها. حيث تحولت (البيئة أو المحيط) الالكتروني إلى مصدر الاستجابة الأول في كثير من الأوقات /الأحوال مصدر المعرفة الرئيس للعقل البشري، فضلًا عن كونها تمثل حياة (افتراضية) متكاملة يكاد يستغني معها الفرد عن كثير من مؤشرات التنشئة الاجتماعية في صورتها (التقليدية). أو أنها على أقل تقدير أضحت مؤسسة تنشئة موازية ومنافسة ومتفوقة إذا ما قورنت بالمؤسسات المعروفة تاريخيًا: الأسرة، والمدرسة، ودور العبادة، والإعلام.
من استقراء التاريخ القريب للعولمة، نلاحظ أن قوة العولمة تكمن في الثقافة والتنشئة، حيث تقع العولمة في القلب من الثقافة الحديثة، وتقع الممارسات الثقافية في القلب من المعرفة «إن العمليات التحويلية لعصرنا الحديث، والتي تصفها العولمة، لا يمكن أن تفهم على نحو صحيح حتى تدرك من خلال المفردات المفاهيمية للثقافة؛ وبالمثل، فإن هذه التحولات تغير نسيج التجربة الثقافية ذاته. كما أنها في الحقيقة تؤثر في إحساسنا بالهوية الحقيقية للثقافة في العالم الحديث»[10].
ثالثًا: بيئة تنشئة العولمة (المدخلات):
في ظل العولمة تشكلت بيئة جديدة للتنشئة الفردية والجماعية يمكن أن نطلق عليها “البيئة الواحدة” حيث تفتقد للتنوع الجغرافي والحضاري الذي كانت تتشكل منه بيئة التنشئة التقليدية، فأضحت هذه البيئة الجديد تتشكل شبكتها الاجتماعية من وصلات الويب والحاسوب وتقنيات الشبكة العالمية العنكبوتية التي ألقت بكل خيوطها على كافة الأعمار والأجناس والبيئات والثقافات، وشكلت الشاشة المشترك الرئيس لهذه البيئة بكل عناصرها ومكوناتها، وشكل وميضها مثير الاستجابة لدى جميع هذه العناصر، وفي ظلها تأتي تفاصيل: الألعاب المعتمدة على الحركة، وتطبيقات الهواتف الذكية التي لا تفتأ عن التطوير السريع الهادر للموديلات والإمكانات، ونظام تحديد المواقع المكانية من معرفة أماكن السفر والرحلات إلى الجاسوسية الفائقة بين الدول، والانتقال إلى الرفقاء الوهميين، الرفقاء الرقميين، وبرامج إعادة ضبط الصور وتزييفها، ووسائل التواصل الاجتماعي (الانعزالي – التوحيدي)، والحرب السيبرانية .
كل ذلك وما يتولد عنه وما يستجد يوميًا وما لم نستطع أن نستوعب وجوده، شكل بيئة ثقافية واجتماعية وانثروبولوجية لعملية “تنشئة العولمة” والتي تتم داخلها إعادة بناء وتشكيل الهوية الإنسانية “العالمية” و”عولمتها” وفقًا لما تقصده هذه الأدوات التقانية التي صنعت بيئة “واحدة” للإنسان -عبر العالم- غير مسبوقة في تاريخ الإنسان على الأرض.
هذه البيئة الجديدة صنعت لنا مفاهيم جديدة في التنشئة الإنسانية، تؤسس بدورها تصورات جديدة ناحية الإنسان الجديد الذي تشكله “التكنولوجية الرقمية” والويب والحوسبة السحابية والشاشات وغيرهم مما يسفر عنه عمل العولمة. في واقع إنساني إصابة الاضطراب والقلق الوجودي.
أوضح تقرير اليونيسيف عام 2017 أن ما لا تقل نسبته عن 71% من مراهقي وشباب العالم في المرحلة العمرية التي تتراوح بين 15 -24 عامًا لديهم تواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ويذكر صاحب كتاب (المستقبل) « أن عدد الأجهزة المتصلة مع أجهزة وآلات أخرى –من دون مشاركة العنصر البشري – قد تجاوز عدد سكان الأرض قاطبة، وتوقعت بعض الدراسات أن تكون وصلت في العام 2020 إلى نحو 50 مليار جهاز متصل بشبكة الانترنت ويتبادلان المعلومات بشكل متواصل»[11].
إن الفيسبوك وتويتر، والمواقع المشابهة لهما تقدم وعدًا بأن تكون على الدوام متصلاً ومرغوبًا، ومثيرًا للإعجاب، وحتى محبوبًا. لقد جلبت تلك المواقع إلى مجمعاتنا تفسيرات للهوية والعلاقات تتحدى القيم والأخلاق، وذلك بطريقة لم تكن متخيلة حتى قبل عقد واحد من الزمان[12].
نشير فيما يلي إلى أهم المكونات (المدخلات) التي تشكلت منها بيئة التنشئة الجديدة أو بيئة تنشئة العولمة للإنسان المعاصر، وأهم المفردات التي تعلقت بصياغة هذه التنشئة.
الرقمنة:
دخل عامل الرقمنة الحياة الاجتماعية في ظل العولمة التكنولوجية، ويتعلق هذا المكون بتهيئة وسائل التكنولوجيا لأدوات ووسائط التواصل العابر للحدود والأماكن والأزمنة، الأمر الذي أصبح معه جزءًا رئيسًا من الحياة الاجتماعية للإنسان، كما أصبحت – هذه الرقمنة- تعيد تعريف المعرفة وتشكيل الممارسات الاجتماعية، إلى حد التنميط العام للسوك اليومي للأفراد. وترسم آفاقًا جديدة لحياة أطلق عليها “الحياة الافتراضية” تتشكل عبر مصانع كبرى هي مصانع تكنولوجيا الهواتف والأجهزة الذكية التي تملك إمكانات تهيئ للإنسان نمط من العلاقات غير معهود من قبل.
إن الرقمي والافتراضي لا يُختزل فقط في جهاز آلي، بل أصبح يشكل “بيئة معيشية”، حيث نكون في الواقع مغمورين، ومهاجمين بصفة مستمرة. فالإعلام اليوم هو الحقيقة (وليس في الواقع أو أمام الواقع) في حدود كوننا غالب الأحيان غير قادرين على البقاء بعيدًا عن الشبكات، حيث يكون أولئك الذين يجتاحون ممارستنا الخاصة والمهنية، يخبرون كرهًا أفكارنا وقيمنا بمجرد عملية البحث والتحميل والمناقشة والتبادل عن بعد[13].
إن هذا الاقتحام الافتراضي يؤثر ولأول مرة في كل تشكلات بيئة التنشئة التي لم تحد بيئة جغرافية أو تاريخية، بل أضحت بيئة معولمة لكل بني الإنسان، تلاشت فيها كثيرًا من الخصوصية والحضارية، في مقابل الانتشار لقيم المركز المعولم وتمجيد لتداعياتها الرقمية والتكنولوجية السريعة والمتلاحقة والمقتحمة أيضًا.
