الباحث : طلال عتريسي
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 35
السنة : صيف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث : October / 21 / 2024
عدد زيارات البحث : 250
بسم الله الرحمن الرحيم
تعتبر قضايا التربية والتعليم من القضايا التي بُحثت في علوم متعددة، فنجدها مثلًا قد بُحثت في علم النفس من بعض الجهات كما ونجدها أيضًا قد بُحثت في الانتروبولجيا وعلم الاجتماع، وهذا يدل على حيوية هذا الموضوع وكونه قد وقع تحت اهتمام الباحثين من شتى المجالات.
هذا مضافًا إلى أن قضايا التربية والتعليم باعتبار أنها ذات بعدٍ عملي وتطبيقي كبير، وليس متمحضة بالبعد النظري، فإنها خضعت لمخاضات وتطورات على مر التاريخ وصولًا إلى زماننا الحاضر، مما جعل قضاياها محلًا للبحث في شتى العلوم الإنسانية لا سيما علم الاجتماع.
من هنا نبحث في ندوة العدد عن العلاقة المتبادلة بين علم الاجتماع من جهة والتربية والتعليم من جهة أخرى، في حوار أجريناه مع العميد السابق للمعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية الدكتور طلال عتريسي.
وقد جاء الحوار موزّعًا على عدة محاور:
1.المحور الأول: قضايا التربية والتعليم وعلم الاجتما
2. المحور الثاني: قضايا التربية والتعليم في الواقع المعاصر
3. المحور الثالث: الدين والتربية
4. المحور الرابع: قضايا معاصرة ومخاطر تربوية
المحور الأول: قضايا التربية والتعليم وعلم الاجتماع
الاستغراب: ما هي العلاقة بين اختصاصي علم الاجتماع والتربية والتعليم؟
الدكتور طلال عتريسي:
العلاقة بين الاختصاصات المختلفة مثل علم الاجتماع أوالتربية والتعليم كممارسة، هي علاقة وثيقة ومتداخلة خصوصًا من جهة المنظور الذي ننظر من خلاله إلى الإنسان وإلى إعداد الإنسان وتهيئته اجتماعيًا وأخلاقيًا وإنسانيًا وعلى المستويات كافة، وهذا التداخل في العلاقات لا يقتصر على هذه الفروع كاختصاص، بل أيضًا ترفدها اختصاصات أخرى لها علاقة بالجوانب النفسية والثقافية والدينية وغيرها، لأن إعداد الإنسان وإعداد الفرد وإعداد الطالب يحتاج الى كل هذه المعارف كمرجعية من أجل صياغته أو فهمه بأفضل شكل من الاشكال.
علم الاجتماع يفهم هذا الانسان من خلال تأثير المؤسسات المختلفة على إدراكه وعلى سلوكه مثل المؤسسة الأسرية والمؤسسة الإعلامية والمؤسسة الاجتماعية ومكان السكن في المدينة أو القرية، والبيئة التي يعيش فيها وتأثيرها عليه من النواحي المتعددة اقتصاديًا وتربويًا ومعرفيًا، وهذه مرجعية مهمة من أجل فهم هذا الانسان أو الطالب أو الكائن أو الفرد.
والتربية أيضًا تعد مرجعية تقدم خدماتها وأهميتها من خلال فهم الحاجات التربوية في بناء الشخصية وفهم مراحل العمر وفهم العلاقة مع الوالدين ومع السلطة التربوية والوالديّة، ومع التأثيرات المختلفة على السلوك وعلى القيم التي تحرّك هذا السلوك، القيم الدينية أم القيم التقليدية من عادات ومن تصرفات مختلفة.
أما التعليم فهو التطبيق العملي للأفكار أو النظريات التربوية أو للفهم الاجتماعي لهذا الطالب أو التلميذ أو الكائن أو الفرد، فالتعليم يجب أن يستند إلى الرؤية التربوية والرؤية النفسية التي تفهم حاجات التلميذ أو حتى الطالب الجامعي في مرحلة الحاجة إلى التعلم وأن يكون المعلم هو النموذج وهو القدوة كما هو متعارف عليه، وأن تكون العملية التعليمية هي عملية تنسجم مع الخلفيات التربوية، ومع الخلفيات الاجتماعية لفهم العلاقات المتبادلة بين القدرات الذاتية للإنسان وبين البيئة المحيطة وبين المرجعيات الفكرية والنظرية وبين تأثير الدوائر الأصغر العائلية والإعلامية أو المؤسسات الاخرى.
لهذا السبب إن هذه العوامل مؤثرة ومهمة ومتداخلة، ولو رجعنا إلى قرون مضت لم يكن هناك فصل بين العلوم والمعارف في فهم الانسان، ففي تفسير سلوك الإنسان أو في التطلع إلى مستقبل الإنسان كان الفلاسفة والحكماء والعلماء سواء عند اليونان أم عند المسلمين لديهم أفكار ورؤى مختلفة وليست متخصصة فقط في الفلسفة، على سبيل المثال، كان لديهم آراء في التربية وفي النفس وفي معرفة الفلك، وبعضهم كان يعرف في موضوع الطب والعلاج النفسي وهو اليوم ما تعود إليه النظريات الحديثة فيما يُسمى بتعدد المسارات المعرفية، وتعدد المسارات المعرفية أمر طبيعي ومنطقي وإن كان مستجدًا في مناهج المعرفة الغربية إلا أنه كان موجودًا منذ القديم وهو أمر منطقي ويجب أن يستعان به في العملية التربوية أو أي عملية أخرى تتعلق بفهم الإنسان.
الاستغراب: وهل يمكن للرؤى الاجتماعية المختلفة أن تكون عاملًا مؤثراً في التنظير والتطبيق للعملية التربوية في الدوائر الحضارية والثقافية المختلفة؟
الدكتور طلال عتريسي:
عندما نتحدث عن رؤى اجتماعية مختلفة وكيف يمكن أن تكون مؤثرة في التنظير أو في التطبيق التربوي، في دوائر حضارية أو ثقافية مختلفة فهو أمر يحتاج إلى نقاش واسع، لأن أية رؤية تربوية سواء على مستوى التنظير ومن ثم التطبيق هي رؤية تنطلق من خلفية فلسفية، وكما يقول بعض المفكرين التربويين إنه لا تربية بلا فلسفة، وهذا أمر صحيح وحقيقي، والفلسفة كما هو معلوم هي كيفية النظر إلى الحياة وإلى الإنسان والكون وإلى علاقة الإنسان بالكون وإلى علاقة الكون بخالق الكون أو عدم وجود خالق للكون، وبوظيفة الإنسان في هذا الوجود.
التربية هي تطبيق عملي لهذه الرؤية الفلسفية، لهذا السبب فإن التربية فيما يسمى بالعصور الوسطى في أوروبا كانت تربية توصف بأنها متشددة وقاسية ومتزمتة وهو انعكاس لرؤاهم الفلسفية في هذا المجال وخاصة رؤى الكنيسة التي كانت صاحبة السلطة في تلك القرون، ولم تكن مفاهيم الحريات كحرية الطفل وشخصيته متبلورًا بعد، بل كان خارج التصور التربوي، عندما ننتقل إلى حاضرة أخرى سننظر من خلال فلسفة أخرى إلى التربية، وهذا ما حصل في الغرب، حيث انتقلت التجربة الحضارية مما أطلق عليه العصور الوسطى إلى عصر النهضة وعصر الأنوار، والرؤية الفلسفية هي التي تبدلت وجوهرها أنها رؤية لادينية، حيث تم إقصاء الدين وأصبحت التربية لادينية، والتنظير التربوي كان نتاج التنظير الفلسفي لحرية الفرد، ولعدم الالتزام بأية ضوابط دينية أو اجتماعية أو تقليدية أو غيرها، وعن هذا التنظير الفلسفي نشأت مفاهيم تربوية وأساليب تعليمية ومفاهيم تعليمية وقيم تعليمية وأصبح الفرد هو المرجعية للنظرية التربوية ومحور العملية التعليمية، وهذا لا يمكن تعميمه على دوائر حضارية وثقافية مختلفة بل يجب أن يبقى محصورًا في الدائرة الحضارية الغربية ولا يجب أن ينتقل إلى دوائر حضارية في بلاد العرب والمسلمين، لأننا ننطلق من تنظير فلسفي مختلف له علاقة كما ذكرنا في تعريف الفلسفة، برؤيتنا للكون وإلى خالق الكون وإلى الوجود وإلى وظيفة الإنسان في هذا الوجود وإلى أنه خليفة الله في هذا الوجود وإلى أنه يسعى إلى الكمال الإنساني وإلى أن دور التربية هي مساعدة الإنسان في الترقي في هذا الكمال الإنساني وأن المربي يلعب دورًا اساسيًا سواء في المؤسسة التعليمية أو في المؤسسة الأسرية، وهذا يعني أن تختلف المضامين التربوية والأساليب التربوية ولهذا السبب لا يمكن أن يكون هناك تنظير لرؤية تربوية أو لعملية تربوية يمكن أن تنطبق على دوائر حضارية أو ثقافية مختلفة، إلا إذا كان هذا التنظير هو تنظير إلهي كما هو حال التنظير الديني الإسلامي الموجه إلى الناس كافة، ورغم ذلك فإن مثل هذا التنظير يلحظ في التطبيق الخصوصيات الثقافية للمجتمعات لأن العملية التربوية كما يقول بعض المفكرين التربويين هي مثل شجرة مغروسة في تربة وهذه التربة هي الفكر والثقافة والعادات والتقاليد ولا نستطيع أن ننتزع هذه الشجرة من هذه التربة وننقلها إلى تربة أخرى.
المحور الثاني: قضايا التربية والتعليم في الواقع المعاصر
الاستغراب: ما هو موقع التربية القيمية والأخلاقية في واقع التربية المعاصر، وهل تنساق النظريات التربوية نحو تنحية التنشئة القيمية في واقع تسود فيه النسبية الأخلاقية ؟
الدكتور طلال عتريسي:
التربية المعاصرة من حيث المبدأ هي التربية التي تستند في مفاهيمها إلى التجربة الغربية، والتجربة الغربية في هذا المجال إذا توافقنا على أن ما هو معاصر هو الحديث زمانًا وبالتالي ما هو غربي، هذه التربية في الحقيقة استندت إلى قيم محددة هي نتاج ما سبق وأشرنا إليه رؤية فلسفية جوهرها إقصاء الدين واستبدال التبعية للأوامر والنواهي الدينية كقيم تنظم السلوك وتوجه الفكر بقيم جديدة تعظّم الفردانية وتعظّم الرغبات في ظل هذه الفردانية، ولا انفصال بين تعظيم الرغبات وتوكيد الفردانية، هذه القيم الجديدة انتقلت إلى التربية ولم يعد هناك سلطة للمربي تفرض على المتربي الطاعة، ولم يعد هناك سلطة للأهل يفرضون من خلالها على الإبن الطاعة والانصياع، هذه تنشئة قيمية وصلت إلى أن الإبن يستطيع -كما هو معلوم- أن يترك والديه ليحقق فردانيته المطلقة لأنه عندما يعيش مع والديه تكون فردانيته جزئية لأنه يحتاج إلى رعاية الوالدين، عندما يبلغ سن الثامنة عشر وهو السن المتوافق عليه في الغرب، يستطيع أن يغادر سلطة والديه.