إن مجتمعاتنا، وثقافاتنا، وسياساتنا، وتجاراتنا، ونظمنا التعليمية، وطرق التواصل مع الآخرين – وأساليب تفكيرنا – تخضع جميعها لعملية إعادة تنظيم جذرية مع ظهور العقل العالمي ونمو المعلومات الرقمية بمعدلات فائقة السرعة. الإنتاج السنوي للبيانات الرقمية ومخزونها لدي الشركات والأفراد يفوق بـ60ألف مرة المخزون الإجمالي للمعلومات الموجودة في مكتبة الكونجرس[14].
نتج عن الرقمنة ما اصطلح على تسميته بالمواطنين الرقميين: وهم أولئك الأشخاص الذين هم على تواصل دائم وكثيف مع شبكات التواصل الاجتماعي، وسمت هذا التواصل هو تواصل غير اجتماعي مباشر، وإدمان الرسائل النصية، وتدن الدعم العاطفي.
التقانة:
يركز هذا العامل على تأثير الأجهزة التقنية في تصرفاتنا الشخصية والجماعية. حيث اصحبت منتجات التقانة من ناحية في متناول أكثر فئات المجتمع، ومن ناحية زادت الارتباطات ناحيتها والرغبة في الحصول على تطوراتها التي تملك إمكانات جديدة دائمًا (New Options)، يمكن القول إن التقنية فرضت طريقتها على المجتمع بصرف النظر عن الفئة التي تستخدمها أو الجنس أو العمر أو الجغرافيا/ وأصبحت إلى حد كبير تحدد سلوك الشخص وطريقة عمل المجتمع الذي يستخدم هذه التقانات. لقد اصحب التقنية الرقمية عنصرًا رئيسًا في تقديم التفسيرات لكثير من الظواهر الاجتماعية والسلوكية، ومن ثم أصبح البحث في دورها وتأثيرها عنصرًا رئيسًا في فهم السلوك الشخصي والتعامل معه.
إن فهم تأثير التوسع الرقمي واستيعاب ضخامة التغييرات الجارية يفرض التفكير سلفًا في العلاقات بين التقنية بمفهومها الواسع (والتكنولوجيا الرقمية بمفهومها الضيق) والمجتمع. فهذان القطبان يتداخلان بشكل وثيق في العالم الرقمي الذي يعتبر حاليا عالمنا أيضاً[15].
إن التقانة من ناحية أخرى قهرت العالم في تبني القيم التي صنعتها، فأضحت مكونًا لرؤية العالم لدى المستخدمين لها، فالتقانة ليست مجموعة من الأجهزة الرقمية أو الذكية، ولكنها تحمل تصورًا لما يجب أن نكون عليه في تصورنا للأشياء والعالم.
إن التقانة لا تعني مجرد صناعة أو استخدام أداة ما، بل هي صياغة الاستعدادات. ذلك أننا نجسد فهمًا معنيًا للعالم في أثناء إنتاج أداة ما، وهذا الفهم يمكنه إذا تشيأ، أن يحقق آثارًا بعينها في ذلك العالم. ومن ثم تصبح هذه الأداة مكونًا فاعلًا من مكونات فهمنا للعالم، ولولا شعوريا في أغلب الأوقات»[16].
كذلك –أيضًا- فإذا كانت عوامل التنشئة تتضافر لتكوين الشخصية الإنسانية، فإن التقانة نفسها أصبحت تتعاضد مع القوى الاقتصادية والسياسية –فضلًا عن الثقافية بالطبع- في المجتمع وتؤثر في كل حياتنا وفي كل مجالاتها. أي أنها اصحبت عاملًا مشتركًا ومؤثرًا ورئيسًا في كل قوى المجتمع المؤثرة في تنشئة الإنسان وتشكيل أفكاره ووجدانه وقيمه، بل وتغيرات مناخه واضطرابه.
إن تقاناتنا تتواطأ مع التحديات الكبرى التي تواجهها اليوم: نظام اقتصادي جامح يفقر أغلبية البشر، ولا ينفك يوسع الفجوة بين الأثرياء والفقراء، وانهيار الاجماع السياسي والمجتمعي في العالم، ما أدى إلى تزايد النزعات القومية والانشقاقات الاجتماعية والصراعات الإثنية والحروب بالوكالة واحترار المناخ الذي يهدد وجودنا جميعًا. إننا متورطون تمامًا في شرك نظم تقنية تشكل بدورها الطريقة التي نتصرف ونفكر بها ومن ثم فنحن عاجزون عن الانسلاخ منها أو التفكير دونها[17].
يشير صاحب كتاب “المستقبل: ستة محركات للتغيير العالمي” إلى أنه من هذه المحركات التي تؤثر في التغيرات العالمية: ظهور شبكة اتصالات الكترونية على نطاق الكوكب تربط بين أفكار ومشاعر مليارات البشر وتوصلهم إلى كم هائل من البيانات التي تتنامى وتتوسع على نحو سريع، وإلى شبكة سريعة النمو من أجهزة الاستشعار المزروعة بكثرة في جميع أنحاء العالم، وإلى أجهزة ذكية متطورة، وروبوتات، وآلات تفكير، يفوق ذكاؤها بالفعل قدرات البشر في أداء قائمة متنامية من المهام العقلية المنفصلة[18]. لقد بات الإنسان المعاصر تحت رحمة التقانة ورحمة ما تفعله به في كل صباح جديد، هذا الصباح الذي لا يعرف بدايته أو نهايته، ولا ينتهي عمل التقانة في وقت ما ولا يتوقف بل يزداد كل يوم كمًا وكيفًا دون القدرة الكافية لملاحقته من الباحثين الاجتماعيين.
الإنترنت:
يعيش العالم حالة عصابية جمعية تلتقي حول موضوع واحد هو “الانترنت” لا يعرف كيف يمكن التخفيف من تأثيره أو ترشيده، أو تجنب الآثار السلبية الكارثية التي أحدثت تحولات كبرى في الوظائف الشرية بوجه عام. ولم يتم التعرف بعد – نظرًا للتعقيد الشديد لهذه الظاهرة- على الأبعاد المعرفية أو الاجتماعية المتخيلة لما يمكن أن يكون عليه مستقبل الإنسانية القريب والبعيد في هذه الحالة الجمعية غير المسبوقة.
إن التغير الذي يقوده التبني الجماعي للإنترنت كوسيلة أساسية لتبادل المعلومات هو تغيير هدام وخلاق في آن واحد، كما يقول أحد أنصار الحركة المستقبلية: إن عالمنا التكنولوجي الجديد المشبع بالذكاء يشبه على نحو متزايد “كائنًا حيًا معقدًا جدًا يتبع في كثير من الأحيان دوافعه”. في هذه الحالة لا يشمل النظام المعقد الضخم الإنترنت وأجهزة الحاسوب فحسب بل يشملنا نحن أيضًا”[19]. لقد استطاعت الانترنت في عقود قليلة تحقيق ما لم يستطع الغب تحقيقه في قرون من حيث الترويج للقيم الغربية والنموذج الغربي وفرض الهيمنة على حركة الإنسان اليومية الشخصية والجماعية، وهذا عبر أسلاك تحمل موادًا مجهزة بكل شروط الإغراء والجاذبية.