القيم الجديدة في التربية المعاصرة نقلت سلطة الوالدين إلى سلطة المجتمع وسلطة المجتمع هي المؤسسات، مثل مؤسسات الرعاية الاجتماعية والمؤسسات الأمنية ومؤسسات التدخل، أي عندما يتعرض الطفل لأي توبيخ أو إهانة أو تهديد يتصل بهذه المرجعيات، أي بمؤسسات الحماية ومؤسسات الشرطة ويتدخل هؤلاء على أساس أن الطفل على حق، ويُنزع الطفل من بين يدي والديه.
بهذا المعنى، يمكن أن نقول نعم إن النظريات التربوية التي بدأت تنتشر في الغرب ثم في باقي العالم، استندت إلى تنحية القيم الدينية والاخلاقية، ولكنها تبنت قيم أخرى لها علاقة بالنسبية الأخلاقية وأن ما هو أخلاقي هو ما يراه الإنسان جيدًا ونافعًا بالنسبة إليه، فكل فعل يقوم به الإنسان ويشعر بالرضا وبالفائدة وبإشباع رغبة ما يُعتبر فعلًا جيدًا أو فعلًا أخلاقيًا، هذا له علاقة بما أشرنا إليه بالخلفية الفلسفية والفكرية التي جعلت الفردية هي المعيار، وليس القيم المفروضة، والقيم المفروضة في كل المجتمعات هي قيم دينية، لأن الدين يبدأ من ما قبل التجربة بأوامر ونواهي وضوابط ومنع عن فعل والإلزام بفعل، وفي تنحية القيم ليس هناك أصلًا منعٌ عن فعل، بل القيمة هي للفعل الذي يرى الفرد أنه يحقق له الرغبة التي يريدها، ولهذا السبب لم يعد للأسرة دور تربوي كما كان في السابق، عندما نقرأ في هذا المجال سوف نكتشف أن الأسرة الغربية قبل التربية المعاصرة كانت أسرة تشبه ما نعرفه اليوم عن الأسرة الشرقية، من كون الأب هو صاحب السلطة والأم هي التي تعنى بشؤون البيت ولا تعمل خارجه لأن الزواج يكون مبكرًا، وتنجب عددًا من الأولاد، سبعة أولاد مثلًا، هذه الصورة تراجعت إلى حد أنها تلاشت في التربية المعاصرة.
ولنلاحظ الانتقال الذي حصل من سلطة الأب التي كانت سائدة طوال قرون: كان الأب هو صاحب السلطة، ومع التحول الفكري وضرب سلطة الدين، تم الانتقال من السلطة الأبوية إلى السلطة الوالدية، حيث صارت السلطة مزدوجة من الأم والأب وصولًا إلى المرحلة المعاصرة التي أصبحت الأسرة فيها بلا سلطة، أي أصبح عمود وأساس التربية هو الإقناع والاقتناع فإما أن يقتنع الطفل أو لا يقتنع، لا الفرض والإرغام الذي كان مصدره الدين، وخارج الدين ليس هناك فرض أو إرغام، وفي التربية المعاصرة إذا حصل أي إرغام للطفل، فإنه يستنجد بالمؤسسة خارج الأسرة، هذه هي مشكلة الأسرة والتربية المعاصرة وهو ما يمكن أن يكون أحد أسباب تقلص الأسرة وتقلص الإنجاب وتقلص الزواج وتفكك الأسر، وهو بطبيعة الحال يستند إلى قيم وهي القيم التي أشرنا اليها: قيم الفردانية والرغبات، والقيم التي تقوم على ما يريده الفرد لا ما هو مفروض عليه وما ينبغي أن يكون عليه في المستقبل.
الاستغراب: هل تعتبر المدرسة نتاجًا غربيًا انتقل إلى بلدان الشرق، أم هي مؤسسة محايدة من هذه الجهة؟ وما رأيكم بالنسبة لتنظير البعض حول كون المدرسة مؤسسة سياسية تخدم السلطة؟
الدكتور طلال عتريسي:
المدرسة ليست نتاجًا غربيًا من حيث الوظيفة والأهداف، كل شعوب العالم وعبر تاريخ الحضارات أنتجت شكلًا من أشكال المدرسة سواء بشكلها البدائي والبسيط أم من حيث نقل المعارف والسلوكيات من جيل لآخر، لكن المدرسة في شكلها الحالي من حيث النظام والهيكل الإداري والناظر والمدير وكل هذه المسائل هي نتاج غربي، نقل الغرب تنظيم الإدارة وتقسيم السلطات في المنظومة الإدارية إلى المنظومة التعليمية، لكن هدف المدرسة الذي هو التعليم من جهة والتربية من جهة ثانية كان موجودًا دائمًا عبر تاريخ الحضارات، وتؤكد هذا الأمر الدراسات الأنتروبولوجية والدراسات الاركيولوجية أن هذا الشكل من التعليم كان موجودًا عبر التاريخ، وكان ينسجم من حيث البساطة والأساليب مع نمط الحياة، فتعليم الأولاد مثلًا كيفية التصرف لم يكن يحتاج إلى محاضرات أو نظريات أو أستاذًا يدرّس في الصف، بل كان يحصل بشكلٍ تلقائي من خلال العيش المباشر للأطفال مع الأهل والمجتمع، أي لم يكن هناك فاصلًا نظريًا بين تعليم القيم وممارسة القيم، وأيضًا تحصيل أساليب العيش، ففي المدرسة الحديثة اليوم يحتاج الطفل إلى سنوات لكي يلتحق بعد ذلك بإمكانية ممارسة مهنة معينة، ومدرسة اليوم تترك الطفل 15 سنة منذ دخوله إلى المدرسة حتى يتخرج منها ثم في الجامعة 5 أو 6 سنوات لتكون له فرصة ممارسة مهنة معينة يعتاش منها.
في الحضارات القديمة والبسيطة كانت تَعلُم واكتساب وسيلة من وسائل العيش يتم بشكل مباشر، وفي سنوات مبكرة من العمر، فيلتحق الولد بوالده لممارسة الصيد على سبيل المثال أو تعلّم مهنة ما، أو الزراعة أو أي شكل من أشكال الحياة التي كان يمارسها الأهل ويتعلمها الطفل، والتعليم في بداياته عبر الحضارات على المستوى النظري كان تعليم الدين، أي إن المؤسسة التعليمية كانت مؤسسة دينية.
إذًا المدرسة بوضعها الحالي هي نتاج التنظيم الإداري الغربي والقيم الغربية، التي فصلت بين المعرفة من جهة وبين السلوك من جهة ثانية والتي فصلت بين ممارسة الحياة المهنية وبين تحصيل المعرفة لسنوات طويلة، وأنا هنا لا بد أن أذكر على سبيل المثال أن هناك بلدان كثيرة في المشرق وفي الأرياف خصوصًا لديها نموذج مختلف من المدرسة ليس فقط من حيث الهكلية الإدارية وما شابه ذلك ولكن من حيث الوظيفة والدور، كان التعليم يخضع للعملية الإنتاجية وينسجم معها وليس العكس، وهذه مسألة تحتاج إلى تنظير وتفكير ومراجعة، لأن العطل الرسمية في هذه المدارس كانت تخضع لظروف الإنتاج أي العطلة كانت تحصل في أوقات الزراعة المناسبة رعايةً لأحوال الطقس مثلًا، فكانت المدرسة تعطل ويذهب الأولاد للمشاركة مع الأهل في الزراعة والعطل الأخرى تحصل في أوقات الحصاد، ليشارك الأولاد مع الأهل موسم الحصاد، أما المدارس الحديثة المعاصرة فتعطيلها بلا سبب، أو عائد يعود للطفل، في الربيع وأعياد الميلاد وغير ذلك بل هو تعطيل لأجل الإنفاق لا لأجل الإنتاج، وهذا فرق كبير بين وظيفة المدرسة وعلاقتها بالإنتاج وعلاقتها بالقيم ودمج التلاميذ في سن مبكرة في المجتمع وفي تحمل المسؤولية إلى جانب الأهل في عملية الإنتاج لإدراك قيمة الإنتاج والإنفاق المجدي والتعب لأجل تحصيل المعيشة وقيمة التضامن.
أما بالنسبة لكون المدرسة مؤسسة سياسية تخدم السلطة، فهذه أطروحة اجتماعية ينظّر لها بعض علماء الاجتماع في الغرب، وخصوصًا في فرنسا مثل بيار بورديو وغيره.
نعم قد يكون للمدرسة مثل هذه الوظيفة في مجتمعات صناعية ورأسمالية، وأيضًا المدرسة من جهة ثانية تخضع لتوجهات السلطة إذا كانت السلطة تسيطر على مناهج التعليم، فبالتالي من الطبيعي والمنطقي أن تحرص على السلطة على أن لا تكون المدرسة تتبنى أهدافًا سواء سوسيولوجية أم ثقافية أم أيديولوجية أم عقائدية تخالف طبيعة النظام الحاكم، لكن في مجتمعات متعددة مثل المجتمع اللبناني أو مجتمعات أخرى ليس بالضرورة أن تكون المدرسة مؤسسة سياسية تخدم السلطة، بل قد يطغى على المدرسة كمؤسسة خدمة الانتماء الديني، وفي لبنان على سبيل المثال في الدستور هناك تشريع للطوائف بأن تؤسس مدارسها، فتكون المدرسة في خدمة البعد العقائدي الديني المذهبي والطائفي وليست في خدمة السلطة السياسية، وقد يكون هذا الأمر موجودًا في بلدان أخرى.
ولهذا السبب لا يمكن أن نجزم بشكل نهائي أن وظيفة المدرسة هي وظيفة سياسية، نعم المدرسة تتأثر وقد يفرض عليها النظام السياسي المتماسك ما يعتبره متناسبًا مع توجهاته وأيديولوجيته وعقيدته الماركسية كما حصل في الاتحاد السوفيتي أو القومية كما حصل في دول عربية عدة، أو التنوع المذهبي والطائفي كما هو الحال في بلدان المتنوعة.