تعليم العولمة:
أحد الوسائل التي تروج لها العولمة في مدار التنشئة المضادة ما يسمى بـ “التعليم الحوسبي” أو تعليم البرمجيات في مقابل تجاهل أنماط التعليم الحضاري، هذه الدعوة إلى التعليم الحوسبي أو البرمجيات (تقانة العولمة) يروج لها السياسيون المرتبطون بالنظام الرأسمالي المعلوم للاقتصاد، وما يتعلق به من إدارة الأعمال وغير ذلك مما يتعلق بالترويج لمنتجات العولمة التكنولوجية.
هذه الدعوة يطلقها مرارًا السياسيون والتقنيون والخبراء ورواد الأعمال، وغالبًا ما تطرح بعبارات وظيفية مؤيدة للسوق بشكل سافر: إذ يحتاج الاقتصاد المعلوماتي إلى مزيد من المبرمجين، والشباب في حاجة إلى الوظائف في المستقبل.. متغافلاً عن أن تعلم بناء البرمجيات ليس كافيًا، إن مجرد الفهم الوظيفي البسيط للنظم لا يفي بالغرض؛ إذ نحتاج إلى القدرة على التفكير في تواريخ تلك النظم وتبعاتها – أيضًا، ومن أين أتت تلك النظم، ومن صممها، ولماذا، وأي من تلك المقاصد لا يزال كامنًا داخلها اليوم؟[20].
إن الكثيرين يروجون للتعليم البرمجي باعتباره تعليم العصر وهو ما يمثل تهديدًا للمهارات الحضارية للأمم والشعوب على حساب نشر هذا النوع من التعليم الذي أصبح شرطًا لدخول كثير من المجالات الحياتية والاجتماعية: التعليمية والجامعية والاقتصادية وغير ذلك، بما يعرف في نظمنا في العالم الثالث بالتحول الرقمي رغم خدعة هذا المفهوم الناتج عن العناية الشكلانية بمتغيرات العصر في دول العالم الثالث.
إن التوجه نحو اقتصاد السوق في ظل رأسمالية العولمة يتجه لخلق أنماط معينة من الثراء ومن الفقر كذلك، ويتضح ذلك من خلال خارطة العالم الاقتصادية التالية [21]:
- أن 20 بالمائة من السكان العاملين ستكفي في القرن القادم للحفاظ على نشاط الاقتصاد الدولي، فخمس قوة العمل سيكفي لإنتاج جميع السلع ولسد حاجات الخدمات الرفيعة القيمة التي يحتاج إليها المجتمع العالمي.
- انخفاض النسبة التي يشارك بها أصحاب رؤوس الأموال والثروة في تمويل المشاريع الحكومية، وفي الناحية الأخرى فإن الموجهين للتدفقات العالمية لرأس المال يخفضون باستمرار مستوى أجور عمالهم.
- تقليص فرص العمل وتسريح للأيدي العاملة، مما يؤدي إلى تفاقم البطالة وفي خفض عدد المستهلكين. فحيثما تجري المتاجرة بالبضائع والخدمات عبر الحدود الدولية بكل حرية، تعصف بالعمال بلا هوادة، بما يمثل فقدان العمل البشري لقيمته وفي ترشيد يقضي على فرص العمل.
أصبحت العولمة تشكل خطرًا بالغًا، على المهارات الحضارية للأمم والتي تطلق عليها في التوصيف “المهارات المحلية إمعانًا في تحقيرها أو في محدوديتها رغم انها مهارات توصف بالحضارية غذ أنها نتاج حضارات عريقة موغلة في الأصالة الإنسانية. وفي ذلك تستبدل العولمة هذه المهارات بمهارات أخرى تلزم لصناعتها التكنولوجية اللازمة ل “السوق” بصرف النظر عن جدوى هذه المهارات للأمم والشعوب والأفراد المختلفين في العالم النامي أو غيره الذي لم ينتج العولمة ولا يستفيد من عوائدها كما يستفيد الغرب وأمريكا.
في إطار عولمة المهن والمهارات الحضارية – كما تقدم- فإن التعليم في مجتمعاتنا العربية أصبح رهين المحبسين: محبس العولمة ومشروعها القسري الضاغط والذي يريد أن تتحول مؤسسات التعليم إلى ممهدات للعقول لاستقبال أفكار السوق، والاعداد والتهيؤ لقبول منتجاته والترويج له، والمحبس الثاني: غياب تخطيط استراتيجي واضح لخطط النهوض الحضاري الذاتي. ومن ثم تحول التعليم كما يذكر «تقرير المعرفة العربي لعام «2014 إلى «منصة لإطلاق قوة العولمة داخل البدان العربية، من خلال بناء كوادر بمواصفات عالمية جديدة. لقد خلقت العولمة محددات جديدة أمام الجامعات ومراكز البحوث هذه المحددات لا تتعلق بنقل أو توطين المعرفة، بل ببناء معايير لبرامج عالمية معولمة بهدف تدويل الجامعات، وخلق آليات لظهور الطبقية والتمييز في التعليم، بل والانفصال في كثير من الأحيان عن هموم الوطن واحتياجاته المحلية. والمنطقة العربية تأثرت بشك واضح بحركة التدويل الجامعي وعولمة المهارات بكل مال ها وما عليها»[22].
فناء التفاعل الثقافي:
من المصطلحات المطروحة في تنشئة العولمة، «فناء التفاعل الثقافي»، والذي يعني في معناه القريب سلب الانتماء للمكان والثقافة المحليين لصالح أماكن وثقافة بعيدة في إطار التنميط الثقافي الذي يسعى صانعو العولمة إلى تحقيقه عبر تجاوز الزمان والمكان. «إن العولمة تصعب التجربة الدنيوية بصورة متزايدة من الاحتفاظ بحس ثابت بالهوية الثقافية «المحلية» (بما في ذلك الهوية الوطنية)، لن حياتنا اليومية تتشابك أكثر فأكثر مع، ومحترفة من قبل، التأثيرات والتجارب التي تعود مصادرها إلى أماكن بعيدة[23].
العقل العالمي: الدماغ العالمي / العقل العالمي:
قام H.G.welis بتقديم اقتراح لتطوير (دماغ عالمي) وصفه بأنه الكومنولث لجميع المعلومات في العالم، وفي متناول سكان العالم كنوع من مركز ذهني للعقل لتبادل المعلومات: مستودع يجري فيه تلقي المعرفة والأفكار وفرزها، وتلخيصها واستيعابها، وتوضيحها، ومقارنتها.. وهذا ما حدث فعلًا واقعًا حيث أنه يمكن البحث في موسوعة ويكبيديا أو البحث في الشبكة العالمية عن طريق جوجل، لتحصل على صفحات إلكترونية حول هذا الموضوع يقدر عددها بنحو تريليون صفحة[24]. إن مثل هذه الصفحات التي لم يعد الاستغناء عنها ممكنًا بالبحث عما يرغب به الإنسان ليجد الاستجابة حاضرة وبكل اللغات، تحقق أهداف المركز الثقافي (المعولم) للمعرفة وتوجيه العقل البشري، بما يفرضه من رسم خرائط للمعرفة والمعلومات التي يضمن اتاحتها بطرقة واحدة ومنهجية متماثلة يشكل به “دماغ عالمي” أو عقل عالمي واحد ناحية الثقافة والقيم بما تحتويه اتجاه المعارف المتضمنة في هذه الصفحات والتي تقاس جودتها وثقتها بمقاييس وضعها الصانع للمحتوى الرقمي والتي تضمن إعلاء شأن ومكانة المعرفة الغربية على كل المعارف، وتأثير الترجيحات الغربية والأمريكية على وجع الخصوص.