الاستغراب: بالنسبة لاهداف العملية التربوية في الواقع المعاصر لا سيما في الحاضنة الغربية، هل تؤيدون فكرة أن العملية التربوية ليست سوى اعادة انتاج البنية الاجتماعية وأن العملية التغييرية لا تنتجها إلا الثورات التربوية؟
الدكتور طلال عتريسي:
في الحقيقة السؤال بحاجة إلى نقاش واسع لأنه يتصل بعملية التغيير، يعني أن البنية الاجتماعية هل يُعاد إنتاجها أو بمعنى آخر المحافظة عليها وعلى ديمومتها واستمرارها ويكون ذلك من خلال العملية التربوية في المدرسة، أم أن ديمومة هذه البنية الاجتماعية يحتاج إلى تضافر عوامل مختلفة.
قد تكون العملية التعليمية المدرسية هي أحد الجوانب التي ليس بالضرورة أن تكون الأقوى، أي هي عامل مساعد لكنه قد لا يكون هو العامل الحاسم، وهذا قد يتعارض أو لا يتوافق بالأحرى مع أطروحة بيار بورديو وغيره الذي تحدث عن إعادة إنتاج النظام من خلال التعليم، لا ننفي أهمية التعليم وأهمية المدرسة في هذا المجال لكن هناك بعد آخر هو أكثر أهمية وهو التعليم الجامعي، الذي لم يتحدث عنه بعض علماء الاجتماع وركزوا على المدرسة خصوصًا وأن المدرسة فيها فروقات طبقية واضحة بين مدرسة رسمية ومدرسة خاصة، فالمدرسة الخاصة مستوياتها التعليمية واللغوية أفضل من المدرسة الرسمية وبالتالي من يتخرج من المدرسة الخاصة يكون لديه فرص أكبر للالتحاق بالوظائف العليا التي ترتبط بالطبقة الحاكمة أو بالبنية الاجتماعية المسيطرة، ولكن برأيي أنه يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أيضًا أهمية التعليم الجامعي خصوصًا عندما نقارن مع التجربة الغربية أو الحاضنة الغربية.
المفاهيم التي صنعت التجربة الغربية والتي صنعت النظام القيمي الغربي تأسست في الجامعة، عندما نتحدث عن النظام القيمي الغربي الذي قدمه للعالم عن نفسه، يتلخص في مجموعة من المصطلحات مثل الديمقراطية والحرية والتنوع والتسامح وحقوق الإنسان، هذه القيم عدّها الغرب صورته عن نفسه وهي الصورة التي قدمها للعالم ودعا العالم إلى الالتحاق بها وتقليدها، ومن خلالها أراد تغيير البنية الاجتماعية في دول العالم، من خلال هذا الاختراق لهذه المصطلحات والقيم، بغض النظر عن مدى التزامه هو بها، كما يتبيّن اليوم في الحروب التي تخاض ضد الشعوب، هذا يعني أن الجامعات تلعب دورًا اساسيًا في عملية التغيير وفي إعداد النخب، لا المدارس، وإن كانت تساهم بشكل جزئي، ولكن في الجامعة تكون الصورة أوضح ويكون الطالب أقرب إلى الالتحاق بالمؤسسات الإنتاجية وبالسلطة السياسية والثقافية وغيرها.
أما هل تنتج عملية التغيير عن الثورات التربوية؟ فهذا أيضًا يحتاج إلى نقاش لأن أي ثورة تربوية إذا صحت التسمية لن تكون سوى نتاج لتفكير فلسفي معين، فالثورة الطلابية التي حصلت في فرنسا يمكن أن نقول إنها ثورة تربوية لأن من قام بها هم الطلاب، لكن الأهداف لم تكن تغيير مناهج التعليم بل كانت في جانب منها سياسية وفي جانب آخر كانت اعتراضًا على القيم والتقاليد، ومن نتائج هذه الثورة الطلابية أن الطلاب حصلوا على الحق بعلاقات أكثر حرية في السكن الجامعي الذي أصبح مختلطًا، نعم أدّت إلى تغيير في العلاقات لكن كانت ناتجة عن فلسفة الفردانية والفلسفة الوجودية، والتي كان يقودها جان بول سارتر في ذلك الوقت وصديقته، اللذان قدما نموذجًا لعلاقات غير رسمية وعلاقة مساكنة من دون زواج، أصرّت صديقة سارتر، سيمون دي بوفوار على عدم الزواج، هذا لا يمكن اعتباره ثورة تربوية لأن أي تغيير في العملية التربوية يبدأ من خارج التربية، يبدأ من التفكير السياسي والفلسفي ليكون التربوي في خدمة هذا التغيير الفلسفي أو السياسي.
المحور الثالث: الدين والتربية
الاستغراب: اين يقع الدين في بناء الرؤية التربوية المعاصرة؟
الدكتور طلال عتريسي:
التربية كما سبق وأشرنا هي تطبيق للرؤية الفلسفية، والرؤية الفلسفية هي رؤية للكون والحياة، الحياة الدنيا والحياة الآخرة، حسب هذه الرؤية الفلسفية سواء أكانت تعتقد بمنظومة كونية إلهية غيبية أم لا تعتقد بمثل هذه المنظومة وتعتقد بدين الحياة الدنيا من دون أي ارتباط بأبعاد غيبية أو أخروية، فالتربية هي تطبيق لهذه الرؤية أو تلك.
عندما نريد أن نفكر أو نبحث عن موقع الدين في الرؤية التربوية يعني أننا نريد أن نطبق الرؤية الفلسفية ونحولها إلى ممارسات وأساليب تطبيقية، بمعنى أننا عندما نقول إن هذا لا يجوز وذاك يجوز، وهذا الأمر مسموح وذلك غير مسموح، فما هو المنطلق الذي ننطلق منه لتجويز شيء وعدم تجويز آخر؟ إما لأننا نعرف مسبقًا أن هذا الأمر سيؤدي في المستقبل إلى سلوك منحرف وغير مقبول اجتماعيًا أو سلوك حرام دينيًا، وإما أننا نريد أن ننقل المفاهيم التي نحملها كالمفاهيم الدينية إلى الجيل الجديد الذي سيتربى عليها من خلال تفاصيل قد لا يدرك المتربي أبعادها.
تجربة الغرب لا بد أن نستحضرها عندما نريد أن ندرس أو نراجع موقع الدين في بناء الرؤية التربوية، لأن هذا الغرب المهيمن اليوم في العالم هيمنت نظريته التربوية والاجتماعية والنفسية بسبب هيمنته السياسية والاقتصادية والإعلامية، تجربة الغرب كما سبق وأشرنا في العملية التربوية هي تجربة وضعت الدين جانبًا وأدت إلى ما أدت إليه من إطلاق العنان لمرجعية ما يريده الإنسان وليس لما هو مفروض عليه لأن الدين يفرض على الإنسان سلوكيات معينة ويمنعه من سلوكيات اخرى.
بالنسبة إلينا نحن، إن الدين يبدأ بنقطة انطلاق مختلفة تمامًا، ينطلق من تكريس فكرة كرامة الإنسان وأمانة الإنسان التي يحملها الإنسان ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء (70)] وخلافة الانسان، هذا الأمر لا نعيشه ولا نلحظه في المبادئ التربوية المعاصرة في العالم الحديث أو في التجربة الغربية، فهذا هو البناء النظري الذي ستُبنى عليه التطبيقات والأساليب والمفاهيم التي تتحول إلى ما هو مقبول وما هو غير مقبول وما هو مسموح وما هو غير مسموح، في المنظور الديني هناك مدى واسع جدًا للحديث والتفكير والعرض لكن على المستوى التربوي تحديدًا عندما نحصر التربية في المجال الأسري أو التعليمي مثلًا هناك نظام يحدد العلاقات الأسرية بين الأهل والأبناء، بين الاحترام والطاعة والبر، وبين السلطة والعاطفة والإحسان، بحيث يكون البعد الديني والهاجس الديني التربوي هو كيفية تنشئة الأولاد في داخل الأسرة تنشئة تهيئهم لتحقيق كمالهم الإنساني لاحقًا، وبحيث يتربى الأولاد على أن بر الوالدين هو الطريق الذي يؤدي إلى الكمال الإنساني لاحقًا، وهذا لا نشهده في أي تربية معاصرة ولا في أي نظرية من كل نظريات المفكرين التربويين الغربيين على اختلاف شهرتهم وأسمائهم والعصور التي مروا بها، ويكفي أن نذكر ما تعيشه المجتمعات الغربية اليوم على المستوى الأسري والعائلي لكي ندرك أهمية هذا البعد الديني في الواقع التربوي، وهذا طبعًا يؤدي إلى سلوك مختلف في المجتمعات.
الواقع الديني في التربية أيضًا يستند إلى البعد التراحمي وليس إلى البعد التنافسي، العلاقات الأسرية هي علاقات تراحمية وليست علاقات تنافسية، فالتربية هي تربية تراحمية، تحت ظل السلطة الوالدية، وليست علاقات صراع وعقد وتنافس وكراهية للأم وكراهية للأب كما تذكر بعض نظريات التحليل النفسي.
الاستغراب: وهل بالإمكان تكوين رؤية تربوية عابرة للمجتمعات دون مراعاة خصوصيات الثقافات؟ وكيف يتم مراعاة الخصوصيات الثقافية مع الحفاظ على الأصالة الانسانية في التنظير التربوي؟
الدكتور طلال عتريسي:
الأصالة الإنسانية للتنظير التربوي أعتقد أنها ترتبط بموقع الدين في بناء الرؤية التربوية لأن الدين أصلًا وُجد من أجل الإنسان وليس العكس، والدّين أتى لتنظيم حياة الإنسان وجعلها حياةً أفضل وتحقيق الكمال الإنساني، هذه نقطة انطلاق أساسية وأما نقطة الانطلاق التي حصلت في تجارب أخرى بعيدًا عن الدين فأدت إلى ظلمات ما بعدها ظلمات، نشاهدها اليوم في العالم المعاصر، لكن هذا الأمر لا يعني أن هذه الرؤية التأصيلية الإنسانية لا تلحظ تجارب المجتمعات وتطور ثقافاتها واختلاف عاداتها وتقاليدها، لكن مثلًا عندما نقول أن الأصالة الإنسانية الدينية تستند إلى مرجعية التراحم على سبيل المثال سواء في داخل الأسرة أو في داخل المجتمع فهذا لا يعني أن هذا التراحم يجب أن يتم بنفس الطريقة في كل المجتمعات فقد تكون في بعض المجتمعات عادات وتقاليد متعلقة بعلاقة الأبناء مع الآباء والأعمام والأخوال والأقارب البعيدين، وقد تكون بعض الثقافات ماتزال إلى اليوم تعيش الأسرة الممتدة بحيث يكون هناك سلطة للأقارب وليس فقط للأب، ولنلاحظ على سبيل المثال، وهذا ما لاحظته شخصيًا، أن عاشوراء عند الشيعة لها نفس المحتوى ونفس المضمون والفكرة والتعلق، عندما يحيون هذه المناسبة. ولكن هناك فرق في طبيعة اللحن في أداء عاشوراء وفي قراءة السيرة، فاللحن يختلف بين مجموعات شيعية تأتي من باكستان أو من إيران أو من الهند أو لبنان أو العراق أو غيرها؟ وهذا له علاقة بثقافات مختلفة، لكن المضمون واحد، وبالتالي يمكن أن نلحظ اختلاف في الثقافات مع الحفاظ على الجوهر والأساس وثباته، فالاعتقاد مثلًا بالقدرات الغيبية ثابت وكذلك الواجبات المتعلقة بهذا الاعتقاد. لكن في باقي تفاصيل الحياة اليويمة قد تختلف الشعوب في بعض عاداتها وتقاليدها في التعبير عن هذا الاعتقاد. إذًا الأصالة الإنسانية هي أصالة لها علاقة بالبعد الديني ولكن يمكن أن نلحظ الاختلافات الثقافية والاختلافات في بعض العادات والتقاليد التي لا تتعارض من حيث الأساس مع التنظير التربوي الإنساني كما هو الحال على سبيل المثال في بعض المناسبات والاحتفالات في بلدان مختلفة وليست من الأساس الديني على سبيل المثال.