نخلص إلى مجموعة من الكليات الأساسية التي يمكن معها القول إنها تمثل خلاصة بيئة تنشئة العولمة وهي: سيولة وسائل الاتصال الرقمي (الكم – والجذب – وسهولة الحصول)، وإضعاف الهويات الحضارية، واتساع قاعدة الشباب (قبول التغير والاقبال على الجديد)، مع غياب الخطط القومية الثقافية -للدول النامية ودول العالم الثالث وغير المنتجة للتكنولوجيا الرقمية بوجه عام- وانتشار المنظمات الدولية الثقافية في ارتباطاتها الدولية والقومية والتي تقوم تعزيز قيم الانفتاح الثقافي والاندماج المتجاوز للخصوصيات الثقافية القومية والحضارية. وصاحب ذلك سهولة تمرير الأفكار والقيم الجديدة في ظل هيمنة المركز الثقافي الأمريكي على أنحاء واسعة من العالم المعاصر، مع تقلص أدوار الأسرة في عملية التنشئة في ظل العمل الجاد للتقنيات لهدم الحدود والأسوار –أيا كان شكلها – بين البشر.
رابعًا: مخرجات تنشئة العولمة:
نقصد بمخرجات التنشئة، التحولات التي حدثت للإنسان المعاصر في وجدانه ووجوده الاجتماعي، وتحديدًا هذه الفئة العمرية التي عرفت في الكتابات الأدبية والعلمية بجيل الألفية، وإن كانت تأثيرات العولمة لحقت بأجيال سابقة قبل الألفية لكن يظل تأثيرها الأكبر من حيث المساحة والكيف والتوقع على جيل الألفية الذي نشأ مع تطور الأجهزة الذكية، وإحكام هيمنة الانترنت على الفضاء الاجتماعي المعاصر في محاولة لإعادة البشرية إلى مرحلة الغريزة بكل معاني هذا المفهوم، والدخول إلى مرحلة اللاعقلانية التي سطرت مقدماتها الحداثة وما بعد الحداثة، بما أفقد الباحثون القدرة على التوقعات والتصورات لما تمارسه “تنشئة العولمة” الجديدة من قوة ضاغطة وقاهرة على النفس الإنسانية وكافة جوارحها. مع ضعف عام للتنشئة الأصلية أو التقليدية في واقع المجتمعات التاريخية والحضارية.
في ضوء ذلك أشارت الدراسات الاحتجاجية في الغرب إلى أهم المخرجات المنظورة “لتنشئة العولمة” التي ترتبت بالضرورة على المدخلات السابقة، وهي كما يلي:
الطفولة السامة:
يعاني طفل جيل الأقلية –أي الذي ولد عام 2000 وما بعدها- من وهج التأثير العولمي التقني على تنشئته وحياته الفردية والاجتماعية، وذلك لأن ولادته صاحبت التطور التكنولوجي للأدوات التقنية وألعاب الفيديو، ثم تبع ذلك شيوع الانترنت وذيوع وسائل التواصل الاجتماعي التي لاحقته في الصبا والشباب. لقد افتقد جيل الألفية كثيرًا ليس فقط ما قاله به روسو من دور الطبيعة في التربية الأولية، ولكنه افتقد كذلك دور الأسرة والرفقة الاجتماعية الحقيقية.
افتقد الطفل القيام بمجموعة من الأنشطة الطبيعية (مثل تسلق شجرة) والتدحرج أسفل تلة كبيرة، وتخطي حجر، والركض تحت المطر،..انفصلت الطفولة عن العالم الطبيعي – لصالح التكنولوجيا – نظرًا لالتفاف الطفل حول الشاشة.. وهو ما يطلق عليه «اضطراب نقص الطبيعة «.. حتى أن المتعصب الرقمي الأكثر تشددًا لا يمكنه الهروب من حقيقة بسيطة، وهي أن كل ساعة يمضيها أمام الشاشة، مهما كانت رائعة، أو حتى نافعة، هي ساعة تقضي من دون الإمساك بيد شخص ما أو استنشاق نسيم البحر. وربما يصبح الاسترخاء والاستمتاع في صمت، سلعة نادرة لدرجة أنه بدلاً من أن يكون جزءًا طبيعياً من الذخيرة البشرية، سيجد نفسه على قائمة الأمنيات المستقبلية[25].
اضطراب استخدام الأنترنت:
نظرًا لحالات الاندماج الشخصي مع وسائل التقنية، إلى الحد الذي وصلت معه إلى درجة الإدمان النفسي لدى الفرد، مما أدى إلى ظهور علامات للاضطراب النفسي خاصة بهذا النوع من الإدمان الجديد، أصبحت مؤشرات الصحة النفسية والأمراض النفسية تضع مثل هذه الاضطرابات موضع نظر تشخيصي مرضي للعمل على تطوير أساليب العلاج المتعلقة به.
في ضوء ذلك وضع الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (RSM) في مايو من العام 2013 «اضطراب استخدام الانترنت« في ملحقه للمرة الأولى، كفئة مستهدفة لمزيد من الدراسة. هناك ما يقدر لـ 500مليون شخص في العالم يشاركون الآن في الألعاب الإلكترونية عبر الإنترنت لمدة ساعة واحدة في اليوم الواحد على الأقل. في الولايات المتحدة يمضي الآن الشخص العادي تحت سن الحادية والعشرين وقتًا في ألعاب الإنترنت يساوي تقريبًا مقدار الوقت الذي يمضيه في حضور الصفوف الدراسية من الصف السادس حتى الصف الثاني عشر. وهذا ليس محصورًا بفئة الشباب فقط: في المتوسط يكون المشارك في ألعاب الإنترنت الاجتماعية. من النساء اللواتي في منتصف الأربعينيات من أعمارهن. ما يقدر بحوالي 55% من الذين يلعبون الألعاب الاجتماعية على الانترنت في الولايات المتحدة. و60% في المملكة المتحدة هم من النساء (على مستوى العالم تشكل النساء – أيضًا – نسبة 60% ممن يكتبون التعليقات و70% ممن ينشرون الصور على الفيس بوك)[26].
إن كثيرًا من الأطباء والأطباء النفسيين على ثقة بأن هذه المتلازمة –إدمان الانترنت- مهيأة لتمثل إدمانًا حقيقيًا لا يقل عن إدمان المخدرات. إذ يكشف المصابون بها عن جميع السمات المميزة لسلوك المدمن، حيث يمكن لاستخدام الإنترنت أن يستحوذ على قدرتهم على المحافظة على علاقاتهم أو الوفاء بواجبات وظيفة ما، وينمون أعراضًا انسحابيه فيسيولوجية إذا ما جرى حرمانهم فجأة من استخدام الويب. كما أنهم يكذبون على المحيطين بهم سعيًا إلى الحصول على جرعاتهم المعتادة. ويكشف علماء الأعصاب أن اللذات التي تقترن باستخدام الإنترنت يمكن أن تتطابق كيميائيًا مع نظيرتها التي تقترن باستخدام الكوكايين أو مسببات الإدمان الأخرى[27].
تصميم مثيرات بديلة:
استطاعت «تنشئة العولمة» إحداث تغييرات فسيولوجية داخل الجسد الإنساني، من خلال بناء حاجات جديدة لأدوات التقانة ووسائل التواصل التي خلقت هذه الحاجات لاستجابات أبدعتها العولمة في الواقع الإنساني، أي استطاعت أن تجدد استجابات فسيولوجية لوسائل تقنية، وأن تقدم بديلًا عن المثيرات الطبيعية لهذه الاستجابات. أي تفوق المثيرات المصنوعة على المثيرات الطبيعية التي بدأت في الانزواء.
أثبت العلماء في جامعة هارفارد بالفعل أن مشاركة المرء للمعلومات الشخصية عن نفسه كما يحدث على مواقع الشبكات الاجتماعية، ينشط أنظمة المكافأة في الدماغ بالطريقة نفسها التي يفعلها الغذاء والجنس[28].
مثال ذلك: تقوم ألعاب الفيديو بتحقيق دورة مستمرة من التحفيز، والاستثارة، والمكافأة في الإدمان، والتي يمكنها تفسير قسرية ممارسة الألعاب..تتسم بالاستجابات النمطية في ممارسة الألعاب بأنها سريعة ومثيرة، ومن ثم تؤدي إلى مستوى أعلى من الاستثارة وإفراز «الدوبامين»[29]. يكمن الدوبامين أيضًا وراء تجارب المكافأة والإدمان وبالتالي يستمر السلوك. ومن شأن الدوبامين المفرط أن يثبط القشرة المخية أمام الجبهة، مما يؤدي إلى التركيز على «هنا والآن» وتجاهل النتائج المستقبلية.
شكل (1)[30]: دورة المثيرات البديلة التي تصممها ألعاب الفيديو ومخرجاتها
حرائق الغابات الرقمية:
حلل التقرير السنوي للمخاطر العالمية للعام 2013م الأثر المدرك واحتمال وقوع خمسين من المخاطر العالمية على مدى أفق زمني يمتد على مدى عشر سنوات؛ ومن تلك المذكورة كانت «حرائق الغابات الرقمية» والتي تشير إلى أن الأنواع الجديدة من تجربة الشاشة يرجح أن يكون لها تأثير على العقل البشري والعمليات العقلية تم وصفه بأنه يشبه الحرائق التي تنشب في الغابات، ولكن الحرائق هنا تنشب في الخلايا العصبية للدماغ وأطلق عليه «حرائق الغابات الرقمية»[31]. وهذا نظرًا إلى المخاطر الكبرى التي تنتظر العقل الإنساني جراء التعامل المفرط مع تقنيات ووسائل الاتصال والتواصل الافتراضية عبر الشبكة العالمية الانترنت.
تضاؤل عائد الذاكرة:
تشير كثير من الدراسات إلى تضاؤل سعة ذاكرة أطفال جيل الألفية، وذلك نظرًا لما يواجهونه من تشتت كبير وواسع من شبكات التواصل والشاشات والانترنت، فكل هذه العناصر تعمل بشكل جدي وعميق من أجل تشتيت الانتباه، بدعوى جذب الانتباه، ومن ثم لا يهتم الطفل ببناء الذاكرة الدائمة، بل إن الذاكرة المؤقتة هي نفسها عرضة للخطر، إذ يحل محلها التنبيهات على الهاتف والشاشة والومضة.
لن يتمكن جيل الألفية من الاحتفاظ بالمعلومات، فهم يقضون معظم طاقتهم في تبادل الرسائل الاجتماعية القصيرة، والاستمتاع بالترفيه، كما يتشتت انتباههم بعيدا عن الانخراط العميق مع الناس والمعرفة، وهم يفتقرون إلى ملكات التفكير العميق، ويفتقرون إلى المهارات الاجتماعية المباشرة، ويعتمدون بطرق غير صحية على الانترنت والأجهزة النقالة من أجل أداء مهامهم[32].
أما قانون التذكر (النسيان) في تنشئة العولمة فمفاده «لا يستحوذ الإنترنت على انتباهنا إلا لتشتيته، نحن نركز بشكل مكثف على الأداة نفسها، على الشاشة الوامضة، لكن انتباهنا يتشتت بفعل توصيل تلك الأداة الرسائل والمحفزات بشكل سريع ومتلاحق»[33].
إنسان الاستجابة الواحدة:
إن تنشئة العولمة تهدد التنوع الإنساني والقدرة على التعبير الواسع والإبداع، لأنها تضع استجابات البشر في قوالب محددة وصامتة من اختراعها، وهي بذلك عامل تهديد للتنوع الثقافي والهوياتي، وهي بذلك تحقق أحد أهدافها الاقتصادية الثقافية وهو «التنميط السلوكي» من أجل التحكم فيه لغرض السوق ورأس المال وتعظيم الاستهلاك.
إن تنشئة العولمة تروم إلى خلق إنسان «الاستجابة الواحدة» سواء كان ذلك في مجال الاستهلاك المادي أو الفكري أو المعنوي. إن العولمة تسعى إلى خلق بيئة جديدة وعالمية لنمو عقل الإنسان حتى يتكيف مع هذه البيئة ويعكس آثارها في المشاعر والانفعالات وكذلك في السلوك والجوارح، بصورة تبدو القدرة على التنبؤ بالتوقعات السلوكية عبر العالم متطابقة مع النتائج المعدة سلفًا من قبل «كهان العولمة ومعلميها» الأوائل[34]
إن العولمة بأدواتها: التقنية والانترنت والشاشة تعتمد على مبدأ التكيف الإنساني في تعوده وتطويع جسده على التزام نمط سلوكي معين (حمل الهاتف، النظر إلى الشاشة في كل لحظة، الاستجابة للومضات بطريقة تلقائية ليست مفاجئة أو غريبة)، صار أغلب جيل الألفية وما بعدها وحتى أوسط العمر في حالة تنميط سلوكي لهذه الأدوات وتم التكيف مع متطلباتها عن طريق فهم كيفية العمل، وليس عن طريق التثقيف لماذا هي موجودة من الأصل؟
تعظيم الاستهلاك:
لقد أسفر الكثير من التقدم التقني عن طفرة علمية داخل منظومة أبحاث السوق. وأصبح اكتشاف ما إذا كان إعلان معين يفلح في الواقع في استهداف انفعال محدد والميل نحو شراء شيء ما إلى جانب ذلك، إمكانية حقيقية الآن. ويبدو أن وجود علم كمي موضوعي يختص بالرغبة صار أمرًا محتملًا.. إن ما يترك للمصادفة من عاداتنا فيا لتسوق في تناقص مستمر.. أصبح الانفعال والعاطفة نسخة صناعة أبحاث السوق المفضلة من السعادة أو اللذة. إن الواقع العصبي الصرف، سواء كان كيميائيا أو سيكولوجيا، هو ما يعزز كل ما نشعر به أو نظن أنه يحدث. والأشد أهمية هو أنه ما يدفعنا إلى إخراج بطاقتنا الائتمانية من جيوبنا[35].