المحور الرابع قضايا معاصرة ومخاطر تربوية
الاستغراب: كيف ترون مستقبل التعليم اجتماعيًا في ظل الطفرات الهائلة قي قضية الذكاء الاصطناعي؟ هل ستتغير مفاهيم من قبيل الشهادات العلمية والذكاء والابداع؟
الدكتور طلال عتريسي:
الذكاء الاصطناعي اليوم يطرح مشكلة كبيرة في الحقيقة وهي بطبيعة الحال مشكلة جديدة ما يزال البحث فيها على قدم وساق، حول مستجدات لم تكن مألوفة أو معروفة سابقًا.
بدايةً على مستوى التحصيل العلمي، هناك أسئلة لغاية الآن ليس لها إجابات نهائية أو شافية، التحصيل العلمي بمعنى أن هذا الذكاء يسهّل للطالب الحصول على البحث الذي يريد، بمجرد أن أعطيه عنوان هذا البحث وفي هذه الحالة كيف يتم تقييم جهد هذا الطالب، خصوصًا عندما يكون بصدد إعداد رسالة أو بحث بشكل شخصي على سبيل المثال، ما هي قدرات الطالب الحقيقية، وكيف يمكن أن نميز بين ما يعطيه الذكاء الاصطناعي وبين ما يقوم به هذا الطالب شخصيًا، كيف نميز بين قدرات الطلاب، بين الذي يمتلك قدرة بحثية وبين من لا يمتلك مثل هذه القدرة البحثية.
قبل الذكاء الاصطناعي كانت الجامعات مشغولة بكيفية ضبط ما ينقله الطالب من مراجع وما يستخدمه في أبحاثه، فوضع لذلك بعض الشروط مثل أن تكون نسبة 25٪ من استشهادات البحث من المراجع مقبولة، أما اليوم لم يعد هذا الأمر ممكنًا لأن الذكاء الاصطناعي يعطي البحث مع المراجع، وبالتالي يظهر وكأن الطالب هو الذي قرأ هذه المراجع وكتبها أثناء البحث.
أنا أعتقد هنا أننا يجب أن نتوقف مليًا والتفكير لأن جزءًا من هذا التقدم العلمي قد يكون مفيدًا في مجالات مختلفة ولكن ليس بالضرورة في مجال البحث أو أن يوضع بين أيدي الطلاب، المشكلة هنا ليس فقط في تقدير جهود الطلاب، نعم، هذه مشكلة ربما يكون لها حل، ولكن المشكلة الأخطر أن هذا الذكاء الاصطناعي بهذه الطريقة يقتل أي إمكانية عند الطالب للصبر كشرط لتحصيل العلم أو كشرط للقيام بأبحاث أو تحصيل المعرفة، هذه هي الخطورة، لأن تحصيل العلم على مر الأزمان كان يحتاج إلى الصبر والتحمل، وإلى التأني، والذكاء الاصطناعي يقتل هذه الروح وهذا ينعكس على باقي سلوك الأفراد، ويتصرف الإنسان بطريقة وكأنه يريد أن يحصل على كل شيء بمثل هذه السهولة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي، هذا يخلق شخصية مختلفة وعلاقات مختلفة بين الأفراد، ويغذي فكرة الربح السريع، ويعزز فكرة أن الأسرع يبتلع الأبطأ، كما هو حال اليوم في منطق السوق في العالم.
أذكر هنا على سبيل المثال، وكدعوة للتفكر وعدم الدهشة أمام كل تطور علمي، أن وزيرة التعليم والتربية في السويد في مطلع العام الحالي 2024 اتخذت قرارًا بالعودة إلى التعليم الورقي، أي التوقف عن التعليم الإلكتروني، من أجهزة الحاسوب وغيره، لأنها اكتشفت بعد سنوات أن استخدام هذه الوسائل يُضعف قدرة التلاميذ على القراءة والكتابة ويُضعف الذكاء ويزيد من الوحدة ومن تراجع العلاقات الاجتماعية والإنسانية، ولهذا اتخذت القرار بالعودة إلى التعليم الورقي، وهي دولة، كما هو معلوم، متقدمة تكنولوجيًا وتسبق دولنا العربية والإسلامية على الأقل بعشرين سنة في استخدام التكنولوجيا، هذه تجربة يمكن أن تكون موضع تفكير وتأمل وبحث.