لم تعد تخضع عملية الاستهلاك إلى بناء سلم للحاجات الفردية أو العائلية، ولكنها باتت تخضع لعوامل أخرى تحددها وسائل التقنية المستخدمة في الإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي، ومواسم التخفيضات الخادعة، وعوامل الجذب للسلعة المعلن عنها، والقدرة على إقناع العميل (الزبون) بحاجته إليها في هذا الوقت وليس وقت آخر، مع الشحن المجاني (الخادع) أيضًا والتوصيل إلى باب المنزل لسهولة الاستجابة للشراء، على خلاف الطرق التقليدية في التسوق وما يتطلبه من تخصيص يوم للفراغ والاستعداد النفسي والبدني وإجازة العمل الأمر الذي معه ربما يتأخر يوم التسوق أو يلغى لظروف متعددة، لكن إعلانات التسوق بالخصائص السابقة، تدفع العميل (الزبون) في التفكير في شيء واحد هو طلب المنتج (السلعة)!!.
وهم الرفقة الافتراضية وتراجع الخصوصية:
تشجع التكنولوجيا الرقمية الحديثة على كشف الذات والأسباب معروفة: رغبة في الخروج من العزلة الاجتماعية، والقدرة على الحديث باستمرار مع الآخرين والاندماج في مجموعة ما. والأخطار معروفة: زيف وسطحية العلاقات الافتراضية (الانعزال التفاعلي)، واحتمال تدمير السمعة، والهروب إلى الخيال والادمان على الانترنت (المخدرون بالنت والألعاب الافتراضية) [36].
من نتائج الدراسات على مستخدمي الإنترنت وشبكات التواصل: أنهم لم يعودوا يهتمون بمسألة الخصوصية كثيراً وذكرت «صار الناس يشعرون بالارتياح فعلاً ليس فقط لمشاركة مزيد من المعلومات بأنواعها المختلفة، بل لأن يفعلوا ذلك بشكل أكثر صراحة ومع عدد أكبر من الناس، وأن المعايير الاجتماعية هي مجرد شيء يتطور بمرو الزمن» وتبدو «الخصوصية بالفعل سلعة متدنية القيمة بين جبل الشباب من «المواطنين الرقميين» بسبب الرغبة في الشهرة والجذب والثناء والمدح[37].
ومن نتائج هذا التوهم في الرفقة الافتراضية ثالوث من الاعتلالات:
الأول: صعوبة في التواصل الاجتماعي سواء اللفظي أو غير اللفظي، بحيث كثيرًا ما يجد المرضى (من مضطربي استخدام الانترنت) صعوبة في «قراءة» الآخرين.
الثاني: صعوبة في التعرف على أو فهم مشاعر الآخرين وأحاسيسهم، وكذلك التعبير عن مشاعر وأحاسيس المرء. أي ضعف أو انقطاع التواصل الاجتماعي الحقيقي.
الثالث: صعوبة في التخيل الاجتماعي، أي فهم والتنبؤ بسلوك الآخرين، وإدراك الأفكار المجردة، وتخيل المواقف التي تحدث خارج روتين الحياة اليومية المباشرة.
تهديد القراءة، والقراءة المعمقة:
تقدم شبكة المعلومات “الانترنت” مركزًا عالميًا للمعلومات، حول الإنسان معه إلى سلبية في البحث عن المعرفة، والاكتفاء بالمعلومات التي تقدمها هذه الشبكة، التي وصفت بأنها تمثل “الدماغ العالمي” أو عقل العالم”، وذلك يؤثر في القابليات المعرفية لدى الطفل والنشء في جانبين: الأول: تفضيل المعلومات عن البحث عن المعرفة، والثاني: تراجع قيمة القراءة عامة والقراءة المعمقة التي تحفز الإنسان إلى اكتساب المعرفة وليس فقط تحصيل المعلومات.
إن الدراسات التي أجريت حول ممارسة القراءة سلطت الضوء على الموضوع بصورة واضحة، فقد أظهرت بشكل متناقض أن سرعة القراءة على الشاشة تتناقص على ما يبدو بنسبة 25 في المائة، مقارنة بتلك التي توجد على الورق لأنها تتغير بشكل متزايد في مناطق الدماغ، وكذلك تتطلب القراءة عل الشاشة عملًا إضافيا وتوظيفًا مختلفًا للدماغ. فأمام صفحة على الويب يتعين على المتصفح أن يبحث ويختار المعلومة التي تهمه. وأن يقوم بالاختيار، وأن يقرر بالضغط على الزر أم عدم القيام بذلك، من أجل متابعة القراءة. وقد يقع ضغط بسبب كثرة المعلومات المتوافرة[38].
بما أن الانتباه يبدو مشتتًا بسبب التدفق المستمر للرسائل التي تعرض على الشاشة، يمكن القول إن الإنترنت مصدر قراءة أكثر تشظيًا، حيث تغير بشكل ما طبيعة القراءة المعمقة والمتأنية، وأساس التربية الغربية التي اعتمدت عليها زمناً طويلاً النخبة المثقفة التي تعتبر أن القراءة الأدبية تبقى هي القراءة المثلى[39].
إن حالة التشتت التي توفرها الشبكة المعلوماتية من حيث الانتقال السريع غير المتأن، لا يتيح للقارئ التأمل ولا تعميق الفكرة التي يبحث عنها حتى وإن حصل على عشرات المصادر المتاحة للموضوع، لأنه حينئذ يبحث عن معلومة واحدة، لا يبحث عن معرفة يكون لها مقدمات وخلفيات وتطور. رغم ما تقدمه هذه الشبكة من توافر للمعلومات، إلا أنها تشتت بقدر ما توفر، وتضعف القراءة بصورة أكبر ما تقدم من معلومات، كما أنها تضعف التراكم المعرفي لدى الفرد الذي يعتبر أن مخزن المعلومات ليس عقله وإنما محركات البحث، ومن ثم تغيب أو تضعف مهارات أخرى كالمقارنة والاستنتاج والنقد فكل ذلك يمكن أن يحصل عليه بضغطة واحدة.
فاعلية التراخي:
إن الشعور الاجتماعي الإنساني بين البشر لا يمكن إلا أن يترجم عبر حقيقة مجسدة، وإن التعبير بالكلمات وغياب الفعل المرئي الملموس في أوقات الأزمات الإنسانية يعتبر في كثير من الأوقات خيانة للإنسانية، وقد وفرت وسائل التواصل الافتراضي مساحات واسعة كي يفرغ فيها الفرد مخزونه النفسي أمام المشكلات والأزمات المجتمعية بصورة تسببت في خلق حالة من فاعلية التراخي التي تسببها الفاعليات الافتراضية[40].
إن الشاشة يمكنها تعقيم التواصل بين الأفراد وتجريد الأفراد من إنسانيتهم، فإن النظر إلى الأزمات الإنسانية عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي قد يحدث تأثيرًا أقل مما سيحدث لو تعرض المستخدم للموقف نفسه خارج نطاق الإنترنت. وكذلك يمكن للفاعلية الشبكية أن تقلل الحافز لإحداث تأثير موثوق على القضايا الأساسية، لأن المستخدم يشعر بأن الأعجاب بقضية ما ومشاركتها كان كافياً[41].
تعزيز التفكير الفردي:
إن التواصل الافتراضي حل محل التواصل الاجتماعي، لذلك حاول صانعو الشبكات تثبيت مفهوم “وسائل التواصل الاجتماعي” إمعانًا في الخداع وهي في الحقيقة “التواصل الافتراضي”، وكونه أزاح كثيرًا من مساحات التواصل الاجتماعي، فهذا لا يعني أنه يقوم مقامه العلائقي والنفس وجداني، بل إنه في الأساس طرح التفكير الاجتماعي جانبًا في مقابل إحياء النزعة الفردية في التفكير الذي أصبح متمحورًا حول الفرد. أي أنه بشكل ما تم إزاحة التفكير المرتكز على المجتمع.
إن شبكات التواصل الاجتماعي عززت التفكير الفردي، والثقافة الفردية في مقابل ضعف قيمة العائلة والأصدقاء. أظهرت البيانات أن التفكير الفردي كان هو التركيز الأساسي عند اتخاذ القرارات على الانترنت، أما التفكير المرتكز على المجتمع فكان أقلها انتشارًا[42].
أمراض الوحدة الاجتماعية:
رغم ما تحققه شبكات التواصل الافتراضي من مظاهر جذب وإغراء واتصال بين مجموعات عديدة من الناس المختلفين، وإتاحة هذا الاتصال والتواصل في أي وقت وبشتى طرق التواصل، إلا أنها لم تستطع أن تحقق ما يحققه التواصل الاجتماعي الحقيقي والطبيعي بين البشر، بل أشارت عدة دراسات أن اللجوء إلى هذه الوسائط الافتراضية إلى درجة الإدمان والانعزال عن الواقع الاجتماعي يؤدي إلى بعض الاضطرابات الصحية الجسدية.
أوضحت بعض هذه الدراسات أنه “من الممكن أن الشعور بالوحدة – التي يسببها الارتباط الشديد بالشبكات الاجتماعية – أن يزيد من معدل أمراض القلب والأوعية الدموية عن طريق تقليل مستويات الأوكسيتوسين[43]، وهو الهرمون الطبيعي الذي يقلل من معدل ضربات القلب ويجعله مستقرًا بشكل طبيعي. ولأن مستويات الأوكسيتوسين ترتفع بشدة خلال التلامس الجسدي الوثيق وتترافق مع العافية، فمن الواضح أن العزلة تثبط هذه الآلية الدفاعية الطبيعية[44].
تعدد الذوات الفردية:
من نواتج تنشئة العولمة وتقاناتها تعدد الذوات الفردية، حيث يظهر الشخص بصورة بينما يمتلك صورة أخرى في الحقيقة، وتقبع داخله صورة ثالثة محتملة أو متوقعة للذات الاجتماعية، وذلك لأن العالم الافتراضي يقهر الذات الحقيقية في بعض الأوقات فيلجأ الفرد إلى هذا التعدد.
إن التواصل عبر الشبكات الاجتماعية، أدى إلى ظهور ثلاث ذوات محتملة للفرد: الذات الحقيقية[45] True self. التي يعبر عنها في البيئات المجهولة الهوية دون قيود اجتماعية. والذات الفعلية real self، أي الفرد المتوافق المقيد بالأعراف الاجتماعية للتفاعلات التي تتم وجهًا لوجه، والذات المحتملة Self-possible. التي تظهر لأول مرة والمأمولة، التي تعرض على مواقع الشبكات الاجتماعية[46].
في ضوء ذلك يتم عبر الشبكات الاجتماعية إعادة تشكيل واستبدال “الذات الحقيقية” بذات مثالية بصورة مبالغ فيها، كتلك المعروضة لجمهور مؤلف من مئات من “الأصدقاء” و”المتابعين” ومن ثم يتم التعبير عن الذات الحقيقية بذات مشوهة، وبهوية يمكن تسميتها هوية “الفيس بوك” مثلاً[47]. وهذا يجعل الفرد يقع في تناقضات يومية بين ما هو عليه، وما يظهر به وما يرغب أن يكون عليه، وبالتالي يصرف الفرد جهدًا وطاقة زائدة تكون مضافة إلى الجهد الطبيعي المبذول في الواقع الحقيقي، وربما يشعر الفرد بعد الرضا عن الذات في حالة فشله في استرضاء الآخرين الافتراضيين، كما قد لا يستطيع بناء الذات المرغوبة نظرًا للجهد النفسي الزائد المبذول لتحقيق التوافق الداخلي للفرد بين هذه الذوات مجتمعة والتي في الغالب يفشل في تحقيق هذا التوافق.
خاتمة
لا يمكننا أن نوقف حركة العولمة بأدواتها المبتكرة المتسارعة، لكن يمكننا أن نبحث في أسئلة المآل، تساؤلات الـ ما بعد: وهو سؤال العناية والرعاية للذات الإنسانية خصوصًا مرحلة الطفولة التي بدأت في الانفراط بين يدي الإنسان المعاصر ووقعت في يدي أدوات التقانة ووسائل التواصل الافتراضي، إننا بحاجة إلى أن ننظر بإمعان في جذور ثقافتنا، وإلى أن نرعاها، تحديدًا لأننا بحق معنيون بأوراقها وأزهارها. كما أننا بحاجة إلى ضرورة البحث في أسس فلسفة جديدة للمعلومات، نظرًا إلى المستجدات غير المسبوقة التي حدثها عصر المعلومات. والبحث عما وجدت هذه التقانات من أجله لا البحث في كيف تعمل فقط، بل البحث في لماذا وجدت؟ وما الذي تحمله من قيم ومفاهيم وتصورات تعيد تشكيل حياتا الفردية والاجتماعية؟
لابد وأن يقوم الآباء بردم الفجوة الرقمية بينهم وبين أبناءهم، وذلك حتى يتمكن الإباء من تقديم يد العون في تجنب هذه الأجيال الجديدة مخاطر “تنشئة العولمة” إن شعور الإباء بالعجز ناحية التقانة الجديدة وتركها تفترس أبناءهم أمر ينطوي على مخاطر عديدة، لابد من إعادة النظر في التربية لأجيال الألفية الجديدة التي شارف ربعها الأول على الانتهاء، والأجيال التالية لأن الوضع يتفاقم خطورة وصعوبة.
إن الإنسان المعاصر الذي يعيش في قلب عصر الرقمنة في حاجة ضرورية إلى تأمل لما أصبح عليه، ولما يتوقع أن يكون عليه في الوقت القصير والبعيد، في سيكولوجيته وفسيولوجيته ومعرفته، وعلاقاته الاجتماعية في ضوء هذا الإعصار الجارف لعصر الرقمنة والتكنولوجيا المتحالفة معه بشكل لا محدود ولا متناه. وبشكل أصبحت معه تشكل هذه الأدوات الرقمية قوى بيئية وثقافية واجتماعية غير محدودة الفعل ولا متوقعة التأثير والأثر، الأمر الذي أصبحنا معها نبحث في نماذج تفسيرية جديدة للحاق بهذه التغيرات والانقلابات في ذواتنا الفردية وأحوالنا الاجتماعية من أجل إيقاف الهدر الإنساني والاجتماعي القيمي والأخلاقي والنفسي والحضاري جملة.