الاستغراب: في قضايا من قبيل الشدوذ الجنسي والنسوية وغير ذلك، هل تجدون للعملية التربوية دخالة من حيث التأثير والتأثر بهذه الظواهر؟
الدكتور طلال عتريسي:
قضايا الشذوذ والنسوية لم تبدأ في الغرب من خلال العملية التربوية، كانت الأمور طبيعية في الحقيقة قبل خمسين سنة أو ستين سنة، وكان الشذوذ على سبيل المثال حالات فردية، ونادرة وقليلة والمجتمع ينظر إليها أنها حالة شاذة، ونظرة عدم مقبولية وعدم اعتراف، لا بل كان يعاقب عليها ويسجن، وفي مراحل لاحقة يفرض دفع غرامات وكانت العقوبات قاسية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، لهذا السبب لم يكن للتربية أي علاقة بموضوع الشذوذ، بل كانت التربية تربية عادية سليمة ومستقيمة بحيث يتربى الأولاد على المبادئ والقيم الاجتماعية والأخلاقية والفتيات يتربين على القيم الأخلاقية المتعلقة بكونهن فتيات، هذا كان حال الغرب.
لكن ما حصل وله علاقة بما سبق وأشرنا إليه وهو أن تطوّر الافكار وتطور المجتمع باتجاه المزيد من الاستهلاك والمزيد من الحريات الفردية وتعظيم الرغبات وحتى الاشتغال النفسي على موضوع الرغبات، إلى حد ما نطلق عليه تأليه الفرد وتأليه الإنسان وتأليه الرغبة، هو الذي أدى من خلال مسار خمسين سنة إلى اعتبار الشذوذ خيارًا من خيارات الإنسان وليس انحرافًا، هنا بدأ التحول، إلى اعتبار الشذوذ خيارًا وحرية شخصية وطريقة في إشباع الرغبة مثل الطريقة الأخرى لإشباع الرغبة بين رجل وامرأة.
ساهمت في الوقت نفسه الحركة النسوية في نشر هذه الأفكار، وقدّمت بعض النساء النسويات أيضًا مثل هذه الأفكار، واعتبرن أن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة هي علاقة اخترعها الرجل، لكي يسيطر على المرأة وبالتالي القضاء على هذه السيطرة يكون بالقضاء على هذه العلاقة واستبدالها بعلاقة أخرى بين امرأة وامرأة. ما يحصل في الغرب اليوم هو العكس تمامًا مما كان يحصل سابقًا على مستوى العملية التربوية، وهو شيء غريب ولافت في الحقيقة، ويطرح كثيرًا من الأسئلة. اليوم تريد كثير من الدول الغربية من الولايات المتحدة إلى ألمانيا إلى إيرلندا إلى كندا إلى فرنسا، أن يبدأ تعلم الشذوذ في المراحل الابتدائية، لم يعد خيارًا فرديًا كما كان سابقًا، لم يعد حالة شاذة، بل يُراد للعملية التربوية أن تكون متكيفة مع الشذوذ، وهذا ما نشاهده في الافلام والفيديوهات ووسائل الإعلام، كيف يتم شرح العلاقات الجنسية وأنواعها وتعددها، بين رجل وامرأة، رجل رجل، امرأة وامرأة، للأطفال لكي يتعلموا أن هذه العلاقات هي علاقات متعددة، والنسوية طبعًا تدافع عن هذا الاتجاه وتتبنى هذا الاتجاه وتعتقد أن إزاحة سلطة الرجل يبدأ من هنا بعدم الالتزام بنوع واحد من العلاقات، وهذا طبعًا ينعكس على الأسرة التي لن تعود أسرة، كما عرفتها المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ وستفقد وظيفتها الإنجابية. وقد كُتب، ونُشر الكثير عن هذا الموضوع وعن أسبابه.
نحتاج اليوم، وبسبب انتشار هذه الأفكار والتوجه الغربي والأميركي والنسوي لفرض الشذوذ، وما تقوم به جمعيات ومؤسسات، من تقديم الدعم، أو من فرض عقوبات على الدول التي تمنع الشذوذ، نحتاج إلى وعي تربوي مناسب، يبدأ في المراحل الابتدائية، للتعرف على مخاطر هذه الأفكار. وهذا يحتاج إلى أساليب تتناسب مع المراحل العمرية حتى لا يكون هناك مبالغة في التخويف من هذا الأمر، وحتى لا يكون هناك جهل كامل بما يجري من حول هؤلاء الاطفال.
إذًا العملية التربوية مسألة مهمة، واليوم الغرب يقود الأطفال إلى حالة من الارتباك الكبير في المفاهيم وفي السلوك، عندما يريد أن يكرس فكرة أن الطفل هو الذي يختار جنسه، في مرحلة الرعاية والاهتمام، ويمنع الأساتذة من معارضة هذه الفكرة، أي إن الأستاذ في المدرسة مرغم على تشجيع الطلاب على هذه الفكرة وعلى أن جنسهم غير محدد. وهذا يحصل في كثير من مدارس الغرب . ولذا باتت المدرسة مكان مهم وأساسي لنشر الشذوذ، ولمواجهته في الوقت نفسه، والمدرسة هي التي تمهّد لما سيكون عليه الإنسان في المستقبل.