المراجع والمصادر
آل غور، آل، المستقبل، ستة محركات للتغيير العالمي، ج1، ترجمة: عدنان جرجس، عالم المعرفة، عدد (423)، أبريل 2015.
حجازي، أحمد مجدي، «العولمة وتهميش الثقافة الوطنية»، مجلة عالم الفكر، ج28، الكويت، ديسمبر 1999.
غليون، برهان، وأمين، سمير، ثقافة العولمة الثقافة، بيروت: دار الفكر العربي، 1999.
أمين، جلال، العولمة، سلسلة اقرأ، العدد 636، القاهرة، ط2، 1998.
توملينسون، جون، العولمة والثقافة: تجربتنا الاجتماعية عبر الزمان والمكان، ترجمة: إيهاب عبد الرحيم محمد، عالم المعرفة، عدد (354)، أغسطس 2008.
برايدلي، جيمس، عصر مظلم جديد: التقنية والمعرفة ونهاية المستقبل، ترجمة: مجدي عبد المجيد خاطر، عالم المعرفة (497)، أغسطس 2022.
ريفيل، ريمي، «الثورة الرقمية ثورة ثقافية»، ترجمة: سعيد بلمبخوت، عالم المعرفة، عدد (462)، يوليو 2018.
غرينفيلد، سوزان، «تغير العقل: كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا»، عالم المعرفة، الكويت، ترجمة: إيهاب عبد الرحيم، عدد (445)، فبراير 2017.
هنتنجتون، صامويل، صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة: طلعت الشايب، القاهرة، سطور، 1998.
عبد الكريم، عمرو، العولمة عالم ثالث على أبواب قرن جديد، مجلة المنار الجديد، القاهرة، العدد 3، يوليو 1999.
السيد سعيد، محمد، «العولمة والقيم الثقافية»، مجلة قضايا فكرية، القاهرة، العدد (19-20)، أكتوبر 1999.
أ. شيللر، هربر، «المتلاعبون بالعقول»، ترجمة: عبد السلام رضوان، عالم المعرفة، العدد (243)، مارس 1999.
بيترمارتين، هانس، و شومان، هارالد، «فخ العولمة: الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية»، عالم المعرفة، عدد (238)، الكويت، 1998.
ديفيز، ويليام، «صناعة السعادة، كيف باعت لنا الحكومات والشركات الكبرى الرفاهية»، ترجمة: مجدي عبد المجيد خاطر، عالم المعرفة عدد (464)، سبتمبر 2018.
-----------------------------------------
[1]* أكاديمي مصري- جامعة دمياط.
[2]. عبد الكريم، العولمة عالم ثالث على أبواب قرن جديد، 34.
[3]. هنتنجتون، صدام الحضارات، 93.
[4]. أمين، العولمة، 11 – 16 بتصرف.
[5]. السيد سعيد، العولمة والقيم الثقافية، 168.
[6]. شيللر، المتلاعبون بالعقول، 113.
[7]. غليون وأمين، ثقافة العولمة الثقافة، 40.
[8]. حجازي، العولمة وتهميش الثقافة الوطنية، 135.
[9]. توملينسون، العولمة والثقافة: تجربتنا الاجتماعية عبر الزمان والمكان، 146.
[10]. توملينسون، العولمة والثقافة، 9.
[11]. آل غور، المستقبل، ستة محركات للتغيير العالمي، 1: ص78.
[12]. غرينفيلد، تغير العقل: كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا، 173.
[13]. ريفيل، الثورة الرقمية، ثورة ثقافية، 31.
[14]. غور، المستقبل، 1: 88.
[15]. ريفيل، الثورة الرقمية، ثورة ثقافية، 32.
[16]. برايدلي، عصر مظلم جديد: التقنية والمعرفة ونهاية المستقبل، 21.
[17]. م. ن، 11.
[18]. غور، المستقبل، 10.
[19]. م. ن، 80.
[20]. برايدل، عصر مظلم جديد، 12.
[21]. بيترمارتين و شومان، فخ العولمة: الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية، 26.
[22]. م. ن.
[23]. توملينسون، العولمة والثقافة، 155.
[24]. غور، المستقبل، 1: 79.
[25]. غرينفيلد، تغير العقل، 36.
[26]. غور، المستقبل، 1: 81.
[27]. ديفيز، صناعة السعادة، 191.
[28]. غرينفيلد، تغير العقل، 115.
[29]. هو مادة كيميائية أو هرمون موجود بشكل طبيعي في جسم الإنسان، حيث يعزز من الشعور بالسعادة، بالإضافة إلى كونه ناقلًا عصبيًا، أي أنّه يرسل إشارات بين الجسم والدماغ.
[30]. م. ن، 226.
[31]. م. ن، 46.
[32]. م. ن، 44.
[33]. م. ن، 243.
[34]. إنهم يأكلون الشيكولاته، وعندما يكبرون يحاربوننا، مقولة لأحد وزراء الكيان الصهيوني أثناء العدوان على غزة بعد هزيمتهم في عملية طوفان الأقصى 7 أكتوبر 2023.
[35]. ديفيز، صناعة السعادة، كيف باعت لنا الحكومات والشركات الكبرى الرفاهية، 75.
[36]. ريفيل، الثورة الرقمية، 79.
[37]. غرينفيلد، تغير العقل، 129.
[38]. ريفيل، الثورة الرقمية، ثورة ثقافية، 123.
[39]. م. ن، 117.
[40]. مع توافر هذه الخاصية لدى الكثيرين في المجتمعات والتي سببتها وسائل التواصل الافتراضي، إلا أنه في نفس الوقت لا يمكن إنكار الأدوار التي قامت بها لشحذ همم الفاعليات الاجتماعية كما في الحراك الطلابي الدولي لمناصرة غزة (2023-2024) والتظاهرات الجماهيرية الكبرى في أوروبا وأمريكا والتي كانت تنظم عبر هذه الوسائل، حيث تجاوزا التراخي الذي تغلغل إلى كثير من الشعوب الأخرى حول العالم والذين اكتفوا بالتظاهرات على صفحاتهم الشخصية عبر وسائل التواصل الافتراضي.
[41]. غرينفيلد، تغير العقل، 172.
[42]. م. ن.
[43]. هرمون مسؤول عن العلاقات والارتباطات العاطفية والعائلية والاجتماعية. ويسمى هرمون الحب. فكل علاقة ينتج عنها هذا الشعور ينتج عنها إفراز هذا الهرمون الذي يساعد على تنظيم ضربات القلب والعمل الطبيعي للأوعية الدموية.
[44]. غرينفيلد، تغير العقل، 119
[45]. الذات الحقيقية هي الخصائص الموجودة التي لا تحتاج بالضرورة إلى أن يعبر عنها بشكل كامل في الحياة الاجتماعية العادية، حيث تظهر بصورة واضحة من خلال المواقف والمناسبات الحياتية.
[46]. غرينفيلد، تغير العقل، 136.
[47]. م. ن، 131.